يُقصف مخيم خان الشيح بالبراميل المتفجرة، وبأحدث الأسلحة الروسية. والمخيم لا يحوي "إرهابيين"، ولا مسلحين، لا في السابق ولا الآن. إذن، لماذا يُقصف؟
قُصف المخيم في درعا، بسبب اتهام الفلسطينيين بتقديم المساعدات الغذائية، حينما حاصر النظام المدينة، وكان ذلك قبل أن يصبح السلاح وسيلة ردّ الشعب السوري على وحشية النظام. وفي مخيم اليرموك، تحجج النظام بسيطرة "الإرهابيين" على المخيم، على الرغم من أن النظام وأتباعه من التنظيمات الفلسطينية كانوا يحشدون السلاح في المخيم، وأنه كانت للنظام علاقة بأول من اقتحموا المخيم. وهكذا في كل المخيمات الفلسطينية، في اللاذقية وحمص وحلب. لكن، ظل مخيم خان الشيح بعيداً عن السلاح، ولم يحوِ مسلحاً واحداً، وظل بعيداً عن الصراع. لهذا، يصبح السؤال عن سبب قصفه كاشفاً، ويوضّح هدف النظام من كل ما قام به ضد كل المخيمات الفلسطينية. ذلك أن قصف هذه المخيمات وتدميرها لا يرتبطان بوجود المسلحين، أو أن وجود المسلحين كان مبرّراً فقط، وأن النظام هو الذي عمل على زجّ المخيمات في الصراع.
يجب أن نتذكّر من أجل فهم الهدف من القصف، أنه، بعد احتلال العراق وتهجير الفلسطينيين منه، لم يسمح النظامان، السوري والأردني كذلك، بدخول هؤلاء، ووضعهم السوري في مخيم التنف في الصحراء سنواتٍ، إلى أن جرى نقلهم إلى أميركا اللاتينية. لماذا؟ لأن النظام خضع لقرار أميركي يفرض منع تمركز اللاجئين الفلسطينيين في محيط فلسطين، وتهجير من هم مقيمون فيها، حيث يجب أن يتشرّد اللاجئون بعيداً، لكي ينتهي حقهم في العودة.
ربما يُفهم قصف مخيم يحوي "مسلحين"، على الرغم من أن الأمر أبعد من ذلك. لكن، أن يُقصف مخيم لا "مسلحين" فيه، وأن يحاصر ويتعرّض للبراميل المتفجرة، وللطيران الروسي بكل أسلحته الحديثة جداً، فهو الأمر الذي يدفع إلى أن في الأمر هدفاً آخر، لا علاقة له بـ "المسلحين"، بل يطاول المخيمات نفسها. لهذا، انطلاقاً مما يتعرض له مخيم خان الشيح، يمكن القول إن النظام يعمل على تدمير المخيمات قصداً، ولهدفٍ يتعلق باللاجئين أنفسهم. وقد استغلت الثورة السورية، لكي يمارس النظام وحشيته ضد الفلسطينيين الذين اتهمهم بأنهم سبب "الأحداث" في درعا واللاذقية منذ الأيام الأولى للثورة. والواضح الآن أن هذا الاتهام لم يكن عبثياً، بل كان المقدمة لسياسة التدمير الممنهج للمخيمات.
إذن، يمكن القول إن ما يتعرّض له مخيم خان الشيح من قصفٍ وحصارٍ يكشف الهدف من كل ما تعرّضت له المخيمات الأخرى. وهو هنا، كما جرى لفلسطينيي العراق، تهجير فلسطينيي سورية بعيداً عن حدود فلسطين، وفق القرار الأميركي الذي يأتي خدمةً للدولة الصهيونية التي تريد التخلص من "مشكلة اللاجئين" من خطرهم، وهم يقطنون في محيط فلسطين.
يتقصّد النظام الممانع، إذن، تدمير المخيمات، وهي ورقةٌ يقدمها للدولة الصهيونية التي يحاول، منذ مدة، أن يتواصل معها من أجل "السلام"، وبالأساس دعم بقائه. وهي "مقاولةٌ" يقبض عليها مالاً. لكن "الجو الفلسطيني" لا يلتفت إلى ذلك، لأنه يتمسّك بـ "دولة الممانعة"، وتزجّ تنظيماتٌ ملحقةٌ به فلسطينيين في حرب النظام ضد الشعب السوري. وتقف تنظيماتٌ أخرى متفرّجة، أو خرساء، لأنها تدعم النظام الممانع، أو لا تجرؤ على قول رأيها، ليس في الثورة السورية، حيث لم يطلب منها أحد ذلك، بل فيما يحدث للمخيمات. والآن، لمخيم خان الشيح الذي هو خارج "الصراع السوري السوري"، حيث لا سلاح ولا مسلحين يكونون مبرراً لتدميره.
بالضبط، لهذا السبب يجب أن يتوضح هدف النظام من قصفه، وبالتالي، من تدمير مخيماتٍ أخرى. لا يتعلق الأمر بمواجهة "إرهاب"، بل بسياسة تدميرٍ ممنهجٍ للمخيمات الفلسطينية، بغية تهجير اللاجئين، بعيداً عن فلسطين. الممانعة تفعل ذلك.
جاءت عملية "الغضب لحلب" التي بدأت، بعد ظهر الأحد، لتعيد خلط الأوراق، وتضع المسألة السورية أمام وضعٍ مختلفٍ ومغايرٍ لما كانت تخطّط له الأطراف المؤثرة في المعادلة، أي روسيا والولايات المتحدة. وفي الوقت الذي ساد الاعتقاد، خلال الأسبوع الماضي، أن معركة حلب انتهت لصالح روسيا والنظام السوري، قلبت المعارضة الطاولة، وتمكنت خلال يومين من استعادة المبادرة، وتغيير المعطيات الميدانية على نحو أصاب الجميع بالصدمة.
دخلت العملية يومها الثالث، ولم تتمكّن روسيا والنظام السوري والمليشيات التي تقاتل إلى جانبه من وقف زحف الهجوم الكبير الذي بدأ من جنوب المدينة، ليفكّ الحصار عنها من جهة الراموسة ومدرسة المدفعية، أي غير طريق الكاستلو الذي صار تحت سيطرة النظام وحلفائه منذ أكثر من أسبوعين. وبات واضحاً، حتى الآن، أمران أساسيان، الأول تصدّع جبهة النظام في هذا القطاع. والثاني أن هجوم المعارضة عمليةٌ متقنةٌ ومدروسةٌ، ومخطط لها أن تحقق أهدافاً محددة.
كان الأسبوع الذي سبق العملية من أسوأ الأوقات التي مرّت بها المعارضة السورية، منذ بداية الثورة، لأنها كانت مهدّدة بخسارة حلب، وعلى الرغم من أن هذه المعارضة فقدت مواقع كثيرة، خلال السنوات الأخيرة، في الحرب ضد "داعش" أولاً، ومن ثم أمام الدعم الروسي المفتوح للنظام، إلا أن خسارة حلب كانت ستكون الضربة القاضية التي ستنهيها على المستوى الاستراتيجي، وكان ذلك واضحاً من شكل تعاطي النظام والروس مع مقاتلي المعارضة داخل المدينة، حيث بدأ النظام يعرض عليهم الاستسلام، وصارت روسيا ترسم لهم ممراتٍ للخروج، وانزلق إلى هذا الإخراج المذلّ مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، الذي أصدر تصريحاتٍ تكفّل فيها باستعداد الأمم المتحدة تنظيم عملية استسلام المدينة.
لم يكن أحدٌ من المتابعين للوضع السوري يعتقد أن الموقف سيتغير بين عشية وضحاها، وتنتفض المعارضة السورية لحلب على نحو ما هو حاصلٌ، منذ مساء الأحد، وبهذه السرعة. وقد فوجئ الروس، مثل النظام وإيران، وظهرت حساباتهم على قدرٍ كبير من الهشاشة والتسرّع وعدم دراسة دقيقة للوضع على الأرض، ويمكن القول، إن صدمة الروس كانت كبيرة، ولم يتمكنوا من الرد للاحتفاظ بموازين القوى التي حقّقوها، منذ تدخلهم لنجدة النظام قبل أكثر من عام، وتسرّب أنهم يبحثون عن وساطةٍ من أجل وقف إطلاق نار مدة أسبوع، الأمر الذي لا ينطلي على أحد أن هدفهم من ذلك هو الالتفاف على العملية، ووقف زخمها، ومن ثم تثبيت وضع النظام في جزءٍ من حلب التي بات مهدّداً بفقدانها بالكامل، إذا واصلت قوات المعارضة الهجوم بالقوة نفسها.
أخطر ما يهدّد المعارضة هو التجاوب مع دعوات وقف النار، قبل أن تتمكّن من تثبيت انتصارها على الأرض، وتحصينه على نحوٍ لا يسمح لروسيا وحلفاء النظام بالنيْل منه، ومثلما تصرّف النظام، الأسبوع الماضي، حين أبلغ الأمم المتحدة استعداده للعودة إلى مفاوضات جنيف، وفي ظنه أنه بات يملك ورقة حلب، على المعارضة أن تلعب هذه الورقة، وكلما حقّقت المعارضة مكاسبَ ميدانيةً، وأحكمت الحصار على النظام وحلفائه، كلما كانت أوراقها التفاوضية قوية.
جولة جنيف التي ستعقد، من حيث المبدأ في نهاية الشهر الحالي، وفق ما أعلن دي ميستورا، ستكون تحت تأثير نتائج معركة حلب، وستتحدّد اتجاهات التفاوض بناءً عليها. وقد يتأخر موعد الاجتماع، وجدول أعماله تبعاً لسير المعركة وحصيلتها. ولذا، يجري النظر إلى هذه المعركة، بوصفها مفصليةً في مسار الأزمة السورية.
ليست معركة حلب هبّة عابرة في الحرب السورية، بل تشير كل المعطيات إلى أنها مدروسة، من الأطراف السورية التي حقّقت أكبر قدرٍ من الوحدة، وبالاتفاق مع الأطراف الداعمة، الإقليمية والدولية.
لا تتصرف إيران بوصفها دولة. فذلك يتطلب التزام التعهدات والمواقف المعلنة والاتفاقات المعقودة واحترام الذات والآخرين وحداً أدنى من الثوابت. أما هي فأقرب إلى المرابين والسماسرة ووسطاء الصفقات الذين يعتمدون الخداع مبدأً والتحايل وسيلةً، ولا يهمهم سوى تحصيل أكبر ربح ممكن مهما كانت الكلفة الأخلاقية عالية، وحتى لو أضر ذلك بشركاء أو أتباع تستخدمهم لنصب المكائد.
وإذا نظرنا إلى سلوك نظامها منذ الانقلاب الديني في 1979، لعثرنا على خيط ناظم من المراوغة معتمد في مختلف مستويات السلطة، بدءاً من أزمه رهائن السفارة الأميركية وصولاً إلى الاتفاق مع الدول الغربية حول البرنامج النووي.
وكانت طهران دأبت طوال مرحلة التفاوض على الاتفاق الأخير على تأكيد التزامها تنفيذ ما يتم التوصل إليه، لا سيما الشق غير المعلن منه. وتوالت آنذاك تصريحات المسؤولين الإيرانيين التي تؤكد أن الإفراج عن ودائعها المجمدة وعودتها إلى المجتمع الدولي وفك الطوق عن اقتصادها لن تجعلها تزيد من اندفاعاتها الإقليمية المسببة عدمَ الاستقرار، بل إنها مستعدة للتعاون والتنسيق بحثاً عن حلول وتسويات.
لكن تبين أن هذا كله كان جزءاً من شباك الخديعة التي نصبتها لإقناع مفاوضيها بوهم استعدادها للخروج من صف الدول المارقة وتغيير سلوكها التخريبي في المنطقة والعالم، إذ سرعان ما عادت إلى سياسة المماطلة والتراجع والتلطي خلف ذرائع وحجج تتفنن في ابتكارها، متفوقة على الإسرائيليين في تلبس دور الضحية الساعية إلى الإنصاف.
وبعدما تخلت طوال فترة التفاوض عن شعار «شيطنة أميركا» و «موت إسرائيل» الذي طالما استخدمته للمزايدة على العرب والمسلمين ولتبرير تدخلاتها في المنطقة تسليحاً وتمويلاً، وانتقلت إلى «مهادنة» واشنطن والإشادة بحكمة إدارتها، ووزع مسؤولوها ابتساماتهم المصطنعة على المصورين وهم يتحدثون عن فتح صفحة جديدة في كتاب التاريخ، ها هي إيران تنقلب مجدداً على ما سبق وأعلنته، طمعاً في المزيد من الربح، ولأن «تنازلاتها» لم تكن صادقة أصلاً وليست في صلب استراتيجيتها البعيدة الأمد الهادفة إلى مد النفوذ وبسط السيطرة.
هكذا، تعتبر اليوم أن إدارة أوباما التي لم يبق لها سوى شهور قليلة لم تصدق وعدها، وسقطت في «الاختبار» الذي خاضته معها، ممهدة لبدء مفاوضات جديدة مع الإدارة المقبلة أياً تكن هويتها السياسية. فما حصلت عليه شكل الحد الأقصى الذي تستطيع الإدارة المنصرفة منحه، ولا بد من تحصيل المزيد من الآتي إلى البيت الأبيض إذا كان راغباً في انتزاع تعهدات شفوية جديدة منها.
هكذا أيضاً، ينقلب أتباعها الحوثيون على التسوية اليمنية بعد ثلاثة أشهر من المفاوضات أبدى خلالها الوفد الحكومي حداً أقصى من المرونة رغبة منه ومن الدول الخليجية الراعية في وضع حد للحرب في بلد يقف على شفير الانهيار.
وفي السياق نفسه، يصعد الإيرانيون بتلاوينهم المختلفة الحرب في سورية بمحاولتهم إسقاط حلب، وبدعم روسي انتهازي، ليس فقط لتحسين وضع حاكم دمشق التفاوضي، بل أيضاً لإحكام الطوق على لبنان المحتضر والمنتهَكة سيادته، فيما يبالغ تابعها «حزب الله» في تهجمه على العرب من أصدقاء هذا البلد، طمعاً في إبعادهم عنه نهائياً.
هذه إيران التي لا يمكن الوثوق بها ولا الركون إلى وعودها وتعهداتها. لذا، لم تبالغ الرياض حين قالت أنها جربت معها كل الوسائل وأتاحت لها كل الفرص، لكن عبثاً، على رغم تصريحات ديبلوماسيي طهران المنمقة.
عندما هربت يسرى مارديني (18 سنة) مع أختها في آب 2015 من جحيم سوريا وبدأت رحلة شاقة طويلة عبر لبنان وتركيا واليونان والبلقان فأوروبا الشرقية وصولاً إلى المانيا، كانت قد فقدت الثقة بوعود العالم بحل قريب لمأساة بلادها. وعندما كاد يغرق القارب المطاط الذي ركبته مع مواطنين كثيرين لها هربوا من مصير مشؤوم ، في مياه المتوسط بين تركيا واليونان، قفزت مع أختها في البحر وساعدت في إرشاد القارب إلى شاطئ الأمان. يومذاك لم يخطر ببالها أن شجاعتها تلك ستتحول إنجازاً لها ولكثيرين من مواطنيها.
من مخيم للاجئين في المانيا، شقت يسرى، ابنة داريا التي تحدت الموت والاعتقال، طريقها الى الالعاب الاولمبية في الريو حيث تشارك الجمعة في سباق المئة متر.
وعلى خطى هذه الشابة السورية التي انتفضت على واقع مرير وواجهت الموت بشجاعة، تحدى الحلبيون في عطلة نهاية الأسبوع القذائف والصواريخ والبراميل، وخرجوا الى الشوارع يفكون حصاراً فرضته عليهم قوات النظام بمساعدة روسيا وإيران وبتواطؤ العالم أجمع.
أضرم أولاد المدينة النار في دواليب ليربكوا مقاتلات تدك بيوتهم واحياءهم بلا رأفة ولا رحمة. وبستارهم الدخاني، فرض هؤلاء حظراً جوياً تلكأت دول العالم في اعتماده منذ أكثر من خمس سنوات، ونجحوا الى حد كبير في تخفيف الضغط عن مدينتهم التي أحكم النظام وأعوانه الحصار عليها، وسط تهديدات جوفاء فارغة من الحلفاء المفترضين.
كان الأول من آب موعداً لبدء عملية انتقالية سياسية في سوريا، إلا أنه مرَّ كغيره من المواعيد والخطوط الحمر والصفر التي رسمتها واشنطن، فاندثرت العملية تحت براميل النظام وحلفائه. والعواقب التي لوح بها وزير الخارجية الاميركي جون كيري في أيار الماضي للرئيس السوري بشار الأسد، إذا لم يلتزم الوقف الجديد للنار وخصوصاً في حلب، تبخرت، شأنها شأن سابقاتها. يومها قال كيري حرفياً إن الموعد النهائي للانتقال السياسي هو "الأول من آب ونحن في أيار، لذا إما أن يحصل شيء ما في الشهرين المقبلين، وإما ان يواجهوا مساراً مختلفاً جداً ".
لم يتوقع أحد بالطبع عملاً عسكرياً أميركياً ضد الأسد، لكن تصريحات كيري تلك أوحت بتغيير محتمل من حيث دعم المعارضة السورية، لكنّ شيئاً من ذلك لم يحصل. سقطت تهديدات كيري، شأنها شأن الخطوط الحمر للرئيس باراك أوباما، سقوطاً مدوياً. ووحدهم السوريون المصرون على الانعتاق من أسر النظام غيروا "المسار" عشية الاول من آب.
تعيش الثورة السورية في أيامنا هذه واحدة من أصعب مراحلها. حلب تتعرض لهجمات مركزة من جانب النظام وحلفائه، وكذلك معظم المناطق في الريف الدمشقي. كما تتعرض المنطقة الجنوبية لضغط كبير، بينما تعيش المناطق الشرقية دوامة حقيقية، نتيجة تبادل الأدوار وتنسيق المواقف بين قوات النظام وأتباعه و «داعش». في المقابل، لم يتمكن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على مدى عامين تقريباً من إنجاز أي تحوّل نوعي على الأرض، وكذلك التدخل الروسي الذي بدأ قبل نحو عام، وأتى صراحة لمنع انهيار النظام.
والتحوّلات التي طرأت على أولويات دول المنطقة الداعمة للفصائل المعارضة حدّت كثيراً من إمكانات هذه القوى، وقدرتها على مواجهة الحلف الداعم للنظام، المتمثّل في القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها بأسمائها المختلفة، فضلاً عن الإسناد الجوي الروسي.
ودفعت هذه المتغيّرات والتطورات بالماكينة الإعلامية الروسية والإيرانية، وتلك التي يتحكّم بها النظام وحزب الله، إلى جانب الطابور الخامس في المعارضة المدّجنة، إلى «التبشير» بقرب القضاء على الثورة، وبالتالي انتصار الحلف الداعم لزمرة الأسد.
وهناك اليوم من يتحدّث عن توافق أميركي - روسي لفرض خطة على السوريين، يكون الأسد جزءاً منها لأمد غير معلوم بعد. غير أن المعطيات والمؤشرات جميعها توحي بأن الإدراة الأميركية تمارس لعبة كسب الوقت، وترك الملف السوري بتعقيداته للإدارة المقبلة. أما الروس، ففي عجلة من أمرهم، يحاولون تغيير الموازين على الأرض لدفع الهيئة العليا للمفاوضات إلى القبول بشروطهم التفاوضية التي يحددونها مستغلين الأوضاع الإقليمية، والسلبية الأميركية، والارتباك الأوروبي، نتيجة العمليات الإرهابية المتوالية في غير دولة أوروبية.
ويُلاحظ أن أوضاع المعارضة السياسية هي الأخرى لا ترتقي إلى مستوى التحديات، فنرى تشتت القوى، وانشغالها بأمور ثانوية، ما يحبط المعنويات، ويدفع بالكثير من المتسلقين والانتهازيين إلى استغلال الوضع. بل هناك من يضع قدماً هنا وقدماً هناك في انتظار تبلور الأمور. لكن على رغم ذلك، هناك تصميم أكيد لدى غالبية السوريين على استحالة التعايش مع زمرة الحكم بعد كل الذي حصل. ويتذكر السوريون جيداً، وباعتزاز، الأشهر الأولى لثورتهم التي شهدت المظاهرات السلمية الضخمة في سائر المدن السورية، والتي كان عمادها الشباب المتعلم من مختلف المكوّنات، وكانت سلمية، تطالب بمستقبل أفضل لسورية.
ونحن هنا لسنا بصدد إجراء مراجعة شاملة لما حصل، وأدى إلى ما نحن فيه راهناً. ما نريد الذهاب إليه أن الشعب السوري بدأ ثورته بإمكانات وخبرات متواضعة، وأفلح في تغيير المواقف المعلنة على الأقل. واليوم، وعلى رغم قساوة كل ما جرى ويجري، يمكننا القول بأن السوريين اكتسبوا خبرات كبرى سياسية وميدانية، ومن المستحيل إعادة هذا الشعب إلى قفص الاستبداد والفساد.
من جهة أخرى، لا بد أن نأخذ في اعتبارنا أن أية خطة يتوصّل إليها الجانبان الأميركي والروسي، لا بد أن تُمرر عبر سوريين يمتلكون قسطاً من الصدقية، وإلا ستظل الأزمة مفتوحة على جميع الاحتمالات، وهذا ما سيعمّق الأزمات في الجوار الإقليمي (لبنان، العراق، تركيا، اليمن...)، إضافةً إلى استمرار موجات اللاجئين، والتهديدات الإرهابية، ما يثير مخاوف المجتمعات الأوروبية، وينذر بأيام سوداء ستواجهها، نتيجة التشابك والتفاعل بين التشدد الديني والتعصّب القومي.
المرحلة صعبة من دون شك، لكن مواجهة التحديات تستوجب الصبر والتحمّل والرؤية الواضحة المطمئنة للسوريين. كما تستوجب التركيز على العامل الذاتي عبر تجاوز الخلافات البينية الهامشية قياساً بالصراع الأساسي مع الزمرة المستبدة ورعاتها. وأمر كهذا القبيل يستلزم التوافق على مشروع وطني لسورية، يطمئن سائر السوريين من دون استثناء، بعيداً من التشدد الديني أو المذهبي أو القومي أو العقائدي.
ومن هنا نرى أن خطوة التقية التي أعلنت عنها جبهة النصرة لا تطمئن، بل تثير المزيد من الهواجس، ما لم تقرن بخطوات أخرى تؤكد حدوث تحوّل نوعي، وليس مجرد تكتيك عابر، تحاشياً لأية ضربات محتملة.
الأمور في سورية لن تحل بتلك السرعة التي يتحدثون عنها، بل ستأخذ وقتاً، من المرجح أن يكون طويلاً بكل أسف. وهذا ما يستدعي الاستفادة من الأخطاء التي كانت، والتركيز على نقاط القوة التي لم تأخذ حقها من الاهتمام: الجاليات، النشاط الميداني بكل جوانبه، النخب الفكرية والإعلامية السورية والعربية المناصرة للشعب السوري الخ...
لقد استخدم رعاة النظام وداعموه كل أوراقهم، وجلبوا كل ميليشياتهم، وتدخلت قوة عظمى كروسيا ضد الشعب السوري. لكن شعبنا قاوم الجميع، وسيقاوم. فهو يدافع عن قضية عادلة، وعن أرضه ومستقبله، فيما الغزاة قدموا بناء على حسابات مصلحية. وقد بلغوا نقطة الذروة في ما يتصل باستعراض قوتهم. لكن المزيد من التحمّل، والمزيد من التعقّل وإعادة ترتيب الصفوف وتنظيفها وتنظيمها، سيقلب موازين القوى عاجلاً أم آجلاً. فما نشهده راهناً عبارة عن جولة من جولات صراع إقليمي- دولي مرشح للمزيد من الاستمرار والتداخل، صراع يتمفصل حول سورية بوصفها مفتاح المنطقة. ومهما حصل فإنه لن يكون في مقدور أي كان أن يفرض على السوريين، إذا التزموا قضيتهم وتكاتفوا ودافعوا عنها كما ينبغي، أي حل لا يضمن مستقبلاً كريماً لأجيالهم المقبلة.
في الأفكار المتداولة في ميادين النقاش العام، رزمة قيم جديدة لا تشبه تلك التي ما برح الغرب يبشّر بها منذ الحرب العالمية الثانية. العدو الأول هو «داعش»، و «داعش» فقط. وكل من يقاتل هذا «العدو الأول»، وأياً كانت خلفيته وممارساته وقناعاته وسوابقه، ينبغي دعمه والتحالف معه للقضاء نهائياً على التنظيم الإرهابي بحيث «يصبح تنقّل المواطن من بيته وإليه آمناً». هكذا يخبرنا فرنسوا فيون، رئيس وزراء فرنسا الأسبق والمرشح المحتمل للرئاسة المقبلة.
ضمن ذلك المناخ الثقافي الجديد الذي تمليه ظروف الحرب الإرهابية ضد العالم، تتقدم أفكار اليمين المتطرّف بعد أن سقط احتكارها من جانب رموز ذلك اليمين وأحزابه، وتصبح مادة متداولة في شكل عادي داخل الأحزاب التقليدية، يسارية كانت أم يمينية. ينجح «داعش» في الكشف عن الوهن البنيوي لقيم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان لدى هذا الغرب، ويروج خطاباً يمجّد سلوك الاستبداد في العالم، لا سيما في عالمنا، لحماية أسلوب عيش الفرد في عالمه.
في أوروبا كما في الولايات المتحدة، دعوات صريحة للوقوف إلى جانب النظام السوري وميليشيات الحشد الشعبي وقوات حزب الله والميليشيات التابعة لإيران من أجل محاربة داعش. وفي تبرير الأمر انتهازية خبيثة تدعو إلى استغلال «موقّت» لكل من وضعوا سابقاً على قوائم الإرهاب أو اعتبروا ديكتاتوريات كئيبة من أجل صبّ الجهود على هزيمة داعش. في المقابل، تراقب تلك القوى المحلية تحوّلات الغرب وشططه باعتبارها انقلاباً في نظرة العالم إليها ومباركة لسلوكياتها في دعم الاستبداد ورفد المذهبية وتبديد أي أحلام لبناء ديموقراطيات على النسق الذي أقيم غرباً.
على هذا تصبح الاستراتيجية الروسية أساساً يجب البناء عليه. يمتلك الغرب الوقاحة في الإعلان صراحة أن لا نية أميركية، وبالتالي غربية، للذهاب مباشرة نحو حرب برية ميدانية ضد الإرهاب. أوباما لا يريد وستبقى العواصم معتكفة طالما أن أوباما لا يريد. وعليه، فإن الذين يقاتلون في الميادين دفاعاً عن نظام الأسد في دمشق ونظام الوليّ الفقيه في طهران ومصالحه في بغداد، يرتقون إلى مرتبة جنود يباركهم هذا الغرب حماية لأحيائه ومدنه. هذا تماماً ما يفسّر ذلك التحوّل في معركة حلب وما يبرر المناورات الخجولة التي بالكاد تتحدث عن مصير الأسد ومستقبل سورية، وبالكاد تقارب السلوك الإيراني في الميادين العربية من بيروت إلى صنعاء، مروراً بدمشق والمنامة والكويت إلخ...
وبغضّ النظر عن حيثيات داعش في ضرب المدن الأوروبية، فإن نتائج تلك الجرائم تصبّ مباشرة في مصلحة دمشق وطهران، على ما يطرح أسئلة حول الحوافز الحقيقية لعمليات الإرهاب في باريس وبروكسل ونيس وسواها، ونجاحها في صناعة رأي عام محلي يبارك نزوع المجتمعات نحو التسليم برؤى تدعو إلى ضرب التطرّف بالتطرّف وهضم التوجّه لرعاية الديكتاتوريات الدموية بأبشع صورها اتقاء لشرور «الذئاب المنفردة» الشاردة نظرياً من معاقل داعش في الموصل والرقّة وأشباههما.
يحصّن الغرب نفسه بجدار فكري لا يختلف عن ذلك الأسمنتي الذي تقيمه إسرائيل صوناً لأمنها. المعادلة بسيطة: أما وأننا لم نعد عابئين بتصدير الديموقراطية وحقوق الإنسان بصفتها قيماً إنسانية كونية تخصّ كل الحضارات، فإن الأولوية ستكون في الحماية الحصرية لعالمنا وعدم الاعتراض على شيوع الطغاة في عالمهم. بمعنى آخر، يستعد الغرب لإقامة ستار حديدي كذلك الذي قسّم العالم إلى شطرين في الخمسينات، بحيث يتقلص الحيّز «الحر» إلى الرقعة التي سبقت مباشرة سقوط الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، من دون أن يعني ذلك شمولها الدول الأوروبية التي تخلّصت من رعاية موسكو وهرعت باتجاه رعاية أوروبا والولايات المتحدة ومظلّتهما الأطلسية. ضمن تلك البيئة الجديدة، تروّج أسماء دونالد ترامب في الولايات المتحدة وبوريس جونسون ونايجل فاراج في بريطانيا ومارين لوبن في فرنسا إلخ...
الكل يبشّر ببشار الأسد شريكاً منطقياً ويتفهمون سلوكه. في باريس هذه الأيام، يتعرض رئيس الوزراء مانويل فالس لحملة بعد أن كشف مدير مخابرات فرنسي سابق أن الأجهزة السورية عرضت تسليم باريس لائحة بأسماء الجهاديين الفرنسيين في سورية، ورفض فالس ذلك لرفضه تبادل المعلومات مع نظام الأسد الديكتاتوري.
تنقلب المفاهيم وتسقط المسلمات. يشنّ الرأي العام حملة لا تمقت الطغاة ولا ترى بهم شراً. يحتاج وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى المرور بموسكو حتى تبدأ معركة حلب. فالحدث نتاج اتفاق لا خلاف، وما على الجوقة الغربية بعد ذلك إلا أن تطالب بمراعاة الجوانب الإنسانية أو التشكيك في مقاصد الممرات الإنسانية. تدعونا تحفّظات باريس ولندن وبرلين وواشنطن إلى تفحّص وجاهة الممرات لا وجاهة المعركة الكبرى في حلب.
يبشرّنا رئيس وكالة المخابرات المركزية في واشنطن، بأن سورية لن تعود موحّدة. ليس في التبشير من صاحب أكبر مخزن معلومات في العالم استنتاج أو استشراف. هو قرار تعمل موسكو وواشنطن على تسويقه بغضّ النظر عن أدبيات السوريين، معارضة ونظاماً، الخالية من أي مرامٍ تقسيمية. الأمر يتطلب ربما التعجيل بإسدال الستار، والعودة إلى المربع الأول حيث فصل سورية المفيدة بقيادة الأسد عن تلك التي ستستوطنها الجماعات وفق استشراف جون رينان رأس «سي آي إيه» الأول.
يباغتنا وزير الخارجية الأميركي جون كيري برياح أمل سيرى ماذا سيفعل خلال ساعات، لتُمطِر برداً وسلاماً على السوريين المنكوبين بنظامهم وإصراره على «الانتصار»، وبإيران التي تراهن على «الخوارق» دفاعاً عن «مصالحها» في سورية، ولا ترى حلاً إلا بسحق المعارضين للرئيس بشار الأسد.
اعترف كيري بعد صحوة مباغتة بأن خريطة الطريق إلى تسوية جنيف، لم يتحقق منها ما يمكن أن يفتح الباب للعملية الانتقالية، فيبرّئ بالتالي إدارة الرئيس باراك أوباما من وصمة التواطؤ، على رغم كل ما شهدته سورية من مجازر وجرائم حرب.
وربما لم يكن مجرد أمنيات، التكهُّن بصفقة ما بين أوباما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تقود سورية إلى مرحلة جديدة انطلاقاً من تبريد جبهات القتال، قبل انتخاب الأميركيين رئيساً للولايات المتحدة. لكن إصرار الروس والنظام السوري على خنق المعارضة في حلب، ولو كلّف تدمير ما بقي من المدينة، وقتل آلاف من المحاصرين فيها، يستبعد مراعاة الكرملين الحسابات الانتخابية للديموقراطيين في أميركا. وما دام هناك إعجاب متبادل بين بوتين والمرشّح الجمهوري الجهوري دونالد ترمب، يمكن النظام السوري أن يحلم بـ «خوارق» إيران لضم رجل الأعمال الصاعد إلى سلّم مقاومة «التكفيريين»، ولو كانت بين مشاريعه إثارة فتنة في أميركا ضد كل مسلميها.
رغم كل ذلك، وبعد كوارث الدجل الأميركي في مزاعم دعم واشنطن المعارضة «المعتدلة» في سورية، فلنثق باتكال «المفوض السامي» للأذرع الإيرانية، اللواء قاسم سليماني، على «الأثر الخارق» لـ «لواء فاطميين». نراه جلياً في الأرض المنكوبة بالنظام وحُماته، ونلمسه في «تواضع» حاكم يصر على «نصر» كامل، على رغم تشكيك الأميركيين في عودة سورية.
لدى الروس، لا جزرة للمعارضة السورية، مهما روّج الكرملين لمقولة «الحرب على الإرهاب» وأولويتها. لا جزرة بل مجزرة لا تتوقف، جسدياً معظم ضحاياها مدنيون لإخضاع المقاتلين، وسياسياً لشطب ما أمكن من الرموز المعارضين بتيئيسهم من إمكانات الحل.
وأما «داعش» الذي تمدِّد عمره في العراق، فضائح صفقات وفساد، ستعطّل تعبئة لتحرير الموصل، فهو أبعد ما يكون عن «التوبة»، كحال كل إرهاب. ينطبق ذلك أيضاً على أهداف التنظيم في سورية، حيث كل مجزرة تُحسَب رصيداً في خدمة النظام.
لا جزرة، ولا توبة يمكن أن تخفّفا معاناة السوريين على أيدي جلاّديهم. وإذا كان بديهياً أن أوروبا القلقة ارتبكت أمام ضربات الإرهاب في عواصم ومدن لا تكنّ الودّ للنظام السوري، فانشغلت عن المأساة بالتعبئة الكبرى، وتركيا انهمكت بمطاردة «أشباح» الانقلاب، وتطهير كل الدولة من «سرطان المؤامرة»... فالأكيد في المحصّلة أن الكرملين بات طليقاً، يمارس سياسة الأرض السورية المحروقة، بمَنْ عليها، إلى أن تحين ساعة رسم الخرائط.
كسِب بوتين حصة الأسد على البحر المتوسط، عزّت إيران نفسها بأنها «تشغِّل» الروس لحسابها، وما إن ينكفئوا حتى تقطف نظاماً مهترئاً، لا يقوى على الاستغناء عن مظلتها العسكرية- الأمنية. وهذه بالطبع رؤية لا تتطابق مع رغبات الروس، ولا أطماعهم، في حرب «ناعمة»، القوة العظمى تكتفي فيها بتوجيه نصائح إلى خصم غيّر خريطة أوكرانيا، ويصول ويجول في سورية كأنها مجرد بحيرة على كتف البحر الأسود.
المفارقة أن تعتمد إيران أيضاً نهج التحدّي وتحرّض حلفاءها الحوثيين في اليمن على الاقتداء به، فلا جزرة يقبلون بها لتسهيل التسوية ووقف الحرب، ولا توبة عن حسابات «الربح الصافي»، كل شيء أو لا شيء... ولا رجعة حتى الآن عن استهداف الحدود السعودية، رغم الفارق في ميزان القوة بين جماعة عبدالملك الحوثي وأنصار علي صالح، والتحالف العربي بقيادة المملكة.
يصرّ بوتين على استغلال غياب أي دور غربي فاعل لوقف المآسي في سورية، تصرّ طهران على انتهاز فرص الصمت الأميركي- الغربي السلبي على كل ما يرتكبه الحوثيون في اليمن، تحدّياً لمجلس الأمن ومجلس التعاون الخليجي. ففي ذاك ذروة المسعى إلى تسعير الصراع المذهبي، خدمة لهدف إيران الأول، وهو إشغال السعودية ومحاولة تطويقها، لتقبل التفاوض مع طهران وبشروطها، على قضايا عربية.
من سورية إلى اليمن، المنطقة على عتبة شهور مريرة من الصراع، على قاعدة لا جزرة ولا توبة، ولا عصا لمجلس الأمن لردع التمرُّد على الشرعيات، ولجم أحلام القيصر والمرشد.
نشرت جريدة «الغارديان» اللندنية وسط عدد لها الأسبوع الماضي صورة ملأت صفحتين عن الخراب في حلب. ما تصورت في حياتي أن يصيب مثل هذا الخراب واحدة من أجمل مدن العالم وأقدمها.
زرت الشهباء بمناسبة ألفية مار مارون عام 2010، والناس في السوق احتفوا بالرئيس وزوجته، فالنساء زلغطن والرجال صفقوا، وأحاطوا بموكبنا. كل هذا ضاع في أسبوع واحد بعد أحداث درعا في آذار (مارس) سنة 2011. كنت في الكويت في ضيافة الشيخ ناصر المحمد، رئيس الوزراء في حينه، وراهنتُ على أن الرئيس سيحل المشكلة في أسبوع، واعترض مسؤولون كويتيون حاضرون وقالوا لي إنني لا أعرفه. قلت أنا أعرفه وأراه مرة أو اثنتين في السنة (ثلاث مرات عام 2010) وأنتم لا تعرفونه. أقرّ اليوم بأنهم كانوا يعرفونه أكثر مني.
أقرأ الآن عن اجتماع آخر بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي جون كيري وسيرغي لافروف. كم مرة اجتمعا؟ ماذا حققا في أي اجتماع سابق؟ لماذا يفترض أن يكون اجتماعهما الأخير أفضل من كل اجتماع سبقه؟ أيضاً في الوقت نفسه كان المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا يشارك في اجتماعات في جنيف لمسؤولين عسكريين وسياسيين. ماذا حققت الاجتماعات المماثلة في السابق؟ لا شيء. ماذا حقق دي ميستورا في ألف اجتماع رغم حسن نيته؟ لا شيء.
كان كيري سلم الروس في موسكو مسودة اتفاق يعارضه وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر. لو اتفقت إدارة اوباما كلها على هدف واحد في سورية لما حققته فكيف وأركانها مختلفون. الحديث هنا عن دعم معارضة معتدلة. الحرب هي بين بطش النظام وإرهاب «داعش» و «النصرة» (أصبحت الآن فتح الشام) وأمثالهما. أين المعارضة المعتدلة؟ هناك معتدلون من أهل سورية، إلا أنهم الجانب الأضعف في الحرب من اليوم الأول وحتى اليوم.
أيضاً وأيضاً بريطانيا وفرنسا وألمانيا وضعت ورقة مشتركة في صفحتين تضمنت مبادئ الانتقال السياسي في سورية للضغط على الأميركيين والروس. لا أعتقد أن هذه الدول لها تأثير في سورية، وأرجو ألا يكون موقفها من نوع ما شهدنا منها في ليبيا.
الحلفاء الغربيون قادوا ليبيا الى الخراب الذي نشهده فيها اليوم، والخراب في سورية أفظع والضحايا بمئات الألوف. وقف إطلاق النار الأخير في سورية بدأ في شباط (فبراير) الماضي فلم يتوقف القتال يوماً، وفي حلب الشهيدة، أو ما بقي منها تحت حصار النظام، هناك 300 ألف مواطن في أحيائها الشرقية يفترسهم الجوع والعطش والمرض ولا أمل لهم بالنجاة، مع أن أسراً قليلة استطاعت الفرار والمعارضة شنت هجوماً لفك الحصار.
أقرأ أن المناخ لعقد اتفاق اميركي - روسي أفضل كثيراً، وأرجو ألا يكون إسقاط المروحية الروسية سبباً لضياعه، فالرئيس باراك اوباما، في الأشهر الأخيرة له في البيت الأبيض، يريد إنجازاً يكون جزءاً من إرثه السياسي، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون سيترك منصبه في آخر كانون الأول (ديسمبر) وأيضاً يريد إنجازاً يُذكر له. باراك اوباما حسن النية جداً، إلا أنه كان جباناً متردداً على امتداد ثماني سنوات ولا أراه سيتغير في ستة أشهر. أما بان كي مون فلا يعرف شيئاً عن بلادنا، وقد رأينا أخطاءه في كل بلد بل حمقه في الحديث عن البحرين فهو يدافع عن رجل واحد ولا يرى الولاء الخارجي السافر لبعض المعارضة البحرينية.
منذ «وقف» العمليات العسكرية في سورية بموجب الاتفاق الذي بدأ تنفيذه نهاية شباط (فبراير)، قـُتـِل أكثر من خمسة آلاف مدني بينهم أكثر من ألف طفل وفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أخشى أن يؤدي أي اتفاق جديد الى مزيد من القتال والقتل لأن النظام لن يتغير والإرهاب لن يغير موقفه، والولايات المتحدة في واد وروسيا في وادٍ آخر، وايران و «حزب الله» في وادي النظام السوري، والأمة في بئر إن لم تكن في وادٍ.
ما يجري في المشرق العربي، وفي سورية خصوصاً، من استهتارٍ مستمرٍ بالقيم والأعراف والمواثيق الإنسانية، وتهديمٍ منقطع النظير للمدن التاريخية على رؤوس سكّانها، وفرض حصار الجوع وتشريد ملايين البشر، مع بقاء المجتمع الدولي ومنظماته القانونية والإنسانية مكتوفة اليدين، أو عاجزةً عن القيام بأي عملٍ لوقف المجازر الشنيعة، ودفع الأطراف نحو حل سياسي، في وقتٍ تحتفظ فيه أكبرها بقواعد عسكرية وقوات وأساطيل جوية جاهزة للتدخّل، وتتدخل بالفعل في أكثر من مكان. لكن، ليس حيث ينبغي التدخل، ما يجري يشكّل حدثاً غير مسبوق في تاريخ العالم الحديث. وهو حدث لا يمكن من أجل تفسيره الاقتصار على أدوات التحليل التقليدية للصراعات السياسية أو للثورات الاجتماعية، أو حتى لحروب التوسع الإقليمي والنفوذ الدولي. ويحتاج فهمه، في نظري، إلى إطار نظري أشمل، يتعلق بتفسير أو تحليل ديناميات نشوء المدنيات المختلفة وصراعها وتوسعها واندثارها.
أفول الشرق
والمقصود، في حالتنا، المواجهة التاريخية المستمرة منذ قرون، بين عالم الغرب الصاعد وعالم المتوسط المشرقي الذي أفل نجمه، بعد أن تربّع على قمة الهيمنة القارية قروناً طويلة سابقة. وليس المقصود بالغرب، هنا، منطقة جغرافية، وإنما دائرة جيوسياسية، تطور داخله عبر الزمن نمط حياة وأسلوب في النظر والعمل والإدارة والحكم والإنتاج، يشمل بلاداً وشعوباً وثقافاتٍ عديدة. وهذا ما نعنيه أيضاً بالشرق الذي يشمل دائرة جيوسياسية متوسطية، تبلورت فيها عبر العصور علاقات خاصة، ونمط تفكير وحياة تناقلتها امبرطوريات تاريخية عديدة، وشكلت هويةً مدنيةً تتجاوز التنوعات الثقافية، هي ما نسميها المدنية الشرقية المتوسطية، والتي ورثتها آخر الامبرطوريات الإسلامية فاحتفظت بتسميتها.
كلنا نعرف أن أوروبا، قبل أن تخرج من بربريتها، وتقيم صرح حضارةٍ لامعة غيرت معالم الحضارة الإنسانية، وتتحول إلى منارة للمجتمعات الأخرى، عاشت قروناً طويلةً تحت الهيمنة الفكرية والسياسية والعسكرية للامبرطوريات التي نشأت وترعرعت في المشرق، الذي شكّل منذ أقدم العصور مهداً لحضارةٍ كونية، ومرجعاً لمدنيةٍ عظيمةٍ، تعدّدت منابعها الثقافية والسياسية، وكوّنت، مع الزمن، دائرةً مشتركةً لتداول الأفكار وتبادل السلع والبضائع، قرّبت بين توجهات أفرادها وأنماط سلوكهم وتفكيرهم، في ما وراء تعدّد الأديان والثقافات والدول أيضاً. وصبّت في هذه الدائرة الجهود التاريخية لشعوب بلاد الرافدين، ووادي النيل واليونان والرومان والسوريين القدماء وسكان فارس واليمن والجزيرة العربية والكرد، وأخيراً الترك العثمانيين الذين أنشأوا واحدةً من أكبر الامبرطوريات، متعدّدة الأقوام والمذاهب والثقافات والأديان، عابرة للقارات، بسطت سيطرتها على المتوسط وهيمنتها القارية قرابة خمسة قرون.
وفي الصراع ضد هذه المدنية "الإسلامية"، وريثة امبرطوريات المشرق التي امتدّ نفوذها من إسبانيا إلى الهند والصين، وجمعت بين قومياتٍ وثقافاتٍ وأديانٍ ونحلٍ لا تُحصى، ولدت أوروبا الحديثة، وتشكّلت في مواكبتها الديناميات الفكرية والسياسية والجيوسياسية الجديدة التي قامت عليها المدنية الغربية التي انتقل إليها مركز إنتاج الحضارة وازدهارها، العلمي والمادّي، بشكلٍ مضطرد منذ القرن السابع عشر الميلادي. ولم يُتح لهذه المدنية الغربية الجديدة أن تستقرّ وتضمن تفوقها وهيمنتها العالمية إلا على أشلاء المدنيات السابقة، التي أسدل عليها سيف الحركة الاستعمارية الستار وحطم توازناتها، في الصين والهند وإفريقيا. وكانت معركتها الأقسى والأطول تلك التي خاضتها ضد المدنية الإسلامية لتفكيك مراكز هيمنتها العالمية : في الأندلس الأوروبية، وفي آسيا المغولية، وأخيراً ضد الدولة العثمانية التي بقيت تشكّل قوة عسكرية ضاربة في أوروبا نفسها حتى القرن الثامن عشر. فقد تم طرد المسلمين العرب والبربر طرداً كاملاً من إسبانيا وقتل من قتل وأجبر من بقي منهم على الانسلاخ عن جلده ودينه منذ عام 1492. وفي آسيا، حلت الملكة فيكتوريا إمبرطورةً على الهند محل السلطان محمد بهادر شاه عام1857. وفي المتوسط، دامت معركة تفكيك الإمبرطورية العثمانية وتحطيمها القرن التاسع عشر بأكمله، قبل توزع أملاكها بين الدول الأوروبية.
وعلى الرغم من أن مخطط تقسيم تركيا لم ينجح بسبب شراسة المقاومة الوطنية التركية بقيادة مصطفى كمال، إلا أن الحرب الغربية لا تزال مستمرة، ليس في سبيل السيطرة على موارد المنطقة المادية واللامادية، والتحكم بطرق المواصلات الدولية التي تحتل موقع القلب منها فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، بهدف منعها من التعاون وتوحيد جهودها أو إعادة تجميع أطراف الدائرة الجيوسياسية المتوسطية ومخاطر بناء قوة استراتيجية، عسكرية وسياسية وأيديولوجية، يمكن أن تهدّد مستقبلاً الغرب، أو تخلّ بالتوازنات الجيوستراتيجية القائمة، أو تعمل على إعادة تدوير الموارد الحضارية، أو تغير في معادلات القوة الشاملة على أعتاب المواجهة الحاسمة للغرب مع المدنية الآسيوية الصاعدة. وفي اعتقادي، من الصعب تفسير مجموعة كبيرة من التطورات التي شهدتها هذه المنطقة، والمسار الذي اتخذته نزاعات سياسية وإقليمية عديدة، وحيز الهمجية والتوحش والعنف المسموح فيه، وغياب أي جهودٍ دوليةٍ جديةٍ لدعم الحلول السياسية، خارج سياق هذه الحرب أو المواجهة الكبرى، أو بتجاهل إكراهاتها. وأقرب مثال على ذلك المصير الذي آلت إليه ثورات الربيع العربي التي شكّلت الحدث الأبرز في تاريخ تطور شعوب المنطقة، وفي مقدمها مصير الثورة السورية النازفة منذ أكثر من خمس سنوات.
إجهاض الثورات وتحطيم الدول وتقسيم الشعوب
هكذا، لم ينشئ الغرب إسرائيل، ويجعل منها قوة إقليمية رئيسية، وربما الأولى اليوم في المنطقة، حباً باليهود أو شفقة عليهم، أو تكفيراً عن المحارق النازية وسياساته اللاسامية، ولا أطلق يد السفاح بشار الأسد في شعبه، يستبيح دماءه، ويجوّع أطفاله، ويدمر حضارته، ويهجّر الملايين من أبنائه، ولم يغضّ النظر عن استخدامه الأسلحة الكيماوية وتلك المحرّمة دولياً لتدمير المدن وترويع المدنيين وإفراغ البلاد من أكثر سكانها ضماناً لحقوق الأقليات، علويين ومسيحيين ودروزاً وإسماعيليين وسريان، ولم يزوّد قوات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي "البايادي" (الكردي) بأفضل الأسلحة، ويكرس أسطوله الحربي لدعم تقدمها حبّاً بالأكراد أو تعويضاً لهم عن معاناتهم التاريخية.
وبالمثل، لم يسمح لطهران الخمينية أن ترسل حرسها الثوري ومليشياتها الطائفية لتحكم العراق وتتحكّم به، وتحوله إلى خرابٍ ومرتع للحروب الطائفية وحروب التطهير العرقية والمذهبية، وهو أغنى دول المنطقة وأكثرها ثروةً، ولا غض النظر عن عبور مليشياتها المذهبية المتوحشة نهر الفرات وبادية الشام حتى حدود المتوسط لدعم نظام الأسد المسخ الذي لا يتردّد في قتل شعبه وتشريده للاحتفاظ بالحكم، حباً بالشيعة أو تأثراً باستشهاد الحسين. تماماً كما أن غض النظر عن عمليات الإبادة الجماعية المنظمة في أكبر المدن السورية، وتشريد ملايين السوريين والعراقيين، وإطلاق يد المنظمات الإرهابية الدولية في المناطق السورية والعراقية لم يأت كرهاً بالسنة، أو انتقاماً منهم. فليس لدين الضحايا ومذاهبهم أي قيمةٍ في ذاتها بمنظور هذه المواجهة، وإنما ينبع استهداف مجتمعاتهم وتفتيتها لما يمثلونه، بامتدادهم على اتساع الرقعة المتوسطية، وهيمنتهم العددية، من إمكانات واحتمالات لإعادة حبال التواصل والتفاعل وإعادة التجميع والتوحيد للشتات المتوسطي الراهن، كما أظهرت ذلك خلال العقود الطويلة الماضية حركات الصراع من أجل وحدة المنطقة، سواء أتت في شكل وحدة قومية أو دينية.
كل هذه الخطط جزء من سياسة الحفاظ على الوضع الاستثنائي الهامشي للمشرق، ومنع نشوء قوة استراتيجية في المتوسط تهدّد الأمن الأوروبي الغربي، وتعدل في التوازنات ودورات التبادل، وتعيد توجيه الموارد والمكتسبات الحضارية وتوزيعها. والسبيل الرئيسي لتحقيق ذلك هو إبقاؤه تحت المراقبة، وفي قفصٍ من حديد، وإجهاض حركاته وتحييد شعوبه والقضاء، بشكل منتظم، على أي قوةٍ ناشئةٍ، من المحتمل أن تتحوّل إلى مركز قوة استراتيجية. وهذا الضغط الاستراتيجي الهائل والمستمر عقوداً على مجتمعات المشرق، وحرمانها من أي فرصةٍ للانعتاق والتقدّم هو العامل الأكبر والأشمل، في دفعها نحو الاضطراب وعدم الاستقرار بما يثيره من التهاباتٍ وتوتراتٍ دائمةٍ واختلالاتٍ وتأزماتٍ، تقوّض أي أسسٍ ثابتةٍ وسليمةٍ لاستقرار الدولة والحياة السياسية والأمنية والثقافية، وتحول حياة شعوبه وأفراده إلى سلسلةٍ لا تنقطع من الأزمات والنزاعات.
وما من شك في أنه، بنتيجة هذه المواجهة التاريخية التي خسرتها، تحوّلت منطقة المشرق التي كانت مقر مدنيةٍ مزدهرةٍ وجامعة، وأحد مراكز الحضارة الرئيسية في العالم، قروناً طويلة، إلى مسرحٍ للخراب والدمار والفوضى. وهي لا تزال تتراجع باستمرار، وتخسر على كل الأصعدة، الداخلية والخارجية، وتكاد لا تحقق أي إنجاز، حتى فقدت شعوبها أو هي في طريقها إلى أن تفقد جميع آمالها، وتغرق في اليأس والإحباط، بينما تحولت أوروبا المجاورة التي كانت تسبح في فوضى الصراعات الدموية الدينية والقومية حتى منتصف القرن الماضي إلى مركز الثقل الرئيسي، وموطن المدنية ومنتج الحضارة.
في مواجهة سياسات العزل والتهميش والحصار
منذ تبني الرئيس الأميركي، باراك أوباما، سياسة النأي بالنفس عن مشكلات المشرق والشرق الأوسط، بعد فشله المدوّي في إقناع إسرائيل بمشروع حل الدولتين الذي وعد به حلفاءه العرب، ولد اقتناع واسع في الرأي العام الدولي، الرسمي والشعبي، أن المشرق منطقةُ زلازل واضطرابات وعدم استقرار، لا أمل في علاجها. ومن الأفضل تركها لمصيرها. والحقيقة عكس ذلك تماماً، فليس هناك منطقة دمرت تدخلات الغرب أسس استقرارها وتوازناتها النفسية والدينية والسياسية والأمنية في العصر الراهن، وقضى تلاعب المؤسسات والأجهزة الأمنية الغربية بمؤسساتها وقياداتها على مستقبل تنميتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، كما حصل لهذه المنطقة المنكوبة من العالم، حتى أصبحت تحتكر اليوم أغلب الجهد الدولي الأمني والإغاثي والدبلوماسي.
وما يجري في المنطقة، اليوم، بعكس الادعاء السائد، هو أكبر تدخل دولي مشترك، حصل في بلد واحد وفي الوقت نفسه، في أي عصر، حيث تشارك 62 دولة رسمياً، بجيوشها وأساطيلها، بالإضافة إلى عشرات، وربما مئات، المليشيات من كل المذاهب والجنسيات، في عملية إخصاء استراتيجي طويل المدى، يهدف إلى استبدال الدولة والأمة والثقافة والمدنية والحضارة والفكرة الإنسانية، بزعماء مليشيات ومجالس عشائر وحشود شعبية وطوائف وقوميات ميكروسكوبية ومظالم وانتماءات وولاءات وعصبيات وعداوات أبدية. ولا يتردّد التحالف الدولي الذي سلم قيادته للثلاثي، الأميركي الروسي الإسرائيلي، غير المسبوق في العصر الحديث خارج المنطقة، في سبيل تحقيق هدفه من استخدام نار الإرهاب الكاوية التي تحولت منظماتها في أشهر قليلة، وبقدرة قادر، إلى جيوش وممالك وإمارات جبارة، تهدد المنطقة والعالم. وللهدف نفسه، يصر القادة الغربيون، كما يصر الإعلام على تسميتها بالإسلامية، حتى صار كثيرون يعتبرونها ممثلةً للمسلمين السنة عامة، وناطقة باسمهم.
وما من شك في أن اندلاع الثورات العربية في العقد الثاني من هذا القرن، ومشهد ملايين العرب المتجمعين في الساحات والمطالبين بحقوقهم، وفي مقدمها حقهم في المشاركة في القرار والحكم، قد قرع ناقوس الخطر بالنسبة لجميع القوى الخائفة من يقظة الشرق العربي. وكان القبول بمثل هذه المطالب يعني تلقائياً انهيار استراتيجية الغرب، للإبقاء على سيطرته الإقليمية، والتي كانت تعتمد، بشكل رئيسي، على تعاون النظم والنخب التابعة، وأحياناً العميلة. ولذلك، بعكس المظاهر، لم يتردّد الغرب السياسي، لحظةً، في اتخاذ قرار قيادة الثورة المضادّة لمواجهة خطر انتصار الشعوب، وعندما أبدى تفهماً وأظهر تأييده للثورة، كان هدفه الالتفاف عليها، واختراقها من الداخل، لإعادة توجيهها وضبطها. لكنه سرعان ما نظم عملية الانقضاض عليها، بالتحالف مع القوى التابعة له، وروح الانتهازية وغياب الثقة بالذات، وتغذية الأوهام عند كثيرين من أعضاء النخب المعارضة والمعارضات السياسية.
يتركّز الجهد العسكري والسياسي الغربي الراهن، من أجل إجهاض ما حققته المنطقة ومجتمعاتها من نمو في العقود الماضية، بعد حروب السبعينات، وإرجاعها قرناً إلى الوراء، كما وعد زعماء التدخل الأميركي في العراق سابقاً، على عدة أهداف: تحطيم الدولة المركزية الوطنية، أو تلك التي فشل في السيطرة عليها والتحكم بها من خلال النخب الموالية والتابعة له، وإطلاق دينامية حرب دينية شيعية سنية، ستشل المنطقة عقوداً طويلة مقبلة، وتقطع عليها، بسبب العداوات والأحقاد، أي أمل في استعادة وحدتها، والتعاون في ما بينها للوصول إلى بناء دائرة جيوسياسية واقتصادية وثقافية مستقلة ومستقرة وفاعلة، وفتح ملفات المنطقة القومية المعلقة، وفي مقدمها قضية القومية الكردية. لكن، ليس وحدها. وترميم النخبة التابعة التي فقدت سمعتها، وبان تهافتها، وإعادة الرهان على القوى الانقلابية العسكرية، والتعاون معها، وتقوية أجهزة القمع الاستخباراتية التقليدية، والتنسيق معها بشكل كامل.
في هذا السياق، يندرج أيضاً تشجيع الولايات المتحدة وحلفائها العراق، في التسعينات من القرن الماضي، على شنّ الحرب على إيران، بعد سقوط النظام الشاهنشاهي، لإطلاق دورة عنف وحروب إقليمية جديدة. وللغرض نفسه، صمم جورج بوش الابن وحلفاؤه التدخل العسكري في العراق عام 2003، لينهي وجود الدولة العراقية المركزية، ويرعى عملية تقسيم البلاد وتدمير وحدتها القومية والدينية ومؤسسات الدولة الحديثة، ويقضي على أي احتمالٍ لاستعادة العراق هويته، وولادة قوة استراتيجية وازنة فيه. وهو الغرض نفسه الذي أوحى للرئيس أوباما، ولحلفائه، بعدم التدخل لفرض الحلّ السياسي في سورية، والحيلولة دون تطوّر الصراع نحو الحرب الأهلية والحروب بالوكالة، وانتشار منظمات الإرهاب الدولية، وخطر إشعال حرب سنية شيعية إقليمية، تقضي على كل ما أنجزته المجتمعات خلال القرنين الماضيين، وتعيدها إلى القرون الوسطى. وأكبر دليل على ذلك إطلاق يد الروس والإيرانيين والأسد تقريباً من دون قيود أو حتى انتقاد، والتهاون في وقف الانتهاكات اللامسبوقة لمواثيق الحرب، وغضّ النظر عن تعميم سياسة التجويع والتشريد والقتل العشوائي، فالمقصود تمديد أجل الحرب إلى أن يقتنع السوريون، كما اقتنع العراقيون، بالطريقة نفسها، من قبل، باستحالة الحفاظ على دولتهم المركزية، ويقبلون التقسيم، على أسسٍ طائفيةٍ وإتنية، تحت غلالةٍ خادعةٍ من الفيدرالية الكاذبة. ولا يتردّد قادة روسيا، في حماسهم لانتزاع الزعامة في الحرب الحضارية ضد الإسلام والمسلمين، في الإعلان صراحةً عن استحالة القبول بهيمنةٍ سنيةٍ في سورية، وربط السلام فيها بتحقيق التوازن الطائفي. ما يعني، أحد أمرين: إما تعميم عمليات التهجير القسري للمسلمين حتى تقل نسبتهم على عدد السكان الكلي، أو تشجيع حروب التطهير المذهبي، حتى يتحقق رسم حدود آمنةٍ وقويةٍ للدول الجديدة التي تهدف، باسم حماية الأقليات الاتنية والطائفية، للحيلولة دون نشوء دول قوية.
وفي هذا السياق أيضاً، تصبّ مجموعة الأبحاث النظرية والإعلامية الغربية المتزايدة التي تريد أن تقنع العرب والمسلمين من سكان المنطقة بتناقض فكرة الدولة المركزية مع التقاليد والثقافة والبنية الاجتماعية العربية والهوية الإسلامية، وتشجعهم على رؤية الحل لمشكلاتهم السياسية في العودة إلى الدول الإتنية والطائفية الصغيرة، بدل الاستمرار في الكفاح من أجل دول مدنية ديمقراطية حرة. ومن الواضح أن مثل هذه الدول التي لم يعد لها أي حظٍ في البقاء في عالم اليوم بمواردها الذاتية، سوف تتحوّل إلى ذئابٍ على بعضها، لاحتكار الموارد المحدودة في المنطقة ووضع اليد عليها، كالنفط والغاز والماء، أو سوف تجد نفسها مضطرةً للعمل مباشرةً في خدمة الدول والاستراتيجيات الدولية الأمنية والهيمنية لتأمين مورد رزقها وحماية نفسها من الدول الأقوى القريبة والعدوة. ويجد هدف تحطيم الدولة المركزية، كما حصل في الحالة العراقية، هوىً خاصاً لدى إسرائيل التي تمثل، في معركة تقويض قدرة شعوب المنطقة على الاستقلال والتحرّر وبناء قوة استراتيجية تحفظ أمنها وحقوقها، قاعدة متقدمة عظيمة الأهمية، ورأس رمحٍ لا يعوّض بالنسبة لعموم الغرب. وتجد تل أبيب، في دورها الجديد والثمين هذا، فرصتها التاريخية لتطبيع وضعها الاستثنائي داخل هذه المدنية الغربية، والتعامل معها وداخلها كقوة مستقلة وند، بعد أن بقيت، عقوداً سابقة طويلة، عالة عليها.
التخبط في رمال متحركة
على الرغم من هذه الخسارة الاستراتيجية التاريخية التي منيت بها، والإخفاقات المتكرّرة التي عرفتها في كل الميادين، العلمية والسياسية والاقتصادية والأمنية، اتسمت استجابات شعوب المشرق لهذه التحدّيات، منذ الكارثة الاستعمارية الأولى، بردود الأفعال والمقاومات المتبعثرة والمتقطعة، وافتقرت، ولا تزال، للرؤية البعيدة العالية، وللاستراتيجية الشاملة. وتتخذ ردود أفعالها اليوم، بصورةٍ أوضح، شكل التشنجات والتهجمات الفردية والجماعية، وزيادة الرهان على العنف اللفظي والمادي الأعمى الذي يضرّ المشرقيين، أكثر مما يضرّ خصومهم، ويعمّق قطيعتهم مع العالم الذي يحتجون على عدم تعاونه وتهميشه لهم، ويزيد من استفزاز قواه العدوانية الموجهة لقهرهم.
والحال، لا يمكن لمثل هذا العنف وردود الفعل التي تسم استجاباتنا لتحدّي العزل والتهميش والإفقار، وما يرتبط به من فساد نخبة مارقة واستبدادها، أن يقدّم أي حلٍّ، أو مخرجٍ من الحصار المضروب بالفعل على المشرق، عربياً وتركياً وفارسياً معاً. لكنه يفاقم من مشكلاتنا المتراكمة، الوطنية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ويهدّد بخسارتنا جميع ما بقي لنا من رهاناتٍ، ويدفع بنا إلى مزيدٍ من الانحدار نحو الهاوية. وإذا ساهمت أعمال العنف الأعمى التي آلت إليها ردود أفعالنا، حتى في صراعاتنا الداخلية، بحيث لم يعد هناك أي شعورٍ بالمسؤولية تجاه المدنيين والأبرياء، حتى الأطفال والنساء والشيوخ، في "فشّ قهرنا" أو التنفيس عن كربنا، وهو تعويض عاطفي رخيص، لا جدوى منه، فلن تقدم لنا أي أمل أو عزاء. بالعكس، وظيفتها الرئيسية أن تخفي عنا بؤس نخبنا وقياداتنا وقصور تفكيرها وافتقارها رؤيةً متسقةً واستراتيجيةً فعالة لمواجهة التحدّيات التاريخية، وبالتالي، منعنا من البحث عن قيادةٍ جديدةٍ فاعلة، تستطيع أن تساعدنا على وضع حد لتاريخ التراجع والهزيمة والنكبات المتكرّرة التي أصبحت الإنجاز التاريخي الوحيد لنا. والمقصود هنا القيادة التاريخية التي تتجاوز فكرة الشخص أو الأشخاص القادرين على اتخاذ القرار، وتعني الرؤية الواضحة للواقع، وتعيين الأهداف الصحيحة والوسائل الناجعة، كما تعني العثور على الصيغة العملية القادرة على توحيد القوى، وتجميع الأفراد والجماعات في مسارٍ واحدٍ للعبور نحو الضفة الأخرى، والانتقال من العبودية إلى الحرية.
ليس رد الفعل سياسةً ناجعة، وإنما هو الضمانة للذهاب بأسرع وقت إلى الكارثة. ومن الأفضل لنا، وكما ينبغي للسجين في رمالٍ متحركة، عندما لا يكون الطريق واضحاً أمامنا، أفضل أن نتوقف عن السير، ونفكّر وننظر حولنا، ونوفر جهودنا لمرحلةٍ مقبلة، من أن نستمرّ في تقديم مزيد من التضحيات الضائعة.
تتضارب التقديرات حول أبعاد ما نقله وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لنظرائه الأوروبيين أخيراً، بأنّ ثمة اتفاقاً روسياً-أميركياً على «إنشاء غرفة عمليات مشتركة» في عمّان، تكون من صلاحياتها الإشراف على العمليات العسكرية في سورية.
وقد تساءلت مصادر أردنية «ما إذا كان هذا الأمر يختلف عن آلية التنسيق الموجودة حالياً في كل من واشنطن وجنيف وعمّان» وذلك إضافة إلى آلية العمل التي اتفق الأردن مع روسيا على إنشائها في عمّان، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لتنسيق العمليات العسكرية في سورية. لكن إلى جانب تلك المراكز فإن لدى موسكو منذ أشهر غرفة عمليات مشتركة روسية - إيرانية - سورية في بغداد، ما يعني أن أيّ تنسيق بين موسكو وواشنطن قد يثير شكوك طهران. ويمكن التقليل من تأثير ذلك بالنظر إلى الخبرات السابقة، وبالنظر إلى أنّ استكمال سيطرة النظام السوري على طريق الكاستيلو ومحاصرته حلب قد جرى بدعمٍ روسيّ وبعد لقاءات كيري الأخيرة في موسكو، أي بعد التوصل إلى الاتفاق المشار إليه.
في 2012 قررت واشنطن ضبط الجبهة الجنوبية، وبالفعل انقطعت عن جبهات ريف دمشق، وانقطع بذلك الخطر المباشر على النظام في دمشق، وقبل أيام أعلن وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر أنّ التحالف الذي تقوده أميركا لمحاربة «داعش» سيبحث فرص «مهاجمة التنظيم في سورية من الجنوب، وستكون لذلك فوائد إضافية تتمثل في مساعدة أمن شركائنا الأردنيين، وفصل مسرح العمليات في سورية عن مسرح العمليات في العراق في شكل أكبر». هنا يثور التساؤل حول أبعاد هذا التحرك المستجدّ في ظل الإعلانات الدولية المتكررة عن تسريع حرب «اجتثاث داعش» ودينامية التحضير لمعركة الموصل. ويأتي إعلان وزير الدفاع الفرنسي، جان إيف لو دريان، أن فرنسا سترسل حاملة الطائرات شارل ديغول إلى الشرق الأوسط وستعزز الدعم الجوي للجيش العراقي مع نهاية آب (أغسطس) وستزيد من حدة الضربات في سورية والعراق وستنشر طائرات «رافال» في الإمارات والأردن، ليضفي مزيداً من التساؤل عن تحركات قد تأخذ طابعاً استراتيجياً وربما تترك «تغييرات جذرية» في المشهد الإقليمي القائم، مع الانتباه إلى أنّ المعارك العسكرية في حلب أظهرت أنّ لدى واشنطن استعداداً للتساهل مع النظام السوري، ولا أدري إنْ كان موفقاً الربط بين ذلك وتصريحات كيري لنظرائه الأوروبيين بأن البحث في مصير الأسد «مؤجل إلى مراحل لاحقة»، وتأكيده أنْ «لا حلّ في سورية من غير الجانب الروسي». وما يزيد من حالة الغموض في شأن أجواء تفعيل جبهة الجنوب السوري حالة التوتر في علاقات أنقرة مع دول «الناتو» وواشنطن في شكل خاص، عقب الانقلاب الفاشل، وتوجّه حكومة أردوغان نحو موسكو.
ما يُقلق الأردن هذه التجمعات المتزايدة لتنظيم «داعش» أو الفصائل المبايعة له على حدوده الشمالية، بخاصة أن التوجّه لاجتثاث «داعش» جغرافياً سيعني تشظي ظاهرته الإرهابية، وقد لا يكون من الخطأ قراءة تداعيات تحوّل «النصرة» إلى «جبهة فتح الشام» في سياق ذلك، لأن القبول الإقليمي والدولي غير المتوقع للجبهة الجديدة (مجرد اسمها الجديد يدلّ على أنها لم تتغير) سيصبّ باتجاه مزيد من التشدد والتشظي والانشقاقات فيها، ومن هنا دعوة نخب عسكرية أردنية غير رسمية إلى إقامة منطقة عازلة على الحدود مع سورية، ولا يبدو أنّ طرفاً مؤثراً في الأزمة مستعدٌ حالياً للتجاوب مع خيار كهذا.
ثمة أسئلة عديدة وعلى غاية من الأهمية طرحت نفسها منذ اندلاع الثورة السورية (في آذار/ مارس 2011)، لكنها لم تجد إجابة عنها حتى الآن، حتى أن قيادات المعارضة لم تتطرّق اليها، أو لم تتوقّف عندها، لا في خطاباتها وبياناتها، ولا حتى في الندوات وورشات العمل الكثيرة التي عقدتها، والتي يفترض أن مهمتها الاشتغال على هكذا أسئلة.
مثلاً، منذ البداية طرح شعار إسقاط النظام، وهذا مفهوم بالنظر إلى عفوية الثورة السورية، وفي سبيل التعبئة والتحشيد وكتحديد للهدف، بيد أن هذا شيء وتحويل هذا الشعار إلى واقع شيء آخر، لا سيما بعد أن بات لهذه الثورة كيان سياسي يعبر عنها، أو يفترض أنه كذلك (المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني)، إذ بات الأمر منذ ذلك الحين يستلزم من الكيانات السياسية المعنية الإجابة عن السؤال: كيف يمكن إسقاط النظام؟ أو هل يمكن إسقاطه بإمكانات الشعب الذاتية؟
طبعاً لا يمكن الإجابة عن السؤال في شكله الأول، إذ يتعذّر التنبؤ بمآلات الثورات وبتداعياتها، كما التيقّن من نجاحها أو فشلها، لكن السؤال في شقّه الثاني يبقى مشروعاً، وضرورياً، والإجابة عنه بمسؤولية تقع على عاتق الجهات المقرّرة في الثورة، التي يفترض أن تدير الصراع بأفضل وأقوم ما يمكن.
ربما أن ما غيّب الإجابة عن هذا السؤال في الأشهر الأولى للثورة شيوع نوع من الشعور بأن العالم، أو القوى الدولية الفاعلة، لن تترك السوريين مكشوفين إزاء بطش النظام، وأن ثمة نوعاً من التدخل الدولي سيحصل ما يسهّل عليهم إسقاط النظام. بيد أن هذا الشعور، الذي تأسس على تجارب مماثلة، وعلى تشجيعات دولية وإقليمية وعربية، أهمها تصريحات الرئيسين الأميركي والفرنسي، ورئيس الوزراء التركي (في حينه)، ومواقف جامعة الدول العربية التي جمدت عضوية النظام، ما لبثت أن تكشفت عجزها عن توفير الحد الأدنى من الإسناد الدفاعي، المتمثل بوضع حد للطلعات الجوية والقصف بالبراميل المتفجرة وبالقذائف الصاروخية.
الآن لنفترض أن ثمة خذلاناً للثورة السورية، وتخلّياً عنها، أو لنفترض أن ثمة تلاعباً ما، لأغراض معينة، من قبل هذه الدولة أو تلك، لحرف ثورة السوريين، أو تحميلها ما لا تحتمل، ألم يكن من الأجدى في حينه، أي بعد أن تكشفت أوهام «التدخّل» الخارجي، مراجعة الطريق، واجتراح معادلات سياسية جديدة تجنّب السوريين الأهوال التي عانوا منها، والتي سهلت للنظام تدمير عمرانهم وتشريد الملايين منهم، سيما أننا نتحدث عن المرحلة التي تلت صفقة الكيماوي (في آب/أغسطس 2013)؟ وفي الواقع فمنذ هذا التاريخ كان يفترض في المعارضة السورية تقديم الإجابة عن السؤال: هل يمكن إسقاط النظام بالإمكانات الذاتية؟ فإذا كان الجواب على ذلك نعم، فقد كان يلزمها ذلك التوضيح: كيف؟ وبأية قوى؟ وهل الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية على هذه الدرجة من التوحد والنضج، السياسي والعملياتي ما يؤهّلها لذلك حقاً؟ ثم هل لديها الإمكانات العسكرية الذاتية لحسم هذا الأمر؟
في المقابل إذا كان الجواب بالنفي، فما العمل؟ ومثلاً، هل كانت قيادات المعارضة تملك الجرأة السياسية والأخلاقية لمخاطبة شعبها في شأن هذا الواقع، والتوجّه نحو تخفيف وتائر الفعاليات الثورية، وضمنه تخفيف الصراع المسلح بدل تصعيده، للحفاظ على طول نفس الثورة، وتجنيب البيئات الشعبية مزيداً من الكوارث، وحتى التصرف على أساس أن الثورة في هذه المرحلة أثبتت ذاتها بخروج الشعب إلى الشوارع، إلى مسرح التاريخ، في مواجهة النظام للمرة الأولى، وفي تعبيره عن ذاته في صيحته: «الشعب يريد إسقاط النظام»؟ ألا يمكن اعتبار كل ذلك مرحلة أو «بروفة» بانتظار مرحلة قادمة أنسب؟
أما في حال كان الجواب بالنفي يأتي في إطار قناعة، أو معاندة، تفيد بضرورة تعزيز اعتماد الثورة وزيادة ارتهانها للخارج، على القوى الدولية والإقليمية والعربية، أو ما عرف بالدول «الصديقة»، فعلى المعارضة حينه أن توضح لشعبها من هي الدول التي تعوّل عليها؟ وأن تفسّر لماذا ينبغي الاعتماد عليها، في حين أنها لا تستطيع أن تقدم الإسناد الملائم لمواجهة النظام، ولا حتى على صعيد مضاد طائرات، ولا فرض مناطق «آمنة»؟ نقول ذلك وقد تبيّن أن كل دولة من هذه الدول تشتغل وفق أجندتها الخاصة، وأنها تريد أن تأخذ، أو توظف الثورة السورية وفق مصالحها، علماً أنها كلها تشتغل تحت السقف الذي تحدده الإدارة الأميركية.
وفي الواقع فإن المعارضة سكتت عن هذا السؤال، أو أزاحته من دائرة النقاش، لأنها بين أمور أخرى كانت ضعيفة إزاء املاءات الدول «الصديقة»، أي أنها تصرفت بطريقة دونية مع هذه الدول، حتى في بنائها لهيكليتها، وفي خطاباتها، وفي سكوتها عن التدخلات الفجّة والمضرة بالثورة، بخاصة في تشكيلات أو تفريخات الألوية والكتائب العسكرية، وفي تجميد «الجيش الحر» وإضعافه، لمصلحة دعم جماعات عسكرية ذات أيديولوجية معينة، ما أضر بالثورة وبصورتها، في العالم وإزاء السوريين، من دون أن تستطيع أن تشكل فرقاً في مواجهة النظام وحلفائه في الصراع الدائر.
هذا ينقلنا إلى السؤال التالي: هل اعتماد المعارضة السورية على المساندة الدولية والإقليمية، أو ارتهانها لها، زاد الثورة قوة أو أفادها، أم أنه أضعفها وقيّدها ونمّى أوهامها وأدخلها في مغامرات غير محسوبة وجيرّها لحساباته المتباينة؟ هذا السؤال كما سؤال إسقاط النظام، يبدو سؤالاً راهناً، ويفترض الإجابة عنه، وكلما كان ذلك أبكر، كلما كان أفضل، لاستنباط الدروس والعبر، ولتجنيب السوريين مزيداً من الخسائر والكوارث.
وربما يفيد هنا أن نذكّر بقضية ربما تفوت كثيرين مفادها أن شعار إسقاط النظام لم يعد في التداول، من الناحية العملية، بدليل المفاوضات الجارية، التي تدور على تشكيل هيئة حكم انتقالية، ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، تتشكل من المعارضة وأطراف من النظام (من الذين أيديهم غير ملوثة بالدماء)، أي أن هذا الشعار بات يقتصر على الانتهاء من حكم بشار الأسد وعائلته، لكن هذه النقلة يجري التعتيم عليها، مع إنها على غاية في الأهمية.
ثمة سؤال آخر برسم المعارضة، أيضاً يفترض أن تناقشه وأن تجيب عنه، وهو: هل تستطيع هذه المعارضة أن تقول إنها نجحت في إدارة أوضاعها، وفي إدارة الصراع ضد النظام؟ أو هل هي راضية أو تعتقد أن الاستمرار على ذات الطريق، وبالبنى والمفاهيم نفسها، سيوصلها إلى الهدف المنشود؟ والمعنى أن هذا السؤال من شقين، أولهما يتعلق برؤية المعارضة لذاتها كقيادة لثورة السوريين، ما يتطلب منها مراجعة أوضاعها سواء في علاقتها بشعبها، أو في ما يتعلق بطبيعة بناها ومؤسساتها، بعد مضي كل هذه السنوات، وكل هذه التجربة. فهل هي راضية عن نفسها؟ وهل قدمت أقصى وأفضل ما عندها؟ أم أن ثمة ثغرات كبيرة، تفترض منها اجراء مراجعة ومحاسبة لتطوير أحوالها؟ أما الشق الثاني فيتعلق بمستوى إدارة المعارضة في صراعها ضد النظام، وضمنه في إدارة المناطق المحررة، فهل هي حقاً استطاعت إحراز نجاحات على هذا الصعيد؟ ولماذا ما زالت الفجوة كبيرة بين الأطر العسكرية والسياسية؟ ولماذا لم تنجح المناطق «المحررة» في تقديم نموذج مناسب وجاذب وواعد وبديل للنظام؟
ثمة سؤال أخير رابع، وهو يتعلق بخطابات المعارضة إزاء مكونات الشعب السوري، الدينية والمذهبية والأثنية (لا سيما بما يتعلق بالكرد)، إذ إن الخطابات الأولية للثورة، والمتعلقة بكون سورية بلداً لكل السوريين، المتساوين والأحرار، وبقيام دولة مدنية ديموقراطية تعددية، باتت ضعيفة لمصلحة الخطابات ذات التوجه الديني أو الطائفي أو الأيديولوجي. والحال فإن هذا الأمر يضع علامة شك حول قدرة المعارضة على تمثيل كل السوريين، كما على صدقيتها في بناء دولة مواطنين، فضلاً عن أن ذلك يريح النظام، ويسهل له تقديم نفسه كحامٍ لـ «الأقليات»، ما يجعله يكسب على حساب المعارضة. وبديهي أن هذه المسألة تأخذنا نحو تأكيد أهمية الصراع على الخطاب في المشهد السوري، بين النظام والمعارضة، والملاحظ أن المعارضة لم تنجح في ذلك، لا إزاء العالم، ولا إزاء شعبها، مع خطاباتها المضطربة، علماً أن الكيانات السياسية خضعت لابتزاز بعض الجماعات العسكرية، التي أدخلت الثورة السورية والشعب السوري في مواجهات غير مدروسة وغير محسوبة، وساهمت في وصول الوضع إلى ما وصل إليه مؤخراً، مع حصار داريا وحلب. أي أن المعارضة السياسية هنا بدل أن تعزز اجماعاتها، وبدل أن تجذب الكيانات العسكرية لخطابها، بدت ذات خطابات غير حاسمة، ومضطربة، ونحت نحو مجاملة خطابات الجماعات الإسلامية المتعصبة والمغلقة، وذات المرجعيات الخارجية.
هذه مجرد تساؤلات أو ملاحظات نقدية، مع التأكيد أن ثمة أسئلة كثيرة أخرى تستحق النقاش والمراجعة، وتتطلب من قيادات المعارضة السورية، وكياناتها المختلفة صوغ إجابات مناسبة عنها، لمعرفة كيف تستمر الثورة أو كيف تتراجع، أو كيف تلتقط أنفاسها؟ مع التأكيد أن القيادة الحكيمة والمسؤولة هي التي تعرف متى تسير وكيف تسير وإلى أين تسير، بأقل الأكلاف وبأفضل ما يمكن.
منذ بداية انتفاضة سوريا في عام 2011 ضد نظام بشار الأسد، تنبأ البعض بتفكيك البلاد وفق مكوناتها الإثنية والطائفية، سنية وعلوية وكردية ودرزية وتركمانية. وكان المحفز الرئيسي للتفكيك الخوف على الأقليات. وبعد سنوات، تحولت الانتفاضة إلى حروب داخلية، ثم إلى تدخلات عسكرية من قوى أجنبية، إيرانية وروسية وعراقية وحزب الله، واستوطنت سوريا تنظيمات «جهادية» أجنبية ومحلية، مثل «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام». وبسبب ويلات الحرب، تشرد اثنا عشر مليون سوري من مدنهم وقراهم ومناطقهم، ثلثهم لجأ إلى خارج البلاد، وتموضع بعضهم في مناطق تناسبه، والبقية فرت من القتل والدمار داخل بلدها.
عاد الحديث عن تقسيم سوريا لأن مسؤولين أميركيين صرحوا أخيرًا بأنهم يستبعدون أن تعود البلاد وحدة واحدة، وأن التقسيم هو الأقرب. وقد اعتبرها البعض تمهيدًا للتقسيم، وبداية «سايكس بيكو» جديد، على اعتبار أن اتفاق تقسيم المشرق القديم بين البريطانيين والفرنسيين قد انتهى مفعوله، بعد أن مر عليه مائة عام، وأن الروس والأميركيين اتفقوا على تقسيم جديد للمنطقة.
هل يوجد فعلاً اتفاق على تقسيم سوريا بين الدول الكبرى؟
صراحة، استبعد ذلك لأسباب كثيرة، أبرزها أنه تنقصهم القوة على الأرض لفرض أي حدود في منطقة الشرق الأوسط، قديمة كانت أم جديدة. فالروس والإيرانيون يحاولون منذ فترة تنفيذ مهمة أقل صعوبة، وهي تمكين الأسد من حكم المناطق التي تحت سيطرته، ومع هذا لم ينجحوا بعد، فما بالنا بخلق كيانات جديدة متصارعة، ستتنافس على الموارد والحدود.
وهنا، استحضر مثلاً مشابهًا للفوضى والحروب، العراق، جار سوريا. فمنذ عام 1990، والأكراد العراقيون يعيشون في إقليم شبه مستقل تمامًا، بعد حرب تحرير الكويت. 26 عامًا مرت والأكراد العراقيون على هذا الحال. والذي وقف دون قيام جمهورية كردية في شمال العراق لم يكن صدام، ولا تركيا، ولا إيران، وهي الأطراف الثلاثة المعارضة عادة لقيام أي كيان كردي مستقل، بل المجتمع الدولي، والمصطلح يستعمل عادة للتعبير عن دول مجلس الأمن الدائمة. فقد رفض منحهم حق الاستقلال. السبب أنه لا أحد يريد تغيير خريطة المنطقة، لما قد تسببه من تفكك يؤدي لفوضى خارج السيطرة.
قد يكون المجتمع الدولي غير رأيه مع استمرار الفوضى والدم في سوريا، واقتنع بأن التقسيم حل أقل شرًا من دولة مضطربة. وتطبيق هذا الأمر ربما كان ممكنًا في أول عامين من سنوات الثورة السورية، أما اليوم فإن تهجير السكان غيّر الديموغرافيا، وبالتالي لا أرى كيف سيتم تقسيم سوريا من دون وجود تجمعات متجانسة كبيرة. مدينة منبج نموذج، فبعد أن احتلها تنظيم داعش الإرهابي، هرب كثير من سكانها إلى الأرياف وما وراءها، وعندما جاءتها ميليشيات قوات سوريا المتطرفة لإخراج «داعش»، بدعم دولي، قامت هي أيضًا بطرد كثير من السكان لأسباب عرقية، وهرب من المنطقة نحو مائتي ألف. منبج مدينة ومنطقة صغيرة نسبيًا، فما بالنا بحلب التي كان يسكنها خمسة ملايين نسمة، ومن أكثر المدن التي تعرضت للدمار والتهجير؟!
أيضًا، لا يمكن تجاهل العامل الإقليمي، ومخاوف دول مثل تركيا وإيران والعراق. للمكونات العرقية والطائفية السورية امتدادات في هذه الدول، وأي اعتراف بكيانات مبنية على اعتبارات إثنية سيهدد وحدة دول الجوار. واليوم، تعارض تركيا بشدة محاولة إقامة مناطق كردية على طول حدودها. حتى إيران، التي لا حدود لها مع سوريا، تعتبره محركًا لمشاعر نحو ثمانية ملايين كردي إيراني من سكانها. كما أن كل التجمعات تفككت، وليس الوضع بأفضل حالاً لعلويي سوريا، الذين حملوا وزر النظام بحكم انتماء عائلة الأسد لهم، فكثير من شبابهم غادر البلاد هربًا من التجنيد الإجباري، وآلاف العائلات لجأت خشية الانتقام.
لتقسيم أي دولة شرط أساسي، عند انفضاض العقد الوطني، هو انكفاء السكان نحو مناطقهم، كما حدث في يوغوسلافيا التي تفككت إثر الحرب الأهلية إلى أربع جمهوريات برعاية دولية. أما الوضع في سوريا، فهو كالإناء المكسور الذي تناثر إلى قطع صغيرة. والحل في سوريا بالحفاظ على كيان الدولة، بنظام سياسي جديد تحت رعاية دولية، مهمة صعبة خاصة في ظل احتلال إيران وروسيا للبلاد باسم الأسد، التي صارت مثل حكومة «فيشي» النازية!