أوهام عودة نفوذ النظام السوري إلى لبنان
تحتار في تحديد السبب الذي دفع البعض، فور انتهاء الانتخابات البرلمانية اللبنانية، إلى المبالغة والقول بعودة النفوذ السوري إلى لبنان. هل يكمن في حصول رجالات من عهد الوصاية الأمنية على بضعة مقاعد نيابية؟ أم في ادعاء «حزب الله» أنه حقق فوزاً كاسحاً في تلك الانتخابات؟ أم السبب هو التشفي من زعماء لبنانيين تعاطفوا مع ثورة السوريين ولم يتسنّ لهم النجاح؟ أم ربما محاولة لإحلال رغبات وأوهام مدفونة مكان الوقائع، ومناجاة مرحلة ذهبية من تمدد النفوذ الإقليمي للنظام السوري، يحدوها ما يحققه الأخير وحلفاؤه من تقدم عسكري على حساب جماعات المعارضة؟!
بداية ومع الاعتراف بأن خريطة المقاعد النيابية والاصطفافات البرلمانية قد تغيرت، وبأن ثمة أكثرية ذهبت نظرياً لمصلحة «حزب الله»، يصعب في ظل التركيبة الطائفية اللبنانية والتوازنات القائمة إقليمياً ودولياً، وما وصل إليه الوضع السوري من ضعف وارتهان، ترقب تحولات نوعية تحدثها هذه الانتخابات لفائدة السلطة السورية أو تمهد لعودة دورها المؤثر في الحياة السياسية والأمنية اللبنانية، وإذا كان ثمة تحذير وخوف من دور جديد للنظام السوري إقليمياً وفي لبنان، فإنهما يتأتيان من احتمال تقدم حاجة روسيا في توسل هذا النظام لخوض معارك حضورها ونفوذها في المنطقة، أو ربما من نهج سلطوي عتيق يستسهل التدخل والتحرش في لبنان وغير لبنان، لتحويل الأنظار عن ارتكاباته الداخلية وعمق أزماته المتفاقمة، مستعيناً بفائض قوة من جماعات عسكرية سلطوية خلفها الصراع وصارت عبئاً عليه.
واستدراكاً، فإن من يدعي أن نتائج الانتخابات اللبنانية صبت في مصلحة دمشق ودورها الإقليمي، يغفل أو يتغافل عن ثلاث حقائق؛ أولها، أن العملية الديمقراطية في لبنان وأياً تكن نتائجها تشكل حصانة للدولة وحافزاً لمكونات المجتمع كي تعبر عن ذاتها، ما يحاصر تفرد أي طرف في الهيمنة، ويحجم موضوعياً التدخلات الخارجية وخاصة من جانب النظام السوري الذي خبره اللبنانيون جيداً وعانوا منه طويلاً ولديهم من المظالم والذكريات المؤلمة معه ما يكفي لحضهم على مواجهته ومنع عودته إلى بلادهم. وثانيها، حدود دور الندوة النيابية، وأياً كانت توازناتها، في المشهد السياسي اللبناني ما دام سلاح «حزب الله» حاضراً، وما دامت لديه القدرة على تهديد وابتزاز هيئات المجتمع ومؤسسات الدولة ومحاصرتها، مثلما كان الحال عندما عطل لسنوات دور البرلمان والحكومة. وثالثها، إن من يستحق الإشارة إلى فرصته في قطف ثمار هذه الانتخابات، إنْ كانت هناك ثمار، ليس النظام السوري، بل إيران التي تعتبر تمدد «حزب الله» في مؤسسات الدولة اللبنانية إحدى الوسائل المضافة لتعزيز نفوذها الإقليمي، في حين لا يرى من يراهن على عودة النفوذ السوري من البوابة الإيرانية، أو لا يريد أن يرى، التباين النسبي في المصالح والحسابات بين دمشق وطهران، وتالياً بين «حزب الله» والنظام السوري، ولعلها لا تزال طازجة الانتقادات التي وجهها أحد أعضاء لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني عن سلبية الموقف السوري من الغارات الإسرائيلية على مواقع «الحرس الثوري»، وتمنين نظام دمشق بأن طهران هي من أنقذه ومنع سقوطه!
صحيح أن لسوريا موقعاً مفصلياً في منطقة حساسة من العالم لم تعرف الاستقرار بسبب التنافس الشديد للهيمنة عليها، وصحيح أن الانقلابات العسكرية التي حصلت فيها وتناوبت على السلطة منذ الاستقلال عام 1946 كانت محصلة لصراع القوى العربية والعالمية للسيطرة على هذا البلد والتحكم بموقعه ودوره، وصحيح أن السلطة نجحت، خلال العقود الأخيرة، في نقل سوريا من ساحة نزاع وملعب لمشروعات الآخرين واختباراتهم إلى لاعب رئيس في المنطقة، وبات لها نفوذ ودور يتجاوزان حدودها في ملفات كثيرة، أهمها فلسطين ولبنان، حتى صار نظام دمشق أشبه بقبلة للنخب اللبنانية والفلسطينية، عنده الحل والربط، وعلى يده تقرر النتائج وشروط معالجة أي حدث أو توتر، لكن الصحيح أيضاً أن معظم معالم تلك الصورة قد اختفت اليوم وتغيرت الأوزان والمواقف والاصطفافات، وبتنا أمام صورة جديدة لبلاد تئن تحت الخراب والدمار وأعداد ما فتئت تزداد من الضحايا والمعتقلين والمفقودين والمشردين، تحدوها استباحة غير مسبوقة لوطن استسهلت أطراف دولية وإقليمية العبث بمكوناته ومقدراته وتوظيفه كورقة لتحسين الموقع واستنزاف الآخر.
لقد ساهمت الثورة السورية، وبلا شك، في إشغال النظام عن أدواره الإقليمية ودفعته للالتفات إلى همومه الداخلية، لكن انحسار نفوذ النظام السوري في المنطقة، لمن يحلو له تحميل المسؤولية لثورة السوريين، كان سابقاً لها، ربطاً بتداعيات الاحتلال الأميركي للعراق وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وتقدم مصلحة غربية وعربية في تخليص النظام من دور إقليمي عانوا منه كثيراً، وربطاً بتنامي حصة النفوذ الإيراني في المشرق العربي على حساب حليفه السوري، لكن يبقى السبب الأهم هو النهج العقيم للسلطة السورية في تأكيد دورها وفرض هيمنتها إقليمياً، وإصرارها على الأساليب الأمنية ومنطق القوة والغلبة في إنتاج القوى والمواقع على حساب صحة الوضع الداخلي وعافيته.
إن السوريين يدركون مدى المسؤولية التي يتحملها النظام عما حل بالبلاد عندما أنكر الأسباب الحقيقية لثورتهم وصم أذنيه إزاء كل الدعوات لإبقاء الصراع وحلوله في الإطار الوطني، واعتمد منذ اللحظة الأولى القوة المفرطة والعنف المنفلت، متوغلاً إلى نهاية الشوط في سفك الدماء وتدمير البلاد وتحطيم مقدراتها، وفاتحاً الباب لاستجرار أي دعم خارجي يضمن بقاءه وامتيازاته، بما في ذلك استيلاد ما أمكنه من قوى التطرف الإسلاموي لتشويه الثورة السورية وعزلها، ويدركون أيضاً أن لا مصلحة لهم في التدخل بشؤون الآخرين واللعب بأوراق النفوذ الإقليمي التي كلفتهم كثيراً ومكنت الاستبداد من خنق أرواحهم وخياراتهم، وأنهم بتحررهم من العنف والقهر والفساد، هم وحدهم القادرون على وقف تحويل بلادهم إلى ساحة لصراعات الآخرين.