مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣٠ نوفمبر ٢٠١٦
على أعتاب “معابر الموت” حلب تميط اللثام عن قاتليها الأقربين قبل المجرمين

تتسارع دقات القلب، وتعجز الحروف عن الخروج من حناجر متعبة أنهكها القتل والتعذيب والحصار، صور وأشلاء لأطفال ونساء، مزقتها صواريخ الحقد الأسدية على عتبات المعابر الأمنة التي جعلها نظام الأسد منفذاً وحيداً لخروج آلاف المدنيين المحاصرين في الأحياء الشرقية من حلب، كل هذه المآسي لم تلامس الحس الدولي والإسلامي بمعاناة المدنيين في حلب حتى اليوم، حيث يتفرغ نظام الأسد للقتل والتنكيل، بعد أن حقق مبتغاه بالسيطرة على عدة أحياء في المدينة كانت خارج السيطرة.


اليوم حلب تعيش المأساة لوحدها، لم ينصرها القريب ولا البعيد، تكفكف دموعها وتضمد جراحها النازفة دون توقف، حلب تعيش حالة الكارثة التي دخلت كل حي وكل منزل بثقل أوجاعها وهمومها وجراحها التي لا تكاد تتوقف عن النزيف، وسط حالة الغليان الشعبي في كل المناطق السوري المحررة تلبية حلب وتطالب بالإسراء في إنقاذها ولا مجيب.


المعابر الأمنة اليوم في حلب باتت معبراً للموت، يقتل فيها كل من يحاول النجاة، كأنها المحرقة أو يوم القيامة قد حل بحلب، يسرق أرواح الأطفال والنساء، وتتناثر أجسادهم، يقتصر المجتمع الدولي بعد القتلى بالأرقام، فلم تعد تؤثر تلك الصور التي تبث لمنظار الأشلاء والقتل والمجازر الجماعية التي ترتكب بحق من طلب النجاة، وهرب من الموت الذي لاحقه لأشهر في احياء حلب، لتكون النهاية المريرة على عتبات تلك المعابر.


من ينصر حلب اليوم، وهل تكفي البيانات أو منشورات الحزن والتباكي على مأساة حلب، وهل يكفي انتقاد الشرعيين للقادة ومطالبتهم بالتوحد، أما سئم شرعيونا من طلب التوحد والاعتصام، أما عاد للقادة صوت يجيب عن التساؤلات الكثيرة لماذا توقفت معركة فك الحصار، ومن هو المعني الأول بفك الحصار، أما تساءل احد أين ملايين الطلقات والقذائف التي خرجت من مستودعات بعض الفصائل بمدينة حلب، وأين باتت هذه الأسلحة، ولماذا لم تستخدم في الدفاع عن حلب، أم انها في عهدة بيت مال المسلمين تنتظر أهل العلم للفصل في حصة كل واحد منهم.


أين أرتال الثوار، ولماذا توقفت معركة حماة بحجة أن حلب الأولى وأن الإعداد لحلب اليوم، فلا نصرنا حلب ولا انقذنا حماة، أين أصواتكم أيها السادة، هل سيكون ردكم بعد كل هذه الدماء والمجازر، بان خسارة بقعة أرض لا تعني انتهاء الجهاد والثورة، هل كل هذه الأرواح التي أزهقت هي فاتورة طبيعية لحربكم، ولبناء كياناتكم، ولو على حساب أشلاء ذلك الطفل الذي قتل في أحضان أمه، ذلك الشيخ المغبر الذي تضرجت وجنتاه بالدماء، تلك المرأة التي نام جسدها على أبواب المعابر الامنة كانت تبحث عن ملاذ آمن للخروج منه لأجل أطفالها.


هل تنصر حلب اليوم ببضع لافتات ومظاهرات لم تتعدى العشرة أشخاص، ليأتي من يواجههم ويسقط علم الثورة، وتنتهي المظاهرة وينتهي الانتصار لحلب، هل باتت قضيتنا رفع علم الثورة أو إسقاطه وحلب تموت كل لحظة، من أسقط  علم الثورة وماهي غايته، ولماذا دافع عن نفسه بوجه من حاول منعه من التصدي للمظاهرة بفتح قنبلته ليقتل من يقف بوجهه، أما كانت حلب أولى بقنبلتك التي أخرجتها.


حلب لن تسقط وستتابع مسرتها، حلب لن تموت وستنتصر على كل من خذلها، كنا نبكي داريا وكل من خذلها ونتهم فصائل الجنوب بالتخاذل، فأين أنتم فصائل الشمال، ولماذا خذلتم حلب، هل ستكون المرحلة القادمة هي تراشق الاتهامات، والتنديد والشب، أما التباكي على اطلال حلب المدمرة ...............؟

اقرأ المزيد
٣٠ نوفمبر ٢٠١٦
نذبح كـ”خراف” ليفرح الذّباح .. في حلب لا آذان يكتمل بسبب “غصة” القهر

لم يستطيع مؤذن جامع “نور الشهداء” في حي الشعار إكمال رفعه اذان الظهر، فخنقته الغصة، و بكى على الملأ واختلط نحيبه مع “ يا الله حلب يا الله حلب يا الله حلب”، ويتقطع صوته مع دوي القذائف بشتى أنواعها، وبذات الوقت تتناثر جثامين الأطهار كـ”خراف” مضرجة بالدماء، وسط قهقات القاتل بأنه أوفى النذر الذي عليه ، نذر ليس لإله و إنما لصنم.


مسكت يد أطفالها و هي تبتسم وسط دموع تعبر عن مزيج من المشاعر، أطغاها القهر و الفرحة بالنجاة المؤقتة، وتهمس لتلك الأجساد الهزيلة التي تشدها، بأننا وصلنا إلى منطقة لا اعتقال فيها على الأقل، و لكنها لم تكمل رسائل الطمأنينة لأطفالها حتى جاءت قذائف الموت لتقضي على الجمع.


في حلب المتبقية، يحدث أمور لا يمكن لاعلام أي كان أن يشرحها ، ولا لصورة مهما كانت مؤلمة، أن ترسم ملامحها، قصة تلك الأم التي استشهدت مع اطفالها و ٤٢ شخصاً آخرين في حي “جب القبة”، يشابهها عشر قصص في ذات الرقعة التي لاتتجاوز العشرين متر مربع، و آلاف القصص داخل “الحراق” الذي يسمى اليوم بحلب .

يجلس فوق وشاح ، سجّ به جسد أمه، و هو يداعب بقايا الجسد الذي تشظى، ويقول ليتني كنت معك الآن في السماء سواء أكان مصير نار جهنم أم غدير الجنة، و بكلتا الجحالتين لن أتركك، ليتني لم أتركك لأبحث عن شيء ما يسد رمقك و يدفئ جسدك المنهك، لكن تمنياته تقف مع عند حاجز الموت القادم من كل مكان و من الجهات .

يقف العالم اليوم مكتوف الأيدي أكثر من المحاصرين في حلب ، ينظر إلى الموت في تلك المنطقة على أنه قدر “أحمق” ، ويأمل أن يتعقل و يهدأ ولو بعد حين، فهو ثور يعشق اللون الأحمر و يعمل على تصنيعه و انتاجه من أجساد المندثرين.

في حلب عندما يعجز القلم عن الكتابة

اقرأ المزيد
٢٩ نوفمبر ٢٠١٦
السروريون الجهاديون والغباء

يقول الرئيس الفرنسي «فرانسوا هولاند»: (يستغل الرئيس الأسد المتطرفين ليضمن بهم بقاءه). وهذا صحيح، فحركات التطرف الديني وعشقها للدم والتخريب ومحاربة العالم (الكافر) كما يصفون من يحاربون - مسلمون وغير مسلمين - جعل كثيراً من دول العالم يضع هذه الحركات في رأس أولوياته، ويتغاضى عن جرائم الأسد وتجاوزاته غير الإنسانية.

الرئيس الأمريكي المقبل «دونالد ترمب» قال في إحدى خطبه إن الرئيس الأسد يحارب داعش والإرهاب فلماذا نحاربه؟.. وهذا ما يروج له الأسد ويستغله، وهو ما أشار إليه الرئيس هولاند. كذلك الفرس الايرانيون في خطابهم السياسي والإعلامي يزعمون أنهم في سوريا يحاربون الإرهاب؛ وهذا ما يؤكد للمرة الألف أن القاعدة وداعش وكذلك الرحم الذي أنجبهم (تيار السروريين) هم في السياسة والتعامل مع الواقع وموازين الضعف والقوة أغبياء حمقى، يعطون أعداءهم من حيث لا يعلمون المبرر والذريعة للقضاء عليهم واستئصال شأفتهم.

القاعدة حاربت العالم جميعاً، فانتهت إلى مقتل مؤسسها ابن لادن، وتشرذم أتباعها، وتشتت شملهم. داعش التي أنجبتها القاعدة ها هي قاب قوسين أو أدنى من أن تُسحق، وتنتقل إلى التاريخ. ولا فرق لدي إلا في بعض الهوامش بين القاعدة وداعش. فكلتا الحركتين نبتت وهي تحمل أسباب فنائها، وكذلك لتبرر قوة أعدائها.

الفرس الصفويون يحرصون على بقاء التطرف السني والتكفير لكي يبرروا تدخلاتهم في شؤون دول المنطقة، ويتمترسون بحرب الإرهاب لتبرير شهواتهم التوسعية.

كذلك الدول السنية الكبرى ومنها المملكة تعاني أشد المعاناة منهم، ومن فتاوى مشايخهم وبالذات التكفيرية، حتى ليخيل للكثيرين أنهم يستفزون الدول العظمى لمناوأة أهل السنة ومناكفتهم ومصادرة ثرواتهم.

والسؤال: هل يدركون ذلك؟.. في تقديري أنهم لا يدركون، لأنهم سذج مغفلون حمقى؛ لا تتعدى نظرتهم للمستقبل أطراف أنوفهم. جرّب - مثلا - وناقش صحويا منهم، واطرح عليه بعض الأسئلة عن مواقف الهالك ابن لادن الاستحمارية. إذا صدقك فسوف يستورد أمثلة من التاريخ وعنتريات السلف يوم كانت الشجاعة والسيف والرمح والنبل هي أدوات الحرب. وإذا طرحت أمامه الفرق بين عالم السيف البدائي وعالم التكنولوجيا والذرة، لجأ إلى القول بأن الله معهم وليس مع الكفار، ولذلك سينتصرون.. وربما يضيف: {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}, ونسي السطحي المسكين أن الله جل وعلا حينما وعد بالنصر، اشترط إعداد القوة، ولم يترك الأمر معلقاً على الإطلاق، وإنما على التقييد. هذا العمق الفلسفي العقلاني لا يدركه كثير من المتأسلمين المسيسين، فلديهم أن السماء ستنصرهم حتى ولو لم يتلمسوا أسباب القوة، ولم يعملوا على توفير مبررات النصر.

السبب في هذه الحماقات أن السلفية المتأخونة على وجه الخصوص، يكرهون العقل والعقلانية، بل وربما يكفرون العقلانيين. وأتذكر أنني سبق أن وصفني أحدهم بأنني (معتزلي)، فالذي يعرض ما ينقل على عقله، يعتبرونه من (المعتزلة)، وكل المعتزلة في معاييرهم كفار.

وقد يسأل أحدهم: كيف يكون الجهاديون مغفلين ومنهم الطبيب والفيزيائي والمتخصصون تخصصات علمية يحتاج صاحبها إلى قدر ولو قليل من معايير العقل والذكاء؟.. المشكلة ليست في ذات الشخص، وإنما في الأيديولوجيا التي يحملها الشخص نفسه، وأول أولويات هذه الأيديولوجيا أن تُهمش العقل وتنحيه جانباً؛ ففي خطابهم (من تمنطق تزندق) ولا علم اليوم دونما منطق؛ وإلا فهل يعقل أن ينتحر طبيب مثلا، والنص القرآني يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} تغييب العقل الذي يدعو له غلاة السلفيين السروريين هو أس البلاء ومنبع الإرهاب.

اقرأ المزيد
٢٩ نوفمبر ٢٠١٦
تآمرتم على حلب

كنت سمعت الكثير عن شوارعها، وأسواقها، وقلعتها الأبية، وناسها. لكن الظروف لم تشأ إلا أن أزور حلب للمرة الأولى عام 2013 بعد أن دخلت سوريا في ما سُمي وقتها بـ "الربيع العربي". تذرعت بحجة المهمة الصحفية لتغطية منطقة نزاع مقفلة أبوابها بوجه الإعلام العربي والعالمي ولا يدخلها سوى مراسلي الحرب، ودخلت من حدود تركيا حتى مشارف حلب القديمة لم يوقفنا سوى حواجز قليلة أكثرها للجيش الحر وقليل منها لجبهة النصرة. كانت حلب وريفها، وإدلب وريفها تحت سيطرة "الثوار"، ولم أشاهد قوات الجيش السوري الموالية للأسد إلا داخل قلعة حلب الأثرية.

في حرب الشوارع تكون التحركات محسوبة، فأي خطوة تصبح في مرمى القناصة، فوقفت محتمية أتأمل أقدم مدن العالم يقطنها مقاتلون لا يدركون أي حرب يخوضون.
نعم، تقريبا كل المدن والقرى الواقعة بين حدود تركيا ومداخل حلب القديمة كانت في يد "الثوار"، غالبيتهم العظمى لم يكونوا منضوين تحت لواء "الإسلام المتطرف" رغم كل الاتهامات. لم يكن مناسباً لبشار الأسد أن يكون رئيسا ضد شعبه، فحوّل الصورة إلى رئيس يحارب الإرهاب. منذ اللحظة الأولى للحراك الشعبي في درعا عام 2011 عمل النظام السوري على تحويل وتحريف الصورة من مطالب شعبية ومظاهرات سلمية إلى حركات مسلحة بأجندات إرهابية، ونجح صورياً. لكن أهل حلب لم ولن يكونوا إرهابيين. هذه واحدة من أقدم مدن العالم، وكانت شاهدة على أكثر من ثماني حضارات على مرّ العصور. لذا سواء بشار الأسد وعلويوه، أو "داعش" وتكفيريوه، أم حفنة مقاتلين مأمورين من أجهزة استخباراتية فإنهم حقبة واحدة في زمن حلب وأهلها. هم من يدفعون أثمانا باهظة بأرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم وهم باقون وإن فوق الدماء.

يعرف بشار الأسد في قرارة نفسه أنه فانٍ، وأن مجده باطل، ويعرف أن لعبة الدول التي أقحم نفسه وسوريا فيها، هو فيها لاعب صغير يحول بينه وبين الموت قرار، وبينه بين خسارة حكم سوريا قرار. يعرف بشار الأسد تماما أنه أجرم بحق سوريا، وإذا لم يحاسبه البشر فسيكون له التاريخ والقدر بالمرصاد. وتعرف الدول الداعمة لحركة الثوار في سوريا أنهم يدفعون اليوم ثمن أخطائهم. قيل الكثير بين عامي 2012 و2014 أن بشار الأسد على وشك السقوط تماما كما أسقط بن علي، وحسني مبارك، والقذافي، وغيرهم. لكن بعد ست سنوات على رسومات خطها أطفال بإيعاز من كبار ضد الأسد على حيطان درعا، وبعد سقوط حماه وحمص وريف دمشق ها هي حلب بحكم "الساقطة عسكريا".

يوم دخلت القوات التركية سوريا باتجاه مدينة الباب السورية قبل أشهر قليلة كان القرار اتخذ بإهداء مدينة حلب لروسيا وإيران. ولا بأس، فسوريا أصبحت تشبه لوحة الشطرنج، وهي لعبة تجيدها الدول ولا يفقه فيها طلاب الحرية. وهكذا تأخذ إيران وروسيا حلب المدينة، ويبقى ريف حلب لـ"الثوار" المنضوين تحت لواء أميركا وتركيا وبعض دول الخليج. كل هذا تحت شعار محاربة "داعش"، وكل هذا لأن أخطاء جسيمة ارتكبت. ففي زمن الثورة السورية، بلغت الخلافات الخليجية الخليجية ذروتها، والعلاقات العربية الأميركية وصلت إلى أسوأ مراحلها. وعلى أرض سوريا يقاتل المرتزقة من كل حدب وصوب ولم يعد واضحا مَن يقاتل مَن ولماذا. هذا قبل "داعش" وهذا سبب من أسباب وجود أغراب متطرفين يقاتلون في سوريا. على مرأى العالم، مرّ المقاتلون الأجانب عبر حدود سوريا ليشكلوا ميليشيات شيعية عراقية ولبنانية، وروسية، وإسلامية متطرفة، مثل "داعش" وغيرها. لم يحرك العالم ساكنا رغم أن أجهزة استخبارات العالم بأجمعه تقف على مشارف سوريا ترى وتسمع وتوثق.

نهش المقاتلون بعضهم البعض ونسوا قضيتهم، وبعضهم شَغَلَه سرقة النفط وأموال الناس وإعاشاتهم، وسرقوا السلاح وباعوه. طبعا من الظلم أن نعمّم هكذا ممارسات على كل الثوار لكن الجميع يعلم أن هكذا اقترافات حصلت وتحصل. لهذا تسقط مدن سوريا الواحدة تلو الأخرى، فالمعارضة بعد ست سنوات لم تنتج شخصا واحدا يشعر الناس أنه قائد. للثورات وجوه ونجوم وقادة، قد لا يعمّرون طويلا لكنهم غالبا ما يكونون عنوان مرحلة، وهذا مفقود في صفوف المعارضة السورية مع الاحترام لكل تضحياتهم المبذولة. لهذا خسرت المعارضة، لكن حلب باقية. صحيح أن دماء مدنيين أبرياء تسيل في شوارعها، لكن تخيلوا كم حرب شهدت مدينة يُقال إن البشر يسكنونها منذ الألفية السادسة قبل الميلاد.

حلب ستشهد على عصرنا هذا وعلى أجيال قادمة، وستبقى مدينة جميلة بعيون العالم وعصية على الجميع. وإذا ما تسنى للحلبيين أن يذهبوا إلى القبور في هذه الحرب الضروس، ليتذكروا أن يدفنوا خوفهم إلى جانب أمواتهم. فحلب لن تكون للإيرانيين للأبد، ولا للروس، ولا لداعش ومَن خلفه، ولا للمقاتلين بالوكالة. حلب لأهلها باقية.

اقرأ المزيد
٢٩ نوفمبر ٢٠١٦
عندما تتحدث الطفولة.. في زمن الحرب

هذة ليست مجرد لوحة فنية أو رسمة فنان، ليست ورقة ملونة تنال الإعجاب فقط.. بل هي حكايا وآلام خطتها أنامل طفل ذي ثلاثة عشر عاما. نعم، عندما يتحدث الأطفال ينطقون بصدق دون قيود أو تلميع، يعبرون عما بداخلهم ببراءة من غير تكلف، فيا الله.. ماهاتان الكلمتان اللتان اختصرتا الكثير من الكلام!!


 كلمتان أبلغ من الخطابات السياسية والمعارك العسكرية، بل أجزم أنها رسالة واضحة التفاصيل بما في داخل فئة كبيرة من الشعب السوري، اختصرها هذا الطفل بكلمتين وصورة صغيرة.


 قد لاتمتلك الكلمات التعبير عمّا يدور في رأسك عندما تقرأ اسم الطفل هاني الطالب في الصف السادس الابتدائي، ماهذا الغضب والقهر والوحشة التي بداخله من هذا العالم الأسود؟! بالنسبة له، فهو لم ير من هذه الحياة سوى ركام الحرب وأشلاء الضحايا، طفولة ممزوجة بالتهجير والعنصرية والقسوة.
هاني ليس الوحيد، ولكنه مثل الآلاف، بل مئات الآلاف من الأطفال، عندما ترى دموعا تنهمر من عيني طفل خلف جدار مدرسته وهو يكافح في مهنة شاقة حتى على الكبار، تقف للحظات تتأمل المشهد، وبعد أن تدرك الحقيقة الموجعة يبدأ الضجيج بداخلك، في معركة بين الإنسانية والتجاهل لما يراه. نعم هذا الطفل هو المصدر الوحيد لعائلة انهكتها الحرب.


صمت .. وصمت .. وصمت، لا كلام ولا وصف، ينطق بصوته الطفولي المبحوح أنا لست حزينا لعملي، نعم أنا لست حزينا لعملي ، بل حزين لعدم امتلاكي الوقت الكافي والقدرة للعمل تسع ساعات هنا، وست ساعات هناك، ويشير، بألم وحرقة إلى المدرسة.


ماهو الحل ؟ لا أعرف، سوى أن أقول: لعنة طفولتهم ستلاحقنا إلى أن ندرك مستقبل أطفال شردتهم الحرب، وقتلت فرح الطفولة وبهجة الحياة في قلوبهم.

اقرأ المزيد
٢٩ نوفمبر ٢٠١٦
التغير الديموغرافي في سورية


نحاول في هذا التقرير دراسة ظاهرة خطيرة للتطورات في سورية على المستوى البشري. وهناك إدراك عام بأن التغيير الديمغرافي قد يكون من أخطر ما تتعرّض له المنطقة، وذلك لأن آثاره تدوم علاوة على الفظائع التي تترافق معه. وما يجعل الأمر أكثر خطورة أن هذا التغيير هو جزء من الجهد الخارجي الذي يعبث في أرض سورية ويمزّق أسس قيامها الاجتماعي الذي هو أكبر مرتكزات استقرارها.
وعلينا ابتداءً التنبيه إلى أن البيانات والأرقام المتوافرة حول الموضوع لا يمكن الوثوق بها وثوقاً مطلقاً. غير أنّ خطورة الموضوع دعتنا إلى الخوض فيه محاولين إجراء تقاطع بين أجزاء المعلومات بحيث يعضد بعضها بعضاً، وذلك بغية تشكيل صورة تعكس الواقع بقدر الإمكان بعيداً عن التخمين ومجرد التخوّف. وما يلي ثلاث نتائج أساسية أظهرتها الدراسة:
    1.    هناك تغيرات ديمغرافية خطيرة أفسدت نسيج الاجتماع البشري في بقاع متعددة من سورية.
    2.    هناك تغيرات حاصلة نتيجة التدمير والصراع وليست مرتبطة مباشرة بالبعد الطائفي.
    3.    هناك مبالغة في الأذهان حول الاستبدال السكاني، لم نجد دلائل على حصول استبدال سكاني واسع.
نضع بين يديكم هذا التقرير الذي درس التغير الديموغرافي في مختلف مناطق سيطرة القوى العسكرية حتى مطلع شهر تشرين الثاني 2016 مؤكدين على ضرورة اتمام هذه الدراسة بجهود ميدانية لرسم صورة أدق عن الواقع الديموغرافي للبلاد.
تعريفات أساسية
قبل الولوج في استعراض عمليات التغيير الديمغرافي القائمة في سورية، لا بد من شرح تعريفات أساسية:
    •    الديموغرافية: دراسة الخصائص السكانية لرقعة جغرافية معينة من حيث توزيع الأفراد على مجموعة معدلات نسبية، مثل: الولادة، والوفاة، والفئة العمرية، والمرحلة الدراسية، والقوم، والجنس، والدين.

    •    معدل وفيات الأطفال: عدد وفيات الأطفال لـ 1000 طفل في السنة.

    •    متوسط العمر المتوقع: متوسط عدد السنوات التي يعشيها الفرد في البلد.

    •    معدل وفيات: معدل وفيات الأفراد لـ 1000 مواطن في السنة.

    •    مؤشر الولادة: عدد الأطفال المولودين في السنة.

    •    اللجوء: عملية مغادرة البلاد بغرض الحماية بسبب الحرب، أو الاضطهاد السياسي أو القومي أو الديني أو بفعل الكوارث الطبيعية.

    •    النزوح: عملية مغادرة المسكن الأصلي لمكان آخر ضمن حدود البلاد بغرض الحماية لنفس أسباب اللجوء.

    •    الاستيطان: عملية إسكان واسعة في أرض دون رضى أصحابها، بغرض تغيير التركيبة الديموغرافية للرقعة الجغرافية المستهدفة.

    •    التهجير الجماعي: ترحيل مجموعة من الأفراد من موقع جغرافي إلى آخر. ويكون جريمةً في حال حصل قهراً دون رضى المهجّرين، أو في غياب السند القانوني، أو لم تتوفر شروط السلامة والحماية المطلوبة أثناء التنقل. ويشمل مفهوم الترحيل ما كان بإشراف قوة عسكرية أو شبه عسكرية من خلال تسيير عملية التنقل، أو من خلال فرض واقع أمني أو اقتصادي أو صحي لا يترك للمدنيين خياراً سوى الهجرة من محل إقامتهم.

    •    الإبادة الجماعية: هي الجرائم المرتكبة بسبق نيّة وترصد بغرض التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو قومية أو دينية إمّا من خلال قتل أفرادها، أو إلحاق ضرر جسدي أو نفسي جسيم بحقهم، أو إخضاعهم عمداً لظروف عيش قاهرة، أو فرض تدابير تحول دون تكاثرهم، أو من خلال نقل أطفال الجماعة عنوةً إلى جماعة أخرى.

    •    جريمة حرب: هي كل جريمة جنائية بحق الأفراد المحميين بموجب القانون الدولي، والناتجة عن سياسة أو أوامر من القيادة والتي وفرت الحرب ظروف ارتكابها.

    •    الأمن الاقتصادي: مدى قدرة الحفاظ على معدل دخل وطني بما يدعم سبل المعيشة في الحاضر والمستقبل المنظور.

    •    المجموعة الإثنية/الملّية: مجموعة سكانية تتميّز بنسق ثقافي أو انتماء قومي ويضمّ عادة اللغة والدين. وهو في الحالة السورية ليس له تقاطع لازم مع القوم (ملاحظة: نستعمل مصطلح الملّة وفق أصله اللغوي وليس ضمن المفهوم السياسي المذهبي الشائع في لبنان).
الإطار النظري
توضيح أبعاد التنوع داخل سورية أصبح أمراً مهماً لأنه أصبح حقيقة شاخصة تهمّ أي إدارة ناضجة، ولأن ثمة جهود كثيرة تحاول استغلاله في غير صالح السوريين. ومن المعروف أن كلاً من النظام السوري والقوى الخارجية (وعلى رأسها إيران) دفعوا نحو الاستقطاب الطائفي كوسيلة في محاربة الثورة.
والمشهد اليوم يشير إلى وجود هويتين متأزمتين في أرض سورية: الهوية الكردية والهوية العلوية، وإن كانتا تختلفان في طبيعتهما اختلافاً كبيراً. الهوية الكردية طبيعتها قومية، وبعد الثورة ازداد تشابكها مع التطورات في حال الكُرد في العراق وتركيا. الهوية العلوية طبيعتها طائفية (غير مذهبية)، ورغم أن لها سياقاً تاريخياً يرتبط بتركيا، إلا أن معظم فاعلياتها ترتبط بسورية الحديثة وبحكم عائلة الأسد خصوصاً.
وإلى جانب هاتين الهويتين هناك ما يظهر وكأنه هوية سنية خاصة بالسكان العرب من السوريين. ولكن هذه الأخيرة ليست هوية متماسكة من النوع الذي يُطلق على الفرق والأقليات. ففي حين يمكن أن توصف كل من الهوية الكردية والعلوية أنها على درجة من الانسجام برغم التنوع الداخلي، تصعب الإشارة إلى أي مضمونٍ صلدٍ للهوية السنية العربية المزعومة. وإذا كانت المظالم التاريخية وشعور الغبن هما المشترك في الهوية الكردية، وإذا كان الخوف من الانتقام هو المشترك في الهوية العلوية اليوم، فإن الهوية السنية العربية هي هوية رفض التشرذم والاجتماع على المشترك الحضاري.
وضمن هذا الإطار المذكور تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن التغيرات الديمغرافية بالضبط لأنها مما يزيد في الشرذمة وتأزم قواعد العيش المشترك. وسوف نضطر إلى سرد مجموعات إثنية/ملّية برغم أن هوياتها غير متأزمة، لأن إهمال ذكرها قد يبدو وكأنه تجاهل. فمثلاً هوية المسيحيين والتركمان لم تتبلور يوماً على شكل نقيضٍ للهوية السورية وليس فيها رفض للهوية العربية، إلا أنه كان لا بدّ من إيراد هذه المجموعات والتفصيل في أعدادها من أجل اكتمال صورة التغيرات الديمغرافية الطارئة.
الواقع الديمغرافي لسورية ما قبل الحراك الثوري

قسّمت القوى الدولية بعد الحرب العالمية الأولى المشرق وفقاً لمصالحها إلى كيانات هشة لا يتطابق فيها البعد الجغرافي مع البعد الديمغرافي، وعملت جاهدة ضمن إطار مسعاها للتحكم بهذه الدول على إيجاد تناقضات بين المكونات المجتمعية من خلال استقطاب طوائف محددة ومنحها امتيازات على حساب بقية المكونات، الأمر الذي أحدث تناقضاً في المصالح والتوجهات والتعريف الهوياتي ما بين هذه المكونات. ويكفي أن ندلل على ما سبق بتجربة الدويلات المذهبية التي أسستها فرنسا أثناء انتدابها على سورية وتشكيلها لما يعرف بـ" فـرق القوات الخاصة للشرق" وتنسيب أبناء الأقليات فيها.

تمكنت القوى الوطنية في سورية من نيل الاستقلال والتأسيس لدولة مركزية تعاقب على حكمها أنظمة مدنية وعسكرية كما شهدت حالة وحدة عابرة مع مصر، وصولاً إلى الانفصال وما تبعه من انقلاب البعث 1963، وعوضاً عن هوية جمعية عابرة للطوائف، عملت قيادات البعث وخاصة "اللجنة العسكرية" على استثارة الهوّيات الطائفية من جهة وتبني أطروحات ثقافية معادية للأكثرية من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى صدامات دموية مع الأكثرية في عدة مناطق سوريَة في ستينيات القرن الماضي.
طرأ تغير على طريقة تعاطي البعث مع ديمغرافيا المجتمع السوري مع تولي الأسد الأب للسلطة، حيث مارس الأخير سياسة مزدوجة في إدارة هذا الملف داخلياً، كما وظفه خارجياً في علاقاته مع دول الإقليم، فمن جهة عمل حافظ الأسد على استمالة الأكثرية من خلال تخفيف حدة التوجهات اليسارية الراديكالية للبعث، كما اهتم بمحاولات إظهار تماهيه مع هوية الأكثرية نفياً لتهم الطائفية عن نظامه. ومن جهة أخرى، استمر الأسد بالعمل على إفقاد الأكثرية مقومات التأثير عبر استهداف مراكزها في المؤسستين الأمنية والعسكرية والعمل على تعزيز حضور الأقليات في مؤسسات الدولة سيما العلويين. أمّا على الصعيد الخارجي، فلقد وظّف الأسد الورقتين الكردية والشيعية لتحصيل مكاسب سياسية لنظامه سواءً بعلاقته مع تركيا أم مع إيران. بالمحصلة يمكن القول، لم يستهدف الأسد الأب إحداث تغيير ديمغرافي جدي لكونه يدرك صعوبة ذلك، وإنما لجأ إلى إدارة الديمغرافيا بسياسات توازن حرجة هدفها إضعاف الأكثرية السنية بالشكل الذي يضمن ترسيخ نظامه.
أدت سياسات نظام الأسد الابن إلى انهيار التوازنات المجتمعية التي أسس لها الأسد الأب، ولتتبلور تدريجياً معالم أزمة ديمغرافية ناجمة عن العوامل التالية:
    1.    الأنشطة الإيرانية الرامية لإحداث تحول في نسيج المجتمع السوري عبر نشر التشيّع وهو ما أدى إلى زيادة ملحوظة في أعداد المنتسبين للمذهب الشيعي.

    2.    موجات النزوح والهجرات التي استهدفت المنطقة الشرقية بالدرجة الأولى بحكم أزمة الجفاف التي تعرضت لها منذ 2009 والتي أدت إلى انخفاض الوجود المسيحي في تلك المنطقة نتيجة الهجرة إلى أوربا، إضافة إلى هجرات الكرد باتجاه مراكز مدن الداخل.

    3.    تزايد عدد السكان سيما في محافظات درعا وإدلب وريف دمشق مع غياب الخطط التنموية والاقتصادية المواكبة لهذا النمو.

    4.    تزايد أعدد المهاجرين إلى دول الخليج وأوربا لأسباب تتصل بالوضع الاقتصادي.

أدّت الأزمة الديمغرافية مع جملة الأزمات الاقتصادية والسياسية والتنموية والقيمية التي كانت تعاني منها سورية دولة ومجتمعاً إلى بروز حراك احتجاجي في أذار 2011 ليتطور الموقف تدريجياً إلى حرب مفتوحة مع انخراط إقليمي ودولي مباشر في الساحة السورية. ومن الطبيعي في حالات الحروب أن تحدث عمليات تغير ديمغرافية، بعضها طبيعي بفعل حالات النزوح والهجرة بحثاً عن الأمن وفرص أفضل للحياة، إضافة إلى التغيرات التي تطرأ على النمو السكاني في فترة الحرب، وبعضها الآخر تغير ممنهج يمارسه المنخرطون في الصراع بهدف إحداث أمر واقع يتم من خلال التهجير والإبادة والإحلال السكاني.
الواقع الديموغرافي لسورية ما بعد الحراك الثوري
تشير دراسات الأمم المتحدة في مطلع الألفية إلى وصول عدد سكّان سورية لـ 22.6 مليون نسمة مع نهاية عام 2015 وذلك بفضل معدل نمو سكّاني شبه ثابت يبلغ 2.5%، إلّا أننا نقف اليوم على مشهد مختلف تماماً حيث تشير الإحصائيات إلى انخفاض عدد سكّان سورية إلى ما دون 70% من الأرقام المتوقعة، وبمعدل نمو يقدّر بـ 0.3% فقط. وإذ لا يغدو سراً أن ارتفاع معدّلات الهجرة هو السبب الرئيس لتراجع عدد سكّان البلاد، إلّا أن انخفاض معدّلات الولادة، وارتفاع معدل الوفيات يشيران بدورهما إلى الأثر المباشر للحرب على معدّلات النمو السكانية في البلاد.

يظهر الرسم التوضيحي رقم 2 نسب توزّع سكّان سورية وفق الانتماء الديني والقومي ما قبل انطلاق الثورة، ويحتل العرب المركز الأول بنسبة 82% بين مختلف الأعراق، فيما يحتل المسلمون السنة المركز الأول بنسبة 79% بين الأديان يليهم العلويون بنسبة 11.5%. وفي المقابل يبيّن الرسم التوضيحي رقم 3 حجم التغيّر الديموغرافي الذي طرأ على البلاد بعد مضي خمس سنوات من الحرب، ويشير تقاطع بيانات الهجرة واللجوء مع إحصائيات الوفيات والقتلى إلى تراجع نسبة المكّون العربي السني من 62.2% إلى 60.2%، ويعتبر هذا التراجع منطقياً باعتبار العرب السنة أكثر فئة تضررت من أعمال العنف وأكثر فئة تشجعت على اللجوء إلى بلاد الجوار (انظر الرسم التوضيحي رقم 4)، فيما سجّل المكونان العلوي والشيعي ارتفاعاً، ويعود ذلك لـ :
    1.    انخفاض معدّلات الهجرة ضمن المكوّن العلوي، حيث لا يزيد عدد اللاجئين العلويين عن 1% من إجمالي اللاجئين السوريين.

    2.    نشاط حركة التشيّع ضمن الأوساط السنية والعلوية، وفي المدن على وجه الخصوص.

    3.    ارتفاع معدّلات الهجرة لدى المكوّنات الأكبر عدداً بأضعاف معدلات الوفيات لدى الأقليات رغم فداحتها لدى فئة الشباب الذكور ضمن المكوّن العلوي.


رسم توضيحي 4
لا تكشف الإحصاءات المتوفرة عن تغير كبير أصاب تركيبة البلاد القومية الطائفية، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي حدوث انزياحات سكّانية واسعة النطاق. فعلى الرغم من صعوبة الحصول على أعداد دقيقة للنازحين داخلياً، تشير البيانات المتاحة إلى نزوح 6.5 مليون سوري. ويشمل هذا العدد حوالي مليوني شخص نزحوا من مناطق سيطرة القوى الوطنية إلى مناطق سيطرة النظام، وملايين آخرون فروا من مناطق يسيطر عليها النظام إلى أخرى بسبب القتال العنيف (انظر الرسم التوضيحي رقم 5).
ولقد شهدت مناطق سيطرة القوى الوطنية معدّلات النزوح الأكبر وذلك للأسباب التالية:
    1.    أعمال العنف والقصف الجوي التي تقوم بها قوات النظام والجيش الروسي.

    2.    الحصار والاعتقال العشوائي الذي تقوم به قوات النظام.

    3.    تراجع سبل المعيشة وانعدامها في معظم الأحيان.

    4.    تراجع الخدمات الأساسية كالطب، والتعليم، والطاقة.

    5.    تعذر وصول المساعدات الأممية للمحتاجين في المناطق المحاصرة.

    6.    انعدام الأمن وتفشي الفصائلية لدى القوى المحلية.



تشير التقارير الأممية إلى ميل المدنيين للنزوح إلى مناطق سكن أقاربهم الآمنة ولا تشكّل هوية الفصيل الذي يسيطر عليها عاملاً هاماً في خيار منطقة النزوح، فمناطق الإدارة الذاتية تستقطب النازحين الكرد وبعض العرب من سكّانها الأصليين بغض النظر عن تحكم الاتحاد الديموقراطي فيها أو ما يشاع عن أهدافه بجعل هذه المناطق متجانسة قومياً.
غالباً ما تسلّط تقارير وسائل الإعلام الرئيسة الضوء على تحكّم النظام بـ 17% من مساحة سورية فقط، فيما يتحكم تنظيم "داعش" بقرابة الـ 40% من البلاد، ويتقاسم كل من القوى الوطنية والاتحاد الديموقراطي السيطرة على بقية البلاد. إلا أن هذه الأرقام لا تراعي الكثافة والتوزع الجغرافي للسكّان حيث يسيطر النظام على ما يعادل 63% من إجمالي المقيمين في البلاد (أي ما يقارب العشرة ملايين مدني) مما يؤهله إلى استخدام ورقة التغيير الديموغرافي لصالحه دولياً وإقليمياً ولابتزاز القوى المحلية القابعة تحت سيطرته.
يدرك النظام جيّدًا أنّ قاعدته العلويّة لا تزال أقلية رغم ارتفاع معدّلات الهجرة لدى السنة ومن هنا يأتي اهتمامه في إحكام سيطرته على المناطق المسيحية والعلوية والدرزية والاسماعيلية (أو ما يسمى سورية المفيدة). ويمنحه التحكم في هذه المناطق فرصةً لإيجاد توازن سني – أقلوي لصالحه، حيث تشير بعض الدراسات إلى ارتفاع نسبة التوزع السكّاني للأقليات لـ 41% في مناطق سيطرته مقابل 24% من عددهم الكلّي على المستوى الوطني، ويساعده في تحقيق هذا "التوازن" نزوح الأقليات الدينية والقومية من مناطق سيطرة الثوار إلى مناطق نفوذه. لا تعني سيطرة النظام على مناطق متنوعة طائفياً أن الأسد أكثر انفتاحاً من الثوار أو الكرد أو داعش، فهو يعلم أنّ عليه طرد ملايين العرب السنّة ليصبح ميزان القوة لصالح الأقليّات التي تدعمه، وهذا ما تحققه استراتيجية تفريغ المناطق الحيوية بمحيط دمشق وعلى طول الطريق الواصلة بين العاصمة والساحل من الحواضن الثورية ذات الأغلبية السنية كما وضحناه سابقاً في ملف "العملية التفاوضية المحلية في الصراع السوري".
أمّا على صعيد ممارسات داعش فعلى خلاف ما بدر منه في العراق حيث خضع لسيطرته طيف أوسع من المكونات القومية والدينية المتنوعة، لم تشهد مناطق نفوذه في سورية نفس التنوع، فلقد سبق نزوح الأقليات المسيحية من دير الزور والرقة والحسكة سيطرته عليها، وكذلك الكرد الذي سريعاً ما اصطدم معهم في كوباني. وباستثناء قرار أصدره التنظيم عقب طرده من مدينة تل أبيض يقضي بخروج الكرد من الرقة تقع معظم الانتهاكات التي مارسها بحق أفراد المكوّن الكردي ضمن أعمال الحرب والقتال والتي شكّلت بدون أي أدنى شك ظروفاً قهرية دفعتهم للنزوح قسراً من مساكنهم الأصلية.
أمّا في مناطق الإدارة الذاتية فلقد فُرض على المكون العربي معادلة جديدة إما القبول بالعيش فيها كأقلية، أو الرفض والرحيل منها. ولقد دفع هذا الانقلاب في الأدوار إلى تنامي شعور المظلومية لدى العرب مما أشعر معظمهم بوجود مخطط مسبق لإفراغ المنطقة منهم. وإذ لا يبرأ الاتحاد الديموقراطي من ممارسة ضغوطات وانتهاكات بحق العرب والتركمان كما أشارت تقارير منظمة العفو الدولية والشبكة السورية لحقوق الإنسان، إلّا أن السماح بالعودة الجزئية لبعض من هجرّوا سابقاً إلى مناطق سكنهم الأصلية بالإضافة إلى إيواء أعدادٍ متعاظمة من النازحين العرب في منطقة عفرين ومدينة القامشلي ينفي عن الحزب تبنيه سياسةً ثابتة في هذا الصدد. بيد أن استمرار غياب آليات محاسبة الاتحاد الديموقراطي على انتهاكاته السابقة وآليات مراقبة إدارته ومؤسساته الأمنية والعسكرية يبقي الخوف من قيامه باستخدام ورقة التغيير الديموغرافي مشروعاً، خصوصاً وقد صرّح صالح مسلم فيما مضى "أن على العرب الذين استوطنوا أراضينا الرحيل".
على الرغم من رغبة الكثير من اللاجئين والنازحين السوريين بالعودة إلى ديارهم عند انتهاء الحرب، إلّا أن فريقاً كبيراً منهم قد يصطدم بواقع سيمنعه من الرجوع إمّا بسبب قومهم أو انتمائهم السياسي أو الديني، ناهيك عن الصعوبات اللوجستية والجهود الاقتصادية الجبارة اللازمة لإعادة البناء والتي ستتأخر لا ريب، وفي هذه الأثناء لن تتورع القوى المحلية المتنفذة عن إكمال التغيير الديموغرافي لصالحها ما لم تواجهها القوى المجتمعية بسياسات مناوئة تستدعي الحفاظ على ما تبقى من التنوع الطائفي في سورية، وهذا ما سنحاول تلمّس بعض أطرافه في آخر الملف.
يهدف هذا الملف إلى استعراض عمليات التغيير الديمغرافية القائمة في سورية خاصة القسرية منها من خلال التوطئة للمفاهيم ذات الصلة بالديمغرافيا والتغيير السكاني بشقيه الطبيعي والقسري، ثم الانتقال إلى استعراض عمليات التغيير الديمغرافي وتحديد الفاعلين في هذه العملية ومصالحهم والأدوات المستخدمة في هذا المجال، وصولاً إلى اقتراح مجموعة من التوصيات للقوى الوطنية بهدف إجهاض محاولات التغيير الديمغرافي الجارية، وبما يسهم في الحفاظ على الأمن المجتمعي.
التغيير الديمغرافي من قبل النظام السوري: تهجير وصمت أممي مطبق

بدأ الحراك الثوري في مناطق ذات أغلبية سنية دون أن يضفي ذلك عليه سمة مذهبية، فالشعارات المدنية والمطالب المطروحة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية محط إجماع، والأسلوب المتبع لتحقيقها سلمي، وقد ساهم ما سبق في استقطاب المزيد من المؤيدين للحراك خاصة من الأقليات وهو ما أدى إلى توسعه وحصوله على تعاطف إقليمي ودولي. أدرك النظام الخطورة التي يمثلها الحراك عليه وهو ما دفعه إلى تبني مقاربة قمع عسكري أدّت إلى عمليات تغيير ديمغرافي قسري يمكن تأطيرها ضمن المراحل التالية:
    1.    المرحلة الأولى "العقاب الجماعي": تمحورت جهود النظام في هذه الفترة على شن حملات أمنية وعسكرية للسيطرة على الموقف الميداني في مناطق الحراك، وعلى الرغم من ارتكاب قوت النظام السوري مجازر، وحدوث حالات نزوح قسري "أحداث جسر الشغور" في الفترة الممتدة من آذار إلى كانون الأول 2011، إلا أن تلك الوقائع لا تدخل ضمن استراتيجية متكاملة ومقصودة للتغيير الديموغرافي القسري، ويعود السبب في ذلك إلى اعتقاد النظام بقدرة مؤسستيه الأمنية والعسكرية على ضبط الموقف دون اللجوء إلى خيارات تصعيدية كالتهجير.
    2.    المرحلة الثانية "التطهير المكاني": انتقلت المقاومة الوطنية من العمل السلمي إلى العسكري نهاية 2011، وقد تمكنت بفعل قوتها الذاتية وشرعيتها الشعبية من إخراج القوات الأمنية للنظام من مناطقها، الأمر الذي دفع النظام مع فشل التكتيكات الأمنية المتبعة سابقاً إلى تصعيد الموقف الميداني من خلال الزج بمزيد من القوات العسكرية لقمع الحراك وفق استراتيجية التطهير المكاني وهو ما بدأ في محافظة حمص عبر تهجير أحياء بابا عمرو والسباع والخالدية وعشيرة وكرم الزيتون والرفاعي والبياضة والسبيل ووادي العرب ومنطقة جوبر والسلطانية، أحياء كرم الزيتون والرفاعي، البياضة، وادي العرب وحي السبيل.
    3.    المرحلة الثالثة "سورية المفيدة": تطورت عمليات التغيير الديمغرافي بداية 2013، حيث تم تأطيرها كأداة من جملة أدوات تحقيق الاستراتيجية الإيرانية في سورية المعروفة بــالحفاظ على "سورية المفيدة" بما يضمن تحقيق هدفين رئيسين هما:
    1.    تمكين تواجد النظام في الشريط الواصل بين دمشق والساحل باعتباره مراكز الثقل السياسي.
    2.    تمكين حزب الله في لبنان من خلال تشكيل منطقة عازلة على الحدود اللبنانية السورية تحميه من الارتدادات السلبية للصراع الدائر في سورية.
ويمكن تسجيل بدء هذه المرحلة مع حملة حزب الله وقوات النظام على مدينة القصير في أيار 2013، لتنتقل بعدها سياسة التهجير إلى العقد الاستراتيجية الواقعة ضمن سورية المفيدة. ووفقاً للإحصائيات المستمدة من عدة مصادر متوافرة على شبكة الإنترنت، فقد هجر النظام السوري والقوات الموالية له بشكل قسري تقريباً 125 منطقة توزعت بين 99 منطقة يغلب عليها المكون السني و26 منطقة ذات غالبية تركمانية، وفيما يلي تقسيم مناطق التهجير بحسب المحافظة.


ويجدر بالذكر أن العديد من المناطق شهدت نزوح سكانها قسراً بفعل العمليات العسكرية القائمة بين قوات النظام والميليشيات الموالية له من جهة وفصائل المقاومة الوطنية من جهة أخرى، إضافة إلى القصف الروسي، وهذه تندرج ضمن عمليات النزوح الداخلي.
استخدم النظام السوري والقوات الموالية له في عملية التهجير القسري أدوات سياسية وعسكرية واستخباراتية واقتصادية وإدارية من أهمها:
    1.    المجازر: ارتكبت قوات النظام والقوات الموالية مجموعة من المجازر على أساس طائفي بهدف ترهيب السكان ودفعهم لترك مناطقهم، ومن أمثلة تلك المجازر: مجزرة الحولة (25-5-2012)، مجزرة القبير (6-5-2012)، مجزرة البيضا ورأس النبع (2-5-2013)، مجزرة التريسمة (12-7-2012)، مجزرة الزارة (6-3-2014) .... إلخ
    2.     القصف الجوي: يلجأ النظام والقوات الموالية له إلى تكثيف القصف الجوي على المناطق المشمولة بمخطط التغيير الديمغرافي بهدف تدمير مقومات الحياة مما يدفع السكان للنزوح القسري عنها بحثاً عن الأمن والخدمات، وفي دراسة صادرة عن المجلس المحلي لمحافظة حمص-مكتب التوثيق بعنوان "مؤشر التهجير في حي الوعر-حمص" تبين وجود علاقة ارتباط طردي قوية بين القصف الجوي وتهجير السكان من الحي.
    3.    التضييق الاستخباراتي: يلجأ النظام عبر قواته الأمنية وكذلك الميليشيات الشيعية إلى التضييق الأمني على سكان المناطق المستهدفة بالتهجير القسري وذلك إما بالتضييق على حركة تنقلهم من وإلى داخل هذه المناطق، أو عبر اعتقال الشباب بذرائع أمنية أو بحجة السوق للخدمة الإلزامية الأمر الذي يدفع السكان لترك هذه المناطق.
    4.     الحصار: اتبع النظام الحصار كسياسة للتضييق على سكان المناطق المشمولة بعملية التهجير، ويظهر تحليل المناطق التي تعرضت للتهجير أنها تعرضت لفترات حصار طويلة كما حصل في داريا والمعضمية وأحياء حمص القديمة والزبداني ومضايا وغيرها من المناطق المهجرة، وتظهر دراسة "مؤشر التهجير في حي الوعر-حمص" تأثر عدد السكان بهذا المتغير بشكل طردي، بمعنى أي أن كل حالة حصار لحي الوعر تبعها انخفاض في عدد السكان في وقت الانفراج، أي لم يخرج السكان بشكل مباشر في وقت الحصار بل في الأوقات التي تلت حالة الحصار.
    5.    تغيير الملكية وإعادة الإعمار: استغل النظام الحراك الثوري ليدفع باتجاه تسريع عملية التهجير القسري من خلال طرح مخططات تنظيم عمراني جديدة تهدف إلى طرد السكان الأصليين من مناطقهم ونقل ملكية هذه المناطق إلى وافدين جدد، ومن أشهر المناطق التي شملها النظام بعملية إعادة التخطيط العمراني منطقة المزة بساتين الرازي (المرسوم التشريعي رقم /66/ تاريخ 18/9/2012) ومنطقة باب عمرو والسلطانية وجوبر بحمص (المرسوم رقم 5 لعام 1982 وتعديلاته) فيما يعرف باسم مشروع حلم حمص.
    6.    اتفاقيات الإخلاء: يمكن تعريف اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها في سورية بأنها: عملية تفاوضية ذات بعد ديمغرافي تجري بين ممثلي النظام والمقاومة المحلية بوساطة أممية، يتمخض عنها استعادة النظام المناطق التي تسيطر عليها فصائل المقاومة علاوة على تهجير من فيها من مدنيين ومقاتلين. بدأت أولى اتفاقيات الإخلاء في عام 2012، ليشهد عاما 2015-2016 العدد الأكبر من اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها والتي يقدر عددها بين (حزيران 2012-آب 2016) بـــ 7 اتفاقيات، 4 منها تمت في حين ما تزال 3 معلقة بانتظار التنفيذ، ويمكن تزمين اتفاقيات الإخلاء وفق الشكل التالي: تلكلخ (حزيران 2012)، حمص القديمة (7-5-2014)، الحجر الأسود (6-7-2015)، الزبداني (19-9-2015)، حي القدم (23-12-2015)، قريتي قزحل وأم القصب (21-7-2016)، داريا (25-8-2016). ومما يلحظ أن محافظتي حمص وريف دمشق كانتا الأكثر استهدافاً باتفاقيات الإخلاء بــ 6 من أصل 7، وهو ما يعتبر مؤشراً على توجه مقصود من قبل النظام وحلفائه_ خاصة إيران_ لتعزيز سيطرتهم على العقد الاستراتيجية فيما يعرف بسورية المفيدة من خلال تصفية مناطق سيطرة المقاومة، وإجراء تغيير ديمغرافي يعزز من أمن النظام وتموضع حلفائه في أي ترتيبات مستقبلية لسورية. بالنظر إلى السياق الزمني الذي عقدت فيه اتفاقيات الإخلاء، يلاحظ أنها جرت بالتزامن مع اتفاقيات المصالحات حينما كان للنظام اليد الطولى سياسياً وعسكرياً على حساب المقاومة الوطنية.
تزامنت عملية التهجير القسري مع حدوث حالات إحلال سكاني جزئي في عدد من المناطق التي شملها التهجير ومن أبرزها: القصير وبابا عمرو والدريب والسباع والحميدية في حمص، أحياء العمارة والأمين والجورة والشاغور في دمشق، منطقة جنوب دمشق كالسيدة زينب وحجيرة والحسينية وسبينة والذيابية ويبرود وعقربا في ريف دمشق، قبر فضة والرملة في حماة. أما الأدوات المستخدمة في الإحلال السكاني فمن أبرزها: نقل الملكية للوافدين الجدد إما من خلال التنظيم العمراني أو شغل منازل المهجرين بالقوة، أو من خلال شراء العقارات السكنية والأراضي الزراعية إضافة إلى توفير الخدمات وإعادة إعمار المناطق المهجرة. أما الوافدين الجدد فيتوزعون بين الفئات التالية: علويون، ميليشيات شيعية، شيعة سوريون ومتشيعون جدد، وليس هناك أرقام موثوقة نستطيع فيها تقدير هذا الإحلال السكاني.
عمليات التغيير الديمغرافي من قبل داعش: انتهاكات وتهجير


تعدّدت الانتهاكات المُمارسة من قبل تنظيم داعش بحق المدنيين من إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية، مروراً بحلقات الاستتابة والدورات الشرعية التي يقيمها التنظيم للسكّان المحليين، ومعسكرات تجنيد الأطفال، وسرقة المنازل والممتلكات الخاصة. وفي حين نال المسيحيون واليزيديون قسطاً وفيراً من انتهاكات التنظيم في العراق، لم تواجه الأقليات الدينية نفس المصير في سورية، ويعود ذلك لنزوح سوادها الأعظم لمناطق النظام أو خارج سورية قبل خضوع مناطقهم لسيطرة داعش.
ارتكب داعش معظم انتهاكاته ضد أفراد ومجموعات اتّهموا بالعمالة لجهات خارجية وثورية فقام التنظيم بتهجير عشرات الآلاف من عقد المقاومة التي اعترضت تقدمه كما حصل في الشحيل وريف دير الزور الشرقي، وفي أبو حمام، والشعيطات، وغيرها من القرى والبلدات العربية في محافظة دير الزور والحسكة. وبعد القضاء على جيوب المقاومة و "المرتدين" على صعيد الجبهات الداخلية، تركّزت انتهاكات التنظيم ضد المكوّنات المحلية على أطراف مناطق سيطرته، ويأتي ضمنها كرد جنوب محافظة الحسكة وشمال محافظة الرقة وشمال شرق محافظة حلب. وإذ ترجع أول أحداث التوتر المتعاظم بين العرب والكرد لاشتباكات رأس العين بين جبهة النصرة وحلفائها المحليين مع وحدات الحماية الشعبية مطلع العام 2013، إلّا أن معارك التنظيم للاستيلاء على مدينة كوباني تشكّل علامة فارقة في تاريخ العلاقات العربية الكردية وما نتج عنها من إشكالات عميقة لاحقاً. ويمكن ورد جرائم التهجير التي قام بها التنظيم بحق الكرد كالتالي:
    1.    الحسكة: تل براك: تعد منطقة تل براك عقدة وصل بين الحسكة والقامشلي، ولقد شهدت قراها عام 2015 قتالاً شديداً بين التنظيم ووحدات الحماية الشعبية، اتُهم خلالها داعش بتهجير الكرد من قراهم التي خضعت لسيطرته، بالإضافة إلى ممارسات تضييق وإذعان بحقهم.
    2.    الرقة:
    ◦    تل أبيض – تموز / آب 2013: اتّهم ناشطون مدنيون تنظيم داعش وغرباء الشام ومقاتلين محليين من حركة أحرار الشام بتهجير سكّان القرى الكردية: سوسك، ويارقوي، وكري سور، وعفده كوي، وقزعلي، وملوح القمر، وتل فندر، فيما لجأ جزء منهم إلى تركيا ونزح القسم الآخر نحو كوباني وريفها.
    ◦    الرقة – حزيران 2015: أصدر تنظيم داعش قراراً يقضي بخروج الكرد من مدينة الرقة بتهمة مساندة التحالف الدولي ووحدات الحماية الشعبية، وأمهلهم يوماً واحداً للمغادرة.
    3.    حلب:
    ◦    ريف جرابلس – تموز 2014: نقلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قيام تنظيم داعش بحرق ونهب والاستيلاء على منازل مدنيين في قرى عفدكه، وملوح القمر، وأبي صرة، وكورك، وجل أوغلي، والجبنة مما دفع 2100 عائلة للنزوح باتجاه مدينة كوباني والحدود التركية القريبة.
    ◦    ريف الباب – آب 2015: نقل عن شهود عيان اعتقال مئات الكرد المدنيين ومصادرة ممتلكاتهم في قرى شدود وقبّة شيح والشيخ جراح وتل بطال وقعركلبين وبليخة وتل جرجي وشاوى والكعيبة. وتسبّبت الانتهاكات بموجات نزوح جديدة نحو القرى ذات الغالبية الكردية في مناطق سيطرة المقاومة الوطنية ومنطقتي عفرين وكوباني.
تخلو أدبيات داعش والقاعدة عموماً من تمييز الناس على أسس قومية، ويضم التنظيمان قوميات مختلفة من ضمنهم الكرد، إلّا أن القتال الدائر بينها وبين وحدات الحماية الشعبية في سورية، والبشمركة في العراق أدّى إلى تبنيهما سياسة خاصة في التعامل مع الكرد، خصوصاً بعد تدخل التحالف الدولي في المنطقة. وعلى رغم من خضوع المكونات العربية المحلية لنفس الممارسات من حيث الحجم والنوع استطاعت الحركات الكردية الراديكالية استثمار ضعف رصيد الثقة بين العرب والكرد في تعزيز سردية العداء التاريخي بين المكونين، كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إذكاء النعرات القومية وفي توفير منّصة مجانية للمتطرفين من الطرفين. 

عملياتالتغيير الديمغرافي من قبل الاتحاد الديموقراطي: سيطرة وتوسع

قدّرت بعض الجهات الإعلامية أن عدد سكّان المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية 2.5 مليون نسمة وهو نفس عدد سكّانها ما قبل 2011، ويعود عدم انخفاض حجم الكتلة البشرية فيها مقارنة ببقية مناطق سورية إلى توازن معدّلات الهجرة منها وإليها. ولقد شهدت الإدارة الذاتية موجات نزوح داخلي لأمانها النسبي مقارنة ببقية المناطق في شمال سورية، فيما هاجر بعض أبنائها إلى تركيا والعراق وأروبا لأسباب اقتصادية بشكل رئيس.
تنقسم مناطق الإدارة الذاتية لثلاثة كانتونات هي الجزيرة، وكوباني (عين عرب)، وعفرين، فيما استحدث كانتون تل أبيض في الـ 21 من تشرين الأول 2015 بعد طرد تنظيم داعش من المدينة وريفها. وتشهد مناطق عفرين وكوباني أكبر كثافة للكرد في سورية، في حين يعرف كانتون الجزيرة تنوعاً أكبر حيث ينضم للكرد قوميات أخرى كالعرب، والتركمان، والآشوريين، والأرمن.
يتولى الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي، وحدات الحماية الشعبية (أو الأبوجية) مهام الأمن الخارجي وينشط في محاربة داعش، وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وتشكيلات من الجيش الحر. وأمّا المهام الأمنية الداخلية فهي من مسؤولية قوات الأسايش التي تقوم بعمل الشرطة ومكافحة الإرهاب. ولقد اشترك حزب الاتحاد الديموقراطي مع عدد الفاعليات المحلية بإعلان مناطق الإدارة الذاتية بفيدرالية الشمال أو روجافا في الـ 17 من آذار 2016، وعلى الرغم من عدم اعتراف المعارضة أو النظام أو أي جهة دولية رسمية بإعلان الفيدرالية، يعتبر الاتحاد الديموقراطي السلطة الفعلية في هذه المناطق، مما يلزمه بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان بمنح الحقوق الأساسية لجميع سكّان المناطق التي يسيطر عليها.
تلقى تصرفات وحدات الحماية الشعبية الموالية لحزب الاتحاد الديموقراطي الكثير من الاهتمام من قبل المكونات السورية الأخرى ومن العرب على وجه الخصوص، ولقد انعكس هذا الاهتمام بحجم الصدى الذي أحدثته التقارير الصادرة عن منظمة العفو الدولية ومرصد حقوق الإنسان والشبكة السورية لحقوق الإنسان حول انتهاكات الوحدات في مناطق سيطرتهم. ويعد ملف التهجير القسري أحد أكثر الملفات الشائكة بين الكرد والعرب في سورية، ولقد شهد طيلة الأعوام الماضية تبادل الاتهامات من قبل الطرفين.

وتشير التقارير الآنف ذكرها قيام وحدات الحماية الشعبية بحملات تهجير في ريفي تل أبيض، وتل حميس طالت كل من قرى وبلدات عبدي كوي، وتل أبيض، والمغات، وسلوك، ورنين، والحصوية الكبرى، والحصوية الصغرى، وأم كبير، وأم كهيف، والناعم، والحنوة الكبرى، والحنوة الصغرى، والفسطاط، والخولة، وتل الشوك، والحسينية، وعكاظ، والجزعة، والبكارية والهلالية، والعشرة، وتل مجدل، والأغبيش. كما ساقت صور من مواقع البلدات وأخرى صناعية تدل على هدم وجرف منازل المدنيين فيها.
تعامل حزب الاتحاد الديموقراطي مع هذه التهم بتحفظه على الأدلة التي سيقت في التقارير، وبطعنه في أهلية شهود العيان، وبشكل رئيس من خلال تبريره هذه العمليات تحت بند الأعمال العسكرية ضد تنظيم داعش. وفي الوقت الذي تصر فيه الإدارة الذاتية على رفض هذه التهم جملة وتفصيلاً ثمّة ما يشير إلى أن تنفيذها جاء انتقاماً ممن افترضتهم حاضنة اجتماعية لداعش، بما يضفي على هذه الممارسات طابع العقاب الجماعي بما يخالف أحكام القانون الإنساني الدولي. كما أن غياب آليات المحاسبة والرقابة يبقي الخوف من قيامه باستخدام ورقة التغيير الديموغرافي مشروعاً، خصوصاً وقد صرّح صالح مسلم في بداية أحداث الثورة "أن على العرب الذين استوطنوا أرضنا الرحيل".
يلاحظ أن معظم هذه الممارسات حصلت في محيط الحسكة وتل أبيض حيث يشكّل ضعف الوجود الكردي فيها خطراً على مشروع الإدارة الذاتية، الأمر الذي يفسر اندفاع وحدات الحماية الشعبية في تعزيز وجودها العسكري فيها إبعاداً لأي تهديد ديموغرافي سكّاني مستقبلي. ولقد شهدت منطقة الخابور سياسة مشابهة في نزع سلاح ميليشيا Sootoro الآشورية، وكذلك مدينة الحسكة في طرد مليشيا الدفاع الوطني الموالية للنظام رغم تعايشها مع الإدارة الذاتية. تفيد القراءة السابقة لتحركات وحدات الحماية الشعبية بتبنيها سياسة تغليب قوتها في حيزها الحيوي وأن التهجير القسري لبعض القرى والبلدات العربية والتركمانية جاء نتيجة لهذه السياسات وليست بالضرورة سياسة قائمة بحد ذاتها، فالهاجس الأول للاتحاد الديموقراطي هو بسط نفوذه في مناطق الإدارة الذاتية واحتكار القوة ريثما ينتهي من التحكم في مفاصل النظام المحلي الذي يعمل على إنشائه.
ويجدر بالذكر أن الإدارة الذاتية قد سمحت بعودة جزئية لعدد من العرب الذي هجروا من قراهم في ريف الحسكة، كما حصل في منطقة الهول وتل براك في ريف الحسكة، وبلدة سلوك في ريف تل أبيض، كما أن مناطق سيطرتها تأوي ما يقارب الـ250 ألف نازح عربي مما ينفي عنها تبنيها سياسة تهجير العرب من كامل مناطقها.
عمليات التغيير الديمغرافي من قبل فصائل المقاومةالوطنية: نزوح وعودة

اتهم النظام وعدد من المنظمات الحقوقية فصائل المقاومة الوطنية بممارسة التغيير الديمغرافي من خلال ارتكابها لأعمال عدائية بحق الأقليات كشن العمليات العسكرية في مناطق تواجدهم (معان والكبارية في أيلول 2016، قرى ريف اللاذقية أب 2013، معلولا أيلول 2013، الطليسية أيلول 2016، صدد تشرين الأول 2013)، أو من خلال الترهيب الأمني الموجه ضد الأقليات المتواجدة في مناطق سيطرتها كما حصل في معرة مصرين وفي الغوطة الشرقية وفي إدلب المدينة على سبيل المثال لا للحصر.
ووفقاً لمصادر النظام فإن المناطق التي تتهم فصائل المقاومة الوطنية بتهجير سكّانها هي: معلولا وعدرا العمالية وقرية مغر المير في ريف دمشق، كفريا والفوعة وحلوز والقنية واشتبرق والجديدة واليعقوبية والغسانية "أنزيك" وقرية زرزور في إدلب، نبل والزهراء في حلب، محردة وجدرين وكفربو وقسطل البرج وتل سكين والصفصافية وحي الميدان وجورين وشطحة وقرية الزيارة في حماة، قرية أبو مكة والبادروة والحمبوشية وعرامو والبلوطة وجب الأحمر والخوارات والخميلة وكسب وبج القصب والغسانية "كشيش" وصلنفة في اللاذقية، ربلة والغسانية وصدد في حمص، نامر وخربة وطيسيا ومعربة وشقرا في درعا. عند التدقيق في توزع المناطق السابقة يتضح أنها تتركز في منطقة الغاب وجسر الشغور وناحية القصير وفي المنطقة الواقعة بين الحدود الإدارية لدرعا والسويداء، بمعنى أنها تتركز في نقاط التداخل بين النطاقات الجغرافية ذات الانتماءات المتباينة مذهبياً. إن اتهام فصائل المقاومة الوطنية بممارسة عملية تغيير ديمغرافية قسرية بشكل ممنهج ليس عليه دلائل كافية وذلك للأسباب التالية:
    1.    الجهات التي تصدرت تنفيذ الأعمال الانتقامية التي أدت إلى حدوث عملية نزوح قسري في أغلب المناطق المذكورة سابقاً، هي جبهة النصرة وتنظيم داعش.
    2.    غالباً ما كان يلجأ سكان المناطق السابقة للنزوح عنها مع اقتراب فصائل المقاومة الوطنية، وذلك خوفاً على أنفسهم من ممارسات انتقامية قد تطالهم لموقفهم المؤيد للنظام وهرباً من الاشتباكات العسكرية وبحثاً

اقرأ المزيد
٢٨ نوفمبر ٢٠١٦
انعكاسات احتمال فوز فيون

إذا صدقت استطلاعات الرأي المرجحة فوز رئيس الحكومة الفرنسي السابق فرانسوا فيون في انتخابات الجمهوريين التمهيدية لاختيار المرشح الفرنسي للرئاسة، فسيعكس ذلك صورة عن وجود تشدد واستياء إزاء الإسلام. ففيون ركز خلال حملته على انتقاد الديبلوماسية الفرنسية، قائلاً إن «هناك ضرورة لإعادة التوازن فيها بالتقارب مع إيران بدل الحلف مع دول الخليج».

وهو واكب موجة شعبية في اليمين الفرنسي تندد بدول الخليج، كما يفعل الإعلام منذ العمليات الإرهابية التي ضربت البلاد العام الماضي، على رغم أن جميع الإرهابيين الذين قاموا بهذه العمليات هم من أصول شمال أفريقية وعاشوا ونشأوا في ضواحي بلجيكا وفرنسا. وهم أبناء مهاجرين عُزلوا في ضواحي دول أوروبية تعاني مشاكل اجتماعية منذ سنوات وفشلت كل الحكومات الفرنسية في معالجتها. هؤلاء ليست لهم أي علاقة من بعيد أو قريب بدول الخليج. فجزء كبير منهم زار سورية التي غذت الحرب فيها، وصعود «داعش»، هذه الموجة من الإرهاب التي ارتكبت أعمالاً شنيعة وكارثية باسم الإسلام.

اعتقاد فيون بأن التقارب مع إيران يفرض نفسه خطأ في التقدير، إذ إنه ينسى أن هذا البلد أصل تصدير الثورة الإسلامية إلى الشرق الأوسط منذ وصول الخميني إلى الحكم.

يقول فيون إن هناك تيارين في سورية فقط، أحدهما «داعش» والآخر بشار الأسد، وهو يختار بقاء الأسد. إنه منطق شعبوي مبسط لفرنسيين يجهلون الواقع في منطقة الشرق الأوسط.

يقول فيون إنه يناضل من أجل حماية مسيحيي الشرق. لكن هؤلاء هُجّروا من بلدانهم بسبب حروب في سورية والعراق وفي الأراضي الفلسطينية والقدس منذ عقود. وقمع بشار الأسد في سورية في 2011 مظاهرات مدنية مسالمة تطالب بالحرية هو ما أدى إلى الحرب. فكيف لا يرى فيون، وهو سياسي فرنسي محنك، أن مسيحيي الشرق مهددون في مصيرهم في سورية دمرها الأسد وحاميه صديق فيون، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بطائراته وقنابله؟ وكيف لا يرى أن الأسد وإيران مع وكيلها في لبنان «حزب الله» هم الذين دفعوا بحربهم الوحشية في سورية باتجاه نشوء مجموعات وحشية مثل «داعش»؟

ينبغي على فيون إذا فاز في الانتخابات التمهيدية للحزب اليميني أن يعود بعض الشيء إلى الوراء في تاريخ عائلة الأسد في لبنان وتعاملها مع المسيحيين هناك والجرائم التي ارتكبتها فيه وتقسيم الصفوف المسيحية والاغتيالات المتتالية من رؤساء جمهورية مسيحيين مثل بشير الجميل ورينيه معوض إلى زعماء مثل داني شمعون وعائلته وبيار أمين الجميل.

ألا يدرك فيون أن الأسد هو الذي فتح السجون وأفرج عن إرهابيين كانوا أصل نشاة «داعش» في سورية؟ إن الأصولية والعنف والإرهاب تنمو كلها من حكم استخباراتي عنيف وإرهابي مثل حكم النظام السوري. وتبسيط الوضع السوري بأنه - كما لخصه فيون - بين «داعش» وبشار الأسد رؤية خطيرة لرجل يطمح إلى الوصول إلى سدة رئاسة دولة مثل فرنسا.

الديبلوماسية الفرنسية الحالية إزاء سورية صائبة. ولو أن صوت فرنسا لا يسمع لصعوبة الوضع الاقتصادي وقلة إمكاناتها. لكن مواقف الرئيس فرانسوا هولاند إزاء الحرب السورية تتماشى مع القيم الفرنسية، كما هي الحال مع مواقف منافس فيون رئيس الحكومة السابق عمدة بوردو آلان جوبيه الذي إذا خسر المعركة الانتخابية تكون فرنسا خسرت وجهاً لامعاً للاعتدال في المواقف إزاء مسلميها والشرق الأوسط. لكن يظهر لسوء الحظ أن عهد العالم الجديد مع دونالد ترامب في البيت الأبيض هو عهد للتشدد والتطرف في المواقف.

اقرأ المزيد
٢٨ نوفمبر ٢٠١٦
هل سمعتم بالمجازر؟

لا نفتعل اثارة مسألة لا نجد لها أثرا في مجريات الانهماك بترتيب الهيكل السياسي الجديد إن تساءلنا ماذا تراه يكون عليه الموقف اللبناني من إحدى أفظع المجازر الانسانية التي ترتكب في مدينة حلب ؟ نعلم تماما الجواب المعلب من انه لا يتوقف على لبنان وطبقته السياسية ونخبه المدنية ان يعوضوا أفظع ما يواكب مجازر حلب من قصور دولي وتواطؤ مشين في حق الانسانية قاطبة جراء هذا الذي يجري والذي تقشعر له الأبدان . ولكن هل كان الامر كذلك في السوابق حين كان لبنان يحتفظ لنفسه دوما بميزة الصراخ حيال مجازر كهذه وهو الذي لا تزال المجازر التي ارتكبتها اسرائيل ضد شعبه ومناطقه ترسم ندوبا لا تمحى ؟ وهل ثمة فوارق بين مجازر ترتكب اليوم في حلب مهددة بأبشع الاستباحات ضد البشر والعمران في إحدى اعرق المدن قاطبة فيما يطبع لبنان تجاهل مريب وهو البلد الذي طبع على خصائص مناهضة الظلم والعدوان والفظائع والنزاعات الدموية المجنونة التي تسكر على أنهار الدماء ؟

لا نسوق الامر من زاوية سخافة مقاربة السياسات الخارجية للدولة اللبنانية التي لا نزعم كيف سيمكنها رسم اتجاهاتها مع ولادة حكومة جديدة يراد لها ان تحشر في تركيبة الـ24 محظيا كل تناقضات الواقع السياسي والامتدادات الاقليمية الشديدة الالتهاب . نترك هذا الاستحقاق للمنخرطين في معركة تحديد الأحجام والتوازنات وما ستفضي اليه مع تمنياتنا المقرونة بالدعاء الصادق لأصحاب اللهفة على العهد والحكومة بان يوفقوا في ابتكار يحول دون ولادة حكومة تحمل في بذورها عناصر تفجيرها . ما يعنينا هنا هو مساءلة قوى سياسية تقيم على رفع حقبة جديدة موعودة في لبنان وتلتزم معايير التواطؤ الدولي نفسها في الصمت عن المجازر الجارية في حلب مهددة بفناء حقيقي وكأنها غير معنية لا بتنديد ولا بصراخ ولا باستنكار ولا بتحرك . لم يكن لبنان هكذا يوما ، وثمة قوى فيه كانت حتى الأمس العابر فقط تحمل لواء الثورة السورية كثورة على الطغيان . وليس ممكنا ولا مقبولا ولا مبررا تبرير الصمت أو التجاهل حيال هذه المجازر بتمرير الفترة الانتقالية الجارية منذ بداية العهد الجديد لئلا يتفتق الانقسام الكامن حول مسألة تورط " حزب الله " في الحرب السورية . هل تراها حتى قوى 14 آذار ( السابقة ! ) اختطت لنفسها خيارات النأي بالنفس حتى عن موقف صارخ من هذه المجازر ؟ وماذا تراها فاعلة قوى الحكومة الجديدة كما العهد الجديد اذا حصل المحظور الأكبر المترائي وراء كثافة الغارات التدميرية للنظام وداعمته روسيا بلوغا الى المجزرة الكبرى ؟ لعلنا نتوهم أن أحدا سمع بالامس ان مجاعة بدأت تضرب المحاصرين في شرق حلب وان حرب الفناء شارفت المأساة النهائية . فالمحاصصة الطالعة لا تبيح هذا الترف!

اقرأ المزيد
٢٨ نوفمبر ٢٠١٦
هل سيُحاكم مجرمو النظام السوري؟

بعد أن وزّعت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، سامنثا باور "لائحة العار" التي تضمنت أسماء 12 ضابطاً رفيعاً في جيش النظام السوري وأجهزته الأمنية، واتهمتهم بـ "الإشراف على ارتكاب انتهاكات جسيمة، وجرائم بحق الشعب السوري" تمثل جرائم حرب بموجب القانون الدولي، فإن تساؤلات عديدة تطرح حول ما إذا كان هؤلاء المتهمون سيقدمون إلى المحاكم الدولية، لنيل ما يستحقونهم من عقوبات على جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب السوري أكثر من خمس سنوات، وذلك احتراماً لأرواح الضحايا وعذابات ذويهم، وتحقيقاً للعدالة.

ويأتي اتهام السفيرة الأميركية في وقتٍ يمعن فيه النظام الأسدي والروس والإيرانيون في ارتكاب الجرائم والمجازر بحق سكان مدينة حلب الشرقية، ومناطق عديدة في محافظة إدلب وريف دمشق وحمص وسواها، لكن قائمتها لم تتضمن أسماء ضباط روس أو إيرانيين أو عناصر من مليشيات حزب الله اللبناني، وسواهم من المليشيات الإرهابية الذين تزجّهم إيران في الحرب ضد الشعب السوري، وارتكبوا أبشع الجرائم بحق السوريين.

ويفيد واقع الحال بأن قادة النظام الأسدي وحلفاءه في النظام الروسي ونظام الملالي الإيراني لم يتوانوا، سنوات عديدة، عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو أمر وثقته هيئات أممية ودولية، وجمعت دلائل وقرائن عديدة تثبت إدانتهم، لكنهم ظلوا بعيدين عن المساءلات والمحاكمات، وجرى تعطيل السبل المؤدية إلى محاكمتهم في المحاكم الدولية.

ويشعر سوريون كثيرون بالخذلان واليأس من تعامل الساسة الغربيين مع الكارثة السورية التي سببها تعامل النظام الأسدي مع الثورة السورية، ولديهم مخاوف واقعية من أن الساسة الأميركيين اتفقوا مع الساسة الروس على إنقاذ النظام الأسدي، بالنظر إلى مواقف الإدارة الأميركية، وتردّد (وتشوش) مواقف أصحاب القرار فيها، وخصوصاً الرئيس الأميركي، باراك أوباما. وبالتالي، فإن تحذير باور هؤلاء المجرمين من الملاحقة والمحاسبة يبدو فارغاً في المدى المنظور، خصوصاً أن إدارة أوباما ستغادر البيت الأبيض قريباً، ولم تفعل شيئاً طوال أكثر من خمس سنوات مع هؤلاء المجرمين وسواهم، عبر السعي إلى تشكيل محكمة دولية خاصة للنظر في جرائم مرتكبة في سورية، الأمر الذي أدى إلى انسداد السبل أمام كل المحاولات الهادفة إلى إطلاق مبادرات مستقلة، وخصوصاً المبادرة التي أطلقتها لجنة العدالة الدولية والمساءلة التي نجحت في تسريب 600 ألف وثيقة، تدين النظام السوري، وتوثق عمليات التعذيب والقتل الممنهج داخل أقبية أجهزة النظام والجيش، تنفيذاً لأوامر عليا، موقعة على الأرجح من بشار الأسد.

وكان إنشاء محكمة الجنايات الدولية في لاهاي المختصة بمحاكمة مجرمي الحرب وإدانتهم في سياق تحقيق العدالة، قد تمّ على الرغم من معارضة الولايات المتحدة الأميركية المحكمة ومهامها. واستطاعت المحكمة أن تتجاوز أنظمة الأمم المتحدة والمعارضات الدولية، وأن ترسي مفهوم التدخل الإنساني الذي صار أمراً أخلاقياً رفيع المستوى، الأمر الذي عزّز الأمل في عولمة الحقوق، وإضفاء طابع إنساني على العولمة الذي تطالب بتحقيقه أغلبية البشر على كوكب الأرض. وجاء توقيف مجرم تشيلي، الدكتاتور بينوشيه، ليشكل بدايةً لمحاكمة مجرم ارتكب أبشع المجازر بحق أبناء الشعب التشيلي، لكن محاكمته أجهضت بفعل معيارية قوى الهيمنة وسطوة تراتبية القوة في العالم. ثم جاء اعتقال الصربي سلوبودان ميلوسيفتش، لكي يجدّد الأمل في عولمة العدالة، والاقتراب من عدالة عالمية، تمنع أي مجرم آخر بحق الإنسانية من التصرف كما يحلو له في الحرب ضد شعبه، أو في الحروب ضد الشعوب الأخرى.

وتتعدّد جرائم النظام السوري التي لا تنحصر في جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب والاختفاء القسري والاعتقال غير القانوني، وكلها يدخل ضمن تعريف نظام روما الأساسي للجرائم ضد الإنسانية التي يحدّدها في مجموعة من الأعمال التي ترتكب في شكل هجوم ممنهجاً أو عاماً يستهدف مجموعة من السكان المدنيين بطريقة مباشرة، إضافة إلى جرائم أخرى، يرتكبها النظام بحق غالبية السوريين، بشكل آخر من أشكال جرائم الإبادة الجماعية، من خلال منعه دخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، وخصوصاً في حلب ومضايا والزبداني والمعضمية والوعر وسواها، وتندرج جميعها ضمن ما نصّ عليه نظام روما الذي اعتبر جريمة حرب كل عمل يفضي إلى حرمان السكان المدنيين من الحصول على الطعام والدواء.

مع ذلك، سيعطي مثول بشار النظام ومجرمي الحرب في سورية للعدالة معنى عالمياً متجدّداً، يتجسّد في ملاحقة مجرمي الحرب، سواء تعلق الأمر بجرائم راهنة أو قديمة أو بجرائم الأمس القريب، وسيؤسس مساراً كونياً للجريمة ضد الإنسانية، وللتوبة والاعتراف بالذنب والتكفير عن الخطيئة. وسيواجهون تهمًا عديدة، بموجب اتفاق جنيف، تشمل القتل المتعمد، والتدمير الوحشي للحجر والبشر لأسبابٍ عسكرية، والهجمات المتعمدة ضد المدنيين، والهجمات المتعمدة ضد الأطباء والكوادر الطبية والناشطين الإنسانيين، وقصف مدن وقرى منزوعة السلاح، وقتل المعتقلين وسجناء الحرب، وقصف الأسواق والمدارس والمساجد والمستشفيات، واستعمال الأسلحة الكيميائية، وحصار المدنيين وتجويعهم، ومنع وصول المساعدات الإنسانية إليهم .

غير أن دخول روسيا إلى جانب النظام في حربه ضد غالبية السوريين، وانخراطها في عمليات القصف والقتل، وتدمير الأحياء والبلدات والمدن التي تسيطر عليها المعارضة، وقصف المستشفيات والمدارس والمراكز الطبية، جعلها شريكةً في الجرائم المرتكبة بحق السوريين، لكنه جعل إمكانية جرّ مجرمي النظام إلى المحاكم الدولية وملاحقتهم قانونيًا شبه مستحيلة، بسبب امتلاكها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، واستخدامها هذا السلاح بوجه أي مشروع قرار دولي، يهدف إلى ملاحقة المجرمين، الأمر الذي سمح بتحويل سورية إلى مسرح لجرائم حرب دولية، يتمتع فيها مرتكبو الجرائم بحصانةٍ دوليةٍ تامةٍ حيال أية ملاحقة قانونية. يذكّرنا ذلك كله بما جرى، وما يزال يجري في التاريخ الطويل والمديد للقضية الفلسطينية التي تشكل معلماً بارزاً على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها، وما يزال يرتكبها، جنرالات إسرائيل وساستها بحق الشعب الفلسطيني.

ويكشف التستر على هذه الجرائم بصورة واضحة مدى التواطؤ الذي تعقده قوى الهيمنة، والسيطرة في العالم مع الجرائم الإسرائيلية، ويفضح معيارية حقوق الإنسان التي تنادي بها. وعلى الرغم مع أن ملفات مجرمي الحرب في سورية وفلسطين وسواهما ما زالت مغلقة، ولا تسمح تراتبية القوة في عالم اليوم بفتحها، إلا أن مستقبل العدالة وأفقها لا بد أنه سيتناول هذه الملفات في يوم ما، وستجري محاسبة المجرمين على ما ارتكبوه.

اقرأ المزيد
٢٧ نوفمبر ٢٠١٦
أي عار يريده السيسي لجيش مصر؟

لا يهدف الخبر الذي سرّبته المخابرات السورية لصحيفة لبنانية موالية، عن وجود عسكري مصري إلى جانب قوات بشار الأسد، إلى إحراج نظام عبد الفتاح السيسي، فالرجل كان قد أعلن، بالفم الملآن، أنه يدعم "الجيش" السوري ضد من أطلق عليهم تسمية "القوى المتطرّفة"، والتي ليست سوى فصائل الثوار، بدليل أن جغرافية تحرّك المستشارين العسكريين المصريين لم تكن في الرقة حيث "داعش"، بل في درعا وحماة.

وكان السيسي قد طرح، في وقت سابق، ما سماها "رؤية" للحل في سورية، وهي خلطة من مصطلحات خشبية عن الدولة والمؤسسات والحل السلمي، وضعها مستشاروه الحاذقون الذين فاتهم رؤية أن في سورية أيضاً شعباً يجري ذبحه بدم بارد وبكل أنواع الأسلحة، وأحط الأساليب العسكرية، وأنها أيضاً تشهد عملية تطهير ديمغرافي لشعبها، وفق خطّة إيرانية معلنة وصريحة.

ليس موقف السيسي منفصلا أو طارئاً عن سياقاتٍ مصرية في هذا الخصوص، ثمّة حملة شرسة، تقودها مراكز أبحاث وصحف ومواقع إلكترونية، داخل مصر، أو يديرها خبراء مصريون في الخارج، على الثورة السورية والربيع العربي الذي جاءت في إطاره، وتدّعي وجود مؤامرةٍ على الجيوش "الوطنية" تحديداً، وتلمّح إلى وقوف أطراف عربية وراءها، بل وصل الأمر بها إلى القول إن الشعوب العربية لا تليق بها الديمقراطية، وإن تأييدها الإستبداد والقهر موقف عقلاني (!).

أي جيش سوري ذلك الذي يتحدّث عنه السيسي ويريد دعمه؟ لقد فكّك نظام الأسد بنى ذلك الجيش، حتى قبل الثورة، وزوّر عقيدته، وحوّله إلى مليشيا مافياوية طائفية، همّها الأساسي، وباعتراف إعلام نظام الأسد نفسه، سرقة بيوت السوريين، بعد قتلهم أو تهجيرهم، والمفترض أن خبراء مصر العسكريين الذين يفهمون معنى مؤسسة الجيش أنهم على إطلاع فعلي على الوقائع، وأكثر دراية بالحقائق الساطعة.

لم يعرف عن السيسي أنه رجل مبدئي، لديه مواقف متماسكة، ومنظومة قيمية، بدافع عنها. هذا الأمر خارج النقاش، حتى قبل تسجيلات الرز الشهيرة، وليست لديه نوازع قومية. لم يدّع السيسي نفسه يوماً أنه قومي، ولا تختلف سورية بالنسبة له عن الإكوادور أو نيبال. عدا عن ذلك، وعلى فرضية أن السيسي يذهب إلى سورية مدفوعاً بحسّه العربي، فلا شك أنه يصرّف نوازعه في المكان الخاطئ، ذلك أن بشار الأسد أعلن طلاقاً بائنا مع العرب والعروبة، وبات إعلامه يصفهم بالعربان الذين يشربون بول البعير! وأنه ومؤيديه ينتمون لحضارات تاريخية سالفة، اعتدى عليها الأعراب وشوهوها.

ثم ما المقصود بإبراز أن تحرّك مستشاري السيسي العسكريين يجري في إطار الجبهة الجنوبية، والمعلوم أن هذه الجبهة تحت سيطرة تحالف عربي؟ لماذا لا يهتم السيسي بدمشق، وهي رمز عربي، وهذه المدينة تكاد تتفرّس (تصبح فارسية) أو في منطقة القلمون التي تم تهجير ملايين السكان منها لتحويلها إلى جسر عبور إيراني إلى لبنان، أو حتى حلب، حيث تطبق مليشيات إيران الحصار على 300 ألف من سكانها العرب، وتهدّد بإبادتهم جهاراً نهاراً، إذا كانت خلفيات تحرّك السيسي عربية قومية؟

من جهة ثانية، لم يعرف عن السيسي أنه استراتيجي لديه حساسية عالية تجاه الجغرافيا السياسية، حتى يفكر في تحقيق أحزمة أمان لمصر، بدليل أنه لم يهتم بأصول مصر الإستراتيجية، أمن البحر الأحمر المرتبط بأمن قناة السويس، والذي تعمل إيران على انتهاكه. وكانت مفاوضاته مع إثيوبيا بشأن حصة مصر من مياه النيل قد كشفت حجم العطب في التفكير الإستراتيجي، ليس لدى السيسي وحده، بل ولدى النخبة الانقلابية المصرية بكامل عدّتها الفكرية والسياسية والعسكرية. أما اهتمامه بالملف الليبي، فيأتي خارج هذه السياقات تماماً، ولا يؤشر إلى وجود بعد إستراتيجي لديه، فهو يقارب الحالة الليبية بوصفها احتياطي "رز" لنظامه ليس إلا.

والواقع أن وجود السيسي، عنصراً عسكرياً، في سورية لا يشكّل إضافة مهمّة للأسد. وفي الأصل، لا الروس ولا الإيرانيون ولا حزب الله يقبلون منحه دوراً مهماً، ولا حتى يثقون به، كما أن بشار الأسد يعرف أنه لا يملك الصلاحية، ولا القدرة لتوزيع أدوار الأطراف التي تقاتل في سورية. مسرح الحرب تديره إيران وروسيا، ولا أمكنة شاغرة لديهما للجيش المصري. القضية بإختصار أن السيسي يتجحّش مع الأسد للضغط على السعودية، لإعادة الارتباط به بعد الطلاق البائن، وأن الأسد يتجحّش بالسيسي، لكي يتبجّح بأن أكبر الدول العربية تقف معه، وسيبارك إعلام المجحّشين هذه العملية التي ستلد، برأيهم، السيف الذي سينقذ حاضر الأمة، مع أن السيف الوحيد الذي يحمله السيسي والأسد مصوّب على خاصرة الأمة.

من حق العرب أن يحزنوا على وقع مثل هذه الأخبار، ليس على شعب سورية الذي بالأصل تتكالب عليه قوى الشر، ولن تعمل قوات السيسي سوى إضافة بعض الألم على جرحه، بل الحزن على الجيش المصري الذي يُراد زجّه في مقتلةٍ قذرةٍ ليصطف إلى جانب مليشيات إيران في قتل أطفال سورية، أيّ شرف ذلك الذي يريد السيسي إكسابه لجيش مصر، أن يكون شاهد زور على اغتصاب سورية حتى الموت؟ هل من يخبر السيسي أن تلك فضيحة أخلاقية، نربأ نحن العرب أن يتم لصقها بجيشٍ خرج من صلبه جمال عبد الناصر.

اقرأ المزيد
٢٧ نوفمبر ٢٠١٦
أزمة مركبة وعجز مضاعف

يكره معظم من يحبون سورية وصف ما يجري فيها بـ "الأزمة"، لاعتقادهم أن سورية في ثورة، والثورة لا يمكن أن تكون في أزمة. ويتجاهل هؤلاء أنه تكون هناك أزمة، حين ينشأ ويستمر "وضع ليس أو لم تتوفر بعد حلول لمشكلاته"، هو وضعٌ دخلت الثورة فيه منذ بدايتها، لكونها حملت مشكلاتٍ بقيت من دون حل إلى اليوم، ولأن المعارضة لم تقدّم لها برامج تتضمن حلولاً تبلغ بمعونتها هدفها: حرية الشعب ووحدته، ولم تعرف كيف تحول دون نجاح النظام في بلورة بديل أصولي/ إرهابي لها، صنعه من أخرجهم من سجونه وشكلوا، كما أراد وتوقع، تنظيمات مسلحة، مذهبية ومتطرفة، رفضت مثله نزعة الثورة السلمية ومطالبتها بالحرية ووحدة الشعب، ولأن العالم أدار ظهره لحل الأزمة السياسية، على الرغم من أنه رسم في وثيقة جنيف خريطة طريق واضحة إليه، قبل أن تتولى روسيا إفشاله عبر دعمها الأسدية، ثم نشر جيشها في أراضي سورية، وزرعه بمطارات وقواعد برية وبحرية، تلازمت مع ابتعاد أميركا عن ثورة السوريات والسوريين، وتبنّيها مخططاً تقسيمياً اعتمدت في تنفيذه على حزبٍ سلحته ودربته، قدم معظم مسلحيه من تركيا وإيران، لإلحاق أجزاء من أرض سورية الوطنية بمشروع إقليمي يقوده مركزه التركي. لواشنطن مقاصد بعيدة المدى في مساعدته على احتلال منطقةٍ تقطنها أغلبية عربية وكردية تعارضه، وتتعرّض لرصاصه وقمعه.

عندما تواجه ثورةٌ مشكلاتٍ تعجز قياداتها عن إيجاد حلول لها، تكون إما في أزمة أو هي الأزمة. عندئذ يجب أن يعي "قادتها" أنها تصير ثورةً، بقدر ما يضمنون لها شروط النجاح، ويتعاملون معها بصدقٍ وموضوعية كأزمة، بدل أن يتنكّروا لواقعها ويتجاهلوا نتائجها، وكذلك ضرورة أن يبادروا إلى صياغة الأفكار والبرامج ووضعها، وامتلاك الأدوات الكفيلة بإخراجها من احتجازها كأزمة، وتحويلها إلى ثورة.

بعد انطلاقتها الأولى، بدا وكأن الثورة ستنتصر في فترة قصيرة لا تتعدى الشهر. وها هي تواصل عامها السادس، وسط مصاعب موضوعية وذاتية، تغلب فرص تعثّرها على فرص نجاحها، لأسباب بينها نهج قياداتها الذي لا يغطي معظم قضاياها، أو يستجيب لحاجاتها، وحرب روسيا وإيران المفتوحة عليها، واستمتاع أميركا والعالم بجرائم الأسدية ومرتزقة موسكو وطهران ضد شعبها. ولئن كان السوريون ثاروا للتخلص من أزمة تاريخية مستعصية، مثلتها سياسات نظام الاستبداد الأسدي وممارساته، وكانت تناقضات وصراعات عربية وإقليمية ودولية قد أدخلتهم في أزمة جديدة ومركبة، أضافت مشكلات خطيرة الأبعاد إلى مشكلات الثورة المحلية التي حالت تدخلات الخارج المتنوعة ضدها دون نجاحها في إسقاط الأسدية، مثلما حال افتقارها إلى قيادة موحدة وخبيرة، وإنهاكها بانقسامات ساستها وعسكرها، وارتباط موازين القوى بينها وبين النظام بإرادات قيدت إرادتها وحسابات أبطلت حساباتها، وازدياد الضغط عليها من جيوش محتلة وغازية، تمتلك تقنيات فائقة التقدم، وأسلحة وذخائر لا مثيل لها، واحتياطيات استراتيجية تستحيل مواجهتها بتنظيماتٍ فصائلية محدودة العدد والسلاح. واليوم، وقد تخطت الثورة أوضاعها حدثاً داخلياً أساسا، حده الأول النظام والثاني الشعب، ودخلت في حالٍ خطيرةٍ يجسّدها عجزها المتزايد عن مواجهة الغزاة، وما يطرحونه عليها من تحدياتٍ تتخطى إسقاط النظام إلى إنقاذ الوطن، بابتكار حلول تعالج ما ينتجه تداخل مهامها، كثورة ديمقراطية تكابد انحرافاً مذهبياً وثورة تحرّر وطني، يتطلب اندماجهما تطوير برامجها وآليات عملها وأنماط صراعها، لتتخطى ما كانت عليه في طورها الأول، ولتتمكّن من مبارحة أزمته والارتقاء إلى مستوى ثورتين في ثورة، لا بد أن تقودهما جهة ثورية وموحدة، من "الائتلاف" والتكوينات السياسية الأخرى.

تفاقمت أزمة الثورة الديمقراطية والوطنية وتعقدت. وإذا كانت مواقف قواها السياسية والعسكرية وممارساتها لم تحقق أهدافها، حين كان طابعها الديمقراطي سمتها الغالبة، وكان مجتمعها داعما في معظمه لها، فإنها لن تستطيع الصمود من الآن فصاعداً، وتتجاوز المخاطر، إذا ما تمسّكت بأساليب عملها الراهنة، ووعيها السياسي الذي أملاها، وعلاقاتها التي غرّبتها عن الشعب، وفشلت في القيام بواجبها الوطني والثوري في الطور الجديد، بما يحتمه من جهد إنقاذي يدرس أزمتها من مختلف جوانبها، ويقدم أجوبة عملية وفاعلة عليها، بالتعاون مع الائتلاف، أو من خارجه، يعيد إنتاج المشروع الثوري واستئنافه، ويوطنه في الشعب، لكي لا يستمر في الغرق وينقلب تماماً إلى كارثةٍ وخيمة العاقبة.

اقرأ المزيد
٢٧ نوفمبر ٢٠١٦
المعارضة السورية في مفترق الطرق

تؤشر وقائع مسرح العمليات العسكرية في حلب بين تحالف النظام والمعارضة إلى احتمال نتائج مأساوية في تلك الحرب، ومما يدعم هذا الاحتمال وقائع سياسية مرافقة في المستويات الداخلية والخارجية.

ففي الوقائع الميدانية، هناك تقدم ظاهر لقوات حلف النظام على جبهات حلب الشرقية المحكومة بالحصار المشدد بعد عدة أشهر من حصار منع دخول أي من المساعدات، بينما يستمر القصف الجوي العنيف بالبراميل المتفجرة من قبل نظام الأسد، وبأحدث الأسلحة والذخائر من البحرية والطيران الروسي، وسط عجز المعارضة المسلحة عن شن هجمات فاعلة من خارج طوق الحصار على حلب، مما يعني أن الأخيرة متروكة لمصيرها الذي يسعى المحاصرون إلى إفشاله، أو إلى تأخيره في أقل تقدير.

أما في الوقائع السياسية، فإن ثمة إصرارًا من تحالف نظام الأسد مع روسيا وإيران وميليشياتها على السيطرة على حلب، التي شدد عليها رأس النظام في تصريحات أخيرة، فيما أكدها عمليًا مع حلفائه الروس والإيرانيين عبر تحشيد قواتهم البرية والجوية، وتكثيف هجماتهم بصورة غير مسبوقة، وهو ما ترافق مع انسحاب روسي من اتفاقية محكمة الجنايات الدولية، مما يشير إلى رغبة الروس في تجنب إحالة حربهم وجرائمهم في سوريا أمام تلك المحكمة.

أهمية هذا الشق من الوقائع السياسية المحيطة بالهجوم على حلب، أنها محاطة بعطالة دولية، وكأن ما يجري في حلب من مجازر ودمار يتم في كوكب آخر، ووسط عالم لا يهتم بإعلاناته عن السلام وحقوق الإنسان ومنظماتها بما فيها مجلس الأمن الدولي الذي تتركز مهمته في حفظ السلام والأمن الدوليين، ولا يخفف من العطالة الدولية السائدة، تصريحات الموفد الأممي ستيفان دي ميستورا عن احتمالات تدمير حلب.

وسط تلك الوقائع، تبدو حالة المعارضة السورية بالشقين السياسي والعسكري في أضعف حالاتها، سواء لجهة أوضاعها الداخلية أو في علاقاتها مع القوى «الصديقة» في المستويين الإقليمي والدولي. ففي الجانب الأول، ما زالت الانقسامات قائمة من الناحيتين السياسية والتنظيمية على مستوى الكل السياسي والعسكري، الأمر الذي أدى إلى صراعات سياسية ومواجهات عسكرية في أكثر من موقف وموقع لم تمنعهما هجمات النظام في الشمال ولا في غوطة دمشق، بل الأوضاع الداخلية لقوى المعارضة، ولا سيما في التنظيمات الرئيسية، تعاني من مشكلات وارتباكات سياسية وتنظيمية، وليس من جهود قادرة على تجاوز تلك المشكلات والارتباكات.

ولا يقل الأمر سوءًا عما سبق لجهة علاقات المعارضة مع القوى «الصديقة» في المستوى الإقليمي والدولي؛ فـ«الأصدقاء الإقليميون» محكومون بظروفهم وعلاقاتهم مع الدول الكبرى، التي بات من الصعب تجاوزها في ظل تحديات قائمة داخليًا وإقليميًا، وأبرزها تحدي الإرهابيين والمتطرفين، إضافة إلى الصراعات في دول الجوار، التي يعتبر الصراع السوري أحدها، فيما القوى الدولية «الصديقة»، تعاني من ارتخاء موقف رأسهم الأميركي، وتحدي الإرهاب والتطرف.

والمشترك الرئيسي في موقف كل القوى الصديقة للمعارضة، تأكيدهم هامشية وهشاشة قوى المعارضة السورية وعجزها عن القيام بدورها، وهذا ما سمعه قادة المعارضة السياسية مرات في الأشهر الأخيرة في لقاءات مع مسؤولين كبار من الدول الصديقة.

وسط تلك اللوحة السوداء للصراع في سوريا، تبدو المعارضة على مفترق طرق، موضوعة بين خيارين لا ثالث لهما؛ أولهما الاستمرار في واقعها الراهن سيرًا إلى موت معلن أو موت سريري في الحد الأدنى عبر خسارتها لموقعها الحيوية في حلب وإدلب وغوطة دمشق وبقية المناطق المحاصرة، والثاني القيام بتحول سياسي جذري، يركز على نقاط أساسية في استراتيجيتها للصراع مع النظام وحلفائه، من أبرزها في المستوى الداخلي تبريد الخلافات البينية، ورفع الغطاء السياسي عن جماعات الإرهاب والتطرف، خصوصًا جبهة فتح الشام، والتوجه نحو توحيد القوى الرئيسية للمعارضة، وبالحد الأدنى، خلق مركز تنسيق موحد وفاعل، تكون التشكيلات المسلحة تحت إمرته، يعلن برنامجًا للحل السياسي، يقوم على مراحل، وصولاً إلى الخروج من نظام الاستبداد والقتل والدمار إلى نظام وطني ديمقراطي، يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين.

وبطبيعة الحال، فإن الخطوات الداخلية، لما يمكن أن تقوم به المعارضة، لا تنفصل عن خطوات خارجية، ينبغي القيام بها، والجوهري فيها إعادة ترتيب علاقاتها الخارجية لكسب التأييد والدعم الدوليين لقضيتها وأهدافها.

إن القيام بالتحولات المطلوبة من جانب المعارضة ليس أمرًا سهلاً، إنما هو عمل جبار يواجه صعوبات وتحديات كبرى، لكن ليس من طريق آخر للمعارضة، إذا قررتَ مواجهة تحدي الموت سواء كان معلنًا أو سريريًا، فالنتيجة واحدة وستكون مؤلمة بكل الأحوال.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٠ أغسطس ٢٠٢٥
المفاوضات السورية – الإسرائيلية: أداة لاحتواء التصعيد لا بوابة للتطبيع
فريق العمل
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى