القتل "القانوني".. جديد الإبداعات الأسدية
الغرفة مظلمة، والمكيِّف يشتغل بنصف طاقته. ضباط، وموظفون حكوميون، محمومون منهمكون. انهم ينفّذون أوامر القيادة العليا، التعليمات واضحة: إدراح أسماء آلاف المعتقلين في خانة "المتوفّين". بشهادة رسمية، صادرة عن دوائر النفوس، المولجة مهمة تثبيت أسماء الأحياء والأموات. مع الجزم بأن الوفاة "طبيعية"، أو ناجمة عن "عملية إرهابية". والتشديد على أن لا تسليم لجثثهم. ولا إقامة مراسم للعزاء من أجلهم. والمطلوب أيضاً إيصال هذا الخبر إلى الأهل مباشرة، أو عبر المختار. آلاف من الأسماء، أصحابها من الذين اعتقلوا بين 2013 و2015. غالبيتهم لم يحمل السلاح. بل ورودأ كانوا يوزّعونها على أفراد الشرطة والجيش، في تظاهراتهم السلمية.
لا نخترع هنا قصة للتشويق، إنما الواقع يخترعها. والواقع هو بشار الأسد، بمساعدة ربما من القائمين على عرشه من محتلين. وقائعه تتجاوز الخيال. ولا نقاط استدلال لها، غير التي سبقتها من أشكال قتل. كأن ثمّة عملية تراكمية في القتل، تزيد من إبداع القاتل، تنّمّي خياله، ترفع من "شجاعته"، فيحسن في ابتكار ألوانها. مثل عمليات التراكم الرأسمالي أو العلمي المفضية إلى شيء جديد، لا يكون جديداً في سمائهم.. فأصحاب التراكم لا يعرفون أصلاً أنهم، بذلك، إنما يبدعون. التراكم الإجرامي: اقتحام الأحياء التي تظاهر سكانها سلمياً، فقتلهم ورميهم فوق الشاحنات الصغيرة تحت حرامات، وهم بـ"البيجامات" (كما حصل في داريا وجديدة عرطوز). ثم، القتل بالطائرات والمدفعيات، بالمجازر، بالكيميائي، بالخطف، بالقنص والتشبيح والسكاكين والعصي وكِعاب البنادق، والصواريخ المسْمارية والبراميل المتفجرة، وقد استهولناها وقتها، وأصبحت الآن من العاديات.
وبموازاتها كلها، الابتزاز الصريح بالموت: فإما أن تموتوا، أو تموتوا؛ كما حصل أخيرا مع أهالي السويداء الذين وُضعوا بين خيارين: الموت عبر التجنيد الإلزامي أو الموت عن طريق "داعش". وهذا الأخير ارتكب مجزرةً بحقهم، وخطف من أبنائهم. وذلك بعد "انتصار" النظام على الإرهاب، ودخول قواته إلى بلداتهم وقراهم؛ فعجزت هذه القوات عن حمايتهم، أو بالأحرى عجّزت نفسها. ولسان حال قيادتها، على الرغم من كل التغطيات الخبيثة، المعهودة: ما عليكم سوى الإذعان لموتنا، لجريمتنا. إنهما أرحم من جرائم "داعش"، وأكثر نظامية، أكثر قانونية.
"القانونية" هي الصفة التي أرادتها السلطات السورية لطريقتها الجديدة بالقتل، فبعدما "انتصرت"، وصارت تتوهّم أن "نصرا" كهذا يفضي بها إلى "الحل السياسي"، باتَ لزاماً عليها أن تحلّ شؤونها القانونية. لكي يتمكن مندوبها إلى مجلس حقوق الإنسان من دوره الخطابي في الأمم المتحدة، فيعلن، أمام العالم أجمع أن لا غبار على بشار الأسد. إنه أصدر بحق المعتقلين في سجونه شهادة وفاة: لم يخفِ أحدا، لم يمحُ أحداً. كان لديه بضعة آلاف من السجناء، ومات هؤلاء لأسباب خارجة عن إرادة سجّانيهم الطيبة. وإليكم الشهادات الرسمية للوفاة، موقعة من الدوائر الرسمية، مثبّتة على الورق، بختم الجمهورية الرسمي.. إلخ. جريمة نصف معلنة، تغطيها حيثيات قانونية رسمية. جريمة عن سابق تصوّر وتصميم، أخذا وقتهما. جريمة منظَّمة، لها قنوات قانونية، داخلة في دهاليز البيروقراطية، وشبكاتها المتداخلة، السوداء، وموظفيها المذعورين من الطلبات المنهالة عليهم بتصديق شهادات "الوفاة"، أي القتل. وهم مذعورون من ارتكاب غلطة، أو هفوة. هل ارتجفوا؟ هل دمعت عين واحدهم؟ هل أوجعه قلبه؟ هل شطح في الخوف على نفسه؟ كيف لنا أن نعلم وظلمات شهادات الوفاة تنهمر على الأمهات والآباء والأحبة، كالصواعق فوق روؤسهم المنحنية من سنوات البحث والانتظار والابتزاز والصمت؟
يمكن أن يقول النظام أي شيء عن جرائمه، أن يتنصَّل منها، يمكن أن ينعت وثائق "سيزار" بـ"بنات خيال" صاحبها... طالما يعرّف نفسه مفلتاً مثل الشعرة من العجينة، كلما جاد على السوريين بالجديد من جرائمه. أما الجريمة الجديدة، فلا تردّ سؤالا، لأنها شبه معلنة. الشباب السلميون اعتقلوا في سجونه، وماتوا فيها، بعد تعذيبٍ يتجاوز حدود المخايل (جمع مخيلة)، وجثثهم لم تسلم إلى ذويهم، ومنعوا من المواساة. وطالما بقيت الجثث مخفيةً، ومهما سجلت دوائر النفوس، مهما "قوْننت"، مهما سكت العالم والعرب، فإن المطلوب، بعد الجريمة، تسليم هذه الجثث، ودفنها، وفقاً لشرائع كل الأديان، بل وفقاً لشريعة الغاب التي يسكنها الحيوان. وتسليم الجثث يفتح الباب على مصراعيه أمام جرائم النظام، مهما تأخرت ساعتُه، أو خلال تأخّر ساعته. فالنظام، بإخفائه جثث قتلاه، إنما نظَّف مسرح جريمته على مرأى العالم وسمعه، لا خلف الكواليس. ذكاؤه خانه، أو الظروف، يعلم ذلك ربما، ولكنه كان مضطراً. ألحّ الروس عليه ليقوم بتسوية "أوضاعه القانونية"، تمهيداً للحل السياسي المتعثر، والذي يتلهفون إليه بحرقة. كان مضطراً، فكشف عن نصف أوراقه. هذه المرة لا يستطيع التكذيب. ولا يستطيع القول إن زلّة أو خطأ أو أي شيء آخر..
ما كان للتجربة الإجرامية التراكمية لبشار الأسد أن تنضج وتتألق، لولا البيئة العالمية الساكتة، الساكنة، التي لا ترى ولا تسمع ولا تقول. ولا بالتالي تفعل شيئاً. إنها بيئة ابنة عصرها. مضروبة بالوباء الاستبدادي، تغازل الاستبداد، تدلّعه، تمنحه الشرعية الفلسفية. والإعلان الرسمي عن الجريمة الأسدية أخيرا مرّ عليها مرور الكرام، فالأفضل لرجالاتها أن يسكتوا، تجنباً لدفع ثمن ثرثراتهم لاحقاً؛ فلا يكون لهم حصة في الجبنة السورية.
يبقى الضمير، ومعه سؤالٌ سوف يعمّر طويلاً: أين هي الجثث الآن؟ أين اختفت؟ كيف اختفت؟ بأية عملية بيروقراطية سجل "موتها" رسمياً؟ ومع السؤال، مشوار طويل طويل من الكشف والتفكيك للإجرام الأسدي. ساعتها، قد تضعف حاجة النظام الغريزية للقتل، بكوابح السؤال المستمر، فينْضب خياله، يصيبه الجفاف، وتضيق به أشكال القتل، فتتراجع تجربته التراكمية في القتل. فيقترب يوم الحساب.