أسطوانة "الحل السياسي" في سورية
وحده السوري لم يُستَفت في أي حل يريد لبلده. كل العابثين بقضيته أدلوا بدلوهم من دون أن يُستفتوا. والكل قالوا إن الحل للقضية السورية سياسي؛ ولكنهم، ما فعلوا إلا عكس ذلك. رداً على صرخات السوري الأولى بالحرية وبحكم القانون وبالعيش الكريم؛ تدرّج النظام بحلّه "السياسي" من البندقية الروسية إلى الدبابة، فميليشيات المرتزقة/ فالمقاتلات الحربية، فالصواريخ، فالسلاح الكيميائي، وصولاً إلى الاستعانة بالاحتلال الأجنبي لإيجاد "الحل السياسي" للقضية السورية!
تطلّع السوري الذي يبحث فعلاً عن حل سياسي لقضيته إلى أن يتكوّن جسد سياسي معارض، يمكّنه من التعبير عن تطلعاته، فتنطّع مزيج غريب عجيب من السوريين لإيجاد ذلك الجسد؛ فأتى مشوها عَبَثت في تكوينه كل الأحقاد والمصالح والأنانيات والمحاصصات والثأريات والمستحاثات والاختراقات والمخابرات؛ وكان فيه قلة من الصلّاح والراشدين. ومع ذلك كله، بقي هواه مدنياً سياسياً يبحث عن حل سياسي للقضية.
تغلبت العسكرة على الجميع؛ وارتاح النظام بسحب صرخة الحرية إلى ساحته العسكرية، وصبغها بالإرهاب؛ ليبرّر قتلها بإطلاق آلاف المتشددين الحربجيين من معتقلاته؛ ومعظمهم كان قد استخدمهم يوماً في ابتزاز أميركا في العراق، لتبرير قتلها العراقيين هناك؛ فكانت مساهمته الأكبر في إنتاج "داعش" و"ماعش" وجبهة النصرة، بعد أن انتشرت الألوية والفصائل والفرق بكل أنواع التسميات من فجر الجاهلية إلى حسن نصر الله وحزب الله في الضفة الأخرى. منسوب الدم والدمار والفرار من النار حَشَرَ الأمم المتحدة، وتحيَّزت مجبَرةً إلى جانب السوري؛ وبدفع من جسد مشوه آخر أُطلِق عليه اسم "أصدقاء سورية"؛ ليبدأ البحث عن "حل سياسي"؛ فكان مؤتمر جنيف، بعد ما يقارب العامين على المقتلة السورية. كان الكل يرفضه، إيمانا بالمعادلة الصفرية: إما أنت، أو أنا. "النظام" ملتزم بشعاره [الأسد أو لا أحد]، و"المعارضة": {سورية لا تعيش بالأسد}.
أضحى الشغل الشاغل للوزير الروسي، لافروف، تلبيةً لرغبة منظومة الأسد وإصرارها على الحل العسكري، الدعم العسكري للنظام، وإفراغ أي قرار دولي يدعو إلى حل سياسي من مضمونه. أما الشغل الشاغل للوزيرة الأميركية، هيلاري كلينتون، وبعدها جون كيري، فكان أيضاً الحديث عن حل سياسي ودعم العسكرة في المعارضة، شريطة ألا تهزم النظام؛ ليصار إلى تعهيد الملف السوري، بعد سحب ترسانة النظام الكيميائية، إلى روسيا. وهنا انصبَّ عمل لافروف على مقاربة القرارات الدولية انتقائياً؛ كأن يعمل على نسف مصداقية المعارضة أو المعارضات السياسية باعتبار لقاء تمَّ في موسكو (منصة) معارضة، وآخر جرى في مكان آخر (تيار) معارضة؛ .. إلخ. ومن ناحية روح القرارات الدولية المتمثل بوقف العسكرة، وتحديداً بند "وقف إطلاق النار"، باجتزائه وتشويهه في أستانة لـ "مناطق خفض تصعيد" لم تكن إلا عملية التقاط أنفاس لاستمرار الحل العسكري، تماماً كما يريد نظام الأسد؛ وتريد موسكو وطهران.
من هنا، جاء إقحام ممثل بوتين نسخة من "دستور لسورية" في أول اجتماعات أستانة. رأت روسيا أن الحل السياسي في إيجاد دستور لسورية، وهي تعرف أن الدستور لم يُحترَم يوماً في سورية إلا بما يخدم نظام الطغمة. وعندما لم تنجح روسيا بذلك، وبعد أن استنفدت كل ما تريده، ويريد النظام عسكرياً من أستانة؛ انتقلت بالقضية الدستورية إلى "سوتشي"، في محاولة للإجهاز على مسار جنيف والقرارات الدولية. جاء ذلك، بعد أن سحبت تركيا إلى الساحة الأستانية عبر إغرائها بنكرزةٍ للغرب. وتمّمتها باشراك إيران "ضامنا" في تحالفٍ غير مقدّس تحتاجه الأخيرة. وبذا حولتهما إلى ضامنين لـ"اتفاقات أستانة" المسمومة.
استمر النهج العسكري. خفَّ منسوب الدم، لأنه لم يعد هناك سكان ليُقتلوا. نصف سورية أضحى في الشتات. زادت الجغرافيا التي يسيطر عليها "النظام" بفعل روسي - إيراني؛ و"النظام" فقط واجهة لذلك [التحرير أو الانتصار]. من جانبها، تضع أميركا يدها على ثلث البلاد المفيد وتركيا على جزء، والجزء الأكبر المرعوب الخائف المدمر روحياً واقتصادياً تحت السيطرة الفعلية الروسية - الإيرانية والشكلية الأسدية.
وهكذا فإن أسطوانة الحل السياسي المشروخة التي يجري الحديث عنها لا يمكن تفصيلها على مقاس روسيا وإيران والنظام؛ بل لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار أميركا وإسرائيل وتركيا وفرنسا وإنكلترا والأردن والسعودية و.. و.. و... أما المنسيّ في حل سياسي كهذا، والذي لا يُستفتى، ولا يُؤخَذ رأيه، فيبقى ذلك الإنسان السوري الذي يريد حلاً سياسياً حقيقياً. ومن هنا، لا يمكن أن يكون هناك حل سياسي إلا إذا تمت العودة إلى جوهر القضية السورية: {{شعب يريد الحرية، يتوق للعيش في بلد واحد تحت سقف القانون، يختار من يتعاقد معه للحكم، كأي شعب يستحق العيش الكريم}}. وهنا الفرق الحقيقي بين مَن يحمل أمانة شعب ينشد الحرية؛ يريد لسورية وشعبها أن يعودوا إلى سكة الحياة، عبر حل سياسي مُشَرِّف من جانب؛ ومن يحمل "أمانة" الحفاظ على كرسي الدم المستبد الذي لا تستطيع قوة في العالم إزاحة ملفات الإجرام عن كاهلة وإعادة تأهيله. يأتي الحل السياسي بتوافق دولي وسوري عبر تفعيل إرادة دولية صادقة، تعمل على تطبيق القرار الدولي الذي ينص على انتقال سياسي تقوده هيئة حكم انتقالية سورية، تُدعم دولياً لإيجاد بيئة آمنة سليمة موضوعية، تمكّن كل السوريين من وضع بلدهم على سكة الحياة ثانية.