التهديد الأكبر للأمن والسلم الدوليين
قَلَّ من قرأ المشهد العام في بلدان الربيع العربي بشكله الصحيح، نظرًا للتداخلات الكثيرة والمتغيرات الداخلية والخارجية اليومية، أمر جعل الغالبية الساحقة من مواطني هذه الدول مشدوهين بما يجري، فذهب البعض إلى جلد الذات والإسهاب في ذلك؛ ما تجلى في موجة الإحباط التي تنتاب الغالبية إن لم يكن الجميع.
وبدا لكثيرين أن الأمور وصلت إلى طريق شبه مسدود في كثير من الثورات (سوريا - ليبيا - اليمن)، فهدف هذه الثورات بطبيعة الحال لم يكن الحروب والقتل والدمار، وإنما البحث عن الحرية والديمقراطية والكرامة. وما لبثت مشاريع هذه الثورات أن تحولت إلى حروب طاحنة بعد تقاعس قوى كبرى عن دعمها كما يجب من جهة، ودعم طرف على حساب طرف، والعكس صحيح، من جهة أخرى، إضافة إلى خلق الإرهاب العابر للقارات من جهة ثالثة.
في الملف السوري، وبعد ما يقارب ست سنوات من بدء الثورة، وخروج الأمر عن السيطرة، لتعقيداته وتداخلاته الدولية والإقليمية والداخلية، أصبح من الواضح أن الأمر لم يعد بيد السوريين ولا حتى دول الإقليم، بل وصل إلى أن يكون صراعًا دوليًا، وتصفية حسابات بين الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، وكان من مظاهر ذلك، عدم مبالاة الولايات المتحدة، وسماحها بالتمدد الروسي في المنطقة وأوروبا، كما كان من مظاهره احتلال روسيا لمناطق في أوكرانيا، وما يمثله ذلك من تهديد للاتحاد الأوروبي في حال بقائها في المناطق المحتلة.
في الداخل السوري، الذي أصبح ساحة صراع معقد متعدد الأطراف والأجندات، لا يزال الثوار متمسكين بمطالب الثورة، ضد نظام القتل والإجرام، الذي استخدم جميع الأسلحة وصولاً إلى صواريخ سكود والسلاح الكيماوي المحرم دوليًا؛ أكثر من 150 مرة في مناطق يسيطر عليها الجيش السوري الحر، وقد أثبتت المنظمات الدولية في تقارير كثيرة مسؤولية نظام الأسد عن ضربات كيماوية، وكذلك ضد ميليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، التي تسيطر على مناطق عدة في سوريا، وتستخدم سياسة التغيير الديموغرافي، وضد تنظيم القاعدة (جبهة النصرة)، و«داعش»، الذي سيطر على مساحات واسعة في سوريا والعراق، ومارس خروقات وانتهاكات ونفذ عدة عمليات في دول أخرى، كتركيا ودول أوروبا؛ ما جعله تنظيمًا عابرًا للقارات.
لقد تحول القتل والدمار ليصبح جزءًا من المشاهد المعتادة، ليس على صعيد الأفراد فقط، بل على مستوى المجتمع الدولي والأمم المتحدة، التي يفترض بها أن تتحمل مسؤولية الأمن والسلم الدوليين، وتحوّلَ السلم والأمن إلى مفهوم غريب لا يكاد يجد له مكانًا في المشهد.
يكشف هذا الواقع عن التقاعس الكبير والمواقف الباردة وغض الطرف عن الإجرام، الذي يقوم به نظام الأسد والميليشيات اللبنانية والعراقية والإيرانية بحق الشعب السوري، والانشغال بالقشور، التي لا تتعدى بعض المساعدات الإنسانية، والقلق المستمر الذي يعتصم به الأمين العام للأمم المتحدة، كل ذلك مقابل ترك الأصل والعجز عن تنفيذ القرارات الأممية على هشاشتها وفشلها في الوقوف الصارم إلى جانب الحق، والتي باتت حبرًا على ورق، ولا تساوي قيمة الورق الذي تكتب عليه.
وقد ظهر هذا العجز وانكشفت تلك الهشاشة بأفدح الأثمان التي سددت، ولا تزال تسدد من دماء السوريين ومستقبلهم، كما ظهرت على مستوى آخر في توالي ثلاثة مبعوثين دوليين؛ كوفي أنان، والأخضر الإبراهيمي، وآخرهم ستيفان دي ميستورا، الذي عبّر في مرات عدة من خلال سلوكه عن تخبط واضح وعن عدم نجاح في تولي المهمة المسندة إليه، ظهر ذلك في إطلاقه المبادرة تلو الأخرى، معبرًا من خلال كل ذلك عن فشل جوهري في كيان المنظمة التي اختارته وابتعثته، وفضّل أن يتنازل عن الحياد في بعض الحالات واتهم بأنه تورط في مخططات النظام الرامية لإجراء التغيير الديموغرافي والتهجير الممنهج في مناطق عدة، منها ريف دمشق الغربي وحي الوعر في مدينة حمص وسط سوريا، والمساهمة في هذا الأمر من خلال ممارسة الضغط بهذا الاتجاه كما حصل في داريا غرب دمشق وحي الوعر في حمص، عندما قدم فريق دي ميستورا في مكتب دمشق النصائح للثوار من أجل تسليم حي الوعر المحاصر للنظام؛ بدل الضغط على النظام لفك الحصار، أو على أقل تقدير إدخال المساعدات الإنسانية. وفي داريا شارك فريقه في تفريغ المدينة من أهلها بشكل كامل لصالح النظام!
نحن أمام عجز للمجتمع الدولي، وأمام تداخل بين الملفات والأجندات المختلفة.. نحن أمام تدخل إيراني يدعم النظام كخيار استراتيجي لا يرى بديلاً عنه.. نحن أمام أحلام روسية قيصرية واحتلال لمناطق في سوريا، احتلال تفرضه قرابة مائة طائرة حربية، وطرادات وسفن وبوارج، وحاملة طائرات ترسو على السواحل السورية، تدمر الحجر وتقتل البشر في ظل الصمت الدولي على هذه الجرائم.
الملف لا يزال مفتوحًا على مزيد من الإضافات، فالمعارضة السياسية السورية لا تزال بعيدة عن الآمال، وهي تستمر في التخبط على بعض المستويات، بين تخوين بعض الأطراف في الداخل السوري، ومؤامرات المجتمع الدولي، ويبدو للبعض أنها تبحث عن أمل وسط كومة قش طالتها ألسنة اللهب وبدأت بالاحتراق بفضل سلاح أبدعت في تأمينه دول العالم.
المعطيات، المحلية والإقليمية وكذلك الدولية، تشير إلى عدم وجود حل في المدى المنظور، وإلى أن القتل والدمار وتوسيع دائرة الصراع ستستمر إلى أجل غير معلوم.
الخطر الأكبر قد يأتي من التغيير الديموغرافي، الذي يجتاح الكرة الأرضية بجميع الاتجاهات جرّاء الحروب والظلم والاضطهاد، ما سيكون له الأثر السلبي والثمن الأفدح والتهديد الأكبر للأمن والسلم الدوليين.