لا تشذ العلاقات الروسية- التركية عن القاعدة التي تتحكم بمسار التعاون أو الافتراق بين سائر الدول في الحوض الشرقي للبحر المتوسط: الموقف الميداني في سورية التي باتت ساحة الاختبارات، والمناورات والضربات العسكرية، والمفاوضات حول مصير هذه البقعة.
فمنذ تدويل الصراع في سورية وعليها، بعد أن أدخل نظام بشار الأسد عن سابق تصور وتصميم إيران وميليشياتها العراقية والأفغانية واللبنانية وروسيا، إلى الميدان لمساعدته على الفتك بشعبه، لأنه قرر عدم التنازل قيد أنملة عن سيطرته الكاملة على السلطة، واستمراره في استبداده بالسوريين، باتت الدول المتدخلة في الملعب السوري تقيس أدوارها بموقعها في هذا الملعب. زاد نجاح هذا المحور في تظهير دور «داعش» وإجرامه من تعقيدات الحرب المفتوحة في الميدان السوري وفي العالم برمته. أيهما له الأولوية، القضاء على الإرهاب أم التخلص من الأسد؟
لا يلغي ذلك البعد الاقتصادي الاستراتيجي لاستعادة العلاقة التركية- الروسية حرارتها التي «ستأخذ وقتاً» كما قال فلاديمير بوتين عند استقباله رجب طيب أردوغان الثلثاء الماضي. فالمصالح المشتركة على هذا الصعيد تقاس بعشرات بلايين الدولارات على صعيدي التبادل التجاري ومشاريع إمدادات النفط والغاز الروسيين، إلى أوروبا، عبر الأنابيب من طريق الأراضي التركية. والدولتان تحتاج إحداهما إلى الأخرى، في ظل الحاجة إلى الأسواق والاستثمارات، أمام ارتباك علاقة كل منهما بالغرب: موسكو بسبب العقوبات عليها بفعل الأزمة الأوكرانية، وأنقرة بسبب تأزم تحالفها مع أوروبا وأميركا عقب الانقلاب الفاشل ضد حزب «العدالة والتنمية».
إلا أن المصالحة بينهما لم تكن لتزيل اختلافهما في سورية. توقع الكثيرون انضمام تركيا إلى التمسك الروسي والإيراني ببقاء بشار الأسد، بحجة تفضيله على «داعش» والإرهابيين، وإلى الموقف السلبي حيال «المعارضة المعتدلة» التي تنسج القيادة التركية تعاوناً استثنائياً معها. لكنها توقعات أقرب إلى الأمنيات منها إلى الواقع، وإلى التبسيط المجافي للجغرافيا السياسية، وللمعادلات الدولية والإقليمية.
فمع حاجة أردوغان إلى موسكو، بعد دورها الاستخباري في إحباط الانقلاب، لإحداث توازن مقابل اضطراب علاقته بالغرب، من الصعب تصور انقلاب في السياسة الخارجية التركية وارتباطها بحلف «الناتو» وبالعلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة، بين ليلة وضحاها.
وفي الميدان السوري ثمة عوامل تستبعد ما يمكن وصفه التحاقاً بالسياسة الروسية، لدولة تقوم أهميتها الاستراتيجية على كونها جسراً بين أوروبا وآسيا. ومن هذه العوامل:
1- أن التسليم بالسياسة الروسية في سورية يعني إفقاد أنقرة بوابتها الآسيوية الطبيعية التي كانت وراء إقحامها في الحرب السورية، وتحديداً تحالفها مع المعارضة في حلب. وعليه من السذاجة التصور بأن نجاح الفصائل المسلحة السورية في كسر الحصار الروسي- الإيراني- الأسدي- «الحزب اللهي»، تم من دون المساعدة التركية المباشرة، بالتنسيق مع الدول العربية الداعمة لهذه الفصائل.
2- تدرك موسكو أن دور أنقرة في الشمال السوري احتياطي مساعد على جذب الفصائل المقاتلة إلى طاولة الحل السياسي عندما يحين أوانه. ولهذا منفعة الحد الأدنى إذا كان يصعب عليها جذب العامل التركي إلى سياستها.
3- أن الأهم بالنسبة إلى أردوغان في الميدان السوري، هو السعي إلى تحييد روسيا عن الاتجاه الأميركي إلى تأييد كيان كردي سوري على الحدود التركية. تتقاطع مصلحته في ذلك مع مصلحة الحليف الإيراني لبوتين، ومع انزعاج الأخير من نجاح واشنطن في تنويع مواقع نفوذها في بلاد الشام، عبر رعايتها «قوات سورية الديموقراطية» التي عمادها الميليشيات الكردية، فالمنافسة الأميركية الروسية على هذا النفوذ تحت سقف «التعاون» لمواجهة الإرهاب ورعاية الحل السياسي الموعود، تشتد وتخفت وفقاً لوقائع الميدان.
4- القيصر الروسي يحسب حساباً جوهرياً للحاجة إلى العلاقة الحسنة مع الدول الإسلامية السنية، في مواجهة ارتدادات خوضه الحرب في سورية ضد المعارضة ذات الأكثرية الساحقة السنية، على ملايين المواطنين السنّة الموزعين في بعض جمهوريات الاتحاد الروسي (تتراوح أرقام هؤلاء بين 25 و30 مليوناً)، فضلاً عن أعدادهم في جمهوريات آسيا الوسطى ودول الاتحاد السوفياتي السابق. وبعض هؤلاء يتحدر من القومية التركية الذين اندمجوا بالإمبراطورية الروسية قبل قرون... ويحرص بوتين على تفادي انتشار عدوى التطرف في صفوفهم من طريق هذه العلاقة مع الدول العربية ومع أنقرة أردوغان.
5- أن القيادة الروسية، وتحت سقف التحالف الاستراتيجي مع إيران، تترك مساحة لحاجتها إلى قدر من التوازن في الميدان السوري مع اندفاع الدور الإيراني الذي يخرج في كثير من الأحيان عن حسابات القيصر ويربكه.
في مذكراتها التي نشرت أواخر عام 2011، كتبت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس عن العلاقات المتأرجحة بين الولايات المتحدة وروسيا، قائلة عن أحد لقاءاتها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «ذكرت نفسي ألا نقلل من قدرة الروس، سواء فيما يتعلق بالمساعدة التي يستطيعون تقديمها، أو الأذى الذي يمكن أن يسببوه».
تذكرت هذه العبارة بينما كنت أتابع تفاصيل الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان هذا الأسبوع للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بهدف تحسين العلاقات وطي صفحة الأزمة التي اندلعت بين البلدين بعد إسقاط تركيا قاذفة حربية روسية قرب الحدود السورية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011. فإردوغان بمبادرته لزيارة بوتين، كان يدرك قطعًا حجم الأذى الذي يمكن أن يحدث جراء التوتر في العلاقات مع قيصر الكرملين، كما أنه ربما كان يضع إلى جانب الفوائد الاقتصادية من تحسين العلاقات، فائدة سياسية لتوجيه رسالة إلى أميركا والاتحاد الأوروبي في وقت تشهد فيه علاقاته مع الطرفين شيئا من الفتور والتوتر.
الرئيس التركي وأنصاره لم يخفوا غضبهم إزاء أميركا تحديدًا، وذهبوا إلى حد اتهامها تلميحًا وتصريحًا بالضلوع في المحاولة الانقلابية التي وقعت منتصف الشهر الماضي، وطالبوها بتسليم الداعية المناوئ فتح الله غولن، المقيم في بنسلفانيا، لمحاكمته بتهمة الخيانة، بعدما اتهموه وأنصاره بتدبير المحاولة الفاشلة. كذلك عبرت الحكومة التركية عن ضيقها من موقف الغرب الذي انتقد الاعتقالات الواسعة والإجراءات المتشددة التي شكلت أوسع عملية تصفية للخصوم في أجهزة الدولة في أعقاب إحباط المحاولة الانقلابية.
إردوغان ربما رأى في ترميم العلاقات مع روسيا فرصة لتوجيه رسالة إلى الغرب، لكن الدافع الأهم بالنسبة إليه من مد يده نحو بوتين كان بلا شك اقتصاديا. فالصادرات التركية إلى روسيا انخفضت بنسبة 61 في المائة منذ العقوبات التي فرضها بوتين على أنقرة ردًا على إسقاط القاذفة. كما أوقفت العقوبات المشاريع المشتركة بين البلدين، خصوصًا في مجال الطاقة، إضافة إلى وقف تدفق الأعداد الكبيرة من السياح الروس في وقت تعاني فيه السياحة التركية من انخفاض كبير في أعداد السياح الغربيين بسبب الهجمات الإرهابية.
بوتين من جانبه يحتاج إلى السوق التركية في مجال الطاقة، وإلى تعاون أنقرة لضمان مرور إمدادات الطاقة الروسية إلى الأسواق الأخرى، خصوصًا في أوروبا. كذلك فإنه مثل إردوغان يرى في ترميم العلاقات فرصة لتوجيه رسالة إلى الغرب الذي يفرض عليه حصارًا بسبب أزمة أوكرانيا.
إضافة إلى كل ذلك هناك ملف الأزمة السورية التي تتداخل وتتقاطع فيها العلاقات بين الطرفين، وبين أطراف إقليمية ودولية كثيرة. فأي حلول أو تسويات، أو تعقيدات لا بد أن تمر عبر تركيا، وروسيا تحتاج إلى تفاهم مع إردوغان، لكي لا يطول تدخلها العسكري ويتحول إلى ورطة مثل تدخلها في أفغانستان. فالتفاهمات التي توصل إليها وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي جون كيري تحتاج إلى ضمان تأييد أو تحييد تركيا، لكي يكون لها أي حظ من النجاح على الأرض.
وعلى الرغم من التباين الشديد في المواقف بين بوتين وإردوغان إزاء نظام بشار الأسد، فإنهما ربما يجدان فيما يصنفانه تحت عنوان «الإرهاب» مدخلاً للتعاون والتفاهم. فروسيا تتهم تركيا بدعم «الإرهابيين» في سوريا، وتقول إن أعدادًا من هؤلاء أتوا من الشيشان ومن جمهوريات سوفياتية سابقة، وبالتالي فإنهم يشكلون خطرًا على موسكو.
تركيا من ناحيتها تتهم موسكو بدعم حزب العمال الكردستاني التركي وحلفائه من أكراد سوريا، وترى أن وقف أي دعم سياسي أو عسكري من موسكو سيساعدها، خصوصًا في وقت تشتد فيه المعركة بين أنقرة والأكراد، وتواجه تركيا هجمات إرهابية متزايدة.
الموضوع السوري ذكر بشكل مقتضب في التصريحات والبيانات التي أعقبت محادثات بوتين وإردوغان، على الرغم من أنه حظي بحيز مهم، كما يبدو من انضمام مبعوث الكرملين الخاص للتسوية في سوريا إلى الاجتماع. وزير الخارجية الروسي أوضح جزءًا من المستور عندما قال: إن التطبيع الدائم للعلاقات بين موسكو وأنقرة سيعتمد على كيفية تعاونهما إزاء الأزمة السورية. وربما لهذا السبب أيضًا لم يرفع بوتين كل العقوبات عن تركيا بل قال: إنها سترفع «خطوة خطوة».
هل يعني هذا الأمر أن هناك تفاهمًا بين الطرفين، يكون امتدادًا لتفاهمات كيري - لافروف إزاء الأزمة السورية؟
بغض النظر عما تم أو لم يتم التوصل إليه في هذه المحادثات، فإن انشغال أميركا خلال الأشهر القليلة المقبلة بمعركة الانتخابات الرئاسية، يجعل التوصل إلى أي تسويات في الملف السوري أمرًا مستبعدًا في الوقت الراهن مع كل ما يعنيه ذلك للشعب السوري المغلوب على أمره. لكن عندما تحين لحظة أو فرصة لتسوية في سوريا فإن أي تقارب أو تباعد بين روسيا وأنقرة ستكون له انعكاساته.. سواء بالمساعدة أو بالأذى.
ليس معروفاً ما الذي ستؤول اليه أوضاع المنطقة في ظلّ نفض الولايات المتحدة يدها منها وحصر اهتمامها باسترضاء إيران. كان آخر دليل على ذلك كشف ارسالها اربعمئة مليون دولار، نقداً، إلى طهران في اطار تسوية قضايا عالقة بين البلدين منذ سنوات طويلة... او ثمناً لاربع رهائن أميركية اطلقت من السجون الإيرانية في اعقاب توقيع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني.
هل يتغيّر شيء في الولايات المتحدة بعد انتهاء ولاية باراك أوباما؟ يُحتمل ان يطرأ تغيير على السياسة الاميركية، خصوصاً ان فرص وصول هيلاري كلينتون إلى البيت تزداد يوماً بعد يوم.
ليس ما يشير، اقلّه إلى الآن، إلى ان هناك ما سيمنعها من الوصول إلى الرئاسة، هي التي تعتقد ان لا حاجة إلى مسايرة إيران في أي مكان من العالم ثمناً لالتزامها الاتفاق النووي. تؤمن كلينتون بانّ من مصلحة إيران احترام بنود الاتفاق وليس ما يدعو إلى التغاضي عما ترتكبه لا في العراق ولا في سوريا ولا في البحرين واليمن... ولا في لبنان.
لا يمكن للسياسة الاميركية الّا ان تتغيّر في اتجاه موقف اكثر إنسانية، خصوصاً في سوريا، حيث يتبيّن كلّ يوم ان الشعب فيها عانى الكثير بسبب سياسة قائمة على مراعاة إدارة أوباما لإيران واعتقاد الرئيس الاميركي الحالي انّ في استطاعته التعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقضاء على الإرهاب الممثل بـ»داعش». لم ير أوباما سوى «الإرهاب السنّي» الذي يرمز اليه «داعش». لا يريد ان يرى «الإرهاب الشيعي» الذي ترمز اليه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران والمنتشرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وكادت ان تصل إلى البحرين وحتّى إلى دولة مسالمة مثل الكويت.
من المؤشرات التي تدعو إلى بعض التفاؤل، ان أوباما اكتشف أخيراً ان ليس في الإمكان التخلص من «داعش» من دون التخلص من النظام السوري. ما هذا السرّ الخطير الذي اعلن عنه الرئيس الاميركي في وقت لا يوجد طفل في بلد مثل سوريا او لبنان لا يعرف ان النظام السوري يعتبر، منذ قيامه، المتاجرة بالإرهاب علّة وجوده وغطاء لممارساته الطائفية والمذهبية التي اخذت بعداً جديداً بعد انتصار «الثورة الإسلامية» في إيران والتعاون الجدي بين الجانبين في هذا المجال.
في الواقع، كشفت الحرب العراقية ـ الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات عمق هذا التعاون بعدما أصبحت سوريا القاعدة الخلفية لإيران طوال تلك الحرب التي استنزفت دول المنطقة. كانت تلك الحرب افضل تعبير عن العقم الذي عانى منه النظام الذي أقامه صدّام حسين في العراق من جهة ومدى تورط النظام الإيراني الجديد الذي أقامه آيه الله الخميني في الرهان على اللعبة المذهبية والاستثمار فيها من جهة اخرى.
اذا كانت هيلاري كلينتون، التي ستستفيد إلى حد كبير من الانقسامات داخل الحزب الجمهوري للانتصار على دونالد ترامب، جدّية في انتهاج سياسة مختلفة، ولو نسبياً، في الشرق الاوسط بدل تركه فريسة للميليشيات الإيرانية التي تمنع حتّى بقوة السلاح انتخاب رئيس للبنان، فان نقطة البداية واضحة كلّ الوضوح. لا يمكن التفريق بين ميليشيا وأخرى في الشرق الاوسط كلّه وصولا إلى ليبيا، أي إلى ما هو ابعد من المشرق العربي. بكلام أوضح، لا يمكن ان تكون هناك حرب ناجحة على الإرهاب من دون وضع كلّ المنظمات الإرهابية، بما في ذلك «الحشد الشعبي» في العراق، في سلّة واحدة.
هناك بكل بساطة مشروع توسّعي إيراني يقوم على الاستثمار في اثارة الغرائز المذهبية وتوظيف الميليشيات خدمة لهذا المشروع الذي قضى على العراق وقضى على سوريا ويكاد ان يقضي على لبنان لولا صمود أكثرية الشعب اللبناني ومقاومتها سلاح «حزب الله».
هل تبدأ هيلاري كلينتون من حيث يجب ان تبدأ، أي من المباشرة برفض التفريق بين إرهاب وآخر؟
في النهاية، اذا كانت روسيا معنيّة فعلا بالحرب على الإرهاب، سيكون عليها ان تختار بين بقاء بشّار الأسد ورحيله. لا يمكن قصف مدارس حلب ومستشفياتها تحت ذريعة التصدّي للارهاب «السنّي». لا يمكن باي شكل تجاهل الدور الذي لعبه النظام السوري في خلق «داعش» ولا المساعي الإيرانية للاستفادة من هذه الظاهرة الإرهابية لتغيير الوضع القائم في العراق عن طريق عمليات تطهير ذات طابع مذهبي لمناطق معيّنة بدءاً من بغداد. لم تعد لبغداد علاقة بتلك العاصمة التي تضمّ عراقيين من كلّ الطوائف والمذاهب والطبقات الاجتماعية.
بعد قرن على توقيع اتفاق سايكس ـ بيكو، ستتغيّر المنطقة في العمق. ستتغيّر الخرائط. العراق الذي عرفناه انتهى، كذلك سوريا. لبنان مهدّد شئنا ام ابينا. لا يمكن الاستخفاف باي شكل بان التغييرات ستشمل الاكراد، الشعب الوحيد الذي حرم من دولة... إلى جانب الشعب الفلسطيني طبعا. ولا شكّ ان الموضوع الكردي كان من بين الأسباب التي دعت الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان إلى الذهاب لملاقاة فلاديمير بوتين.
أي اميركا في عهد هيلاري كلينتون؟ هل تلعب دوراً في إعادة بعض التوازن إلى الشرق الاوسط عبر سياسة لا تفرّق بين إرهاب وإرهاب، ام تبقى أسيرة سياسة باراك أوباما وسذاجة وزير الخارجية جون كيري الذي لا يريد ان يرى ان ابتسامة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ليست سوى قناع لسياسة اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها تعبير عن خبث واحتقار للعرب ليس بعدهما خبث واحتقار...
منذ أقل من عشرة أيام وثوار سورية ينسجون سجادة النصر أو ملحمته الكبرى في حلب.. ومنذ بداية تلك الأيام سارع جيش من المحللين وقارئي الفنجان للإدلاء بإبداعاتهم التحليلية عبر الوسائل الإعلامية التي لا تعد ولا تحصى..
والمدهش أنه كلما تمعلم المحللون وقدموا للثوار نصائحهم الذهبية.!!.. يفاجئهم الثوار بتكتيكاتهم التي لا تخطر على بال وبانتصاراتهم المذهلة.. وهكذا تختلط الأوراق في أذهان أولئك المحللين، فيسارعون إلى إعادة ترتيب ما تبعثر من أوراق، ففي كل يوم يقدم ثوار جيش الفتح مفاجآت مذهلة وانتصارات أكثر إذهالاً.. حتى أن الدبلوماسية الأميركية العاهرة، اقصد الماهرة في صياغة الدجل والكذب والتسويف، وبعبارات ثعلبية ماكرة تجعل أي معنّي بالأمر يمنّي النفس بالآمال العريضة.. حتى أن هذه الدبلوماسية الأميركية قد دوختها انتصارات الثوار في حلب الشهباء، حتى اضطرتها تلك الانتصارات لأن تصوغ موقفها بعبارة مضحكة وثعلبية في الوقت نفسه، حيث قالت: الوضع في حلب غامض ونحن لا يمكننا التعليق على ذلك " .. ثم تأتي بعده المتحدثة بتصريح أكثر ضحاكاً وثعلبية، حين قالت: الموقف في حلب مائع، وعلى كافة الأطراف السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة.. "..
أمام هذا الواقع الذي عاينتُه بدقة، ماذا يمكن لواحد مثلي أن يقدم في هذه المناسبة من الانتصارات العظيمة، والتي تحدثت عنها آلاف المواقع الإعلامية.!!؟..
حاولت أن أكتفي بالمتابعة، فأستمع وأشاهد وأراقب وأعيش ساعات من الفرح العظيم، ولكن قلمي كان يلكزني دائماً ليحرّضني على الكتابة، فما يحدث في حلب من معارك طاحنة وانتصارات متسارعة، سوف يقف التاريخ أمامه مطولاً، ولم يكن الثوار مخطئين حينما أطلقوا على هذه المعركة: " ملحمة حلب الكبرى "..
حسناً.. من أين تريد أن تبدأ أيها القلم.!!؟.. فهناك رزمة من الأفكار التي تتزاحم في الذهن وحتى في القلب، وكل واحدة منها تطلب موقع الصدارة..
ولكي أنظّم الدور بين تلك الأفكار.!!.. سأعتمد التسلسل الزمني، من هنا أعود إلى ما قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، فما قبل تلك الأيام وما بعدها كنت أتوجه إلى حلب بين سنة وأخرى، إما لإحياء أمسية شعرية أو للاشتراك بندوة أدبية..
وأتذكر أن أم العيال كانت دائماً تطلب مني، وأكاد أقول تأمرني بإحضار كمية وافرة من الزعتر الحلبي وصابون الغار..
في الأحداث المأساوية التي مرت بها حلب صابرة محتسبة، لاسيما بعد أن شرفنا.!!. الدب الروسي بزيارته الثقيلة الدائمة في سورية، وهو مدجج بالحقد والإجرام لتدمير هذا الشعب العظيم، ولاسيما حلب الثقافة والتاريخ.. كل ذلك إكراماً لروح الأسد الكبير، وتثبيتاً لدعائم الأسد الصغير..
وقد ظن الدب الروسي أنه خلال بطشة واحدة أو اثنتين أو ثلاث، سوف يتخلص من الشعب السوري، ويقف في حلبة المصارعة ليرفع يد الأسد إلى الأعلى إعلاناً بالنصر على الشعب السوري بالضربة القاضية..
ومضت الأيام والشهور، واستمر البطش والقتل والتدمير حتى كادت، وأقول كادت، قاذفاته وصواريخه تكل وتمل، والشعب السوري ظل صابراً محتسباً صامداً..
وفي الآونة الأخيرة تم التركيز على حلب بقصد إسقاطها وعودتها إلى " حضن الوطن.!!..".. وساهم في ذلك حضور عشرات الآلاف من الفيلة الفارسية، ونالت حلب من القتل والتدمير ما لا عين رات ولا أذن سمعت، حتى بدأت كفة الأحداث تميل لغير صالح الثوار، وأخذ الحديث يدور في المسالك العالمية والعربية المتعاطفة مع الدب الروسي عن اقتراب سقوط حلب بيد سلطة الأسد نظرياً، وبيد سلطة القيصر وملالي الفرس عملياً، ومما زاد من قوة هذا الاحتمال جمود حركة الثوار في فاعلياتهم القتالية..
كان اليأس قد تسرب إلى نفوس الشعب السوري، وأنا واحد منهم، لكنني في لحظات من الوميض التفاؤلي، تذكرت فيها الزعتر الحلبي وصابون الغار والقدود الحلبية والحارات القديمة التي تمتد جذورها الحضارية إلى عشرات الآلاف من السنين.. كما كنت أتذكر قول الشاعر:
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها
قلم يضرْها، وأوهى قرنَه الوعلُ
وقالت نفسي لنفسي، لا بد أن تنتصر نبتة الزعتر اللدنة الطرية وشجرة الغار التي هي رمز انتصارات الشعوب على أشجار الغرقد والعوسج بكل ما تحمله هذه الشجيرات الحاقدة من شراسة وشوك..
ومن غامض علم الغيب، كما يقال، ينهض الفينيق من رماده.. من جنوب حلب، فقد باغت الثوار الفيلة الفارسية ومرغوا انوفها بالأوحال، وأرسلوا منها بالتوابيت أكثر من مائة وخمسين جثة إلى بلاد الملالي لتدفن هناك إلى جانب مقام أبي لؤلؤة قدس الله سره..
ويومها كتبت مقالة بعنوان" ملحمة خان طومان واستحالة حلب " أكدت فيها أن حلب يستحيل أن تسقط، لا سيما إذا اتحدث فصائل الثوار او معظمها على الأقل..
ولكن الدب الروسي الذي وعد إمبراطوريته القيصرية بالنصر في بداية عام 2016، لم ييأس وصمم على إخضاع حلب، حتى ولو تحولت إلى تل من ركام.. ركز بطيرانه على حلب المحررة، وعلى طريق الكاستيلو الممر الوحيد الذي يربطها مع الخارج، حتى استطاعت سلطة الأسد والميليشيا الإيرانية وحزب الله وحتى الميليشيا الفلسطينية المتمثلة بلواء القدس من قطع طريق الكاستيلو بشكل نهائي، وهكذا أُطبق الحصار بشكل كامل على أحياء حلب المحررة..
قيصر روسيا أصابته نشوة النصر، فرفع منخاره إلى أعلى، ولف رِجْلاً على رجل بعنجهية وعجرفة، وقال قولته المشهورة: فتحنا ثلاثة ممرات إنسانية لخروج المدنيين من الأحياء المحاصرة، وممراً رابعاً لخروج المسلحين.. ".. لكن الحلبيين المحاصرين أدركوا النية الخبيثة من وراء ذلك، فالمسألة مسألة تفريغ حلب من أهلها، لذلك لم يلتفتوا إلى مثل هذا الاقتراح، لأنهم بالإضافة إلى ذلك، يعلمون علم اليقين أن الآلاف من الخارجين عبر هذه الممرات، إن خرجوا، ستتم إبادتهم برصاص سلطة الأسد أو تحت التعذيب بعد إلقاء القبض عليهم، لذلك فضلوا أن يموتوا جوعاً أو تحت قصف الصواريخ والبراميل على أن يقعوا بين براثن هؤلاء الطغاة..
أكثر المحللين تفاؤلاً وصلوا إلى التأكيد على أن حلب انتهت، وستسقط عاجلاً آو آجلاً.. حتى أن أثنين من " عظماء " المعارضة السياسية ذهبوا نحو هذا الرأي، فقد كتب الأول مقالة، ينهي موضوعها بضرورة عودة المعارضة إلى الحوار والتفاهم مع روسيا، أي الموافقة على ما تقدمه روسيا من فتات الحلول.. أما الثاني، فأنهى أيضاً مقالته التي اعتمد فيها التحليل التاريخي، بالدعوة إلى عدم الاستمرار في التضحيات التي لا طائل من ورائها، وهذا يعني نوعاً من الاستسلام المبطن..
إذن ما دام هذا رأي بعض المعارضين الكبار، فقد انتهى الأمر، وسوف تستسلم حلب إلى الدب الروسي والفيل الفارسي وشبيحة الفئة الهامشية التي رفعت شعار: إما الأسد أو نحرق البلد ".. لكنني في لحظة من التوهج الصوفي، كما يقال، تذكرت الزعتر الحلبي وأوراق الغار وطائر الفينيق..
ومرة أخرى أقول: من غامض علم الغيب ينهض هذا الطائر ــ الأمل الذي يرمز إلى انتصار الشعوب، وهذه المرة ينهض ويأتي من الغرب الحلبي، ويتقدم ليكتسح الفيلة الفارسية ويقضي على أحلام الدب الروسي..
وحكاية اكتساح ثوار جيش الفتح لقلاع سلطة الأسد، والهزيمة التي تعرض لها أنصاره من الفرس واتباعهم، وفك الحصار عن أحياء حلب المحررة، أصبحت معروفة لدى الجميع، ولكنها لم تكن معروفة لدى الحسون مفتي الأسد، فقد وصف قوات الأسد في تلك القلاع بأنهم كرجال بدر من صحابة رسول الله.!!!.. كما أنه لا يعرف أن تحرير حلب كاملة بات، حسب التقديرات، مسألة وقت لا أكثر..
فهل ينتصر طائر الفينيق على الدب الروسي والفيل الفارسي وعلى المواقف الأميركية الثعلبية التي لا تريد لحلب أن تتحرر، ويقضي الزعتر والغار على شجر العوسج والغرقد الذي شوه معالم بلادنا الجميلة..!!..
هذا عنوان لمقال شيق كتبه روبرت ف. كنيدي الابن، وهو ابن السيناتور الأميركي السابق روبرت كنيدي شقيق الرئيس الأميركي السابق جون كنيدي، في صحيفة واشنطن بوست. وللتذكير روبرت كنيدي الأب هو الذي اغتيل على يد الفلسطيني سرحان بشارة سرحان في شهر يونيو 1968 أثناء حملته الانتخابية، ولم يعرف حتى يومنا هذا السبب الحقيقي وراء الاغتيال. المقال طويل ويعود بنا إلى عام 1957 وإلى ألاعيب السياسة الأميركية ومغامرات وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إيه» في المنطقة وخصوصا في سوريا. في جزء من المقالة يتكلم كنيدي بإسهاب عن الأسباب الحقيقية التي أشعلت الحرب في سوريا، التي على ما يبدو لا دخل لها ولا ترتبط بأحداث الربيع العربي التي بدأت في عام 2011 كما يظن الكثير منا.
سلسلة الأحداث بدأت كما يسردها كنيدي في عام 2000 عندما بدأ التخطيط لبناء خط أنابيب بطول 1500 كيلومتر لنقل الغاز القطري عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا إلى أوروبا، بتكلفة 10 مليارات دولار. المشروع كان سيربط قطر بالسوق الأوروبية مباشرة ويمنحها الهيمنة في سوق الغاز العالمية ويخلق لتركيا مصدر دخل جديدا ويجعلها محطة أساسية للوقود من آسيا الى أوروبا. لقد حظي مشروع خط الأنابيب بدعم العديد من الدول الخليجية والأوروبية لما يحققه من أهداف اقتصادية وسياسية، اقتصاديا كان سيوفر لتركيا وأوروبا مصدرا رخيصا للطاقة، وهي التي تستورد ما يقارب %70 منها من روسيا، وسياسيا كان المشروع سيكفل خروج أوروبا من تحت رحمة روسيا التي تزودها بـ %30 من الغاز، كما سينهي اعتماد تركيا كليا على الغاز الروسي التي تستورد معظم احتياجاتها منه، ناهيك عن محاصرة إيران وتقليص نفوذها في المنطقة خصوصا بعد تمدد نفوذها في العراق.
روسيا اعتبرت المشروع تهديدا مباشرا لوجودها ونفوذها في المنطقة، وخطة من حلف الناتو لخنق الاقتصاد الروسي وزعزعة لوجودها في الشرق الأوسط. في عام 2009 أعلن الرئيس السوري بشار الأسد رفضه التوقيع على المشروع حفاظا على مصالح حليفه الروسي في المنطقة. المراسلات السرية بين الأطراف المستفيدة من المشروع تشير إلى ان قرار التحريض والثورة على الأسد أخذ مباشرة بعد قيامه برفض التوقيع، وكان قرارا بالإجماع، وقد أكد ذلك موقع ويكيليكس عبر الملفات التي نشرها عن سوريا، وبين قيام وكالة المخابرات الأميركية في 2009 بتمويل جماعات المعارضة السورية مباشرة بعد الرفض السوري للمشروع. أما الربيع العربي المشؤوم فلا ناقة له ولا جمل فيما يحدث في سوريا.
تهيأ القيصر الجديد لتسديد ضربة قاضية لجميع خصومه، وهو الذي اعتقد لعشرة أشهر مضت، أنه لم يعد في الحلبة السورية من يجرؤ على منازلته، وخرج وزير دفاعه وهو الرجل الأقوى في إدارته سيرغي شايغو ليعلم العالم أن بلاده منحت السوريين ثلاثة ممرات آمنة للخروج من حلب، وأعطى فرصة للمسلحين لتسليم سلاحهم، ضامنا لهم الحصول على عفو عام سيمنحه الرئيس بشار الأسد، يغفر لهم ذنب تمردهم على سلطته. ففي مساء الـ27 من يوليو (تموز)، وهو التاريخ الذي عقد فيه الوزير شايغو مؤتمره الصحافي، حيث أعلن عن اكتمال حصار المدينة، ساد العالم والمنطقة صمت مريب، فقد كانت التوقعات الأكثر تفاؤلا ترجح إعلان الشعب السوري استسلامه، والمعارضة هزيمتها.
ولكن على أبواب حلب، لم يفلح فلاديمير بوتين، المصر على تكرار أخطاء أسلافه السوفيات الذين سبقوه في السقوط بامتحان القوة، وفاته كما فاتهم في أفغانستان والشيشان أنه مهما امتلك من إمكانيات، فإنه لن يتمكن من إرضاخ أصحاب الأرض، فهم وحدهم يمتلكون المكان ويتحكمون في الزمان. سوء الحسابات أصاب بوتين وجنرالاته بالعمى الاستراتيجي، واعتقدوا للحظة أن طائراتهم تستطيع تغيير مسار الحرب والتحكم في نتائجها، فحصار حلب الذي أراد بوتين تحويله إلى حصار للمعارضة والثورة ولخصومه الإقليميين والدوليين، بدأ يتحول إلى حصار سياسي خانق له، من الصعب أن ينجح في فكه مهما حاول من استخدام القوة، فالمعادلة العسكرية والسياسية التي فرضتها المقاومة السورية وداعموها في موقعة حلب، نقلت موسكو من موقع المتفرد بالقرار السوري إلى رهينة مجبرة على التأقلم مع المستجدات في صناعة القرار الدولي، ولن تسمح لها المرحلة المقبلة بتجاوز ما تم تحقيقه في العشرة أيام الأخيرة.
في حلب الآن، ضاقت خيارات روسيا، ولم يعد أمامها إلا اللجوء إلى الكي باعتباره وسيلة أخيرة لمداواة جراحها السورية العميقة، والكي بالمنطق الروسي هو تدمير المدينة فوق رؤوس من فيها، والمشاركة المكشوفة إلى جانب ميليشيات مذهبية في غزوها، وكأنه يسير بملء إرادته إلى ما تجنبته دول تتفوق عليه في قدراتها العسكرية والاقتصادية، ونأت بنفسها مبكرا عما وصفته بالصراع الطائفي حول سوريا، كما أن الانقلاب الأخير في موازين القوة، لم يعد يسمح لموسكو بالتمسك بإعادة تعويم الأسد ونظامه، وقد أصبح العالم على قناعة نهائية بأنه لا إمكانية للحل بوجوده، إضافة إلى فشل موسكو الذريع في ترميم ما تبقى من جيش الأسد، وتأمين اللازم لانتشاره، ما كشف عن اعتمادها الكبير على المرتزقة الإيرانية.
لم تستبعد أوساط روسية إسقاط المروحية العسكرية فوق ريف إدلب بصاروخ أميركي، فهي رسالة واضحة بأن قواعد اللعبة بدأت تتبدل، وبأن إمكانية تحييد الطيران الروسي ممكنة، وهو بمثابة إنذار أميركي مبكر بأن المقيم الجديد في البيت الأبيض، سيختلف حتما في تعاطيه مع الملفات الروسية عن سلفه، وهو ما سيجبر موسكو على تغيير سلوكها، ويضعها أمام امتحان إثبات قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وفي مقدمتها إقناع الأسد بالتنازل عن السلطة، ما سوف يكشف حجم تأثيرها على النظام مقارنة بالتأثير الإيراني.
امتحان أمهلها إياه من تبقى لها من أصدقائها العرب، بأن تخرج بتوازن مقبول يضمن لها مصالحها في سوريا والمنطقة، وينقذها من الحصار الإقليمي الذي فرضته على نفسها، عندما حاولت من حلب اللعب بالثوابت الجيو - سياسية، التي حكمت قواعد الاشتباك في المنطقة، والتي جعلتها أيضا محاصرة بشروط العثماني المتمرد على حلفائه التقليديين، الذي يملك موهبة الأكل على الفكين، لكنها تحاول استمالته على الرغم من قناعتها بأن جسده في بطرسبرغ وعقله في واشنطن.
وعليه، لم تعد الأشهر المتبقية لأوباما في البيت الأبيض تكفي موسكو لتثبيت تفاهمات كيري - لافروف حول سوريا، حيث تواجه صعوبة في تمرير رؤيتها لتصنيف الجماعات السورية المقاتلة، ما يضعها أمام خيارين، إما الاكتفاء بعمليات جوية شبه محدودة، وإما أن تعلن عن عدم قدرتها على التفريق بين الإرهاببين والمعتدلين وتستمر في قصفها العشوائي، وهو ما بات من الصعب تمريره في الرياض وأنقرة، ومن الممكن أن ترفضه أجهزة الدولة الأميركية التي قد تدفع البيت الأبيض إلى التصعيد على أكثر من جبهة، ما سوف يضيف من أعبائها، كما يزداد قلقها جراء قرار الدول الإقليمية الفاعلة ملء الفراغ الأميركي في المنطقة وهو تحد إضافي لها.
موسكو المحاصرة في حلب أضاعت الفرص وتخسر الآن عامل الوقت، ولم يعد لديها من الزمن ما يكفي لتستخدمه في تمرير أجندتها، وهي تدرك جيدا أن عقارب الساعة تسير باتجاه واحد! وعن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك».
السوريون/ يات في كلِّ مكان. فعلاً في كل مكان. لقد أوصلتهم براميل بشار الأسد وسواطير مخلوقاته الإرهابية، على الطرف الآخر من الجحيم، إلى كلِّ مكان يمكن تخيله. قبل أيام، كنت أشاهد فيلماً وثائقياً عن لاجئين سوريين في مالي. ناهيك، بالطبع عن السودان. في الصحراء الكبرى. بين رملٍ ورمل. أما وصولهم إلى القطب الشمالي فليس خبراً حديثاً، فكلنا عرفنا ذلك، عندما كتبت عنه صحيفة بريطانية. صار السوريون مخترعي طرق وجغرافيا. هناك صفحاتٌ عديدةٌ على الإنترنت، أنشئت خصيصاً لفتح طرقٍ أمامهم في الجغرافيا التي تنغلق كلما زاد عدد اللاجئين، وتعقّدت ظروف اللجوء بصعود القوى اليمينية إلى سدّة القرار في غير بلد أوروبي. وأنا أرى إلى اللاجئين السوريين في مالي. في بلدٍ لا يستطيع أهله، أنفسهم، إقامة أوَدَهم: أي البقاء الصرف على قيد الحياة، تذكَّرت تقرير الصحيفة البريطانية التي كانت قد أخبرتنا، بنوعٍ من الطرافة والتعاطف، عن تمكّن السوريين من اشتقاق طريقٍ في القطب الشمالي يصل بين روسيا والنرويج، أو إعادة تأهيل هذا الطريق الجليدي الذي لم يمش عليه بشرٌ منذ الله أعلم. هناك دفعاتٌ سوريةٌ شهريةٌ تعبر الطريق الجليدي، ببطء ولكن بإصرار، للوصول إلى البلاد الاسكندنافية. للبقاء فيها، أو لعبورها إلى بلاد السيدة أنجيلا ميركل. ويبدو أن ذلك المعبر الجليدي كان الفاصل بين الجنَّة الأوروبية الغربية وبلدان ما وراء "الستار الحديدي". التاريخ يكرّر نفسه. ولكن، بوجوهٍ شرق أوسطية هذه المرة. لم تثن اللاجئين السوريين درجاتُ الحرارة، دون الصفر بكثير، ولا مخاطر الضياع في صحراء الجليد هذه التي بلا معلم، عن الذهاب بعيداً، أبعد ما يمكن، عن السماء السورية التي تحتلها الطائرات، وتتساقط منها البراميل والقنابل العنقودية والسموم.
لا الحرّ عند خط الاستواء، ولا القرّ عند القطب الشمالي المتجمّد يمنعهما من البحث عن سبيلٍ للنجاة بأنفسهم. للبحث عن سماءٍ لا تكفُّ عنها الطائرات. وبجانب بشرٍ لا يجزّون الأعناق، كما يقطف الرومانسيون وردة. الخبر السيىء أن قوافل اللاجئين السوريين التي تتدفق عبر الحدود ليست نهاية حبل "المسد". فما دام الصراع قائماً هناك. ما دام هناك من يرمي حطباً على النيران التي تتصاعد من رؤوس المدن الحضارية العريقة، المدن الأقدم في العالم، فاللجوء سيستمر. والقوافل السورية التي تعبر كل حدّ يمكن تخيله ستستمر. أما كيف تكون مالي طريقاً إلى "الجنَّة" الأوروبية المطوَّقة بالحرس والشكوك، فهذا يستحيل فهمه. من سورية. إلى لبنان. الأردن. مصر. الجزائر. موريتانيا، ثم مالي. لا أتحدّث عن شبّانٍ، بل عن عائلاتٍ بأكملها. نساء، رجال، أطفال، وجدّات أيضاً. في مالي، رجل يعمل ميكانيكاً جاء من حلب! تخيلوا معي هذه المفارقة الجغرافية المذهلة. قال الرجل: سماء مالي خالية، على الأقل، من الطائرات. ما زالت حلب تحت النيران. ما زالت السوخوي تحرث سماءها، وتسقط على مئات آلاف الحلبيين الذين انحشروا بين نارين وجبهتين، صواريخها وبراميلها، ومحتمل أيضاً: غازاتها السامة.
كنت قد قابلت مهندسةً معمارية حلبيةً في قبرص. هذا مكانٌ قريب. حارة متوسطية قياساً بأي عبور آخر. هناك بعض السوريين الذين وصلوا إلى الجزيرة. ليست قلة أعداد اللاجئين السوريين بسبب صعوبة الوصول إلى قبرص، ولا لتعقيد إجراءاتها، بل لأنها جزيرةٌ لا تبعد عن اللاذقية أكثر من مائة ميل. وعن بيروت ربع ساعة بالطائرة. ولأنها جزيرةٌ فهي لا تؤدي إلى غيرها. وهم يريدون غيرها. المهمُّ، أذهلني كلامها عن خروج عائلتها، وكثير من أقاربها وجيرانها. يبدو أن البراميل قدر السوريين. لكنها، هذه المرة، براميلُ نجاة، لا براميل هلاك. قالت لي إنهم يضعون الأطفال وذوي الأحجام الصغيرة الذين لا يستطيعون السباحة، في "بيدونات" (براميل) ويدحرجونها من مكانٍ يطلّ على نهر. يتلقى النهر البراميل، ويأخذها الى الجانب التركي. نسيت اسم النهر، أو المجرى المائي الذي سمَّته لي. أظنه العاصي. قلت لها إن ذلك يشبه قصة النبي موسى ونهر النيل أيضاً. المياه التي تُغرق، هي أيضاً التي تكتب الحياة لمن أريد له الموت. هذه المرة، للبراميل في سورية معنى الحياة. إنها التي توصل إلى الجانب الآخر، حيث لا تستطيع السوخوي أن تنقضّ وتتنمَّر.
على الرغم من كل ما يجري اليوم في بلدان الربيع العربي من أحداث تجعل وصف "الربيع" غير جدير بالاستعمال، من حيث المبدأ، فإن أحداً لا يستطيع الجزم بعد ما إذا كان ممكناً أم غير ممكن أن تمثل هذه المرحلة نقطة بداية، لم تؤتِ أكلها بعد، لانعطافةٍ تاريخيةٍ، يخرج بها العرب من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كان من أبرز سماتها لديهم سيادة الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت باسم الاستقلال والدفاع عن الأوطان، على طريق الولوج في "التاريخ الجديد"، القائم على المشاركة العامة، ومجمل حقوق الإنسان الأخرى، إذا ما انتهى هذا المخاض العظيم، ولو بعد حين، إلى إفراز أنظمةٍ منتخبةٍ ديمقراطياً في عدد من الدول العربية الرئيسية، تخوض غمار التنمية الشاملة الحقيقية والعميقة، اقتصادياً وإنسانياً.
يمكن، هنا، تحقيب التاريخ العربي الحديث والمعاصر، على أساس ثلاثة انعطافات تاريخية كبرى، ربما تكون مرحلة "الربيع العربي" رابعتها:
فقد تمثلت انعطافة العرب التاريخية الأولى في الجنوح إلى التحديث، مع تأسيس دولة محمد علي في مصر، العام 1805؛ أي بالانتقال من شكل الدولة القديم ونمطية صلتها بـ"شعبها"، إلى الدولة ذات البنية والتراتبية الحديثة؛ ثم من نمطية التفكير النقلي القديم إلى التفكير القائم على "الحرية" و"المساواة" واحترام الفرد، وفق ما بشّر به رفاعة الطهطاوي.
أما انعطافة العرب الثانية فوقعت مع وصول الاستعمار الأوروبي العسكري المباشر إلى بلادنا، منتصف القرن التاسع عشر. وفيها انعطف العرب من التحديث والفكر الحر إلى الارتباك أمام قوة الاستعمار القاهرة. وكان من سمات الارتباك أن ارتد التفكير إلى الماضوية بدعوى "العودة" إلى الدين، وفق المدرسة التي أسسها الأفغاني، أو هرب إلى تقليد أوروبا، بحجة الاستفادة من نهوضها، بحسب ما قال دعاة العلمانية المؤدلجة.
حدثت الانعطافة الثالثة مع زوال الاستعمار الأوروبي العسكري المباشر، عقب الحرب العالمية الثانية، وظهور ما سميت "الدولة الوطنية" في العالم العربي التي حكمتها أنظمةٌ استمدّت شرعيتها إما من قيادة الثورة على المستعمر (كما في الجزائر وتونس)، أو من تأسيس الدولة الحديثة وتوحيدها (كما في معظم دول المشرق العربي)، أو من الانقلابات العسكرية المبرّرة أيديولوجياً بالاشتراكية والقومية (كما في مصر وسورية والعراق، التي هي أبرز الدول العربية الرئيسية). وهكذا، لم تستمد أيٌّ من تلك الأنظمة شرعيتها من شعوبها، فكان طبيعياً أن تحكم من دون الرجوع إلى الناس، ما أدى إلى تهميش الشعوب العربية نحو ستين سنة.
الدافع إلى النظر إلى مرحلة ثورات الربيع العربي، باعتبارها بدايةً لانعطافةٍ جديدة ممكنة، ما تزال تحتاج إرهاصاتٍ كثيرة، على الرغم من العثرات الكبرى التي تمر بها، أنها حين بدأت انعطفت بالشعوب العربية من التهميش إلى المشاركة والتأثير والمساهمة في صناعة التاريخ. صحيح أن هذه الانعطافة أفضت، حتى الآن، إلى ويلات وقتل ودمار، في سورية واليمن وليبيا، أو إلى عدم اكتمال مخرجاتها الديمقراطية، بالشكل المتوقع منها، في مصر وتونس، بشكل دفع قطاعاتٍ متزايدةً من العرب إلى رفض تسميتها "الربيع"، من حيث المبدأ، هذا فضلاً عن أنها لم تشمل كل العرب، إلا أنه من غير الممكن الجزم أن العرب لن يدخلوا التاريخ من جديد، بعد هذه الأحداث الكبرى، وسيظلون خارجه، كما كانوا، منذ خضوعهم للاستعمار العسكري والإمبريالية، ذلك أن التحولات الكبرى التي عرفها التاريخ احتاجت، دائماً، مخاضاتٍ كبرى ووقتاً طويلاً.
علينا أن نلاحظ، بينما ننتبه إلى ذلك كله، أن دخول العرب في التاريخ المعاصر، القائم على احترام الفرد وحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليس مستحيلاً، أو ضرباً من الوهم، وليس التأخر في إنجازه ناتجاً عمّا هو متأصّل في ثقافتهم أو قيمهم الإنسانية والدينية، ما يعني أن الانعطافة الرابعة الكبرى واجبةُ الحدوث في لحظةٍ قد لا تكون بعيدة، خصوصاً حين نأخذ في الاعتبار أن دوراً كبيراً في دفع العرب إلى ثورات الربيع العربي لعبته التكنولوجيا الحديثة، من خلال إتاحتها أدوات التواصل والمعرفة لشعوٍب عاشت ستين عاماً في التضليل والتفتيت، والمعنى أن تقدّم التكنولوجيا لن يكون بلا أثرٍ على تاريخ العرب ومستقبلهم وانعطافاتهم الكبرى.
استغلّ حسن نصر الله مناسبات ظهوره، أخيراً، على الشاشات، ليعيد ويكرر اسم حلب، واضعاً استرجاعها على رأس أولويات الحزب. ينتشي الجمهور القابع في ساحةٍ تتوسطها شاشةٌ تعرض لزعيمهم، وهو يعدُهم باسترداد المدينة كاملة، فيعلو التصفيق والهتاف، كلما ذكرت حلب.
للمدينة القديمة تاريخٌ تليد قبل الفتح الإسلامي، على يد خالد بن الوليد، وبعده، وقد سُبق اسمها بصفة "عاصمة"، في عصور مختلفة، لكن أهمية المدينة التجارية انخفضت، في العقود الأخيرة، بسبب اقتطاع الجزء المطل على البحر المتوسط في اسكندرون لصالح تركيا، بعد اتفاقيةٍ أجرتها مع فرنسا، زمن الانتداب الفرنسي على سورية، وتراجعت أهميتها بالمقارنة مع دمشق العاصمة، على الرغم من ذلك، ومع أنها تبعد عن الحدود اللبنانية السورية مئات الكيلومترات، إلا أن أمين عام حزب الله يُدرج حلب في مكانةٍ عاليةٍ من الأهمية. لذلك، حشد لفتحها "عدداً كبيراً من مقاتليه"، واستخدم بشكل معلن كل الأساليب المتاحة.
وردت، من حلب، قبل أيام، صور أطفال يدحرجون دواليب، قيل إنها ستساعد في التشويش على عمل سلاح الجو الروسي الذي يقصف المدينة، ما سيسهل تقدّم القوات المعارضة، لفك الحصار عما يزيد عن ثلاثمئة ألف ساكن، يقطنون مناطق خارجة عن حكم الأسد هناك. وعلى الرغم من أهمية الانسجام التكتيكي الأخير بين قوى المعارضة الذي نفع، بشكل واضح، في الاستيلاء على كلية المدفعية وما بعدها، إلا أن رمزية وجود أطفالٍ، يحاولون اقتلاع غدهم بأيديهم الصغيرة، ضمن عوامل التحرير، تبعث رسالةً تقول، بجلاء، إنه لم يعد لدى السوريين ما يخسرونه.
كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد تعهد، في مناسبات عدة جمعته بقادة أميركان وأمميين، بالانخراط في اتفاقية وقف النار على حلب، ووعد بأنه سيدفع نظام دمشق إلى قبول هدنةٍ تلجم فائض الحمم التي تنصب فوق حلب يومياً، إلا أن المدينة عانت، في الأشهر الأخيرة، من قصفٍ روسيٍّ مستمر، تكلَّل بسقوط مروحية روسية، ومقتل طاقمها، ووقوع جثثهم بيد الثوار.
منذ سنوات، وحلب تعاني حرباً مفتوحة، سببت انهيار قسم ضخم من أوابدها العريقة، ومغادرة الملايين من ساكنيها، إلا أن أحداث الشهور الأخيرة التي مرّت على حلب تجاوزت المآسي الأسطورية. على الرغم من ذلك، لم يحرّك العالم من أجلها إلا بعضاً من قلقه واستنكاره، ورضي ضمناً عن ممارسات الأسد وحلفائه الذين طوَّقوا باقي سكانها، وأطلقوا دعواتٍ للمسلحين داخلها لتسليم أنفسهم، واستمتعت الفضائيات الموالية بعرض فيديوهات لحالات استسلامٍ، أعلنها شبانٌ يحجبون وجوههم بقمصانهم، ويسلمون أنفسهم نادمين إلى مليشيات الدفاع الوطني. استولت هذه المقاطع على اهتمامٍ فريد في الشارع المؤيد، على الرغم من الهفوات الإخراجية الجلية التي احتوتها.
كان لجرعات الشحن المتزايدة التي قدمها النظام، لتحفيز مؤيديه في حلب، أثر مماثل لدى الكتائب المعارضة، دفعها إلى الانتفاض، لكسر الطوق المفروض، فشرعت بهجومٍ معاكسٍ، تراجعت أمامه مليشيات الأسد عن المناطق التي استولت عليها أخيراً، كما دخل الثوار كلية المدفعية، واستولوا على ذخائر متنوعة، بأعداد ضخمة، وتحرّرت الراموسة بشكل خاطف، تحت ضربات الكتائب القادمة من الجنوب، بمساعدة جلية من المحاصرين في الداخل أنفسهم. على ذلك، ربما سيخفت صوت حسن نصر الله، وسيُجري حساباتٍ سريعةً، لإعادة ترتيب تصريحات جديدة تتناسب مع فقدانه حلم حلب التي بنى على إمكانية احتلالها تهديداتٍ مهولةً، ستطاول دولاً عربية وإقليمية.
بعد الراموسة، ستنطلق الكتائب إلى مواجهة أخرى، في حارات الحمدانية وصلاح الدين، لتبقى مدينة خناصر، الأقرب إلى داعش، المنفذ الأسهل لتموين النظام، وفيما لو تم قطعه، سيضيق الخناق على جزء حلب، الواقع تحت سيطرة مليشيات الأسد، وستزداد إمكانية انتقال المدينة، بشكل كامل، لتصبح ورقةً ذهبيةً في جيب رياض حجاب، في أثناء مفاوضات جنيف المقبلة. أما فيما يخص الإقليم، فسيبدو الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في لقائه المرتقب مع بوتين، أقوى من السابق، وربما ستصير مناقشة الحل السياسي في سورية بينهما أمراً أكثر إلحاحاً وجديّة.
بالفعل الانتخابات الأميركية المقبلة تعتبر بكل المقاييس غير عادية، ليس فقط بسبب أن المتنافسين أحدهما شخصية صاخبة، رجل أعمال لا علاقة له أصلاً بالشأن السياسي، والثانية أول امرأة تكسر العرف وتجرب حظها كمرشحة للرئاسة، بل أيضًا لأن العالم يتغير كثيرًا، في ظل شبه غياب للقيادة الأميركية في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما.
منطقة الشرق الأوسط، بما فيها منابع النفط وممراته، صارت براكين متفجرة، تعمها الحروب والفوضى. والإرهاب بلغ مبلغًا من الانتشار والخطر على العالم لا مثيل له في قرن كامل. كما أن أوروبا تعاني من أزمات خطيرة؛ من ارتفاع للمد القومي المتطرف، وغزو المهاجرين يهدد منظومتها الاجتماعية والسياسية، وبات مشروعها للاتحاد الأوروبي مهددًا بالتفكك، كما أن الجبهة الغربية القديمة المواجهة للنفوذ الروسي قد لا تصمد من دون عودة قوية لواشنطن. وهناك النزاعات في بحر الصين التي انفجرت أخيرًا وبلغت من التوتر مرحلة غير مسبوقة، وتحول حلم الرئيس أوباما بالتعاون الأطلسي إلى كابوس من النزاعات على الجزر والحدود والموارد.
كلها قضايا سيرثها الرئيس المقبل، سواء كان ترامب أو كلينتون، والتساؤلات من الآن هي هل يستطيع الرئيس المقبل الاستمرار بنفس النهج الانعزالي الأوبامي أم يحيي مبدأ الدفاع عن المصالح العليا ودور الشرطي العالمي؟
لقد برهنت أحداث سبع سنوات صعبة من إدارة أوباما على أن عدم التدخل والمشاركة الفعالة لا تقل كلفة وخطرًا على الولايات المتحدة.
فـ«داعش» اليوم أخطر من «القاعدة» بالأمس، كبر التنظيم نتيجة الانسحاب الأميركي الكامل، وتركه حرًا في العراق ثم سوريا وليبيا.
وقدوم رئيس أميركي مقبل قد لا يحسم الأوضاع المعلقة لأنها باتت أكبر من قدرة الدولة العظمى، لكن وجود إرادة ضرورة لتحقيق التعاون بين الدول الأخرى من أجل وقف النزاعات، أو تأطيرها، ووقف لهيبها من أن يمتد. وهذا التفاؤل لا يقلل من القلق العالمي الاستثنائي مما قد تفرزه الانتخابات الأميركية بعد أقل من ثلاثة أشهر من الآن، بوجود دونالد ترامب الذي انتشرت آراؤه المتطرفة. لكننا ندرك أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات، ولا تحكمها أهواء الأفراد، تعلو فيها المصالح العليا على الميول الفردية. يستطيع الرئيس العمل فقط من داخل أطر مؤسساتية، سواء قرر التدخل أو الانعزال.
دولة عظمى، كالولايات المتحدة، ذات قوة عسكرية ضاربة، لها أكثر من ستمائة قاعدة عسكرية في نحو أربعين دولة وتملك ترسانة من السلاح تكفي لتدمير العالم مرات، تحكمها أنظمة وقوانين لا تطلق يدي الرئيس في التصرف كما يهوى. بل هناك سلسلة واجبات تملى على الرئيس، رغم أنه أيضًا القائد الأعلى للقوات المسلحة، أن يحصل على موافقة المؤسسات التشريعية قبل أن يخوض حربًا. وعليه استمالة مراكز التأثير الكثيرة، مع تأييد نسبة كبيرة من الشعب الأميركي. وبالتالي لا يخشى كثيرًا من صعود أفراد، مثل ترامب، مهما أفرطوا في الحديث عن توجهاتهم في إدارة العلاقات الدولية.
الرئيس باراك أوباما لا يثق بنظيره الروسي فلاديمير بوتين. لكنه يصر على إبرام اتفاق عسكري معه! لذلك لا يعنيه من الاتفاق سوى التعجيل في تحقيق نصر كبير على «داعش» وقوى الإرهاب الأخرى. ولا يشغله أي هدف آخر عن ذلك. لا يعنيه قيام المرحلة الانتقالية لتسوية الأزمة السورية. ولا يعنيه مصير المعارضة. والواقع أن ثمة رغبة روسية مماثلة في إبرام الاتفاق. وقد يتوصلان إليه من دون أن يؤدي ذلك إلى فتح طريق التسوية. فالعقدة ليست في إصرار واشنطن على حق الفيتو على بعض أهداف الغارات الروسية ورفض موسكو ذلك. هذه عقبة تمكن إزالتها. ما تريده الإدارة هو فك الحصار عن حلب وأهلها ووقف الهجوم عليها. لأن استعادة النظام هذه المدينة تعني هزيمة كاملة للفصائل المقاتلة والمعارضة عموماً. فلا يبقى أي معنى للتفاوض. ولا يبقى بيد الولايات المتحدة أي ورقة ضغط لتحقيق الحد الأدنى من التغيير المطلوب. خصوصاً أن غيابها الميداني الطويل لم يوفر لها سابقاً ولا يوفر لها الآن وزناً بمواجهة التدخلين الروسي والإيراني. إن استعادة حلب ستجر إلى استعادة إدلب أيضاً. ويقود ذلك إلى تثبيت الرئيس بشار الأسد، وطي صفحة العملية السياسية. وهو ما يعزز موقف موسكو في أي مفاوضات. في مقابل ذلك، باتت روسيا على قناعة تامة بأن الإدارة الحالية ليست مستعدة للبحث في ما يتجاوز الوضع العسكري. أي أنها لا تبدي أي مرونة في نقل الحوار إلى ملفات أخرى على رأسها البحث في رفع الحصار عنها وإسقاط العقوبات. لذلك يبدي زعيم الكرملين تشدداً وإصراراً على التمسك بالورقة السورية. ويرفض إبرام أي اتفاق مع أولئك الذين «يخوضون حرباً اقتصادية» على بلاده، ما لم يعبروا عن استعدادهم لمراجعة مواقفهم في ملفات كثيرة تشكل موضع خلاف.
من هنا تتخذ معركة حلب صفة استثنائية ومصيرية. روسيا قد لا ترغب مرحلياً في أكثر من حصارها لتظل ورقة مساومة وضغط. في حين يهدف النظام وحليفه الإيراني والميليشيات المقاتلة إلى جانبه إلى استعادة أكبر مدينة في البلاد (تشكل محافظة حلب ربع سكان سورية) والعاصمة الاقتصادية. لأن ذلك سيفتح أمامه الطريق إلى مواصلة حربه حتى إقفال الحدود الشمالية مع تركيا. فيحقق بذلك هدفين كبيرين: يقطع كل خطوط الإمداد للفصائل المقاتلة في الشمال. ويكبل يد تركيا أيضاً. أما المعارضة فتخوض حرب حياة أو موت فعلاً. لأنها تعي أن لا شيء يعوضها خسارتها العاصمة الشمالية. سيضيق عليها الخناق. فلا طرق إمداد وسبل تواصل مع الخارج. ولا حلفاء وأصدقاء تمكن استعادة ثقتهم بقوتها وقدرتها على تحقيق أي تقدم. ولا شيء بعد ذلك يمكن أن يرغم النظام على تقديم أي تنازل أو التسليم بالرحيل. ومن هنا هذا الحشد الواسع لفصائل المعارضة المختلفة من «الجيش الحر» إلى القوى الإسلامية الأخرى من «جيش الفتح» إلى «فيلق الشام» وغيرهما من قوات لمعركة تعتبر مصيرية لمنع سقوط حلب.
ضجيج معركة حلب ترافقه تحركات سياسية مصيرية هي الأخرى. ليس أبرزها التحركات الحثيثة للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، من أجل إطلاق محادثات «جنيف 3». فلا المعارضة مستعدة لتقديم ما رفضت تقديمه في الجولة السابقة من المفاوضات، أياً كانت المفاجآت الميدانية. وهي قد لا تحضر في ظل هذه الحرب المفتوحة بمشاركة فعالة من الطيران الروسي. ولا النظام يبدي مرونة في ظل الدعم الكبير الذي يتلقاه من حلفائه، وفي ظل تفاهم حقيقي بين موسكو وواشنطن. وليس أبرزها أيضاً المساومات الأميركية - الروسية التي لن تثمر، إذ إن الكرملين الذي لم يعد يأمل بتحقيق تقدم فعلي مع إدارة الرئيس أوباما، يسعى إلى فرض أمر واقع جديد على الأرض شمال سورية استعداداً للتوجه نحو الإدارة الأميركية المقبلة. ثمة محطتان قد تبدلان المشهد: مآل القمة التركية – الروسية الراهنة، ثم الاجتماع الذي تعد له المعارضة مع دول أوروبية وعربية في لندن آخر هذا الشهر.
ثمة مبالغة في الحديث عن شراكة استراتيجية بين تركيا وروسيا تحل محل علاقة الأولى بكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. لن يكون الأمر بهذه السهولة ولا بهذه السرعة. ثمة مبالغة في رؤية انقلاب من هذا النوع في قمة الرئيسين بوتين ورجب طيب أردوغان في سان بطرسبورغ، مهما بلغ غضب «حزب العدالة والتنمية» وقوى أخرى من موقف واشنطن حيال المحاولة الانقلابية، وعدم تجاوبها في تسليم أنقرة المتهم بالمحاولة الداعية الإسلامي فتح الله غولن. ومهما بلغ الغضب التركي من مواقف دول أوروبية تحذر حكومة علي بن يلدريم من المغالاة في إجراءاتها ضد آلاف من أنصار الداعية المقيم في بنسلفانيا وغيرهم، ومن التضييق على الحريات، وإعادة العمل بقانون الإعدام، ومن الطريقة التي يتم التعامل بها مع قادة الجيش والأمن، ومن سياسة «إعادة تأهيل» المؤسسة العسكرية... لا يمكن في هذا اللقاء أن يسوي البلدان خلافاتهما التي لا تقتصر على سورية فحسب، فهناك قضية القرم وقبرص والصراع بين أرمينيا وأذربيجان ومستقبل الأوضاع في آسيا الوسطى.
موسكو أعلنت صراحة أن مستقبل العلاقات مع أنقرة رهن بموقف الأخيرة من الأزمة في سورية. فهل يسلم أردوغان بمشروع روسيا في سورية من دون أي ثمن؟ أو هل يطوي صفحة مواقفه في السنوات الخمس الأخيرة من هذه الأزمة ويقبل بإعادة تأهيل النظام؟ ماذا يبقى من صدقيته؟ صحيح أنه لا يزال قلقاً جداً من الأوضاع الداخلية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. لكن فشل الانقلاب عزز موقعه وشعبيته. وهو يستغل هذه الفرصة إلى أقصى حد بإقصاء كل خصومه ومنافسيه وإضعافهم. فهل يجازف بإضعاف موقفه بالتخلي عن المعارضة السورية، أم يكتفي بالتفاهم مع موسكو على محاربة الإرهاب؟ هل يجازف في حمأة الصراع على سورية أن يسقط هذا البلد بيد إيران؟ أم أنه يبدي استعداداً للتعاون مع مضيفه غداً لتعزيز موقعيهما بمواجهة النفوذ الإيراني؟
هناك عناصر أخرى تعوق انقلاباً جذرياً لأردوغان على مواقفه السابقة. الاعتذار من موسكو والسعي إلى مصالحتها كانت وراءهما الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها تركيا نتيجة المقاطعة الروسية. والأهم من ذلك أيضاً شعور تركيا بأنها باتت محاصرة داخل حدودها ولم تعد لها اليد الفاعلة في الأزمة السورية. خصوصاً أن لكل من الكرملين وواشنطن أجندة مختلفة لم تقم أي اعتبار لحسابات تركيا ومصالحها. وقدما دعماً واسعاً إلى حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري». وهو ما ضاعف قلق أردوغان من صعود الكرد وتبنيهم مشروع الفيديرالية لسورية وانعكاس ذلك على الأوضاع الداخلية في بلاده. فكيف سيبدد مضيفه هذا القلق؟ صحيح أن موسكو تربط تحسين العلاقات مع جارتها الجنوبية بموقفها من الأزمة السورية وسبل تسويتها سياسياً. لكنها لم تنتظر تحولاً من هذا النوع. بل رحبت سريعاً بعودة العلاقات الثنائية لأسباب اقتصادية وسياسية أيضاً. فهي تراهن على ابتعاد جارتها الجنوبية عن أوروبا والولايات المتحدة. وذاكرة الروس لا تزال حية. لا يغيب عن بالهم أن هذه الجارة كانت على الدوام ولا تزال مبدئياً ركناً من أركان «الناتو». وهي إلى اليوم تستضيف أجزاء من «الدرع الصاروخية» التي يعتبرون أن الحلف الأطلسي يقيمها بهدف تطويق بلادهم. ولا يمكن الرئيس بوتين أن يفــــوت فرصة استجابة بعض طلبات نظــيره من أجل تعميق خلافاته مع أوروبا والولايات المتحدة وزعزعة استـــراتيجية الحلف. وقد يكون مستــعداً لأن يقايضه بمواقف محددة فـــي سورية ليس مستعداً لتقديمها إلى الرئيس الأميركي. وهو يعلم أن حكومة حزب العدالة قدمت وتقدم دعماً إلى المعارضة في معركة حلب.
الحدث الآخـــر الذي قـــد يبدل في المشهد الســـوري، اللقـــاء الـــذي تعد له المعارضــة في لندن آخـر هذا الشهر. من المقـــرر أن تجتمـــع الهيئة العليا للمفاوضات: «الائتلاف الوطني»، «هيئة التنسيق» وممثلو كبرى الفصائل العسكرية المقاتلة، من أجل إطلاق «رؤيتها السياسية» الواحدة، بحضـــور عدد من وزراء الخارجية الأوروبيين والعرب ووزيري الخــارجية الأميركي والتركي. المهم فــي «الرؤية» أنها ستخاطب أوروبا وغيرها من المهتمين بمستقبل سورية: الحفاظ على مؤسسات الدولة، وإصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية، التمسك بوحدة الأرض والشعب، والحــرص على حقوق الأقليات الدينية والعــرقية، والدعوة إلى خروج جميع المسلحين الأجانب من سورية، ونبذ التشدد الديني والإرهاب ومحاربته... وقبل كل ذلك وبعده التمسك بالانتقال السياسي الذي نص عليه بيان جنيف الأول. ليست «الرؤية» وحدها ما يضفي أهمية على هذا اللقاء، بل رغبة المعارضة في ملاقاة استياء أوروبا من الثنائي الروسي - الأميركي الذي تعي أنه خطف عملياً إدارة البحث عن تسوية في سورية، من دون أي حساب للقارة العجوز ومصالحها. علماً أنها تتحمل العبء الأكبر من تداعيات الأزمة السورية. وتعيش مجتمعاتها على وقع الإرهاب الضارب في عواصمها ومدنها، وتعاني من تدفق اللاجئين ومــا يفرضون من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية. فهل تنجح المعارضة والقارة العجوز بعد لقاء لندن في رسم مشهد جديد يفرض على اللاعبين الآخرين إعادة النظر في حساباتهم وسياساتهم؟
فتحت معركة حلب الباب أمام تطورات جديدة وخطيرة في القضية السورية٬ إذ كان قرار تحالف النظام بخوضها سبًبا رئيسًيا في تأجيل جولة مفاوضات جنيف3 التي كان من المتوقع عقدها بداية أغسطس (آب) الحالي٬ كما هو الاتفاق الروسي الأميركي الذي تم قبل أشهر في موسكو للمضي نحو الحل السياسي في سوريا.
الهدف الأساسي من معركة حلب٬ كما رآها حلف النظام٬ هو خلق وقائع ميدانية جديدة٬ حدها الأدنى حصار حلب٬ والأعلى الاستيلاء على المدينة٬ وتصفية قوة المعارضة العسكرية والمدنية في مدينة تمثل رمزية سياسية وعسكرية بالنسبة للسوريين٬ وتحتل أهمية خاصة لأصدقاء الثورة السورية٬ وخاصة جارتهم في الشمال تركيا. وفي تقدير تحالف النظام أن حصار حلب أو الاستيلاء عليها٬ سوف يضعف المعارضة وأصدقاءها٬ ويجعلهم أكثر استجابة لطروحات التسوية٬ التي يسعى الروس للوصول إليها٬ والتي لا تجد لها معارضة جدية من جانب الشريك الأميركي الساعي إلى تحقيق أي «إنجاز» في الموضوع السوري٬ ولو على حساب الشعب السوري وقضيته.
ورغم أهمية الهدف الأساسي لمعركة حلب٬ فثمة أهداف أخرى للمعركة من جانب أطراف حلف النظام٬ أبرزها إجراء تغييرات ديموغرافية في حلب لصالح الطرف الإيراني وأدواته من الميليشيات الشيعة وخاصة «حزب الله»٬ وذلك عبر طرد وقتل المزيد من سكانها وإحلال بنية ديموغرافية شيعية في مدينة٬ لم يقيض لهم أن يقيموا وجوًدا شيعًيا فيها على نحو ما حصل في المدن التي يسيطرون عليها مثل دمشق وحمص والسويداء.
ولم تكن أهداف حلف النظام من معركة حلب خارج وقائع ومعطيات محيطة في المستويين الداخلي والخارجي. فالمعارضة السورية وصلت إلى مستوى كبير من الضعف والتردي في تشكيلاتها السياسية والعسكرية وفي علاقاتها البينية وعلاقاتها الخارجية أيًضا٬ وأصدقاء المعارضة في المستويين الإقليمي والدولي٬ صاروا أقل قدرة أو رغبة في تنشيط وتقوية دورهم في القضية السورية٬ وهذا ينطبق بشكل خاص على تركيا٬ التي تواجه مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل٬ لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية وسياساتها.
وسط تلك المعطيات٬ بدا لحلف النظام أن كسب معركة حلب أمر محسوم وسهل٬ خاصة في ظل أمرين اثنين؛ أولهما تجربة المعارك التي شهدتها حلب ولا سيما شمالها في الأشهر الأخيرة٬ والتي كرست معبر الكاستيلو ممًرا وحيًدا لحلب مع الشمال٬ والأمر الثاني استكمال تحشيد قوات تحالف النظام من قواته والإيرانيين والميليشيات وقوات النظام والطيران الروسي في محيط حلب٬ وهي أكثر من كافية لإغلاق الممر٬ وإكمال حصار حلب.
ورغم أن إغلاق الممر تم على نحو سريع وسط هجوم مدمر بمختلف القوات والأسلحة٬ فإن وقائع المعركة في الأيام التالية٬ بينت نتائج مختلفة٬ الأهم فيها رفض مغادرة المدنيين وقوات المعارضة عبر الممرات التي أعلن عنها الروس٬ ثم توجه فصائل المعارضة المسلحة للضغط على خواصر حلف النظام الضعيفة وخاصة في القطاع الجنوبي٬ مع الاستمرار في خوض معارك مواجهة عنيفة ضد قوات تحالف النظام على الأرض والتصدي للطيران بالحدود الممكنة٬ وكلها منعت حتى اللحظة من تحقيق أهداف المعركة وفق تصورات الحلف.
إن معركة حلب كما تظهر اليوم٬ لن يتم حسمها لصالح تحالف النظام٬ كما أنها لن تحسم لصالح قوات المعارضة بالإمكانات الراهنة٬ مما يعني أنها ستكون معركة كر وفر، كسب هنا وتراجع هناك٬ وهذا بحد ذاته٬ سيشكل في المدى القريب عاملاً إيجابًيا لصالح المعارضة٬ يمكن أن يتعزز إن استطاعت المعارضة تطوير قدراتها٬ وتحسين علاقاتها البينية٬ وضمنت دعًما سياسًيا وعسكرًيا أفضل من أصدقائها ومن المجتمع الدولي٬ وكلها ليست بالأمور السهلة٬ والتي يمكن أن تتحقق بصورة عاجلة٬ لكن لا بد من المضي بجدية ودأب من أجل تحقيقها.
غير أن مساعي المعارضة لتحسين ظروفها في معركة حلب لن تكون بعيدة عن أعين وإجراءات تحالف النظام وروسيا في ضوء الوقائع التي ظهرت في الأيام الماضية٬ مما يعني أن الحلف أيًضا سيقوم بخطوات تهدف إلى استعادة المبادرة من أجل تحقيق أهدافه وخاصة من ناحية حشد مزيد من القوات والتنسيق بينها٬ وتقوية الخواصر الضعيفة، وتصعيد عمليات القصف والتدمير على قوات المعارضة والتجمعات السكانية٬ وقد بدأ تنفيذ تلك الخطوات بمستويات متعددة.
خلاصة الأمر أن الفترة القادمة من معركة حلب ستكون صراًعا عنيًفا بين الطرفين٬ وصولاً إلى استئناف جولة جديدة من مفاوضات جنيف3 التي ستكون نتائج معركة حلب على طاولتها مغلفة بكل العنف الدموي والدمار اللذين يرتكبهما حلف النظام٬ والدفاع الصلب والقدرة على التقدم اللذين يفترض أن تثبتهما المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري٬ ووسط إرادة دولية٬ يفترض أن تتسم بالجدية في معالجة ترديات القضية السورية بعد معركة حلب.