الخصوصية العربية وفشل التحولات الديمقراطية
بعد غيبة قصيرة، على إثر اندلاع ثورات الربيع العربي التي لم ينكر أحد أنها كانت تهدف إلى إحلال حكوماتٍ تمثيليةٍ ودستوريةٍ محل نظم مستبدة ظالمة ووحشية في تعاملها مع شعوبها ومجتمعاتها، يستعيد بعض الباحثين اليوم نظرية الاستثناء العربي القديمة. ولكن في حلة جديدة تبدو أكثر حيادية، هي نظرية الخصوصية العربية. وهم يحاولون تفسير فشل ثورات الربيع العربي الشعبية في إنجاز تحول ديمقراطي، مثلما حصل في شرق أوروبا، بعد انهيار الكتلة السوفييتية، بالطابع الخاص للمجتمعات العربية التي تبدو متشبثةً أكثر من غيرها بالإرث الثقافي والديني الذي لا تريد الانفصال عنه. ويأتي انتشار الحركات السلفية والإسلاموية الواسع، وانتزاعها القيادة في الثورات العربية، بمثابة التأكيد القاطع لفرضية الخصوصية هذه. ومن الطبيعي أن يلتهم أنصار الاستبدادين، الديني والسياسي، في العالم العربي، هذا التفسير، ليبرّروا حرمانهم مواطنيهم من حقهم في الولوج إلى هذا المكتسب المدني الإنساني والتاريخي الجوهري، والمفتاح لمكاسب أخرى معا.
بدايةً، ليست الثقافة مطابقةً للإرث الثقافي، فهي، بعكس الإرث الناجز والجاهز، عملية تفاعل حي مع الواقع والتاريخ معا، أي تثقف دائم ومثاقفة وانغماس للذات في الحدث والعصر. ولا يفكّر الأحفاد، مهما حاولوا واجتهدوا، وتوهموا، كما يفكر الأجداد. العرب، مثل جميع الشعوب والمجتمعات يعيدون تأويل الإرث الماضي، الديني والمدني، ويختارون منه، ويصوّرونه أيضا، على حسب حاجاتهم التاريخية، ومن خلال ذلك يقومون بتكوين ذاتيتهم/ ذاتهم في نشأتها الجديدة، التي تأخذ من العصر إشكالاته وقيمه وحوافزه وغاياته الانسانية، ومن الماضي مادتها وبعض رموزها.
(1)
من هنا، يشكل النزوع إلى استيعاب الحداثة وقيمها وغاياتها المحرّك الأول لبناء الثقافة التي ليست سوى بلورة الخيارات الجديدة، ونشدان الفعالية في كل ميادين النشاط المجتمعي. وكما كان استيعاب العلوم والتقنيات وأنماط العمران والإنتاج والاستهلاك هو الموجه لنشاط المجتمعات العربية وغيرها في القرنين الماضيين، كان بناء دول وطنية وتزويدها بقوانين ومدونات مكتوبة ومؤسسات دستورية متعدّدة، وتبني نمط التوزيع السائد للسلطات فيها، الرد الأول والطبيعي والمنطقي على الحاجة إلى إعادة تأسيس الدولة، بالنسبة للنخب العربية وغير العربية، الخارجة من عصور السلطنة المنتهية، ثم من بعدها عهد الوصاية الاستعمارية. هكذا، باستثناء حالاتٍ خاصة، تقاطعت فيها مصالح داخلية وخارجية قوية، نشأت أكثر الدول العربية المستقلة على نمط الدولة الديمقراطية التعدّدية المدنية، واستمرت معه خلال النصف الأول من القرن العشرين. تفسير ذلك سهل جدا، وفي متناول الجميع، لأنه سنة التاريخ وقانونه الذي يفيد بأنه لا يعيش اجتماع سياسي ومدني، ما لم يتمثل أسس قيام الاجتماع السياسي التاريخية، أي المتبعة في عصره، لأن العالم لا يتكون من مجتمعاتٍ مغلقةٍ، ومكتفيةٍ بنفسها، ومتكوّرة على ذاتها، لكنه يتشكل في الصدام والصراع والتنافس. والشعب أو القومية التي لا تنجح في تمثل قواعد العمل والصراع السائدة في عصرها تخرج من التاريخ، وتتهمش قبل أن تذوب في غيرها.
ما يبدو من مظاهر تشبث المجتمعات العربية بالإرث الثقافي والديني القديم ليس له علاقة بهذا الإرث نفسه، وإنما هو ثقافة جديدة أو جزء من ثقافة جديدة، هي ثقافة الرد على حالة التهميش والإقصاء والعنصرية التي تعيشها الأغلبية الساحقة من الكتل الشعبية المنتزعة من أي هويةٍ وثقافةٍ، وهي ثقافة مختلفة تماما تعبر عن ميولٍ وتوجهاتٍ ومخاوف وتناقضاتٍ وتطلعاتٍ واختناقاتٍ نشأت في ظل الأوضاع الداخلية والخارجية القائمة في حضن المجتمعات بعد، وبسبب إجهاض محاولاتها الرائدة للانعتاق منذ قرنين. وهي ما أسمّيها ثقافة الضد أو الثقافة المضادة أو مقلوب الثقافة.
وبالمثل، لم يكن الفكر الديمقراطي وليدا شرعيا لأي ثقافةٍ أو إرثٍ خاص. لقد نجم عن طفرات وانقطاعات فكرية وسياسية، طرأت على مسار بعض المجتمعات الأوروبية المتأزمة، بعد أن لم تكن موجودة من قبل. ولكنه أصبح في عصرنا، كالماء والهواء، جزءا من البيئة الثقافية والسياسية والنفسية المشتركة للبشرية، ويقف في مقدمة جدول العمل التاريخي لجميع الشعوب.
(2)
وكما أنه لا يوجد شعب منفصل اليوم عن تحولات الثقافة والسياسة والفكر العالمي، كذلك لا يوجد شعبٌ يفضّل العبودية، أو حكم السيد الإقطاعي، أو الملك المطلق السلطات، على نظم التعددية الديمقراطية والمشاركة وحكم القانون والمساواة الأخلاقية والقانونية.
أكيد أن تيارات رأي سياسيةٍ نشأت، منذ بضعة عقود، تعتقد أن القيم والمبادئ الدينية ينبغي أن تتقدم على مرجعية السيادة الشعبية أو الحكمة العقلية، وقد حققت بعض النجاح في الظروف الصعبة التي تمر بها المجتمعات الباحثة عن مخرجٍ من معاناتها، لكنها لم تلبث أن اصطدمت بالواقع الصلد، وخسرت رهاناتها، واقع أن القيم الرئيسية التي تحرّك الفرد، أي الأغلبية الساحقة من البشر، بما في ذلك جزء كبير من جمهور هذه الحركات، هي قيم المدنية الإنسانوية التي بدأت تنتشر منذ عهد النزعة الإنسانية والنهضة الأوروبية. وأن المجتمعات التي خدعتها وعود تطبيق "الشريعة" الدينية بدل الدستور، أي في الواقع الأخذ برأي الفقهاء والشرعيين، بدل رأي ممثلي الشعب المجسّد في حكم القانون، سرعان ما وجدت نفسها في صدامٍ مع هذه التيارات، وتخلت عنها لإدراكها تناقض أهدافها مع تحقيق قيم المدنية الإنسانية التي تتطلع إليها.
هذا ما حصل للحركات الاسلامية الإخوانية في السابق، ويحصل للسلفية التي تطفلت على بعض ثورات الربيع العربي البارحة، وما أدى إلى صدام عنيف في أكثر من مكان بين المدنيين وسلطة الأمر الواقع للمنظمات الجهادية الداعشية، أو القاعدية، والتي تحثها عقيدتها علنا ومباشرة على تكفير الجمهور الواسع، وإدانته والاعتداء المستمر عليه.
لا أريد أن أستنتج من ذلك أنه لا توجد خصوصية في التجارب العربية، إنما خصوصية من داخل الشرط الإنساني العام، لا ضده ولا من خارجه. وفي هذه الحالة، تتساوى جميع الشعوب والمجتمعات في سمة الخصوصية، ولا تتميز بها حالة بذاتها. فلا يوجد وضعان متماثلان لمجتمعين، حتى لو انتميا لتراث واحد.
ينجم عن ذلك أن بذور التحولات الديمقراطية موجودة اليوم في تربة المجتمعات كافة، الشرقية والغربية، المتقدّمة والمتأخرة. وأن الدافع المشترك لها جميعا هو التطلع إلى الانسجام والتناغم مع القيم الإنسانية الرئيسية التي نمت وانتشرت وسادت في القرنين الماضيين، وفي مقدمها قيم الحرية والعدالة والمساواة والقانون والمواطنة، لكن تفعيل هذه البذور، والانتقال بها من حالة الكمون إلى حالة التجسد العملي للقيم المرتبطة بها لا يتعلق فقط بإرث الشعوب الثقافي وعقائدها الدينية وتقاليدها، ولا حتى بإرادة نخبها وأحزابها، وإنما بخصوصية شروط تحقيقها واختلاف بعضها عن بعض، في نوع التربية الثقافية والسياسية التي تلقتها نخبها الاجتماعية، أو في موقعها في نظام العلاقات الدولية، ودوائر توزيع السلطة والثروة والقوة العالمية، وإزاء الاستراتيجيات الكبرى التي تتنازع فيما بينها على السيطرة الإقليمية والهيمنة العالمية. في المقابل، تبقى الثقافة الشعبية أكثر العوامل المؤثرة في هذا المسار مرونةً، فهي قابلة بسهولة وسرعة للتغيير عن طريق التفسير والتأويل والتجديد. وهذا ما أثبتته تجربة الشعوب العربية ذاتها في النصف الأول من القرن العشرين، حين انتشرت التأويلات الديمقراطية والليبرالية للثقافة التراثية والدين.
كما أن تجربة ثورات الربيع العربي أكبر برهانٍ على أن إعاقة التحول الديمقراطي لم تأت من الشعوب، وإنما من الصراعات الجيوسياسية الإقليمية والدولية التي أثارتها، والموقف الدولي العام الذي انحاز ضدها، وغض النظر عن عملية سحقها من النظم الاستبدادية، وقرّر دعم هذه النظم ضد شعوبها.
وبالمثل، ليس هناك أي أساس للزعم إن دعم الدول الديمقراطية المركزية أنظمة الاستبداد وتأييدها في الشرق جاء على أرضية الخوف من طابع الثورات الإسلاموي، واحتمال حلول نظم إسلامية محل النظم "العلمانية" القائمة. بالعكس، لم تحصل الأسلمة ذاتها ويتسع نطاقها إلا بسبب التخلي الفعلي عن دعم هذه الثورات، وتركها لمصيرها أمام طغاةٍ لم يتردّدوا في تحويلها إلى حروب إبادة جماعية. وفي الحالة الوحيدة التي حصل فيها التدخل العسكري الدولي، بمبادرة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في ليبيا، كان الغرض منه السطو على مصير بلد، والتسابق بمنطق المافيات على وضع اليد على ثروته النفطية، وانتزاعها من فم معمر القذافي وأعوانه وتقاسمها فريسةً، من دون أي تفكير في مصير الليبيين وانتقالهم الديمقراطي أو مصير دولتهم. ولأغراضٍ لا تقل أنانية وسوءا عن التي دفعت إلى التدخل في ليبيا، قامت الولايات المتحدة في عهد الرئيس بوش الابن بحربها التدميرية ضد العراق، للقضاء على نظام صدام حسين. وتشكل هذه التدخلات التي غيرت مسار التطور السياسي لهذه المجتمعات وقوّضته، قبل اندلاع ثورات الربيع العربي وبعدها، امتدادا طبيعيا لسياسات الغرب، وهو الجار وصاحب النفوذ في الشرق، إزاء مشاريع التحديث العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، مرورا بالحقبة الليبرالية ثم الناصرية، ومحاولاته المستمرة لإجهاضها في جميع مستوياتها التقنية والعلمية والسياسية والاقتصادية.
(3)
ما حكم موقف الدول القوية، الإقليمية والعالمية، من ثورات الربيع العربي، هو الحفاظ على توازنات جيوسياسية واستراتيجية واقتصادية، لا علاقة لثقافة العرب ودينهم، ولا حتى للحركات المتطرفة الإسلامية وتوسعها به، وفي مقدمها توازنات القوة بين جنوب المتوسط وشرقه وأوروبا التي قرّرت الإبقاء على منطقة الشرق الأوسط تحت سيطرتها ووصايتها الدائمتين، وبالتالي تعزيز وسائل ضبط تحرّكات شعوبها وتقييد حريتهم. ولم تنشأ المنظمات المتطرّفة الجهادية بمعزل عن هذه الاستراتيجية، فقد ولدت في مستنقع الغل واليأس الذي أنتجه إجهاض مشاريع التحديت والتنمية العربية، وما نجم عن الشعور بانسداد الأفق وغياب الخيارات من روح التمرد والعنف الموجه نحو الذات قبل الآخر، لكنها تشكل اليوم ميدان استثمار مشترك للنظم الاستبدادية ولقوى الوصاية الدولية معا التي تستخدمها لتبرير سياسات الحرب، وتحييد الشعوب وإخضاعها وتشتيتها والتحكّم بمصيرها.
لا تساعد نظرية الخصوصية العربية على فهم أسباب انسداد طريق التحول الديمقراطي في البلاد العربية، لكنها تعمل بالعكس على طمسها، فبتركيزها النظر على إرث العرب وماضيهم، تريد في الواقع أن تغطي على الخصوصية الحقيقية لهذه المنطقة، وهي أنها كانت تعامل دائما بوصفها حقل صيدٍ مفتوحا لجميع القوى الدولية والإقليمية الكبرى المتنافسة، وملتقى جميع تدخلاتها الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، الدائمة والمتعدّدة المستويات. وهذا يعني خصوصية الإنكار على هذه الدول وشعوبها مفهوم السيادة، والادّعاء في المقابل الحق بفرض المراقبة على قراراتها وتحولات مجتمعاتها، بزعم الحفاظ على التوازنات الإقليمية، أو حماية الأمن والسلام العالمي، أو مكافحة الإرهاب وحركات التطرف الدينية والقومية. يساعدها في ذلك الوهم الذي غذّته منذ قرون، وهي تعود إليه من جديد حول البعبع الإسلامي الكامن، بعد بعبع الوحدة العربية التي جعلت منها فزاعةً، وشبهتها بالرايخ الألماني، كما شبهت جمال عبد الناصر بأدولف هتلر لتبرير سيطرتها على المنطقة.
من بين جميع هذه المساعي لسد طريق التحول الديمقراطي أمام المجتمعات العربية، يشكل المسعى الرامي إلى تأكيد وجود خصوصية عربية، والمقصود بها في الواقع عاهة ولادية، تمنع العرب من طرق باب التحولات الديمقراطية، وتحول ثوراتهم الشعبية التي قامت من أجلها إلى تمرّداتٍ طائفيةٍ ودينيةٍ وحروبٍ أهلية لا غير، أقول يشكل مسعى التأكيد على الخصوصية الاختراع الأشد فتكا بصورة الشعوب العربية في وعي العالم، ووعي العرب أنفسهم، بمقدار ما يسلبهم هويتهم الإنسانية المشتركة، ويخرجهم من تاريخهم، ويسلم بانعدام قدرتهم أو أهليتهم لتمثل القيم المدنية الحديثة، ورفضهم لها. ما يشكل إدانة قاطعة، أخلاقية وسياسية دائمة، لهذه الشعوب، والحكم عليها بالبقاء في قفص الاستبداد، والنظر إلى الحروب الأهلية والنزاعات المستمرة التي تجري على أراضيها جزءا من هويتها وثقافتها، وهي المسؤولة الأولى عنها لا ضحيتها. ولا تقف النتيجة المنطقية لهذه الافتراضات عند تبرير التخلي عن دعم شعوبها وتركها لمصيرها، فريسة النخب الكاسرة وحلفائها الخارجيين وشركائها من شبكات المافيا الدولية فحسب، وإنما تجعل منها خطرا على الإنسانية، وتبرر بالمناسبة ذاتها تحلل المجتمع الدولي من مسؤولياته السياسية والأخلاقية إزاء استمرار حروب الإبادة الجماعية وانتهاكاتها.
والخلاصة أن الخصوصية العربية الوحيدة في ميدان الانتقال الديمقراطي في البلاد العربية، إذا أردنا بالفعل الحديث عن خصوصيةٍ، تكمن في الإجهاض المنهجي لمشاريع الانعتاق والتحرّر والتحديث، السياسية وغير السياسية، وتفريغها من مضمونها، سواء حصل ذلك بالتدخل العسكري المباشر، أو بالامتناع عن دعم الحركات الديمقراطية والشعبية، أو بتشويه صورة ما يحصل منها وإدراجها جميعا في دائرة الهبات السلبية الطائفية أو الدينية أو القومية أو الإثنية، وفي سورية محو الصورة المدنية والسياسية تماما للثورة، وتمريرها على الرأي العام العالمي كحرب ضد الإرهاب من أجل تبرير إعادة تأهيل نظامٍ، وظيفته الوحيدة حصار السوريين، وإرهابهم وتركيعهم. وفي ما وراء ذلك، ما تهدف إليه نظرية الخصوصية لتبرير فشل التحولات الديمقراطية في العالم العربي هو إقناع الرأي العام العربي والعالمي معا بأنه لا يوجد أمام المجتمع الدولي خيار آخر تجاه تفجر أزمة المجتمعات العربية، والاحتراق ببراكينها سوى التعايش مع النظم الاستبدادية، بل التعاون معها، وتقديم يد العون لها، بصرف النظر عن سقوطها الأخلاقي وهمجيتها، والخراب الذي تقود إليه دولها، فهي السد المنيع الوحيد الذي يمكن الركون إليه لاتقاء شر شعوب،ٍ دينت مسبقا بالفشل والعجز، وانعدام الأهلية للوصول إلى الديمقراطية، وتمثل القيم الإنسانية الجامعة.