دولنة الفوضى السورية
تعيد الدول المتصارعة على النفوذ في سورية تأسيس دولة سورية -ما بعد الصراع-، من خلال هيمنتها على الواقع الميداني عسكرياً، وعلى الأطراف الداخلية المتحاربة (النظام والمعارضات) سياسياً، وذلك بتحويلها أطراف الصراع المحليين إلى مجرد أدوات، تارةً تنفيذية لرغبات الدول»التعطيلية» لأي حلول محتملة، وأخرى أدوات «تحريكية» لإنشاء مسار تفاوضي يؤسس لدولنة شتات سورية ما بعد حرب السنوات السبعة، أي لتنظيم صناعة مرحلة الفوضى المحتملة، وفق معايير تناسب في المرتبة الأولى الموقع الجغرافي لها، وتضبطه لما يحمله من حساسيات إقليمية خارجية، وكذلك لتوظيف الاحتقانات الداخلية وتوجيهها وإدارة صراعاتها بما يخدم معادلة الفوضى «الخلاقة للفوضى» في المنطقة.
والأسئلة هنا كثيرة قبل الحديث عن صياغة دستور لسورية يفقد الشعب السوري أحد حقوقه المنصوص عليها ضمن كل القوانين الدولية، حيث لا نعرف هل نحتاج إلى دستور ينظم الدولة، أم نحتاج بداية إلى وجود الدولة بأدواتها المجتمعية الآمنة قبل صياغة الدستور؟ والسؤال الذي لا مهرب منه، هل سورية اليوم تملك مقومات قيامتها كدولة حديثة من جديد؟ أي هل هي قادرة على لملمة مجموع إرادات القوى المحلية المهيمنة عليها تحت سلطة «دولة»؟ أم أن هذه الدولة المأمولة هي تنظيم نفوذ هذه القوى المحلية، ضمن معايير التحاصص على مستوى القيادات (أمراء الحرب)؟
أي أننا أمام تســـاؤلات تتعلق بالدور المجتمعي في إقامة الدولة الســـورية من جديد، هذا الدور الذي تم إقصاؤه منذ المراحل الأولى لتطور الصراع بين النظام والثائرين عليه، ليغدو بين النظام وداعميه الدوليين من جهة، ضد المعارضين المســــلحين غير المـــتآلفين، وأصحاب الأجندات المتعارضة فيما بينهم، والجهات الدولية الداعمة لهم، من جهة مقابلة، أي تم نزع العامل المجتمعي السوري منذ بداية تحول الاحتجاجات على النظام، ومصادرة الثورة السياسية لمصلحة الصراع المسلح المدعوم خارجياً لكل الأطراف، على جانبي الصراع. ما يعني أن سورية تمر الآن بمرحلة ما قبل الدولة الحديثة من جديد، بفعل تقسيمها خلال هذه الحرب الطويلة إلى مجتمعات بثقافات ومرجعـــيات طـــائفية وقومية متنازعة على أدورها، وتوظيفاتها التاريخية والمستقبلية، بعد أن كانت سوريا تمثل خلال ثورتها في عامها الأول نظاماً ومؤيدين وثواراً ومعارضة تقليدية كل شرائح المجتمع ومكوناته، على اختـــلاف موقفهما من النظام والثورة ضده، أي أن الثورة لم تنـــشأ على أسس التناقض المذهبي، أو الامتيازات القومية (على رغم وجودها بما يتعلق بالكرد السوريين)، أو المرجعيات الأيديولوجية والتبعية الإقليمية التي تتحكم اليوم بالتجمعات البشرية كقوى مهيمنة، والتي أعاد التهجير القسري رسم خارطتها الديموغرافية.
وإذا كان من المفهوم أن تعمل الأطراف المستفيدة من استمرار الحرب على تهميش وقرصنة دور السوريين، إلا أنه من غير المقبول أن تمارس الأمم المتحدة عبر المفاوضات الجارية في أروقتها، تشكيل اللجنة الدستورية لصياغة دستور سوري، يراعي مقاس الأطراف المتفاوضة بالنيابة «الشكلية» فقط عن الجهات الدولية التي تمثلها هذه الأطراف المحلية، ما يعني أن السوريين الذين تحملوا عبء الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، هم الخاسر أيضاً من الحلول المقترحة، التي تكافئ أطراف الحرب الظالمة وتعاقب من جديد ضحاياها، وتحول أمراء الحرب إلى ساسة يتقاسمون سورية وفق قرارات أممية تنظم هذه الفوضى تحت ما يسمى «دستور لجنة سوتشي».
إن إعادة إنتاج التجربة الصومالية في سوريا من خلال المراهنة على تفاهمات ومحاصصات بين قوى عنفية (النظام وقادة الفصائل ذات الأجندات الخارجية)، من شأنه أن يسمح من جديد بقيام نظام قمعي، لكن متعدد المساهمات، حيث تشاركه القوى المسلحة مسؤولية ضبط أمن السلطة، وليس الشعب، كما هو حال النظام الأمني الحاكم لسورية، ما يعمق الشروخ المجتمعية التي صنعتها قادة الحروب، ويدخل البلاد في مرحلة الفشل الكامل التي تعيق تنميته وتحوله إلى دولة، وعلى الرغم من أن الحالة السورية على رغم النزاعات الأهلية تحمل في مفاهيم شعبها افتراقاتها عن الحالة الصومالية، حيث الوعي الاجتماعي الشعبي ما زال يفوق وعي القيادات الحاكمة له على الطرفين، ويسعى لكسر الحواجز الطائفية، ونزع ألغام الخلافات الأيدلوجية، التي يعتبرها أدوات الأطراف المدعوة إلى صناعة مستقبله تحت شعار التوافق على صياغة دستوره، من خلال لجنة تحاصصية غير تمثيلية عن الشعب السوري، إلا أن المخاوف المجتمعية كبيرة ما يحدث الآن من انقلاب على أولويات الحل السياسي، وهو يمهد لسعي دولي تقوده دول (روسيا، إيران، تركيا) صاحبة المسار الانقلابي (آستانة) على التفاوض السياسي إلى دولنة الفوضى السورية بل وشرعنتها.
لم يستطع النظام السوري خلال خمسين عاماً تحويل سلوكه العنفي إلى سلوك مجتمعي عام، وهو ما بدا واضحاً خلال انتفاضتهم عليه، واحتجاجاتهم التي تحولت إلى ثورة سلمية في عامها الأول، حيث قابلوا الرصاص الحي بهتافات الحرية والوحدة المجتمعية «واحد واحد الشعب السوري واحد»، ما يظهر قدرة السوريين الكبيرة على التعايش السلمي البيني ونبذ العنف والطائفية، في الوقت الذي أنتجت فيه حرب السنوات السبعة أشد التنظيمات العنفية في سوريا، والعالم، ما يعني أنها صناعة فوق مجتمعية وغير شعبية، وتمت على مستويين داخلي وخارجي بهدف تحويل الصراع إلى نزاع غير محلي، يسهل تلاعب القوى الخارجية به، وفي ذات الوقت يبرر لأجهزة النظام سبغ الثورة بكل مكوناتها بالعنف والإرهاب، واستخدام أقصى درجات العنف ضد السوريين تحت ذريعة محاربة الإرهاب والتطرف، ما يعني أننا أمام أطراف قد تتساوى بمسؤوليتها عن كل الدمار مع النظام الديكتاتوري، ما ينزع حجة الوسيط الدولي بقبولهم كأطراف فاعلة في مستقبل سورية، ويمكنها أن تسهم في صياغة دستور يعيد للسوريين دورهم الإنساني والحضاري.
إن التعاطي مع مسألة الانتقال السياسي يفرض بالضرورة وجود مبادئ دستورية عامة، لا يمكن تجاوزها خلال مرحلة ما قبل الدستور، وخلال صياغته، من قبل لجنة منتخبة وفق الأسس والمعايير الوطنية، حيث لا يمكن لأطراف تتنازع فيما بينها على السلطة، أن تصنع دستوراً لدولة ديموقراطية يقوم على المساواة والتعددية والعدالة، ما يضع اللجنة الدستورية التي نص عليها مؤتمر سوتشي أمام خيارين: إما أن يمارس أعضاؤها لعبة التعطيل على بعضهم بعضاً، أو القبول بمبدأ التحاصص في السلطة، وفي كلا الخيارين تتحول الأمم المتحدة من مؤسسة للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وحفظ حقوق الإنسان، إلى هيئة تشاركية في الحرب على الشعب السوري، وانتزاع حقه في تقرير مصيره ومستقبله، ويجعلها شريكة في دولنة فوضى إمارات الحرب وأمرائها، عبر صناعة دستور على مقاس المتفاوضين ومنح أدوات الحرب المشتعلة فرصة النجاة من العدالة الانتقالية تحت مسمى واقعية الحل التحاصصي.