تجتاح الائتلاف الوطني السوري أزمة عميقة متعددة الأبعاد؛ بعدها الأول، يتصل ببنية الائتلاف من حيث النصوص التي تحكمه، وطبيعة العضوية فيه، والبعد الثاني يتصل بطبيعة وواقع المعارضة السورية، التي يضم الائتلاف طيفا واسعا من تنظيماتها ومن الشخصيات المستقلة فيها، والبعد الثالث يتعلق بنتائج السياسات المحلية والإقليمية والدولية، التي تحيط بالقضية السورية، وتجعلها في مدار استمرار الأزمة، أكثر مما تدفعها في طريق المعالجة وصولا إلى حل يخرج بسوريا والسوريين إلى واقع جديد.
وإذا كانت أسباب الأزمة في الائتلاف ليست جديدة، وقد كررت أزمات متواصلة فيه منذ تأسيسه قبل عامين، فإن الجديد الذي فجر الأزمة الحالية، إنما هو تفاعلات تلك الأسباب وعجز الائتلاف عن معالجتها بصورة جوهرية أو تمريرها، حيث كانت الجهود في كل الأزمات السابقة، تركز على إيجاد مخارج وقتية للأزمة، فيتم التوصل إلى حلول ومعالجات، تؤدي إلى خروج مؤقت من أزمة، ما تلبث أن تبدأ في خلق أزمة تحتاج إلى معالجة، مما جعل الائتلاف بؤرة أزمات، يخرج من واحدة ليبدأ الدخول في واحدة أخرى.
ولأن أزمات الائتلاف عميقة ومتعددة الأبعاد، فقد كان من الطبيعي، أن لا تشمل الأزمات وتعبيراتها البنية التنظيمية للائتلاف وتوجهاته السياسية وعلاقاته الداخلية والخارجية فقط، بل امتدادها إلى مؤسساته الثلاث: الحكومة السورية المؤقتة ووحدة تنسيق الدعم والمجلس العسكري الأعلى، والتي تفاقمت أوضاعها على نحو خاص في الأشهر القليلة الماضية، مما جعلها عناوين بارزة في أزمة الائتلاف، ومركزا تدور حوله اختلافات الائتلاف الوطني.
والحقيقة فإن هذه المؤسسات عانت دائما – كما هو حال الائتلاف - وخاصة في الفترة الأخيرة من مشكلات كثيرة، أبرزها انسداد الأفق السياسي للقضية السورية، حيث لا حلول ولا مبادرات لمعالجة القضية، مع تهميش دولي وإقليمي للائتلاف في وقت يستمر فيه النظام بسياسة القتل والتهجير والتدمير، ويستمر التطرف والإرهاب بالتمدد في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وينحسر نفوذ ووجود التشكيلات العسكرية المعتدلة المنخرطة تحت اسم الجيش الحر، ويضيق الحيز الممكن لحركة الحكومة السورية المؤقتة ووحدة تنسيق الدعم، وتزداد الأعباء عليهما في الإغاثة بكل مجالاتها، وتتوقف المساعدات أو تتقلص بما فيها مساعدات الأمم المتحدة، التي انخفضت بنسبة أربعين في المائة في وقت كان من المطلوب أن تتضاعف على الأقل.
لقد تسببت التطورات السابقة بارتباكات جديدة، زادت الارتباكات الأساسية في الائتلاف الوطني، ودفعت القوى والشخصيات المنخرطة فيه إلى تجاذبات، تسعى إلى حلول ومعالجات، لم تراعِ ضرورة الوحدة والتضامن والتكافل، فانطلقت في اتجاهين منفصلين، دخلا في مواجهات تأثرت بعوامل داخلية وخارجية، كانت وما تزال عواملها قائمة في واقع الائتلاف والقوى المتشاركة فيه، مما أعاق معالجة الأزمة، وأدخل الائتلاف في مشاكل أغلبها تفصيلي، ولا يستحق التوقف عنده أو الاهتمام به في ضوء الضرورات والاستحقاقات القائمة.
خلاصة الأمر في واقع الائتلاف ومؤسساته اليوم، تشير إلى أن الأزمة المتجددة، واضحة الأسباب، وأن مواجهتها ومعالجتها ولو جزئيا ممكنة، إذا توفرت الإرادة السياسية لدى الأطراف الفاعلة في الائتلاف، وجرى تخفيف التأثيرات الخارجية الإقليمية والدولية وعقلنتها، وكله سيعزز فرصة الخروج من الأزمة، والتي سيكون مسارها متضمنا في المستوى التنظيمي تعديلات في النظام الأساسي للائتلاف، وفي المستوى السياسي وضع برنامج أو رؤية سياسية، تحدد المشتركات العامة للقوى المتحالفة في الائتلاف، وفي مستوى عمل المؤسسات، التي ينبغي إخراجها من التجاذبات السياسية، والتركيز على تخصصاتها وقدراتها العملية، وبالاستناد إليها فقط، يتم تشكيل حكومة، تتولى الأمور التنفيذية في مجال الإغاثة والخدمات والتنمية البسيطة، وتعود وحدة تنسيق الدعم إلى دورها الوسيط بين المانحين والحكومة التنفيذية، وتتم عملية إعادة بناء المجلس العسكري والأركان، التي ينبغي أن تكون ممثلة للتشكيلات العسكرية المعتدلة الموجودة على الأرض فعلا، والتي تتوفر لديها إرادة للوقوف في وجه إرهاب النظام من جهة وإرهاب جماعات التطرف مثل «داعش» و«النصرة».
إن المخرج المطروح، يكاد يكون متوافقا عليه في الائتلاف، وهو يحتاج إلى هدوء وروية وصبر لتنفيذه من جانب القوى الفاعلة، لكنه ومن أجل إقلاعه، يحتاج إلى دعم ومساندة من جانب السوريين خاصة ومن جانب الأقرب في حلفاء الشعب السوري ومناصريه في المستويين الإقليمي والدولي عموما. وما لم يحصل ذلك بصورة عاجلة، فإن الائتلاف سيفقد قدرته على الوجود والفعل، وقد ينفجر ويتلاشى. ربما هي الفرصة، التي لن تكون بعدها فرصة!
بدت الاتهامات السياسية والإعلامية لتركيا بدعم تنظيم داعش غريبة، مسيّسة، ومنفصلة عن الواقع، ومتناقضة، ليس فقط مع توجهات الحكومة التركية وسياساتها، المعلنة والواضحة، وإنما حتى مع التطورات والمستجدات المتسارعة في سورية والعراق، والتي أدت إلى ظهور التنظيم، وتصاعد قوته وتأثيره في البلدين الجارين لتركيا.
بداية، لم يكن لأنقرة أي دور في ظهور التنظيم، أو تمكينه من السيطرة على مساحات شاسعة من العراق وسورية. فتركيا لم تأمر جيش نوري المالكي بالانسحاب من الموصل والحدود العراقية مع سورية، وهي لم تكن الطرف الذي سهل للتنظيم الاستيلاء على كميات ضخمة من السلاح الأميركي الحديث المكدّس في ثكنات جيش المالكي الطائفي. وقبل ذلك، انسحب جيش الأسد، بشكل مريب، من الجانب السوري من الحدود مع العراق وتركيا، لتسهيل انتشار وتنقّل التنظيم وتنقله وسيطرته على منابع النفط، وآبار الغاز في المنطقة التي تمثّل مصدر القوة المالية الهائلة له.
وبالتأكيد، لم تقف أنقرة خلف إطلاق النظام السوري، بعد شهور على اندلاع الثورة، قيادات التنظيم وكوادره في معتقلاته، لشيطنتها (الثورة) وتسويد صفحتها، وصبغها بالدم، علماً أنهم اعتقلوا من دون تهم، وبالتأكيد من دون عملية أو عمليات قضائية عادلة شفافة ونزيهة.
وقبل ذلك وبعده، مثّل نظام بشار الأسد في الشام، كما نظام نوري المالكي في العراق، البيئة أو الحضّان الأساس لداعش، عبر القتل الممنهج، الذي وصل إلى حد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإقصاء الممنهج والمستبد لتيارات سياسية وشعبية واسعة ومتجذرة في العراق، كما في سورية، ناهيك عن الاستئثار بالقرار السياسي الاقتصادي والأمني في البلدين.
بناءً على ما سبق، بدا غريباً ومستهجناً اتهام تركيا بدعم تنظيم داعش، وتحميلها المسؤولية عن تمدده وممارساته، هذا الاتهام المنطلق من أجندات سياسية وإعلامية لجهات متخاصمةٍ متقاتلةٍ متباعدة، لكنها اجتمعت على النيْل من النموذج التجربة والسياسة التركية، وشيطنة أنقرة واستنزافها للحدّ من نهوضها وصعودها المحلي الإقليمي، وحتى الدولي، وعلى جبهات متعددة ومتنوعة.
الجهة الأولى، التي لم تتوقف عن التصويب ضد تركيا وانتقادها، بسبب أو بدونه، هي الجهة أو الجهات المساندة للنظام السوري، والمتورطة معه في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها في حق شعبه الثائر والمستضعف، وهذه سعت، دائماً، من أجل الانتقام من تركيا لموقفها الداعم للثورة، والرافض لممارسات النظام وجرائمه، كما لتقديمها نموذجاً مختلفاً عن نموذج الاستبداد والفساد، بتجلياته الدينية والقومجية، وللفت الانتباه عمّا فعلته وتفعله تلك الجهات من بث للتحريض والفتنة في العالم العربى.
" بدا مفاجئاً انخراط جهات غربية أميركية وأوروبية في الهجمة السياسية والإعلامية ضد أنقرة "
الجهة الثانية التي تبدو، ولو من حيث الشكل، معارضة أو متناقضة مع الجهة الأولى، هي التي دعمت الانقلاب في مصر، وتريد محاسبة أنقرة على موقفها الأخلاقي والسياسي الصحيح، ضد الانقلاب والدفاع عن حق تيار الإسلام السياسي في مزاولة السياسة، والتعبير عن نفسه، بعيداً عن سياسة الإقصاء والتهميش، وهي تسعى، أيضاً، إلى النيل من النموذج التركي السياسي الاقتصادي والاجتماعي الناهض والناجح، والذي أحدث الطفرة الاقتصادية والاجتماعية في البلد غير النفطي، والمعتمد على إمكاناته وثرواته، من دون هيمنة أو مشاركة أجنبية في مقدراته وتوجهاته.
الجهتان السابقتان الداعمتان للنظام المجرم في الشام، والانقلابي في القاهرة، تورطتا، طوال الوقت، ضد تركيا سياسيّاً وإعلاميّاً، وربما أمنيّاً أيضاً، غير أن ما بدا مفاجئاً انخراط جهات غربية أميركية وأوروبية في الهجمة السياسية والإعلامية ضد أنقرة، في حملة ابتزاز واضحة لإجبارها على الانصياع للتوجهات الأميركية، وخوض الحرب البرية ضد داعش، وفق المصالح والأهواء الغربية والأميركية، من دون أي اعتبار للتصورات والمصالح التركية، أو مصالح أهل المنطقة وشعوبها، ومن دون أي اهتمام أو تركيز على جذور الأزمة، أو البيئة السياسية والأمنية التي أنتجت داعش وأخواتها.
التحالف غير المعلن، ولكن الواضح والصارخ والفاضح من الجهات الثلاث، سيئة الذكر، وعلى الرغم من الحملة المسعورة والمتشجنة لم ينجح في ابتزاز تركيا، أو إجبارها على اتخاذ مواقف، تتناقض مع قناعاتها ومصالحها. ببساطة، لأن في أنقرة سلطة قوية منتخبة واثقة من نفسها تستمد شرعيتها وقوتها من شعبها وجماهيرها، وتمارس اللعبة السياسية، كما ينبغي بحكمة ومسؤولية، وتدافع أولاً وأخيراً عن مصالح البلد وحقوقه، وهي كانت، وما زالت، حاضرة دائماً للخضوع لامتحان الشعب، بصفته المرجعية العليا، وصاحب الكلمة الفصل والحاسمة تجاه الحكومة، وسياساتها الداخلية والخارجية.
لا أدري، نضحك أم نبكي عندما نسمع وسائل إعلام «المماتعة والمقاولة» وهي تتشدق بصمود بشار الأسد والانتصار على «المؤامرة الكونية» وإفشالها. فإذا كانت المؤامرة قد فشلت، وأدت إلى دمار سوريا وتهجير شعبها، فكيف لو نجحت، لا سمح الله؟ كيف كان سيكون وضع سوريا؟ ربما انتصار آخر ويختفي بلدنا عن الخارطة!
يا من تتفاخرون بصمود بشار الأسد وانتصار الدولة السورية: لو عرفتم الحقيقة، لبكيتم دماً على «صموده» المزعوم حتى الآن، فلو سقط، كما سقط حسني مبارك وزين العابدين بن علي، لما وصلت سوريا إلى هنا. بشار الأسد، أيها المغفلون، لم يصمد، بل أراده أعداء سوريا أن يبقى كل هذا الوقت كي يدمروا بلدنا من خلاله وبواسطته. ونجحوا. لاحظوا أن سقوط مبارك وزين العابدين بن علي في مصر وتونس خلال أسابيع انقذ مصر وتونس من الخراب والدمار الذي حل بسوريا بسبب عدم سقوط الأسد. ولو بقي مبارك وبن علي في الحكم، لكانت مصر وتونس الآن في وضع مشابه لسوريا، لا سمح الله. لكن سقوطهما أنقذا تونس ومصر، وكان نعمة عليهما، بينما كان «صمود» بشار المزعوم نقمة على سوريا والسوريين.
لقد بدأ أعداء سوريا، بمن فيهم روسيا وإيران، على تطويل أمد المحنة السورية ودعم بشار الأسد ورفض أي محاولة لتنحيه عن السلطة منذ اللحظات الأولى. لقد تمثلت المؤامرة الكونية الحقيقية على سوريا في الإبقاء على الأسد، لأن بقاءه يضمن المزيد من الدمار والانهيار خدمة للأعداء.
بشار الأسد كنز استراتيجي لإسرائيل وأمريكا من الناحية العملية، فقد نفذ كل ما تريدانه، وربما أكثر بكثير. هو المغناطيس العظيم الذي جذب إلى سوريا كل أنواع الأشرار ليحولوها إلى أنقاض.
ماذا يريد أعداء سوريا أجمل من ذلك؟ المنطقة بأكملها على كف عفريت بفضل خدمات بشار الأسد. إنه القائد لمشروع الفوضى «الهلاكة». ولو تخلوا عنه في بداية الأزمة السورية، لما استطاع ضباع العالم إيصال الشرق الاوسط إلى ما هو عليه الآن من فوضى واضطرابات وكوارث وقلاقل؟ ولو أرادت أمريكا وإسرائيل لتكافئانه، لشيدتا لبشار تماثيل من ذهب. ومما يؤكد ذلك أن إحدى العواصم شهدت مؤتمراً هاماً مغلقاً حول سوريا قبل مدة، حضره كبار الاستراتيجيين والمسؤولين الغربيين والدوليين: فسأل أحد الحضور مسؤولاً كبيراً: «لماذا لا تتدخلون في سوريا»، فأجاب المسؤول: «الوضع في سوريا مثالي جداً بالنسبة لنا، فكل السيئين الذين نكرههم يخسرون، ويهلكون في سوريا.
كان بإمكاننا أن ننهي بشار الأسد بسهولة، لكن لو أنهيناه، لتوقف الدمار المطلوب. نحن نريد بقاءه مرحلياً، لأنه أشبه بالمغناطيس الذي يجتذب السيئين إلى المحرقة السورية، فيحرقهم، ويحترق معهم».
أيها المتشدقون بصمود بشار: لا تتفاخروا إذاً، بل ابكوا على وطن تمزق، وانهار، وشعب تشرد بسبب «صمود» بشاركم. وهو ما يريده أعداء سوريا بالضبط. أمريكا تدعو إلى تنحي بشار، وروسيا ترفض. لعبة مفضوحة منذ سنوات هدفها تمديد فترة الدمار. يوماً ما ستندمون على التصفيق للصمود «المسموم» الذي كلفنا وطناً، وجعل شعبنا طعاماً للأسماك في عرض البحار، وجعلكم انتم أيها الشبيحة تتسابقون على تقديم طلبات اللجوء في ألمانيا وغيرها.
صمود بشار حتى الآن أشبه بالشجرة التي تحجب الغابة، يستخدمونه ستاراً وذريعة مكشوفة للإجهاز على ما تبقى من وطن كان اسمه سوريا.
سحقاً لصمود كلفنا وطناً كان اسمه سوريا!
لا شكّ أن إيران تتحرّك من أجل تحقيق هدفها الاستراتيجي في السيطرة على العالم الإسلامي وتقاسم النفوذ مع "إسرائيل" ودول غربية لها مصالحها أيضاً، ومن أبرز محطّات حلم الإمبراطورية الفارسية هو تحويل الخليج العربي إلى خليج فارسي كما تؤمن وتخطّط وتعمل لأجله، والذي لن يتحقّق لها إلا بتدمير كيان الدول الخليجية وتفكيكها، لا قدّر الله. وممّا لا يختلف فيه أبداً أن الصفوية الإيرانية تمدّدت لحدّ ما، وزرعت شبكاتها من خلال علاقات عميقة مع بعض الأنظمة العربية، وأيضاً بالسيطرة العقدية والاستخباراتية على الشيعة العرب في المنطقة.
ثمة دول علاقاتها مميزة مع إيران رغم كل ما تقوم به من أدوار قذرة ضد أمن الخليج واستقراره، كما أنه يوجد في الدول الخليجية نفسها عدد لا يستهان به من الشيعة، رغم الاختلاف القائم حول نسبتهم العددية، فالطرف الشيعي يعطي نسباً عالية، وفي المقابل يوجد من الجانب السنّي من يعطي نسباً أقل، ونسجّل غياب أرقام رسمية من جهات محايدة لحدّ الآن. وطبعاً هذا الغموض العددي والتضارب الرقمي يؤجج الصراع السنّي الشيعي المتصاعد، وهذه مصلحة تتقاسمها أطراف عديدة، وتستفيد منها إيران بلا أدنى شك.
إن لم نقل أغلبية الشيعة الخليجيين، فنسبة كبيرة منهم ولاؤهم المطلق لطهران وليس لعواصم بلدانهم، وهذا لأسباب كثيرة، منها داخلية وأخرى خارجية، كما أن أبرز سبب هو نجاح إيران بامتياز في التسويق لنفسها على أنها حامية حمى الشيعة في كل العالم، وعاصمة "آل البيت" الأبدية هي طهران، كما فرضت عليهم التبعية الدينية المطلقة من خلال "ولاية الفقيه"، وأشياء أخرى ليس مجالها الآن.
أخطبوط يزحف على الخليج
منذ نجاح ثورة الخميني عام 1979 في السيطرة على الحكم، وإيران تعمل استخباراتياً ودينياً وسياسياً ودبلوماسياً وأمنياً على تصدير ثورتها الصفوية، وقد استغلّت في تمدّدها بوابة التشيّع التي أتاحت لها فرصة اختراق العالم العربي، خاصة مع الهالة التي اكتسبتها ثورة الخميني التي سماها بـ "الإسلامية" لمخادعة الشعوب ودغدغة عواطفهم الدينية في ظل انكسارات وهزائم تلك المرحلة، خصوصاً مع الكيان العبري، وقد أثّرت بالفعل في المسلمين العوام الذين انبهروا بها لحدّ بعيد، فتشيّع صفوياً عدد لا يستهان به في دول المغرب الكبير والخليج العربي والجاليات العربية والإسلامية في أوروبا، وتمدّدت حتى بلغت إلى دول أفريقية لا يشكّل فيها الإسلام الأغلبية، فضلاً عن تلك التي دينها الأول هو الإسلام.
بعدما تمكّنت إيران من صنع قاعدة شيعية متصفونة لمشروعها في عدّة دول توجّهت نحو مرحلة أخرى من مخطّطها العنصري الخطير، وتتمثّل في صناعة المليشيات المسلحة التي من دونها لن تتمكّن من التأثير في مصير هذه الأقطار، وكان لها ذراعها العسكري في لبنان عبر حركة أمل الشيعية التي خرج من رحمها "حزب الله"، الذي يضع مبدأ ولاية الفقيه فوق كل اعتبار، بل يرى أن لبنان مجرّد ولاية تابعة وخاضعة للولي الفقيه، الخميني حينها، وخامنئي حالياً، وهو الذي ردّده حسن نصرالله وغيره.
كما أنها حاضرة في فلسطين من خلال حركة الجهاد الإسلامي خاصة، وتحاول اختراق تنظيمات المقاومة الأخرى عن طريق شعارات المقاومة والتقارب المذهبي ونبذ الطائفية والمصالح المتبادلة وغيره، بل وصلت إلى أفغانستان من خلال كتائب مسلّحة شيعية عملت تحت وصايتها واستغلتها لاحقاً في إسقاط حكومة طالبان عام 2001، وهو ما أقرّ به مسؤولون إيرانيون، منهم محمد علي أبطحي، نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية، الذي صرّح من الإمارات العربية المتحدة في يناير /كانون الثاني 2004 الذي قال: "لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة".
أيضاً، حاولت أن تخترق البوسنة؛ حيث عرضت الدعم المادي والعسكري والغذائي للمجاهدين مقابل السماح للإيرانيين بنشر التشيّع، غير أن الرئيس علي عزت بيغوفيتش -رحمه الله- رفض ذلك رفضاً قاطعاً، وقال للمبعوث الإيراني: "لن نبيع الآخرة من أجل الدنيا، ولن نبيع إسلامنا من أجل حفنة من المساعدات". وهذا طبعاً يكذّب، جملة وتفصيلاً، ما زعمه حسن نصرالله بأن حزبه الإيراني شارك في الدفاع عن المسلمين السنّة بالبوسنة والهرسك ضد الهجمة الصربية.
كما عملت على أن تصنع لها ذراعها العسكري خلال الحرب الأهلية الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي، عبر "الجماعة الإسلامية المسلحة"، ونجحت في إيصال أحد المتشيّعين الجزائريين، يدعى محفوظ طاجين، إلى المنصب الأول في إمارة التنظيم الأكثر دموية حينها، غير أن التنظيم انقرض بعد هبّة شعبية ضده. وما تزال إيران تتمدّد في الجزائر، ووجدت البيئة المساعدة في عهد الرئيس بوتفليقة، ووصل الحال الآن بأن الشيعة الجزائريين صاروا يتحرّكون علانية، وبينهم من يطالب بأن تصبح لهم طائفة معترف بها في البلاد.
في اليمن، تمكّنت من احتواء الحوثيين رغم أنهم من الزيدية الأقرب إلى السنّة مما يسمّى "الجعفرية".
أما في سوريا فقد رفعت إيران حكم تكفير النصيرية، وصار نظام الأسد هو نفسه ذراعها في بلاد الشام، حيث يبطش بالسوريين من أجل الحفاظ على مصالح إيران الاستراتيجية.
مع أن دول مجلس التعاون الخليجي هي الكويت والسعودية وسلطنة عمان والبحرين وقطر والإمارات، إلا أن إيران تعاملت مع العراق على أنه دولة خليجية لأنه يطل على الخليج العربي، والأمر نفسه بالنسبة لليمن؛ فهو الامتداد الاستراتيجي لدول مجلس التعاون الخليجي، وسقوط الدولتين تحت النفوذ الإيراني هو الخطر الداهم بعينه على الخليج العربي. كما لا يمكن تجاهل دولة الأحواز المحتلة التي بدورها تطلّ على الخليج العربي، ولو لم تحتلّها إيران لكانت دولة خليجية لها وزنها في مواجهة ثورة الخميني.
للتذكير أن الأحواز المحتلّة هي أول دولة عربية احتلتها إيران عام 1925 لما تحالف الشاه مع الاحتلال البريطاني فاختطف الإنجليز الأمير خزعل، أمير ما كان يسمى "عربستان"، وسلموه للإيرانيين الذين أعدموه ثم فرضوا سيطرتهم على الإمارة. والأحواز تشكل حلقة الوصل بين الدول العربية وبلاد فارس، وتحتوي على احتياطي نفطي تجاوز 180 مليار برميل، وأكثرُ من 80 بالمئة من نفط إيران هو أحوازيٌّ، فضلاً عن الثروات الأخرى المسيلة للُّعاب الصفوي.
في عام 1971 قامت إيران باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث، واحتلالها لهذه الجزر يعود لعدة أسباب، من أهمها السبب الاستراتيجي، ذلك أن هذه الجزر، وهي طنب الصغرى وطنب الكبرى ثم أبوموسى، تقع في مدخل الخليج العربي، وبها تصل سيطرة إيران إلى مضيق هرمز الذي يعدّ أهم الممرّات البحرية في العالم وأكثرها حركة للسفن، ويقع هذا المضيق في منطقة الخليج العربي فاصلاً ما بين مياه الخليج العربي من جهة ومياه خليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة ثانية، كما أنه المنفذ البحري للعراق والكويت والبحرين وقطر والإمارات.
بعد الأحواز وجزر الإمارات نجحت إيران في السيطرة على العراق بعد غزو أمريكا له في 2003، وتحولت بغداد، التي كانت غصّة في حلق الخميني، إلى مجرد مقاطعة إيرانية يستقبل رؤساء حكوماتها من الشيعة الموالين لخامنئي كأنهم ولاة محافظة وليسوا من دولة عراقية لها سيادتها واستقلالها التام.
أما اليمن، الذي هو امتداد استراتيجي لدول الخليج العربي، فقد سيطرت عليه إيران في 2014 بعد سقوط العاصمة صنعاء تحت حوافر الحوثيين، وهكذا صارت حدود إيران متاخمة للمملكة العربية السعودية.
يلاحظ مما تقدّم أن احتلال الدول العربية الذي بدأ عام 1925 من خلال الأحواز، هو عقيدة قومية فارسية، وليست عقيدة شيعية كما قد يظنّها البعض، فقد بدأ مع الشاه، وتواصل مع الخميني، ولا يزال يجري مع خامنئي، وسيبقى مع من يأتي بعده في منصب مرشد الثورة، إن لم تنقذ الدول العربية نفسها وتصنع البديل الاستراتيجي لمواجهة المدّ الصفوي الإيراني.
ربيع فارسي تريده إيران
لم تقتصر الأطماع الإيرانية على الأحواز والعراق واليمن وسوريا، بل قامت بتحريك شيعة البحرين التي هي مجرد محافظة إيرانية في العقل الصفوي، مستغلّة ثورات "الربيع العربي" التي بدأت في تونس من خلال ثورة سمّيت بثورة الياسمين التي أسقطت نظام بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011.
إيران ساندت بعض الثورات، وتصدّت وتآمرت على أخرى؛ حسب ما تفرضه مصالح مدّها الصفوي القائم في المنطقة العربية منذ سنوات طويلة. فقد دعّمت ثورة الليبيين نكاية في القذافي، على خلفية اختفاء رجل الدين الشيعي موسى الصدر، وأيضاً شطحات العقيد الليبي فيما يخص إحياء الدولة الفاطمية في أفريقيا التي ستحتوي الشيعة العرب الذين يعتبرون الخط الأحمر بالأجندة الفارسية، إذ لا تسمح بولائهم لغير إيران.
كما أن إيران باركت ثورة مصر ضد حسني مبارك الذي كانت علاقاته مقطوعة معها لسنوات طويلة، دفعتها أن تسمّي أحد شوارعها باسم خالد الإسلامبولي الذي اغتال الرئيس أنور السادات.
وهو الأمر نفسه بالنسبة إلى تونس التي لم تكن ذات أهمية استراتيجية كبيرة لدى إيران، وإن كان نشاط تشييع التونسيين قد تزايد أكثر مما كان عليه الأمر في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي؛ بسبب هامش الحرية المتاح، فضلاً عن أن الرئيس منصف المرزوقي نفسه يرى أن التشيّع يرتبط بالحريات الشخصية للمواطن، ولا يهمّه لو تتشيّع تونس برمّتها، كما قال لي شخصياً لما كان معارضاً في باريس عام 2007.
كما ذهبت إيران إلى اعتبار حراك شيعة البحرين ثورة شعبية وسلمية ضد الاستبداد مثل بقية الثورات الأخرى، ودعّمتها إعلامياً وحقوقياً وسياسياً واقتصادياً. ولكنها في الوقت نفسه وقفت ضد ثورة السوريين، ودعمت نظام الطاغية بشار الأسد؛ عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، وصار من يقاتل في سوريا ليس الجيش السوري، بل مليشيات ومرتزقة شيعة جاءت بهم إيران من كل حدب وصوب تحت تسميات مختلفة وصل إلى حدّ تحريض الشيعة على حماية "الأضرحة المقدسة"، كما يطلقون عليها.
أما في اليمن فقد دعّمت الثورة ضد علي عبد الله صالح الذي كان يحارب الحوثيين في صعدة، ثم جاء هجوم الحوثيين الذين دعّمتهم بالسلاح عبر جزر في إرتيريا، إذ إن إيران قامت باستئجار ثلاث جزر في البحر الأحمر، ومنها جزيرة "دهلك" التابعة لإريتريا، وهذا من أجل تزويد الحوثيين بالسلاح والدبابات عبر ميناء "ميدي" على البحر الأحمر والمتاخم للمياه الإقليمية السعودي الذي سيطر عليه الحوثيون قبل سقوط العاصمة اليمنية.
وقد كشف الباحث الدكتور النفيسي في 2013 عن معلومة خطيرة في هذا السياق، تتمثّل في ترتيب رحلات منذ قرابة ثلاث سنوات لشباب من الخليج العربي إلى صعدة وإلى تلك الجزر، ومن بين تلك الدول الإمارات والكويت والبحرين وقطر وغيرها بنحو 200 - 400 شاب، وفي كل مرة يتمّ تدريبهم على أيدي الحرس الثوري الإيراني. وشخصياً لا أستبعد أبداً أن يجري استعمالهم في إطار مخطّط صناعة مليشيات موالية لإيران في إحدى دول الخليج العربي.
ما قام به الحوثيون اعتبرته إيران مجرد استرداد للثورة الشعبية ضد الاستبداد، والمفارقة في كل ذلك أن الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح نفسه له يده في سقوط صنعاء بأيدي مليشيات ما يسمى "أنصار الله"، وذلك لما دعّمهم شيوخ قبائل وعسكريون موالون للنظام اليمني المخلوع.
المتابع لمواقف الفصائل الفلسطينية على مختلف ألوانها السياسية، من الإسلامية إلى العلمانية، تجاه الأزمة السورية الراهنة، يستطيع تحديد مواقف هذه التنظيمات بين الموالية للنظام السوري، والمتحيزة لخيار الشعب السوري في ثورته ضد الظلم.
هذه النظرية الموقفية واضحة وجلية وصحيحة اذا ما تم اسقاطها على مواقف الفصائل الفلسطينية، فهذه «الجبهة الشعبية - القيادة العامة» تقاتل إلى جانب النظام السوري في أكثر من موقعة، وكذلك «فتح الانتفاضة» و «النضال الشعبي» وما تعرف بفصائل التحالف في دمشق، كذلك حركة «حماس» أعلنت منذ البداية موقفها بدعم الشعب السوري في ثورته حتى نيل حقوقه في الحرية.
أما إذا أردنا إسقاط هذه النظرية علـــى موقف «أم الفصائل»، حركة التحرير الوطــــني الفلسطيني «فتح»، فيعجز هنا علماء السياسة في معرفة موقف «فتح» إزاء الأزمـــة في سورية، فلا هم في المنطقة البيضــــاء ولا السوداء ولا حتى الرمادية التي تحدث عنها ذات مرة رأس هرم النظام بشار الأسد، فما هي مواقف حركة «فتح» التي عجز عن فك رموزها الساسة والمحللون.
مخيم اليرموك كلمة السر في مواقف حركة «فتح» المتقلبة، فمنذ دخول قوات المعارضة السورية «الجيش الحر» إلى مخيم اليرموك جنوب دمشق في 8/12/2012 والسيطرة عليه حتى اليوم، شاركت مجموعات تابعة لحركة «فتح» في معارك طرد «الجبهة الشعبية - القيادة العامة» وعناصر النظام السوري من اليرموك، وكانت هذه المجموعات تتخذ من اسم وشعار «كتائب شهداء الأقصى» الذراع العسكري لـ «فتح» في فلسطين عنواناً لها، وحتى اللون البرتقالي نفسه الخاص بأعلام «فتح».
وعلى حين غرة تم حل هذه المجموعات العسكرية، التي كان يترأسها قيادات عسكريــــة من «فتح»، كما قضى العشرات مـــن أبناء «فتح» في سجون النظام السوري، مــنهم قياديون فيها وآخرون من نشطاء العـــمل الإغاثي والإعلامي في اليرموك، وكان لهم دور مميز في خدمة المخيم.
وعلى النقيض يأتي موقف «فتح» مؤيداً للعظم للرئيس الأسد، وربما ان الرئيس محمود عباس هو الزعيم العربي الوحيد الذي زار دمشق خلال الأزمة السورية، وأكد شرعية الأسد ونظامه، كذلك تصريحات قيادات «فتح» التي لا تزال مكاتبها في دمشق مفتوحة على رغم وجود مجموعات مسلحة لها في مخيم اليرموك المحاصر، هذه التصريحات المجحفة بحق الفلسطينيين في المخيم والذين تحملهم المسؤولية عن حصار مخيمهم للعام الثاني، من دون الحديث عن المحاصر الحقيقي، حتى أنهم يكذبون ارتقاء شهداء جراء الجوع في اليرموك.
فما هو الثمن الذي تدفعه حركة «فتح» لإرضاء النظام السوري، هذا الرضى الذي يشكل الحق الفلسطيني ومآسي أهالي اليرموك ثمناً له.
الآن من حقنا السؤال بعد أن حلت «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح» في اليرموك، إلى أين توجهت ولماذا حلت وبتعليمات من؟ هل كانت مواقف «فتح» المقطوعة الرأس سبباً في تأزم الوضع في اليرموك، وهل «فتح» مستفيدة من حصار المخيم لرمي الاتهام على أطراف فلسطينية أخرى وتشويه تاريخها النضالي.
الإجابة في هذه المعطيات:
- في خطوة مفاجئة طلب قادة «فتح» المتواجدون حالياً في مخيم اليرموك وبأوامر قيادة الخارج، طالبوا عناصرهم المسلحة بالانضمام إلى صفوف «جبهة النصرة»، كما طلبوا من مجموعات أخرى فتحاوية مبايعة «النصرة»، في سبيل الاستقواء بها وتعويضاً عن الغياب العسكري الفاعل على أرض المخيم بالمقارنة مع القوة الفلسطينية الأكبر وصاحبة النفوذ والقرار المسماة «كتائب أكناف بيت المقدس»، والتي تحسب على حركة «حماس»، فتأتي خطوة «فتح» هذه غير المحسوبة عواقبها مع النظام السوري، بالاحتماء بـ «جبهة النصرة»، وهذا يأتي من باب النكاية والمناكفة الفلسطينية الفلسطينية.
- أمـــا عن علاقة «فتح» بـ «تنــــظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، فهذه العلاقة التي ولدت قبيل أشهـــر من حملة التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة»، وبالتحـــديد خلال فترة محاصــــرة كتائب المعارضة السورية للتنظيم في منطقة الحجــــر الأسود جنوب اليرموك، حيث تؤكد المعلومات أن قياديين في «فتح» معـــروفون في اليرموك قدموا دعماً لوجستياً ومالياً لـ «داعش» خلال محاصرتهم في الحجر الأسود، وهذا ما يدل عليه من خلال العلاقات المتميزة لقيادات «فتح» مع تنظيم الدولة عقب التوقيع على اتفاق مصالحة بين كتائب المعارضة والتنظيم أخيراً.
هذا التحالف غير المعلن بين «فتح» و «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش»، هل ستكون له انعكاسات سلبية على العلاقة بين النظام السوري و «فتح»؟ وهل ستكون هذه الخطوة التي تعتبر آخر موقف سياسي لـ «فتح» على صعيد أزمة مخيم اليرموك بالتحالف مع تنظيمات «القاعدة» و «الجهاد»، هل تمثل رصاصة الرحمة لأي حل سياسي لمأساة الفلسطينيين في المخيم؟ وهل يعني هذا التحالف موقف «فتح» في نصرة الشعب السوري، أو أنه يأتي في سياق المراوغة لتحقيق المصالح الشخصية على حساب مصلحة الشعب الفلسطيني؟
الأزمة السياسية الصامتة التي أخرجت وزير الدفاع الاميركي تشاك هاغل من الحكم لم تكن سوى نموذج آخر لتسلط الرئيس باراك اوباما على أحكام أفراد ادارته. ففي مطلع الشهر الماضي صدر في الولايات المتحدة كتاب بعنوان: «القتل الذي يستحق قتالنا»، برر فيه وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، استقالته من الادارة بسبب خلافه مع الرئيس حول توقيت انسحاب القوات من العراق.
واعترف بانيتا بأن وكيلة وزارة الدفاع ميشال فلورنوي، حاولت أن تقدم مقترحات العسكريين بطريقة مقنعة يرضى عنها الرئيس. ولكنها فشلت في زحزحته عن عناده، مثلما فشل زميلها اشتون كارتر أيضاً. واللافت أن فلورنوي وكارتر هما المرشحان الأوفر حظاً لخلافة هاغل، الأمر الذي ينبئ باستمرار الخلاف بين اوباما ومجلس القيادة المشتركة. ويُعرب الوزير بانيتا عن أسفه، لأن نصائح العسكريين قوبلت بالاهمال والتجاهل من رئيس فضّل الاصغاء الى ادعاءات نوري المالكي وتبجّحاته السقيمة.
ويقول اياد علاوي إن المخصصات الضخمة لم تُترجَم الى قوة ردع مسلحة بسبب عمليات النهب المبرمَج، واستشراء الفساد بين جماعة المالكي. وهكذا دخل «داعش» الى العراق بسهولة فائقة، دخول سكاكينه الحادة في أعناق جنود المالكي وحلفائهم.
أثناء عرضها لأسباب استقالة وزير الدفاع تشاك هاغل، حرصت صحيفة «نيويورك تايمز» على نشر جزء من وقائع جلسات الخلاف مع الرئيس اوباما حول السياسة المتّبعة في الشرق الأوسط. والثابت أن الخسارة الجسيمة التي مُني بها الحزب الديموقراطي الحاكم في الانتخابات النصفية شجعت اوباما على اختيار ضحية من ادارته يقدمها وقوداً لتهدئة أنصاره ومحازبيه. ووقع اختياره على المشاغب الأول في ادارته تشاك هاغل.
وتؤكد الصحف الاميركية أن الاستقالة - أو الاقالة - كانت حصيلة مناقشات حامية بين الرئيس ووزير دفاعه، خصوصاً عقب الكشف عن الرسالة السرية التي وجهها اوباما الى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. وهي رسالة بالغة الخطورة تحمل بين طياتها أهدافاً مثيرة للقلق، على ما وصفتها جريدة «وول ستريت جورنال.» وقد تعمّد الرئيس إخفاءها عن أعضاء ادارته لاقتناعه بأنهم لا يوافقون عليها، خصوصاً أنها تتعهد بضمان استمرار حليف ايران في سورية الرئيس بشار الأسد. كما تتعهد، من جهة أخرى، بالتعاون العسكري ضد «داعش» شرط توصل ايران الى اتفاق نووي شامل.
وقد تزامن موعد الكشف عن رسالة اوباما مع موعد سفر نائبه جو بايدن الى انقرة، بغية الاتفاق مع الرئيس رجب طيب اردوغان على تدريب ألفي مقاتل من المعارضة السورية «المعتدلة.» وقد أيدت تركيا فكرة قيام معسكر للتدريب ضمن إطار استراتيجية اميركية داعمة للمعارضة السورية التي تحارب النظام السوري وتنظيم «داعش».
اللقاء الأول بين جو بايدن والمسؤولين الأتراك لم يكن ودياً بسبب الانتقادات اللاذعة التي وجهها نائب الرئيس الاميركي الى أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود اوغلو. ذلك أنه اتهمهما علناً بتأمين طرق المرور لمقاتلي «داعش» الذين تقاطروا الى تركيا بهدف الانتقال الى سورية والعراق. وكانت الغاية من وراء تلك التسهيلات اللوجستية تأمين بيئة حاضنة لقيام مشروع دولة سنيّة تنافس دولة نوري المالكي الشيعية.
وحرص اوغلو خلال تلك الزيارة، على إطلاع بايدن على هدفَيْن أساسيين تطمح بلاده الى تحقيقهما: الأول - إقامة نظام سياسي جديد في العراق يحرر السنّة من التبعية المذهبية التي يفرضها المالكي على الطوائف الأخرى. الثاني - استعجال إسقاط بشار الأسد، لأن عملية ضرب «داعش» في سورية، بواسطة الطائرات الاميركية والحليفة، تؤمن للنظام الغطاء الذي يمنع قيام منطقة عازلة داخل سورية. وهذا معناه استمرار تدفق النازحين السوريين الذين زاد عددهم في تركيا على المليونَيْن، ومثلهم في لبنان، ومثلهم في الأردن، ناهيك عن ملايين المهجرين داخل سورية.
وحدث خلال الجلسات الأخيرة التي عقدها اوباما مع أعضاء حكومته، أن سأله وزير الدفاع هاغل عن حقيقة الرسالة التي بعث بها الى خامنئي. وأجاب الرئيس بالإيجاب، لأن خامنئي في نظره هو الشخصية النافذة التي ستتخذ القرار النهائي حول برنامج ايران النووي. ووصف الرئيس الايراني حسن روحاني بأنه إنسان ودود، وصاحب ابتسامة دائمة، ولكنه لا يتمتع بسلطة الحسم حيال القوى المعارِضة مثل «الحرس الثوري» و «فيلق القدس».
وعندما وصل النقاش الى موضوع المقارنة بين السياسة التي مورست في العراق وسورية، دافع الرئيس عن موقفه بالقول: كانت الغاية إشعار طهران بأن واشنطن حريصة على عدم المسّ بصديقها بشار الأسد. وأنها مستعدة لاستبعاد حلفائها العرب، زائد المعارضة السورية، إذا كان الثمن يؤدي الى الحصول على توقيع اتفاق نووي! وسأله وزير الدفاع: وماذا تجني الولايات المتحدة من وراء كل هذه التنازلات؟ أجاب اوباما: تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، في حال أعدنا الاعتبار الى ايران، وتعاملنا معها كشريك مُحتَمَل في العراق وسورية.
ويبدو أن إثارة الموضوع من هذه الزاوية فتح أمام الوزراء باب النقاش على مصراعيه، الأمر الذي أغاظ الرئيس ودفعه الى اتخاذ القرار بضرورة إبعاد وزير الدفاع هاغل.
ففي تلك الجلسة الصاخبة أعيدَ التذكير بالموقف الذي اتخذه اوباما ضد نوري المالكي بعد اعتباره المشجع الأساسي لظهور «داعش» في العراق وسورية. ففي أيامه انفجرت فضيحة صفقة الأسلحة الروسية المقدَّر ثمنها بأربعة بلايين ونصف البليون دولار... والتي أظهرت التحقيقات أن مخصصاتها اختفت في جيوب الفاسدين والمرتَشين. والشاهد على ذلك سقوط خط الدفاع الأول في الموصل بسبب حاجة الجيش الى الأسلحة والذخيرة.
وتعترف القيادة الاميركية المشتركة بأن الولايات المتحدة صرفت، خلال السنوات العشر الماضية، أكثر من 25 بليون دولار بغرض تأمين أجهزة ضرورية للجيش العراقي. ثم أظهرت التحقيقات أن تلك الأجهزة لم تُستَخدَم أثناء عمليات التصدي لهجمات «داعش».
لهذه الأسباب وسواها، اقترح الرئيس اوباما إزاحة نوري المالكي من رئاسة الحكومة كإجراء قانوني لمعاقبته على إهماله أو مشاركته في عمليات النصب والاحتيال. وقد تجاوبت القيادة الايرانية مع هذا الطلب، علماً أن خلفه ما زال ينتمي الى الحزب ذاته.
والمؤكد أن تعهّد اوباما بعدم المسّ بسلطة بشار الأسد قد شجع الحزب الجمهوري على اتهامه باستخدام معيارَيْن، والانحياز الى الطرف السوري. علماً أن الأسد ساهم في أنتصار «داعش» عندما استثناها من ضربات البراميل المتفجرة، وغضّ النظر عن تجاوزاتها ضد «جبهة النصرة».
وبسبب حساباته الخاطئة، أصبح «داعش» أقوى جبهة معارضة لنظام الأسد. ذلك أن هذا التنظيم يفرض سيطرته على المناطق الشرقية من مدينة حلب، ثاني أكبر المدن بعد دمشق. كما تمتد سلطته الى الريف الشرقي لمحافظة حلب، بالإضافة الى مدن كثيرة مثل: معرّة النعمان وجسر الشغور وأعزاز، والمناطق المتاخمة لتركيا. في حين تتقاسم «جبهة النصرة» و «الجيش الحر» السيطرة على مناطق شاسعة في ريف حمص وهضبة الجولان ومدينة القنيطرة وريف درعا وريف دمشق والمناطق المحاذية للحدود اللبنانية.
حيال تلك التجمعات المسلحة، حاول نظام الأسد تعزيز مواقعه في المدن والقرى المحيطة بدمشق واللاذقية وطرطوس وحماة وحمص كما يسعى الى إبعاد «داعش» عن مطاري الحسكة ودير الزور.
مصادر الكونغرس تشير في هذا السياق الى الضغوط التي مارسها اللوبي الاسرائيلي ضد ادارة اوباما من أجل إبعاد وزير الدفاع تشاك هاغل... والحؤول دون وصول «داعش» أو «جبهة النصرة» الى الحكم في سورية. وذكِر في حينه أن اسرائيل بَنت تحفظها على مهمة وزير الدفاع الذي صرّح، قبل تعيينه، بأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة شرط للتسوية السلمية في المنطقة. وبعد تزايد حدة الحملة السياسية ضده، تراجع عن موقفه السابق، وادّعى أنه يلتزم سياسة الادارة التي يشترك فيها.
أما بالنسبة الى محاولة تغيير رأس النظام في سورية، فإن المعركة التي شنتها «جبهة النصرة» في الجولان ذكّرت اسرائيل بأن دمشق الأسد حافظت على شروط اتفاق فك الاشتباك منذ سنة 1974، أي منذ وقّع هنري كيسنجر الاتفاق قبل نحو أربعين سنة. ولهذا السبب، فإن مصالح اسرائيل الأمنية ترتاح الى وجود الأسد على رأس الحكم في سورية. من هنا القول إن العبارة التي ظهرت في رسالة اوباما الى علي خامنئي لم تكن رسالة تطمين الى ايران بمقدار ما كانت رسالة تطمين الى اسرائيل!
يقول الجمهوريون إن سياسة اوباما الخارجية حملت بذور هلاكها منذ إعلان الرئيس الديموقراطي إنهاء الحروب التي افتعلها جورج بوش الابن في العراق وأفغانستان. أو منذ اتخذ قراره بسحب القوات الاميركية من كل المواقع الساخنة. ويفسر المحللون هذه السياسة المرتجلة بأنها ردود فعل من أول رئيس اميركي أسود، أراد تدشين سياسة خارجية تناقض سلوك الرؤساء البيض. ووفق تصوره، فإن الحروب التي خاضتها قوات الولايات المتحدة كانت من صنع مؤسسات الرجل الأبيض الذي يهمه جني المكاسب والأرباح التي تؤمّنها له مصانع الأسلحة. أي أنه حاول اجتراح حل عنصري لإنهاء الحروب العنصرية.
ولكنه سرعان ما اكتشف أن ايران كانت أول دولة توظف الفراغ الذي أحدثه غياب الحضور الاميركي المسلح لنشر امبراطوريتها على امتداد العالم العربي. كما اكتشف الحزب الديموقراطي أن زرع الموظفين السود في غالبية مؤسسات الدولة قد ساعد على إيقاظ المنظمات العنصرية مثل «كلو كلاكس كلان» وسواها. وبسبب سوء التقدير، والخلل الذي أحدثه تغييب أكبر دولة في العالم عن ساحات النزاع، انتهى سود الولايات المتحدة هذا الأسبوع الى إحراق عشرين بناية في مدينة فيرغسون بسبب مقتل شاب أسود على يدي شرطي أبيض.
ويتوقع المحللون أن تكون السنوات الثماني التي حكم فيها باراك اوباما مجرد فترة انتقالية لاختبار سياسة مشوّشة قد لا تسمح بتكرار انتخاب رئيس أسود مرة أخرى...
عندما كنت طفلاً كانت الليرة السورية واللبنانية بسعر واحد منذ الاستقلال، ثم تركت الطفولة الى المراهقة وأخذت أسمع عن «تزوير»، فالليرة بدأت واحدة باستثناء كلمة سورية ولبنان (بالعربية والفرنسية) على الرأس في وسطها، وإذا إرتفع سعر واحدة عن الأخرى كان هناك مَنْ ينقل إسم بلدها الى الليرة الأقل سعراً.
رحم الله تلك الأيام كان الدولار يساوي ثلاث ليرات سورية أو لبنانية وهو الآن يساوي 1500 ليرة لبنانية، وفوجئت بأن أقرأ أنه أصبح يساوي أكثر من 200 ليرة سورية بعد أن كان في آخر زيارة لي الى دمشق قرب نهاية 2010 لا يتجاوز 50 ليرة سورية.
سقوط سعر الليرة أهون ما أصاب سورية، فقد سقط سعر الانسان، وكنت أعتقد أن لا ثمن له.
الكل خذل سورية وأنا من هذا الكل. الأمم المتحدة تتحدث عن قتل حوالي 200 ألف سوري منذ 2011، وعن أكثر من مليون مصاب، بعضهم يعاني من إعاقة كاملة. والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قال في مجلس الأمن قبل أيام إن عدد السوريين الذين يحتاجون الى مساعدات إنسانية يتجاوز 12 مليوناً، فهناك 7.6 مليون مهجَّر داخل سورية و3.2 مليون في الخارج. وفي الأرقام الأخرى التي أوردها بان كي مون أن القوات الحكومية لا تزال تحاصر 163 ألفاً في الغوطة الشرقية، وأربعة آلاف في داريا و18 ألفاً في مخيم اليرموك، بينما تحاصر قوات المعارضة 26.500 شخص في قريتي نبل والزهراء الشيعيتَيْن في ريف حلب.
الشبكة السورية لحقوق الانسان تقول إنها «وثقَت» قتل قوات النظام السوري 17.268 طفلاً منذ آذار (مارس) 2011، وأن من أصل المهجرين واللاجئين السوريين هناك 7.6 مليون طفل، وقد حُرِمَ أكثر من 1.3 مليون طفل من التعليم.
أثق في أرقام الأمم المتحدة وهي تظهر أن التضخم في سورية كان أربعة في المئة في بداية سنة 2011، وارتفع الى 50 في المئة مع حلول أيار (مايو) من تلك السنة ووصل الى 120 في المئة في آب (اغسطس) من سنة 2013. في الوقت نفسه يكاد إنتاج النفط يتوقف وصادرات البلاد ووارداتها تقلصت 90 في المئة منذ 2011.
اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا) تقول إن استمرار الصراع حتى العام المقبل سيرفع نفقات إعادة التعمير الى 237 بليون دولار. وأقرأ أن ايران قدمت الى دمشق السنة الماضية 4.6 بليون دولار ثمن واردات من الطاقة والحبوب، وأنها أنفقت في سورية منذ 2011 حوالي 18 بليون دولار. وقدمت روسيا مساعدات بأكثر من 300 مليون دولار هذه السنة، وطلبت الحكومة السورية من روسيا قبل أيام بليون دولار.
الموت أهون. سورية تستطيع أن تساعد الآخرين، سلة اهراء الدولة الرومانية. هل هناك ما هو أجمل من الغوطة وجبل قاسيون مشرفاً على المدينة تحته؟ ساحة الأمويين، الحميدية حتى الجامع الأموي. بوظة بكداش. الشارع المستقيم. السور القديم. الزوايا والتكايا والمساجد القديمة والكنائس. معرض دمشق. نهر بردى الذي صفق يوماً وبكى دهراً. الأفراح والليالي الملاح. أحلى ناس. أجمل بلاد. أين الأصدقاء الآن؟ في مخيم مع برد الشتاء، أم ماتوا ولا نعي لهم؟
ماذا بقي لنا؟ محطة تلفزيون سورية نالت تهنئة رسمية بعد أن حققت رقماً قياسياً في ساعات البث المــباشر بلغت 65 ساعة ما يجعلها تستحق دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية. هذا إنجاز؟ ماذا عن أرواح الناس؟ لماذا لا يدخل النظام والارهابيون موسوعة غينيس بأرقام قتل الأبرياء؟ هل أنا مجنون أو أن الآخرين جنّوا؟ الانسان بليرة؟ رحمتك يا رب.
في الذكرى السنوية لتأسيس قوات التعبئة الشعبية الإيرانية (الباسيج) الأربعاء، 26 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تسابق قادة هذه القوات للكشف عن الأجندة الإيرانية الفعلية، وهو ما تكتم الحديث عنه رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية في طهران. وتتبع قوات الباسيج الحرس الثوري، وهو جيش رديف للقوات المسلحة، ويضم متطوعين وجنود احتياط، ويتبع مباشرة للمرشد آية الله علي خامئني، ويتولى عادة قمع الاحتجاجات الداخلية، والتنسيق مع ميليشيات مسلحة خارج الحدود.
وقد تحدث نائب قائد الحرس الثوري، حسين سلامي، عن حرب تخوضها بلاده، فيما يتسابق أركان الدبلوماسية الإيرانية للحديث عن التعاون والأخوة الإسلامية وعلاقات حسن الجوار مع الدول والشعوب. وكشف سلامي أن بلاده وسّعت النطاق الاستراتيجي لحربها "ضد دول الاستكبار ومكافحة الإرهاب والانفلات الأمني". ودول الاستكبار، حسب الإعلام الإيراني، هي أميركا والغرب، وقد أدارت طهران معها مفاوضات ماراثونية حول الملف النووي في أجواء من الاحترام الكامل. بينما يتمثل الإرهاب بوجود جماعات سنّية (فقط) مسلحة، وربما غير مسلحة. ويتعدى ذلك، في العادة، إلى مكافحة بيئة الإرهاب، أي المجتمعات الإسلامية التي لا تدين بالولاء لطهران. فيما تشكل محاربة "الانفلات الأمني" اضافة جديدة وعلنية في الأجندة الإيرانية، فطهران، وفقاً لهذه الرؤية التي عبّر عنها الجنرال سلامي، تمنح نفسها الحق بالتدخل في شؤون دول وشعوب أخرى، لضبط ما تسميه الانفلات الأمني، حتى لو كان بعيداً عن حدودها. ولعلها من مرات نادرة في العلاقات الدولية (بين الدول) التي يتم فيها الكشف عن هذه النزعة التدخلية بمثل هذا الوضوح، وبعيداً عن أية مواربة.
" لوحظ أن اعتداءات صهيونية متكررة على سورية ولبنان، في الأعوام العشرة الأخيرة، لم تثر رداً إيرانياً يذكر، ولا رد النظام الحليف في دمشق "
ارتبطت النقمة على الولايات المتحدة، منذ ستينات القرن الماضي، بنزعتها التدخلية العسكرية في ذروة الحرب الباردة، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ما ألحق بها صفة الاستعمار الجديد، كما اقترنت النقمة على الاتحاد السوفياتي السابق بنزعته التدخلية في دول شرق أوروبا، ما كان سبباً في نشوء ثورات شعبية في تلك الدول أنهت حلف وارسو والمنظومة الاشتراكية. وها هي قيادات عسكرية إيرانية لا تكتم أنها تخوض حرباً في دول أخرى، بعيداً عن أية معايير دولية، ولعدة دواع، منها الانفلات الأمني، وهو وصف يقصد به الاحتجاجات غير المرغوب بها، في دول تعتبر ميداناً لنفوذ الاستراتيجية الإيرانية خارج الحدود.
كان نظام الشاه السابق في إيران يصفه، عن حق، يساريون وقوميون عرب، بأنه شرطي المنطقة، غير أن النزعة التدخلية لذلك النظام تظل أضيق نطاقاً وأقل مدى مما يكشف عنه بعض جنرالات الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ففي المناسبة إياها، أعلن قائد الحرس الثوري، الجنرال محمد علي جعفري، أن "المقاومة امتدّت من إيران إلى سواحل شرق المتوسط بجوار الصهاينة". ومصطلح المقاومة تعبير مجازي عن النفوذ السياسي والعسكري الإيراني الذي يقاوم كل من يرفض هذا النفوذ، أما شرق المتوسط فهو سواحل لبنان وسورية، حيث يثير النفوذ الإيراني انقساماً شعبياً واسعاً في البلدين، باعتباره، على الأقل، نفوذاً أجنبياً. ومن المفارقات أن الخطاب الإيراني بخصوص الملف النووي، وكل ملف داخلي آخر، يستند إلى مقتضيات سيادة إيران واستقلالها، فيما هذه المقتضيات لا وجود لها، ولا تعني شيئاً، إذا وجدت بالنسبة لطهران، حين يتعلق الأمر بالآخرين، وهم، في الغالب، دول وشعوب عربية. وسورية ولبنان هما بحق بجوار الصهاينة، وقد لوحظ أن اعتداءات صهيونية متكررة على سورية ولبنان، في الأعوام العشرة الأخيرة، لم تثر رداً إيرانياً يذكر، ولا رد النظام الحليف في دمشق، غير أن طهران استنفرت كل ما يمكنها استنفاره ضد احتجاجات شعبية سورية، منذ منتصف مارس/آذار 2011.
في كلمته التي نقلتها وكالة الأنباء الإيرانية (إيرنا) بالمناسبة، قال الجنرال سلامي إن قوات الحشد الشعبي في العراق تدير المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وأكد أن "الفكر الباسيجي"، على حد وصفه، أحبط مخططات دول الاستكبار الرامية إلى كسر محور المقاومة. وفي ما يتعلق بالمعركة الدائرة في العراق ضد تنظيم الدولة الإسلامية، فإن الجيش العراقي ومسلحي العشائر يخوضونها، واقتصار الإشارة إلى "الحشد الشعبي" وحده يراد به الإشارة إلى ميليشياتٍ طائفية، تخوض الحرب فعلاً ضد داعش، لكن مشاركتها، وإبراز مشاركتها على هذا النحو، يُراد به طمس الطابع الوطني للحرب ضد التطرف والإرهاب في العراق، وإضفاء صفة طائفية على هذه الحرب، وهو ما يتماشى مع الاستراتيجية الإيرانية التي تنظر للمجتمعات العربية من منظور طائفي، وتوظف العامل الطائفي في حرب النفوذ التي تخوضها، أما "الفكر الباسيجي" في سورية، فلا أثر له إلا في وجود قوات الدفاع الوطني (الشبيحة) التي اسندت إليها، منذ البدء، مهمة القمع الدموي للانتفاضة السلمية في هذا البلد. وقد تردد، على نطاق واسع، أن إنشاء تلك القوات كان فكرة إيرانية، وبإشراف ايراني. وإذا كان الدمار الهائل الذي أصاب سورية، وتمزيق مؤسستها العسكرية، وتقويض بناها التحتية، مما يستحق الفخر به، فلا شك أن دول الاستكبار كانت عاجزة عن إلحاق مثل هذا الضرر الذي يفوق الوصف بسورية وشعبها.
وكان اليمن حاضراً في خطاب الجنرال سلامي الذي اعتبر أن هذا البلد نجح في حربه ضد الجماعات المتطرفة، أسوة بالعراق وسورية، يعرف الجميع أن الضحية في اليمن كان الدولة اليمنية وسيادتها، على يد جماعة الحوثيين وثيقة الصلة بطهران، وأن اليمينيين لم يشهدوا تطرفاً بالسطوة المسلحة، منذ استقلال بلادهم، كالتطرف الذي اقترفه الحوثيون، غير أن اعتبارات ضمان النفوذ في الخارج تطغى على أي اعتبار آخر في الخطاب الإيراني، حينما يتخفف من أية قشرة دبلوماسية، كالذي يعبّر عنه قادة الباسيج والحرس الثوري، وبصرف النظر عن إرادة الشعوب وسيادة الدول التي يتجه إليها هذا النفوذ، بل بالقفز عن هذه الإرادة وهذه السيادة، بما يعيد إلى الأذهان المنطق الاستعماري القديم. أما مشروعية حربهم المعلنة، فيستمدّونها من أهوائهم الأيديولوجية والمصالح التوسعية لنظام جمهوريتهم، وهو نظام يتجدد محتواه الامبراطوي مع استبدال الصفة الشاهنشاهية السابقة بالإسلامية. ويغفل هؤلاء أن الشعوب العربية قد قاومت من قبل امبراطورية إسلامية أخرى، هي الامبراطورية العثمانية، وصفة الإسلامية لم تحجب في الماضي، ولن تطمس، حاضراً، نوازع التوسع وشواهده.
أثارت النزاعات التي شهدتها اجتماعات الهيئة العامة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، في ٢١-٢٣ من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وهي تثير، منذ أشهر طويلة سابقة في الواقع، سخط الرأي العام السوري بجميع فئاته. لكن، بالدرجة الأولى سخط الشعب الذي يتعرض منذ ما يقارب السنوات الأربع لامتحان الحرب الهمجية القاسي، ولا يكاد يجد الوسيلة للحفاظ على البقاء، سواء بسبب قصف البراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات الأسد أو تجاوزات أمراء الحرب، أو الفوضى الضاربة أطنابها، أو غياب الدعم الدولي الإنساني الكافي، داخل سورية وفي مناطق التشرد واللجوء.
أظهرت هذه النزاعات من جديد أن "الائتلاف" مصاب بمرض عضال، لا شفاء منه، وأن الائتلافيين انقطعوا تماماً عن عموم الشعب السوري، وهم يعيشون في فقاعة هوائية، تمنعهم من إدراك حقيقة الوضع المأساوي الذي تعيش فيه كل الفئات السورية، في الداخل والخارج. وكان السوريون الذين أنهكتهم الحرب في كل المدن والمناطق، وفتكت بهم نزاعات القوى المتصارعة، وأصحاب المشاريع الانتقامية والامبراطورية، من الميليشيات الأجنبية والمحلية، ينتظرون من المعارضة أن تغتنم فرصة الضغوط الدولية المتزايدة، من أجل البحث عن حلول سلمية في سورية، في ضوء تطور ما سميت الحرب ضد الإرهاب، حتى تجمع قواها وتنتزع المبادرة السياسية، وتعيد التركيز على حل القضية السورية، باعتبارها في صميم مسألة مواجهة الإرهاب والتطرف الذي جعله المجتمع الدولي، منذ تأسيس التحالف، عنوان تدخّله السياسي والعسكري في الإقليم المشرقي.
ولم يكن هذا من الأمور الصعبة، ذلك أن جميع الاطراف الدولية تدرك، اليوم، أنه لا أمل في الحد من تطور "داعش" وغيرها من القوى المتطرفة، من دون وضع حد لإرهاب الأسد اليومي، والذي لا يغذي مشاعر الغضب والنقمة عند السوريين وحدهم ضد التحالف الذي تجاهل هذه القضية السورية فحسب، وإنما لدى جمهور العرب والمسلمين أجمعين. ومن أجل ذلك، ارتأيت أن من المفيد التواصل مع مختلف الاطراف لنقل رسالة واحدة، قبل انعقاد جلسات الاجتماع، وهي:
ضرورة تجنب النزاع بأي ثمن، وإنقاذ سمعة الائتلاف والمعارضة، واستعادة بعض الصدقية والثقة الدولية، حتى نستطيع أن نفرض أنفسنا شريكاً في المداولات الواسعة التي تجري، الآن، من أجل فتح باب التفاوض من جديد حول مستقبل الوضع السوري، واستغلال ما بدر من إرادة دولية مشتركة، للخروج من المأزق الذي تشكله القضية السورية لجميع الأطراف، بما في ذلك روسيا وإيران. وليس هناك وسيلة لتجنب النزاعات سوى طي صفحة الماضي، والكف عن التفكير في تصفية الحسابات، أو تغيير القرارات التي جاء معظمها، في السابق، بدافع نكدي من كل الأطراف، فالسعي، في كل مرة، إلى حرمان الفائز من فوزه، والإعداد لمرحلة إسقاطه، وإصدار قرارات بإقالة أشخاص وقرارات مقابلة، بإعادة تعيينهم والعكس، لعبة عبثية وانتحارية بالنسبة للائتلاف، وهو ما حصل بالفعل حتى الآن، وهي لعبةٌ، ينبغي وقفها. ليس هناك خيار آخر سوى فتح صفحة جديدة، من دون إيلاء أهمية لمن هو الفائز الآن، المهم أن تستقر الآلة، أي الائتلاف، على الأرض، وتبدأ بالسير والعمل والإنجاز.
شرطا إنقاذ الائتلاف
للأسف، لم يكتب لهذه المبادرة النجاح، فمن الواضح أنه لا يزال هناك منسوب ضعيف جداً للشعور بالمسؤولية، وروح خصامية استثنائية لا تهدأ، واهتمام مرضي بالمواقع والمناصب الوهمية، ونسيان للواقع، والعيش في مكان وزمان آخريْن، لا يمتان بصلةٍ لزمان سورية المحنة والمأساة.
لا يوجد هناك حل لشلل الائتلاف، ولأي إطار سياسي جامع للمعارضة، أو للقوى الوطنية السورية التي هي، اليوم، بأمسّ الحاجة إلى أن تجتمع، وتوحّد صفوفها، لتتحول إلى طرف في المداولات الدولية، يمثل مصالح الشعب المكافح والدولة السورية، ويبرز قدرة السوريين على إدارة شؤونهم، وقيادة المرحلة الانتقالية، إلا بشرطين:
"
القوى الوطنية السورية، اليوم، بأمسّ الحاجة إلى أن تجتمع، وتوحد صفوفها
"
الأول، إلغاء التكتلات داخل الائتلاف وتحريمها، ورفض أي منطق محاصصة أو توزيع للمواقع حسب الانتماءات الخاصة، مهما كانت، والالتزام بالتصويت الفردي، وكل حسب ضميره وتقديره السياسي، للأشخاص الذين يختارون، أو يرشحون أنفسهم لاحتلال مواقع المسؤولية. وهذا يفترض قبل ذلك تعميق الإدراك لدى الجميع أن الأمر، أعني احتلال أي منصب أو موقع قيادي داخل الائتلاف والمعارضة، ليس مسألة تكريم وتشريف واعتراف بالمكانة والمقام، وإنما هو تقلد لمسؤوليات، وبالتالي، القيام بمهام يستدعي تحقيقها عملاً مستمراً وجهداً مضاعفاً، ولا يمكن القيام بها من دون كفاءات وخبرة ومعرفة وقدرات ذاتية ورؤية واضحة لها، وهذا يعني بحث الجميع عن العناصر الأكفأ التي تستطيع أن تنجز العمل، لا عن الأقرب أو الأكثر ولاءً لهذا الطرف، أو ذاك.
والثاني، البدء بتغيير قاعدة أعضاء الائتلاف التي لم تتغير منذ سنتين، على الرغم من التغيرات الكبيرة التي طرأت على تشكيل القوى السياسية والعسكرية والمدنية على الأرض، وتلاشي تنظيمات وظهور أخرى، من خلال فتح باب التداول على العضوية داخل الهيئة العامة، واستبدال ثلث الأعضاء، على الأقل، في كل دورة، لإتاحة الفرصة لدخول دماء جديدة من العاملين على الأرض، والمشاركين في النشاطات الميدانية، ودفع الأقل قدرة على العطاء إلى الخروج، والعمل ضمن الهيئات المدنية، إذا كانوا معنيين، بالفعل، بخدمة المجتمع والشعب.
من دون ذلك لن تتغير قواعد اللعبة، وسوف يبقى الصراع على مناصب فقدت معناها وبريقها الموضوع الأول والوحيد لاجتماعات الهيئة، كما حصل حتى الآن، ولا يبقى للائتلاف سوى أن ينكس الراية، ويحذو حذو المجلس الوطني السوري الذي خرج من السباق على القيادة، وأصبح نادياً اجتماعياً مغلقا لأعضائه، أو لبعضهم.
مقاتلون من الجيش السوري الحر في حلب (11أبريل/2014/الأناضول)
نحو هدنة مرحلية
لكن، على جميع الأحوال، تطرح أزمة الائتلاف التي لم تكن، في أي يوم سابق، أوضح مما هي عليه اليوم، على الرغم من كل الوعود بالبحث عن التوافقات، وبالخروج من المماحكات والتناحر المرضي، مشكلة إعادة تأسيس جبهة المعارضة وقيادات الحراك الشعبي السياسي والمسلح، وهي المهمة التي لا يمكن تجاهلها، اليوم، مع تزايد المؤشرات على بداية جولة جديدة من مفاوضات السلام، مع تعاظم شعور جميع الأطراف بالاستنزاف ورفض الغرب والمجتمع الدولي تقديم أي مساعدة خاصة وحاسمة للسوريين، للقضاء على نظام القتل والإرهاب والدمار.
" من مصلحة الجميع، داخل الائتلاف وخارجه، في صفوف المعارضة، إعلان هدنة مرحلية "
ليس المطلوب، اليوم، تنظيماً جديداً، يكرر مثالب وأخطاء تنظيمات المجلس الوطني والائتلاف، ويشجع على مزيد من الانقسام والتناحر والتنازع على القيادة والمناصب، إنما المطلوب فريق من قيادات المعارضة وأصحاب الخبرة والكفاءة والصدقية، عابر للتشكيلات القائمة، بما فيها الائتلاف، وبالتالي، مكمّل وموحّد لها، وليس نافياً ومناقضاً، يضع خطة للعمل، ويعرضها على الشعب، ويباشر في تنفيذ برنامج واضح ومتفق عليه للخلاص الوطني، تحت إشراف الرأي السوري العام ومراقبته.
في انتظار ذلك، أعتقد أن من مصلحة الجميع، داخل الائتلاف وخارجه، في صفوف المعارضة، إعلان هدنة مرحلية، يُصار فيها إلى تجميد النزاعات الشخصية والسياسية، وتجميع قوى الائتلاف والمعارضة على اختلافها، وتوحيد صفوفها، حول مبادئ عامة أساسية، يتفق عليها الجميع، بصرف النظر عن الشخص أو الأشخاص الذين سيتولون تمثيلها أو تطبيقها، من أجل التفرغ للمعركة السياسية الدولية التي بدأت إرهاصاتها، وسوف تتعاظم في الأسابيع المقبلة، حول إيجاد حل للقضية السورية، وفي قلبها حسم معركة الأسد، وموقعه في أي تسوية محتملة، أو مرحلة انتقالية.
وبإمكاننا، منذ الآن، أن نستفيد مما تم إنجازه في الاجتماعات الأخيرة، بانتظار حسم الخلافات الأخرى بالحوار، بما في ذلك في موضوع المجلس العسكري، والرهان على تفعيل الحكومة المؤقتة، ودعمها لتكون طرفاً فاعلاً في تعزيز مواقع المعارضة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكذلك في المساعدة على استقطاب الدعم الدولي، الإغاثي والسياسي للمعارضة في بحثها عن حل للمأزق السوري، ما يعني، أيضاً، أن على الحكومة المؤقتة التي تمت المصادقة عليها، الأسبوع الجاري، أن تنأى هي، أيضاً، بنفسها عن الصراعات والتجاذبات والنزاعات داخل صفوف الائتلاف والمعارضة، وأن تتصرف كحكومة وطنية سورية، تعمل لصالح السوريين، ولتخفيف المحنة والضيم والعناء عنهم، وهي مستعدة للتعاون معهم، ومع جميع قوى المعارضة على قدم المساواة، ولا أعني بالمعارضة، هنا، تشكيلات بعينها، وإنما جميع القوى الفاعلة على الأرض، العسكرية والسياسية والمدنية، لتقديم أفضل ما تستطيع من العون للسوريين، وأن تكون، بالتالي، شريكاً وطرفاً في دعم الوحدة والتفاهم والانسجام داخل صفوف قوى الثورة والمعارضة، وجزءاً من الحل، لا جزءاً من المشكلة.
ليست الحرب في سوريا، بما وصلتْ إليه، نقاشاً بين مُتحاوريْن في ندوة، لهما وجهتا نظر مختلفتان، ينتظر الجمهورُ تقاطع أفكارهما للوصول إلى نتيجة في نهاية الحوار، فالثورات عبر تاريخها، السوريَّة إحداها، قدَّمت نفسها بديلاً لأسباب اجتماعيّة وفكرية، وسياسية وبصفتها حمَّالة قيم، ومبشّرة بخِصب كبير لمجتمعاتها، تريد تخليصها من حالة فاسدة غير مناسبة.
في التفكير العقلاني، ثمة مقدمات تفضي إلى نتائج، أما في التفكير الثوري، فغالباً، يكون الفعل خارجاً عن مفاهيم الواقع السائدة، وإلا ما الذي يدفع عُراة الصدر إلى مواجهة طائرة أو دبابة، إنه فعل غير عقلاني بمفهوم القوة الفيزيولوجية، لكنه بالقاموس الثوري فعل إرواء لعطش الحرية تقوم به مجموعة في وجه سلطة موجودة، تريد أن تحقق النصر لكي توصِل مجتمعها إلى حالة أكثر صحة بعد تراكم الخلل، مكتفية في بعض الحالات بتصحيح خطأ النظام السابق، مع المحافظة على أساسيات الدولة، فالتغيير المأمول يكمن أولاً في التخلص من الأفراد الذين يديرون حكماً، قد يقتصر على فرد رمز (ديكتاتور) أحياناً، ثم يأتي التغيير الشامل، طويل الأجل، تالياً لتغيير أنظمة الحكم، قد يمسّ في بعض تمثلاته هيكلية الدولة وخياراتها الاستراتيجية في اختيار نظام محدد من أنظمة الحكم المتعارف عليها عالمياً، أما في حالة الثورة السورية، فيبدو أن التغيير يحدث معظمه قبل وجود حلّ نهائي.
ودفع تغيّر أدوات الصراع أطرافه إلى البحث عن استراتيجيات بديلة غيرَ مرة، والاعتماد على مناصرين جدد أو قدامى يقدمون المساعدة، ويبدو أنه كلما طال أمد تأخر المنتصر يكبر حجم أولئك المناصرين، وتتولَّد لديهم أجندات جديدة، مما جعل الساحة السورية اليوم، بوضوح شديد، معركة مصالح عالمية وإقليمية ومحلية، تترك لمساتها في كل التفاصيل.
كثيرٌ من السوريين، على اختلاف فِرقهم، يعتقدون أنهم خاضوا ثورتهم، أو دفاعهم عن نظامهم نتيجة قناعات، فكلُّ فريق منهم يتبنَّى رؤية يحسبُ أنها الأصوب، يستمدّها من الأيديولوجيا أو الدين أو المنفعة أو الاعتبارات التاريخية والجغرافية. لذلك ينتظر جمهور كل فريق بطله المنتصر، الذي يحقق له مآربه، يقتصُّ له أو ينتقم، يعوِّضه عن فقده أقاربه، أو بيته أو عمله. لكن يبدو أن المشهد السوري اليوم أقربَ أكثر من أي وقت مضى، إلى فقدان فرصة وجود مُنتصرٍ بَطل، يلملمُ الجراح. فالمنتصر، أيا كان، ربما لن يأتي على حصان أبيض ليحقق الأحلام، غالبا، سيصل على حصان متعثر، متأخرا، منهكا.
وتأتي المبادرات المطروحة اليوم، على قاعدة صعوبة وجود بطل منتصر، وتحاول قراءة المستقبل المتاح، وهو غير المستقبل المأمول لأيّ فريق من المتناحرين، بل تحاول استباقه أحياناً، وهذا واردٌ في مفهوم العمل السياسي التفاوضي، لكن ثمة من هم على الأرض يرفضون هذه المبادرات، ليس لأنّهم لا يريدون السلام، أو يرغبون في تأجيل النهاية، فقد أُنهكوا هم كذلك، بل لأنَّ ما يجدونه اليوم هو غير ما خرجوا لأجله، وحين يتأمّلون كمّ الخسائر، التي أصابتهم يجدون أنها لا تتناسب مطلقاً مع المبادرات المطروحة، فالقمح الذي زرعوه وسقوه ليس من السهولة أن يقبلوا تحوّله إلى زيوان.
وعلى العكس منهم، كثيرٌ من اللاعبين الإقليميين، والعالميين يتابعون حدثاً بالنسبة إلى كثير منهم، أقرب إلى مباراة كرة القدم في أرضٍ سورية، يتابعونه من موقع الحَكم تارة، ومن موقع الجمهور تارة أخرى، دون أن يدفعوا ثمناً، باستثناء بطاقة الحضور والهتاف، يشجّعون الفريقين، بحماس شديد، وبعد أن كانوا يؤكدون، عبر تصريحاتهم اليومية، أنه لن يُسمح سوى لفريق واحد بالفوز بكأس الانتصار، صاروا اليوم يسرّبون إلى فريقهم فكرة أن الدور النهائي في مفهوم المباريات، وكأس العالم على الأقل، التي تقام كل أربع سنوات، لابدّ فيه من فرق أربعة تلعب على مراكز عدة.
كلُّ عقد من الزمان، كما يرى متابعون يفضّلون البحث في أعماق الأحداث، لابدَّ من استيلاد جغرافيا عالمية للمتطرّفين يفرّغون فيها طاقاتهم الفائضة عن أيديولوجياتهم، كذلك لابدّ لمعامل الأسلحة أنْ تعمل، فثمة الكثير من العمال يعملون فيها، ويحتاج كذلك الارتفاع المريب في أسعار النفط هزّة ثقة كي لا يتوهم النفط أو مالكوه أو مواطنوه أنهم الأهم عالمياً.
ربما، كان من سوء حظ طلاب الحرية السوريين أن الملعب الجغرافي العالمي للصراع، هذه المرة، استضافته أرضهم، كان يمكن أن يؤخِّروا ولادته، أو يتم نقله نحو جغرافيا أخرى، لو أنَّهم قبلوا بنصف مطالبهم، غيرَ أنّ ذلك يصعُب تحقيقه، فإنْ كان العمل السياسي فنَّ الممكن، فإنّ الثورة غالباً فنٌّ حالم رومانسيّ، يقف إلى جانبها، تاريخياً، كثير من الكتَّاب والفنانين يتبنّون طروحاتها، ويستعجلون انتصاراتها ليغنّوا لها في الساحات، ويصعد غير الموهوبين منهم كذلك على أكتافها، وفي الوقت نفسه، ثمة فريق آخر منهم كسرتْه الثورات، التي تؤجل انتصاراتها، أو تحقق نصف أهدافها، فيُصابون باليأس، وقد يصل بعضهم إلى الانتحار. والأنظمة؛ كذلك، وصنَّاعها والمستفيدون منها، بنتْ استثماراتها على الأبديّة وتدجين الجماهير، بحيث أنها من الصعب أن تقبل بنصف الكعكة، وقد اعتادت على التهامها كلها.
وتكشف مراقبة المزاج العالمي في هذه المرحلة من عمر الثورة السورية، أنه فعلياً قد تمَّ الانتقال من مرحلة تحقيق الأحلام لكل الأطراف، إلى مرحلة تثبيت الأمر الواقع، ومن الاقتلاع نحو التغيير، ومن الانتصار إلى تجميد الوضع على ما هو عليه، ومن عودة اللاجئين إلى إدماجهم في المجتمعات الجديدة، فهم يعيشون في دول لها كياناتُها وأنظمتها المستقرة، ربما البقاء فيها أفضل من العودة إلى دولة باتت تحكمها أربعة تيارات على الأقل، لكل منها مناهجُه الدراسية وأعلامُه وقوانينُه وجغرافيتُه هي: داعش والنظام والجيش الحر والإدارة الكردية، وفي الوقت نفسه لكلٍّ منها داعمون إقليميون ودوليون يرعون مصالحها، سرّاً وعلانيّة، ويتحمس بعضهم لفكرة، ربما تكون سوريا مخاضاً لإحيائها، الدولة اللامركزية، متأسّين بتجربة يوغوسلافيا السابقة، وعينُهم كذلك على التجربة العراقية المجاورة، رغم عدم الإقرار بها رسمياً، وبناءً على هذه المعطيات؛ فإنَّ البحث عن مُنتصر في سوريا، بالمفهوم الواقعي للقوّة، صار يشبُه البحث عن إبرة في أرض رمليّة، ثمة من يبحث عنها، وثمة من يركض ليمحو الأثر.
أعلن الائتلاف السوري المعارض تشكيل وحدة تنسيق الدعم في كانون الأول عام 2012 بمدينة غازي عنتاب التركية – التي تعرف اختصاراً بـ A. C. U. – من أجل تنسيق دعم جميع المتأثرين بالأزمة الإنسانية في سورية.
العمل
تقوم وحدة التنسيق – حسب بيان نشر على موقعها الإلكتروني – بتوزيع الإعانة (غذاء ودواء( بشكل حيادي إلى جميع السوريين, بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو آرائهم السياسية، وبما يتوافق مع المعايير الدولية ومبادئ حقوق الإنسان.
تعمل الوحدة بالتنسيق مع المجالس المحلية ومنظمات الإغاثة الداخلية والجهات المانحة وهيئات الإغاثة الدولية والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، لتحديد الاحتياجات وربط الجهات المانحة مع الجهات الفاعلة في الميدان. وقد ورد أن وحدة التنسيق هذه استطاعت إيصال مساعدات إلى أكثر من أربعة ملايين مواطن سوري!
الكادر
تضم وحدة التنسيق كادراً يزيد على250 موظفاً يعملون في كافة المناطق التي تحوي فروعاً لها. وتعتمد الوحدة – كما يظهر في طلباتها للتوظيف – على الخبرات الجامعية والقدرات العلمية والعملية التي تعدّ عالية جداً مقارنة مع بقية المنظمات والوحدات التي تعمل في المجال ذاته. ويتوزع الموظفون على الشكل الآتي، وبشكل تقريبي: 60مركز غازي عنتاب, 10 مركز لبنان, 10 مركز الأردن, 100 في الداخل.
متوسط المصاريف الإدارية من حيث الرواتب
تبدأ رواتب الموظفين من 1000 دولار وتصل إلى 5000 دولار لبعض الإداريين العاملين خارج سورية، أما في الداخل السوري فمعدل الرواتب يتراوح بين 300 - 500 دولار شهرياً. وبذلك فإن متوسط الإنفاق الشهري للرواتب لا يقل عن 250 ألف دولار للطاقة البشرية المنظمة العاملة في الوحدة فقط.. هذا يعني أنها قد أنفقت منذ قيامها وحتى الآن حوالي ستة مليون دولار أو يزيد.
الصلاحيات والأعمال
بالإضافة إلى الجانب الإغاثي الغذائي والصحي تقوم الوحدة بدعم مشاريع المنظمات العاملة بالداخل )ما يخص صلاحيات الوحدة) بصفة يطلق عليها – دعم عاجل – وهي طريقة متداولة في المنظمات المانحة لدعم المنظمات التي يعتمد بقاؤها على دعمٍ سريع أو عاجلٍ لاستمرارِ عملها.
من إنجازات الوحدة
مشروع التلقيح ضدّ شلل الأطفال في الداخل السوري، حيث تم توزيع أكثر من خمسة ملايين جرعةِ دواء بحسب ما أعلنته الوحدة.
تساؤلات
تتحرك القوة الفاعلة في وحدة التنسيق من قسم العلاقات الخاصة بالمنظمات المانحة، وكانت تترأسه سهير الأتاسي المسؤولة المباشرة عنه – قبل إقالتها مع وزير الصحة عدنان حزوري بتاريخ 30 أيلول 2014 على خلفية وفاة أطفال بريف إدلب إثر تلقيهم لقاحات– ويمكن الاستدلال على ذلك ببساطة من خلال ظهور المدير التنفيذي السابق د. أسامة قاضي في الاجتماع الدولي الذي رعته الحكومات المانحة للشعب السوري، مع غياب الأتاسي المتكرر عن مثل هذه الاجتماعات. والسؤال هنا: هل تستمد الوحدة قوتها من أنها المعني الوحيد بتنسيق الدعم إلى الداخل السوري أم أن علينا تجاوز هذا السؤال؟
المهنية والخبرة والكادر
تفخر الوحدة بأن لديها كادراً من ذوي الكفاءات العلمية والمهنية يفوق غيرها من المؤسسات المختصة بالشأن السوري، بل يندر أن تجتمع مثل هذه الخبرات في الحكومة المؤقتة والائتلاف معاً. ولكن ثمة أمران مربكان يكثر القول فيهما ولعلهما بعض أسباب عدم تماسك هذا الكادر:
الأول: هو المحسوبية في التوظيف، فقد ذكر بعض الموظفين السابقين, وبعض من زالوا قائمين على رأس عملهم أنه في كثير من الأحيان يجدون رجلاً غير مناسب في صلاحياتٍ غير مناسبة. وهنا نطرح سؤالاً: هل هذه الوحدة قوقعة ذات مظهر خارجي تبتعد في مضمونها عن الغاية المطلوبة؟
الثاني: في ظل الظروف التي يعاني منها أي وافد إلى الخارج السوري, وبعد متابعة عدة حالات من أشخاص قدموا طلبات للتوظيف ولم يحظوا بشرف العمل فيها رغم امتلاكهم المؤهلات المطلوبة, كان جوابهم مخيباً للآمال: "ليس لدي من يقوم بتزكيتي من المسؤولين داخل الوحدة."! وهذا يدفعنا إلى التساؤلين التالين: هل من شروط التوظيف المعلنة تزكية من أحد العاملين في الوحدة؟ وهل هذا الشرط أهم من الخبرات التي يمتلكها طالب الوظيفة؟
وفي سؤالٍ على الهامش، توجهنا به إلى بعض العاملين في الوحدة: إذا رغب الموظف لديكم بالحصول على إجازة صحية أو عطلة لظرف طارئ، فماذا عليه أن يفعل؟ فكان الجواب غائماَ متردداَ!
إن هذا الأمر لا يعيب الموظف، لكنه يدفع للاعتقاد بوجود خللٍ ما في النظام الإداريّ الخاص أو سياسة العمل، خصوصاَ أنه متصل بالتفاصيل الإدارية المتعلقة بسياسة الحوافز والعقوبات، تلك السياسة التي تعد عصباَ مهماَ لتنظيم عمل أي مؤسسة. فهل ثمة قوانين ناظمة لآلية عمل الموظفين في الوحدة أو أن الناظم لها هو نوع العلاقات الشخصية في داخل السلسلة الهرمية للإدارة؟!
الإنجازات مقارنة بالإمكانات
نفهم من موقع الوحدة أن أهم إنجاز لها تفخر به هو مشروع مكافحة شلل الأطفال في الداخل السوري المحرر. ومن خلال بحثنا الشخصي علمنا أن المشروع قد تم بالتنسيق مع أكثر من ثمانية آلاف متطوع في الداخل السوري, علينا – بالطبع – شكرهم كل الشكر على عملهم التطوعي!
وهنا نسأل: هل كان المشروع سينجح بقدرات الوحدة بدون تبرع المتطوعين؟ ثم, أليس من البرّ أن يحصل هؤلاء المتطوعون على مكافآت رمزية مقارنة بالرواتب المجزية لموظفي الوحدة؟
ذكرنا لتعريف الوحدة أنها تقوم بدور الوسيط لتنسيق عمليات إيصال أنواع الدعم إلى الداخل السوري، وقد عرفنا – من خلال بحثنا الخاص – أن هذا الدعم يشمل الدعم الإنساني والإغاثي والتربوي والنفسي...
مع شكرنا الأكيد لجهود الوحدة, لكننا سنظل نتساءل عن سبب بروز بعض المؤسسات الإغاثية المستقلة في الداخل المحرر بشكل يدفعنا للشك بإمكانية الوحدة في تغطيتها للحاجات التي تصدت لها في برنامجها النظري. وهذا يقودنا لسؤال آخر عن) التخريجات ( القانونية لدعم بعض النشاطات الخارجية مقارنة بالتقصير في الداخل، كما حصل في دعم نشاط فنان مسرحي معروف بمبلغ ثلاثين ألف دولار مقابل عمل ترويجي بسيط للوحدة من خلال نشاطاته؟!
تبين لنا بالبحث والسؤال أن أعداد الموظفين التابعين للوحدة في شمال سورية – المتمثل في تركيا – في مجمل نشاطاته تفوق الحاجة إليهم إذا قورنت بالتقصير الكبير في مخيمات اللاجئين بالأردن ولبنان!
وهنا نسأل عن السياسة التي تتبعها الوحدة في توزيع موظفيها أصحاب الأجور العالية؟... وهنا لا يوجد سؤال يمكنني التفكير به!!!
يعلم المراقبون والمهتمون بالشأن الإغاثي – في الداخل السوري – حجم الخدمات والمساعدات التي تؤديها مؤسسات إغاثية متفرقة هناك بموارد مادية محدودة. وهنا نسأل: هل يوازي ما قدّرناه بستة ملايين دولار من نفقات الوحدة حتى الآن بالمنجزات العملية التي استطاعت أن تحققها على أرض الواقع؟
بشفافية
وهذا لا يغضّ من الجهود المشكورة التي قامت بها الوحدة في السنتين الماضيتين, فقد كان لها لمستها أيضاً في بعض المجالات, مثل: مساعدة مؤسسات الدفاع المدني في بعض المناطق السورية المحررة, وإرسال بعض المواد الطبية إلى مناطق متضررة بسبب القصف.
وأخيراً
إن ما كتبته لا يعد سوى محاولة خجولة لنقد بناء, بالنظر إلى المشكلات التي تعاني منها الوحدة, إما بضعف القرار أو القدرة الإدارية، أو بعدم بذل جهد أكبر في التنظيم للحصول على بعض المنح التي يستحقها الشعب السوري, ويخسرها بسبب الضعف في التنسيق والسرعة في اتخاذ القرار, رغم أن الوحدة لا ينقصها أي سبب من أسباب النجاح فيه, من قدرات مادية تحلم بها أي مؤسسة تعمل في المجال ذاته, وكادر معظمه مؤهل!
إننا لا نحاول هنا رمي عبء المسؤولية على أي موظف كان, لكننا نريد أن نوجه سؤالاً واحداً كبيراً: أما آن لوحدة التنسيق والدعم أن تقوم بنفض غبار الفوضى وتعمل على نظام حقيقي يوزع المسؤولية بين كوادرها ولا يرمي بالمسؤولية في كل مرة على شخص ما فيها؟
دخلت المحكمة الخاصة بلبنان طور السياسة، وذلك بعد الشهادة التي أدلى بها أمامها النائب الحالي مروان حمادة. لم تكن الشهادة سوى تعرية أخرى بأسلوب شيّق للنظام السوري الذي تكفّل بالقضاء على سوريا وعمل طوال ما يزيد على أربعين عاما على القضاء على لبنان.
لم يخرج النائب اللبناني الحالي، والوزير السابق، بجديد مقارنة مع ما يعرفه عدد لا بأس به من اللبنانيين والعرب والمسؤولين الأجانب. لكنّ الشهادة كانت الأولى المتكاملة في ما يخصّ مرحلة الأشهر التي سبقت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
اكتفى بسرد الوقائع كما هي من دون زيادة أو نقصان. ساعد في تحديد الإطار السياسي- الأمني الذي اغتيل فيه رفيق الحريري. كشف أن الحريري ذهب ضحية الوقوف مع لبنان ومحاولة منع النظام السوري من تدمير البلد، بما في ذلك نسيجه الاجتماعي.
امتلك مروان حمادة، الذي تعرّض في أوّل أكتوبر 2004، أي قبل أربعة أشهر ونصف الشهر من تفجير موكب رفيق الحريري لمحاولة اغتيال، ما يكفي من الجرأة لتسمية الأشياء بأسمائها. اكتفى برواية ما جرى أمام محكمة دولية قامت بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. اعتبر القرار، الذي لم يواجه الفيتو الروسي أو الصيني، اغتيال الحريري عملا “إرهابيا”.
كشفت شهادة مروان حمادة أنّ ليست لدى النظام السوري طريقة أخرى يتعاطى بها مع لبنان سوى القتل. بالنسبة إليه، لا مجال للأخذ والرد. الوسيلة الوحيدة للبقاء في السلطة هي إلغاء الآخر من دون محاولة التفكير في النتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك.
كشفت هذه الشهادة أيضا أنّ النظام السوري لم يتعلّم شيئا من التجارب التي مرّ بها. الدليل على ذلك أنّه يحاول في مواجهة الثورة الحقيقية التي اندلعت في سوريا، إلغاء الشعب السوري. يفعل ذلك معتمدا على الأدوات نفسها التي استخدمها في التخلص من رفيق الحريري. هل صدفة أنّ المتهمين بتنفيذ جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، عناصر من “حزب الله” المتورط هذه الأيّام إلى ما فوق أذنيه في الحرب على الشعب السوري؟
أكّد مروان حمادة ما كان مؤكّدا بالنسبة إلى الوقائع التي سبقت الجريمة. يثبت كلامه أنّ النظام السوري لم يستطع يوما تطوير نفسه والتعاطي مع التغييرات التي تشهدها المنطقة والعالم.
ظنّ النظام منذ البداية أنّ ما يصلح للسبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ما زال يصلح للقرن الواحد والعشرين، وأنّه سيكون في استطاعته مقاومة منطق التاريخ. هناك مقطع في غاية الأهمّية في شهادة مروان حمادة وهو متعلّق باتفاق الطائف. كشف النائب اللبناني مدى خشية النظام السوري من أن عليه بدء التفكير في الانسحاب عسكريا من لبنان بموجب اتفاق الطائف. قال في هذا المجال أن رفيق الحريري طلب منه عدم الإتيان على ذكر اتفاق الطائف في أحد البيانات الوزارية للحكومة، وهو البيان الذي تنال الحكومة الثقة على أساسه في مجلس النوّاب. كان الحريري يدرك مدى حساسية النظام السوري تجاه اتفاق الطائف. كان يدرك أنّه يسعى إلى إبقاء احتلاله للبنان إلى الأبد، على غرار احتلاله لسوريا التي سمّاها “سوريا الأسد”.
لم تعد هناك من أسرار في ما يتعلّق بالظروف الداخلية التي أدّت إلى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه. قال مروان حمادة كل شيء تقريبا، مع تركيز خاص على القرار رقم 1559 وما أحاط به من اتصالات سياسية قبل صدوره.
سيستكمل مروان حمادة شهادته لاحقا. لديه الكثير ليقوله، في ما يبدو. ما كشفه إلى الآن مهمّ، بل مهمّ جدّا. الأهمّ من كلّ ما قاله أنّه يشهد أمام المحكمة الدولية التي تشكّلت نتيجة اغتيال رفيق الحريري. كشفت هذه المحكمة أن الأيّام التي كان فيها النظام السوري يقتل ولا يجد من يحاسبه، تنتمي إلى ماض بعيد وعالم آخر.
لن تعاقب المحكمة النظام السوري ومنفّذي الجريمة فقط. المحكمة هي البوابة التي ستقود إلى فتح كلّ الملفات، أكان ذلك في لبنان أو في سوريا. من ملفّ كمال جنبلاط الذي اغتاله النظام السوري بشكل مباشر في العام 1977، إلى ملفّ جريمة اغتيال الدكتور محمّد شطح، وقبلها جريمة اغتيال اللواء وسام الحسن.
ليس بعيدا أيضا اليوم الذي سيظهر فيه ارتباط جريمة اغتيال رفيق الحريري بسياق إقليمي معيّن، بدأ بالحرب الأميركية على العراق التي كانت إيران شريكا أساسيا فيها.
ما كشفه مروان حمادة بالوقائع والأسماء، خصوصا ما يتعلّق بالتهديدات المباشرة التي وجّهها بشّار الأسد إلى رئيس مجلس الوزراء في لبنان، ممثّلا بشخص رفيق الحريري، ليس سوى بداية… أمّا النهاية، فمن سيكتبها ليس المحكمة الدولية، بل الشعب السوري الذي بدأ ثورته في مارس 2011.
هذه الثورة بدأت ولا يمكن أن تنتهي، بغض النظر عما سيحلّ بسوريا، إلّا بفتح ملفات الداخل، خصوصا ملفات السجون والاغتيالات وسرقة البلد وابتزاز العرب عن طريق الإرهاب. هذه الملفات متعلقة بما ارتكبه النظام السوري بسوريا قبل لبنان. مشكلة هذا النظام، الهارب من أزماته الداخلية المستمرّة، كانت دائما مع السوريين الذين رفضوا، في كلّ وقت، الدوس على رقابهم.
مرّة أخرى، بغض النظر عمّا يمكن أن يحلّ بسوريا، نحن ما زلنا في بداية فتح ملفّات النظام. كلّ ما في الأمر الآن أنّ شخصا شجاعا اسمه مروان حمادة أدّى واجبه كاملا تجاه مواطنيه في لبنان، كذلك تجاه الإخوة في سوريا الذين عانوا ما لم يعانه شعب عربي آخر بعدما حلّت عليهم كلّ لعنات العالم، بدءا بالانقلابات العسكرية في 1949، وصولا إلى نظام البراميل المتفجّرة الذي لا يزال مقيما في دمشق. بين انقلاب حسني الزعيم في 1949 والنظام الحالي مرّت سوريا بمرحلة الوحدة مع مصر حين تحكّم الضابط عبدالحميد السراج برقاب مواطنيه، ونظام البعث الذي أشرف على تصفية كلّ ما له علاقة بالحضارة في البلد. أخذ البعث البلد، في نهاية المطاف، إلى نظام الطائفة، ثمّ نظام العائلة الذي لم يعد يجد حليفا له سوى المشروع الإيراني التوسّعي القائم على إثارة الغرائز المذهبية من جهة، والإدعاء أنّه يقاتل “داعش”، التي صنعها، من جهة أخرى.
صحيح أن الاسم الرسمي للمحكمة الدولية هو “المحكمة الدولية من أجل لبنان”، لكنّ الصحيح أيضا أنّها محكمة من أجل سوريا أيضا. كان الأجدر تسميتها “المحكمة الدولية من أجل سوريا ولبنان”. لم يفت الوقت بعد لتغيير الاسم!