مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢١ نوفمبر ٢٠١٦
أهمية علم السياسة و تأثيره في حياة الدول و المجتمعات

    تأتي أهمية السياسة من كونها المؤثر بحياة الدول منذ نشأتها , و الإنسان منذ ولادته و حتى وفاته . فكل ما يتعلق بحياة الإنسان يسيس أو تشرف عليه السلطة السياسية . حتى غدت هذه الأخيرة  تتدخل بجميع مفاصل الحياة البعيدة كل البعد عن السياسة و معتركاتها .
       فالزراعة , و الرياضة , و الموسيقا ؛ تُعد من أبعد الأنشطة الحياتية عن السياسة . و مع ذلك نرى أن السلطة السياسية هي التي تشرف عليها و تمولها و توجهها بالشكل الذي تريد . ففي الكثير من الأحيان تحولت ساحات الملاعب الرياضية لساحات شبه معارك تُرفع فيها الرايات و الأعلام و الصور و الافتات , و تتعالى الهتافات بتمجيد الدولة أو رمزها . و الدولة التي تنتصر في نهاية المباراة تعتبر نفسها قد حققت نصراً سياسياً و عسكرياً على خصومها . كذلك الأمر بالنسبة للموسيقا التي ترعاها السلطة السياسية و تشرف عليها و توجهها و تسيسها بالشكل الذي تريده عبر برامج تلفزيونية , و محطات إذاعية و صحف محلية مسيسة تهدف لإيصال فكرة ما للجمهور عبر هذه الوسائل .
       من هذا المنطلق فقد أولت الكثير من الدول الأوروبية خاصةً بُعيد الحرب العالمية الثانية أهمية كبرى للعلم السياسي الذي ما هو إلا أحد مؤسسات و مرتكزات السلطة السياسية و التي تعني الهيئة العليا القائدة في الدولة . لهذا ؛ فقد اعتمدت هذه الأخيرة على عباقرة و فقهاء السياسة في تثبيت حكمها من جهة , وعلى فقهاء و خبراء القانون الدولي العام و الخاص لتحديد علاقاتها بالدول الأخرى من جهة ثانية . و بما أنَّ للسياسة الباع الأكبر , و التأثير الأقوى في حياة المواطنين و تثبيت حكم الدول ؛ فقد أنشأت أفرع جديدة في جامعاتها يسمى ( علم السياسة ) بدأ يُدرَّس في بعض الجامعات الأوروبية . و كان شبه حكراً على أولاد المسؤولين و أغنياء أوروبا . ما لبث أن انتشر في العديد من الدول النامية نظراً لما له من شأن و تأثير في حياة الدول و المجتمعات . حيث أن الكثير من فقهاء علم السياسة اعتبر أن ميزان قوة الدول تُبنى بالدرجة الأولى على قوة السياسة للدولة . بالإضافة إلى حنكة و قدرة الأشخاص القادرون على الإمساك بدفة الحكم . فقادة و حكام الدول ؛ هم الأشخاص الذين يمتلكون الحذاقة السياسية , و المناورة مع أخصامهم , و القدرة على ضم العديد من هؤلاء إلى جانبهم . فالسياسية هي الدماغ السليم الذي يعرف كيف يخطط , و يتعامل , و يناور , و يهدم , و كيف يبني .
        في العصور الحديثة ؛ أصبح كل شيء مسيس . و كل شيء تشرف عليه السلطة السياسية . حتى أصبحت القرارات العسكرية لا تتخذ من قبل القيادة العسكرية إنما تتخذ من قبل سلطة سياسية . و السماح باستخدام الأسلحة النووية و أسلحة الدمار الشامل لا تتخذ من قبل قيادة عسكرية ؛ إنما تتخذ من قبل سلطة سياسية . و إعلان السلم و الحرب و الاتفاقات و الهدن و تسليح الجيش جميعها تشرف عليها السلطة السياسة  و تصدر منها القرارات .
      لا نغالي كثيراً إذا قلنا أن الثورة السورية تأثرت كثيراً بغياب و فراغ الأدمغة السياسية منها , عن طريق التصفيات , أو الاعتقالات . بل و تهميش أغلب نشطائها السياسيين و الحقوقيين الذين ربما كان لبقائهم في سورية و أخذ دورهم المكان الرائد في تنسيق العمل السياسي , و توفير الكثير من الدماء و التضحيات , بل و توجيه الثوار على الأرض لما يخدم مصالح ثورتنا المباركة و يحقق لها النصر المؤزر القريب , و اختصار الوقت لتحرير سورية و إسقاط النظام المغتصب للسلطة . فعندما يأخذ سياسيينا مواقعهم , و يقومون بالتنسيق السوي مع بعضهم , و يتبعون سياسة ( الاستراتيجيا ) مع الضباط الأحرار ؛ لما آل إليه ملف ثورتنا المباركة إلى ما آل إليه . و لما أصبح ملف الثورة السورية من أعقد الملفات الدولية و في قمة الملفات الشائكة في القرنين العشرين و الواحد و العشرين . فنحن الآن أحوج ما نحتاجه هو عودة عباقرة السياسة الثوريين المخلصين إلى الساحة الثورية من جديد . المتواجدون في سورية و في المعارضة للمساعدة بالتخلص من أعداء الثورة و إعادتها إلى مرحلتها الذهبية . و هذا لا يعني الانبطاح , أو المهادنة , أو الاستسلام لدول الخارج . أو الدلالة على الاستعانة ببعض السياسيين المنبطحين و الذين يُحسبون على الثورة السورية . إنما يعني تحصيل حقوق الثورة , و انتزاع قرارتها من الذين تخاذلوا عن نصرتها , و ابتعدوا عن منهجها , و تكلموا باسمها . من هنا يكمن دور السياسيين المؤثرين بإعادة تنظيم صفوف الثورة الداخلية و إدارتها بالتعاون مع شرفاء سورية في الداخل و الخارج . و تسخير هذه الجهود لخدمة قضيتنا التي حاول البعض حرفها عن مسارها الذي حدده نشطاء الثورة و قادتها منذ أن انطلق أول هتاف في درعا و تبعه في حمص . لأن مصالح الدول في الحقيقة تكمن بمن يستطيع من أبناء سورية و قواها الثورية  استقطاب القاعدة الشعبية , و يسعى لتحقيق أهدافها , و توطيد أمانها , و تأمين سبل دعمها و صمودها . عندها تقوم هذه الدول بتقديم المساعدة . و يتحدد نوع هذه الأخيرة وفقاً لقوة السياسيون , و وفقاً لقوة التنظيم و الإدارة اللذان ينبعان من احتضان المواطنين للثورة و قادتها و رموزها .
      نوجه رسائلنا إلى المجتمع الدولي و نقول له : أن الثورة تمتلك من هو أثمن من المال السياسي و السلاح العسكري لتحرير الأرض من رجس الطغاة و المحتلين و المرتزقة . ما يمتلكه أهلنا و أخوتنا هو الكوادر القادرة على التنظيم و الإدارة عن طريق نشطائها السياسيين و ضباطها العسكريين و مثقفوها و مخلصوها في كافة المجالات , القادرون على العودة بها لمرحلتها و نقائها الأولي .

 

اقرأ المزيد
٢٠ نوفمبر ٢٠١٦
هل يبقى الأسد في السلطة حتى 2021؟

التقى ديكتاتور سورية صحافيين غربيين، أخيراً، في دمشق، زاروا سورية، تلبية لدعوة من الجمعية البريطانية السورية التي يرأسها والد زوجته، جراح القلب الدكتور فواز الأخرس. وقد نقلت أوساط صحافية تصريحات لبشار الأسد تعبر عن حالة التشتت الذهني والانفصال عن الواقع التي يعيشها بعد أكثر من خمس سنوات على حربٍ شنها على شعبه، محاولاً قمع انتفاضة الشباب السوري. فقد قال إنه سيستمر في الحكم حتى العام 2021 على الأقل، موعد انتهاء ولايته الثالثة على رأس مافيا عائلية تحكم سورية منذ 45 عاماً، ورث قيادتها عن أبيه حافظ الأسد، الذي كان وصل إلى رأس السلطة في سورية عام 1970 في ثاني انقلاب عسكري منذ انقلاب "البعث" عام 1963 الذي أطاح التعددية السياسية في سورية والحكومة المنتخبة، وأسّس لديكتاتورية عسكرية، تقوم على حكم الحزب الواحد الذي تحول إلى حكم الشخص الواحد، فقد سجن حافظ الأسد رفاقه الذين انقلب عليهم حتى وفاتهم في سجونه، وأسس حكماً مافيوياً عائلياً وراثياً أوصل سورية إلى الكارثة التي تعرفها اليوم.

بقاء الأسد في السلطة حتى عام 2021، في رأي مراقبين كثيرين، مرهون باستمرار الحرب في سورية، المرجح أن نهايتها ليست قريبة، إلا في حال تغيرت الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، بعد رحيل إدارة الرئيس باراك أوباما، أو بدأت روسيا تشعر أن رغبة رئيسها، فلاديمير بوتين، في استعادة هيبتها دولة عظمى على حساب دماء السوريين ودمار بلادهم أصبحت مكلفة جداً، وأن ورطتها في سورية لن تكون أقل كارثيةً من ورطة الاتحاد السوفييتي المنهار في أفغانستان، الأمر الذي لن يحصل غالباً، قبل أن تقرّر الإدارة الأميركية دعم فصائل المعارضة السورية بأسلحةٍ قادرة على إيقاع خسائر حقيقية في الجيش الروسي.

تقوم الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط إلى الآن (تلتقي، إلى حد ما، مع المصلحة الإسرائيلية) على استنزاف كل من روسيا وإيران ومليشياتها اللبنانية في مواجهة عشرات الآلاف من العناصر الجهادية المتطرفة الذين تم تسهيل وصولهم إلى سورية بهذا الغرض. ويتطلب استمرار هذه الحرب أيضاً بقاء بشار الأسد على رأس سلطةٍ وهميةٍ، لا تملك من أمرها شيئا، لكنها تسهل انضمام سوريين كثيرين، قتل الأسد آباءهم أو إخوانهم أو اعتقل أمهاتهم وأخواتهم وأذلهم في سجونه، أو قتلهم تحت التعذيب، إلى أي جماعة ترغب بقتاله.

فكما تشكل التنظيمات التكفيرية السنية عاملاً جاذباً للحرس الثوري الإيراني ومليشيا حزب الله اللبنانية، وهو أمر ضروري لاستمرار الحرب المذهبية في سورية والمنطقة، يشكل بقاء الأسد عاملاً ضرورياً لاستمرار إصرار سوريين كثيرين على التعاون، حتى مع الشياطين، للخلاص من شروره.

لكن، على بشار الأسد أن يكون متأكداً أن بقاءه أو رحيله، وزمن هذا الرحيل وكيفيته، بيد أصحاب القرار الحقيقيين، فيما يتعلق بالحرب السورية، وهو ليس واحداً منهم بالتأكيد.

عندما تتعب روسيا، وينهار اقتصادها، ويبدأ مواطنوها بالاحتجاج على فقدان آلاف من أبنائهم في الحرب السورية، ويكتشف قادة الجيش الروسي أن احتلالهم سورية لم يكن أكثر من فخٍّ نصب لهم لاستنزافهم، وعندما يقتنع بوتين بأن أحلامه في التحول إلى قيصر جديد على حساب الدم السوري ليست أكثر من أوهام، أو تقرّر الولايات المتحدة بأنها أضعفت إيران وحزب الله، والتنظيمات المتطرفة التي تشكل خطراً على أمنها بما فيه الكفاية، أو تشعر إسرائيل بأن الدمار الذي حصل في سورية نتيجة حرب بشار الأسد على شعبه أصبح كافياً لإشغال السوريين عقوداً في معالجة جراحهم. عند ذلك، يكون بشار الأسد قد أنهى مهمته، ولم يبق عليه إلّا أن يحزم حقائبه، ويتوجه الى لاهاي، ويشغل كرسيه الذي يستحق في قفص محكمة الجنايات الدولية، مع كبار قادة المافيا التي ورثها عن أبيه.

ستتوقف الحرب بالتأكيد يوماً ما، وبشار الأسد وجميع مجرمي الحرب من تكفيريين ومليشيات إيرانية ولبنانية الذين ساهموا في قتل السوريين، وتسببوا في مأساتهم، سينالون جزاءهم من دون شك.

لكن الأهم أن يعمل شرفاء سورية، وكل أصدقاء شعبها، ومحبو السلام في العالم على وقف هذه الحرب بأسرع ما يمكن، حتى يبقى من سورية ما يمكن إعادة بنائه، ومن شعبها من يتولى إعادة البناء، بعد زوال الطغيان والإرهاب عن أرضها وصدور أبنائها.

اقرأ المزيد
٢٠ نوفمبر ٢٠١٦
فريق ترامب والاتفاق الإيراني

عززت التعيينات التي أعلنها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في إدارته المنتظرة، التوقعات بتبنيه موقفاً متشدداً من إيران، كان أعرب عنه خلال الحملة الانتخابية، خصوصاً حين وعد لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية «ايباك» في آذار (مارس) الماضي، بجعل «تفكيك» الاتفاق النووي مع طهران «الأولوية الأولى» لرئاسته.

تاريخ مرشح ترامب لرئاسة وكالة الاستخبارات المركزية «سي اي ايه» مايك بومبيو حافل بما يدعم هذه التوقعات. فهو كان أحد أبرز معارضي الاتفاق النووي داخل مجلس النواب الذي ترأس فيه لجنة الاستخبارات، وهو قدم مشاريع قوانين عدة لتشديد العقوبات على إيران قبل الاتفاق وبعده. كما أنه عبر قبل ساعات من إعلان اختياره للمنصب أول من أمس عن تطلعه إلى «التراجع عن الاتفاق الكارثي مع أكبر راعٍ للإرهاب في العالم».

الأمر نفسه ينسحب على مرشح ترامب لمنصب مستشار الأمن القومي الجنرال المتقاعد مايكل فلين الذي عارض الاتفاق النووي بشدة، وأفرد القسم الأكبر من شهادة له أمام اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس النواب الأميركي العام الماضي، لمهاجمة إيران التي اعتبرها «خطراً واضحاً على المنطقة والعالم». ودعا إلى تغيير نظامها ودعم «تشكيل جيش عربي على غرار حلف شمال الأطلسي» لمواجهتها.

وإذا صحت التكهنات التي تسوقها وسائل الإعلام الأميركية بأن وزير الخارجية الجديد المتوقع إعلان اسمه خلال أيام سيكون إما عمدة نيويورك السابق رودي جولياني أو السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون، فسيصبح المثلث المعني بالتعامل مع إيران في الإدارة الجديدة على الموجة نفسها من التشدد في مواجهتها، خصوصاً أن جولياني وبولتون عارضا الاتفاق النووي.

لكن هذا الزخم الذي اكتسبته معارضة الاتفاق النووي في الإدارة الجديدة لن يفضي بالضرورة إلى إلغائه، إذ كان لافتاً تنازل بعض أبرز معارضي الاتفاق الجمهوريين عن هذا الهدف قبل أيام واقتراحهم الإبقاء على الاتفاق مع التشدد في تطبيقه، كما دعا رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بوب كوركر الذي كان أحد الأسماء المطروحة لتولي وزارة الخارجية في إدارة ترامب. وهو اعتبر أن أميركا «فقدت نفوذها» حين أفرجت لإيران عن بلايين الدولارات بعد الاتفاق، ما يعني أن إلغاء الاتفاق «في مصلحة طهران».

غير أن الانعطافة اللافتة في ما يخص الاتفاق جاءت من إسرائيل التي كرر ترامب وبومبيو وفلين مراراً أن أمنها أحد أهم دوافع موقفهم الرافض له. فوفق ما نقلته وكالة «بلومبرغ» عن مسؤولين إسرائيليين، يعتزم بنيامين نتانياهو الطلب من ترامب في لقائهما الأول عدم إلغاء الاتفاق، والحزم في المقابل في مواجهة إيران ومحاصرة تمدد نفوذها الإقليمي، عبر التوسع في العقوبات غير المرتبطة بالنشاط النووي.

الدول الخمس الأخرى المنضوية في الاتفاق ليست متحمسة لإلغائه أيضاً. فالأطراف الأوروبية بدأت جني المكاسب الاقتصادية من الاتفاق النووي مع دخولها السوق الإيرانية، لا سيما فرنسا التي أبرمت عقوداً بليونية لتحديث أسطول الطيران الإيراني. وروسيا المنخرطة مع إيران في الحرب السورية لا تريد إضافة عامل توتر آخر إلى العلاقة. ولن ترى الصين مصلحة لها في عرقلة روابطها التجارية المتنامية مع طهران.

وفي ضوء التفاعل بين مواقف الحلفاء الدوليين لأميركا وتراجعات بعض معارضي الاتفاق الجمهوريين من جهة، والقناعات المتشددة لأركان إدارة ترامب من جهة أخرى، ربما تكون المحصلة توازناً جديداً في العلاقات الأميركية - الإيرانية يحمل الكثير من سمات ما قبل عهد باراك أوباما، لكنه قد لا يصل إلى حد إلغاء الاتفاق النووي.

اقرأ المزيد
٢٠ نوفمبر ٢٠١٦
هل هم حقاً إخوة سلاح؟

يصف اللسان السائد من يقاتلون معاً ضد طرف معادٍ بأنهم "إخوة السلاح"، لأن الإخوة يمتنعون عن مقاتلة وقتل بعضهم، ولأن اقتتالهم يرجح كفة أعدائهم عليهم، ويفضي، في النهاية، إلى هزيمتهم، ويعتبر مساعدةً لهؤلاء، ولأن في هذا الحماقة كل الحماقة والإجرام كل الإجرام.

ليس من يقتتلون، والعدو متربصٌ بهم من جميع الجهات، وبجميع أنواع الأسلحة، إخوة، بل هم، بكل صراحة، أعداء. لو كانوا إخوةً لما اقتتلوا، حتى إن لم يكن هناك عدو يفيد من اقتتالهم. ولو كانوا إخوةً لفعلوا ما تفعله في العادة "هوايش" يتربّص بها مفترس، فهي تتحامى ببعضها، وتركض إحداها قرب الأخرى، وغالبا ما تدافع عن الفريسة التي ينجح المفترس في التقاطها أو الانفراد بها. كما أن وحيد الخلية، الأميب الذي هو أدنى الكائنات الحية تطوراً، يتكيف مع تبدل شروط عيشه، ويبدل أوضاعه بما يحفظ حياته. لكن "إخوة السلاح" في الغوطة الشرقية وحلب لم يصلوا بعد إلى مستوى الهوايش ووحيد الخلية، على الرغم من تبدل شروط قتالهم ضد النظام الذي نجح، بفضلهم، في استعادة 55% من الغوطة دونما قتال تقريباً، بما في ذلك سورها الزراعي الذي كان يكفل لسكانها شيئاً من الغذاء، واستغل ما أنزلوه ببعضهم من خسائر فادحة في الرجال والسلاح، وما أحدثته مصادرات الأسلحة المتبادلة من تغير جدّي في أوضاعهم الميدانية، وأجّجته من خلافاتٍ وأحقاد بينهم، بدلت الموازين السائدة، وأغلقت باب المعارك ضده، وفتحت أبوابها الداخلية بينهم التي لم، ويبدو أنه لن ينجح، أي شخص أو طرف، في إغلاقها، وسط تزايد الهجمات والكمائن وقطع الطرقات وسقوط الضحايا البريئة، حتى صار من الصعب الحديث عن خلافٍ بين ثوارٍ ينتمون إلى قضيةٍ واحدة، وبدأ الهمس يتعالى حول خطةٍ لتسليم الغوطة الشرقية للنظام، تتستر بترهاتٍ فقهية وكلامية وتفسيرية متبادلة، يغطون بواسطتها القتل المتبادل، ويجعلونه طقساً دينياً مقدساً، وليس جرماً ينتج الخراب وانتحاراً.

هل هناك، في أي معيار أخوي، أي مسوغ للاقتتال في حلب والغوطة الشرقية وإعزاز؟ وهل هناك مبرّر أخلاقي أو سياسي أو وطني أو ديني أو إنساني للاقتتال؟ إذا لم يكن هناك مبرّر كهذا، لماذا وقع؟ هل وقع بسبب خلافات فقهية، أم لاعتباراتٍ جهادية، أم إنه صراع بين الحق الذي يدعيه كل طرف لنفسه والباطل الذي ينسبه لسواه؟ إذا كان فقهياً وجهادياً، لماذا لا يقتصر على الحوارات والنقاشات والمناظرات والخطابات، ويقتصر "الحوار" فيه على السلاح وحده؟ وإذا كان صراعاً بين الحق والباطل، يصير السؤال: هل يستطيع حق هزيمة الباطل، إذا كان انتصاره يفضي إلى ما يفضي إليه الباطل: هدم البيت الوطني على رأس شعبنا؟ وما معنى هذا الحق المزعوم الذي ينتج مثل هذا الباطل، ولا يختلف عنه؟

ليس هناك أي مسوغ لما يجري في الغوطة الشرقية وحلب، غير أن يكون مستوى المتصارعين تحت مستوى السياسة والوطن والدين والإنسانية الهوايش والأميب. في هذه الحال، أنصحهم أن يراقبوا قطيع أبقار يتربّص به مفترس، وكيف يتجمع ويتحامي ببعضه، ويدافع عن أي ثور أو بقرة يستهدفها الخطر.

يا "إخوة السلاح"، هناك شيء اسمه التناقض مع العدو، وهو عداء لا يحلّ بغير هزيمة أحد طرفيه وشطبه. وهناك تناقض في الصف الصديق، لا يحلّ إلا بالخلاف: بالحوار الودي والنيات الطيبة والشراكة الراسخة ووحدة المصير، وبالامتناع المطلق عن الاقتتال واللجوء إلى السلاح، لأن اللجوء إليه يمكّن العدو من تسوية تناقضه العدائي معنا، بهزيمتنا وشطبنا، كما يحدث، منذ أشهر في الغوطة، وسيحدث من الآن فصاعدا في حلب. هل هذا ما تريدونه؟ ألا تعون أنه النتيجة الوحيدة الممكنة التي ستترتب على أفاعيلكم، وأن نهايته ستكون هزيمة الثورة، ونهايتكم كتنظيمات وأشخاص، تحت دواليب الباصات الخضراء، هذه المرة، وليس داخلها؟

اقرأ المزيد
٢٠ نوفمبر ٢٠١٦
استعراض روسي «حزب إلهي» على أطلال حمص

تزامن العرض العسكري الذي أجراه «حزب الله» في مدينة القصير السورية بآليات عسكرية تبين أن بعضها يعود إلى الجيش اللبناني، مع انتشار فيديو روسي عالي الدقة ُصّور من الجو، يوثق الدمار الهائل الذي أصاب مدينة حمص نتيجة القصف السوري ¬ الروسي المزدوج عليها. حمص، التي تعتبر اليوم جبهة هادئة نسبيًا مقارنة بحلب على سبيل المثل، تحظى باستعراض بري وآخر جوي قد يعتبران خارج السياق الميداني الساخن للمعارك. لكن الواقع أن رمزية حمص في سياق الثورة السورية لم تخُب بعد، كما أن قمع التظاهرات فيها ثم «إخضاع» ما بقي من جيوب مّتقدة عبر اتفاقات وقعت بسلاح الحصار والتجويع، يقدم بصفته «قصة نجاح» لكل من «حزب الله» وروسيا في اصطفافهما إلى جانب النظام السوري. اللافت أن الغائب الأبرز عن استعراض العضلات ذاك هو الجيش السوري (النظامي) ذاته، أو أي رمز من رموز «الدولة» التي هب الحليفان اللبناني والروسي لنصرته. والحال أن الفيديو الذي يعبر مساحات ومساحات من الركام، ويتوقف عند معالم أساسية تحمل رمزية كبيرة لأهل حمص ومجتمع الثورة السورية الأوسع، يوحي للوهلة الأولى بأن المشاهد تلك هي من برلين ما بعد الحرب العالمية الثانية. برلين التي دمرتها أيضًا الآلة العسكرية السوفياتية انتقامًا للنينغراد، وللقضاء على النازية، أو ما يمكن تسميته اليوم «إرهاب» ذلك العصر. لا يفوت المشاهد أن إقامة ذلك التوازي البصري بين المدينتين متعمد ومقصود. فلا محاولة لإخفاء هول ما جرى ولا مبادرة لتجميله أو نكرانه عبر رصد حياة طبيعية رغدة تدور في أحياء أخرى من المدينة، كما يفعل إعلام النظام في دمشق والساحل السوري، حيث أحياء أخرى من المدينة، كما يفعل إعلام النظام في دمشق والساحل السوري، حيث يصور حياة الليل وحركة الأسواق وارتياد الشواطئ بوتيرة عادية. على العكس تمامًا. هنا، ثمة من يقول لنا متباهيًا: انظروا جيدًا إلى ذلك الدمار، تحسسوا هوله. إنه ما فعلناه بأيدينا وإرادتنا، بل ما «أنجزناه» وما نحن مستعدون للمزيد منه. يقدم الفيديو الروسي مشاهد الدمار في حمص، بصفتها «إنجاز الضرورة» الذي يمهد لبارقة أمل بحياة جديدة بعيدًا من تهديد «الإرهابيين»، تمامًا كما كانت عليه الحال في برلين ذات حرب في القرن الماضي. فهل كان ممكنًا مث ًلا دحر النازية عن أوروبا لولا «إنجاز الضرورة» ذاك؟ الرسالة التي يحملها الفيديو واضحة، لا مواربة فيها. هناك من يقول للعالم: فعلناها في ألمانيا لوقف «الإرهاب النازي»، ونفعلها اليوم في سورية لوقف «الإرهاب الديني»، ونحن مستعدون لتكرارها حين تدعو الحاجة. وتحمل تلك الرسالة التي تسعى موسكو إلى تصديرها بشتى الوسائل الديبلوماسية والعسكرية والإعلامية، وزنًا إضافيًا على مشارف عهد رئاسي جديد في واشنطن، وضع نصب عينيه «استعادة مجد أميركا». فهناك في موسكو َمن يذكر بتحالف العدوين اللدودين في الحرب العالمية الثانية، للقول أنه من غير المستحيل استعادة ذلك المجد عبر تحالف ظرفي جديد اليوم، في سياق الحرب على الإرهاب. وإلى ذلك، فإن العرض العسكري الآخر، الذي أجراه «حزب الله» في القصير، يحمل رسالة إيرانية واضحة ومتعددة الاتجاه هذه المرة. فهي أو ًلا تأكيد جديد لأن معركة القصير كانت «إنجازًا ضروريًا» في سياق تجفيف منابع الإرهاب وتأمين الطريق نحو «سورية المفيدة»، ولكن أيضًا نحو «لبنان المفيد». فلا يجدي كثيرًا اليوم تأكيد المؤكد من أن «حزب الله» أثبت مرة أخرى أنه امتداد للحرس الثوري الإيراني، وأن ولاءه ليس لبنانيًا، وغير ذلك مما بات ماضيًا معروفًا يفاخر به الحزب أكثر مما ينكره. الجديد ربما، هو في الدور الذي سيناط بلبنان تحت حكم «حزب الله» المطلق وفي عهد رئاسي جديد ما كان ليبصر النور لولا موافقة الحزب ومظلته الراعية. كيف يمكن جعل لبنان هذا مفيدًا، لا بل أكثر إفادة، لـ «سورية المفيدة» تلك؟ ذلك هو التحدي الذي ترفعه مشهدية القصير التي تظهر شريطًا كام ًلا من الحدود السورية ¬ اللبنانية المشتركة وقد باتت تحت سيطرة الحزب الكاملة، لا سيما أنها استعانت بآليات عسكرية يعتقد أنها تعود إلى الجيش اللبناني حصل عليها هو من منحة أميركية. وإذ ّ ؤ، لا يمكن اعتبار المسألة هفوة أو زلة قدم سارعت قيادة الجيش إلى إصدار بيان نفي وتبر من الحزب في أي شكل من الأشكال. إنها رسالة إيرانية واضحة تقول فيها للإدارة الأميركية الجديدة، أنها مفاوض أول على الطاولة الإقليمية. ليس في سياق «الحرب الأميركية الجديدة، أنها مفاوض أول على الطاولة الإقليمية. ليس في سياق «الحرب على الإرهاب» في سورية فحسب، وإنما في سياق أوسع يشمل المنطقة كلها. وهي بذلك تحذرها من دعم جيش في المنطقة قد يقف في وجه حلفائها وأذرعها العسكرية، أو يكون قراره وولاؤه لغيرها، سواء في بلد هائل كالعراق، أو في حرب مستعرة كسورية، أو حتى في خاصرة رخوة كلبنان. وليس من قبيل المصادفة الآن أن يعارض «حزب الله» أي تشكيلة حكومية لا يكون فيها وزير الدفاع (وبالتالي صلاحيات تعيين قائد الجيش) من حصته المباشرة. استعراض عسكري هنا، وإشهار مسؤولية عن دمار شامل هناك، ومفاوضات معلنة لتقاسم السلطات ومراكز النفوذ، وغير ذلك من إشارات تسلط القطبين الإيراني والروسي على المنطقة حتى لم يبق دور، أي دور، للنظام السوري أو «مؤسساته» المزعومة التي جاء الجميع بذريعة الدفاع عنها والحفاظ على «المفيد» منها.

اقرأ المزيد
٢٠ نوفمبر ٢٠١٦
بوتين وتأسرل الممانعة

"خذوا مثلاً من إسرائيل، حين يكون المقصود محاربة الإرهاب، فإنها لا تتراجع أبداً، دائماً تحارب حتى النهاية، وهكذا تحافظ على البقاء. لا يوجد بديل آخر. علينا المحاربة. إذا واصلنا التراجع سنخسر دائماً".

الكلام السابق هو للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحليف الأساسي لمحور الممانعة اليوم. وهو الكلام الذي مرّ سريعاً في التحليلات ونشرات الأخبار، من دون أن يثير الانتباه بما يكفي لدلائله عربياً، وهو فعلاً لا يثير الانتباه كثيراً، حين يُقرأ روسياً، إذ لطالما كان بوتين حليفاً رئيسياً للكيان الصهيوني. إلا أنّ قراءة الكلام عربياً، من ناحية محور الممانعة من جهة، ومن ناحية العقل العربي وطريقة التفكير بما يحدث حولنا من جهة ثانية، تكشف الكثير عما لا يقال ولا يفكّر به، عن المسكوت عنه في ثقافةٍ لا تزال تسكن في مفازاتها المفارقة للواقع.

الممانعة بأكملها اليوم (إيران، النظام السوري، حزب الله، الحوثيون، باعتبارهم يرفعون يافطة محاربة إسرائيل أيضاً)، وتنظيمات فلسطينية وعراقية، تقف اليوم في الخندق نفسه إلى جانب بوتين في محاربة "الإرهاب" في سورية، وفق الطريقة الروسية التي تعتمد المنهج الإسرائيلي وتشيد به، وهو ما عبّر عنه بوتين بالقول: "أنا أسمع دائما حلب، حلب، حلب، ما هي المشكلة هنا؟ هل يمكننا ترك هذا التنظيم الإرهابي على حاله، أم يجب سحقه وإخراجه من خلال بذل جهود لتقليص عدد المدنيين المصابين؟"، الأمر الذي يعني، وحرفياً، أنّ محور الممانعة يطبّق استراتيجية إسرائيليةً في سورية لمكافحة الإرهاب، وإذا أضفنا إلى قتل المدنيين، واتهام الثورة والشعب السوري كله بالإرهاب، وتعميم سياسة الخوف والطائفية... إذا أضفنا إلى هذا التهجير الديموغرافي الممنهج الذي يقوم به حزب الله وروسيا وإيران في سورية، في تشابهٍ مع عملية تهجير الفلسطينيين، وتشريدهم في بقاع الأرض (هم يشرّدوا مرة أخرى من سورية على يد الإسرائيليين الجدد)، فنصبح أمام تشابهٍ مطلق مع السياسة الإسرائيلية، منذ بداية تكوّنها، وهو الأمر الذي توّج، أخيراً، باستعراض عسكري فج وسقيم، في تحدٍّ واضح لإرادة السوريين وكرامتهم المهانة، وفي تماهٍ مع سلوك المستعمرين عبر التاريخ، الأمر الذي يعرّي الممانعة كلياً، ويوحّدها مع منطق عدوها، فتصبح هي هو. هذا ما تقوله الوقائع حرفياً، بعيداً عن الأدلجة، بما يعني ذلك أنّنا أمام اعترافٍ ممانعٍ بصحة ما تقوله إسرائيل عن محاربتها "الإرهاب الفلسطيني" من جهة، وأنّ هذه الحرب ستسحق المدنيين، إلى أن ننتصر على هذا "الإرهاب" أو لا بأس أن يذهب ضحايا مدنيون في سورية، في سبيل تحقيق الهدف الأكبر، أي سحق "الإرهاب السوري"، كما تفعل إسرائيل في سحق "الإرهاب الفلسطيني".

إلا أنّ وصف الممانعة بالأسرلة، وفق الكلام السابق، يبدو ثقيلاً على اللسان العربي، ما يوصلنا إلى أزمة العقل العربي وطريقة تفكيره، فهو عقلٌ ما زال أسير إيديولوجياته ومحرّماته ومقدّساته، يستقي منها أفكاره، قبل أن يقرأ الوقائع. ولهذا، يحجم عن قول الحقائق استناداً لما هي عليه، بقدر ما يقولها مواربةً أو استناداً إلى شيء سابق، وهو أمر يعود جذره إلى مرحلة الاستعمار، حيث الأجنبي أو المستعمر أو الآخر (في الذهنية العربية) أشدّ فتكاً وإجراماً من الأخ أو القريب. ولهذا، يبدو المستعمر أكثر رجماً وشيطنةً في ثقافتنا من المستبد أو "الأخ المجرم" (إذا استثنينا الكواكبي)، إذ تستسهل ثقافتنا رفع السلاح بوجه المحتل، في حين أنها تداور وتناور، حين يتعلّق الأمر بمستبدٍّ تكون جرائمه أشدّ، وبما لا يقاس بجرائم المستعمر نفسه. العقل هنا ينظر لطبيعة المجرم ولونه، لا للجريمة، فالأصل عنده أنّ جريمة الأخ أقلّ وطأةً من جريمة الغريب، وهو عقلٌ لا شك في أنّه ما زال يقيم في عصر ماضٍ. ولهذا، يصعب على العقل العربي أن يقول إنّ تصرفات الممانعة هي إسرائيلية في سورية، وهو ما قاله بوتين بوضوح، لأنه بعيد كل البعد عن حساسيات (وقيود) ثقافتنا التي أغرقها الصراع العربي الإسرائيلي (وهو صراع حق في نهاية المطاف، لأنّ إسرائيل دولة عنصرية ومحتلة) بقيودٍ ومحرّماتٍ كثيرة وضعتها سلطات الممانعة وأحزابها، لكي تمرّر سياساتها، وفي مقدمتها سياستها الإسرائيلية/ الإيرانية/الطائفية في سورية.

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٦
عرض عسكري لـ «حزب الله» في سورية بعد عرضه السياسي في لبنان

مطلع هذا الأسبوع، اتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الأميركي المنتخَب دونالد ترامب ليهنئه على الثقة الشعبية التي نالها، ويؤكد له استعداده للتعاون معه في مختلف المجالات. وعلقت موسكو على الاتصال الهاتفي بالقول أن هذه الخطوة تمهد للقاء شخصي بعد 20 كانون الثاني (يناير) 2017، أي موعد دخول ترامب الى البيت الأبيض، ونهاية عهد أوباما.

والمؤكد أن عبارات الإعجاب بالرئيس بوتين، التي كررها ترامب أثناء حملته الانتخابية، هي التي شجعت سيد الكرملين على الاتصال به، وإبلاغه قرار الانفتاح والتعاون. وذكرت الصحف الروسية أن الرئيسَيْن أشارا في حديثهما المقتضب، الى جعل سنة 2017 بداية مرحلة الانفراج الدولي.

الحكومة البريطانية لا تخفي قلقها من حدوث تقارب روسي - أميركي ربما يكون الشأن السوري أول اختباراته، خصوصاً بعدما باشر ترامب إطلالته الإعلامية الأولى هذا الأسبوع، عبر حديث أجراه مع صحيفة «وول ستريت جورنال». وقد رسم من خلال هذا الحديث، خطاً سياسياً مختلفاً عن الخط التقليدي الذي التزمته الإدارات السابقة. وقال صراحة أن إدارته ستركز ضمن أولوياتها على إنزال الهزيمة بتنظيم «داعش» بدلاً من السعي الى إسقاط نظام بشار الأسد.

ومثل هذا التصور الانقلابي يخالف تصور رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي، التي تتهم الأسد بارتكاب جرائم ضد شعبه. واستناداً الى هذه القناعة، فهي تطالب الأسرة الدولية بإعادة بناء مستقبل سورية من دون الرئيس الأسد، الذي تعتبره مسؤولاً عن مقتل 400 ألف مواطن وتهجير 7 ملايين نسمة. لذلك، طلبت من وزير خارجيتها بوريس جونسون السفر الى واشنطن، بهدف التعرف الى الأعضاء الجدد في إدارة ترامب، لعله ينجح في إقناعهم بتبني موقف لندن من التطورات الجارية في الشرق الأوسط.

وتنظر الحكومة البريطانية الى مواقف ترامب بطريقة لا تختلف عن سائر الحكومات الأوروبية. أي أنها ترى فيه رئيساً متقلباً في قراراته، عفوياً في تصريحاته، الأمر الذي يؤدي الى عجز المحللين عن استكشاف توقعاته، خصوصاً أنه تجاهل الأسماء البارزة في الحزب الجمهوري أثناء التعيينات، واختار معاونين يفتقرون الى الخبرة والحنكة... على الأقل حتى الآن.

يوم الاثنين الماضي، حدث على الجبهة السورية ما يؤكد نظرية التعاون بين بوتين وترامب. إذ شنت القوات الروسية حملة واسعة في البر والجو والبحر، عقب الانتهاء من حديث طويل على الهاتف بين الرئيسَيْن. ووصف وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الغارات الصاروخية التي استهدفت شرق حلب ومواقع تدريب قوات المعارضة بالقرب من إدلب وحمص، بأنها مظهر من مظاهر التعاون على محاربة الإرهاب، علماً أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، كان يتدخل لوقف القصف بحجة حماية المدنيين.

وكما شكل انتخاب ترامب حدثاً سياسياً غير متوقع، كذلك شكل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للبنان خرقاً لجمود سياسي استمر نحو سنتين ونصف السنة.

وبما أن «حزب الله» لعب دوراً كبيراً في عملية الانفراج، فقد اعتبرته وسائل الإعلام الرسمية في إيران في مثابة القوة الدافعة التي تقود لبنان من الوراء. وعلقت صحيفة «كيهان»، الناطقة باسم المرشد الأعلى علي خامنئي، في افتتاحيتها تقول: النصر التاريخي لـ «حزب الله» في لبنان. ونشرت في صدر صفحتها الأولى صورة السيد حسن نصرالله وهو يستقبل الرئيس ميشال عون. وكان ذلك في مثابة مؤشر إلى العلاقة الوثيقة التي ستحظى بمباركة طهران. وبسبب الأهمية الاستثنائية التي يوليها خامنئي لدور لبنان على المتوسط، فقد أرسل الى بيروت وزير الخارجية محمد جواد ظريف، كبير المفاوضين في الاتفاق النووي.

وحرص ظريف، بعد زياراته المسؤولين اللبنانيين، على حضور «مؤتمر الفرص الاقتصادية بين إيران ولبنان». كما ألقى كلمة شدد فيها على أهمية التعاون الوثيق، والعلاقات الاقتصادية الصلبة، مع وعد بتذليل الصعوبات من أجل خلق فرص استثمارية بين البلدين.

رئيس «اللقاء الديموقراطي» اللبناني النائب وليد جنبلاط، دعا مختلف الأطراف الى التقاط اللحظة التاريخية التي سمحت بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. كذلك، طالب عون وسعد الحريري بضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة، ملمحاً الى تعليقات بعض السياسيين الذين وصفوا ميشال عون بأنه رئيس لم يُصنَع في لبنان، وبأن هذه الصناعة لم تحصل في يوم من الأيام.

في الوقت الذي انشغل اللبنانيون بمتابعة أخبار التشكيلة الحكومية، كان «حزب الله» يقدم عرضاً عسكرياً في بلدة القصير السورية لمناسبة «يوم الشهيد»، نفذته عناصر تابعة لـ «قوات التدخل».  

وظهرت في العرض دبابات وناقلات جنود ومدفعية ميدان وشاحنات تحمل قاذفات ثقيلة. وتمثّل الأمين العام في هذا العرض برئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله»، هاشم صفي الدين، الذي ألقى كلمة أشاد فيها بالنظام السوري، وتعهد الدفاع عنه.

وكان من الطبيعي أن يتبارى خصوم الحزب، في لبنان والخارج، حول تفسير الغايات السياسية والعسكرية التي تتوخاها قيادة «حزب الله» من وراء العرض فوق الأرض السورية.

واتفق المحللون على اعتبار هذا العرض العسكري مرتبطاً بمستقبل العلاقات الأميركية - الروسية - الإيرانية، وما قد تفرضه الترتيبات الدولية المقبلة من متغيرات على أرض الواقع. خصوصاً أن عهد ترامب يؤذن بنهاية مرحلة دامت من 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 - أي منذ تدمير جدار برلين - حتى اليوم.

ويُستدَل من فحوى الحديث الهاتفي الذي جرى بين الرئيسَيْن الروسي والأميركي، أن بوتين يطمح الى جعل ترامب شريكاً في المحادثات المتعلقة بدور الحلف الأطلسي ومستقبل أوكرانيا ورسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، وإبرام اتفاق حل الدولتين بين الفلسطينيين وإسرائيل.

مستشار الرئيس الأميركي المنتخب للشؤون الخارجية وليد فارس، اختصر موقف ترامب من مسألة أزمة لبنان المستعصية منذ 1990 على الشكل التالي: يعتقد ترامب أن التسوية المطلوبة تبدأ من تنفيذ القرار 1559، الذي يدعو الى تجريد كل الميليشيات والقوى المسلحة غير الحكومية من أسلحتها، سواء كانت «حزب الله» أو المنظمات الفلسطينية. وقد صدر قرار الأمم المتحدة، الذي أيَّده في حينه العماد ميشال عون، سنة 2004.

واتفق المحللون على اعتبار العرض العسكري الذي أقيم في القصير السورية عملاً مرتبطاً بمستقبل العلاقات الروسية - الأميركية - الإيرانية، وما قد تفرضه الترتيبات الدولية المقبلة من متغيرات على أرض الواقع.

استباقاً لكل محاولة قد تُقْدِم عليها الإدارة الأميركية الجديدة، إن كان مع روسيا أو مع نظام بشار الأسد، فإن عرض «حزب الله» كان أشبه بتظاهرة مسلّحة بهدف إقناع الدول المعنية بأنه يمثل قوة إقليمية يجب أخذها في الحسبان.

ومن المؤكد أن اختلاف وجهات نظر الدول الأجنبية حول تصنيف «حزب الله» أعانه على زعزعة المواقف الملتبسة لغالبية الدول. ذلك أن الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وهولندا تعتبره منظمة إرهابية مثل «القاعدة». في حين تحصر بريطانيا ونيوزيلندا هذا التعريف - أي الإرهاب - بالجناح العسكري للحزب. وبين هذا وذاك، تضع أستراليا «منظمة الأمن الخارجي» للحزب على قائمة الحظر. أما دول الاتحاد الأوروبي، فقد عجزت عن الاتفاق على تحديد موقف موحد، الأمر الذي ترك حرية القرار لكل دولة على حدة.

ومثل هذه البلبلة تعزز مكانة المختلفين على شرعية عمل «حزب الله» الذي انزلق بالمسيحيين والسنّة والدروز الى انعزالية لم تعرفها هذه الطوائف منذ زمن بعيد. لذلك، اعتبرت قرارات الحزب، غير المنظورة وغير المنشورة، مجرد هيمنة. وعليه، يرى المراقبون أن تشكيل حكومة اتحاد وطني لن يكون أمراً سهلاً مثل انتخاب رئيس الجمهورية!

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٦
القصير وحلب وترامب والحكومة اللبنانيّة

لا يمر يوم من دون أن يقتحم الوضع الإقليمي في تقلباته وأحداثه الخطيرة، المشهد السياسي اللبناني، على رغم أن التسوية التي قضت بإنهاء الشغور الرئاسي استندت، بين أمور عدة، إلى السعي «لإبعاد لبنان عن الصراعات الخارجية»، وفق ما قال الرئيس ميشال عون في خطاب القسم في 31 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

أحدث مظاهر الاقتحام الإقليمي للسياسة الداخلية اللبنانية، كان العرض العسكري بالآليات المدرعة لـ»حزب الله» في مدينة القصير السورية آخر الأسبوع الماضي، والذي لقي ردود فعل محلية وخارجية ما زالت تفاعلاتها مستمرة.

فهذه التسوية التي قال مريدو الرئيس عون في سدة الرئاسة أنها صُنعت في لبنان، لا بد من أن تمر في اختبارات شبه يومية لمدى قدرة أصحابها على تحييد لبنان عن حروب المنطقة وانخراط «حزب الله» فيها بصفته جسماً إقليمياً تعلو هويته وأدواره على هويته المحلية، كقوة راجحة في طائفته التي تشكل أحد المكونات الرئيسة للنسيج اللبناني المعقد.

يرمز العرض العسكري للحزب في القصير إلى الكثير، ويكرس تفوّق علاقته بالإقليم على وزنه الداخلي. وإذا كان البعض ما زال يشكك في رسم جديد لخرائط المنطقة وتحديداً لسورية المدمرة، بحجة أن ما يجري في بلاد الشام هو مناطق نفوذ موقتة، فإن استعراض القوة الذي تخللته مسيرة المدرعات التابعة للحزب، يثبت أن الحزب كرس اقتطاعه منطقة نفوذ تمتد من البقاع اللبناني الشرقي إلى الغرب السوري يتيح له حرية الحركة نحو الغرب الجنوبي لسورية، ونحو غربها الشمالي عبر حمص المدمرة، وصولاً إلى حلب، التي يعد التحالف الروسي- الإيراني - الأسدي بالسيطرة عليها قريباً لتعمل فيها أيضاً سكين التغيير الديموغرافي مثل غيرها. لكن المنطقة الغربية السورية المحاذية للبنان، باتت مساحة نفوذ واحدة مع المساحة اللبنانية الشرقية لـ «حزب الله»، تلغي الحدود بين البلدين لتبقى ممرات العبور لقوات الحزب متاحة من دون أي عائق. إنها نسخة طبق الأصل عن إلغاء الحدود بين العراق وسورية من جانب «داعش» عام 2014، ولعملية الإلغاء هذه حين سيدخل «الحشد الشعبي» العراقي الأراضي السورية، تحت عنوان المساهمة في معركة تطهير محافظة الرقة من «دولة الخلافة» بعد الانتهاء من معركة الموصل.

الحال هذه، هل يمكن تصور إقدام السلطات اللبنانية على إقفال الحدود الشرقية خلافاً لمقتضيات تكريس منطقة نفوذ «حزب الله»، (وهو نفوذ إيراني بالتعريف النهائي)، على الأرض السورية، إذا افترضنا أن البعض يصدّق أن هناك إمكانية لـ «تحييد» لبنان عن الصراعات الخارجية؟

قيل الكثير عن الرسائل المتوخاة، إقليمياً ودولياً، من استعراض القوة في القصير. أما لبنانياً، فإن تزامنه مع جهود تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة واعتراض الحزب على إيكال وزارة الدفاع الى حزب «القوات اللبنانية»، يؤشر إلى رفض الدور السياسي لفريق قد لا يسلم بما يمليه غض الطرف عن الموجبات اللبنانية لدور الحزب الإقليمي. فوزير الدفاع هو الذي يقترح إسم قائد الجيش الجديد الذي تقع عليه مهمة غض الطرف، إذا لم يكن أكثر من ذلك، والذي يفترض تعيينه من الحكومة الجديدة. ومع أن الحزب ليس في حاجة إلى إذن الجيش ليواصل دوره الإقليمي، فإنه يفضل أن يأمن إلى توجهات مؤسسة عسكرية أكثر مساعداتها من الجيش الأميركي، الذي له رأيه هو الآخر بالقائد الجديد.

ومع أن الاندفاع الروسي- الأسدي - الإيراني (و»حزب الله») نحو احتلال المزيد من الأراضي السورية، لا سيما حلب، يراهن على توجه دونالد ترامب نحو التساهل مع رغبات موسكو بتحول سورية إلى قاعدة نفوذ لها تحت ستار محاربة «داعش»، وعلى استمرار غض الطرف الأميركي عن دور الحزب في سورية، فإن ضمانة هذا الدور الأولى تبقى في التأثير في قرار السلطة المركزية اللبنانية. والركون إلى إدارة ترامب مجازفة يتحتم الاحتياط لها، خصوصاً أن الشعارات التي طرحها الأخير، ومنها رغبته في التفاهم مع فلاديمير بوتين، قد تصطدم بواقع أكثر تعقيداً من مواقف أدلى بها أثناء الحملة الانتخابية. والرئيس الآتي من خلفية جاهلة بالسياسة الخارجية، قد تدفع حزبه الجمهوري إلى إحاطته بفريق أكثر إدراكاً منه بتعقيداتها.

تحوّل تعايش الطوائف اللبنانية وتقاسمها النفوذ والسلطة، في توازن داخلي رعته على الدوام القوى الدولية والإقليمية، إلى تعايش مع التحالفات الخارجية لبعضها في مراحل سابقة، لكنه مع «حزب الله» تحول تعايشاً مع أدوار فاعلة للحزب في الحروب الإقليمية، التي توجب القبول بالتسهيلات المطلوبة لبنانياً كي يستمر في لعبها. وهو تعايش غير مسبوق في التاريخ اللبناني.

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٦
ثورة... كالسورية في جبال اليمن

يمرّ اليمن بحالة غير مسبوقة منذ انقلاب الحوثيين وصالح، والمقاومة التي أعقبته، فقد دخل الخميس الماضي بهدنة وافق عليها الحوثيون، والتحالف الذي تقوده السعودية، الذي تدخّل في اليمن بموجب طلب رسمي من الحكومة الشرعية، ولكن الحكومة هذه المرة ليست شريكاً في الهدنة، ولم تُسْتَشَرْ فيها، ولا ترى نفسها ملزمة بها كما صرّح بذلك وزير خارجيتها عبدالملك المخلافي، بل حتى صعّدت عسكرياً، خصوصاً في جبهة تعز، التي أثارت الحيرة في تأخر الحسم فيها، على رغم أنها البوابة الطبيعية لصنعاء، فحققت انتصارات غير مسبوقة، مع وعد بانتصارات مماثلة في جبهة نهم المطلة على العاصمة من جهة الشمال، فما الذي يجرى؟ وهل تستطيع الحكومة الشرعية المقاومة منفردة من دون دعم التحالف الملتزم بوقف إطلاق النار بشرط التزام الحوثيين به؟ أم أن هدنة الخميس كغيرها من الهدن السابقة التي سرعان ما انهارت؟ على رغم أنها تميزت بأن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، والراحل قريباً، قام من أجلها بآخر زيارة له للمنطقة، وضغط من أجلها، وأتى بالحوثيين من صنعاء إلى مسقط للتوقيع عليها، لعله يكتب في مذكراته أنه «أعاد السلام لليمن».

بدأت تداعيات هدنة الخميس قبل ذلك بأسبوعين، عندما أعلن المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ خريطة طريق، تفضي إلى خروج الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، ونائبه اللواء علي محسن من المشهد السياسي، مقابل قبول الحوثيين وصالح، الفريق الانقلابي، بالانسحاب من صنعاء، وتشكيل حكومة وطنية يشاركون فيها بالثلثين مقابل الثلث لما تبقى من الشرعية، هذا إن تبقى منها شيء، خريطة طريق صادمة ولكن الجميع وافق عليها، باستثناء أصحاب القضية، اليمنيين.

التقيت حينها، وبعد إعلان الخريطة بيومين قادة الشرعية اليمنية الثلاثة، الرئيس ونائبه اللواء علي محسن، ورئيس الوزراء أحمد عبيد بن دغر، كلاً على حدة، وجدتهم غاضبين، قلقين، ولكن مزاجهم «مقاوم»، ورافضين تماماً لخريطة ولد الشيخ.

أتوقع أنني لو التقيتهم الآن، فسأجدهم أكثر غضباً، بعد إعلان الهدنة، وقبلها خطة كيري التي لم يستشاروا فيها، وخرج بحلٍّ لا يتفق مع المنطق، ولا مع المرجعيات الأممية المتفق عليها، ولن يعيد السلام لليمن، وإنما سيولِّد مزيداً من الحروب فيها. كما قال لي الرئيس هادي، وفصَّله رئيس الوزراء ابن دغر، إذ قال: «لكل يمني سبب لرفض حكم الحوثيين»، ثم توقف قائلاً: «لاحظ أني قلت حكم الحوثيين وليس الحوثيين الذين هم فصيل يمني ومن حقهم الشراكة معنا في الوطن، ولكننا نرفض حكمهم وهيمنتهم، الوطني اليمني المؤمن بالجمهورية يرفضهم، لأنهم يمثلون الحكم السلالي (مصطلح يمني المقصود منه هيمنة وتفضيل الهاشميين في الحكم والوظائف)، والإصلاحي يرفضهم لأنهم يمثلون مشروعاً طائفياً مذهبياً يتعارض مع مشروعه، والشافعي لأنهم متعصبون لمذهبهم، وأبناء المناطق الأخرى لأنهم جاؤوا باستعلاء مناطقي، وهكذا، إنهم مشروع مقسّم لليمن، لم نرد يوماً أن يقسّم اليمن طائفياً ولا مناطقياً، ولكنهم برعونة ضخوا هذه المفاهيم في بلادنا»، ثم استرسل: «لذلك أي حلّ يقوم على أن تكون لهم الكلمة الفاصلة سيُرْفض، وسيُفتح بابٌ للمقاومة خارج الشرعية، ما يعني حروباً صغيرة لا تنتهي».

الفكرة نفسها سمعتها من الرئيس هادي: «الشرعية وقيادتها للمقاومة وتمثيلها لليمن هي التي تمنع اليمني أن يستقل بقراره، الجميع الآن في صف الحكومة، ولكن إن انهارت هذه الشرعية بسبب خريطة ولد الشيخ، ستخرج حكومة لا يقبل بها كثير من اليمنيين، هل تتوقع أن أهالي تعز سيقبلون بسلام تحت حكم صالح والحوثيين؟ أما الجنوب». وسكت كأنه يقول مستحيل أن يقبل بحكومة يشارك فيها الحوثي والرئيس اليمني علي عبدالله صالح، الذي يمثل لهم عودة حكم الشمال، كما أن الجنوبي اليمني يبحر حالياً بعيداً في أكثر من اتجاه، بل حتى متفرقاً عن فكرة الدولة الواحدة، ما سيفتح الباب لتفتت أكبر من مجرد استعادة «الشطر الجنوبي» استقلاله، إلى تفككه بالكامل.

ثمة شيء مهم وغير مطمئن حتى للسعودية سيحدث في اليمن، فولد الشيخ لا يهرول عبثاً. يبدو أنه مدعوم، هو وخريطته، يقول إنها حصلت على دعم الرباعية المعنية بالأزمة، السعودية والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا، ولكن الجميع يعرف أنها خريطة كيري، المنتمي لسياسة ومرحلة رئيسه باراك أوباما «الغامضة والبغيضة»، والذي يتهم بأنه ساهم بمواقفه الضعيفة بتسليم سورية للإيرانيين والروس، وبالتالي لا ينبغي الوثوق به أيضاً في اليمن.

أتمنى ألا يكون هناك خلاف، أو اختلاف في وجهات النظر بين «الحكومة اليمنية الشرعية» والتحالف، ولكن ما سمعته من الرئيس هادي يشي بأن هناك وجهات نظر مختلفة حيال التعامل العسكري. نائب الرئيس علي محسن، المعني بقيادة العمليات في جبهة مأرب، يتقدم هناك بصعوبة، ويَعِدُ بتقدم كبير في منطقة نهم المطلة على العاصمة. مصدر طلب عدم ذكر اسمه، ذكر أن مساعيه لإغراء قيادات في الجيش من رفاق سلاحه القدامى تعرّضت لانتكاسة كبرى في الغارة الخاطئة التي استهدفت سرادق العزاء بصنعاء الشهر الماضي، وكان هذا سبباً لغضب شديد من قيادة التحالف التي أوقفت عدداً من العسكريين، والتحقيق لا يزال جارياً بسرية تامة، على رغم ذلك اللواء علي محسن لا يزال متفائلاً، بأنه «قريباً» سيحصل اختراق يغيّر موازين القوى في صنعاء. ربما لا يملك إلا أن يتفاءل، ويحاول أن يسابق الوقت والضغط الدولي وولد الشيخ.

الرئيس هادي يرى ضرورة تعزيز جبهة تعز، قال: «في تاريخ اليمن حربان تركيتان (في العهد العثماني)، لم يهاجم الأتراك صنعاء مباشرة، وإنما في كل مرة، كانوا يحتلون تعز والحديدة، وحينها تأتي لهم صنعاء طائعة مختارة».

وتبقى تعز، التي استعصت على الحوثيين واستعصى عليها انتصار كامل، أحد أسرار الحرب اليمنية الحالية. يروي اللواء علي محسن: «ضاعت علينا فرصة بعد تحرير عدن (في تموز - يوليو 2015) وتقدم قوات التحالف نحو تعز، ارتفعت معنويات سكانها والمقاومة، حتى محافظة إب تحررت، وطرد أهلها الحوثيين وقوات صالح، ولكن جاءتهم الأخبار بتوقف التقدم عند خط التسعين (الخط الفاصل بين اليمنين قبل الوحدة)، فانهارت المعنويات، واستعاد الحوثي وصالح زمام الأمور واستعادوا المناطق المحررة، وتراجعت المقاومة إلى داخل المدينة»، ثم يسكت ويبتسم، كأنه يقول: أكمل أنت باقي القصة. قصص كثيرة، وتبادل لوم بين أطراف عدة في أسباب عدم تحرير تعز، والتي تبدو أنها الطريق المعبّد الطبيعي نحو صنعاء، كما أنها المدينة الثانية في الحجم باليمن، والتي يمكن أن تكون حاضنة للحكومة الشرعية بعيداً عن ضغوط عدن وطموحات الفرقاء الجنوبيين، الذين عادوا وانقسموا بين «زمرة» و «طغمة»، وارثين حرب الرفاق الطاحنة، قيادات الحزب الاشتراكي التي اصطرعت طوال شهر كامل حتى الموت، أوائل 1986.

لعل الانتصارات التي تحققت في تعز الأربعاء الماضي، بعدما توحدت كل الفصائل المقاوِمة فيها بدعم من التحالف في إطار الجيش الوطني، تحاشياً للانقسامات الحزبية التي سادت المرحلة السابقة، تشير إلى تعامل جديد في جبهتها، فإن استمرت وتيرتها، خصوصاً أن الحكومة الشرعية أعلنت أنها غير معنية بوقف إطلاق النار، فقد يكون ذلك مغيّراً لقواعد اللعبة، ويقلب الطاولة على كيري وولد الشيخ.

بدا لمن التقيت بهم يومها في الرياض أن السعوديين موافقون على خطة ولد الشيخ، وتجدد هذا الاعتقاد بإعلان كيري من مسقط الثلثاء الماضي، قبول التحالف والحوثيين بوقف للعمليات العسكرية. كانوا في حيرة، إذ إن «عاصفة الحزم» لم تؤتِ ثمرها بعد، وبالتالي اتخذوا موقفهم الصارم برفض الخريطة «خدمة للشرعية ولمصلحة السعودية»، فهادي يقول: «نحن في اليمن لسنا هدف إيران، نحن توطئة لهدفها، بعدما يستقرون هناك ومن خلال عملائهم الذين سيكونون الحكومة الشرعية المعترف بها أممياً لا قدر الله، سيقفزون على هدفهم الكبير وهو السعودية». طوال حديثي معه لم يُخْفِ الرئيس نقمته على الإيرانيين الذين يحمّلهم وزر ما يحصل في بلاده، نافياً أن يكون سبب موقفه حرصه على السلطة: «كل ما أريده هو تسليم اليمن موحداً آمناً من النفوذ الإيراني، وأضمن مستقبله بنظام الأقاليم الستة الذي هو النجاة، والذي يرضي الجميع حتى الحوثيين، أنا لا أريد السلطة، أنا متقدم بالسن، ولا أريد غير سلامة اليمن، كل اليمن». بدا حديثه مقنعاً وهو يتناول مجموعة من الأدوية أتى بها أحد مساعديه خلال لقائنا.

مشروع الأقاليم الستة مقنع جداً، هكذا يبدو، ومعه كل تفاصيل اتفاق اليمنيين على انتخابات ودستور جديد، ولكن المشكلة من يقنع الحوثيين الذين يحملون مشروعاً مذهبياً متكاملاً مختلفاً عما يريد غالب الشعب، ومستعد لفرضه عليهم بالقوة؟ هل يمكن استمرار الحرب الجوية التي باتت مكلفة، ليس مادياً فقط، وإنما تعرّض الرياض لضغوط دولية وهجمات إعلامية، مع تقدم عسكري بطيء من قبل الجيش الوطني اليمني؟ بينما تنهار البنية التحتية في كل اليمن، ويتفكك حتى في مناطقه المحررة أمام رغبات المغامرين وتطلع بعض المحافظات للاستقلال، وظهور ميليشيات مشكّلة فقط من أبناء كل منطقة، ما يعزز الروح التشطيرية وفرص الحروب الصغيرة التي حذّر منها الرئيس.

هل الخطة هي تجميد الوضع اليمني بالتسويف في تطبيق خطة كيري، أو خريطة ولد الشيخ، فلا فرق بينهما، حتى تستبان نوايا الإدارة الأميركية الجديدة، أم أنه الحسم العسكري ودخول صنعاء، دخول المنتصرين، والذي عاد التفاؤل به بعد انتصارات تعز الأخيرة؟ إذ لا يعقل أن تقبل السعودية بوضع متميز للحوثيين في اليمن يمكّنهم من عقد اتفاقيات تهدد أمنها مع خصمها الإيراني اللدود.

خرجت من قصر المؤتمرات بالرياض، وكلمات رئيس الوزراء ابن دغر ترنُّ في رأسي: «لو تخلَّى عنا العالم فلن نقبل بالحوثيين، لكل يمني سبب في رفضهم وحربهم، ستكون هناك مقاومة لهم من دون شرعية، ستكون فوضى»، بالطبع لا أحد يريد تلك الفوضى، ولا ثورة كالثورة السورية في جبال اليمن، حتى لو كانت مستحقة، وكذلك لا تريد السعودية إيران في جبال اليمن، وهذه قاعدة أساسية يؤسس عليها أي تحليل لمستقبل اليمن.

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٦
أمريكا وروسيا وأهل السنة

أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة، وأعتبرها ملاذًا للكسول غير القادر على التحليل والرصد والمتابعة والتمحيص. غير أنني لم أستطع أن أتخلص من هاجس مؤداه أن ثمة بالفعل اتفاقًا من قِبل القوى الغربية الكبرى، إضافة إلى روسيا، بإيكال مهمة (شرطي المنطقة) للفرس الصفويين.

العراق شنت عليها أمريكا (بوش) حربًا، أعادتها إلى أجواء القرون الوسطى، ولما أرادت أمريكا (أوباما) أن تنسحب من العراق بعد سحقها عسكريًّا سحقًا يكاد يكون كاملاً سلمتها كدولة منهكة وعلى طبق من ذهب لإيران، من خلال عملائها حزب الدعوة الشيعي، وهو حزب يوازي عند أهل السنة جماعة (الإخوان المسلمين)، أي حركة شمولية أممية، لا تؤمن بالحدود الوطنية، وتؤمن بنظرية الولي الفقيه.

أما في سوريا فتكفل الروس بسحق أهل السنة، وتحالفوا مع بشار الأسد العلوي، ومن خلال المليشيات الشيعية، التي أتت بها إيران من كل مكان، سحقت أهل السنة، إضافة إلى من ثاروا عليه من الطوائف الأخرى.

أمريكا والروس قطبان متنافران، لكنهما في مواجهة أهل السنة العرب اتفقا، وتقاسما المهمة بتناغم غريب في العمليات العسكرية والاستخباراتية، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل.

والسؤال الذي يثيره السياق هنا: لماذا يختلف هذان القطبان على كل شيء، ويتفقان على أهل السنة العرب؟

السبب في تقديري لهذا الاتفاق أنهما تطابقت مصالحهما بتفويض الإيرانيين بممارسة مهمة شرطي المنطقة. ولعل من أهم الأسباب الموضوعية التي دفعت القوى العظمى إلى إيكال مهمة شرطي المنطقة إلى إيران أنها بالفعل تسيطر على الصوت الشيعي سيطرة شبه كاملة؛ فالولي الفقيه في إيران يمثل القوة الشيعية شبه الوحيدة، ولا ينافسه في زعامته أحد، حتى وإن وجد هنا أو هناك من يختلف مع الإيرانيين، فلديهم (آلياتهم) لتدجينه، وجعله كويكبًا يدور في فلك السياسة الإيرانية وتوجهاتها. في حين أن العرب السنة أحزاب وتوجهات فكرية وعقدية متضادة ومتخاصمة، وكل يغني على ليلاه؛ الأمر الذي يجعل جمعهم على زعيم واحد، وكلمة واحدة، أو سلطة واحدة، ضربًا من ضروب المستحيل. فلو تفاهمت مع السلفيين لاختلف معك الأشاعرة، والصوفيون، إلى درجة تصل إلى حد التكفير والإخراج من الملة.

وأتذكر أنني ناقشت صحفيًّا أمريكيًّا عن هذا الشأن، فقال: (التعامل مع الشيعة سياسيًّا أسهل من التعامل مع أهل السنة). وأضاف: (الشيعة لهم مرجعية تكاد تكون واحدة، وهي إيران، في حين أن السنة توجهات ومدارس ومذاهب متعددة ومتشظية، ليس لهم مرجعية واحدة، وبينهم من الخلافات والعداوات ما يجعل التفاهم مع كل تلك القيادات، والوصول معها إلى نقطة التقاء، أمرًا متعذرًا؛ فهناك جماعة السلفيين وهناك جماعة الإخوان وهناك الإسلام الرسمي [إسلام الحكومات]، وهناك الإسلام الثوري؛ الأمر الذي يجعل من السهولة التعامل مع الشيعة المتحدين لا مع السنة المتشرذمين المختلفين مع بعضهم البعض).

ولا يمكن رد هذا الاتهام؛ لأنه حقيقة. فإذا كانوا يقولون (اتفق العرب على ألا يتفقوا) فكذلك لك أن تقول أيضًا (اتفق أهل السنة على ألا يتفقوا). وما مؤتمر (غروزني) في الشيشان عنا ببعيد.

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٦
استراتيجية القضاء على الإسلام

قبل مجيء الإسلام وحتى انتشاره في الجزيرة العربية، كانت تتحكم في العالم القديم إمبراطوريتان كبيرتان، هما دولة الروم ودولة الفرس، وبعد وفاة الرسول الكريم توجهت جيوش العرب المسلمين مباشرة لنشر الإسلام في بلاد الشام والعراق. وبسرعة زمنية مذهلة استطاعت تلك الجيوش الوليدة أن تقضي على تلك الدولتين قضاء شبه كامل. فدولة الروم انهارت بعد معركة اليرموك على يد خالد بن الوليد، وانكفأت نحو هضبة الأناضول، والتمت حول مدينة القسطنطينية، عاصمة الكنيسة الشرقية في ذلك الوقت، كما تم القضاء على دولة الفرس بعد معركة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص.

إلا أن الفرس كانوا من الخبث والرياء والدهاء بحيث دخلت جموعهم في الإسلام، وأخذوا ينخرون في جسده منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، بهدف إضعافه والقضاء عليه، عبر مذهبهم الشيعي، وهو مذهب ظاهره حب آل البيت وأحقيّة علي بن أبي طالب بالخلافة والبكاء على مقتل الحسين، والدعوة للثأر من قاتليه، حتى ولو بعد ألف وخمسمائة سنة.!!. أما باطنه فهو الفتك بالعرب والمسلمين، واستعادة مجد كسرى، ومن أجل ذلك تعاونوا مع الصليبيين والمغول ضد المسلمين، وأحداث التاريخ تثبت ذلك.

وإن لمحة سريعة إلى أحداث التاريخ الإسلامي تبيّن أن معظم دعاة المذهب الشيعي وما انسلخ منه من فرق دينية كان معظمهم من أصول فارسية، وقد أضرت معظم هذه الفرق بالإسلام والمسلمين ضرراً فادحاً، وكانت سبباً مباشراً في ضعف الدولة العباسية وانهيار الحضارة العربية الإسلامية فيما بعد. وإن نظرة سريعة إلى أحداث القرن الرابع الهجري وما قبله بقليل تبين لنا ذلك.

ففي القرن الثالث الهجري ظهر الفاطميون المنسلخون عن المذهب الشيعي في تونس، ثم امتدت دولتهم إلى مصر وبعض بلاد الشام، وكان لهم صراع مديد مع الخلافة العباسية، وتناغموا مع الفرنجة عندما احتلوا سواحل بلاد الشام فيما بعد، وكان ذلك في القرن الرابع وما بعده، إلى أن قضى عليهم صلاح الدين الأيوبي.

وفي بلاد فارس ظهرت الدولة البويهية الشيعية في القرن الرابع، وأصبحت من القوة والهيمنة بحيث صار الخليفة في بغداد ألعوبة بين أيدي ملوكها، فيعزلون هذا ويعينون ذاك، فضلاً عن تعيين الوزراء والولاة وغيرهم. وهذا ما يذكرنا بالعراق وسورية ولبنان واليمن، وهيمنة إيران على تلك الدول في الوقت الحاضر.

أما الفرقة الأكثر خطراً، والتي عاصرت الفاطميين والبويهيين ودولة سيف الدولة في حلب الذي كان يميل إلى المذهب الشيعي، فهي فرقة القرامطة التي أسسها حمدان قرمط معتمدة على شيوع تام في الممتلكات وانهيار أخلاقي قلّ نظيره، بحيث كانت المرأة تتزوج العديد من الرجال، وبأساليب يصفها أحد الشعراء بقوله:

وكنت امـرأً مـن جنـد إبليـسَ فارتقـــتْ        

بيَ الحالُ حتى صار إبليسُ من جندي

ولـو مـات مَـن قبلـي لأحيـيــتُ بعــــده        

طرائــقَ فِسْــقٍ لـيـس يحسنُهــا بعـــدي

ومع أن كتب التاريخ تسكت عن أصل حمدان قرمط، وإن كنت أعتقد أن أصله فارسي، إلا أن أبو سعيد الجنابي الذي يُعد المؤسس الحقيقي للدولة القرمطية في البحرين، هو من أصل فارسي معروف، واسمه الحقيقي الحسن بن بهرام، ثم انتشرت دولته على زمنه وزمن أولاده من بعده في مناطق شاسعة من الجزيرة العربية وجنوب العراق وعُمان واليمن وبلاد الشام، واستفحل خطر هذه الفرقة وعاثت في الأرض فساداً. وقد وصفهم أحد المؤرخين بقوله: القرامطة فريق من غلاة الباطنية، وهم يدينون بالقتل والتدمير وإخافة السبيل أكثر مما يدينون برأي أو ينزعون عن عقيدة، وكثيراً ما كانوا يغيرون على الحجيج في طريقه إلى مكة أو في طوافه أو عند إفاضته فيقتلون الرجال ويذبحون الأطفال ويستحيون من راق في أعينهم من النساء ".

وحادثة إغارتهم على مكة مشهورة، فقد قتلوا الآلاف من حجاج بيت الله، واقتلعوا الحجر الأسود وحملوه إلى بلادهم في البحرين، وكان ذلك في عام 317 هجرية، وبقي عندهم 32 سنة، ثم أعادوه إلى مكانه للتخفيف من نقمة المسلمين.

أما الرجل القرمطي الأكثر فتكاً، فهو زكرويه بن مهرويه، ويدل اسمه على أصله الفارسي، فقد عاث هو واتباعه في بلاد الشام وأجزاء من العراق، فحين كان يغير على مدينة أو قرية، يبيد سكانها إبادة كاملة، حتى كادت بلاد الشام في عهده تخلو من أهلها تماماً، وهذا ما يحدث شبيه له الآن مع الشعبين السوري والعراقي.

والمستغرب أن اليساريين العرب من أتباع الاشتراكية العربية والماركسية.!! كانوا في الستينات والسبعينات من القرن العشرين مبهورين باشتراكية القرامطة، ويعدّونهم من طلائع التقدميين في العالم.

.................................

وبما أن قانون الانتصارات والهزائم يستند إلى مبدأ القوة والتماسك من جهة، والضعف والتشتت من جهة ثانية، فبعد أن رأى الفرنجة ما أصاب العالم الإسلامي من التفرقة والتناحر والضعف، حشدوا جموعهم باسم الصليب من أدنى أوروبا إلى أقصاها، وأرادوا أن يستعيدوا مجدهم العسكري والديني في بلاد الشام وينتقموا ممن كانوا السبب في دمار الإمبراطورية الرومانية البائدة. وقد نجحوا في إنشاء الممالك والإمارات على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، وعلى رأسها مملكة القدس التي أبادوا سكانها إبادة كاملة، والمؤرخون يقدرون عدد القتلى بستين أو سبعين ألفاً.

لكن ما أسموها هم أنفسهم " الحروب الصليبية " بقيت نحو قرنين من الزمان، وفي النهاية تم طرد أولئك الفرنجة، وعادت بلاد الشام إلى أهلها العرب المسلمين في عام 690 هجرية. ويعود الفضل في ذلك إلى سلطان مصر والشام الأشرف خليل بن قلاوون الذي لم ينصفه التاريخ، فهو الذي قام بتحرير عكا، وكانت استعصت حتى على صلاح الدين الأيوبي نفسه، ثم نجح ذلك السلطان الشاب بتنظيف الساحل السوري من بقايا الفرنجة.

وعلى الطرف الآخر استغل الفرس ضعف الدولة العباسية، فظهرت الدولة البويهية، كما ذكرنا، ثم فيما بعد ظهر إسماعيل الصفوي، وأنشأ دولته على الغلو في المذهب الشيعي، فارتكبت العديد من المجازر بحق المسلمين السنة، وألغى الخلافة العباسية.

لكن منطق التاريخ لا يسمح بالانفلات والتسيب والعشوائية، ولا بد من ضبط مناسب لمجرى الأحداث، لذلك نشأت الدولة العثمانية على أنقاض الروم في هضبة الأناضول، وقضت على القسطنطينية مركز الديانة المسيحية الشرقية، وأصبحت دولة عسكرية مهيوبة الجانب، تبسط نفوذها على رقعة شاسعة من الأرض، من جنوب أوروبا حتى جنوب وشمال بلاد العرب، وجابت أساطيلها البحار والمحيطات، وقد مكّنها ذلك من إعلان الخلافة الإسلامية، وأخذت على عاتقها حماية الإسلام القائم على المذهب السني.

ولذلك أيضاً وقفت الدولة العثمانية أمام المد الصفوي الشيعي الذي كان يشكل خطراً حقيقياً على الإسلام السني والوجود العثماني في المنطقة، لا سيما في العراق وبلاد الشام، وكانت تجري بين الدولتين حروب طاحنة على أرض العراق حتى استطاع العثمانيون تحجيم الطموح الصفوي وردعه ومنعه من تحقيق أهدافه. وربما كان للتاريخ كلمته المختلفة لولا الوقوف العثماني الحازم بوجه الأطماع الفارسية في ذلك الوقت.

وبقيت الحال هكذا حتى بداية القرن العشرين، حيث وهنت الدولة العثمانية وضعفت، وقضى مصطفى كمال أتاتورك على خلافتها الإسلامية، وهيمن الاستعمار الفرنسي والإنكليزي على المشرق العربي ومغربه. وبرز الحقد الغربي التاريخي مرة أخرى، فحين تمكن الحلفاء في الحرب العالمية الأولى من طرد العثمانيين من بلاد الشام، ودخل الجنرال الإنكليزي أللنبي إلى دمشق، كان أول خطوة قام بها هي الذهاب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال كلمته المشهورة: الآن عدنا يا صلاح الدين " في إشارة منه إلى الصليبيين الذين ظلوا مائتي سنة في بلاد الشام.

وعودة الجنرال أللنبي إلى دمشق أدت إلى اتفاقية سايكس ــ بيكو، حيث تم زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، وتمزيق الوطن العربي إلى عدة دول تتنافر وتتخالف في الغايات والأهداف، بعد وقوعه تحت هيمنة الاستعمار البريطاني والفرنسي.

وبعد نحو مائة عام، أي في مطلع القرن الواحد والعشرين، تعود استراتيجية القضاء على الإسلام من جديد، عبر مقولة مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة قبل نهاية القرن العشرين: الآن قضينا على الاتحاد السوفييتي، وبقي علينا القضاء على الإسلام في القرن الواحد والعشرين ". وهذا ما سيبينه في مقالة لاحقة.

اقرأ المزيد
١٨ نوفمبر ٢٠١٦
زواج المُحلّل في دمشق

برز حضور مجموعة من النخب السياسية المتصدرة للساحة السياسية السورية، والتي تشكلت خلال الفترة السابقة من الثورة، متمثلة في معارضة الداخل والخارج، بفرض حضورها الإعلامي المكثف على شاشات الفضائيات، بوصفها متحدثة شرعية ووحيدة  بلسان طيف الشعب السوري، معظمها كانت له محاولات في استغلال الثورة لمصالح شخصية جدًا، بالعمل على حصد رضا سفارات الدول المهتمة بالشأن السوري، كل بحسب لونه وصلاته، وما يتقارب إليه من هذه الدول، وبدل أن تتوجه هذه النخب السياسية إلى الجماهير؛ لقيادة ثورتها الصعبة، والوصول إلى أهدافها في الحرية وبناء دولة العدل والقانون، عمل جميعها على المناكفات الميكيافيلية.

تأطّرت معارضة الداخل، ومنحت نفسها شرعية وحيدة، وأحقية في تمثيل المعارضة الوطنية، وعدّت من هم خارج سورية مجرد معارضة خارجية غير شرعية، علمًا بأن قسمًا منهم خرج من سجون النظام، وفر إلى الخارج كذلك، وكثيرون ممن أعطوا أنفسهم هذه الشرعية، لم يكن لهم وزن في مقارعة النظام قبل الثورة، بل أن بعضهم كان في السر على موائد مخابرات النظام، وفي دائرته الخاصة، وبعض من في الخارج، كان يبحث في طرق التصالح مع النظام؛ للعودة إلى حضن الوطن.

قسم لا بأس به منهم له تاريخ في المناورات السياسية، يرفعون شعارات الوطنية والحرية والقومية، ويُعرّفون أنفسهم بأنهم معارضة تاريخية، ذات دور مميز عن سواهم؛ لأن بعضهم، وبأشخاصهم، كانوا قد قدّموا الشرعية الجماهيرية لحافظ الأسد، عندما انقلب على رفاقه، حين شاركوا في الجبهة الوطنية التقدمية، ثم انسحبوا منها بضغط من قواعدهم التي اكتشفت حقيقة النظام وتغوله على الدولة والمجتمع، وحينها برر بعضهم أن تلك التجربة مع نظام الأسد كانت “غلطة شاطر”.

بعدها بدأ النظام يضيق على كوادر هذه الأحزاب المنسحبة من الجبهة، بالسجن وتضييق سبل الحياة؛ ما دفع كثير منهم إلى الهجرة خارج البلاد، إلى أن أصبحت هذه الأحزاب في أضعف حالاتها، متروكة لتعيش ترف ديكور مُعارض في الداخل.

بعد قيام الثورة شكلت هذه النخب الأخيرة “هيئة التنسيق الوطنية في الداخل”، وتشكل المجلس الوطني خارجًا، وظهر أمام العالم أن المعارضة تنقسم على نفسها، بين داخل وخارج، بتنازع شكلي على أحقية تمثيل الشعب السوري.

بقي نظام الأسد سلطة واحدة ذات شرعية دولية، مستمرًا في جرائمه، ومسؤولًا أساسيًا عن التدمير والقتل والتهجير الممنهج، وحين بدت علامات التهالك، عسكريًا وشعبيًا، على النظام دخلت إيران بأذرعها العسكرية في احتلال أجزاء من سورية، وأخيرًا تدخل الروس بطائراتهم ومستشاريهم، وأصبحت سورية محتلة، يكسب النظام مناطق واسعة ميدانيًا، مع هذا الثقل في الدعم العسكري، وهكذا تحول عمل القوى الثورية المسلحة من مواجهة النظام الدكتاتوري وحده، إلى محاربة الاحتلال الإيراني الجاثم على أرض سورية، وصار الشعب السوري بين شهيد وأسير وجريح ومُهاجر في أنحاء العالم، أما في دمشق، فيتربع الأسد ممثلًا عن السلطة؛ ليبرر الاحتلال، ويضفي عليه شرعية بوجوده الدبلوماسي.

لم تكتف هذه النخب السياسية بتبني خطاب مُخجل، يحدد الصراع القائم بين نظام ومعارضة، وليس بين شعب ثائر ومحتلين، على الرغم من كل النداءات الشعبية، الموجهة إلى تلك النخب، لتُعلن سورية محتلة، وتُشكّل جبهة سياسية مُوحّدة، تقود الفصائل المقاتلة وتوحدها نحو هدف التحرير، بل يفاجأ الناس بمن يخرج عليهم -أخيرُا- ويدعوا إلى عقد مؤتمر للمعارضة في دمشق، يفاوض النظام بمشاركة معارضة الداخل (هيئة التنسيق الوطنية)، ودعوة معارضة الخارج إلى حضور المؤتمر بضمانات دولية، أي: بضمان دولتي الاحتلال: روسيا وإيران، في تحليل تاريخي للاحتلال ووجوده، متجاهلين أن كل من يدعوا أو يشارك في مؤتمر كهذا، لا يمثل إلا دور الزوج المُحلّل، الذي سيذكره التاريخ جيدًا، وستذكره دماء الشهداء التي دافعت عن كل شبر ومنزل وقطعة أرض سُلبت من هذا الشعب اليتيم.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان