فلسطين في زمننا العربي
لست من الذين انطلت عليهم يوما أكذوبة "النظام العربي" حول فلسطين التي زعمت أنها "قضيته المركزية"؛ ولم يصدّقها غير سذج العامة من العرب وبهاليلهم.
لو كانت فلسطين حقا "قضية العرب المركزية"، لتمحورت علاقاتهم ومواقفهم ومصالحهم حولها، ولتمت رؤية كل شأن من شؤونهم، وعلاقة من علاقاتهم الداخلية والخارجية، بدلالتها، ولما تعاملوا معها خلال نيف وقرن باعتبارها مشكلة ثقيلة الوطأة فرضت نفسها عليهم، لا بد من إبقائها برانية بالنسبة لنظمهم، وإبقاء شعب فلسطين غريبا عن شعوبها، كي لا يدسّ الفلسطينيون أنوفهم في شؤونها، ويتحولوا إلى صاعقٍ يفجّر ما في أوضاعها من ديناميت سياسي واجتماعي.
بما أن فلسطين لم تكن يوما "قضية العرب المركزية"، فقد رأت نظمهم فيها قبل عام 1948 مصدر خطر يتحدّى قدراتها، وتفاعلت معها بالحد الأدنى من الالتزام، وسط صراخ "قومي" يصم الآذان، وتحاشت الانخراط الجدّي في معركتها، لاعتقادها أن عائده السياسي سيكون كارثيا عليها، وأن من الأسلم تحاشيه بجعل الصراع على فلسطين مسألة تخصّ شعبها وحده، فإن حدث واضطروا لخوضها، فليكن همهم إبقاء دورهم فيها محدودا. وهكذا كان، فقد همش العرب دورهم الفلسطيني في مؤتمر بلودان وحرب 1948، وحولوا اتفاقيات الهدنة إلى سلام أمر واقع مع إسرائيل، وصولا إلى منع فلسطينيي بلدان اللجوء من ممارسة حقهم في النضال من أجل وطنهم، انطلاقا من أراضيها، واعتبارهم مسألة أمنية لا بد أن تضبطها أجهزة القمع.
ما أن توهمت نظم العرب أنها وضعت فلسطين وقضيتها على الرف، حتى نقلتها حرب 1967 إلى داخلها، حين تفلسطنت هي نفسها من خلال اجتياح إسرائيل ما كان تحت الحكم الأردني من فلسطين، وصحراء سيناء المصرية، وأهداها حافظ الأسد الجولان عبر بيان بثته إذاعة دمشق. دخلت مفاعيل القضية الفلسطينية إلى داخل البلدان العربية، وظهرت فداحة التعامل معها بوصفها مسألةً برّانية، والاعتقاد بأن القبول بإسرائيل أمراً واقعاً أنقذ النظم العربية من المصير الفلسطيني. بيد أن النظم لم تتعلم شيئا من هزيمتها، ولذلك ركّزت جهدها على استعادة وضعها قبلها، بالثمن الذي تطلبه واشنطن وإسرائيل، وبما أن هزيمتها كانت بنيوية وراسخة، فإنها تعايشت معها، كما يفعل نظام الممانعة السوري منذ نيف ونصف قرن، ولا يجد وزراء خارجية الدول العربية ردا على مقتل وجرح آلاف الفلسطينيين في غزة غير الاستعانة ب "المجتمع الدولي" إياه الذي يستمتع منذ سبعة أعوام بذبح السوريين.
يهرب النظام العربي مرة جديدة من التزاماته تجاه فلسطين وشعوبه، ويطمر قضيتها في رغاء كلامي تافه، بينما تمتد قبضة الصهاينة عبر الحدود لتمسك بخناق "أمةٍ" غيبها حكامها حتى غدت افتراضية، قرر وزراء خارجيتها التعبير عن عجزهم عن التصدّي لإسرائيل خلال اجتماعهم في جامعة الدول العربية، بإجراء استخارة دولية بشأن ما عليهم عمله "للقضية المركزية" التي يتفرّجون منذ أسابيع على شعبها، وهو يذبح بيد جيش إسرائيل، لمجرد أنه لم يفقد ذاكرته بعد، وقرّر التظاهر على أرضه، ليذكّر بحقه في العودة إلى وطنٍ كانت "الشرعية الدولية" قد أقرّته رسميا قبل سبعين عاما، من دون أن تفعل شيئا لتطبيقه، بينما وجد الرئيس عبد الفتاح السيسي الجرأة في نفسه أخيرا على فتح معبر رفح بين مصر وقطاع غزه خلال شهر رمضان، في مقابل إغلاقة خلال الأشهر الأحد عشر الباقية من السنة، على الرغم من أنه معبر دولي يعني إغلاقه استكمال وإحكام حصار إسرائيل للقطاع وشعبه، ورفض فك هذا الحصار عنه، بما في ذلك من انصياع للعدو واستهانة بدماء وحقوق شعب عربي، وقع المواقف العربية عليه أشد إيلاما من رصاص إسرائيل القاتل!