منبج في الحسابات الأميركية والتركية والكردية
يثير (اتفاق) منبج بين تركيا وأميركا الكثير من الأسئلة والاستفهامات فيما إذا كان سيشكل بداية لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين أم أن كل طرف سعى ويسعى إلى تحقيق جملة من الأهداف الآنية، ولعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان أكثر الفرحين بهذا الاتفاق، فهو لا يتوانى عن محاولة وضع أي حدث أو تصريح في خدمة حملته الانتخابية، والتطلع إلى الفوز من الجولة الأولى بالانتخابات المبكرة المقررة في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، وعليه سارع الإعلام والدبلوماسية التركيين إلى تصوير الاتفاق على أنه نصر سياسي ودبلوماسي، بل أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو سارع إلى نشر بنود (الاتفاق) ومراحله حتى قبل إعلانه رسمياً، في حين مارس الجانب الأميركي سياسة تراوحت بين الصمت والغموض وأحياناً الرد على التصريحات التركية عندما كان يجدها خارج سياق التفاهمات التي جرت، كحديث البنتاغون عن أن الاتفاق يخص منبج فقط ولا يشمل مناطق أخرى، بعد أن تحدث مسؤولون أتراك طويلاً عن أن الاتفاق سيشكل نموذجاً لباقي المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات سورية الديموقراطية، وهي المناطق التي تعدها الإدارة الأميركية مناطق نفوذ لها وتعهدت مراراً بالدفاع عنها وعن حلفائها هناك.
أمام إصرار أنقرة على أن سيطرة قوات سورية الديموقراطية على منبج تشكل خطراً على أمنها، والتهديد بشن عملية عسكرية ضدها، تقول واشنطن إن الاتفاق يشكل مدخلاً لتحقيق الاستقرار في المنطقة ويجنب الصدام بين حليفيها التركي والكردي، لكن في الحقيقية لا يمكن فهم هذا الاتفاق بعيداً من المصالح الأميركية العليا لجهة العلاقة مع الحليف التاريخي تركيا، والإحساس الأميركي بأن تركيا أردوغان ذهبت بعيداً عن ثوابت العلاقات بين البلدين منذ انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي عام 1952، إذ أن التقارب التركي مع روسيا تجاوز هذه الثوابت وباتت تركيا الأطلسية تشتري أسلحة استراتيجية من روسيا كما هو حال صفقة المنظومة الصاورخية أس 400، بل أن تركيا بدت أكبر دولة أو جهة تخرق العقوبات المفروضة على إيران، وهو ما فاقم من الخلافات بين البلدين، وعليه ربما وجدت واشنطن في هذا الاتفاق محاولة لتدوير الخلافات مع أنقرة، وجلبها إلى حضن السياسة الأميركية من جديد، وهذه لعبة يجيدها أردوغان الذي بدا خلال السنوات الماضية وكأنه يقلب بوصلة خيارات السياسة الخارجية التركية بين موسكو وواشنطن حسب الظروف والفائدة.
ربما شعر الطرف الكردي (بخيانة) الحليف الأميركي، لا سيما أن فاجعة عفرين ما زالت حاضرة أمامه في ظل اعتقاده بأن ما جرى لعفرين لم يكن بالإمكان لولا أن صفقة روسية– تركية جرت تحت ستار اتفاقات آستانة، لكن تدريجاً بدا أن هذا الإحساس الكردي يتراجع، خاصة بعد إن اتضح أن بنود الاتفاق يتيح بقاء المؤسسات التي تمت إقامتها في منبج بعد طرد داعش منها، وأن الاتفاق لا يتيح سيطرة تركية مباشرة على المدينة بقدر ما يعطي لها حق المراقبة والإشراف والمتابعة والتنسيق مع الجانب الأميركي على الأرض، فضلاً عن قناعة الطرف الكردي بأن الاتفاق قد يجنب المدينة فعلاً غزوا تركيا على غرار ما جرى لعفرين، خصوصاً أن أردوغان قد يجد في عملية عسكرية جديدة وسيلة لزيادة شعبيته قبيل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
في الواقع، بغض النظر عن الحسابات المختلفة للأطراف المعنية باتفاق منبج ومستقبلها، من الواضح أن الامتحان الحقيقي يكمن في التنفيذ، إذ أن حجم التعقيدات والصعوبات واضحة وكثيرة، لا سيما في ظل الإصرار التركي على أن ما جرى في منبج سيشكل نموذجاً لباقي المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات سورية الديموقراطية، إصرار ربما يثير أسئلة حول فيما كانت هناك جوانب غير معلنة في الاتفاق، لا سيما أن سياسة الصمت الأميركي تثير استفهامات أكثر.