في أدبيات العمل الصحفي ، يعتبر الكلام العاطفي أو المائل لأي طرف من المحظروات ، ولكن في الوضع الراهن ، أجد نفسي متبرأ من مهنتي التي أمارسها منذ سنوات ، لأكون إلى جانب من على الأرض ، بكل ألوانهم و فئاتهم ، وأكون واحداً منهم بلا أي ضابط أياً كان .
اليوم الثوار في سوريا يواجهون كل الجحافل بدمائهم ، فقد إتخذ قرار بأن تكون السياسة هي الحل ، و الضحية هي الشعب ، و الفائز هو القاتل ، فقد منع عن الثوار كل مقومات المواجهة ، و أغلقت الأبواب في وجهه ، فيما فتحت البوابات أمام النظام لإستجلاب كل ما يمكن إستجلابه من قوات برية و جوية ، وسط صمتٍ مريع من الجميع .
في الصباح نشرنا مقالاً عن منع "التاو" حتى يتم التقدم المخطط له من قبل مجتمعوا "فيينا" ، وبالفعل حدث ماهو مخطط .
تناثرت صور المليشيات الشيعية وهي تعبث بالمساجد ، وتنشر راياتها في تكرار لمشهد القصير ، و يطلق قاداتها التهديدات لـ"الزيديون الجدد" ، في إشارة للثوار ، في مشهد يقول عنه العالم أنه طبيعي ، في حين أن الثوار بكل أشكال تنظيماتهم عبارة عن عابثين بالأمن العالمي ، و مصنفين كـ"إرهابيين" يجب قتلهم أو إعتقالهم في "غونتنامو" جديد.
أمام هذه الحشود يقف الثوار ، وحيدون بلا معيل أو سند ، برياً كان أم جوياً ، كما العادة ، ويقفون ليواجهوا كل هذا الكم بدمائهم و أجسادهم .
صحيح أن المعركة لايُظفر بها بـ"العاطفة" ، ولا يمكن تجاوز نيرانها بمجرد "الدعاء" ، و لكن الروح الإيمانية و الوقوف إلى جانب الحق قد يكون أهم من كل سلاح وجد في وجههم ، وكل بوابة و مستودع فتح لهزيمتنا ، فالدم هنا اقوى الحديد .
تضاربت التعليقات حول ما حدث بالأمس في أحد أحياء الضاحية الجنوبية مركز الثقل لحزب الله ، التابع ( فكرياً – مادياً – دينياً - ....) لإيران ، واختلف المعلقون بين مندد و مؤيد وداعي للمزيد ، هذه الفجوات دفعت للتساؤل هل الحزب و حاضنته زرعوا بذار الورود فخرج لهم الشر اللؤم أم أنهم عكس ذلك .
لا شك بأن المنددين يحملون في قلوبهم مبادئ تقول بأنه يجب تحييد المدنيين ، و لا يجب معاقبة إلا المجرم ، و مال إلى ذلك من حجج مدعمة ببراهين دامغة و محقة .
وفي المقابل تعاد قائمة مبررات المرحيبن والداعين للمزيد ، في شكل معاكس ، فخمس سنوات كانت كافية لإنهاء أي شعور أو حس مما يقوله المنددون ، فالحزب كان مشاركاً منذ أول رصاصة وجهت للشعب في سلميته ، وكان إلى جانب أول قذيفة وجهت إلى بيوت الآمنين ، وهو أوغل و اعتبر أن معركته في سوريا معركة مصيرية ، و حول المدن السورية واحدة تلوا الأخرى إلى نقاط و جسور العبور إلى "القدس" الموعودة بمذهبه "الإثني عشري" لتكون تجمعاً لهذه الملة بإنتظار مهديهم و المشاركة في جيشه .
مليون شهيد سوري و ملايين المشردين ، و ضغوط من كل حدب و صوب ، و غرق في الدم إلى ما فوق الأنوف ، الإيغال في الحشد المذهبي و "تقديس" الحرب ضد الشعب السوري ، الذل و الإهانة للسوريين المتواجدين على الأراضي اللبنانية و أخرها أحداث عرسال ، القصف بأقذر الأسلحة و إرتكاب أحقر المجازر ، فهل سيكون مقابل كل هذا ورود تعاد للقاتل أم هي طريقهم الواضحة نحو الـ"المهدي" المنتظر ، الذي لن يظهر حتى يعم الظلم ، فلذا هم يمهدوا له من خلال الشعب السوري ، فإن كان كذلك فلا بأس بأن يذوقوا بعضاً من ذلك الظلم ، فإنتظار المهدي يتطلب التضحية ، و بقاءه متخفياً كل هذه القرون موضع اجحاف بحقه .
حتماً زرع الحزب و حاضنته ، بل و طائفته لن يكون حصاده قمحاً أو قطناً أبيضاً ، وحتماً سيكون أحمراً قانياً ، له جريان لن يتوقف أو يصاب بالتجلط .
ليس فرحاً بماحدث بالأمس ، و لكن هي قراءة لمسببات الأمور ، فليس علينا مواجهة النتيجة ، بل يجب أن نعود لأسبابها التي دفعت لذلك ، و لكن الأسباب لازالت تعمل و مستمرة و بشكل أكبر سواء من حيث التدخل أو خلق العدو الوهمي لهم "داعش" ، و بالتالي النتيجة الصغيرة التي حصدتها الضاحية بالأمس ، ماهي إلا من ضمن الأسباب ، التي ستكون نتائجها فوق التوقعات .
يعقد الاجتماع الثاني للدول الـ17 التي تبحث الحل السياسي في سورية غداً، في ظل غلبة التوجه نحو استمرار هذه الدول في إدارة الحرب الدائرة في الملعب السوري، بدلاً من اتفاقها على قيام مظلة دولية لإدارة المرحلة الانتقالية التي ما زال الوصول إليها بعيداً، وفق المقدمات التي يشهدها الميدان، والمواقف السياسية والديبلوماسية حيال دور بشار الأسد في التسوية.
ويُعقد الاجتماع في ظل تراجع روسي عن إمكان البحث في مصير الأسد الذي كانت موسكو قدمت إغراءات عن إمكان عدم ترشحه للرئاسة في انتخابات مفترضة تجرى أثناء المرحلة الانتقالية، وفي ظل مراجعة إيران حساباتها بعد مشاركتها في الاجتماع الأول الذي حضرته من دون أن تتمكن من الحؤول دون تبني سائر الدول المشاركة في فيينا - 1 لبيان جنيف عام 2012 الذي ينص على المرحلة الانتقالية والقرار الدولي 2118 (في شأن تجريد سورية من الأسلحة الكيماوية) والذي نص على اعتماد بيان جنيف أساساً للحل.
فطهران قد تتجه إلى الانسحاب من عملية فيينا، بعد اجتماع غد، طالما يتعذر عليها سحب صيغة جنيف للحل التي تكرّست في بيان المجموعة الدولية من التداول، وطالما تمعن في تعزيز وجودها العسكري على الأراضي السورية. فهي زادت في الأسابيع الماضية من حضور «الحرس الثوري» في دمشق ومحيطها، وصولاً إلى مطار العاصمة السورية بأعداد كبيرة، إضافة إلى وجود «الحرس» في محيط حلب حيث يتكبد خسائر متنامية في صفوفه. والهدف من تكثيف الانتشار في محيط العاصمة هو الإبقاء على المطار والطريق منه إلى دمشق، وصولاً إلى لبنان في عهدتها للحفاظ على خط الإمداد بين طهران ولبنان ومناطق «حزب الله»، في حال تغيّرت الظروف الدولية ودفعت موسكو إلى قبول تسوية ما، ترسم ملامح المرحلة الانتقالية في سورية، لن تنجح إلا بانتشار قوات دولية لحفظ السلام في بلاد الشام، بحيث يتعذر إمكان الحفاظ على خط التواصل الإيراني مع «حزب الله» في لبنان.
فتحت سقف التحالف والتعاون بين موسكو وطهران الذي أوجب قرار الأولى الإعلان عن قرب تسليم صواريخ «إس - 300» للثانية، تبقى القيادة الإيرانية على حذرها إزاء الموقف الروسي في سورية، بدليل تصريحات قادة «الحرس الثوري» الإيراني عن أن «روسيا تقدم المساعدات على أساس المصالح المشتركة، لكن ليس واضحاً أن مواقفها تتطابق مع إيران في شأن الرئيس بشار الأسد...».
ليس الميدان السوري وحده ضحية التشدد الإيراني، عبر استمرار المواجهات العسكرية وتصاعدها، بل إن فرملة التطبيع بين طهران وواشنطن التي كانت منتظرة بعد الاتفاق النووي، وعودة اللغة العدائية، تدفعان الجانب الإيراني إلى العودة إلى التصعيد في كل الميادين. وهذا يشمل إفشال محاولات التسوية في اليمن واستمرار عمليات التدخل الأمني والاستخباراتي في دول الخليج، مثل الكويت والبحرين اللتين أعلنت سلطاتهما اكتشاف خلايا إيرانية تحضّر لأعمال أمنية. ولا تقل الاعتقالات في إيران للصحافيين ورجال الأعمال الذين يهيئون للتطبيع الاقتصادي والناشطين في مجال حقوق الإنسان، دلالة على أن القيادة الإيرانية المتشددة غير حاضرة لقبول أي صيغة تحت عنوان عودة ايران إلى المجتمع الدولي، التي كان أمل بها الذين تحمسوا للاتفاق النووي.
دليل آخر على غلبة الاتجاه نحو إدارة الحرب في سورية بدل المرحلة الانتقالية، هو أن لقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما بـ «غريمه» الإسرائيلي بنيامين نتانياهو انتهى إلى وضع الخلافات جانباً حول النووي بعد هزيمة الثاني في معركته للحؤول دون إقراره في الكونغرس، من أجل التعاون وتنسيق الموقف في مواجهة «حزب الله» كذراع إيرانية في سورية وغيرها، إضافة إلى مواجهة «داعش». وهذا يعني إطلاق يد إسرائيل في التدخل المحسوب الذي دأبت عليه في بلاد الشام لقصف شحنات أسلحة أو مواقع للحزب قريبة من حدود الجولان. وهو ما فعلته قبل يومين في مطار دمشق وفي محيطه. وهو تعاون لا يقل تواطؤاً عن ذلك الذي سلّمت به موسكو للإسرائيليين عبر تنسيقها معهم حول الطلعات الجوية منعاً لاصطدام طائرات الدولتين أثناء استباحة الأجواء السورية. ومثلما يؤشر التعاون الروسي - الإيراني والروسي - الإسرائيلي، إلى أن مأساة الشعب السوري مستمرة، فإن التعاون الأميركي - الإسرائيلي في سورية يكرّس الشعب الفلسطيني ضحية رياء واشنطن مقابل الخدمات التي تؤديها لها الدولة العبرية، فيُترك وحده في مواجهة سياسة التهويد والاقتلاع والقتل...
المروّجون أو المتوجسون من نجاحٍ ما لموسكو في سورية يقولون، كلٌّ من الزاوية التي ينظر إليها، إنّ روسيا نجحتْ، في إطار التنسيق مع أصدقائها في المنطقة في شأن عملياتها العسكرية في سورية، في تحييد مصر والأردن، أو على الأقل طمأنتهما، كما نجحتْ في ضبط حركة تركيا، وإرسال طمأنة من نوع خاص لإسرائيل.
في الأسبوع الأول من هذا الشهر خضع هذا القول للاختبار، حيث وردت أنباء عن استهداف الطائرات الإسرائيلية في منطقة القلمون شحنات من الأسلحة كان ينوي الجيش السوري نقلها إلى «حزب الله». كان التحرك الإسرائيلي منسجماً مع التفاهمات مع موسكو، حيث اتفق الطرفان منذ بدء التحرك الروسي على الحيلولة دون توظيف طهران و «حزب الله» الغارات الروسية لتهريب شحنات نوعية من الأسلحة لـ «حزب الله».
الضربات العسكرية الروسية تركزت أساساً على شمال سورية ووسطها، لكنّ ثمة ما يغري دمشق وطهران، وربما موسكو، في توسيع هذه الدائرة وتحقيق هدفٍ فشل النظامُ مراراً في إنجازه وهو قطع أيّ دعم لوجيستي أو تواصل عملياتي بين المعارضين السوريين في الجنوب وشركائهم في المناطق المحيطة بدمشق. وافتراض دمشق أن تل أبيب لن تُسقط أي طائرة روسية في الجنوب كما فعلت مع طائرات النظام التي عبرت المجال الجوي الإسرائيلي في أيلول (سبتمبر) 2014، يعوزه اليقين ربما، لأنّ حادث القلمون يشير إلى أن الأمور لا تسير وفق هذا المنطق.
لقد ساهم فشل «عاصفة الجنوب» في إرساء «ستاتيكو» في تلك المنطقة، لكنّه بدأ يتعرّض، هو الآخر، للاختبار وربما الزعزعة، بخاصة إذا قررت موسكو في خططها المبيّتة التدخل في الجنوب. هذه الخطط تحدّث عنها الرئيس بوتين وغيره. وقد أفادت «مجموعة أوراسيا» بأنّ بعض المصادر المتصلة بصناعة القرار في موسكو ذكرت أنّ التدخل في سورية سيمتد إلى الجنوب، وأنّ مقاتلي الجيش السوري و «حزب الله» والميليشيات الشيعية والقوات الإيرانية، سيدعمون على الأرض الضربات الجوية الروسية.
أواخر الشهر الماضي نفذت طائرات حربية، قيل إنها روسية، غارات في بلدات الحارة وتل عنتر وكفرناسج وعقربا في ريف درعا الشمالي. كانت هذه هي المرة الأولى التي توسّع فيها موسكو غاراتها باتجاه الجنوب السوري. وثمة تقارير تذهب إلى أن النظام في وارد تركيز قواته لشن هجوم جديد هناك، ومن غير المستبعد، بالطبع، طلب الدعم الجوي الروسي. هذا مثار قلق للأردن وإسرائيل، بخاصة أنّ عمّان تُقدّر أن شروط الموقف الذي أرسته في جنوب سورية ضمن ما يُعرف بغرفة «موك» حال دون سقوط دمشق بأيدي جماعات إرهابية في سورية، ما يتطلب من موسكو الحذر من تقديم خدمات لإيران و «حزب الله» على حساب مصالح أصدقائها في الجوار السوري.
تصريحات آن باترسون، أكبر ديبلوماسية أميركية معنية بشؤون الشرق الأوسط للجنة في الكونغرس، قبل أيام، بأنّ النظام السوري«منهك» وأنّ «المعارضة في الجنوب أكثر اعتدالاً وأقرب لتوجّه أميركا وأنها تحرز تقدماً» لا تبدد الشكوك بما يكفي، وربما من المهم أن تكون ثمة إجراءات ملموسة لواشنطن لمنع تدهور الأوضاع في تلك المنطقة. ومع أنه ليس هناك ما يؤكد حتى الآن أن ثمة رابطاً بين نيات دمشق وطهران وموسكو في الجنوب وبين إطلاق مسلحين مجهولين مؤخراً النار على قادة في فصائل المعارضة السورية المعتدلة في ريف درعا، وهو ما رفع الى ثلاثين إجمالي عدد عمليات الاغتيال بحق قادة وناشطين معارضين جنوب البلاد خلال شهر، فإنه يضع علاقة موسكو بطهران من جهة وعلاقتها بأصدقائها في عمّان وتل أبيب من جهة أخرى تحت المجهر.
لا أفق واضحاً أمام مسار فيينا السوري الذي ينعقد غدا السبت في دورته الثالثة، بحضور نحو 20 دولة، تمثل الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة، من دون دعوة أصحاب القضية. وغياب الأطراف السورية المعنية ليس دليل حكمة، ولا تحكمه رجاحة عقل وحسابات مدروسة، بقدر ما يعبر عن عدم نضج اللحظة السورية الراهنة التي لا تزال متشظيةً في اتجاهات مختلفة، ومسارات متباعدة.
لا أحد، من الأطراف الدولية المقرّرة، على استعداد ليخبر السوريين أن لقاءات فيينا ليست مكرسة لإيجاد حل لقضيتهم، وإنما هي لا تعدو أن تكون محاولة ملتبسة لتلفيق فرصة حل. ومن هنا، ليس من الغرابة أن تطغى على الاجتماعات أجواء الشد والجذب، وتبدو المسافة بين الأطراف حول الطاولة شاسعة جداً، وهي أقرب إلى الحرب أكثر بكثير منها إلى السلم. وأعطت الجولة الثانية من المباحثات، التي انعقدت في نهاية الشهر الماضي، فكرة واضحة عن المسارات التي ستسلكها المسألة السورية في المدى المنظور. وهي مساراتٌ لا تبشر بنهاية قريبة للتصعيد والمواجهة والحروب، بل إن أجواء الجولة الثانية حملت قدراً كبيراً من الانقسام بين الأطراف، وتكرّس هناك معسكران على طرفي نقيض، معسكر الأطراف الداعمة للثورة السورية (السعودية، تركيا، قطر)، ومعسكر الطرفين الداعمين للنظام السوري (إيران، روسيا)، وسط تنصل الولايات من المسؤولية الأخلاقية والسياسية، وانسحابها من لعب دورها الطبيعي قوة عظمى، والاكتفاء بالوساطة بين المعسكرين، ويلاحظ أنها كانت ميّالة إلى قبول اقتراح جدول أعمال للقاء جنيف الثالث، أقرب للطرفين الروسي والايراني، يعطي أولوية لمحاربة الفصائل العسكرية السورية التي تقاتل النظام، وليس داعش، وفق ما تقتضيه الحرب على الإرهاب، الأمر الذي استفز وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، ودفعه إلى توجيه كلام نابٍ إلى نظيره الروسي، سيرغي لافروف، واتهامه بالكذب، كون روسيا توجه ضرباتها الجوية، منذ أول الشهر الماضي، ضد المعارضة المعتدلة، ولم تتعرض لداعش.
ويفيد ما تسرب عن خلافات بين المعسكرين، حول تحضيرات لقاء فيينا الثالث، أن واشنطن ليست في وارد الضغط على طهران وموسكو، من أجل قبول جدول أعمالٍ يشكل حلا وسطاً وأساساً يمكن البناء عليه مرحلة أولى، بهدف الوصول، في مرحلة لاحقة، إلى تفاهمات بين الأطراف. وكما في كل مرة، منذ بداية الأزمة السورية، يشكل وضع رئيس النظام، بشار الأسد، عقدة الموضوع، فبين طرف يعتبر الاتفاق على رحيله مدخلاً وأساساً للحل، وطرف آخر يعمل على تعويمه، ويضع نزع سلاح خصومه من الفصائل نقطة بداية. وعلى بعد يوم من انعقاد الجولة الثالثة، لا تبدو الصورة مختلفة عنها في ختام الاجتماع الثاني، حيث تفيد خطة المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، بأن الأولوية اليوم هي لمحاربة الإرهاب، حسب التعريف الروسي الإيراني. وبالإضافة إلى ذلك، هناك خلاف على تحديد ماهية المعارضة السورية، في حين أن النظام واضح للأطراف كافة. ومن هنا، يجري الضغط من جانب إيران وروسيا لجر الآخرين في هذا الاتجاه، من أجل حرف مسار القضية بالكامل، وكسب الوقت بهدف إعادة إنتاج الأسد، وهناك بعض العرب المشاركين في مسار فيينا من يتبنى هذا المنطق، إلى حد أنه يعتبر كل الفصائل المسلحة التي تقاتل الأسد إرهابية، ويطالب بتوجيه الضربات العسكرية لها.
يحمل هذا المنطق مخاطر كثيرة، ولا يقترب من الحل، عدا عن أنه لا يقدم جديداً، ولا يتسم بالجدية، ذلك أن الفصائل السورية التي تحارب النظام متفقة على أن إرهاب الأسد وداعش وجهان لعملة واحدة. وما لم تتفق الأطراف على هذه القضية، لن يكون هناك حل، لأن فصائل المعارضة السورية أبلغت جميع الأطراف أنها لن تقبل بأقل من جنيف 1.
أشاعت لقاءات فيينا انطباعاً بأن قطار تسويةٍ سياسيةٍ ما في سورية وُضع على السكّة. لا شيء مؤكد. ربما يحمل اللقاء التالي، غداً، بعض الوضوح للنيات كما للسياسات. في المحاولة السابقة في جنيف (2014) كان الظنّ السائد أن «التفاهمات» الاميركية - الروسية كفيلة بصنع اختراقات، إلى أن انكشفت وتدهورت، ثم أعيد تأهيلها، لكن حسابات كلٍّ من الطرفين تغيّرت. وما أوحى بـ «الجدية» هذه المرّة أن اميركا وروسيا تريدان استمالة السعودية وتركيا إلى «التفاهمات» استناداً إلى «فرصة» تتمثّل بأن موسكو أصبحت متورّطة على الأرض السورية وأنها فتحت ملف «الحل السياسي» وباتت مستعدّة لاستدراج تنازلات من بشار الأسد، لكن مقابل استمراره لفترة محدودة، بذريعة أن بقاءه يساعد في تنفيذ أي اتفاق يمكن التوصّل إليه. كانت واشنطن موافقة دائماً على هذه الصيغة مشترطةً الاتفاق على «هيئة حكم انتقالي»، وفقاً لبيان «جنيف 1»، غير أن الرياض واظبت على الدعوة إلى «رحيل الأسد» ثم تعاملت ببراغماتية مع فكرة «الفترة المحدودة» إذا توافرت ضمانات لها ولصلاحيات الحكومة الانتقالية.
عشية اللقاء الموسّع السابق في فيينا، عُقد اجتماع رباعي تمهيدي (29/10/2015) وكان صعباً، بل ساخناً إلى حدٍّ ما، إذ بدا جون كيري وسيرغي لافروف متفاهمَين على ضرورة الإقلاع بالحل السياسي في أي شكل. لكن الوزير الروسي لم يكن مقنعاً لنظيريه السعودي والتركي اللذين وجدا أنه لم يحمل أي جديد بخصوص «مصير الأسد» وأن الاقتراحات الأخرى تنطوي على تراجع مبطّن عن صيغة جنيف والحكم الانتقالي. وذُكر أن لافروف غادر الاجتماع من دون انتظار توافقات محددة، لذلك طرح كيري منهجية تضمن استمرار «عملية فيينا»، إذ تشير إلى وجود خلافات مع تحديد للمبادئ العامة المتوافق عليها، وقد ظهرت تلك المبادئ في البيان المشترك (وحدة سورية واستقلالها ووحدة أراضيها وطابعها «العلماني»، المحافظة على مؤسسات الدولة، حماية حقوق السوريين أياً تكن أديانهم وإتنياتهم، تسريع الجهود الديبلوماسية لإنهاء الحرب، زيادة الدعم الإنساني للمهجّرين في الداخل وللدول التي تؤوي النازحين، ضرورة هزم «داعش» والتنظيمات الأخرى التي يعتبرها مجلس الأمن الدولي إرهابية)...
لم يكن متوقعاً أن يعترض أحد على هذه المبادئ. وهي رغم أهميتها لم تعد تعني شيئاً منذ زمن، فالنظام احتقرها طوال عقود تسلّطه ثم جهر باحتقاره للشعب بفئاته كافة عندما قاده إلى صراع أهلي لضمان بقائه في السلطة. لكن هذه المبادئ شكّلت مخرجاً لتفادي فشل معلن للقاء فيينا الموسّع، كما تضمن البيان نوعاً من خريطة طريق إلى حل يبدأ بوقف لإطلاق النار ويستند إلى «جنيف 1» (يرفضه النظامان السوري والإيراني) وتتولّى فيه الأمم المتحدة جلب ممثلين عن «الحكومة السورية» والمعارضة إلى عملية سياسية تفضي إلى «حكم ذي مصداقية، غير فئوي، ويشمل الجميع» وتلحظ إعداد دستور جديد وانتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة وتُجرى «بأعلى معايير النزاهة والشفافية» وبمشاركة الجميع بمن فيهم سوريّو الشتات...
هذه «الخريطة» لا تختلف في جوهرها عما كان مطروحاً في مفاوضات جنيف (شباط/ فبراير 2014) التي أفشلها النظام مصرّاً على اتفاق على محاربة الإرهاب (بقيادته) قبل التطرّق إلى الترتيبات السياسية. واقعياً كان يريد مجالسة معارضين آخرين لا ليفاوضهم بل ليملي عليهم شروطه وإرادته. أما محاربة الإرهاب، فالسيناريو الاميركي لا يلحظ لها دوراً فيها، فيما يبدو السيناريو الروسي معنياً بإعادة تأهيل الجيش وليس النظام لكنه يتعثّر لأنه لم يعثر على الجيش الذي يعرفه. وأما بالنسبة إلى الجانب السياسي، فاعتقدت روسيا أن الخطة التي اقترحها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، ولم تلقَ اعتراضاً، مهّدت الطريق لتشكيل وفود المعارضة بالطريقة التي اتّبعت للقاءات موسكو والقاهرة واستانة (عاصمة كازاخستان) وكانت غالبية المشاركين فيها من المعارضين الموفدين من جانب النظام، فضلاً عن أفراد من «معارضة الداخل».
ليس معروفاً من أين جاءت موسكو وطهران ودمشق بفكرة التحكّم المسبق بأي مفاوضات من خلال التلاعب بتمثيل المعارضة، بل كيف اقتنعت نفسها بأن هذه الطريقة يمكن أن تنهي الصراع وتقيم السلام وتأتي بـ «الحل السياسي» المنشود، أي الحل الذي يبقي النظام من دون أي تغيير جوهري، وبموافقة «من حضر». وقد استدرجت الأطراف الثلاثة دي ميستورا راضياً إلى هذا المنطق، وافترضت غباءً مستحكماً بالأطراف الأخرى يستحيل معه أن تكتشف حتى الخداع المكشوف. ولعل الجدل الذي افتعلته يرمي عملياً إلى إقصاء المعارضة الحقيقية، ذاك أن موسكو تطالب بتحديد ما هي المعارضة «المعتدلة» لتعرف كيف يمكن تمثيلها، وفي عُرفها أن كل من حمل السلاح ضد النظام ليس «معتدلاً» أي ليس مؤهلاً لأن يكون جزءاً من الحل. لكن عليها، قبل ذلك، أن تحدّد طبيعة النظام الذي تسانده وتعتبره ركيزةً للحل، أهو معتدل أو متطرّف، أهو وسطي أم إجرامي متوحّش؟ لا شك في أن العالم، عدا استثناءات محدودة، أوضح موقفه من هذا النظام. ولا يمكن نظاماً منبوذاً مثله ولا حلفاءه أن يحدّدوا من هو مقبول أو غير مقبول في التفاوض على مستقبل سورية.
الأكيد أن المعارضة لم تستطع أن تبلور كياناً واحداً لتمثيلها، لكن لوحظ في الأسابيع الأخيرة أن الولايات المتحدة وروسيا أعادتا، كلٌّ لأسبابها، اكتشاف «الجيش الحرّ»، فهو الأكثر تعبيراً عن المعارضة والأقرب إلى مواصفات «الاعتدال». في الأعوام الأربعة الماضية، تعامت واشنطن عن ضرورة تسليحه ليبقى الفصيل الأكبر والأقوى، وأدّى إهماله وعدم دعمه إلى استضعافه وبالتالي إلى تشظّيه وتوزّع ضباطه وجنوده على سائر الفصائل. لكنّ الاميركيين يريدون الآن الاعتماد عليه لمحاربة «داعش»، ويسعى الروس إلى استعادته إلى صفوف الجيش لكن الطريقة التي يتّبعونها تنفّره بدل أن تقرّبه، فحتى الضباط الذين انشقّوا ولم يشاركوا في قتال النظام ولا يمانعون في العودة إلى الجيش لم يعودوا راغبين في العودة إلى جيش بإمرة الأسد وزمرته. في المقابل، يبدو أن الولايات المتحدة تذكّرت أيضاً أن «الائتلاف» المعارض لا يزال موجوداً، ورغم أن «أصدقاءه» قطعوا عنه كل تمويل أو مساعدة منذ ما يقارب العامين. ومع اقتراب استحقاق التفاوض، يتبيّن أن «الائتلاف» عاد يمثّل رقماً صعباً لا يمكن تجاهله، فأي مفاوضات من دونه لن تحقق أهدافها، إذ إنه ارتبط بالفصائل المقاتلة وهي ارتبطت به، حتى لو لم يكن بينه وبينها تحالف معلن ومحسوم.
في أي حال، وقبل البحث في المعارضة، فليحسم الحلفاء الثلاثة (روسيا وإيران ونظام الأسد) خلافاتهم، لأن لكلٍّ منهم مقاربته للحلّ السياسي ولما يجب أن يسبقه ميدانياً. إذ إن التنسيق العسكري بين روسيا وإيران لا ينطبق على الجانب السياسي. وقد انتقد قائد «الحرس الثوري» محمد علي الجعفري روسيا في شكل مباشر، وقال أن «بقاء الأسد» لا يهمّها كما يهمّ إيران. وبعد شهور من الترويج الاميركي - الروسي لإيران كطرف فاعل ومساعد في حل أزمات المنطقة، يتّضح للمعنيين الآن أنها بوجهين ولسانين وأن هناك توزيع أدوار بين أجنحتها. فإيران روحاني تحضر لقاءات فيينا بصفتها «معتدلة» وإيران الجعفري تحرّض الأسد على التشدّد في شروط، وإذ أبدت الأولى قبولاً ولو بالمناورة لبيان فيينا الذي يتبنّى صيغة حكم انتقالي مستوحاة من بيان «جنيف 1» فإن موقف الثاني، أي «الحرس»، يظهر من خلال تصريحات فيصل المقداد، نائب وزير خارجية النظام، الذي يرفض فكرة المرحلة الانتقالية ويجدّد طرح «توسيع حكومة» النظام وتعديل الدستور. إذاً، فوجود إيران إلى طاولة المساومات لم يخرج عن إطار المتوقع منه، فهو يهدف إلى توجيه أي تسوية أو إلى تعطيلها حتى لو اقتضى ذلك تصعيداً ميدانياً. وإذ باتت الخلافات تدبّ بين الحلفاء الثلاثة فلأنهم تيقّنوا بأن ثمن أي تسوية دولية سيكون باهظاً سواء ساوموا على بقاء الأسد أو على رحيله.
أشعل الرئيس فلاديمير بوتين النار على الأرض السورية، ووضع قِدْرَه على الموقد، واستنفر طباخيه العسكريين والسياسيين والإعلاميين والدينيين أيضاً في حركة دؤوبة، معلناً بداية الزمن الروسي في القضية السورية. دوافعه إلى ذلك كثيرة ومتنوعة. منها ما هو داخلي روسي مرتبط بالأزمات التي تعاني منها روسيا. ومنها ما هو إقليمي، يتعلق بشبكة المصالح والعلاقات المعقدة والمتحولة في المنطقة. ومنها ما هو دولي شديد الصلة بالمطامح الروسية وصراعها المكتوم مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص.
انطلقت الطائرات الروسية إلى مسرح العمليات تحت غطاء كثيف من البروباغندا الدولية الرائجة تحت اسم «محاربة داعش». وأعلنت قيادتها العسكرية عن إنشاء غرفة عمليات إقليمية في بغداد، وإجراء تنسيق شامل مع إسرائيل. وتولت الاستخبارات السورية تزويدها ببنك الأهداف المطلوبة والمرغوبة. وبعد شهر واحد من التحشيد حول الحملة الروسية، «ذاب الثلج وبان المرج»، وسقطت كل الأوراق والأوهام ورسائل التضليل عن الأهداف العسكرية والسياسية الحقيقية لهذه الحملة. فالمناطق التي استهدفت بالقصف، كانت في معظمها مناطق لـ «الجيش السوري الحر» بنسبة 96 في المئة، ولم تقصف الطائرات الروسية أهدافاً «داعشية» إلا بنسبة 4 في المئة فقط. وكان عدد الضحايا من المدنيين أضعافاً مضاعفة من الثوار والمسلحين وحملة البنادق على الأرض. ومع ذلك فشلت الحملة في جهدها الرئيس المطلوب، وهو تغيير ميزان القوى على الأرض، ومساعدة النظام على استعادة ما فقده عبر هزائمه المتوالية منذ بداية 2015، في محافظات ريف حلب وإدلب وحماة ودرعا. وظهر للعيان حجم المخادعة في السياسة الروسية. إذ تعلن الإلتزام بوحدة وسيادة واستقلال سورية، والحرص على الدولة ومؤسساتها، في الوقت الذي تنتهكها وتعتدي على شعبها. وتحول دون صدور مشروع فرنسي لمنع استخدام البراميل المتفجرة ضد السوريين، عندما ادعى مندوبها لدى الأمم المتحدة بأن إسقاط البراميل قد توقف. ثم شهد العالم إسقاط 94 برميلاً على مدينة داريا بعد ذلك.
غير أن أخطر ما قام به الطيران الروسي بضرباته الموجهة والمدروسة جيداً، هو رسم معالم الكانتون الطائفي الذي يريد بشار الأسد الدفاع عنه وتحصينه وأخذه رهينة، توضع عند الحاجة في المقايضات والتسويات المحتملة. فالقذائف التي أُلقيت على شمالي محافظة اللاذقية وعلى طول سهل الغاب وغربي حمص، أرادت أن تقول في رسالة واضحة: هذه محمية روسية، ممنوع الاقتراب منها.
بعد فشل الجهد العسكري الروسي في إجراء التغيير المطلوب على الأرض، سارعت السياسة الروسية – في عملية لكسب الوقت وحفظ ماء الوجه – نحو بذل جهود مضنية لعقد مؤتمر فيينا الرباعي ومن بعده الموسع، والذي جاء على شكل مهرجان دولي دعي إليه الجميع. وكان منبراً لسماع الأصوات المتناقضة والمتباينة حيناً، وتلك التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة حيناً آخر. تم ذلك في غياب السوريين، وجاءت النتائج في البيان الختامي باهتة ومتواضعة، تعكس محصلة تسووية روتينية لرياح تهب من جميع الجهات.
هدية مجانية ومن دون استحقاق تم تقديمها لإيران بدعوتها للمشاركة في مؤتمر فيينا. لأنها لم تعترف حتى اليوم بالعملية السياسية التي بدأت في جنيف 1. وبدت مشاركتها شاذة وعامل استفزاز، كدولة ما زالت تعتمد خيار الحل العسكري وتدعمه على الأرض بجميع الأشكال. كذلك كانت مشاركة دول كلبنان والعراق ومصر، التي تعاني شعوبها ما تعاني، ولو كانت قادرة على المساهمة في حل مشكلات الآخرين، فلم لا تعمل على حل مشكلاتها الخاصة، وهي من النوع نفسه؟!
غير أن التوجهات الروسية، التي التقطها المبعوث الأممي دي ميستورا ورددها باعتبار بيان فيينا رديفاً لبيان جنيف 1 كمرجعية للعملية السياسية، تبدو في العمق أشد خطراً مما تبدو على السطح. فهو مسعى دأبت عليه السياسة الروسية، بعد أن أظهرت ندمها على الموافقة على مشروع المبعوث الدولي كوفي أنان عام 2012، الذي أنتج بيان جنيف 1، وتحاول منذ ذلك الوقت حرف العملية السياسية عن مسارها بضرب منطلقها الأساس، وإيجاد مرجعية جديدة تلبي مصالح موسكو.
نتيجة فشل الهجمات الجوية في إحداث فرق وإجراء تغيير مطلوب، ورغبة من روسيا في مزيد من الاستعراض العسكري، اندفعت لتطوير احتلالها لسورية، وتعزيز قواعدها البحرية والجوية بأنظمة دفاع جوي، قد تستدعي أو تستدرج قوات برية متنوعة لتوفير الحماية الأرضية لها. كذلك اتجهت الى الفضاء السياسي الإقليمي والدولي في مبادرة لتحقيق الوجود الروسي على هذا الصعيد، مستهدفة الوصول إلى مرجعية بديلة وخريطة طريق للتسوية وفق رؤيتها. مثلما توجهت روسيا نحو الساحة السورية السياسية والعسكرية بجهود مشتتة ومنافقة لإجراء حوارات مع «الجيش السوري الحر» «إذا بقي منه أحد» (على حد تعبير الوزير لافروف) والمعارضة السياسية التي تريدها وتسميها «معتدلة» على حد تعبير الوزير لافروف، وكأنها تكتشف للمرة الأولى وجود المعارضة السورية، مع أنها على صلة بمختلف أطرافها منذ سنوات.
إن مسعى الروس لنقل مرجعية المفاوضات من جنيف إلى فيينا، ووضع الأمر الإقليمي في أيد تفتقر إلى الأهلية والقدرة، وادعاء البحث عن معارضة ضائعة من أجل إحياء دور سياسي بعد فشل الجهود العسكرية في إظهار العزم الروسي والفاعلية في إدارة شؤون المنطقة وفي القضية السورية بشكل خاص، كل ذلك سيذهب أدراج الرياح. لأن أفعال الغزو الروسي أعظم تأثيراً وأكثر فصاحة وإقناعاً من أقوال السياسة الروسية وادعاءاتها المنخورة. وقد تلقى السوريون رسائل الروس بشكل حقيقي وبوضوح كامل، واكتشفوا أن ليس لسورية ولطموحات السوريين مكان معتبر في الاستراتيجية الروسية للمنطقة، إن وجدت.
إن كل يوم يمضي من عمر الغزو الروسي لسورية، يحمل في طياته تأجيجاً وترسيخاً من جانب قوى الثورة لمقاومة العدوان. ويحمل تعميقاً للتباينات بل التناقضات القائمة بين المشروعين الروسي والإيراني على الأرض السورية وفي أرجاء المنطقة. كما يزيد منسوب الفشل في سوية الأداء الروسي وإنجازاته دولياً، والذي تأمل منه روسيا في أن يظهرها كقوة عظمى، تشكل قطباً موازياً للغرب، تقرر عندما تريد، وتواجه قرارات الآخرين إذا شاءت.
وبعد أربعين يوماً من وقائع الهجوم الروسي المعاكس على المنطقة، عبثاً ينتظر الساسة الروس حملة الصحون، ليصطفوا أمام المطبخ الروسي بانتظار ما سيخرج من قدر، ليس فيه إلا طبخة حصى. ويبقى الصوت الأعلى في إدانة هذا الغزو وإعلان فشله هو أرقام الضحايا من المدنيين، وحجم التدمير والتهجير من القرى الآمنة الذي أنتجه، وعدد المشافي الميدانية التي استهدفتها طائرات السوخوي. كل ذلك يحكي بالصوت والصورة حكاية عدوان على شعب مصمم على نيل حريته، ويعاني ما يعاني من جرائم نظام، عمل الروس طويلاً على دعمه والتستر على جرائمه وتبريرها، وهم اليوم يكملون مهمته ويرتكبون مثيلات لها.
جاء الطيران الروسي، وقوى برية أخرى، لكي يحارب داعش، كما كرَّر الإعلام الروسي، وإعلام النظام، لكن هذا لم يمنع صدور تصريحات عن رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، بأن التدخل يتعلق بالمصالح القومية الروسية، وأن يتسرّب عبر تصريحات متعددة أن التدخل جاء لمنع انهيار النظام في لحظةٍ، كان فيها على وشك السقوط. طبعاً، لم يظهر أن الهدف هو الحرب ضد داعش، حيث شملته غارات محدودة (طاولت المدنيين في مناطقه)، وظهرت المصالح الروسية في بناء قاعدة جوية وتوسيع القاعدة البحرية، والإتيان بقوات برية، وذلك كله لكي يتعزّز الدور الروسي في البحر المتوسط، والمنطقة العربية.
لكن، لم يفلح الطيران الروسي في تحويل "جيش" النظام وإيران وحزب الله وغيرها إلى قوة قادرة على استرداد الأرض التي خسرتها خلال هذه السنة، خصوصاً في الوسط (ريف حماة الغربي) والريف الجنوبي والشمالي لحلب وريف اللاذقية، فقد فشلت كل الهجمات، وجرى تدمير عشرات الدبابات، وقتل قادة عسكريون إيرانيون ومن حزب الله ومن النظام عديدون. بالتالي، لم تفلح الصواريخ المتطورة التي تطلقها الطائرات الروسية، أو حتى الصواريخ البالستية التي تطلق من بحر قزوين، أو من البحر المتوسط، في تغيير ميزان القوى العسكري. على العكس، تحقق تقدم للكتائب المسلحة.
ما يفلح به هذا الطيران بكل تقدمه التكنولوجي، وقوة صواريخه، هو الإبادة الجماعية. فروسيا بوتين تمارس ما مارسته في الشيشان، حيث قاد بوتين حملة شاملة من أجل سحق التمرد، ومارس كل أشكال الوحشية من أجل إخماده، إذ دمّر غروزني العاصمة لكي يحقق ذلك. وإذا كان النظام قد استفاد منه أصلاً، خصوصاً في "اكتشاف" البراميل المتفجرة، فإن الطيران الروسي يكمل الوحشية بصواريخ أكثر تطوراً، وهو يريد من ذلك تحقيق هزيمة الثورة، وفرض انتصار النظام. ولا يبدو أنه قادر على ذلك، لأن في سورية ثورة هزمت النظام، ولا يفيد كل التدخل الخارجي من أجل إنقاذه.
قصف بعض مواقع الجيش الحر. لكن، يبدو أن التركيز الأساسي للقصف يطاول المستشفيات، والمستشفيات الميدانية، والمدارس والأسواق والأحياء الشعبية. الجزء الأساسي من القصف يطاول هذه المناطق في دوما وريف دمشق وحلب وريف حمص وريف حماة وإدلب وريفها، وحتى حين يقصف مناطق داعش يقصف الأحياء والأسواق والمستشفيات، كما فعل في البوكمال. لهذا تزايدت المجازر بعد التدخل الروسي، وازداد عدد الشهداء، خصوصاً من الأطفال والنساء وكبار السن. ومن أجل ذلك، يجري استخدام الصواريخ الفراغية والقنابل العنقودية، ويكمل النظام باستخدام البراميل المتفجرة وأسلحة محظورة.
لا شك في أن هذه جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية. وربما كان هذا هو أسلوب بوتين الذي يعتقد بأن استخدام الوحشية سوف يفرض "انهيار العدو"، ومن ثم يعلن انتصاره هو. إنه يستخدم "الصدمة والرعب"، هذا المصطلح الأميركي الذي يمارسه الروس الآن في سورية. لكن، لا يبدو أن هذه السياسة قد أدت إلى نتيجة، حيث لم تؤدِ إلى تغيير ميزان القوى على الأرض. على العكس، لا زال ميزان القوى مختلاً لمصلحة الجيش الحر.
تريد روسيا الحفاظ على بشار الأسد عبر سياسة وحشية، هي استمرار لسياسة النظام، لكي يبقى مسيطراً من دون أن ينال ذلك. ولقد استجلب قوات حزب الله والحرس الثوري والمليشيا الطائفية العراقية، ومن أفغانستان وباكستان، من دون أن يغيّر ذلك في الواقع شيئاً، الأمر الذي فرض تدخل روسيا التي تريد "أن يختار الشعب السوري" من يحكمه، وهي تحاول سند نظام يتداعى، لأن الشعب قرَّر إسقاطه.
تحاول روسيا الآن، ولسوف تصل إلى النتيجة نفسها: الفشل، على الرغم من كل الجرائم التي ترتكبها، والتي هي جرائم ضد الإنسانية، وستحاسب من الشعب التي لم ترَ إلى الآن أنه يريد إسقاط النظام. عادةً، حين تكون الإمبريالية مأزومة تمارس أقصى العنف، وترتكب الجرائم، وتقترف الإبادة الجماعية، هذا بالضبط ما تفعله روسيا في سورية.
قيل ان من بين أسباب التدخل الروسي في سورية موازنة التدخل الإيراني أو تقاسم موسكو مع طهران الإمساك بالورقة السورية. لكن لماذا التنافس و»الغيرة» بينهما إذا كان هدفهما، بحسب ما تعلنان، واحداً، وهو الدفاع عن الأسد ونظامه؟ فهل تصرح كل من الدولتين بما لا تضمر؟
الواقع ان كلاً منهما مقتنع بأنه لم يعد هناك اي احتمال، في ظل موازين القوى الحالية، لاستعادة سورية الموحدة تحت حكم النظام القديم، وانه لا بد مرحلياً من المحافظة على المناطق التي لا يزال بشار الاسد يسيطر عليها، بعدما تقلص كثيراً دوره في تحديد المسارين السياسي والعسكري لبلاده، بانتظار التوصل الى تسوية دولية تعيد توحيد سورية.
لكن لموسكو وطهران رؤيتين مختلفتين الى شروط هذه التسوية ومراحلها تعكسان مصالح كل منهما، ولا تتفقان بالضرورة: من يفاوض ومن يشرف على التطبيق ومن يتمثل في المرحلة الانتقالية وما يليها، وأي مستقبل لمختلف الأطراف السوريين.
ففي حين ترى روسيا ضرورة المحافظة على النواة الصلبة للجيش السوري والمؤسسات الدستورية وترى لها دوراً في إعادة البناء، عملت إيران تدريجاً على إضعاف الأسد وتعزيز دور صنيعتها اللبناني «حزب الله» في المقابل، لأنها لا تثق بالخلفية «البعثية» لمعظم ضباط الجيش ورجال الرئيس، حتى لو كان الحزب مجرد غطاء لحكم الطائفة العلوية.
وتعتقد طهران بأن الوسيلة المثلى لبقاء نفوذها في سورية الراهنة والمستقبلية، تكمن في اعتماد النموذج الذي طبقته في العراق عندما فرضت عبر حلفائها من الاحزاب والتنظيمات الشيعية قانون «اجتثاث البعث»، لكن بلا ضجة او إعلان هذه المرة. ولهذا ارسلت خبراء وضباط «الحرس الثوري» وميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية، ليحلوا تدريجاً مكان الجيش النظامي الذي أوشك على الانهيار، وليس ان يقاتلوا تحت لوائه وقيادته.
وأدى ذلك مراراً الى إشكالات بين الطرفين عندما تجرأ الإعلام الموالي لإيران على نسب «الانتصارات» العسكرية الى الاطراف الايرانيين وليس الى الجيش النظامي. حتى ان الايرانيين تفاوضوا مباشرة مع اطراف في المعارضة السورية على وقف للقتال محدود مكانياً وزمنياً، وبات الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله يحدد في خطبه مسار المعركة في سورية ومحطاتها.
وبعد الاتفاق النووي بين إيران والاميركيين، اظهرت طهران استعداداً أكبر للتفاوض على مصير الاسد ونظامه في مقابل مكاسب أخرى بينها خصوصا مستقبل «حزب الله»، فيما أبدت واشنطن استعداداً لمنح الايرانيين دوراً اكبر في تحديد مصير سورية، وهذا ما دفع الروس الذين كانوا ينتظرون نتائج المفاوضات بين طهران وواشنطن، الى التدخل لاستعادة دور الجيش النظامي الذي رعوه طوال عقود وسلّحوه ونسجوا علاقات متينة مع كبار ضباطه.
عملياً اذن، كانت إيران مستعدة للتفاوض على الاسد لكنها ليست مستعدة للتفاوض على الحزب اللبناني الذي سعت لجعله الوريث الشرعي للنظام السوري ودوره، وخصوصاً في الكباش الفولكلوري مع اسرائيل. فبعد الخروج السوري من لبنان كان لا بد من تقديم ضمانات بديلة الى الاسرائيليين كي يبقوا على «الحياد» في الصراع السوري، ولا أحد أفضل من الحزب يقدر على ذلك منذ حرب تموز (يوليو) 2006 التي اسفرت عن تفاهم غير معلن طبقه «حزب الله» بأمانة، مانعاً اي طرف من الاخلال بالهدوء في جبهة الجنوب التي شهدت سلسلة اختبارات من الجانبين. وعندما ارادت ايران تمرير بعض الرسائل الى الاسرائيليين استخدمت جبهة الجولان وليس الجنوب اللبناني.
وهذا يفسر استمرار حال الاهتراء وتفاقمها في لبنان، حيث ينتظر الحزب التوقيت المناسب لفرض سيطرته التامة. إذ يفترض بحسب الخطة الايرانية التي لا تزال قائمة على رغم التدخل الروسي، ان يتم شيئاً فشيئاً دمج لبنان بالدويلة العلوية، وان يقود «حزب الله» جناحيها السوري واللبناني، وليس الاسد الذي اثبت فشله في نظر الايرانيين. وتتداخل هنا الرؤية السياسية الايرانية مع الدينية التي ترى في العلويين «انشقاقاً» بسيطاً عن الطائفة الشيعية الاثني عشرية الأوسع، ربما حان وقت تصحيحه.
وقبل أيام، اعترف الجنرال في «الحرس الثوري» محمد علي جعفري بهذه الخلافات، وقال ان الروس ليسوا مرتاحين الى دور «حزب الله» في سورية. فهناك عملياً تقاطع روسي - إيراني على ضرورة منع انهيار «سورية الصغيرة» الحالية، وخلاف على من يقود الكيان الجديد الذي قد ينتج عن أي تسوية، ولمن سيكون ولاؤه. لكن كلا من موسكو وطهران تخفيان نواياهما بالمبالغة في تصريحاتهما عن التمسك بالأسد.
لماذا التشاؤم وكل ذاك السواد في التطلُّع إلى يوم تخرج فيه المنطقة المنكوبة بالحروب والتشرُّد والموت والجوع، إلى السلام مع ذاتها وشعوبها؟
لماذا كل ذلك التشاؤم، أليس قلب أميركا وروسيا على العرب، خشية من اندثار حضارتهم؟... وعلى مهد الحضارات والأديان، وتجارب التعايش العامرة بمختبرات للإنسانية، من بغداد إلى اللاذقية ودمشق، ومن تونس إلى مصراتة وبنغازي، ومن الضاحية الجنوبية لبيروت إلى طرابلس؟
لماذا نيأس من مراكب الموت تشق البحر المتوسط فيبتلع شبابها لمجرد التحدّي؟... ولا نرى الغد الآتي بعد براميل القتل الجماعي؟ أليست التضحية حتمية لتقتل جثثنا أطماع «داعش»، حين تنجو من حِرابه وسكاكينه؟
لماذا لا نأمل بـ «حكمة» الرئيس فلاديمير بوتين؟ صحيح أنه يحرّك طائرات تقتل أطفالاً سوريين، لكنه يظن أنه يبيّض صفحة الكرملين حين يتلقى ضربة من «داعش».
لماذا لا ننظر بعين الأمل إلى شواطئ العرب، ونتوهّم بأن جيلاً كاملاً يهاجر إلى ضفة «الأغنياء» الأوروبية، سيعود سريعاً، لئلا يموت حنيناً إلى الانتماء؟ أليس الانتماء الذي تكرّس بالحريات وفرص العمل والتقدُّم والمساواة، ومحاربة أنظمتنا الفساد، وتواضعها وزهدها بالسلطة؟!
رغم كل شيء، وبلبلة الكبار في البحث عن معتدلين وإرهابيين على الأرض السورية، رغم صفعة «داعش» وكبرياء بوتين الذي اعتبره السيناتور الأميركي ماركو روبيو «رجل عصابات»... رغم العين «البصيرة» لرجل البيت الأبيض ويده القصيرة، إلا حيال ما يزعج إسرائيل، ألا يمكن التفاؤل بأن سورية وشعبها سيصلان إلى بر الأمان قريباً؟
ربما- افتراضياً- إلا إذا كان بوتين واثقاً من أنه سيفرض استسلام «أبو بكر البغدادي» خلال أسبوع أو شهر، وقتَلْنا هواجس القلق من تمدُّد النار في سورية إلى دول مجاورة، استنفدت قدرتها على التعايش مع صراع إقليمي- دولي، وتوهّمت بأن رجل الإطفاء في الغرب جاهز، ينتظر شارة استغاثة من «أقليات».
أليست حال لبنان اليوم حيث نسمع الصراخ تحذيراً من حرب أهلية، مثلاً واضحاً بمقدار ما يثير صدمة من فضيحة عجز السياسيين، يوجّه رسالة بأن كل صمامات الأمان تعطّلت؟... ومعها انهار السلم الأهلي الكاذب، بعد خمس سنوات من التكاذب واللعب بمصائر اللبنانيين، والرهان على أوراق إقليمية وأخرى دولية.
ولكن، لماذا التشاؤم بمصير لبنان وانزلاقه على طريق سورية؟... أليس إغلاق كل المؤسسات الدستورية حصانة ضد الانفجار الكبير؟ المخجل أن مفتاحها ما زال في الخارج، وأن جميع اللبنانيين رهائن في عملية الانتحار البطيء. بعض الخبثاء يشير إلى ضياع البوصلة السورية التي كانت «ترسم الطريق» لكل قرار وكتلة وتكتل، في البرلمان اللبناني وبين القوى السياسية، حتى إذا حسمت يصبح الدستور طيّعاً للتعديل، والميثاق رهن اجتهادات.
رغم ذلك، فلنتفاءل الآن بعودة حزب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قوياً إلى الحكم، وهو يبشّر بخطوات في المنطقة، ستغضب إيران حتماً، فتصبح وتيرة القتل في سورية أسرع، وناره تلفح لبنان كل يوم. فلنأمل بألا يتلقى بوتين صفعة أخرى من «داعش»، كي لا يسقط مزيد من الضحايا السوريين... ونتوهّم بأن إيران الساعية إلى قلوب شعوب المنطقة وعقولها ستدرك أن انتقامها من «الاستكبار» لن يكون بأخذ اليمن ولبنان رهينة، لحسابات نفوذها الإقليمي، ولا بسحق قدرة العراقيين على استعادة تعايشهم ودولتهم ومؤسساتها وثرواتها.
ولماذا التشاؤم حين تنعى إسرائيل العمليات العسكرية الروسية في سورية؟
ألم يقل أردوغان أن كل مَنْ يؤجّج النار في سورية، سيحترق بها؟ مصيبة السوريين- وقلب الرئيس التركي معهم- أن لا أنقرة قادرة على تخليصهم من النفق المظلم، ولا طهران ترى في سورية سوى موطئ قدم، ولا موسكو تستطيع فرض التسوية بمفردها... إذا استثني فرض مصالحها ونفوذها.
ولأن النفق طويل، بات حصر لهيب الحرب وشظاياها معجزة.
لماذا التشاؤم؟
يشكل اللجوء حالة ضعف إنساني مأساوية، فاللاجئ يجد نفسه، بسبب أخطارٍ تهدده، يغادر بلده إلى بلد آخر، مجرداً من كل شيء، فاقداً أي حماية، يعيش في أرض غريبة، وبحاجة إلى المساعدة. ولأن اللجوء حالة مثلى للضعف والهشاشة الإنسانيين، فهي تلزمها الحماية من الحاجة والعسف، بموجب القوانين الدولية. هذه الحماية التي يُفترض أن يتمتع بها اللاجئ بوصف حالة اللجوء البائسة التي يعيشها مؤقتة، وهي عادة ما يجب أن تنتهي بأن يعود اللاجئ إلى وطنه، أو تزول حالة اللجوء من خلال التحول إلى مواطن في الدولة التي لجأ إليها، أو في دولة أخرى، حيث يتمتع بكل حقوق المواطنة في بلده الجديد، هذا ما حدث في حالات لجوء كثيرة، على الرغم من أن حالة اللجوء لعشرات ملايين البشر أصبحت مستمرة ومتزايدة في عالم اليوم.
شكلت الحياة في سورية نموذجاً إيجابيا لحياة المنفى الفلسطيني، حالة احتضان عالية التضامن، وصلت، في حالاتٍ كثيرة، إلى حالة الاندماج في الحياة السياسية الفلسطينية، فهناك سوريون كثيرون اختاروا الانضمام إلى الفصائل الفلسطينية، وقدموا حياتهم من أجل فلسطين. واختار فلسطينيون الانخراط في الحياة السياسية السورية، وانضموا إلى حزب البعث، وحصلوا على امتيازات في هذا الإطار، وهناك من انتمى لأحزاب المعارضة، ودفع ثمن ذلك سنوات طويلة في السجون. وفي الحالتين، لم يكن الانتماء الفلسطيني إلى قوى سورية ظاهرة تهدد العمل السياسي الفلسطيني وفاعليته في الأوساط الفلسطينية، ولا كان الانتماء السوري إلى الفصائل الفلسطينية يدفع هذه القوى للتدخل في الشأن السوري، على الرغم من التدخل السوري المستمر في الشأن الفلسطيني.
عانى الفلسطينيون في سورية ما عانى منه المواطن السوري، سواء على مستوى الحياة والمتاعب الاقتصادية، أو على مستوى القبضة الأمنية التي حكمت المجتمع السوري، وشملت المخيمات بشكل طبيعي، وهذه لم تكن معازل أمنية، كما هي المخيمات الفلسطينية في الجنوب اللبناني التي لا تخضع للأمن اللبناني. في سورية الموضوع مختلف، كل شيء تحت القبضة الأمنية، وما يخضع السوريون له من تدقيقات أمنية، يخضع الفلسطينيون له بالقدر نفسه. كان عيش الفلسطيني بشروط السوري يريح الفلسطيني، فلم يكن هناك تمييز ضد الفلسطينيين لأنهم فلسطينيون، كان القمع يشمل الجميع.
كان الشعور بعدم التهديد السمة البارزة لحياة الفلسطينيين في سورية، على الرغم من الخلافات المتكررة بين النظام السوري وقيادة منظمة التحرير، وكانوا يعتقدون أن مساراً واحداً يمكن أن يجعلهم يغادرون سورية، وهو مسار العودة إلى فلسطين.
فجأة، تبين أن الثابت يمكن أن يهتز، فلا يمكن لوضع اللاجئ أن يبقى ثابتاً، في الوقت الذي يهتز كل البلد الذي يقيم فيه، لم يكن من الممكن أن يبقى الوجود الفلسطيني على حاله، في وقت تشهد سورية فيه صداماً دامياً في كل المناطق السورية، بفعل الاحتجاجات التي اجتاحت سورية، وواجهها النظام بوحشية. امتد هذا الصدام من محيط المخيمات والتجمعات الفلسطينية إلى قلبها، في تلك اللحظة توحدت التجمعات الفلسطينية مع المحيط السوري، بالتعرض إلى القمع والقصف العنيف من المدافع والطائرات.
في حالة التهديد المباشر والداهم، يكتشف اللاجئ أنه لا ينتمي إلى المكان، أو هناك من يُفهمه
"عانى الفلسطينيون في سورية ما عانى منه المواطن السوري، سواء على مستوى الحياة والمتاعب الاقتصادية، أو على مستوى القبضة الأمنية التي حكمت المجتمع السوري"
ذلك. عند ذلك، يكتشف مرة أخرى هشاشة وجوده في المنفى. وهذا ما وصل إليه المسار الفلسطيني في محطته الأخيرة في سورية. بعد تعرض المخيمات للقصف العنيف، تغير كل شيء، المكان العامر بالناس والحركة يتحول إلى مكان مهجور، شيء ما ينكسر بعد ثبات عقود. لاجئون فلسطينيون جاءوا إلى أماكن متعددة في سورية، سكن أغلبهم دمشق وضواحيها، ليبنوا ما تيسر من الأبنية لتؤويهم في مكان ناءٍ، بعيداً عن المدينة.
في مكان بين أشجار الغوطة بأبنيته المتفرقة والبائسة، شيّد اللاجئون الفلسطينيون مخيماً كان اسمه اليرموك، بعد أن منحتهم مؤسسة اللاجئين أذون السكن على هذه القطعة من الأرض. بنوا حياتهم فيه بجهد وتعبٍ كثيرين، وحالفهم الحظ وتمددت مدينة دمشق، ليجدوا أنفسهم يقيمون في وسطها بعد عقود من العيش على هامشها، ما زاد في ازدهار المخيم، وجعله واحداً من أحياء دمشق المعروفة. لذلك، لم يكن مصادفة أن يطلق بعضهم على مخيم اليرموك صفة عاصمة الشتات الفلسطيني.
لم يكن المخيم ليلقى هذا الازدهار لولا التعامل السوري مع الفلسطيني بإعطائه حقوق العمل، ومن المفارقة أن هذه الحقوق التي منحتها سورية للاجئين الفلسطينيين، وقد تم إقرارها في ظل البرلمان الديمقراطي السوري الذي نجم عن انتخابات العام 1954 الأكثر تمثيلاً في تاريخ سورية الحديث. على الرغم من ذلك، ليست القصة قانوناً، كلنا نعرف إمكانية التلاعب بالقوانين في العالم العربي. الأهم تجربة احتضان الشارع السوري الفلسطينيين الذين لجأوا إلى سورية، وقد خفف هذا الاحتضان كثيراً من مرارة اللجوء وقسوته. كل العقود التي عاشها الفلسطيني في سورية لم تشفع له، فجأة يُقصف المخيم بالطائرات، كما تقصف مئات المواقع السورية، وبعد أن تعرّض مرات ومرات للقصف المدفعي. بهذا المتغير، شعر اللاجئ الفلسطيني أن حياته في مهب الريح من جديد، في بلد وجد فيه احتضاناً كثيراً. لا يعرف أين يذهب، وترتبك هويته كما ترتبك حياته، يستعيد كل المآسي التي مرّ بها إخوته من اللاجئين الفلسطينيين، ويحفظها عن ظهر قلب. يعود شريط الذكريات لينكأ الجراح التي عاشتها التجمعات الفلسطينية في الشتات، التجربة القاسية في الأردن، والأقسى منها التي وصلت إلى حد المذابح في لبنان وما زال الإذلال مستمرا، التهجير القسري من الكويت بعد الاحتلال العراقي، الذبح الانتقامي في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي.. كل مخزون الذاكرة من الظلم الذي وقع على الفلسطينيين استحضره لاجئو سورية في لجوئهم الثاني الصعب والقاسي. لجوء هز بقوة هويتهم التي كانوا يعتقدون أنها أقوى من أن تهتز.
كان مخيم اليرموك النموذج، فقد شكل هذا المخيم جزءاً من تاريخ فلسطين، لأن الوطنية الفلسطينية الحديثة ولدت في مخيمات اللجوء داخل فلسطين وخارجها، وكان لهذا المخيم دوره. كان اليرموك، بهويته الوطنية الفلسطينية المنفتحة على الجميع والحاضن لمن احتضنه، نوعاً من المزيج الوطني الفلسطيني العروبي. وعلى الرغم من أنه أكبر تجمع فلسطيني في سورية، ويبلغ عدد سكانه الفلسطينيين حسب تقديرات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" حوالي 150 ألف نسمة (قبل تهجير سكانه الذين بقي منهم اليوم أقل من 15 ألفا من الفلسطينيين والسوريين)، فإنه يعيش في وسط أغلبه سوري، حيث يقدر عدد سكان مخيم اليرموك بحوالي 700 ألف نسمة. لم يشهد هذا التعايش الفلسطيني ـ السوري أي صدام على الإطلاق، وكان من الصعب التمييز بين أبناء المخيم من الفلسطينيين أو السوريين. كان المخيم يفخر بحفاظه على الصلة القوية مع فلسطين، ويفخر بمئات الشهداء الذين زفهم على طريق النضال في معركة الوجود الفلسطيني. وبعد أن وجد الشعب الفلسطيني عنوانه السياسي، أخذت التجمعات الفلسطينية تدفع أثماناً غالية، كان نموذجها الأكثر قسوة تجربة اللجوء في لبنان، حيث مورس، وما زال يمارس، عليه التمييز، ويقر ضدهم قوانين عنصرية، نجحت في خفض أعدادهم في لبنان بشكل كبير، واختفوا من العراق، واليوم على طريق الاختفاء من سورية.
وقع الانهيار في مخيم اليرموك، كما المخيمات الأخرى، وكشف هشاشتهم وضع اللاجئين، وكشف أيضاً هشاشة الوطنية الفلسطينية. انهار مخيم اليرموك، بانهياره ينهار مكان آخر كان عنواناً لفلسطين، وينهار مكوّن من مكوّنات الوطنية الفلسطينية. اللاجئون الفلسطينيون الذين حملوا قليل متاعهم، وغادروا المخيم تحت القصف إلى كل بقاع الأرض، تغيّروا إلى الأبد، ثمة شيء ما انكسر داخلهم، وفي هويتهم في رحلة اللجوء الأخيرة.
أتى التصعيد الروسي الأخير في سورية كرد فعل وتكتيك سياسي وعسكري لإنقاذ النظام بعد أن توالت خسارته على الأرض، وقُوّض عمل مؤسساته الحكومية لصالح أجهزة الحرس الثوري الإيراني، وبات الأخير متفرداً وراضياً بنفوذه في مناطق ما يسمى سورية المفيدة. وعلى رغم من طبيعة تدخلها الطارئ وما يكشف من عورات للمنظومة الداعمة والموالية للنظام إلّا أن موسكو لن توفر جهداً في استثمار واقتناص الفرص المتاحة من أجل تحويل تدافعها الأخير إلى استراتيجية تمكّنها من الحضور بقوة في أي تسوية سياسية مستقبلية في سورية وإعادة نفوذها في المشرق العربي.
يُدرك الروس جيداً أن تدخلهم المباشر في ميدان المعركة دفع بشار الأسد للارتماء في أحضانهم بعد أن أعياه تدخل طهران المستمر والعنيف في شؤون إدارة مؤسساته الأمنية والعسكرية، الأمر الذي يُفضي بطبيعة الحال إلى إمساك القيادة الروسية بشكل كامل بمصيره لأول مرة منذ بداية الأزمة السورية، وبالتالي إمساكهم بورقة تفاوض مهمة للغاية رغم رمزيتها. تقوم الاستراتيجية الدبلوماسية الروسية بشكل رئيس على تلويحهم وتلميحهم لاستعدادهم التخلي عنه نزولاً عند رغبة أطراف عديدة في المجتمع الدولي مقابل تحقيق مكاسب مستدامة تمكّنها من التحكم في مصير سورية ما بعد الأسد.
أهداف التدخل الروسي في سورية
تسعى روسيا لتحقيق الأهداف الاستراتيجية التالية في سورية:
1. المحافظة على مؤسسة الجيش السوري ومحاولة إنقاذ استثمارها القديم والكبير في ضباطه وهيكلياته إضافة لعتاده ومنظوماته، وعلى رأسهم التركيبة الأقلّوية المؤسسة العسكرية.
2. محاربة تنظيم "الدولة" الذي بات يشكل مهدداً حقيقياً لأمنها القومي لكُمونه الهائل في منطقة القوقاز ودول الجوار الروسي الجنوبي.
3. الحفاظ على منفذها الأخير على البحر الأبيض المتوسط.
4. التحكم في مستقبل خطوط الطاقة من غاز ونفط في المنطقة التي يُمكن أن تعبُر من الأراضي السورية.
5. مُزاحمة الولايات المتحدة في إدارة شؤون المشرق العربي وما يترتب عليها من تخفيف الضغوط الاقتصادية عليها بهدف:
أ. التخفيف من الحصار الاقتصادي الأوروبي والأمريكي عليها.
ب. إيجاد اتفاق مع الفاعلين الرئيسيين لتحديد سعر النفط عالمياً.
اجتماعات فيينا
بدأت اجتماعات فيننا تحت عنوان "محادثات حول السلام في سورية" بدعوة روسية وأمريكية في الـ 23 من تشرين الأول 2015 حضره وزراء خارجية أمريكا وروسيا وتركيا والسعودية، واتفق فيه الحضور على تكثيف الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة السورية وعقد اجتماع دولي موسع يضم كافة الأطراف المؤثرة في الملف السوري بعد أسبوع. وبناءً عليه اجتمعت 17 دولة في الـ 30 من تشرين الأول، وأبرزها قطر، وإيران، وفرنسا، وبريطانيا، ومصر، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والمبعوث الدولي استيفان دي مستورا. وتمخض عن الاجتماع وثيقة جديدة باتت تعرف باسم بيان فيينا للسلام في سورية، وتنص الوثيقة المكوّنة من تسع نقاط على ضرورة إيجاد حل سياسي يحافظ على وحدة أراضي سورية وينهي أعمال العنف الدائرة فيها، كما أنها تدعو إلى تسهيل حوار سوري -سوري يفضي إلى نظام سياسي علماني يحمي حقوق جميع السوريين ويحافظ على مؤسسات الدولة السورية ويوحد الجهود "الوطنية" في محاربة الإرهاب.
اعترت اجتماعات فيينا غياب طرفي الصراع عنه، رغم حرص الدول الموقعة على بيانه الختامي على ضرورة اتكاء الحل السياسي على جهود سورية صرفه، كما أنّه أسس لمنطلق دولي جديد بديل عن بيان جنيف الذي اتخذه المجتمع الدولي قاعدةً لإتمام أي تسوية مستقبلية في سورية منذ عام 2012. وإذ تشير النقطة السابعة في البيان إلى استمرار العمل بموجب بيان جنيف ( )، إلّا أن السلوك الأمريكي والروسي يشيران بشكل واضح إلى تجاوزه لصالح بيان فيينا، ويظهر هذا التوجه بفجاجة في التصريحات الروسية ( ) في حين تدعي الولايات المتحدة ومعها الأمم المتحدة أن بيان جنيف لا يزال الهدف المنشود تحقيقه ولكن انطلاقا من محادثات فيينا هذه المرة.
كشف الاجتماع عن تشكّل ثلاثة فرق اتجاه موقفها من الأزمة، فريق تترأسه روسيا وفيه إيران ومصر وتؤيد الخلوص إلى نتائج تصب لصالح النظام السوري، وفريق تترأسه السعودية وفيه تركيا وقطر وفرنسا وتعترض بشكل واضح على سياسة موسكو وطهران في سورية، وفريق ثالث وعلى رأسه الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتتنطع للعب دور الوساطة بين الفريقين الأولين. وأوضح ما ترّشح عن الاجتماع نشوء توجه جديد للفصل في آليات التعامل مع المعارضة على معيار الاعتدال والإرهاب يحدده انصياع الكتائب لرغبة الروس والأمريكان في المشاركة في وقف إطلاق نار شامل وعدمه. وإذ تشير المعطيات الأولية لعدم رضوخ الفريق المناوئ للتدخل الروسي والإيراني في سورية لهذا التوجه حالياً، فإن موقفه سيزداد ضعفاً في حال أصرّت الولايات المتحدة على تبني هذا المعيار في تصنيف المعارضة السورية، خصوصاً إن فشل مجموع القوى الوطنية في اتخاذ مجموعة من الإجراءات العاجلة للتعامل معه.
لم يعد خفياً كما وصفنا في هذه الورقة سابقاً أن عملية تصنيف المعارضة إلى معتدلة وإرهابية تريح موسكو وتطلق لها العنان في تدخلها العسكري في سورية، وأن الولايات المتحدة راضية عما قد يسفر عنه من نتائج ما دامت تصب في "أولوية محاربة تنظيم الدولة والقاعدة" في سورية والعراق، إلّا أن الخطر الأعظم يكمن في اشتراك دي مستورا في هذه العملية وما ينتج عن حضوره هذه الاجتماعات من التزامه في مخرجاتها أيّاً تكن، وإن جاءت عكس قرارات مجلس الأمن 2169 و2170 والتي حددت تنظيم الدولة وجبهة النصرة فقط كمجموعات إرهابية. وإذ يعتبر هذا التوجه الناشئ خرقاً عما تم الاتفاق عليه سابقاً فإنه بالإضافة إلى ذلك يقيض دي مستورا في أداء مهامه في الوساطة، حيث تكشف المعطيات المتوفرة حالياً إلى سعي روسيا لضم كل من حركة أحرار الشام وجيش الإسلام إلى قوائم الإرهاب الدولية. وفي حين لا يشكل الفصيلان الأخيران جل من تصدى لمهمة مقاومة النظام وقوى الاحتلال الأجنبية في سورية، فإنهما يثملان عمادين ومحركين رئيسيين للمعارضة السورية في شمال وجنوب البلاد. لذا يمكن الخلوص: أن نجاح المساعي الروسية في تصنيف المعارضة سينتج عنه بضرورة الحال إلى تفكك قوى المعارضة ومقاومة النظام والاحتلال، وبالنتيجة استقرار الأمر لموسكو وحلفائها في سورية.
مسعى موسكو في سورية
لتحقيق ما سلف تسعى موسكو لخلق مناخ يشبه إلى حد كبير المناخ الذي أتاح لها التحكم في صيغة الحل النهائي في الشيشان، وذلك من خلال الإجراءات التالية:
1. تصدير نفسها أمام المجتمع الدولي كمفتاحٍ وراعٍ للحل، ويتجلى ذلك من خلال دعوتها إلى اجتماعات فيينا وتهدف فيها للوصول إلى صيغة توافق يلزم الحاضرين بقرارات تُمليها بشكل رئيسي المصالح الروسية، أو تتفق على أقل تقدير مع أهدافها العامة. وفي هذا السياق نجد أن دور أمريكا الوسيط في نقاشات فيينا يشير إلى قبول الإدارة الأمريكية المبدئي لهذه الصيغة.
2. إعادة بث الروح في مؤسسات الجيش العسكرية وترميمها بغية الاعتماد عليها بشكل كلي في حكم البلاد وضبط مظاهر التسلح، فالجيش كمؤسسة يُسيطر عليها ضباط متعاونون معها يضمن استمرارية مصالحها. ولذا تسعى روسيا اليوم إلى حل أجهزة الدفاع الوطني واللجان الشعبية للتحكم أولاً في عسكرة المجتمع الموالي. علماً أن الميليشيات غير التابعة لوزارة الدفاع والأجهزة الأمنية الرسمية للنظام يُسيطر عليها حالياً الحرس الثوري الإيراني.
3. تقديم تصور عن إطلاق المرحلة السياسية وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، ينطلق من إجراء إصلاحات دستورية تضمن التوازن بين الحقوق والالتزامات المترتبة على جميع الجماعات العرقية والطائفية من حيث هيكلة القوة والمؤسسات الحكومية، ثم عرض الدستور للاستفتاء الشعبي وبعدها يتم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وفق الدستور الموافق شعبياً، ويلاحظ غياب الحديث عن الأسد وموقعه في هذا التصور وتركه مسألةً للتفاوض.
4. استمالة معارضة سياسية وعسكرية حقيقية للنظام، وخلق خرق حقيقي في جبهة المقاومة الوطنية لقوى الاحتلال والاستبداد في سورية، حيث يدرك الروس جيداً أن استراتيجيتهم السابقة في الاتكّاء على هيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة وبعض شخصيات المعارضة الداخلية وما شابهها لن تُحقق شرعية شعبية كافية من شأنها إرضاء قطاعات هامة من المجتمع السوري المعارض، وبالتالي تسعى موسكو إلى تكوين كتلة حرجة في أوساط المعارضة التقليدية تخلق حالة الشك في أوساط المعارضة وتشرعن تدخلها بالحد الأدنى.
سياسات المواجهة والتعامل مع الاستراتيجية الروسية
تعمل روسيا على استخدام قوى محلية معارضة بهدف إضعاف الدور الفعّال للدول الرافضة لتدخلها في سورية، ويبدو أن الحلقة المستهدفة وفق الرؤية الروسية كل ما يقع على يسار حركة الأحرار وجيش الإسلام. وتسعى موسكو في هذا الصدد لفتح قنوات تواصل مع هذه القوى من خلال وسطاء محليين وآخرين دوليين. وبناءً عليه يتوجب على مجموع القوى الوطنية خلق مظلة سياسية موحدة، تُفوَض بشكل كامل لقيادة العملية التفاوضية مع روسيا والمجتمع الدولي، ويلتزم فيها الطيف الأوسع من قوى الجيش الحر والقوى الإسلامية. كما ينبغي على هذه الهيئة السياسية الموحدة أن تتمتع بالمتانة الداخلية والتنظيمية الكافية لدرء أي تصدُّع يُمكِّن الفريق الذي يترأسه الروس من استثماره مستقبلاً، ويُشكل مانعاً قوياً يحول دون الوقوع ضحيةً لأجندات أجنبية لا تتقاطع مع المصلحة الوطنية العليا.
وعليه يتوجب على الهيئة السياسية الموحدة الخروج بنقاط عملية وسياسات واضحة للتعامل مع هذه التحديات:
1. التصور حول هيئة الحكم الانتقالي وبلورة رؤية ومشروع المعارضة السورية لتشكيلها وآليات عملها.
2. تحديد تعريف السوريين للإرهاب والموقف تجاه المجموعات الإرهابية، وتأكيد إدراج الميليشيات العابرة للحدود المناصرة للنظام على لوائح الإرهاب مثل حزب الله وكتائب أبو الفضل العباس وغيرها.
3. التصور من وقف إطلاق النار على المستوى الوطني وآليات تطبيقه.
4. حدود وآليات التعامل مع دي مستورا.
لقد أثبتت التجربة الحديثة في الثورة السورية أن الطريق الأمثل لتحقيق القدر الأكبر من التماسك يتحقق من خلال الإنجازات العسكرية، وعليه لابد من تحريك جبهة دمشق وريفها إضافة إلى جبهة الساحل وتمكين جبهة حلب الجنوبية.
يجب العمل على إيصال روسيا إلى نفس نتائج التدخل الإيراني السابق وذلك خلال الثلاثة أشهر القادمة، حيث ستُواجه في النهاية طريقاً مسدوداً لتجد نفسها حبيسة هوامش تحرك بسيطة. إن الوصول إلى تسوية مع الروس من خلال التفاوض قبل أن تصل لهذه المرحلة خطأ استراتيجي ويُمكّنها من الخروج من المأزق التي وقعت فيه دون تحقيق أهداف الثورة السورية. إن الرد والسياسة المثلى للتعامل معها حتى ذاك الحين يقتضي بالضرورة خلق جبهة داخلية متينة ومنفتحة للجميع تمكن مجموع القوة الوطنية من التعامل مع تحديات المرحلة المقبلة وتساهم في استمرار الدول الداعمة في موقفها الرافض للتدخل الروسي.