تشتد حدة الصراع بين حركة نور الدين زنكي وهيئة تحرير الشام في ريف حلب الغربي، بالتوازي مع استمرار التجييش الإعلامي والعسكري بين الطرفين، في الوقت الذي شهدت فيه الأيام الماضية اشتباكات عنيفة بين الطرفين على جبهات الأبزيمو ودارة عزة ومناطق أخرى استخدمت فيها الدبابات والرشاشات الثقيلة، راح ضحيتها العديد من عناصر الطرفين.
كانت حركة نور الدين زنكي المنضوية تحت لواء فصائل الجيش السوري الحر أحد المكونات العسكرية التي ضمها تشكيل "هيئة تحرير الشام" الذي أعلن عنه في نهاية شهر كانون الثاني 2017، ساهمت بتطعيم "جبهة فتح الشام" بصبغة تنوع ضمن فصائل من الحر وفصيل متهم بـ"الإرهاب" دولياً، شكل هذا الأمر صدمة كبيرة للفصائل التي تخاصمها تحرير الشام أبرزها فصائل الحر والتي وجدت في تصرف الزنكي ضربة للمشروع المعتدل ضد "بغي" تحرير الشام المتتابع ضدها.
إبان الاقتتال مع أحرار الشام وبعد أن تصاعدت التصريحات الدولية ضد هيئة تحرير الشام وبدء الهيئة بالإعداد لإنهاء الأحرار، أدركت حركة نور الدين الزنكي أو الوقت حان للانشقاق، وللوقوف في موقف الحياد بعيداً عن الصراع بين أكبر مكونين في الشمال، ربما لأنها لم تستطع كبح جماح البغي المتأصل في جذور هيئة تحرير الشام وسابقاتها "فتح الشام والنصرة" والذي تنتهجه قياداتها منذ بداية ظهورها، ففضلت الانشقاق.
أعلنت حركة نور الدين زنكي انشقاقها عن هيئة تحرير الشام في 20 تموز 2017 معللة ذلك بسبب انحراف البوصلة عن مسارها وانحراف البندقية، وعدم تحكيم الشريعة تجلى ذلك في تجاوز لجنة الفتوى في الهيئة وإصدار بيان عن المجلس الشرعي دون علم أغلب أعضائه، وعدم القبول بالمبادرة التي أطلقها العلماء، وتجاوز مجلس شورى الهيئة وأخذ قرار بقتال أحرار الشام علماً أن تشكيل الهيئة بني على أساس عدم البغي على الفصائل.
انشقاق الزنكي وعودتها للصف الأول الذي كانت فيه كفصيل معتدل ضمن الجيش السوري الحر، جعلها في مواجهة مباشرة مع هيئة تحرير الشام التي لن تقبل قطعاً بهذا الانشقاق واعتبر ضربة موجعة لها في وقت عصيب.
كما أن انشقاق العديد من المكونات عن هيئة تحرير الشام أبرزها "جيش الأحرار" دفع الهيئة للخوف من تكتل هذه القوى مع من بقي من أحرار الشام الذي قوضت قوته في كيان واحد يواجه الهيئة مستقبلاً وبالتالي وجود كيان قادر على منافستها في القرار، وهذا ماترفضه الهيئة وتعمل على إنهاء كل صوت أو قوة تقابلها منذ 2014، لذلك كان لابد من خلق التبريرات تباعاً والتحرشات للوصول لمرحلة الصدام مع الزنكي وإنهائه وتأديبه.
كما أن رفض الزنكي مؤخراً لدخول القوات التركية للمناطق التي تسيطر عليها الحركة بحجة عدم التنسيق معها، كونها تريد أن تكون جهة معنية غير مغيبة عما يدور من اتفاقيات سرية بين هيئة تحرير الشام وتركيا، وتنظيمها ماعرف بالاتحاد الشعبي في ريف حلب الغربي كواجهة مدنية لها، جعل الحركة في موضع سخط تركي كبير وبالتالي سقوط ورقتها كما سقطت ورقة الأحرار من قبل.
التحرشات الممتدة من اغتيال "السيد برشة" قائد كتيبة تلعاد وصولاً للاشتباكات التي شهدها ريف حلب الغربي بين الطرفين في شهر آب، ثم عودة التوتر من جديد من اختلاق حجج إضافية للمواجهة كانضمام مجموعات أو اعتقال شخص، كلها تشير لأن قرار إنهاء الزنكي قد اتخذ وبات في موضع التنفيذ كما حصل مع فصائل أخرى في وقت سابق ربما كشفت التسريبات الصوتية لقيادات من الهيئة كيف كانت تحاك هذه التحرشات ويتم استغلال قضايا صغيرة لإنهاء مكون ما في الشمال، لإن تحرير الشام باتت ترى نفسها الطرف الوحيد القادر على تملك المنطقة والتفاوض مع تركيا، وحكم المنطقة مدنياً ولن تقبل قطعاً بوجود أي طرف ينافسها في ذلك ولن تدخر أي جهد في تحقيق هدفها الذي بدأت فيه منذ 2014 مهما كلفها من دماء.
ربما تكون الزنكي قد أخطأت في انضمامها لفصيل شارك في إنهاء أكثر من 20 فصيلاً من الجيش السوري الحر وصولاً لأحرار الشام، وزجت نفسها في موقع مواجهة من هذه الفصائل ومايقابلها في التوجه كونها غدرت بهم حسب رأيهم، ولكن بالتأكيد إن الزنكي اليوم هي ضحية البغي الذي تمارسه هيئة تحرير الشام ضد فصائل الشمال ولربما كانت هذه المواجهة حتمية مع الهيئة سواء كانت انضمت لها أو لم تنضم، لأنها تبقى فصيل مؤثر يسيطر على بقعة جغرافية واسعة في ريف حلب وشمال إدلب لن تقبل تحرير الشام بوجوده قطعاً وبالتالي النهاية واحدة.
تصب جميع الاستهدافات التي تتعرض لها مذخرات ميليشيا " حزب الله " في سورية, في عرض نهاية الطريق لتلك الميليشيا داخل الأراضي السورية برغبة دولية .
لاسيما آخر تلك الاستهدافات كانت الغارة الإسرائيلية في 01 . 11 . 2017 على مستودعات الحزب في "حسياء" جنوب مدينة حمص.
وفي المسار ذاته توالت الأحداث داخل الحكومة اللبنانية , لتكون بمثابة زيادة الضغط على وجود الحزب , آخرها استقالة رئيس الحكومة "سعد الحريري" والتي لا تخلو أيضاً من مآرب أخرى لسنا بمعرض الحديث عنها .
تعد أهم المعطيات التي يضطلع بها الحزب لمد جذوره في المنطقة , بالانتصارات التي أراد تحقيقها من خلال مساندته لنظام الأسد , والتوسع بمرجعية الحزب وأفكاره في العمق السوري من ناحية أخرى .
يتضح بعد حين أن قادات حزب الله على تأهب دائم لما سيصدر من قرارات واتفاقيات من شأنها الحد من سيطرته على مناطق في سورية أو بتر أطرافه بشكل كامل بعد انتهاء الاعمال المبتغاة من عناصر الحزب فيها. فما تلك الضغوطات الا نتيجة اتفاقيات دولية تقضي بعدم السماح بوجود قوات لإيران وحزب الله في سورية.
وبدى ذلك جلياً بعد انتقال روسيا على الأراضي السورية من صفة "المتدخل المستشار" الى "المتدخل الفاعل" وصولاً الى حلولها محل النظام السوري فيما يتعلق بإدارة الدولة بعمقها الإستراتيجي. ليتجه الحزب الى تحقيق تطلعاته بعد التيقن أن الحزب لن يبقى في سورية بثقله العسكري ولو بالحدود الدنيا. خاصة أن "حزب الله" ليس كأي حزب في بنائه العقائدي وهيكليته وآليات عمله , فما كان منه إلا إيجاد صلة الوصل لمستقبله في سورية والاستمرار كحالة عسكرية , وذلك بإيجاد اليد الطولة الحافظة له ولوجوده معتمداً بذلك على شخصيات سورية لا يشك بانتمائها وولائها .
وما تلك الشخصيات إلا من أبناء سورية منبتاً ونسباً, لكن لبوسهم وعملهم يندرج ضمن النسق العام والخاص "لحزب الله" لينتقل الحزب بهم من الباحث عن ميليشيات تسانده في حربه المزعومة , الى ميليشيات تنتهج نهجه وتسير بحمله الذي يتبناه منهجاً وعقيدة وعمل .
دغدغ الحزب مشاعر البعض منهم بالشعارات العقدية كزعمه الولاء "لآل البيت" باعتبار أولئك الأشخاص يعود نسبهم "لآل البيت" كما يفترض. والدعم السخي لتحقيق أحلامهم بقيام علاقات تشاركية معهم.
متن الحزب خلال سنوات من العمل على تنمية أفكاره وآليات عمله لدى تلك الشخصيات , لتفضي النتائج بانسلاخ تابعيه عن محيطهم وبيئتهم متبنين عقيدة الحزب بأفكاره وأهدافه . فباتوا أصلاء أصحاب مبدأ وقضية لا وكلاء عن الحزب.
تجلت تلك الصورة في تشكيلات عسكرية انتشرت في عدة محافظات في سورية , منها "لواء الإمام الباقر" بقيادة "عمر الحسين" . يضم هذا اللواء مقاتلين من أبناء قبيلة "البقارة" في حلب , جيش العشائر المنتشر في مناطق الرقة بقيادة "تركي البوحمد" ولن يكون آخر هذه التشكيلات "قوات النخب" التي أسسها "نواف راغب البشير" تحت غطاء حزب الله ودعمه الكامل .
تجارب عدة , اكسبت حزب الله قدرة على المناورة والحركة بما يفيد تمتين قواه . وحتى وقتنا هذا وبالأخص على الأراضي السورية , ورغم أنه مترنحاً إلا أنه لا يفتئ البحث عن كافة المعطيات بشتى السبل للبقاء . ليثبت في كل حين انه العدو الأخطر على معطيات التحرر التي ضحى لأجلها الشعب السوري .
أعلنت روسيا، وهي توجه تهديدًا للمعارضة السورية، أنها ستعقد مؤتمر الحوار الوطني يوم 18 من الشهر الجاري، في مدينة سوتشي بمشاركة جميع الفصائل السورية. أما التهديد فكانت فحواه أن المجموعات التي ترفض المشاركة في المؤتمر أو تضع شروطًا أولية، لن تجد لها مكانًا في الحل السياسي، وهذا يعني أن المعارضة الرافضة لمشروعية الأسد ستبقى خارج اللعبة.
أكثر من نصف المجموعات الثلاثة والثلاثون المدعوة للمؤتمر يتشكل من تيارات على توافق مع نظام دمشق، وليس من المعارضة.
كما أن روسيا أقدمت على حملة أخرى، فدعت حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تعتبره تركيا تنظيمًا إرهابيًّا إلى الاجتماع (روسيا سمحت للحزب بفتح مكتب له في موسكو، وهي لا تعتبره تنظيمًا إرهابيًّا).
وهكذا كانت روسيا تخطط لحل سياسي، من خلال إضعاف المعارضة وموقف تركيا في آن معًا. لكن أنقرة أحبطت هذه اللعبة.
نقلت أنقرة رسالة إلى موسكو رسالة مفادها أن مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في الاجتماع غير مقبولة، وأن تركيا لا تشارك في اجتماع يحضره الحزب، ولا قيمة لاجتماع بلا تركيا.
الائتلاف الوطني السوري والهيئة العليا للمفاوضات اعتبرا الاجتماع مؤتمرًا بين النظامين (الروسي والسوري)، وأعلنا عدم مشاركتهما فيه.
وبحسب آخر تصريح للمتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن يبدو أن روسيا ألغت الاجتماع. نعم، تركيا أحبطت حاليًّا هذه اللعبة. أقول حاليًّا لأنه ليس من الواضح أي مناورات ستقدم بها روسيا لاحقًا.
وعلاوة على حماية الأسد المسؤول عن مقتل 350 ألف بريء بحسب توثيق منظمات حقوق الإنسان (الأرقام غير الرسمية أعلى من 600 ألف) فإن لمؤتمر سوتشي غاية أخرى، وهي مناقشة الدستور السوري الجديد، الذي أعدته موسكو في يناير/ كانون الثاني الماضي.
وبموجب الدستور المذكور والمكون من 85 مادة سيكون بإمكان الأسد البقاء في السلطة 18 عامًا اخرى.
ولتحقيق ذلك، كانت روسيا تعتزم طرح قضية تشكيل حكومة وحدة وطنية في ظل الأسد.
الهدف الثالث من المؤتمر هو تشكيل سلطة جديدة خارج الأمم المتحدة من أجل الإشراف على حل سياسي. لأن إعلان جنيف الذي تبنته الأمم المتحدة ينص على مرحلة انتقالية من دون الأسد. في حين أن روسيا كانت تخطط، من خلال مؤتمر سوتشي، لمرحلة انتقالية مع الأسد.
ولأن المعارضة الحقيقية ستكون أقلية في اجتماع يشكل فيه الموالون للأسد الأكثرية، كان من الممكن لروسيا امتلاك فرصة استصدار القرارات التي تريدها.
كما أنها كانت تريد من خلال هذا الاجتماع تحويل صورتها من شريك للنظام في إراقة دماء الأبرياء في سوريا إلى بلد محب للسلام، لكن ذلك لم يحدث.
وهكذا اتضح للعالم مرة أخرى أنه لا يمكن اتخاذ قرار في المنطقة من دون تركيا.
توضّح أن عناصر التنظيم الإرهابي بي كي كي الذين قتلوا 6 من الجنود الأتراك و 2 من حراس الأمن في منطقة شمدينلي التابعة لولاية هكّاري قد تسربوا إلى المنطقة عبر الحدود العراقية.
على أي حال نشبت هذه المعركة نتيجة رغبة عناصر بي كي كي في التسرب إلى الأراضي التركية بالاستفادة من الظروف الجوية غير المواتية. كما قُتل 19 من الإرهابيين أيضاً خلال هذه المعركة. مع استمرار العملية انتقل رئيس هيئة الأركان العامة "خلوصي أكار" أيضاً إلى المنطقة.
بناء على هذه التطورات جاءت الأوامر من السلطة العليا في تركيا بتنفيذ عمليات عسكرية على المعسكرات الإرهابية في سوريا والعراق.
وأوضح الرئيس أردوغان عن استهداف المعسكرات الإرهابية في سوريا والعراق بعد أن صرّح بأن تركيا ليست في وضع يجبرها على طلب الإذن من أحدهم لتنفيذ هذه العملية.
كما قال أردوغان في الخطاب ذاته: "إن كل من يقف إلى جانب الإرهابيين هو إرهابي أيضا بالنسبة إلينا. وهذه هي كلمتنا الأخيرة للجهات التي تعتقد أنها قد ألهت تركيا بحجة التحالف والشراكة الاستراتيجية إلى هذا اليوم".
قصفت تركيا المعسكرات الإرهابية في سوريا والعراق خلال شهر أبريل/نيسان السابق.
كما نفذت غارات جوية بطائرات الـ F-16 على المعسكرات الإرهابية في جبال كاراجوك وسينجار التي تقع تحت سيطرة بي كي كي ووحدات الحماية الشعبية.
أعربت حينها أمريكا عن قلقها الشديد إزاء قصف تركيا لمعسكرات بي كي كي، كما كبحت جماح الهجمات الإرهابية التي ينفذها بي كي كي على الأراضي التركية من خلال الحدود السورية والعراقية لفترة محددة.
عند النظر إلى الهجمات الإرهابية القادمة من الحدود العراقية يمكن أن نقول إن أمريكا قد أرخت حبال بي كي كي من جديد, إن حبال بي كي كي اليوم في يد وزارة الدفاع الأمريكية، كما كانت مسبقاً في يدها.
هناك حقائق عديدة مخفية خلف علاقات التحالف والشراكة الاستراتيجية بين تركيا وأمريكا فيما يخص بي كي كي.
إن وزارة الدفاع الأمريكية هي من تقوم بحماية بي كي كي ووحدات الحماية الشعبية في سوريا، كما تخبر بي كي كي عن العمليات التي تخطط لها تركيا وبالتالي تتسبب في إفشال هذه العمليات.
أما بالنسبة إلى تمركز بي كي كي في جبل سنجار فيعود الدور الأكبر في ذلك إلى أمريكا نظراً إلى أنها تؤمن هذه الفرصة للتنظيم.
حتى إن الاتفاق المعقود بين "نيجيرفان برازاني" رئيس وزراء إقليم كرستان العراق وبي كي كي فيما يخص جبل سنجار قد تم تحت إشراف هيئة أمريكية.
ومع الأسف مارست أمريكا الضغوطات على إدارة إقليم كردستان العراق ونيجيرفان برازاني لتأمين استقرار التنظيم في جبل سنجار. هذا الموقف يكفي لتوضيح أن بي كي كي ووحدات الحماية الشعبية هي إحدى منظمات الوكالة التي تقع تحت سيطرة وزارة الدفاع الأمريكية.
ربما لهذا السبب يراسل الرئيس أردوغان أمريكا أكثر من دول المنطقة فيما يخص التصريحات عن تنفيذ غارات جوية على معسكرات بي كي كي في سوريا والعراق.
إذ يبدو أن تواجد المعسكرات الإرهابية في سوريا والعراق يقع تحت مسؤولية وزراة الدفاع الأمريكية أكثر مما هو تحت مسؤولية دول المنطقة. إن القوة الرئيسة المسؤولة عن تأسيس المعسكرات الإرهابية في جبال سنجار وقنديل في العراق، والممر الإرهابي في سوريا هي وزارة الدفاع الأمريكية.
بطبيعة الحال لم تعد تركيا تستطيع تحمل استمرار هذه الأوضاع.
إن تصميم تركيا على مكافحة الإرهاب سيؤدي إلى صراع بين أنقرة وواشنطن عاجلاً أم آجلاً. سيتوجب على أنقرة التوجه إلى المعسكرات التي تؤمن المصادر والقوة للإرهاب بشكل أو بآخر.
ستقف أمريكا في وجه أنقرة بشكل مباشر أو غير مباشر بدلاً من أن يقف بي كي كي في وجه أنقرة في هذا الصدد. إذ تعارض أمريكا العمليات التي تنفذها أنقرة في سوريا نظراً إلى اعتبار أمريكا لحزب الاتحاد الديمقراطي على أنه حليف وتحت حماية الولايات المتحدة الأمريكية.
من جهة أخرى تستخدم أمريكا نظام بغداد وإدارة إقليم كردستان العراق في محاولة الحد من العمليات العسكرية التي تنفذها تركيا ضد بي كي كي في المنطقة.
لذلك يجب على أنقرة بعد الآن أن توجه ثقل تركيزها على مكافحة الإرهاب خاصة خارج حدودها -سوريا والعراق-. إن مصادر التنظيم الإرهابي في الداخل التركي هي المعسكرات الإرهابية التي تقع خارج حدود تركيا.
ستستخدم تركيا أسلوب مكافحة الإرهاب في الخارج إلى أن تتمكن من القضاء على قابلية التنظيم الإرهابي في تنفيذ الهجمات داخل تركيا. إذ لا يمكن الوقوف في وجه دعم وزارة الدفاع الأمريكية للإرهاب سوى بهذه الطريقة.
يقال أن التحركات الروسية المتسارعة في التعامل مع الملف السوري هي مقدمة للاعلان عن رؤية جديدة للكرملين هدفها تحقيق أكثر من انجاز يكرس النفوذ والهيمنة الروسية في صناعة صيغة الحل والتفاهمات المحلية والاقليمية هناك بعدما نجح الرئيس فلاديمير بوتين في تسجيل اكثر من هدف في مرمى جميع اللاعبين دون استثناء .
موسكو وكما يرى العديد من المعنيين والمتابعين استطاعت في الاشهر الاخيرة :
-حرق الكثير من اوراق المعارضة والنظام في سوريا والزامها بالجلوس أمام طاولة الحوار التي فرضتها في الاستانة ،
-الامساك بزمام الامور في جنيف والاستانة وتحويلهما نحو خدمة مشروعها الجديد البديل في " مؤتمر الحوار الوطني " تحت شعار جلب الجميع الى سوتشي واشراكهم في المصالحة الوطنية واتفاقيات مواصفات المرحلة الانتقالية ،
-والاعلان بالفم الملان انها استعادت مكانتها كدولة عظمى في العالم، وأنها جاهزة لعقد الصفقات مع الكبار والمساومة على شكل النظام الدولي الجديد، وابلاغ واشنطن انها فشلت في خطط محاصرتها بورقة استخدام العقوبات ضدها ، والاعلان أن الرد الروسي على واشنطن سيكون مباشرة عبر لعب اوراق من تعتبرهم الادارة الاميركية حلفاء لها في المنطقة مثل تركيا والسعودية واسرائيل بعد صفقات السلاح وخطط الطاقة الاستراتيجية والاسواق المشتركة مع هذه الدول .
موسكو بعد الان تريد :
-تضييق هامش النفوذ التركي والايراني في سوريا ،
-المساومة مع واشنطن على لعب الورقتين التركية والايرانية لصالحها في المشهد السوري ،
-وضع كافة اللاعبين المحليين في الحكم والمعارضة السورية تحت جناحيها والزامهم بقبول ما تقول ،
فرض رسم خريطة مستقبل سوريا السياسية والدستورية والعرقية كما تريدها هي على طاولة المفاوضات والصفقات المرتقبة مع واشنطن ،
-والانخراط في مساومات اقليمية أوسع مع الادارة الاميركية حول ايران والعراق وتركيا والملفات الكردية والحرب على الارهاب .
بوتين على يقين :
أنه قادر على اقناع انقرة وطهران بتبني الطروحات والحلول الروسية في سوريا كونها ستخرج البلدين من حالة احتقان وتوتر دائم وتنقذهما من صرف مليارات الدولارات على هذا الملف ،
وأنه بات من حقه الحصول على جائزة ترضية اميركية ثمينة وهو يساوم على تقديم الوجبة الايرانية لواشنطن باتجاه تضييق الخناق على طهران وتقليم اظافرها الاقليمية في سوريا والعراق ولبنان ،
وأنه يتطلع صوب جائزة ترضية اكبر وهو يفاوض ترامب على سياسة تركية اقليمية جديدة تاخذ بعين الاعتبار ما تقوله موسكو وتتجنب اغضابها بعد حادثة اسقاط المقاتلة الروسية وعودة انقرة الى الحضن الروسي طالما ان واشنطن اختارت لنفسها حلفاء محليين واقليميين جدداً .
التحرك العسكري التركي في محافظة إدلب شمالي سوريا في إطار تفاهمات الأستانة ، لا يمكن فصله عن الخطة الروسية في موضوع وضع خريطة الانتشار والحلول في مسار الازمة السورية اذا لم نشأ تبني مقولة أن انقرة قبلت صيغة الحل هذه تحت المظلة الروسية في سوريا،
كما أن اطلاق جولة جديدة من مفاوضات السلام الهادفة لإنهاء النزاع السوري في جنيف اعتباراً من 28 تشرين الثاني / نوفمبر المقبل ، وتأكيد وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون قرب انتهاء عهد أسرة الأسد في سورية رسائل يمكن تفسيرها بمنطق واحد لا بديل له حول أن التفاهمات الاميركية الروسية قائمة وهي ستظهر الى العلن في القريب العاجل
تفهم المبعوث الدولي دي ميستورا للحراك الروسي وتقدير جهود موسكو المبذولة على كافة الصعد ودعوته المتكررة لقيادات المعارضة السورية لتكون اكثر واقعية وعملية امام طاولات الحوار والتفاوض، وظهور بريت ماكغورك المـوفد الرئاسي الأميركي إلى التحالف الدولي لمكافحة داعش بصحبة رجل المهمات الاستثنائية في السعودية الوزير ثامر السبهان على مرأى ومسمع عبد الله اوجلان الذي كان حاضرا في احتفالات تحرير الرقة بصورته العملاقة التي اختيرت بدقة واحتراف اميركي روسي لتسهل لانقرة وطهران قراءة معالم المرحلة المقبلة في سوريا . كلها مؤشرات تلتقي حول قناعة تكاد تقول ان الخطة الروسية الاميركية تقوم على وضع كل الحلول والقرارات في سلة واحدة وامام منصة موحدة تجمع جنيف والاستانة ومؤتمر الحوار الوطني معا ضمن تفاهم ثنائي على تقاسم خرائط الطاقة وخطط مواجهة الارهاب بمعالمه الجديدة واعداد مشاريع وشكل طاولات حلول الازمة السورية سياسيا ودستوريا .
في الجانب الاخر وردا على قناعة ان روسيا احرقت اوراق الجميع في سوريا نرى :
الائتلاف الوطني السوري المعارض والهيئة العليا للمفاوضات يقولان انهما لن يشاركا في مؤتمر سوتشي ، ويعتبران أن أي مفاوضات مع النظام خارج إطار جنيف أو دون رعاية الأمم المتحدة ستكون حوارا بين النظام ونفسه ،
ويبرز موقف تركي جديد يردد ان انقرة ترحب بلقاء الحوار السوري الذي تريده موسكو لكنها تعلن عن تحفظها على دعوة موسكو لممثلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي للمشاركة في المؤتمر ، مصحوباً بحقيقة أن تركيا لن تفرط بما تملكه من نفوذ وعلاقات مع قوى المعارضة السياسية والعسكرية ومنها الائتلاف السوري والجيش الحر ارضاء لموسكو ،
وتظهر مواقف غربية عديدة تقول انها مع الحوار في المسألة السورية لكن في اطار تفاهمات واضحة مبنية على قرارات الامم المتحدة المعروفة حول الازمة السورية بعيدا عما تقوله موسكو حول ان التوصل إلى تسوية سياسية في سورية بات ممكناً مع استعداد الأسد لإعداد دستور جديد وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية باشرافه ،
وتكشف طهران النقاب عن انها تدعم التحرك الروسي طالما انه لا يمس سياستها السورية ويتحول الى مساومة على مصالحها ومصالح حلفائها المحليين هناك ،
وتعلن اصوات اميركية كثيرة ان الاستعجال الروسي في سوريا قد يتحول الى تسرع ولا يمكن تهميش ادوار وقمم ومؤتمرات وقرارات اممية بهذا الشكل وانه على الكرملين ان يقبل في نهاية الامر ان اميركا ما زالت الدولة الأولى والأقوى في العالم . روسيا تريد المساومة على التموضع الاميركي الاقليمي وهذا ما تعرفه واشنطن جيدا لذلك هي تريد العودة الى المشهد السوري ببطء وهدوء ودون الكثير من عرض العضلات والتحدي والاستفزاز .
روسيا تريد كل شيء في سوريا واهم ما تريده هو فرض شرعية النظام بعد تلميعها . الن يتحمل احد مسؤولية تدمير سوريا ومقتل مئات الالاف وتشريد الملايين ؟ ثم هل سيخيف الاسلوب الفوقي الروسي " من لا يحضر إلى سوتشي سيجد نفسه مهمّشا " ، الذين غامروا بكل شيء من اجل حريتهم وضحوا بالكثير مقابل عيش ابنائهم بكرامة في سوريا الجديدة ؟
روسيا تريد اشراك حزب الاتحاد الديمقراطي في الحوار وتقول للأتراك انها مسألة سورية بحتة ، لكنها ستجد صعوبة في اقناع تركيا بقبول ذلك طالما ان هذا الحزب يتباهى بفكر وعقيدة اوجلان الذي تعتبره العواصم الغربية قبل انقرة نفسها رجلا قاد عمليات القتل والارهاب ضد الاف المواطنين الاتراك. خيارات روسيا باتت شبه محدودة في سوريا وهي تحتاج للخروج من مازقها إلى دعم اميركي واوروبي وتريد الحصول عليه بالقوة وعرض العضلات والتحدي فهل يكون لها ذلك ؟
حملت واشنطن مؤخرا روسيا باستخدامها حق النقض في مجلس الامن مسؤولية حماية النظام السوري وهي بذلك تكون مرة أخرى قد انحازت إلى جانب " الديكتاتوريين والإرهابيين الذين يستخدمون الأسلحة المحظرة دوليا ضد المدنيين السوريين في خان شيخون . هل يمكن للادارة الاميركية ان تطلق يد موسكو على هذا النحو في سوريا وهي توجه لها اتهامات من هذا النوع؟" .
من الأفضل أن نحاول أيضا قراءة ما يجري بطريقة مغايرة تعكس حجم الورطة الروسية في الملف السوري ووصولها الى طريق مسدود يدفع موسكو للقفز الى الامام في عملية انتحارية تحرق اوراقها واوراق الجميع في سوريا على طريقة " علي وعلى أعدائي " . ابتلاع الكعكة السورية ليس بمثل هذه البساطة لا روسيا ولا اميركيا كما يبدو .
منذ ثورة مؤسس النظام الإيراني، الراحل الخميني، وإلى اليوم تمر المنطقة العربية بدورات من العنف السياسي والعسكري والإرهابي غير متوقفة. الطموح الإمبراطوري القومي الفارسي الذي ألبسه الخميني لباس التشيع، يتضخم يوماً بعد يوم، والتمدد الإيراني يتسع في مناطق الهلال الخصيب، ويحاول التمدد غرباً في القرن الإفريقي وأواسط القارة وسواحلها الغربية، في محاولات للنظام الإيراني لتطويق العرب في الجزيرة من معظم الجهات، وتمهيداً لإحياء الدور الفارسي القديم في ثوب إسلامي، وبصبغة شيعية.
وللوصول إلى هذا الحلم وُضع مشروع واضح المعالم يقوم على عدد من الركائز المهمة، بعضها على مستوى الاستراتيجيات التنظيرية، والبعض الآخر على مستوى الإجرائيات التكتيكية.
أولى هذه الركائز الاستراتيجية- من وجهة نظر كاتب السطور- تتمثل في «تسييس التشيع». فعلى الرغم من أن أصلاً من أصول الشيعة الإمامية أن «كل دولة تقوم ما بين غيبة الإمام المهدي- عليه السلام- وظهوره هي دولة غاصبة»، إلا أن الخميني-وتفادياً لوصم دولته بالظلم والغصب- طوَّر مفهوم «نائب الإمام»، الذي دمجه مع مفهوم «الولي الفقيه»، ليصبح الخميني نفسه هو الولي الفقيه، وهو نائب الإمام الغائب في الوقت نفسه، وهو الأمر الذي مكنه من الحكم باسم «الإمام المهدي»، ونيابة عنه، ليتسنى للنظام الإيراني في ما بعد اختراق النسيج الاجتماعي العربي في بعده القومي باسم التشيع، وليتمكن من التغطية على الهدف القومي الإمبراطوري الفاقع لاستراتيجية طهران، الذي تتم الإشارة إليه في لحظات «الحماس العاطفي» لبعض المسؤولين وقيادات الحرس الثوري، عندما يغيب عنهم- في غمرة الحماس القومي-الدهاء الفارسي الذي تجسد في تكتيكات «التقية السياسية» في ثوبها الإيراني.
يتحدث مسؤول عسكري- مثلاً- عن حدود إيران الممتدة من سواحل بحر العرب وباب المندب إلى سواحل المتوسط وبلاد الشام، ويتحدث آخر عن أربع عواصم عربية تقع تحت سيطرة طهران، ليأتي آخر ويقول إن العراق العربي هو عاصمة الامبراطورية الفارسية، لكن تلك التصريحات أو الفلتات النادرة لا تلبث أن تلجمها قدرة العقل الإيراني على التلون وإخفاء الأهداف.
وثانية هذه الركائز الاستراتيجية تتمثل في «صناعة العدو». وهذه عملية ذكية لجأ إليها النظام، باختراع «عدو وهمي» كبير وقوي، لا يمس النظام بسوء، ولكنه يوفر له فرصة الظهور بمظهر «المقاوم» لهذا العدو الوهمي، من أجل التغطية على «العدو الحقيقي» الذي تنضح أدبيات النخب الإيرانية في الآداب والفنون والمدونات التاريخية والسياسية بعداوة جوهرية وأصيلة له، وهو «العدو العربي»، الأمر الذي يشرح لماذا تحاول إيران على طول تاريخها التمدد غرباً باتجاه البلدان العربية، ولماذا لم تكن للإيرانيين معارك تاريخية كبيرة كالتي خاضوها منطلقين جهة الأراضي الواقعة خارج حدودهم الغربية باتجاه العراق والشام والخليج واليمن، وهو ما يصب في مجرى تأكيد كون أمريكا وإسرائيل مجرد «عدو وهمي» للنظام الإيراني، للتغطية على عداوة العرب الذين يشكلون «العدو الحقيقي» لهذا النظام.
وتأتي أهمية «صناعة العدو» الخارجي من كونه يعطي النظام في إيران جزءاً من مشروعيته القائمة في جانب منها على أساس مواجهة «قوى الاستكبار العالمي»، و»نصرة المضطهدين» في العالم. كما تأتي أهمية العدو الخارجي للنظام في أنه يعطيه دعاية سياسية وإعلامية كبيرة، حيث يصور النظام نفسه نداً لواشنطن، ما يضفي عليه قوة دعائية تنفع في تحسين صورته، وتساعد على هروبه من مواجهة واجباته تجاه الشعب الإيراني داخلياً، وتعين على جعل النظام مركز جذب لكل من عانوا طويلاً من الظلم والانحياز الأمريكي لإسرائيل في المنطقة العربية.
ومن هذا المرتكز يمكن أن نتحدث عن الركيزة الثالثة المهمة في المشروع الإيراني، وهذا الركيزة هي «القضية الفلسطينية»، التي استطاع النظام في طهران تحويلها إلى حصان طروادة، الذي مكنه من نقل «الجند والسلاح» إلى داخل «بوابات وأسوار» المدن العربية لتدميرها من داخلها، بحجة الدفاع عن فلسطين، ومحاولات تحريرها.
إن ما قدمه النظام الإيراني للقضية الفلسطينية من دعم لا يساوي شيئاً أمام المكاسب التي حققها من توظيفها سياسياً لصالح تمدده في بلاد المشرق العربي. وهنا تحضرنا مقولة الراحل الخميني أن «الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء»، وهي المقولة التي طورها ورثة الخميني ووكلاؤه في بلادنا العربية ليمر طريق القدس الدعائي- فيما بعد- عبر بغداد ودمشق وبيروت وحلب والقصير والقلمون والزبداني، قبل أن ينحرف جنوباً باتجاه صنعاء، ليلتهم- كأفعى ملتوية – عواصم الحضارة العربية الإسلامية الوسيطة، قبل أن يصل إلى القدس، التي لن يصل إليها، لسبب بسيط وهو أن القدس ليست في الحقيقة ضمن حسبان من يمشي في هذا الطريق. وإذا كانت الركائز الثلاث المذكورة تأتي على مستوى الاستراتيجيات في مشروع النظام الإيراني، فإن ثلاث ركائز أخرى- ضمن هذا المشروع- تأتي على مستوى الإجرائيات كما ذكرنا.
وهذه الركائز هي:
أولاً: «التطييف والملشنة»: وهذه الركيزة يؤدي شقها الأول إلى الشق الثاني، حيث يعمد المشروع الإيراني إلى «تطييف» المجتمعات العربية في ظل غياب تام لحركة الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي داخل هذه المجتمعات، حتى إذا ما «تطيَّفتْ» هذه المجتمعات، تأتي الخطوة الثانية بتحويلها إلى مليشيات مرتبطة طائفياً بالنظام في طهران، حيث تعمل على إسقاط الدول التي توجد في نطاقها، لتحل محلها، ومن ثم ربط مصير شعوب ودول المنطقة بإيران. ولإنجاز هذا الهدف عملت طهران على مدى عقود من الزمن لتحقيق هدف «تطييف» العرب، تمهيداً لـ»ملشنة» دولهم ومجتمعاتهم، وهو الواقع المشهود اليوم في لبنان حزب الله ويمن الحوثيين وعراق الحشد الشعبي وسوريا المليشيات الطائفية عابرة الجنسية، حيث تم التهام الدولة الوطنية لصالح المليشيات.
ثانياً: «فكرة المحاصصة»، وفي هذه الفكرة التدميرية التقت مصالح إيران مع مصالح قوى دولية على رأسها الولايات المتحدة، وقد تجلت هذه الفكرة في لبنان- مثلاً- في «الثلث المعطل» الذي أطلق عليه حزب الله اللبناني «الثلث الضامن»، وهو تكتيك يعطي حزب الله «حق الفيتو» على أي قرار تتخذه الحكومة اللبنانية يتعارض مع المصالح الإيرانية، قبل أن يأخذ حزب الله لبنان كله- فيما بعد- إلى الدوامة السورية بأمر من خامنئي. وقد طرحت فكرة المحاصصة بقوة في العراق قبل أن يتمكن حلفاء إيران في هذا البلد من توسيع نفوذهم والسيطرة على مقدرات البلاد. والحقيقة أنه بغير فكرة المحاصصة، فإن وكلاء طهران في بلدان عربية بعينها لا يمكنهم أن يفوزوا بأغلبية برلمانية، ولذا تسعى طهران لحماية وكلائها بتقسيم الكعكة السياسية في تلك البلدان على أساس المحاصصة التي تضمن لوكلائها لعب دور أكبر من حجمهم السياسي والانتخابي.
وأما عن الركيزة الإجرائية الثالثة – في هذا السياق- فهي «البرنامج الصاروخي الإيراني»، فقبل عقود ضرب العراق مدن طهران وأصفهان ومشهد بصواريخ بالستية، الأمر الذي أضطر معه الخميني إلى قبول وقف إطلاق النار، الذي عد هزيمة مذلة للنظام الذي كان يصر على إسقاط «النظام البعثي الكافر» في بغداد. ومنذ ذلك التاريخ حرصت طهران على صناعة صواريخ متوسطة وبعيدة المدى، وهو الأمر الذي أتاح لها اليوم نقل هذه الصواريخ إلى أراض عربية يسيطر عليها وكلاؤها في بلدان مثل اليمن ولبنان لتشكل تهديداً استراتيجياً يراكم الأرصدة السياسية لنظام طهران. وقد مثل إطلاق الحوثيين مطلع الأسبوع صاروخاً إيرانياً وصل العاصمة السعودية الرياض تجسيداً لهذا التكتيك الإيراني، حيث انطلق الصاروخ من أراض عربية (اليمن)، باتجاه أراض عربية (السعودية)، ليأتي الرد العربي على أراض عربية، فيما إيران وراء حدودها تلعب بالنار عن بعد.
هذه بعض ملامح وركائز المشروع الاستراتيجي النظام الإيراني للسيطرة على المشرق العربي، وتزَعُّم العالم الإسلامي حسب طموحات نظام طهران، وهو مشروع لا يزال فيما يبدو في مرحلة التصاعد يساعده في ذلك فراغ عربي كبير على مستوى الاستراتيجيات والتكتيك.
لا يزال الاتفاق النووي مع إيران يثير الكثير من المناقشات على الصعيدين السياسي والأكاديمي، حتى بات تناوله يشكل بنداً أساسياً ونقطة لا يمكن تجاوزها عند التعرض لما يسمى «بدبلوماسية نزع السلاح» التي تعتبر التفاوض مع الجانب الإيراني حول طموحاته النووية أحد أمثلتها.
كانت النقاشات محتدمة منذ البداية لاختلاف وجهات النظر بين الرافضين والداعمين، لكن الأمر ازداد تعقيداً بعد ظهور الآثار الجيوبوليتيكية للاتفاق من جهة، وبعد التغيرات التي ظهرت على الصعيدين الدولي والإقليمي من جهة أخرى. من ناحية، تغيرت السياسة الأمريكية من اتباع استراتيجية لدعم إيران وخلق شراكة معها على مستوى الاقتصاد والتجارة ومحاربة الإرهاب، في زمن الرئيس باراك أوباما، إلى منحى مغاير تماماً عبر استراتيجية تهدف لاحتواء إيران وعزلها بعد اتهامها برعاية ودعم الإرهاب.
أما إقليمياً، فقد تغير الوضع، ولم يعد الكثير من دول الجوار القريب أو البعيد لإيران يرى فيها تهديداً وشيكاً أو عدواً على المدى القريب، ما سمح للبعض ببدء صفحة تعاون جديدة جعلت النظام الإيراني يشعر بأنه لم يعد معزولاً، بل إنه لم يعد قابلاً للعزل.
لفهم هذه المناقشات المحتدمة منذ أعوام داخل الأوساط الأكاديمية والسياسية الغربية، يجب أن نعلم أن الاتفاق النووي لم يكن يستهدف فقط تجميد المساعي النووية لطهران لمدى عشر سنوات، بل كان يبشّر كذلك بضمان تحسن السلوك الإيراني، مقابل التطبيع الكامل وإعادة فتح الأسواق، ما يؤدي إلى قبول البلد الذي عانى لعقود من الحصار والمقاطعة، ضمن المنظومة الاقتصادية الدولية.
كانت النظرية التي تبناها الرئيس السابق وفريق عمله، تقول إنه ما لم ينجح المجتمع الدولي في الوصول إليه بطريق الاستهداف والعداء، قد ينجح في التحصل عليه عن طريق الضغوط الناعمة والاحتواء.
هذه النظرية، ورغم أنه عكف عليها لفيف من الخبراء الاستراتيجيين، كانت تبدو لكثيرين غيرهم ساذجة، على اعتبار أنه من الصعب جداً على نظام الولي الفقيه أن يتخلى عن مشروعه المبني على التمدد وتوسيع النفوذ والتغلغل أكثر في الجوار.
رغم ذلك فإن الدعاية لهذا الاتفاق ولنظريته المؤسسة لم تتوقف، حتى بعد تزايد الخروقات من قبل الجانب الإيراني، الذي لم يمنعه الاتفاق من التوسع في تصدير المقاتلين إلى الحلبة السورية، كما لم يمنعه من الاستمرار في تجريب الأسلحة الصاروخية الرادعة والممنوعة. رغم كل ذلك، إلا أن الإدارة الأمريكية السابقة كانت تتبنى إنجاح هذا الاتفاق كأولوية لها، محاولة إقناع الآخرين بخدمته للأمن والسلم. ومع أنه لا توجد حتى الآن أي إشارة على تحسن سلوك الطرف الإيراني، وهو الأمر الذي كان يمثل الغاية الأهم من الاتفاق، إلا أن الكثير من الداعمين ما زالوا عند رأيهم بأنه يمثل نجاحاً دبلوماسياً يجب عدم التفريط فيه.
هذا الإصرار فرض تساؤلاً حول ما يعنيه تحسن السلوك الإيراني. بالتأكيد فإن المقصود ليس الانسحاب من سوريا ولا تجفيف المنابع الاقتصادية والدعم الممنوح لحزب الله اللبناني، أو لمجموعة الحوثي اليمنية، كما أنه ليس مقصوداً بأي حال التيقن من توقف أو تأجيل المشروع النووي، لأن كل ذلك ببساطة لم يحدث. إذن، ما الذي يعنيه الداعمون لإيران بحديثهم عن «تحسن السلوك»؟
من أجل إجابة هذا السؤال ربما تجدر بنا قراءة المقالات الغربية التي كتبها متحمسون نافذون لهذا الاتفاق، وهي مهمة من أجل الاطلاع على وجهة النظر الأخرى المساندة. على رأس أولئك مثلاً وزير الخارجية السابق جون كيري الذي نشر مقالاً في «الواشنطن بوست» بتاريخ 29 سبتمبر الماضي، يدافع فيه عن الاتفاق ويحذّر من عواقب الانسحاب منه، وهو مقال شبيه بالمقال الذي تشارك في كتابته فيليب غوردون وريتشارد نيفيو، والذي نشر في وقت سابق في مجلة «ذا أتلانتك» تحت عنوان: «الصفقة الأسوأ التي لم تكن كذلك أبداً!».
في بحثتنا عن المقصود بتحسن السلوك يتوجب علينا تذكر حقيقة أن الدول إنما تتحرك وفق ما يحقق مصلحتها الذاتية المتمثلة بشكل خاص في نطاقي الأمن والاقتصاد. بهذا التبسيط يصبح من الواضح تحقق تحسن السلوك الإيراني بحسب منظور الغرب البراغماتي. فمن الناحية الأمنية تحرص إيران على التوقف عن تهديد أي مصلحة غربية، بما في ذلك ضمان ألا يشكّل ذراعها حزب الله المتمدد سورياً أي تهديد على الكيان الصهيوني.
أما اقتصادياً، فإن انفتاح السوق الإيراني على الشركاء الغربيين بعد عقود من العزلة، يوفر بلا شك مصلحة مهمة لأوروبا، القارة التي باتت تعاني من الشيخوخة، والتي بدأ الركود الاقتصادي يتسرب إلى الكثير من مفاصلها حتى وصل الأمر حد التشكيك في جدوى الاتحاد الأوروبي نفسه كمؤسسة.
استخدام مفردة «الصفقة» شائع في الأدبيات الغربية. الحقيقة أن كلا الطرفين كان ينتظر الفوائد الاقتصادية والتجارية. الطرف الإيراني الذي كانت خياراته الاقتصادية في السابق محدودة، والذي استنزف نفسه من خلال تدخلاته العسكرية الخارجية ودعمه غير المحدود للمجموعات الفوضوية في أكثر من مكان، والطرف الغربي الذي كان يتلهف لدخول السوق الفارسي.
كان الاتفاق بالنسبة لإيران مصلحة وطنية تقدم طوق النجاة لاقتصاد أنهكه الانفاق العسكري وأضعفه تهاوي أسعار النفط. كانت صفقة مربحة تحصل بموجبها إيران بشكل فوري على 400 مليون دولار، بخلاف تحرير مبالغ مجمدة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. كل هذا بلا مقابل، سوى حديث إعلامي وتعهدات لفظية بتحسن السلوك واحترام الجوار، وهو ما تعلن طهران في كل مناسبة التزامها به.
«الصفقة» كانت تؤدي باختصار إلى إنعاش الاقتصادين الإيراني والأوروبي. حماس الأوروبيين وفرحهم بالاتفاق كان يظهر في السرعة التي بدأت فيها الوفود من مختلف البلدان بالتوافد على طهران، كما ظهر في الحفاوة التي استقبل بها الرئيس روحاني في العواصم الأوروبية.
لم يكن أحد يتحدث عن المعنى السياسي لتحسن السلوك في هذه اللقاءات. كان الحديث يدور في غالبه عن الإلغاء التام والوشيك للحظر التجاري على إيران، ما يمكنها من شراء الذهب والمعادن الثمينة وصيانة الطائرات المدنية في الخارج من جهة، ويجعلها تتابع أنشطة صناعة السيارات والمواد البتروكيميائية التي تملك فيها بعض الخبرة من جهة أخرى.
لم يكن من المطروح أن يشرع أي مسؤول غربي في الضغط على طهران وتهديدها بإلغاء الاتفاق، إذا ما واصلت مشاريعها الفوضوية في المنطقة، وذلك ببساطة لأنه في هذه الحالة فإن الخسارة لن تكون فقط من نصيب الجانب الإيراني ولكنها ستكون كذلك خسارة فادحة للجانب الأوروبي، الذي بدأ بعض رجال أعماله مشاريع فيها تتجاوز قيمتها ملايين الدولارات. هذا هو ما جعل الاتفاقية تبدو كصفقة مضمونها أن تسلّم طهران مفاتيح اقتصادها للغربيين، وتمنحهم وضعاً مريحاً للتبادل التجاري والاستثمار، مقابل غض النظر عن تجاوزاتها وعبثها في أركان المنطقة. هذا «الربط الاقتصادي» كان ناجحاً في تحييد مواقف الكثير من الدول الأوروبية التي ما تزال رافضة لعودة إيران لمربع الحظر والعقوبات، وهو ما ظهر في عجز الولايات المتحدة عن تنفيذ تهديداتها بمراجعة الاتفاق واكتفائها بفرض عقوبات أحادية محدودة.
أكثر من ذلك فإن طهران تتابع بجد محاولات تطبيق استراتيجية الربط الاقتصادي هذه على الحالة الأمريكية عبر إقناع الكثير من رجال الأعمال والمستثمرين الأمريكيين بجدوى الشراكة مع إيران وسوقها الخصب، وبالفعل فقد أصبحت لديها مجموعة ضغط لا يستهان بها، مكونة من شخصيات نافذة تدعمها بشكل كبير. ربما يكون هذا هو أحد الصعوبات التي تواجه استراتيجية ترامب لصد إيران.
فاجأ السيد سعد الحريري العالم بأسره، وليس الشعب اللبناني وحده، بإعلان استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية، منطلقاً من «مبادئ ثورة الأرز العظيمة»، ومشدداً على أن البلد يعيش «أجواء شبيهة» بتلك التي سادت قبيل اغتيال أبيه رفيق الحريري، وملمحاً إلى أنه لمس «ما يحاك في الخفاء» لاستهداف حياته.
المفاجأة الثانية تمثلت في الهجوم العنيف الذي شنّه السيد الحريري على إيران، التي «ما تحل في مكان إلا وتزرع فيه الفتن والدمار والخراب»، دافعها في هذا «حقد دفين على الأمة العربية، و»رغبة جامحة في تدميرها والسيطرة عليها». وهذه لغة هجومية جديدة، طارئة تماماً على ما اعتاد السيد الحريري استخدامه في الحديث عن إيران، ونفوذها في لبنان. لكنها، من ناحية ثانية، ترقى إلى مستوى إعلان القطيعة، إذا قُرئت جيداً المفردات التي اختارها لتوصيف حزب الله اللبناني، والذي لا يكتفي بوضع يده في يد إيران، و«يعلن صراحة ولاءه لها»، بل إنه «الذراع الإيرانية، ليس في لبنان فحسب، بل وفي البلدان العربية».
المفاجأة الثالثة كانت أن السيد الحريري لم يعلن استقالته من السراي الكبير، وعبر التلفزة الحكومية أو حتى فضائية «المستقبل» مثلاً، بل أعلنها من العاصمة السعودية الرياض، وعبر فضائية سعودية. وهذا يلقي بظلال الشك المشروع على مصداقية انطلاقه من المصلحة اللبنانية أولاً، ويبرر ربط استقالته بأجندات خارجية، وسعودية على وجه التحديد. هذا مع العلم أن الذاكرة القريبة للشعب اللبناني تسجِّل انخراطه في مشروع تسوية مع حزب الله، أتاحت انتخاب ميشيل عون لرئاسة الجمهورية. كذلك ليس بعيداً في الزمان خيار انفتاحه على النظام السوري، رغم كلّ المعطيات الجدية التي تشير إلى تورّط رأس هذا النظام، شخصياً، في اغتيال رفيق الحريري.
في المقابل، ليست أقل مدعاة للمفاجأة إطلالة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، للتعقيب مباشرة على استقالة رئيس الحكومة، واستغفال الشعب اللبناني حول تفاصيل كثيرة، لعلّ أكثرها إثارة للسخرية استنكاره أن تُعلن الاستقالة من الخارج، وكأن الحزب ليس مخفراً إيرانياً في لبنان، يدين بالتابعية العلنية للولي الفقيه في طهران! كذلك بدت إهانة بليغة للشعب اللبناني أن يتحدث السيد نصر الله عن حرصه على السلم الأهلي في لبنان، هو الذي تكفّل حزبه بتعريض هذا السلم للأخطار الجسيمة مراراً، ولم يشيّد دولة داخل الدولة أو فوقها فحسب، بل عمد إلى «تأديب» جيش الدولة ومؤسساتها خلال «غزوة بيروت» الشهيرة، في أيار (مايو) 2008.
وإذْ يستنكر التدخل الخارجي في شؤون لبنان، فإن نصر الله لن يثير سوى استهجان اللبنانيين الذين يعرفون مقدار تدخّل إيران في شؤون لبنان، أو قتال حزب الله إلى جانب نظام الأسد في مشارق سوريا ومغاربها. وأما ذاك الذي يستوجب الاستهجان حقاً، فإنه تأكيد «سيد المقاومة» على أن إسرائيل لن تشنّ حرباً على لبنان. إذْ، بالفعل، لماذا ستفعل إذا كان ما تبقى من «مقاومة» لم يعد أكثر من ميليشيا تقوم بمهامّ إسرائيل، في داخل سوريا!
وبين استقالة الحريري واستغفال نصر الله، يظلّ الشعب اللبناني رهين المحبسين، بافتراض أن القادم لن يكون أدهى!
بعد نحو سنة، اتخذ رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري القرار المنتظر والطبيعي؛ مغادرة حكومة «حزب الله» الخفية.
الحريري شكّل حكومته في ديسمبر (كانون الأول) 2016، وقدمّت حكومته بعض المنجزات الطيبة داخلياً مثل إقرار الميزانية، ومحاولات معالجة أزمة اللاجئين السوريين، والأهم سعيه الظاهر للحفاظ على السلم والحياد اللبناني.
غير أن صلف إيران، وتعنت تابعها اللبناني «حزب الله»، وتضخم الفاتورة الإنسانية للمأساة السورية، و«حزب الله» ضالع في الجريمة السورية مثل غيره، والتهاب المواجهة بين العرب وإيران، خصوصاً السعودية التي تحارب العصابات الحوثية الخمينية في اليمن، والفجور الإعلامي لحزب الله ضد السعودية ودول التحالف العربي، لا بدّ لكل هذا من رادع.
بعد هذا كله، لم يسع الحريري إلا الاستقالة، وقد شبّه الحريري الابن، الحالَ اليوم بالمرحلة التي سبقت اغتيال الوالد رفيق، وقال: «لمستُ ما يحاك سراً لاستهداف حياتي»، وفي خطابه الذي ألقاه معلناً استقالته أشار الحريري إلى أن «لإيران رغبة جامحة في تدمير العالم العربي»، متوعداً بأن «أيدي إيران في المنطقة ستُقطع».
وقال بالعربي الفصيح: «حزب الله فرض أمراً واقعاً في لبنان بقوة السلاح».
موقفٌ قال عنه رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إنه خطوة صحيحة، مستغرباً كيف تأخرت الاستقالة لأنه: «لا يمكن لأحد يحترم نفسه أن يبقى في الحكومة».
هذا الإجراء المفاجئ من سعد الحريري أربك الحسبة الإيرانية، خصوصاً أن مستشار المرشد خامنئي الموثوق، علي ولايتي، كان في بيروت قبل أيام يحتفل بالهيمنة الإيرانية على لبنان والنصر في سوريا، كما قال، والمضحك المبكي أن المساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، قال وهو مغتاظ من استقالة الحريري، إن ولايتي قال من لبنان إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية حريصة على «وحدة واستقلال لبنان»!
تدخلات وعبث إيران بالدول العربية ليست سراً ولا تحليلاً، بل واقع مرئي ملموس، لدرجة أن «حمامة السلام» رئيس الجمهورية حسن روحاني قال بالنص مؤخراً:
«لا يمكن في الوقت الحاضر اتخاذ إجراء حاسم في العراق وسوريا ولبنان وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج من دون إيران». وهو التصريح الذي استدعى في حينه ردّاً من سعد الحريري نفسه.
تصريح روحاني كان تعبيراً عن ثقافة النظام الإيراني، فمثلاً، نائب قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني اللواء إسماعيل قائاني، قال في وقت سابق، إن «إيران مستمرة بفتح بلدان المنطقة».
هل حانت لحظة المواجهة الكبرى مع النظام الإيراني، والبداية من خلال أداته الأولى عربياً، «حزب الله» اللبناني؟ ونسخته اليمنية، جماعة الحوثي؟
نحن أمام لحظات تاريخية فاصلة.
تتزايد جبهات المواجهات مع إيران وحلفائها الرئيسيين. فالصاروخ الباليستي الذي أطلقه الحوثيون على العاصمة السعودية تطور عسكري خطير لا يمكن فصله عن الصراع الإقليمي مع إيران في لبنان وسوريا والعراق. وقد فشلت السبل الدبلوماسية بسبب الرفض المستمر من الإيرانيين في إخراج قواتهم وميليشياتهم من سوريا، وسبق أن رفضوا الخروج من العراق الذي يعملون فيه عسكرياً، وآخر المعارك التي يقودونها الزحف الأخير على إقليم كردستان.
إيران تدير المعارك عن بُعد، في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وقد فشلت دول المنطقة، وكذلك الولايات المتحدة، في تبني سياسة تتناسب واستراتيجية إيران في التمدد والسيطرة من خلال وكلائها. الأميركيون الذين دفعوا أثماناً مكررة بسبب تفجيرات واغتيالات «حزب الله» اكتفوا بمواجهة الوكيل نفسه، من خلال خطف أو اغتيال متورطين أو قيادات في الحزب. وكذلك فعلت مصر ودول الخليج التي اكتفت في السابق بالتضييق سياسياً واقتصادياً على «حزب الله».
إيران تضطر الخصوم إلى إحدى سياستين؛ مواجهة المصدر نفسه مباشرة، وهو النظام الإيراني، أو خلق وكلاء «بروكسيز» إقليميين والدخول في حروب الوكالات. من المستبعد وقوع الخيار الأول؛ أي حرب مع إيران، إلا في حالة دفاعية، هجوم منها مسلح مباشر، وهو ليس أسلوب طهران في إدارة أزماتها. حتى عندما فقدت إيران ثمانية دبلوماسيين، وغيرهم في كمين من قوات «طالبان» في مزار شريف بأفغانستان أواخر التسعينات، لم تدخل في حرب هناك، بل عمدت إلى بناء ميليشيات محلية هناك بصبر واستمرارية.
رغم الهيمنة الإيرانية الواضحة في ساحات مثل العراق، فإن الجيش العراقي لا يستطيع مواجهة القوى المحلية المسلحة الموالية لإيران، وذلك بحكم تعدد قياداته السياسية ونفوذ إيران الطاغي. ومن الواضح أن لإيران دوراً كبيراً في توجيه القوات العراقية، و«الحشد الشعبي» تحديداً، لتصفية الوجود الكردي في كركوك وخلفها، وهي معركة إقليمية مهمة وليست عراقية فقط. وهذا لا يعفي الأكراد من أنهم ارتكبوا أخطاء سياسية وعسكرية جسيمة في هذه الأزمة، نتيجة مشروع الاستفتاء على الاستقلال، واستغلها الإيرانيون للزحف على المناطق الحيوية؛ بترولية وجغرافية.
لن تجد الدول بداً من اللجوء إلى التوازن عبر صراع الميليشيات. الآن تدخل سوريا مرحلة ترتيبات الحكم، وأهمها السيطرة على الأرض. الميليشيات الإيرانية تقوم بعمليات إعدامات كبيرة بين الأهالي في المناطق التي تسيطر عليها، وهي غالباً معارضة في السابق. تريد من خلالها الإمساك أمنياً في مناطقها، نظراً لأن النظام السوري لم يعد يملك قدرات عسكرية وأمنية كافية لبسط نفوذه.
وفِي هذه الظروف ستجد الدول الإقليمية أنها تواجه مشروعاً إيرانياً ضخماً يستخدم سوريا للسيطرة على سوريا نفسها، والعراق ولبنان، ولاحقاً ما وراء الحدود. وفِي مقابل هذه السياسة لا توجد وسيلة لإزاحة إيران أو إضعافها مهما وعد الروس أو النظام السوري نفسه. هنا من المتوقع أن تتحول سوريا إلى دولة ميليشيات أيضاً.
بالنسبة للإيرانيين فسياسة الوكلاء مربحة، فهم يعتبرون استثمارهم في «حزب الله»، وهو أغلى مشروع والأطول زمناً؛ يكلفهم نحو سبعمائة مليون دولار سنوياً، عبارة عن جيش متقدم. وبالنسبة لوكلائهم في اليمن الحوثيين (أنصار الله)، فإن السعر أرخص، حيث قد لا يكلفهم المحارب دولارين في الأسبوع.
أعود إلى بداية الحديث، وهي أن المواجهات تتسع مع تمدد إيران وعدم وجود رادع لها. وتصبح أكثر خطورة كما رأينا في نجاحها بإضعاف معسكر الحريري في لبنان، وتعزيز قدرة الحوثيين الصاروخية التي تهدد قلب السعودية مباشرة. وبسقوط خيار المواجهات العسكرية المباشرة ضد إيران، الأمر الذي لا أحد يرغب فيه، فإن تعزيز قوات الميليشيات المحلية في الدول المضطربة يبدو أنه الطريق المفتوح الوحيد.
عندما طرح فلاديمير بوتين في منتدى فالداي يوم 17 الشهر الماضي، فكرة الدعوة إلى «مؤتمر الشعوب السورية»، لم يكن بصدد جسّ النبض حيال مدى المقبولية لهذه الفكرة، بل كان يعرف جيداً أن تفاهمه مع الأميركيين على هذا يكفي بذاته لإطلاق المبادرة!
الدليل، أن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، دعا بعد أربعة أيام على كلام بوتين، إلى ما سمّاه «ضبط الحماسة» حيال هذه الفكرة؛ لأنه من المبكّر الحديث عن كيفية وموعد عقد هذا المؤتمر، ثم فجأة كرّت سبحة التأكيدات والمواعيد دفعة واحدة وبسرعة قياسية في الأيام القليلة الماضية؛ ما يؤكد وفق التقارير الدبلوماسية أن كل شيء يبدو معداً وراء الأبواب الأميركية الروسية المغلقة، منذ الاتفاق على الخطوط العريضة في قمتي هامبورغ بين بوتين ودونالد ترمب.
وهكذا حددت موسكو يوم 18 الشهر الحالي موعداً لانطلاق المؤتمر في سوتشي، على أن ينتقل بعد ذلك إلى حميميم في مراحله المتتابعة، ثم وجّهت يوم الأربعاء الماضي الدعوة إلى 33 منظمة وحزباً لحضور ما سمّته «مؤتمر الحوار الوطني السوري»، بعدما كان تعبير «الشعوب السورية»، قد أثار علامات استفهام واستغراب في سوريا والمنطقة، رغم أن هذه التسمية تتطابق مع الفكرة الأساسية التي ترسخت في ذهن بوتين منذ اليوم الأول لتدخله في سوريا نهاية سبتمبر (أيلول) 2015، وسبق أن أعلنها تكراراً، وهي أن لا حل في سوريا إلا عن طريق الفيدرالية، وفي خلفية أي فيدرالية تبرز ملامح شعوب في سياق دستور وحدة مفدرلة!
ولم تكتفِ موسكو بنشر أسماء المدعوين على موقع وزارة الخارجية، بل بدت كمن يحدد جدول أعمال المؤتمر، عندما أعلنت أنها «تأمل» في أن يدرس المؤتمر ملامح الدستور الجديد لسوريا، وأن يبحث في الإصلاحات السياسية المحتملة، وقد يكون من الضروري أن نُذكّر هنا بأنه سبق أن وضع سيرغي لافروف مسودة لمشروع دستور جديد لسوريا، سيشكل في رأيي منطلق النص الذي سيجري النقاش فيه!
استعمال تعريف «الشعوب السورية» ربما يفتح الأبواب في نظر موسكو، لشمولية تجمع كل مكونات الشعب السوري، وهو ما يمكن أن يسهّل التفاهم على حل تتفق عليه كل مكونات الشعب السوري، لكن التعابير الروسية ذات الإيحاءات المقصودة طبعاً، لم تتوقف عند «الشعوب السورية»، بل وصلت إلى قول بيسكوف في 21 الشهر الماضي إنه من السابق لأوانه الحديث عن متى وكيف سيتمّ تشكيل «كونغرس» الشعوب السورية... ثم إنه في وجود «مجلس الشعب السوري»، هل يعني «الكونغرس السوري» شيئاً بعيداً عن الانتقال إلى النظام الفيدرالي؟
وإذا كان من المعروف أن موسكو تمسكّت دائماً بمشاركة كل المكونات السورية في تحديد مستقبل سوريا وفي إطار من التوافق العام، إلا أن المثير كان في إعلان بوتين في فالداي، أنه لا يطرح فكرة جديدة، بل على العكس كشف أن نقاشاً جدياً يدور حول تلك الفكرة، ويتناول تفاصيلها ومضمونها وخطوطها العامة، وكرر قوله إنه مقتنع بأن المؤتمر الشامل، الذي يجمع المكونات السورية يساعد في عملية خفض العنف والتهدئة، ويمهد الطريق للاتفاق على حل دائم في سوريا!
مع من يجري النقاش الذي أشار إليه بوتين، النظام وافق فوراً، والأتراك والإيرانيون الذين يشاركون في «آستانة» وافقوا أيضاً، لكن أهم من كل هذا الموافقة الأميركية التي أُعلنت مداورة من خلال محاولة الوفد الأميركي في «آستانة»، دفع معارضي المؤتمر إلى تغيير موقفهم والمشاركة في الاجتماع، وذلك في خلال لقاء جانبي معهم، حيث جرى حضّهم على «الموضوعية» والانخراط في العملية السياسية، والمشاركة بفاعلية في النقاشات، واتخاذ قرارات مصيرية ومهمة للتوصل إلى الحل السياسي.
الموضوعية؟
يبدو الأمر صادماً للمعارضين، ويزيد من صدمته عندما يقال لهم ضمناً تعالوا إلى التفاوض من دون شروط مسبقة، وهو ما يعكس موقف النظام الذي أعلن دائماً أنه يرفض أي شروط مسبقة في أي حوار؛ لأنه من الواضح أنه يحرص على أن يقرر هو نتائجه، وفي هذا السياق أكدت قناة «RT» الروسية، أن الوفد الأميركي أبلغهم أن واشنطن لم تعد تضع رحيل الأسد شرطاً لبدء العملية السياسية، لكنه على سبيل الإيحاء بالتطمين، أبلغهم أن المجتمع الدولي لن يعترف بمنتصر في سوريا، ولن تقوم أي عملية إعمار من دون عملية سياسية ترعاها الأمم المتحدة؟
هل السوريون إذن أمام حل على الطريقة اللبنانية المضحكة المبكية، أي «لا غالب ولا مغلوب»، بعد ستة أعوام من الدم والدمار ولجوء الملايين في الداخل والخارج؟
لا داعي إلى الجواب، لكن دعونا نتوقف قليلاً أمام إيحاءات سيرغي لافروف، الذي يقول إن «مؤتمر الشعوب السورية» يلتقي عملياً مع قرار مجلس الأمن 2254، الذي يدعو إلى مفاوضات شاملة بين الحكومة وكل أطياف المعارضة والمجموعات السياسية والعرقية، بما يعني راوح مكانك حول نقطة ربط مصير الأسد بقرار الشعوب السورية، التي ليس من الواضح كيف ستتم لملمة شظاياها، وإن كان القرار 2254 يعني ضمناً عملية انتقال سياسي عبر انتخابات بإشراف الأمم المتحدة تنهي حكم الأسد، الذي قال ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي قبل يومين بعد اجتماعه مع ستيفان دي ميستورا العائد من «آستانة»: «إن حكم أسرة الأسد في طريقه إلى النهاية»!
لكن كيف؟ والسؤال الثاني كيف سيتفق 1500 شخص، يقول وائل ميرزا، عضو «مجلس سوريا الديمقراطية» إنهم سيحضرون مؤتمر الشعوب السورية، من أين وكيف سينبثق «الكونغرس السوري»، وهل سيكون على طراز الكونغرس الأميركي أو الدوما الروسي، وكلاهما في المناسبة يشكلان صيغة في الدستور الفيدرالي السائد في أميركا وروسيا، وفي هذه الحال ماذا سيحلّ بشعار «الأسد رئيسنا إلى الأبد»؟
أيضاً وأيضاً، من المبكر الجواب عن هذه الأسئلة، لكن الواضح أن موسكو وواشنطن متفقتان على أن «داعش» سيُهزم ويخسر كل مواقعه قبل آخر السنة، وأن مؤتمر الشعوب السورية هو محاولة لوضع بداية الحيثية السياسية لقرار مناطق خفض التوتر الأربع، التي من الواضح أيضاً أنها تؤسس للفيدرالية: الجنوب الغربي، ودولة الساحل، حيث «المجتمع الصحي الأكثر تجانساً» كما سبق أن أعلن الأسد، وإدلب، حيث يجتهد رجب طيب إردوغان لفرض شريط في وجه الأكراد المسيطرين تقريباً من كوباني إلى الرقة ودير الزور، ويريدهم الأميركيون أن يسيطروا على معبر البوكمال لقطع الممر الحدودي الإيراني إلى لبنان، حيث يتقدّم الحشد الشعبي إلى القائم على الحدود العراقية السورية… وكل ذلك ينسجم مع رغبة واشنطن في اقتلاع النفوذ الإيراني من سوريا والعراق، وهذا ما يسرّ قلب بوتين المرتاح في سوريا في غياب «الضُرّة الإيرانية» التي زارها.
تتجدد حالة التوتر والمواجهة والبيانات المتبادلة بين فصائل الغوطة الشرقية ممثلة بـ "فيلق الرحمن وجيش الإسلام" كل طرف يهاجم الآخر ويكيل له الاتهامات بالاعتداء على مواقعه، في بقعة جغرافية تضيق يوماً بعد يوم على أكثر من 350 ألف مدني محاصرين في الغوطة الشرقية، مع تزايد وقع الحصار عليهم بشكل كبير.
كان الأولى بفصائل الغوطة الشرقية في كل خلاف أن تقدم مصلحة المدنيين أولاً على مصالحها الشخصية وتبادر لاتخاذ مايخرجها والمدنيين من حصار يكاد ينهي عامه الخامس، وفي كل خلاف تسقط منطقة بيد الأسد وحلفائه، ويبدأ كيل الاتهامات لتحميل المسؤولية كلاً للطرف الآخر، أوصل المدنيين لحالة من اليأس التام في فك الحصار في حال استمر هذا التشرذم والخلاف.
خسرت الغوطة الشرقية العشرات من المناطق وخسرت سلتها الغذائية التي كانت تعين مدنييها على الحصار ومواجهة التجويع، كل ذلك بسبب التشرذم الحاصل لفصائل الغوطة، وفي كل خلاف بات المدنيون يتخوفون من خسارة منطقة جديدة ودماء إضافة بيد الأخوة وأبناء الثورة، في الوقت الذي ساهمت فيه الفصائل في تحمل ماحل بالمدنيين عسكرياً وكذلك إنسانياً كونها كانت المتحكمة في الانفاق التي تدر ملايين الليرات، حتى أنها لم تحافظ عليها وخسرتها في المعارك الأخيرة رغم كل الاستغلال الذي مورس على المدنيين فيها.
الغوطة اليوم باتت تواجه أشد أيام الحصار، مع استمرار القصف اليومي وارتكاب المجازر من قبل نظام الأسد وحلفائه، والاخوة يتصارعون تواجه الموت بأصناف عدة على يد الأسد وأتباعه، مع استمرار المحاولات لقوات الأسد للتقدم في عين ترما وحي جوبر، ولاينكر ماتقدم الفصائل من تضحيات ولكن بات لزماً عليها اليوم وأمام كل ماتواجهه الغوطة من حصار ومشاريع للتهجير ان تقف موقف رجل واحد وكلمة واحدة بجميع مؤسساتها المدنية والعسكرية وتلتف حول الفعاليات الشعبية لتكون سداً منيعاً في مواجهة كل المخططات.