لم تتمكّن روسيا من أن تكرّر في إدلب ما سبق لها أن فعلته في مناطق في سورية كانت قد انفكّت عن السلطة الأسدية. لم يسمح العالم لموسكو بتكرار ما تغاضى عنه أو وافق عليه في حالاتٍ أخرى، ولذلك تجد موسكو نفسها معزولةً في مواجهة الأمم المتحدة وأوروبا وأميركا، والحدود الحقيقية لقوتها التي بدت مطلقةً، في ظل موافقة الغرب على انفلاتها العسكري ضد شعب سورية، عندما كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يهتز في مشيته ذات اليمين وذات الشمال، مختالا بطائراته التي تقصف وتقتل السوريين من دون تمييز، بينما تزفّ خطبه إلى شعب روسيا أخبارا سارّة عن زيادة مبيعات سلاحه، وعن قدراته التدميرية التي تعوّضهم عن بؤسهم بزهو قومجي، يدمّر إنسانيتهم.
يقترب هذا الزمن البوتيني من نهايته، وها هي الأوقات السهلة التي كان يستخدم خلالها سلاحه بغطاء أميركي وصمت أوروبي، ويتباهى بإرغام السوريين على العودة إلى بيت الطاعة الأسدي، تبدأ بالزوال، تاركةً مكانها لزمنٍ آخر، ظهر فيه منذ إدلب عجز قدراته السياسية وقوته العسكرية عن فرض حل سوري، بمفرده أو بالتعاون مع إيران وتركيا، يحدّد هو حصته وأنصبة الآخرين فيه، وخصوصا منهم واشنطن التي توهّم جهلة كثيرون أنها انسحبت حقا من الوطن العربي والشرق الأوسط، وتركتهما مرغمةً لروسيا، على الرغم من أنهما المنطقة الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في العالم التي يقول استراتيجيو البيت الأبيض إن سيطرة أميركا على المجال الأوروبي/ الآسيوي تتوقف على السيطرة عليها.
مضى الوقت السهل، وقت الحرب التي حدّد بوتين نهايتها آخر عامنا هذا، وجاء الوقت الصعب، وقت السلام، الحافل بخطوط حمراء لن يتمكّن هو، أو جيشه، من القفز عن استحالاتها التي لن ينجح في تخطّيها بما لديه من قدراتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وحربية، منها أن الحل في سورية دولي، طرفه الآخر ليس المعارضة التي أرهقتها الضربات الجوية وألاعيب الهدن والمصالحات، بل القوتان الأميركية والأوروبية، وأن إيران تتحول تدريجيا إلى عبء ثقيل، لن تتمكّن روسيا من حمله، لأنه سيعرّضها لخسارة استراتيجية، إن وقفت إلى جانبها في معركة الغرب البادئة ضدها، تضاف إلى ما شرع يقع من خلافاتٍ في علاقاتها مع تركيا، بسبب إدلب، وأن بقاء الأسد والنظام السوري لن يكون قرارا روسيا، بينما ستواجه موسكو مشكلاتٍ أنتجتها مشاركة جيشها بتدمير سورية وتهجير شعبها، منها إعادة إعمارها وإرجاع مواطنيها إلى ديارهم، كمشكلتين تتحدّيان اقتصاد روسيا المتهاوي الذي قد يعيد بوتين من عالم الأوهام إلى الواقع، خصوصا بعد أن ينكشف عجزه عن حماية طهران، ويتأكّد أن إنقاذ بشار الأسد ونظامه سيحول دون سيطرته على سورية التي تلذّذ بكلمات الإعلان عنها، وهو في حميميم، بينما كان "الثيد الرئيث" يعامل كمنبوذ محدود السيادة في بلادٍ يفترض أنه رئيسها، لن يسمح شعبها لموسكو باستعماره، سواء لنصف قرن، كما قال بوتين منتشيا، أو لفترة غير محدّدة، كما قال المنبوذ الممنوع من اللحاق بصاحبه في حميميم: بشار الأسد.
راح الزمن السهل، زمن قتل شعب أعزل وتدمير عمرانه، وجاء زمن الانكشاف في مواجهة أقوياء العالم وأثريائه، زمن رد موسكو إلى حجمها الحقيقي الذي لن يبقى بعده لبوتين، العاجز اليوم عن اقتحام إدلب، غير طي ذيله بين ساقيه من الآن فصاعداً، والقبول بوضع روسيا دولةً لن يسمح لها بتأسيس امبراطورية، كان يخال أن إقامته ممكنة انطلاقا من سورية، وها هو أمام الفخّ الذي سيقنعه بأن ما خاله انتصارا على سورية لم يكن غير وهم فادح الثمن.
نفذ جهاز الاستخبارات التركي عملية في غاية النجاح، وتمكن من جلب منسق تفجير مدينة ريحانلي بمحافظة هطاي قبل خمسة أعوام..
مع سخونة الحدث، بدأنا جميعًا باستقصاء تفاصيله، لكن الضربة الموجعة من العملية تلقاها الأسد.
هناك العديد من الأبعاد للحادثة..
إليكم ما حصلت عليه من مصادر موثوقة:
عملية أشبه بفيلم سينمائي
نفذ جهاز الاستخبارات التركي العملية وسط مدينة اللاذقية..
اللاذقية ليست مكانًا عاديًّا، فهي تتمتع بأهمية استراتيجية في حماية طرطوس حيث تقع القاعدة البحرية الروسية..
يبلغ عددد سكان اللاذقية 400 ألف نسمة، وتبعد عن تركيا 90 كم.. أي أنها ليست قريبة أو متاخمة للحدود مباشرة..
لا يمكنكم دخول اللاذقية والخروج منها هكذا بكل بساطة، فعليكم تجاوز العديد من نقاط التفتيش..
نتحدث عن مدينة مغطاة تمامًا برادارات النظام السوري وروسيا.. الاستخبارات التركية قبضت على الإرهابي "يوسف نازيك" و جلبته كما تُسحب الشعرة من العجين..
الأسد هو من أمر بتنفيذ التفجير
قُتل في تفجير ريحانلي 53 شخصًا بوحشية..
نازيك اعترف في الاستجواب الأولي بأنه تلقى تعليمات من المخابرات السورية لتنفيذ التفجير.
عندما نقول المخابرات السورية فإن المقصود هو بشار الأسد، كما يعلم الجميع..
من يريدون من تركيا التفاوض مع الأسد!
روسيا وإيران تقولان إن على أنقرة التفاوض مع الأسد..
منذ بداية مسار أستانة وهما تضغطان على تركيا من أجل إجبارها على الاختيار ما بين الأسد وحزب الاتحاد الديمقراطي، فرع "بي كي كي" في سوريا.
هذه العملية عززت موقف تركيا في مواجهة البلدين المذكورين.
جلب الإرهابي رغم عملاء روسيا وإيران والنظام
اللاذقية مدينة استراتيجية..
وهي منطقة يسرح ويمرح فيها عملاء الاستخبارات..
هناك الكثير من وحدات الاستخبارات الروسية والإيرانية..
كما أن المخابرات السورية قوية جدًّا فيها..
من هذا المكان جلبت تركيا الإرهابي، دون خسائر أو ترك أي أثر..
أظهرت العملية أن جهاز الاستخبارات التركي يمتلك شبكة قوية في المنطقة.
كيف علم الأسد بأمر العملية؟
علم النظام السوري بخبر القبض على يوسف نازيك وجلبه إلى تركيا عن طريق وسائل الإعلام التركية.
لم يعلم حتى بفقدان عمليه هذا..
يمكن القول إن هذه العملية سيكون لها حتمًا آثار على النظام السوري، في طليعتها إثارة "عدم الثقة" في أجهزته..
العملية نُفذت دون الحصول على دعم خارجي
هذه نقطة هامة للغاية.
كان عناصر تنظيم "غولن" يعتقدون أن مثل هذه العمليات تستهدفهم وحدهم، وأن الاستخبارات التركية تتعاون مع استخبارات البلدان التي فروا إليها في القبض عليهم..
كذلك "بي كي كي"..
لكن اتضح أن الامر ليس كذلك، فعملية اللاذقية نُفذت دون الحصول على دعم استخباري من أي دولة..
أخبار مثل هذه العمليات تتوالى من مناطق مختلفة في العالم..
أصبح الإرهابيون المطلوبون لتركيا يعيشون كابوسًا ورعبًا شديدًا..
ولا تستغربوا إن سمعتم أخبار عملية جديدة قريبًا..
إنها أيام حرجة يمر بها نظام الرئيس السوري بشار الأسد؛ فهو يواصل توسيع سيطرته على سوريا بعد نجاح قواته في استعادة السيطرة على الجنوب. وخاتمة استيلاء قواته على إدلب، أي المرحلة الأخيرة في عملية الإطاحة بالمتمردين في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية في قلب سوريا وإخراجهم من دمشق وحلب وحمص نحو الضواحي لها أهمية رمزية؛ ذلك إن استعادة السيطرة على منطقة دمشق ستمكّن النظام السوري من تسريع جهوده للتعامل مع القضايا الداخلية حتى قبل أن تستقر سوريا بأسرها.
واحدة من القضايا الداخلية العاجلة التي يتعين على الأسد التعامل معها هي انتشار التشيع في سوريا؛ فهذه تشكل تهديداً مباشراً لمؤسسات الحكومة السورية العلمانية، وبالتالي يجب أن تكون مصدر قلق كبير للقيادة السورية. وعلى الرغم من حقيقة استمرار الأسد في رؤية إيران شريكاً استراتيجياً، ويعتمد عليها في الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي، فمما لا شك فيه أنه يودّ الحد من الوجود الإيراني في بلاده، وبخاصة بالنظر إلى التقارير المقلقة، التي لا تتردد وسائل الإعلام السورية المحلية في الحديث عنها، والمتعلقة بترسيخ الثقافة الشيعية الدينية في سوريا.
بدأت الرئاسة السورية تدرك مدى هذه الظاهرة، ويعتقد البعض أن نطاقها أوسع مما تم الكشف عنه صراحة حتى الآن. أصبحت الطريقة واضحة: الحصول على الدعم الشعبي من أجل تجنيد المواطنين وتحويلهم إلى شيعة. تكشف وسائل الإعلام السورية أن إيران تبني المدارس الدينية، والحسينيات، فضلاً عن العيادات الصحية والمستشفيات الميدانية، ومكاتب منظمات الإغاثة في مناطق مختلفة من سوريا. ويؤكد إعلان صادر عن المجلس الأعلى للقبائل في سوريا (المجلس العالي للعشائر والقبائل السورية)، أن إيران تركز على السكان الفقراء وغير المتعلمين، وتكسبهم من خلال تقديم المساعدة ودفع مرتبات ما بين 300 و800 دولار لأولئك الذين ينضمون إلى الميليشيات الشيعية.
ووصف أحد التقارير ست قواعد عسكرية في سوريا بناها الحرس الثوري الإيراني لتجنيد الصغار في دير الزور وفي شمال غربي دمشق. وقال أحد المجندين، إن رجل دين شيعياً تجول في أنحاء المنطقة ووعد بدفع راتب 300 دولار، بالإضافة إلى الطعام لأولئك الصغار الذين ينضمون إلى معسكرات التدريب. في المخيمات خضع الصغار لدورة مكثفة لمدة 40 يوماً شملت التدريب على الأسلحة الخفيفة، والآيديولوجيا، والدين والتحريض ضد السنة وضد دول الخليج. وتشير التقديرات إلى أنه تم تجنيد ألف منهم، لكن البيانات قد تكون غير صحيحة، والرقم أعلى بكثير.
ووفقاً لشهادات محلية، فقد قام 250 منهم، من بلدات الميادين والبوكمال بالتسجيل في المدارس الإيرانية لتعلم اللغة الفارسية والفقه الشيعي، وكذلك أنشأت قوات «فيلق القدس» مركز تجنيد في الميادين، حيث انضم العشرات من الشباب بسبب ظروف معيشية متدهورة.
وبغض النظر عن القطاعات الفقيرة وغير المتعلمة والشبابية، بدأت إيران بالتركيز على قطاع مهم آخر: النساء العزَبات والأرامل؛ إذ تحاول إيران الحصول على تعاطف عسكر النظام، والمرتزقة من بلدان أخرى، عن طريق ترتيب زيجات. يتم سَن الزواج من خلال اتفاق بين رجل وامرأة وهو ملزم قانوناً. ووفقاً لتقارير مختلفة، هناك في سوريا 20 مكتباً سرياً يعطي الإذن بهذه الاتفاقات، وتدير المكاتب ميليشيات شيعية تهدف إلى توسيع نطاق هذا النمط. وحسب تلك التقارير، تحاول إيران إغراء العائلات بإرسال بناتها إلى مكاتب الزواج من هذا النوع بوعود بأنهن سيتزوجن وفقاً للشريعة الإسلامية الصحيحة. ولاحقاً يتم إرسال الفتيات إلى مناطق بعيدة عن عائلاتهن ومعارفهن.
من أجل تعزيز التشيع في سوريا، تستخدم قوات «فيلق القدس» كل مواردها في المعركة الدينية التي تتزايد زخماً وتوسعاً.
من جهته، يستخدم «حزب الله» سيطرته على جنوب سوريا، وهي منطقة يسكنها الدروز، لنشر الفكر الشيعي بين الناس. منذ اندلاع الحرب في سوريا يعاني السكان الدروز من ظروف مالية قاسية، وتزعم مصادر محلية أن «حزب الله» يستغل هذه الصعوبات. وكقاعدة عامة، هناك علاقة مباشرة بين الوجود الفعلي للميليشيات الشيعية الأجنبية وتسريع التحول إلى الشيعة. وحيثما توجد القوات الشيعية سيتم تشجيع السكان السوريين على التشيع.
كل هذه الأمور ليست بريئة. فالإيرانيون يخططون كل شيء، ويقومون بالحسابات تفصيلياً. إنهم يستخدمون الخداع للاستفادة من أضعف الجماعات السكانية في سوريا، كما يستغلون غض طرف النظام السوري عن الأمر.
قبل فترة نشر المجلس الوطني للمعارضة الإيرانية تقريراً حول مراكز في سوريا تعمل كمؤسسات دينية وتعليمية يشرف عليها مباشرة مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي. وهذا يعني أن تشييع سوريا هو هدف كبار المسؤولين المخططين في إيران، الذين يعتقدون أن الاحتلال الثقافي هو عامل مهم في الترسيخ في سوريا. إن الترسيخ الديني إضافة إلى ترسيخ البنية التحتية العسكرية والاقتصادية ينقل رسالة واضحة للأسد: نحن هنا لنبقى.
لدى خامنئي واللواء قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» خطط جادة لمواصلة وجودهما في سوريا على المدى الطويل، وتواصل إيران تعزيز وضعها كقوة إقليمية بكل الطرق الممكنة.
وعودة إلى القصر الرئاسي، إنه وقت حاسم للأسد. لأنه بعد أن استقر نظامه وأصبح أقوى، لم يعد بإمكانه تجاهل الأشياء التي كان يتجاهلها خلال السنوات القليلة الماضية. إن النشاط الديني الإيراني في مواجهة السكان المحليين هو بمثابة جريمة كبرى غير مشروعة تقوض السيادة السورية، وبالتالي على الرئيس السوري أن يقدم استجابة لا لبس فيها؛ فدمشق، عاصمة الأمويين، لن تتسامح مع محاولات التشيع في سوريا. وتشير تقارير مختلفة إلى أن الأسد أصدر تعليماته للمسؤولين بإغلاق مدرسة «البصيرة» في حلب، حيث درس عشرات الآلاف من الناس مبادئ الشريعة الدينية الشيعية الفارسية. وكما علق مراقبون، فإن هذه خطوة مهمة في التوازن الدقيق للمصالح بين دمشق وطهران، لكنها ليست بكافية. إن جرأة سليماني لنشر الآيديولوجيا الشيعية الفارسية في المناطق التي تسيطر عليها قوات الأسد هي دعوة استيقاظ لكبار مسؤولي النظام السوري.
لقد تعب المواطنون السوريون من حروب دموية مدمرة، ويبحثون عن الأوضاع الطبيعية بغض النظر عمن يقدمها. طوال سنوات الحرب المستمرة كان الشعب السوري هو الذي دفع الثمن الأعلى. وظل هذا الشعب نفسه اعتباراً ثانوياً في صراعات السلطة الداخلية في البلاد عبر معارك ما بين الأسد والثوار في جميع أنحاء سوريا، وبين إيران وتنظيم «داعش» على الحدود السورية - العراقية، وما بين الأكراد وتركيا على الحدود السورية - التركية. ويجب ألا ننسى الدور الروسي في الداخل، والإيراني بميليشياته المتنوعة، إضافة إلى قوات «الحرس الثوري»، حتى لو أصرت إيران على تسمية كل هذه القوافل «مستشارين» طلبتهم القيادة السورية.
لقد عانى الشعب السوري كثيراً من الجميع، لكن اليوم صارت له أهمية في المعركة الأهم، إنها المعركة من أجل هوية سوريا التي لا تزال تعرف بقلب العروبة!
سؤال الحل في إدلب يقلق البشرية اليوم، صحيح أن الغالبية من القلقين لا يريدون رؤية مزيد من الدماء والضحايا الذين قد يزيد عددهم على مئات الآلاف وسيكون جلهم من الأطفال والنساء، لأن عدد السكان يقترب من أربعة ملايين إنسان، لكن المقلق لكثير من الدول هو توقع نزوح أكثر من مليوني إنسان باتجاه تركيا ومنها إلى أوروبا، وصحيح أن بضعة آلاف قد يموتون غرقاً في أمواج المتوسط كما مات آلاف قبلهم، لكن عشرات الآلاف سيصلون وستواجه تركيا ودول أوروبا موجات هجرة جديدة، ولن تتحمل الأمم المتحدة الأعباء الناتجة عن الحرب على إدلب، وستشعر الشعوب التي أثقلها إحساسها بالذنب على صمتها ثماني سنوات، وهي ترى الحرب على مجموعة إرهابية تختطف ملايين المدنيين قد صارت حرباً ضد الإنسانية، وستحمل روسيا مسؤولية ملف أسود هو أشد قسوة من الهولوكست، وسيذكر البشر موقف ولد أحمق رأى ذبابة تحوم حول رأس أبيه النائم وتزعجه، فسارع إلى صخرة رماها على رأس أبيه كي يقتل الذبابة.
ولقد أثبت سكان إدلب (وهم اليوم من كل أنحاء سوريا) أنهم يحاربون الإرهاب، ولا يريدون أن يكون ل«القاعدة» أو «النصرة» أو أية تنظيمات دينية متطرفة أي حضور في سوريا كلها، وكانت تظاهراتهم الكثيفة الأخيرة تعبيراً واضحاً عن خياراتهم الوطنية، وتظاهرات اليوم أشد جلاء بشعاراتها وشمولها، لكن الناس في إدلب مغلوبون على أمرهم إزاء من يدعم هذه التنظيمات ومن يوفر لها السلاح والذخائر والأموال، ومن يصر في الخفاء على بقائها، وجعلها ذريعة لاستمرار الحرب، ولا أحد يذكر أن السماء أمطرت ذهباً أو أسلحة أو ذخائر، وهذا ما يجعل الاتهام يشير إلى دور إيران الراعية الكبرى للإرهاب، والراغبة في استمرار الصراع المسلح، لأنه مبرر بقائها ونفوذها في سوريا، ولا ينسى أحد دور «حزب الله» في التحريض على تحويل ثورة الكرامة والحرية إلى صراعات دينية منذ أن دخل يبحث عن قتلة الحسين، وكان لصالح النظام أن تتحول القضية إلى صراع ضد الإرهاب بدل أن يكون الصراع ضد الاستبداد، وهذه الوصفة السحرية حققت للنظام نجاحاً مبهراً، وقد استجاب له العالم بعد نجاح فزاعة «داعش» الأسطورية التي كشف ترامب أسماء من قام بإنتاجها في مواجهة انتخابية مع هيلاري ثم باتهام صريح لإيران التي سماها مصدر الإرهاب في العالم. وسرعان ما نسي معظم قادة العالم وإعلامهم أن القضية السورية أصلاً هي قضية شعب طالب بحريته وكرامته، وليست قضية مكافحة إرهاب فقط.
والسؤال الإنساني، ما ذنب ملايين الناس في إدلب كي يتعرضوا لكل هذا الرعب اليومي من أجل حفنة إرهابيين جاؤوا مرتزقة من أصقاع الأرض، وكان يكفي أن يتوقف عنهم الدعم الذي يلقونه لينتهي حضورهم؟ الحل في إدلب هو أن يتم على صعيد دولي فضح جاد للجهات الداعمة للإرهاب، وإجبار المشغلين على إنهاء هذه الفواجع التي باتت مخزية، وأن يرفض العالم قتل الشعب السوري بكل أدوات القتل، فالتحذير بخطر قتل الشعب بسلاح كيماوي دعا أحد مسؤولي النظام ساخرا إلى طمأنة العالم بأنه سيقوم بقتل شعبه بأسلحة تقليدية، وقد عاد إلى استخدام البراميل المتفجرة المسموح بها، وعملياً بدأت الحرب في إدلب من قبيل انعقاد قمة طهران التي كان متوقعاً ألا تنجح كيميائياً، لاختلاف الرؤى والأهداف بين قادتها، فالسيد بوتين يريد أن يستعيد النظام إدلب كما استعاد حلب ركاماً ودماراً، وروحاني يريد أن تبقى الحرب مستمرة كي يبقى الجيش الفارسي وملحقاته من الميليشيات يحتلون سوريا كما يحتلون لبنان والعراق واليمن، وأردوغان يخشى أن يتمكن حزب «العمال» من إقامة دولة كردية جنوب تركيا، ويخشى من تدفق ملايين اللاجئين إلى بلاده، فأما السوريون فهم يريدون أن تبقى سورية دولة قوية متماسكة، ولا يقبلون أن يقتطع شبر منها، وألا يكون فيها محتلون، وأن يغادرها الفرس والروس معاً، وأن تنهض أمتهم العربية بدورها نحوهم. ولا يمكن أن يستمر الحال في إدلب كما هو الآن، لكن الحل ليس الحرب والدمار الشامل، ولا دخول النظام الذي يخشى الناس انتقامه منهم، الحل هو إيقاف دعم الإرهابيين، وإعلان هيئة حكم انتقالي، ومع ظهورها ينتهي الصراع العسكري، وسيذعن الجميع لبناء دولة ديمقراطية غير طائفية، ينتهي معها عصر الاستبداد.
تبرّر المعارضة السورية اليوم، أو ما تبقى منها ممثلاً في ما تسمى الهيئة العليا للمفاوضات، المنبثقة عن مؤتمر الرياض 2، مشاركتها فيما تسمى مفاوضات اللجنة الدستورية بأنها تهدف إلى تحقيق أدنى المكاسب، بعد الهزائم العسكرية المتتالية التي منيت بها المعارضة من حلب إلى الغوطة الشرقية إلى القلمون، وأخيراً درعا، وتتحجّج بأن عدم مشاركتها لم يمنع مجموعة أخرى من السوريين المتنطعين، يركبون كل موجة وينتهزون كل فرصة عند كل منعطف وممرّ، من المشاركة، وبالتالي الحجة التي يجري تردادها دوماً أن ذلك هو أفضل الحلول.
ما أقوله هنا هو بالعكس، إن مشاركة المعارضة، ممثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي ما زال يشكل تغطية للهيئة العليا للمفاوضات، تمثل أسوأ الخيارات وليس أفضلها على الإطلاق، فانطلاق مسار جنيف للمفاوضات كان على أساس بيان جنيف الذي أكد مجلس الأمن الدولي عليه في قراره 2254 الصادر في عام 2015، ونصّ على أن دعمه بيان جنيف، المؤرخ في 30 يونيو/ حزيران 2012، واعتبره أساسا لانتقال سياسي بقيادة سورية وفي ظل عملية يمتلك السوريون زمامها، من أجل إنهاء النزاع، وحدد هذا القرار لمجلس الأمن العملية السياسية بوصفها على ثلاث مراحل رئيسية، يجب أن تتم في فترة مدتها ستة أشهر حددها كالتالي: حكم ذو مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وحدد جدولا زمنيا وعملية لصياغة دستور جديد، انتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرا تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحقّ لهم المشاركة، بمن فيهم الذين يعيشون في المهجر، على النحو المنصوص عليه في بيان الفريق الدولي المؤرخ 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015.
وربط قرار مجلس الأمن بين وقف إطلاق النار وانطلاق عملية سياسية موازية، عملا ببيان جنيف، وبضرورة التعجيل بالدفع بكلتا المبادرتين، وأعرب عن تأييده وقف إطلاق النار في جميع سورية، وهو ما التزم الفريق الدولي بدعمه والمساعدة على تنفيذه، على أن يدخل حيز النفاذ بمجرّد أن يخطو ممثلو الحكومة السورية والمعارضة الخطوات الأولى نحو انتقال سياسي برعاية الأمم المتحدة، استنادا إلى بيان جنيف، على النحو المنصوص عليه في بيان الفريق الدولي المؤرخ 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، على أن يتم ذلك على وجه السرعة.
ليس هذا النص لنشطاء أو معارضين سوريين، إنه قرار أصدره مجلس الأمن الدولي عام 2015، وافقت عليه روسيا والصين ودعمتاه. وعلى الرغم من أنه صادر تحت الفصل السادس، وليس السابع، فإنه يبقى ملزما لكل الأطراف بتنفيذه، وفي مقدمتها روسيا، والأهم هنا مبعوث للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، الذي أثارت تصريحاته بشأن إدلب استهجاناً كبيرا بين السوريين، انعكست في مظاهرات الجمعة في كل أنحاء الشمال السوري حيث يسمح بالتظاهر، وليس في مناطق النظام حيث لا خبز ولا حرية هناك.
وبالتالي، على المعارضة السورية أن تلزم المبعوث الأممي بتنفيذ خطوات القرار الأممي بحذافيره، وليس ما يحلو له منه، فهو لم يفهم من القرار سوى أنه أعطاه صلاحية ما سماه تحقيق "الهدف المتمثل في جمع أوسع نطاق ممكن من أطياف المعارضة، باختيار السوريين، الذين سيقرّرون من يمثلهم في المفاوضات ويحدّدون مواقفهم التفاوضية، حتى يتسنّى للعملية السياسية أن تنطلق، وإذ يحيط علما بالاجتماعات التي عقدت في موسكو والقاهرة، وبما اتخذ من مبادرات أخرى تحقيقا لهذه الغاية، وإذ يلاحظ على وجه الخصوص جدوى اجتماع الرياض، المعقود من 9 إلى 11 ديسمبر/ كانون الأول 2015، الذي تسهم نتائجه في التمهيد لعقد مفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة بشأن التوصل إلى تسوية سياسية للنزاع، وفقا لبيان جنيف و "بياني فيينا"، وإذ يتطلع إلى وضع المبعــوث الخاص للأمين العام إلى سورية اللمسات الأخيرة على الجهود المبذولة تحقيقا لهذه الغاية".
وبالتالي، لم يفوّض قرار مجلس الأمن الهيئة العليا للرياض بالمفاوضة نيابة عن المعارضة، وإنما طالب المبعوث الأممي بوضع اللمسات الأخيرة وباختيار الوفد، وبالتالي هو استغلّ هذه الفقرة للتحجج دوماً بتغيير الوفود كما يشاء، ويشكلها كما يشاء، وخرجت المنصّات يمنة ويسرة من القاهرة إلى موسكو التي هي صنيعة مخابرات دول أجنبية، تريد أن تحصل على نسبتها من الكعكة، أو تريد أن تعرقل جهود دول إقليمية أخرى، لحساب مصالحها الخاصة، وغابت مصالح السوريين تماماً.
يجب الحديث مع دي ميستورا بصراحة أن نص قرار مجلس الأمن ركّز على تشكيل حكم انتقالي، قبل تشكيل لجنة دستورية وليس العكس، ولا يمكن بكل الشرائع الدستورية في كل دول العالم صياغة دستور، قبل أن يتحدّد شكل النظام السياسي الذي سيعبّر عنه هذا الدستور.
وإذا ما أصرّ دي ميستورا على رفضه، وهو ما يبدو واضحاً من ترداده الرغبة الروسية، وتسليمه لها، فلا حاجة للمعارضة أن تلعب دور شاهد الزور في جنيف، أو في أي مكان آخر، ولا ننسى أن الحل يحتاج إلى سوريين، وإذا ما رفضنا، نحن السوريين، أشباه الحلول هذه، فلا يمكن لأحد أن يفرض علينا حلوله.
التقيت مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أربع مرّات. كانت الأولى بصفتي مديرا تنفيذيا لمنظمة اليوم التالي، حيث دعانا، الدبلوماسي السابق والأستاذ الجامعي مرهف جويجاتي وأنا، للقائه في جنيف. وصلنا في الموعد، ولكنه وصل متأخرا نحو ربع ساعة، واعتذر بقوله: "كنت أتحدث مع مديري"، في إشارة إلى الأمين العام السابق للأمم المتّحدة، بان كي مون، "لذلك، جئت أستقبلكما في البهو للتعبير عن أسفي"، قبل أن يصحبنا إلى قاعة الاجتماع، حيث كان نائبه المصري، رمزي عزّ الدين رمزي، ونحو عشرة أعضاء آخرين في فريقه.
استمع دي ميستورا إلينا مطوّلا، ونحن نعرض له ولفريقه وجهة نظرنا في الأزمة السورية، ثمّ راح يُمطرنا بأسئلة دقيقة بشأن دور المجتمع المدني في العملية التفاوضية في جنيف، وإمكانية السوريين التعايش مع فكرة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وموقفنا من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة. وكان جوابنا واضحا ومحدّدا: نحن مع مشاركة المجتمع المدني مراقبا وضامنا للاتفاق، وضدّ فكرة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، ومع استئصال التنظيمات الراديكالية الإسلامية، مع ضرورة تمييزها عن محيطها المدني.
التقيت به ثانية في جنيف أيضا مع وفد من ممثلي منظمات المجتمع المدني، ثم حدث أن جمعني لقاءان آخران به في مناسبتين، إحداهما العام الماضي في نيويورك. وفي كلّ مرة بدا لي دي ميستورا مثقفا وذكيا وشديد التهذيب. وأسجّل له سعة صدره ورغبته في إشراك المجتمع المدني في العملية التفاوضية، وتأسيسه مجموعة النساء الاستشارية الخاصة في مكتبه. بيد أن ذكاءه وتهذيبه لم يُخفيا، منذ اللقاء الأول، أنه لا يقف في الوسط تماما من أطراف النزاع في سورية.
اليوم وبشكل خاص، يثير دي ميستورا إشكالا سياسيا وأخلاقيا بتصريحاته المثيرة للجدل بشأن إدلب. ففي وقت يتحدث فيه نظام بشار الأسد، ومن ورائه روسيا وإيران، عن اقتحام إدلب، وقد مهّدتا لذلك بالبدء بضربات جوية وصاروخية وببراميل متفجرة، يدلي دي ميستورا بتصريحات غريبة، بدت وكأنها تبرّر تحضيرات الأسد - بوتين بشأن ضرب إدلب.
وقبل أيام، أعادت القوّات الروسية مشاركتها المباشرة بضرب المدينة، مباشرة بعد خروجها من القاعة التي جمعت رئيسها بوتين مع الرئيسين التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني في طهران، لمناقشة الوضع في إدلب، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن أربع مقاتلات تابعة لها وجهت ضرباتٍ "عالية الدقة" إلى مواقع لتنظيم جبهة النصرة في محافظة إدلب، مستخدمةً ذخيرة فائقة الدقة.
وتبجّح بشار الجعفري، ممثل بشار الأسد في الأمم المتحدة، بأن دمشق عازمة على "استعادة جميع الأراضي السورية وتحريرها من الإرهاب والاحتلال الأجنبي"، وشدّد على أن أي تحرّك تقوم به حكومته في إدلب "حق سيادي مشروع تكفله مبادئ القانون الدولي وأحكام الميثاق وقرارات مجلس الأمن الخاصة بمكافحة الإرهاب وتفاهمات أستانة".
في هذا الوقت بالضبط، اختار دي ميستورا أن يدلي بتصريحاتٍ عن إدلب، ورد فيها إن المدينة تضمّ عددا كبيرا جدّا من مقاتلي جبهة النصرة، نحو عشرة آلاف، مضيفا أن الحق في مقاتلة المتطرفين لا خلاف حوله، قبل أن يستدرك أن ذلك لا يبرّر طبعا استهداف 2.9 مليون سوري هناك. ثمّ سارع إلى عرض خدماته في تأمين خروج آمن للمدنيين في المحافظة، وقال إنه مستعد للسفر شخصيا إلى إدلب للمساعدة في ضمان خروج المدنيين عبر ممر إنساني. بيد أنه لم يقل إلى أين سيَخرُج هؤلاء المدنيون، ولا كيف سيعيشون، وماذا سيحل ببيوتهم وأرزاقهم حين خروجهم. كما أنه لم يقل كيف سيعمل على إخراجهم، وكيف سيقنع جبهة النصرة وأخواتها على ترك المدنيين يخرجون من دون أن يستخدموهم دروعا بشرية، كما فعل جيش الإسلام وفيلق الرحمن في الغوطة الشرقية. كان المهجّرون جميعا يجدون ملاذا في إدلب. ومن القصير والوعر والمعضمية وداريا ودوما، حمل المهجّرون أسمالهم وأطفالهم ورحلوا إلى إدلب، فإلى أي مكانٍ يستطيع دي ميستورا أخذهم الآن؟
لم يكتفِ المبعوث الأممي بذلك، بل ساوى بين نظام الأسد الذي استخدم الأسلحة الكيميائية ضدّ شعبه مرات ومرات وجبهة النصرة، في ترويج الرواية الروسية البائسة عن استعداد الأخيرة للقيام بمسرحية هجوم كيميائي، واتهام النظام بذلك.
معظم السوريين مع القضاء على جبهة النصرة وتنظيم داعش وكل التنظيمات الإرهابية السورية، فأفكار هذه التنظيمات وعقيدتها غريبة عن السوريين، المعروفين باعتدالهم ووسطيتهم في معظم الأمور، بما في ذلك القضايا الدينية. وقد سبّبت جبهة النصرة، ومعها "أحرار الشام" و"جيش الإسلام" وسواها كوارث للمدنيين السوريين ولسورية، ما يجعل السوريين سعيدين بإنهاء هذه الظاهرة الشاذّة. ولكن هذا شيء واستخدام جبهة النصرة ذريعة لاحتلال إدلب، والتنكيل بالمدنيين السوريين، وهو ما سيحدث قطعا في حال دخول مليشيا بشار إلى هناك، شيء آخر. ستكون معركة إدلب أسوأ كارثةٍ تتعرّض لها سورية على الإطلاق. ويتوقع أن يشكل انطلاق عملية عسكرية كبرى هناك كابوساً على الصعيد الإنساني، حيث لم تعد هناك مناطق قريبة خاضعة للمعارضة في سورية يمكن إجلاء السكان إليها.
وإذا استمعنا إلى طبيب سوري من إدلب، منذر الخليل، وهو يعمل جرّاح عظم ويترأس مديرية الصحة في المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة في إدلب، فإن المحافظة سوف تشهد "كارثة قد تكون الأكبر". وقال في مقابلة أجرتها معه وكالة "فرانس برس" في جنيف: "أخشى من أن نكون على وشك أن نشهد الأزمة الأكثر كارثية في حربنا".
يتوقّع السوريون من الأمم المتحدة وأمينها العام ومندوبه الخاص أن يلعبوا دور المثبّط للهجوم الوشيك، ولذلك فإن تصريحات صبّ الزيت على النار التي أوردها دي ميستورا كانت صاعقة لهم. اليوم، لم يعد أمام السوريين من أمل سوى انتظار الطائرات والدبابات والبراميل لتنهي أحلامهم ببيت وعائلة وخبز يومي، فلا الأمم المتحدة المشلولة، ولا الولايات المتحدة المبتلاة برئيس تلاحقه الفضائح والمحققون في كلّ مكان، ولا أوروبا العاجزة، ولا المعارضة الفاسدة، قادرة على إنقاذهم من هذا المصير.
يتسع يوما بعد يوم رفض قطاع كبير من السوريين لوساطة دي ميستورا، وقد فقد الرجل بريقه ومصداقيته، بفعل استخفاف الروس به وبدوره. وسبق دي ميستورا رجلان كبيران، هما الأمين العام السابق للأمم المتحدة (الراحل حديثا) كوفي عنان، والدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، وقد أدركا أن النظام السوري ليس شريكا نزيها في الحوار، فآثر كل منهما استقالة مشرّفة على وساطة ملوّثة. وأحسب أن الأوان قد آن لكي يحذو دي ميستورا حذوهما، ويفكّر، وهو يدخل في عامه الثاني والسبعين، في تقاعدٍ مشرّفٍ له ولنا.
سعت الكثير من الدول الغربية وفي مقدمتها روسيا على إبراز الثورة السورية على أنها حركات متطرفة ذات طابع تخريبي وإرهابي، ومع بقاء الشمال السوري وحيدا في مواجهة أعتى نظام إجرامي وارهابي عرفته البشرية مدعوما من محور الشر (ايران، روسيا).
بدأت الأيادي الخفية (اليوم اثبتت عمالتها) بشكل واضح وصريح لتخريب المظهر الحضاري للثورة السورية والتي كانت أقوى رسالة للعالم ألا وهي التظاهر السلمي.
وعمدت هيئة تحرير الشام بمحاولة تشويه المظاهرات السلمية في مدينة إدلب بمؤازرة المجلس المحلي المشكل من قبل حكومة الإنقاذ من خلال رفع رايات الهيئة على الملأ أمام وسائل إعلامية غير سورية ليصدح مرتزقتها انهم باقون ماب قي الزيتون ولكن للحق نقول إنهم ورقة التوت الأخيرة التي ستسقط في اللحظات الأخيرة متذرعين بأنها رايات الجهاد (وهو برئ منهم).
وللعلم حين خرج السوريين في بدايات الثورة لم تكن راياتهم سوى أعلام الثورة حتى قدوم مرتزقة (أسود المعابر وأصحاب الرايات الحمراء وليس العصائب الحمراء) حتى أصبح يحارب تارة من قبل النظام وتارة من تحرير الشام.
ماالذي تريده تحرير الشام اليوم؟
لو وضعنا فرضا وهو بعيد الاحتمال أن النظام سيطر على الشمال السوري اليوم والسؤال أين ستذهب تحرير الشام هل ستعود الى حضن الوطن وتشكيل لواء تحرير الشام بقيادة العميد (أبو محمد الجولاني) أم ستنقل أمراضها وخبثها لمكان أخر وتشكل هيئة تحرير روما (كما قال كبير الصبيان لديهم).
مع بداية العام الدراسي في روسيا الاتحادية، بثَّ التلفزيون الرسمي «RT» شريطاً مصوراً عن تدريب أعداد كبيرة من الأطفال السوريين في المدارس العسكرية الروسية، وأظهر الشريط المتلفز الأطفال بالملابس العسكرية الزاهية لطلبة الكليات الحربية الروسية، معهم كثير من الضباط الروس الذين يهتمون بتوفير متطلباتهم من الأمور الدراسية إلى نوعية الطعام.
يبرز الشريط أن هذا الأمر يأتي تنفيذاً لقرار يسمح بالتحاق الأطفال السوريين بالمدارس العسكرية الروسية. أحد المتدربين وبدا في سن العاشرة، ذكر للقناة أن والدته اعتقدت في البداية أنه سافر لفترة إجازة 15 يوماً؛ لكن البرنامج شدد على إبراز الهدف، وهو «إعداد هؤلاء التلامذة كقادة محتملين في السنوات القادمة»، موضحاً أكثر بأن إعداد هؤلاء «الضباط العسكريين هو استثمار كبير في مستقبل سوريا». وتضمن الشريط المتلفز تأكيداً من السفارة السورية في موسكو، جاء فيه أن «تدريب الأطفال السوريين ضمن فيلق الطلاب الروس، يأتي ضمن إطار اتفاق دائم».
ينتهي الشريط، فيثور السؤال طارحاً نفسه: أين حدث ما هو شبيه؟ هل هي اسبرطة في نسخة محدثة؟ أو حالة إنكشارية جديدة؟ أو عودة لبدايات زمن القياصرة، عندما كان الهم الوصول إلى المياه الدافئة، ومن أجل هذه الغاية شهدت الإمبراطورية الروسية، ولا سيما الأطراف، أوسع عمليات تجنيد طالت الأطفال، أو أنها النسخة الروسية - السورية المتماثلة مع تجنيد الحزب النازي للأطفال الألمان؟
من فيلق الطلاب في موسكو إلى «الفيلق الخامس اقتحام»، ذهبت روسيا بعيداً في البناء على تأهيل حالة سورية تؤمن الغطاء لوجود روسي مديد، قالت الاتفاقات السورية الروسية التي تناولت قاعدة «حميميم» إنه مستمر لـ49 سنة قابلة للتجديد، ومعه باتت قاعدة «حميميم» الجوية البرية وقبلها قاعدة «طرطوس» البحرية، أراضي سورية خاضعة للقانون الروسي، ويتضح أن كل الخطوات الروسية تصب في خدمة هذا الهدف.
تروي جهات سورية معارضة مطلعة على ما يجري، أنه بالعمق هناك رهانات سورية على دور روسي للقطع مع الوضع المخيف الذي خلقه الحرس الثوري الإيراني وميليشياته الطائفية المتطرفة التي استقدمها من أكثر من بلد، ونجح في توطين أعداد لا يستهان بها، كما نجح في اختراق ما كان يعتبر النواة الصلبة في الجيش السوري، أي الحرس الجمهوري و«الفرقة الرابعة» التي يقودها ماهر الأسد. لكن منذ إقرار «مسار آستانة» ما سُميت مناطق «خفض التصعيد»، باشر ضباط «حميميم» العمل لتغيير المشهد السوري، وهؤلاء يلقون الدعم من حزب كبير، يضم عشرات ألوف الضباط الذين تخرجوا من المدارس العسكرية الروسية، ومع الوجود الروسي باتت أكثريتهم ترفض تلقي الأوامر من الميليشيات الإيرانية، ومثلهم عشرات ألوف الأطباء والمهندسين، وسواهم من الخريجين، إضافة إلى المصاهرات التي تصل إلى نحو 300 ألف.
وتغيير المشهد يتم بدعم من قوات ضاربة برية، هي الشرطة الروسية، حيث لم يعد الأمر يقتصر على استمالة بعض كبار الضباط البارزين ووحداتهم، والمثال «قوات النمر»؛ بل بدأت خطوات حل الميليشيات السورية التي أنشأها الحرس الثوري، وبالمقابل إطلاق حملة تجنيد واسعة لصالح «الفيلق الخامس اقتحام»، الذي خصص له الروس ميزانية، وأولت القيادة الروسية اهتماماً خاصاً لضباطه، كما ركزت من خلال المصالحات التي نفذتها، وما سُميت «تسوية أوضاع» على اجتذاب أعدادٍ كبيرة ممن حمل السلاح ضد النظام إلى صفوفه، وهذا ما حدث على نطاق واسع في الجبهة الجنوبية، بعد إعادة الروس محافظة درعا وريف السويداء والقنيطرة إلى سيادة النظام السوري.
منذ الأول من أغسطس (آب) الماضي، بات الصراع مكشوفاً. منع الضباط الروس «الفرقة الرابعة» من المشاركة في عمليات الجنوب، وأدت الاتفاقات المعلنة مع المحتل الإسرائيلي لإعادة العمل باتفاقية فصل القوات في الجولان لعام 1974، وقضت الاتفاقات بموافقة طهران على ابتعاد الحرس الثوري والميليشيات التابعة له مسافة 85 كيلومتراً إلى الشمال من الجولان المحتل. واقعياً تم نشر وحدات عسكرية موالية لـ«حميميم» على امتداد الحدود مع الأردن والجولان ولبنان، وطيلة أكثر من شهرين توالت الأنباء عن الصدامات بين القوات الروسية و«الفيلق الخامس» و«قوات النمر» من جهة، ومن الجهة المقابلة «الفرقة الرابعة» وكثير من الميليشيات التي أقامها الحرس الثوري، وكان الأبرز في منتصف أُغسطس المواجهات في ريف حماة الشمالي والغربي، وانتهت بإبعاد «الفرقة الرابعة» والميليشيات العاملة معها عن معبر مورك، والأهم معبر قلعة المضيق الذي يدر أموالاً طائلة، ضرائب وإتاوات. وامتدت المواجهات من مناطق الساحل في جبلة والدريكيش إلى سهل الغاب؛ حيث أبعد الروس هذه القوى عن كل القرى والمواقع التي تنتشر فيها بمواجهة قوى المعارضة المسلحة في ريف حماة الغربي، واقتصر الوجود على وحدات من «الفيلق الخامس» و«قوات النمر»، بعدما اعتقلت الشرطة الروسية المئات من عناصر الميليشيات و«الفرقة الرابعة».
إنه الصراع المفتوح على التمدد في كل سوريا، وعلى النفوذ في كل المناطق الاستراتيجية التي ترغب روسيا في السيطرة عليها.
وبعيداً عن المجاملات، أظهرت قمة طهران الثلاثية أن أطراف «مسار آستانة» الذين يريدون الحفاظ على تجمعهم بوجه كماشة العقوبات الأميركية، يختلفون على أمور كثيرة؛ لكن رهانات أنقرة وطهران بقيت انتزاع موافقة موسكو على حصول كلٍ من البلدين على حصة من الكعكة السورية، رغم أن القيصر ماضٍ في قصقصة أجنحة «حليفيه» الإيراني والتركي. وما تعاني منه طهران الآن ينتظر أنقرة، إذ ليس أمام الرئيس إردوغان سوى ابتكار طريقة لتسليم إدلب بعد الانتهاء من «جبهة النصرة»، وما يتردد عن صفقة تسمح بموجبها أنقرة بعودة مؤسسات النظام المدنية، فيما يعهد بالأمن لوحدات مشتركة روسية – تركية، أمر لا يُعوّل عليه؛ لأنه سيبقى إطاراً مؤقتاً مع الرفض الروسي لمثل هذه الشراكة.
ستارة الفصل الراهن من رقصة الموت فوق المسرح السوري تُسدل قريباً، ومعه تزدحم جعبة القيصر الروسي بالانتصارات التكتيكية، وهو الطامح إلى فرض «انتداب روسي» يتم تحضير مسرحه من فيلق الطلاب إلى «الفيلق الخامس»؛ لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب تسوية سياسية تعكس حجم الإنجازات العسكرية الروسية. هذا الحلم الروسي سيبقى بعيد المنال لأن منطقة شرق الفرات ليست إدلب، هنا الروس وجهاً لوجه مع الوجود الأميركي ومع الأهداف الأميركية المعلنة، التي تستهدف الوجود الإيراني، وتستهدف تحقيق تسوية حقيقية عبر مسار جنيف والقرار 2254، ما يفتح المجال لعودة اللاجئين وبدء عودة سوريا، هنا هامش المناورة الروسية سيضيق تباعاً، والصفقة مع الأميركيين لتحقيق الإنجاز السياسي يستحيل تحققها على قاعدة استمرار رأس النظام، ولو حتى بالانتخابات، ومعه بقاء النفوذ الإيراني - ولو نسبياً - أقل من السابق.
بعد أيام على انطلاق الربيع العربي في عدد من الدول العربية قبل أكثر من سبع سنوات، كتبت مقالاً حذرت فيه من تكرار المثال الأفغاني والصومالي، ووضعت أمام المنتفضين الخطايا التي وقع فيها الأفغان والصوماليون في انتفاضاتهم على الطغاة. وسأعيد الآن نشر المقال حرفياً ليس لأنني توقعت النتيجة الحاصلة في الكثير من بلاد الثورات الآن، بل لنتساءل: لماذا لا يتعلم العرب من التاريخ؟ لماذا يكررون الأخطاء نفسها مع أنها مازالت حية في الذاكرة؟ إلى نص المقال:
«لا شك أن التخلص من الطواغيت العرب وأنظمتهم العفنة والحقيرة هدف عظيم للغاية. ولتعش الأيادي التي ساهمت وتساهم في دق المسمار الأخير في نعوشهم. لكن هناك هدفا آخر لا يقل أهمية وخطورة عن الهدف الأول، ألا وهو قيادة المرحلة التالية بعد سقوط الطغاة. فقد قدم لنا التاريخ أمثلة مرعبة يجب على الثوار العرب أجمعين التعلم منها وتجنبها وهم في بداية النتفاضاتهم بكل ما أوتوا من قوة وعقل كي لا يتحول الانتصار على الطغيان وبالاً على الشعوب.
لقد نجح المجاهدون الأفغان في يوم من الأيام في التخلص من نظام نجيب الله المرتزق الذي كان مجرد ألعوبة في أيدي السوفيات الأوغاد. لا بل تمكن المجاهدون أيضاً من كنس الاحتلال السوفياتي الغاشم نفسه إلى جهنم وبئس المصير. لكن الانتصار الأفغاني على السوفيات وأزلامهم لم يأت لأفغانستان بالمن والسلوى ولا بالتحرير الحقيقي. فما إن انتهى المجاهدون الأفغان من مهمة تنظيف البلاد من الاحتلال الداخلي والخارجي حتى راحوا يتقاتلون فيما بينهم على الغنائم.
لا شك أن الكثير منا يتذكر ما حل بأفغانستان بعد انتصار المجاهدين، فقد تحولت البلاد إلى ساحة حرب من أقصاها إلى أقصاها بين المجاهدين أنفسهم، مما أدى إلى الإمعان في تمزيق البلاد وزعزعة استقرارها وإفقارها وتحويل شعبها إلى لاجئين وجائعين.
فبدلاً من التكاتف للملمة جراح أفغانستان الغائرة وتوحيد الصفوف راح المجاهدون يذبحون بعضهم البعض من أجل الاستيلاء على السلطة، وكأنهم جاهدوا ليس لتحرير الوطن من ربقة المحتلين وأزلامهم، بل من أجل أن يحلوا محلهم في الجثم على صدور البلاد والعباد.
ومن كثرة ما عانى الأفغان من اقتتال المجاهدين فيما بينهم لم يكن لديهم أي مانع بعد طول عناء من القبول بديكتاتورية جديدة أشد وأنكى من ديكتاتورية الشيوعيين وأزلامهم، ألا وهي ديكتاتورية طالبان التي تمكنت من الانتصار على المجاهدين والفوز بحكم البلاد.
قد يجادل البعض بأن حركة طالبان كانت في وقتها أفضل حل لبلد أنهكته الحرب الأهلية. وربما يكونون على حق. لكن الشعب الأفغاني لم يقدم كل تلك التضحيات وقتها كي ينتقل من حضن الديكتاتورية الشيوعية إلى حضن ديكتاتورية دينية خانقة. ولو لم يتقاتل المجاهدون فيما بينهم لما أوصلوا السلطة إلى أيدي طالبان، ولما جعلوا أفغانستان مرتعاً للقاصي والداني كي يتدخل في شؤونها ويستغل معاناة أهلها. لا شك أننا نتذكر كيف أصبحت أفغانستان لاحقاً ساحة للاستخبارات الإقليمية والدولية والقوى المتصارعة على ذلك الجزء الحيوي جداً من العالم.
ولا ننسى الدرس الصومالي البشع، صحيح أن الشعب الصومالي استطاع التخلص من الطاغية سيئ الصيت محمد سياد بري، لكنه فشل بسبب احترابه الداخلي ونزاعه الدموي على السلطة فيما بعد في بناء صومال جديد أفضل من ذلك الذي كان يرزح تحت ربقة الطاغوت سياد بري.
ولو قارنا وضع الصومال في عهد الطاغية القديم بوضع البلاد بعده لرأينا حجم الدمار والانهيار اللذين حلا بالبلاد على مدى السنين الماضية. فقد أصبح الصومال مضرباً للأمثال في التشرذم والفشل والتفكك.
فبدل أن يبني الصوماليون دولة ديموقراطية حديثة بعد التخلص من بري أنتجوا دولة فاشلة بامتياز، لتصبح البلاد مرتعاً ليس فقط للعصابات المحلية المتقاتلة بل أيضاً للطامعين والعابثين بأمن واستقرار البلاد من خارج الحدود. ولا ننسى أن الفراغ السياسي يغري الخارج بالتدخل دائماً، لا سيما وأن الطبيعة نفسها لا تسمح بالفراغ.
ومما يجعل الكثير من بلادنا العربية الثائرة عرضة للأفغنة والصوملة أن حكامها «الأشاوس» لم يبنوا على مدى عقود دولاً حقيقية متماسكة، بل حولوها إلى مجرد تجمعات مفككة للملل والنحل والطوائف والأفخاذ والقبائل والعشائر التي لا تأمن جانب بعضها البعض. لقد حاول الطواغيت العرب ضرب مكونات البلاد ببعضها البعض على المبدأ الاستعماري الحقير: «فرّق تسد». فتلك هي الوسيلة الأفضل للطغاة العرب للسيطرة على الشعوب والتحكم برقابها.
بعبارة أخرى، ليس لدينا دول وطنية حقيقية في البلدان الثائرة بسبب غياب مبدأ المواطنة. وبالتالي، فإن بلداننا مرشحة للسقوط بسهولة في المستنقع الصومالي والأفغاني واليوغسلافي إذا ما سار الثوار العرب على النهج الأفغاني بعد سقوط الأنظمة الحالية.
وتلك ستكون أكبر هدية يقدمها الثوار للمستبدين الساقطين الذين سيكونون في غاية السعادة لتشرذم البلاد والعباد بعد سقوطهم. ولا ننسى أن الطواغيت العرب لا مانع لديهم أبداً، عندما يجدون أنفسهم محصورين في الزاوية، في تحويل بلدانهم إلى دويلات متناحرة، أو حتى الانفصال عن البلد الأم وتشكيل كيانات قبلية أو طائفية هزيلة.
لقد علمنا التاريخ أن الطغاة ربما يستطيعون بناء دول بالحديد والنار لفترة ما، كما فعل الرئيس اليوغسلافي السابق جوزيف بروس تيتو، لكن ما إن يرحل الديكتاتور أو يسقط حتى تعود البلاد إلى مكوناتها الأساسية.
وقد شاهدنا كيف تشرذم الاتحاد السوفياتي رغم قوته الجبارة، وكيف تفككت يوغسلافيا بعد تيتو إلى كيانات ودويلات متناحرة. ورأينا أيضاً كم كان سهلاً تفتيت العراق بعد رحيل الديكتاتورية. وما حل بالعراق وبيوغسلافيا ممكن أن يحل ببعض البلدان العربية ذات التنوع العرقي والطائفي والديني. لهذا على الثوار العرب أن يعملوا جاهدين على رص الصفوف بعد سقوط الطواغيت للحفاظ على النسيج الوطني وحماية الوحدات الوطنية المنهكة. بعبارة أخرى، عليهم أن يعوا الدرس الأفغاني واليوغسلافي والصومالي والسوفياتي والعراقي جيداً كي لا يقعوا في الحفرة نفسها.
ويجب على الثوار العرب أن لا ينسوا أيضاً أن هناك الكثير من القوى الإقليمية الطامعة بالمواقع الإستراتيجية للبلدان الثائرة، وهي مستعدة في أسرع وقت لمناصرة جماعة ضد أخرى لتتحول بلداننا إلى ساحات صراع كبرى تكون فيها الشعوب أكبر الخاسرين. فلا ننسى التنافس التركي والإيراني والإسرائيلي والأمريكي بطبيعة الحال على المنطقة.
وبالتالي، فإن منع التناحر بين الجماعات والمعارضات الثائرة والحيلولة دون الصراع على السلطة بعد نفوق الأنظمة الحالية أمر في غاية الأهمية كي لا نقول إننا استبدلنا قواداً بديُّوث».
منذ أسابيع ولا يزال مستقبل شمال غرب سورية المحرر شاغل الساسة والعسكريين بين مشارك في خرابها ومؤيد له وصامت عنه وعلى الرغم من اختباء هذه المدينة الوادعة في شمال غرب البلاد غير أنها في عين العاصفة وفي مركز الحدث وكأنها عاصمة كبيرة من عواصم الدول العظمى في الحروب العالمية ولا يكاد يخلو تحليل عسكري أو سياسي عميق حول مستقبل المنطقة إلا وصفرة الكيماوي تعلو وجوه المحللين وخطره لا يفارق أذهان الآمنين فيها فالمجرم من شأنه أن لا يفرق بين أداة رحيمة أو أداة قاسية للإجرام ومن تجرأ على القتل فقد القدرة على التمييز بين أنواعه ومن جرب البراميل الغبية والقصف العشوائي وقطع الرقاب بالسكاكين لن يتردد لحظة عن استخدام ما أتيح له من وسائل للوصول لمآربه.
وعلى الرغم من الفزع الذي يجعل حروفي ترتعد وهي تنتظم في جمل للحديث عن كيماوي الأسد إلا أن ذاكرتي المختنقة بأحداث الاعتداءات السابقة والتي بلغ عددها نحو 125 حسب المنظمة السورية لحقوق الإنسان والتي استخدم فيها بشار الكيماوي غاز الخردل والسارين والكولرين والفوسفور وغاز الأعصاب وكأنه عابث مجنون يجرب في مطبخه ما وصلت إليه يديه الملطختان بالدم ولم تردعه من قبل خمس قرارات صدرت عن الأمم المتحدة تتعلق باستخدام الكيماوي كان أولها القرار رقم 2018 في أيلول عام 2013 الذي أعقبه ما يقارب 182 هجوم شنيع بلا تردد.
وقد أثبت في العديد من المرات بشكل رسمي استخدامه لهذه الأسلحة المحرمة والمجرمة بناء على تقارير لجان التحقيق المشتركة المنبثقة عن القرار الأممي 2235 التي فشلت في مهمتها رسمياً وتم حلها كما فشل المجتمع الدولي في وضع حد لتمادي النظام في استخدام هذا السلاح وحسب ما أوردته صحيفة الغارديان في مقال مخصص لها عن استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيماوية فإن عدم توانيه عن استخدامها يعود لسببين: أولاهما يقينه من نجاته من أي ملاحقة دولية إثر كل هجوم والثاني هو امتلاكه لها ورغبته بذلك.
ولا يخفى على سوري أن النظام لا يزال يمتلك قسم كبير من هذه الترسانة التي يطورها منذ 40 عام وقد أكد ذلك أحد قادة الحرس الجمهوري الذي تعمد أن يسرب أنباء تقول أن النظام لا يزال يحتفظ بالمخزون الأكبر منها في خمس مواقع رئيسية في سورية ويضاف على كلامه تصريح للعميد أحمد بري رئيس أركان الجيش الحر أن النظام لا يزال يصنع هذه الأسلحة والمواد السامة وعلى الرغم من أنه يجد استخدامها أمراً متاحاً وخاصة بعد الإعلان الأخير عن دراسة الولايات المتحدة خيارات الانسحاب من شرق سورية وعدم قدرتها على فرض خطوط حمراء في سورية حسب صحيفة الواشنطن بوست إلا أن السؤال الذي لا يزال يتكرر في أذهان السوريين إلى اليوم لماذا يصر الأسد على استخدام هذه الأسلحة المحرمة والمحرجة مع العلم أن كل التصريحات الغربية تتوعده في حال استخدمها تاركة لها نوافذ استخدام أسلحة لا تقل وحشية ودموية خلفت مئات آلاف الضحايا ولعل الإجابة على هذا السؤال تدعونا للتفكير في الاحتمالين التاليين:
1- كلفة المعارك الباهظة عسكرياً واقتصادياً:
يعتمد النظام بشكل كلي في معاركه الأخيرة على ميلشيات مستأجرة سياسياً أو طائفياً أو مالياً والتي يبلغ تعدادها ما يقارب 200 ألف بالمقابل فإن أعداد عناصر الجيش السوري لم تعد تتجاوز 25 ألفاً حسب تقرير معهد الشرق الأسط في واشنطن أي ما يعادل جهاز شرطة لمدينة واحدة في سورية لا أكثرو بالتالي فإن هذا النزيف الحاد في تعداد القوات النظامية لا يسمح له بخوض معارك استنزاف إضافية تؤدي إلى فقدان المزيد من العناصر أو تتطلب مزيداً من التنازلات والمقايضات مع الميلشيات الداعمة له وبالتالي فإن سلاح الكيماوي يعتبر وسيلة سهلة تقصم ظهر المعارضة وتنهي المعارك وترضخ المعارضة وتجبرها على الاستلام حفظاً للأرواح تحت ضغط أخلاقي وشعبي ويعتبر الأسد هذه الاستراتيجية ناجحة من خلال العديد من التجارب التي خاضها مع شعبه والتي كان آخرها هجوم الكيماوي في الغوطة الشرقية عام 2018 والتي أنهت محاولة المقاومة الأخيرة من قبل المعارضة.
بنفس الوقت فإن النظام المجرم دولياً فاقد الشرعية المعاقب اقتصادياً وعسكرياً المقاطع عربياً يعتبر أن الكلفة الدبلوماسية والسياسية جراء استخدامه الكيماوي أهون وأخف من الكلفة العسكرية للمعارك فهذا السلاح بالنسبة له ضامن للحسم العسكري بينما العمليات البرية تعتبر ذات تكلفة اقتصادية وعسكرية كبيرة جداً لم يعد يملك الموارد الكافية لتأمينها في حين أن النظام يعلم تماماً من خلال موافقة روسيا على كل الهجمات الكيماوية التي ينفذها بأن الأخيرة ستؤمن له الحصانة الحقيقية من أي رد فعل غربي على مغامراته الإجرامية وأن ردود الفعل لن تضعه في ضغوط أسوء مما هو عليه الآن أي بمعنى آخر لم يعد للنظام ما يخسره سياسياً واقتصادياً وهو محصن عسكرياً من قبل روسيا.
2- الأثر النفسي:
لم تتوقف أجهزة الاستخبارات السورية والمستشارون الأجانب للحظة عن صناعة بروباغاندا تؤثر بشكل إيجابي على داعميه وتحبط معارضيه لتدفعهم إلى العودة إلى حضن المخابرات والانتقام ولعل لمثل هذه الانتصارات السريعة عبر استخدام الكيماوي أثراً كبيرا في نفوس داعميه حيث يظهر نفسه إثر كل حملة عسكرية على بلدة أمنة يسمم أطفالها بمظهر القوي المنتصر القادر على الحسم بسرعة وكأن جيوشاً جرارة تقاتل إلى صالحه وفي الواقع فإن جيوشه الجرارة ليست أكثر من غازات سامة ومواد كيميائية قاتلة ولكن الماكينة الإعلامية الرسمية المنحرفة عن أخلاقياتها الإعلامية لا تركز في أي من دعايتها على أخلاقيات الحرب من تدمير للبنى التحتية والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق المدنيين باستخدام هذه الأسلحة المحرمة دولياً.
بالإضافة إلى ذلك فإن النظام يريد أن يمرر رسالة إلى داعميه والحاضنة الشعبية للثورة بأنه نظام لا يزال يحظى بحصانة دولية وأن الضغوط الممارسة عليه هي ضغوط ظاهرية هدفها إرضاء بعض الدولة العربية أو غرضها ابتزاز إيران وهو يتكأ في ذلك على عجز أو عدم رغبة المجتمع الدولي عن محاسبته قانونياً وجر كل المجرمين المتورطين إلى محكمة الجنايات الدولية أو التدخل تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحددة وبالتالي فإن يريد أن يكسر أمل ملايين السوريين بالتغيير ويشكك في الدعم الدولي لقضية الثورة السورية العادلة.
أخيراً فإن أكبر صدمة شعبية سورية كانت ليست في تجاوز المجتمع الدولي صمته تجاه استخدام النظام أسلحته المحرمة دولياً وتركته مدججاً بالمزيد من هذه القدرات بل كانت في السماح له بتولي رئاسة مؤتمر نزع السلاح الكيمائي في سوسرا وكأن المجتمع الدولي جعل النظام السوري الخصم والحكم ويصدق في هذا يأس المتنبي من عدالة تأتي من ظالميه حيث قال: يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.
الاستماع لنتائج الادعاء في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وباغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مؤلمة بالنسبة لمستقبل هذا البلد. لقد أكد المدعي العام أن «الأدلة لدى المحكمة تشير إلى أن المتهمين بدر الدين وعنيسي وصبرا لدى توجيه قرار الاتهام بحقهم تم الاعتراف بهم من قبل القيادة العامة لـ «حزب الله» على أنهم إخوة من المقاومة وأنهم من الشرفاء وأنه تم تكريمهم من «حزب الله» لدى وفاتهم وحضرت مراسم تشييعهم شخصيات بارزة من المنظمة». وتابع المدعي العام أن النظام السوري في صلب مؤامرة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عارضاً الظروف السياسية التي سادت حينها من إجبار الرئيس الحريري على التمديد لرئاسة اميل لحود إلى اجتماعات المعارضة اللبنانية في البريستول واستعداد الحريري لانتخابات مع المعارضة والقرار ١٥٥٩ المطالب بإخراج الجيش السوري من لبنان وتجريد الميليشيات من الأسلحة».
ادعاء المحكمة أكد ما كان يعرفه جزء كبير من المراقبين للحياة السياسية في لبنان. ولكن هذه الجلسات ونتائج ما تؤكده تطرح مشكلة مأسوية للمواطن اللبناني النزيه والمستقل، وهي كيف يكون مستقبله في ظل هيمنة حزب تواطأ لخدمة نظام بشار الأسد لقتل رئيس حكومة لبناني دفع ثمن حياته ورفاقه لتحرير بلده وإنعاشه وجعل العالم يهتم به. فالسؤال الآن ونجل الرئيس الشهيد سعد مكلف تشكيل حكومة البلد كيف سيكون مستقبل لبنان مع حزب مهيمن بسلاحه على كل قرارات الدولة بما فيها اختيار الرئيس وقانون الانتخاب والتحالفات الدولية وفرض العلاقات مع النظام السوري القاتل. من هذا المنطلق لا أمل ليس فقط في لبنان ولكن أيضاً في منطقة جواره المباشر حيث يترك نظام مجرم لم يكتف فقط بقتل رئيس حكومة لبنان ورفاقه وكل الشهداء بعدهم بل أكمل عمله داخل بلده يقتل مئات الألوف من شعبه ويشردهم طالباً مساعدة إيران و«حزب الله» وروسيا لإبقائه على رأس بلد دمره. فمهما كانت حكومة لبنان وإن تم تشكيلها أو لم يتم وإن بقي الحريري أو اعتذر وأتى غيره... فإن المستقبل في هذا البلد مؤلم إذ إن جزءاً كبيراً منه ينكر الواقع الأليم وهيمنة «حزب الله» وعودة وكلاء النظام السوري إلى السياسة في لبنان. وهذا الجزء يدعي أن المحكمة الدولية مخطط دولي يريد النيل منه في حين أنها قضاء دولي يؤكد حقائق لا يمكن نفيها. إن بقاء بشار الأسد تحت حكم وإرادة روسيا وإيران و«حزب الله» كارثة لسورية ولبنان والمنطقة بأسرها. ومن يعتقد أن بشار الأسد أو فلاديمير بوتين سيخرج الإيرانيين من سورية خاطئ. فلو أن إيران أجبرت على الخروج بدوافع اقتصادية ستعتمد على بقاء وكيلها اللبناني وجنوده في سورية. أما هؤلاء اللبنانيين المستعجلين في التطبيع والقيام بزيارات بشار الأسد والادعاء أن سورية مستعدة أن تزود لبنان بكهرباء رخيصة، فليعرفوا أن كل ما جاء من هذا النظام وحلفائه كان الشر والقتل والدمار والتهجير.
معروف أن رفيق الحريري لم يكن الأول من بين الشهداء الذين سقطوا بأمر من نظام عائلة الأسد ولو أنه يكاد يكون من بين أوائل كبار شهداء لبنان الذين سقطوا بأيدي منفذين من «حزب الله». أما بالنسبة للبنان فكل الذين تحالفوا مع «حزب الله» لأنه العنصر القوي والمهيمن في البلد سيكونون مسؤولين عن مصير شعب لبناني كان يمكن أن يأمل بمستقبل أفضل مما هو أمامه اليوم. المحكمة الدولية ليست كما يقول قياديو «حزب الله» «لعباً بالنار» لأن الأسد وحليفيه الإيراني و«حزب الله» وأيضاً إسرائيل المتمسكة ببقاء الأسد هم الذين يشعلون نار المنطقة. فعلى رغم تأكيد سعد الحريري أنه لن يلجأ إلى الثأر، فإن مستقبل لبنان غير مطمئن في مثل هذه الظروف. إن كل ما قيل عن النأي بالنفس عما يحدث من صراعات في المنطقة لا معنى له طالما «حزب الله» اللبناني موجود في ساحة الحرب السورية والعراق وإلى جانب الحوثيين. فكيف ينهض لبنان والحزب المهيمن يريد تشكيل حكومة بسرعة ويريد حقيبة الصحة التي قد تجلب على البلد المزيد من المآسي إذا قررت الولايات المتحدة تكثيف العقوبات عليه؟
ظروف الناس صعبة ومزرية مع النفايات المتراكمة والبيئة الكارثية والنقص الكهربائي والفضائح الشبه اليومية والفساد السائد. وحرام لبنان وشهدائه وشهداء سورية لقد قتلوا وبقيت شلة مجرمة تبحث عن شرعية دولية. ولربما تجدها لسوء حظ شعوب المنطقة في مقايضة تضمن مصالح الدول الكبرى.
التصعيد السياسي حول الوضع القلق في إدلب يتوالى على ألسنة مسؤولين كبار في الإقليم وأوروبا والولايات المتحدة، ويبدو شديد اللهجة إلى حد اعتباره إعلان حرب.
يؤكد الإعلام الأميركي أن الرئيس السوري بشار الأسد أصدر أوامره باستخدام الكيماوي في قصف إدلب. وتعلن موسكو أن مجموعة من معتمري الخوذ البيض وصلت من تركيا لتصور ضحايا القصف بالكيماوي الذي ينسبه الروس إلى المعارضة المتطرفة لا إلى جيش الأسد. ويكرر جون بولتون كلام الرئيس دونالد ترامب عن استعداد عسكري أميركي للردّ على استخدام الكيماوي في معارك إدلب المتوقعة. ويبدو أن قوى كثيرة ترغب في خوض تلك المعارك، آخرها المانيا التي تنسق مستشارتها أنغيلا مركل مع الحلفاء مشاركة جيشها في الحرب. كأننا على عتبة حرب عالمية تخاض في المنطقة التي ولد فيها وعاش أبو العلاء المعري، الشاعر والمفكّر الذي نقلت مؤلفاته الى لغات العالم الحية، وقدم فيها رسائل انحياز إلى الإنسان مشككاً بالحماسات العاطفية العمياء التي تتسبب بقتل بشر وتحطيم عمرانهم بلا مسوّغ منطقي.
عضّ على الأصابع قبل حرب إدلب، بل هو عضّ للأصابع حتى إسالة الدم وتحطيم العظام.
حشود عسكرية روسية وسورية مع ميليشيات موالية لإيران، وحشود تركية على الحدود، وتعنت المسلحين المتطرفين حين يصمّون آذانهم عن نداءات أردوغان بتسليم السلاح الثقيل وترحيل الأجانب منهم إلى بلادهم أو إلى أي مكان يستقبلهم. وبذلك تضمن الإدارة التركية حلاً يقي إدلب ومنطقتها، بل البلاد المجاورة وأوروبا، نتائج القتل والهدم والنزوح إلى أماكن قريبة أو بعيدة.
ولكن، هناك من يعتبر الحرب أول الحلول لا آخرها، وليس النظام السوري وروسيا وحدهما في هذا الخيار بل هناك أيضاً قوى أجنبية، تعتبر نفسها صديقة للشعب السوري، متحمسة لخوض الحرب تأكيداً لحصصها مادياً واستراتيجياً.
لكن المعركة، إذا حدثت، ستكون قاسية جداً على الروس وجيش الأسد كما على المعارضين المسلحين ومناصريهم في تركيا وأوروبا والولايات المتحدة. ويقدّر العارفون بأن معركة معقدة مثل هذه ستستغرق ستة أشهر على الأقل، ولا أحد يتوقع لها نتائج محددة، فمنطقة إدلب حساسة لتركيا ولنظام دمشق ولقواعد الجيش الروسي في حميميم، كما أن نتائجها الكارثية ستمتد الى أوروبا، استناداً الى تهديد الرئيس التركي بتسهيل نزوح سكان منطقة إدلب غرباً، وعددهم حوالى ثلاثة ملايين، فيشكلون ضغطاً على الدول والمجتمعات الأوروبية لن تحتمله، خصوصاً مع المتغيرات السياسية والاقتصادية الناتجة عن النزوح الأخير للسوريين وغيرهم إلى القارة العجوز. هنا قد تتطور حرب إدلب الى ما يشبه معركة أوروبية للدفاع عن أوروبا، تماماً عند حدود بحر إيجة، وما يحمل هذا التطور من صعود دراماتيكي لليمين المتشدد يهدد جوهر الديموقراطية في بلاد أطلقتها ونشرتها في العالم.
إدلب أمام احتمالين، الأسوأ والأخطر. ويرجح معارضون سوريون معتدلون الاحتمال الأول مستندين إلى العلاقة المتينة بين موسكو وأنقرة التي يحرص عليها الطرفان، فالروس لا ينسون تسهيل تركيا سيطرة النظام على حلب التي مهدت لسيطرته لاحقاً على الغوطة والجنوب السوري، والأتراك يقدرون لروسيا وقوفها معهم في أزمتهم الحالية مع الولايات المتحدة. لذلك يرجح المعارضون حصول حرب قاسية تؤدي إلى سيطرة النظام على جسر الشغور والغاب، ما يعني تأمين سلامة القواعد الروسية في حميميم وسلامة اللاذقية، قلب النظام. وما تبقى من ملف إدلب تتابعه أنقرة على طريقتها، مشددة في الوقت ذاته على حلّ شامل في شمال سورية ينهي إرهاب «النصرة» والإرهاب الذي تنسبه تركيا إلى المسلحين الأكراد، معاً وفي وقت واحد.