الأوضاع في سوريا تسير من سيئ إلى أسوأ، والتغيير الكبير الذي أعلنته الإدارة الأميركية قبل أشهر بالتركيز أولا على دحر «داعش» وتأجيل النظر في الجوانب الأخرى المعقدة للأزمة، لم يسفر حتى الآن عن أي تغيير جوهري يقلب المعادلات على الأرض. فالضربات الجوية ضد «داعش» لم تحدث الأثر المطلوب، وهو ما حذر منه الكثيرون عندما قالوا إن القصف الجوي وحده ضد تنظيم سائل ومتحرك مثل «داعش» لن ينجح في القضاء عليه. ومع انهيار الاستراتيجية الغربية، وصعوبة تصور حدوث اختراقات كبرى خلال العامين الأخيرين من ولاية أوباما الذي سيواجه صعوبات جمة مع الكونغرس الذي يسيطر عليه خصومه الجمهوريون، سوف تزداد معاناة السوريين الذين تراجع الاهتمام بهم وحل ما يوصف في الغرب بالتعب من الشفقة أو الإرهاق من الإحسان.
هذا التعبير يستخدم عادة عندما تتراجع المساعدات الدولية المخصصة لمواجهة أزمة إنسانية بسبب تراجع الاهتمام أو لتعدد الأزمات الدولية وعدم وجود موارد كافية، سواء من تبرعات الدول أو الأفراد. الضحية هذه المرة الشعب السوري الذي يعاني منذ أزيد من 3 سنوات من حرب لا يبدو في الأفق ما يبعث على الاعتقاد أنها ستجد حلا قريبا. فما أعلنه برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة قبل أيام عن أنه بات مضطرا لوقف توزيع كوبونات أو قسائم الطعام على نحو مليون وسبعمائة ألف لاجئ سوري بسبب أزمة التمويل والتبرعات، يعد فضيحة دولية وأخلاقية بكل المقاييس. ففي إطار هذا البرنامج كانت توزع قسائم للاجئين السوريين المحتاجين في لبنان والأردن والعراق ومصر وتركيا يستخدمونها لشراء المواد الغذائية، ومن دونها لن تجد أسر كثيرة ما تسد به الرمق. المحزن أن الأزمة لم تحدث بشكل مباغت؛ لأن البرنامج كان قد وجه نداء وتحذيرا للمجتمع الدولي قبل 3 أشهر من أنه سيضطر إلى وقف قسائم الطعام بسبب تراجع الموارد المالية وعدم تسديد مانحين لالتزاماتهم التي تعهدوا بها.
برنامج الأغذية العالمي وصف الأمر بالكارثة، خصوصا على أعتاب فصل الشتاء، حيث تزداد معاناة اللاجئين والنازحين الذين تعيش أعداد كبيرة منهم في المخيمات في ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها بالغة القسوة. وحذر البرنامج من أنه إضافة إلى المخاطر على صحة اللاجئين وسلامتهم لا سيما الأطفال وكبار السن والمرضى، فإن الأمر قد يؤدي إلى مزيد من التوترات في الدول المضيفة التي تواجه ضغوطا على الموارد والخدمات. المأساة لا تتوقف عند هذا الحد، لأن البرنامج حذر من أنه سيضطر الشهر المقبل إلى وقف مشابه لبرنامجه المخصص لمساعدة نازحين يعتمدون على المساعدات داخل سوريا.
هذه المعاناة المستمرة والمتفاقمة تعكس حجم الفشل الدولي في مواجهة الأزمة على جميع المستويات، عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا وإنسانيا. فالحقيقة المؤلمة أنه لا توجد رؤية واضحة، ولا إرادة سياسية قوية للإسراع في إيجاد حل للأزمة التي لم تعرف سوى التخبط رغم كثرة المؤتمرات واللقاءات التي عقدت باسمها. وفي غياب أي استراتيجية واضحة أو خطة سلام محددة ومتفق عليها، حاولت أطراف غربية أخيرا تسويق خطة «الحد الأدنى» المتمثلة في تجميد القتال، وهدنة من اتفاق غير مكتوب يلتزم فيها الطرفان، النظام والمعارضة، بوقف تام لإطلاق النار وتبقى قوات كل طرف في مواقعها. وجرى التسويق لهذه الخطة الفضفاضة من باب أنها ستسمح بفتح المعابر لتدفق المساعدات الإنسانية، أما الهدف الآخر فهو أن تسمح هذه الهدنة لقوات النظام والمعارضة «المعتدلة» بالتفرغ لمقاتلة «داعش» والحركات الجهادية الأخرى. هذا التفكير يبدو أشبه بأحلام اليقظة أو بسيناريوهات الخيال العلمي. فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تصور أن يقاتل النظام والمعارضة في خندق واحد ضد «داعش» والتنظيمات الجهادية الأخرى، وفي ذهنهما أنه بعد الفراغ من هذه المهمة سيتفرغان لقتال بعضهما البعض.
مثل هذه الخطط غير الواقعية ليست إلا ذرا للرماد في العيون، أو محاولة لتغطية عورات سياسة العجز الدولي. خلال ذلك ستبقى المنطقة تتحمل تبعات استمرار الأزمة السورية، ويدفع الشعب السوري أفدح الأثمان. فمعاناة هذا الشعب الذي كلفته الحرب حتى الآن أكثر من 200 ألف قتيل، وأزيد من 6 ملايين نازح في الداخل و3 ملايين لاجئ في الخارج، لا تأتي على رأس الأولويات لأن الأولوية صارت لحرب «داعش». تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري أمس أكدت هذا الأمر بجلاء وأنذرتنا مجددا بأن هذه الحرب سوف تستمر سنوات عدة، وإذا كان للمرء أن يستخلص أي دروس من تجارب العراق وأفغانستان، فإن الحرب على «داعش» ستكون طويلة جدا، ومكلفة جدا ولا ضمان بحدوث استقرار أو أمن بعدها. إنه حكم على السوريين بالحياة في المعاناة لسنوات طويلة مقبلة، وهذا أمر مخز.
المفترض ألا يأخذ وصول الأزمة السورية إلى البيت الأبيض معه وزير الدفاع تشاك هيغل فقط وإنما أيضا وزير الخارجية جون كيري؛ فالرئيس باراك أوباما، الذي لو أردنا الحقيقة من وجهة نظر عربية وشرق أوسطية لقلنا إنه أضعف رئيس عرفته الولايات المتحدة وعرفه العالم في القرن الماضي وما انقضى من هذا القرن، فهو انتهج، وبخاصة في السنتين الأخيرتين، إزاء الأوضاع المتفاقمة في سوريا وإزاء آخر تطورات القضية الفلسطينية وأيضا إزاء مشكلة القدرات النووية الإيرانية، سياسات ومواقف اتسمت بالتردد والميوعة، لم يرضَ عنها هذان الوزيران وحدهما وإنما الكثير من الذين يلعبون أدوارا رئيسية في رسم «الاستراتيجيات» الأميركية.
بدأ أوباما ولايته الأولى متحمسا وحاسما تجاه الكثير من قضايا هذه المنطقة العالقة، التي ورثها من الذين كانوا قد سبقوه إلى البيت الأبيض، وأولها القضية الفلسطينية، وهنا فإن الكل يذكر تلك الخطبة العصماء التي ألقاها في مدرج جامعة القاهرة خلال زيارة له إلى جمهورية مصر العربية في عام 2009، تلك الزيارة التي وصفت بأنها فريدة ومميزة وتاريخية، لكن للأسف، صدى هذه الخطبة ما لبث أن تلاشى عندما بقيت الوعود وعودا معلقة وعندما ازداد الإسرائيليون في عهد هذه الإدارة الديمقراطية تطرفا وغطرسة، فتراجعت عملية السلام في الشرق الأوسط إلى أن وصلت إلى هذه الأوضاع المخيبة للآمال التي جعلت الفلسطينيين يفكرون جديا في تسليم مفاتيح السلطة الوطنية لرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو.
لم يستطع أوباما أن يوفي ولو بالحد الأدنى من الوعود التي ألزم نفسه بها في خطبة مدرج جامعة القاهرة في عام 2009، ولعل الأسوأ أن وزير خارجيته جون كيري بقي يقوم بجولات مكوكية في هذه المنطقة وبقي يتنقل بين الفلسطينيين والإسرائيليين دون إحراز أي تقدم يمكن الاعتداد به أو البناء عليه، بل وقد أمعن بنيامين نتنياهو كثيرا في السنتين الأخيرتين في تحدي المجتمع الدولي وقرارات الأمم المتحدة برفع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية وفي القدس المحتلة وبمواصلة إذلال الشعب الفلسطيني وممارسة سياسات عنصرية ضد أبناء هذا الشعب، لا تشبهها إلا ممارسات الـ«أبرتهايد» ضد السود في جنوب أفريقيا.
وهكذا فإن فشل أوباما بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، قياسا بما كان وعد به في خطبة مدرج جامعة القاهرة في عام 2009، كان ذريعا وكان محبطا للعرب والفلسطينيين، وذلك إلى حد أن كثيرين بدأوا «يترحمون» على جورج بوش الأب وعلى جورج بوش الابن، وإلى حد أن كره الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما للولايات المتحدة قد تضاعف مرات عدة خلال هاتين السنتين الأخيرتين، ولعل ما عزز هذا الكره الذي على الأميركيين أن يتوقفوا عنده طويلا هو تلك الأساليب الغريبة المثيرة للكثير من الأسئلة والتساؤلات التي اتبعها الرئيس الأميركي تجاه الأزمة السورية، التي ازدادت تدهورا واستفحالا وتحولت إلى أزمة كونية لا يبدو هناك أي ضوء ولو خافت في نهاية نفقها المظلم.
وما انطبق على الصراع في الشرق الأوسط، وتحديدا على القضية الفلسطينية، ينطبق أيضا على الأزمة السورية، فالرئيس الأميركي لدى انفجار الصراع في سوريا عام 2011 بدا حازما وحاسما وأعلن مرارا وتكرارا أنه لا حل مع بقاء بشار الأسد في مواقع الحكم والمسؤولية، لكنه ما لبث أن بدأ المراوحة في المكان ذاته، وما لبث أن أصبح بالنسبة لهذه الأزمة يقول شيئا في الصباح ويتخلى عنه في الظهيرة، مما أوصل الأمور إلى هذه الأوضاع المأساوية وجعل حتى المعارضة «المعتدلة» تعاني من كل هذه الإشكالات التنظيمية والسياسية التي تعاني منها، ومما أدى إلى ظهور «داعش» وأخواتها واستفحال التدخل الإيراني والروسي في الشؤون السورية الداخلية.
لقد ثبت وبالأدلة القاطعة أن باراك أوباما بات يبدو كما لو أنه إما متواطئ وإما عاجز تجاه الأزمة السورية، وإلا ما معنى أن يقول ويعلن، وفي الوقت ذاته الذي نسب فيه إلى الروس استعدادهم للتخلي عن الرئيس السوري إن هم حصلوا على ضمانات ببقاء الحكم الحالي، أنه «لا توجد لديه أي خطط في الوقت الحالي لإطاحة بشار الأسد»؟ ثم ما معنى أن يبدأ هذه الحرب الكونية على «داعش» وعلى الإرهاب وأن يقيم هذا التحالف الذي بات يضم نحو 60 دولة بينما في الوقت نفسه يؤكد ويواصل التأكيد على استبعاد استخدام قوات أميركية برية (أرضية) لحسم الأمور؟
لقد بدأت العمليات الجوية ضد «داعش» و«النصرة» و«خراسان» منذ فترة طويلة، ومع ذلك فإن أي شيء لم يتغير على الأرض حتى في تلك البلدة السورية الصغيرة، عين العرب (كوباني)، وكل هذا في حين أن ميليشيا «داعش» قد وسعت انتشارها في الأراضي السورية، وأنها انتقلت في بعض المناطق العراقية من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، وأنها غدت تقترب من احتلال الرمادي واستكمال احتلال الأنبار.. ما معنى هذا يا ترى؟ وما الذي يريده أوباما الذي يزداد عجزا ويزداد ترددا يوما بعد يوم؟!
هناك من يقول، وهذا صحيح، إن أوباما لديه اعتقاد راسخ بأن إيران رقم رئيسي لا يمكن الاستغناء عنه في معادلة المنطقة، وإنه لا يثق بالعرب ولا يرى إمكانية فعلية لأي دور فعلي لهم في موازين هذه المنطقة، ولذلك فإنه قد وجه إلى مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي تلك الرسالة العجيبة الغريبة التي تعهد فيها بضمان بقاء بشار الأسد وأيضا بالتعاون مع طهران ضد «داعش» لقاء التوصل مع الإيرانيين إلى اتفاق شامل بالنسبة للقدرات النووية الإيرانية.
ثم إن ما يثير الاستغراب بالفعل هو أن أوباما، الذي لُدغ من الجحر الروسي مرات عدة، أخطرها إفشال حل المرحلة الانتقالية في سوريا في «جنيف الثانية»، الذي كان قد تم الاتفاق عليه في «جنيف الأولى»، لا يزال يثق بالرئيس فلاديمير بوتين وبوزير خارجيته سيرغي لافروف ولا يزال يصدق أن الروس سيتخلون عن بشار الأسد، وهذا مع أن لافروف قد جدد التأكيد، حتى قبل أن يصيح الديك، على أن موقف بلاده سيبقى على ما هو عليه تجاه الأزمة السورية، وأن الدعم الروسي لنظام دمشق لن يتوقف، وأن روسيا ستبقى تعتبر أن الأولوية هي لمواجهة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، وبالطبع فإن المعروف أن موسكو كانت ولا تزال تصر على أنه لا توجد معارضة معتدلة إلا معارضة الداخل، وأن كل هذه الفصائل «الخارجية» ومن بينها الجيش الحر هي تنظيمات إرهابية مثلها مثل «داعش» و«النصرة»!!
كان أوباما قد قدم اتفاقية «الكيماوي»، التي أنقذت بشار الأسد من سقوط محتم، كهدية مجانية للرئيس بوتين ولوزير خارجيته لافروف، وكان أوباما قد تواطأ مع الإيرانيين لقناعته بهم وبدورهم الأساسي في المعادلة الشرق أوسطية، وتركهم يتدخلون تدخلا عسكريا وسياسيا سافرا في سوريا، حتى بما في ذلك السيطرة على القرار السوري، وبالنسبة لكل شيء، والمعروف أن أوباما هو الذي أحبط فكرة المناطق السورية العازلة وفكرة مناطق حظر الطيران وهكذا، وبالتالي فإن المفترض أنه لا خلاف على أن الرئيس الأميركي بتردده وميوعة مواقفه هو المسؤول عن المأساة السورية من أولها إلى آخرها، وأنه المسؤول أيضا عن كل هذه الغطرسة الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، وأنه المسؤول عما يجري في ليبيا وفي اليمن، وبالطبع في العراق وفي أفغانستان.
ولذلك فإنه يمكن القول إن باراك أوباما بالنسبة لنا وبالنسبة لقضايانا الملتهبة في هذه المنطقة امتدادا حتى أفغانستان هو أضعف رئيس أميركي منذ جورج واشنطن وحتى الآن، ولعل هذا هو ما جعل رجب طيب إردوغان يصف السياسة الأميركية بأنها «حمقاء»، وأن هذا هو ما جعل كيري يقول لوزير الخارجية الروسي: «استمعوا لما يقوله الرئيس الأميركي لكن لا تكترثوا له»، وهو أيضا ما جعل تشاك هيغل يقدم استقالته ويقفز من سفينة الديمقراطيين التي باتت تقترب من الغرق!!
لم يتوقف العالم الغربي، ولا الحكومات العربية، كثيراً عند إعلان برنامج الغذاء العالمي مؤخراً، على أبواب الشتاء، عن إيقاف برنامجه الغذائي للاجئين السوريين في دول الجوار، والذين يقدّر عددهم بمليون وثمانمائة ألف لاجئ، نسبة كبيرة منهم من الأطفال والنساء، وحتى الرجال غير المتاح لهم العمل، ويعيش أغلبهم في ظل ظروف قهرية غير إنسانية.
بالإضافة، إذن، إلى هذه الأوضاع غير الآدمية، وإلى الخسائر الفادحة التي لحقت بالسوريين من الحرب الداخلية الراهنة، ومن القصف الهمجي اليومي من النظام السوري، فإنّ مئات الآلاف منهم سيعانون هذا الشتاء من الجوع الشديد والبرد، لأنّ برنامج الغذاء العالمي لم يعد قادراً على توفير الدعم المطلوب فقط لتوفير الحدّ الأدنى من الطعام لهؤلاء الأطفال والعائلات!
في الوقت نفسه، نقرأ جميعاً عن الموازنة الهائلة الضخمة التي يتم إعدادها للإنفاق على الحملة العسكرية الراهنة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أغلبها بتمويل عربي، وتصل إلى مليارات الدولارات، بينما يجد الأطفال السوريون المشرّدون أنفسهم في العراء، بلا غذاء!
وعلى قاعدة "شرّ البلية ما يضحك"، فإنّ تحالف "أصدقاء سورية" الذي تبنّى المواقف الداعمة للشعب السوري، في البداية ضد نظام الأسد، لم يعد يخشى على هؤلاء المدنيين ضحايا هذه الحرب الطاحنة، بل هو حريص على مواجهة تنظيم "داعش"، الذي ليس إلاّ نتاجاً طبيعياً لهذه الظروف القاسية، وحالة اليأس والإحباط وغياب الحلول والآفاق، التي تنمو بصورة أكبر في ظل الفوضى والحرمان والجوع والفقر!
أي إنّنا، عملياً، بالتوقف عن الدعم الإنساني للاجئين السوريين، وبإغفال شروط صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، والتفكير فقط في ضرب هذا التنظيم، حتى وإن أدى ذلك لخدمة نظام الأسد، وحتى لو شاركت إيران والنظام السوري في قصف مواقع التنظيم في كل من الرقّة والحدود الشرقية العراقية، بالتناوب مع الطيران الأميركي؛ فإنّ ذلك كله لن يؤدي إلاّ إلى تفجير المنطقة وخلق حالة من الاستقرار الإقليمي، بل سيفجّرها من الداخل إلى أقصى مدى، عبر ما سمته الملكة رانيا (في مقال لها خلال الحرب الإسرائيلية على غزة) "ديستوبيا"، وهو المكان أو المجتمع الخالي من العدل والإنسانية، الذي يعجّ بالخوف والتعاسة.
في روايات الـ"ديستوبيا"، كما تصفها الملكة رانيا، هنالك عالم يشبه الكابوس "يتسم بالبؤس والخراب والظلم والأمراض". فهل هناك وصف أفضل من ذلك لحالة المهجرين السوريين اليوم، في دول الجوار وفي الداخل؟! لكن الفرق أنّنا لا نتحدث اليوم عن رواية أميركية ولا عن فيلم خيالي، بل عن واقعنا، وعن شريحة واسعة من الأشقاء السوريين، ممن أصبحوا تحت طائلة الجوع والفقر والخوف، أو القصف والبراميل المتفجرة والاعتقالات القاتلة، أو حتى الجماعات الدينية والطائفية المتطرفة العصابية، سواء كانت سُنّية أو شيعية!
ما يحدث في المنطقة العربية اليوم أقرب إلى الجنون الرهيب؛ فالإرهاب ليس حكراً على تنظيم "داعش"، بل هناك الميليشيات الطائفية وما يقوم به النظام السوري من إرهاب يولّد إرهاباً مقابلاً، إلى التخلّي التدريجي عن قضية اللاجئين السوريين، إلى الحروب الداخلية والفوضى والعنف والتشدد والقتل والفساد؛ ماذا تتوقعون بأن ينتج عن هذه المناخات؟! ما هو الجيل الجديد الذي تنتظرونه من اللاجئين السوريين الذي تربّى في هذه البيئات؟!
صحيح أن الحرب على الإرهاب والتطرف هي حربنا، لكنْ الإرهاب بأنواعه وصوره المختلفة. والأهم من هذا وذاك الشروط والقوى والمسؤولين عن خلق البيئة النموذجية لهذه الجماعات؛ عبر الإقصاء والقتل والظلم والتهميش والتجويع.
يعود الروس للعب دور في الملف السوري، بعد أن أفشلوا مؤتمر "جنيف2"، حينما أتوا بوفد يمثّل الطرف الذي مارس كل الوحشية ضد الشعب، والذي أتى، وهو يرفض، أصلاً، مبادئ "جنيف1"، وبعد أن تورطت موسكو في أوكرانيا، فتعاملت بما يجعلها تخسر هذا البلد الحيوي لمصالحها، انطلاقاً من "نظرية المؤامرة"، على الرغم من أن الأمر يتعلق بشعب أسقط سلطةً أفقرته، كما سابقتها التي كانت ترتبط بأوروبا. وبالتالي، ضاع الروس في تفاصيل الوضع الأوكراني، ما جعلهم لا يلتفتون إلى الوضع السوري.
في هذه اللحظة، وضعت أميركا استراتيجية العودة إلى العراق والتحالف مع إيران، ومن ثم، الضغط، عبر سورية، للوصول إلى ذلك، تحت عنوان "الحرب ضد داعش"، وهذه أداة تبرير التدخل تحديداً. دفع هذا الأمر روسيا إلى العودة إلى الملف السوري الذي هو ضرورة بالنسبة لها كذلك، لكن في معادلة جديدة، بعد أن أصبحت أميركا طرفاً مباشراً، بعد أن كانت تدعم حلاً روسياً، منذ بداية 2012. جعل هذا الأمر روسيا تبدأ في حوار مع أطراف في المعارضة، ومع السلطة، من أجل ترتيب العودة إلى المفاوضات، في جنيف كما يتسرّب، وعلى أساس مبادئ "جنيف1". لكن، عادت روسيا إلى التأكيد على أن أمر بشار الأسد غير مطروح للنقاش، وأن الأمر يتعلق بترتيب وضع جديد بوجوده، من أجل محاربة الإرهاب.
لا أعرف ما إذا كان بوتين يعرف أن "الحرب ضد داعش" التي طرحتها أميركا فيلم هوليودي، للضغط على إيران لتحقيق تحالف معها، وترتيب وضع العراق، بما يجعل السيطرة الأميركية على الحكومة هي الأساس، من دون تجاهل دور إيران. وبالتالي، أن كل الحديث عن الحرب ضد الإرهاب ليس سوى تغطية على الثورات القائمة من جهة، ومن أجل تغيير في الوضع الجغرافي السياسي، من جهة أخرى. وأن كل سياسة السلطة السورية قامت، منذ البدء، على مبدأ تحويل الثورة إلى "إرهاب"، من خلال "زرع" التنظيمات "الجهادية التي كانت في سجونها، وترتيب نشاطها، من أجل جلب أميركا إلى دعمها، وهو ما ترى أنه ممكن، الآن، أكثر من الانتصار على الثورة، لأنه هو كما تعتقد سوف ينهي الثورة.
بالتالي، استغلال روسيا ذلك لتمرير تشكيل يقبل ببقاء بشار الأسد وحاشيته، يُظهر كم هي "غبية" في التعامل مع ما يجري، حيث تحاول استغلال بعبع لا يخفى على الشعوب أنه كذلك، وأنه يأتي ضمن لعبة أميركية، من أجل مصالح أميركا، وهو لعبة كذلك لتحويل الأنظار عن الثورة، وعن مطالب الشعب التي أولها إسقاط النظام، وإزاحة بشار الأسد. لهذا، لن يكون جنيف3 أو 4 أو 5 ممكناً نجاحها من دون ذلك، مهما جرت المناورة بالإرهاب، والذي هو هو إرهاب السلطة أولاً، المحمية روسياً، وإرهاب "السلفية الجهادية" ثانياً، وأن الصراع هو من الطرفين معاً، على الرغم من صعوبة ذلك، لأنه ليس ممكناً تجاهل طرف، والتركيز على آخر، فالواقع نفسه يفرض الصراعين، على الرغم من كل صعوبات الثورة والتدخلات الإقليمية والدولية التي تصبّ في ضعفها وتشويهها.
لهذا، يجب أن يبدأ "جنيف 2 أو 3" من إقرار روسي بحتمية إزاحة الأسد، وبوفد من السلطة لا يمثله، بل يمثّل طرفاً يقبل مبادئ "جنيف1" التي تنص على تشكيل هيئة (وليس حكومة) حكم انتقالي، لتحقيق الانتقال إلى سورية جديدة. هذا الإقرار ضرورة من أجل التفاعل مع أي مبادرة روسية، وإلا يجب أن يكون واضحاً أنه لا تفاوض معها، ولا حاجة لحوار ونقاش كثيرين. فالأمر واضح، الحل في سورية يجب أن يقوم على سلطة جديدة بدون الأسد، وهذا شرط كل تفاوض مع الروس، أو رفض كل حوار معهم.
يكفي مراوغة، ويكفي استغباء من دولة إمبريالية أظهرت غباءً مفرطاً.
-
الأزمة الاقتصادية السورية ليست وليدة سنوات الثورة، بل لها جذورها العميقة في الاقتصاد السوري. تفاقمت بعد انتهاج النظام السياسيات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد؛ فقد شهدت البلاد انفتاحاً اقتصادياً متسارعاً منذ عام 2007، حيث غزت المنتجات التركية والصينية والأوروبية والمصرية وكذلك الخليجية الأسواق السورية، لتدمر المنتج الوطني الصناعي والزراعي، وتصاعدت مع رفع أسعار الأعلاف والمحروقات.
هذه السياسات نتج عنها ملايين الشبان والشابات، ومنهم خريجو جامعات، بلا عمل وبلا أفق للحياة بالحد الأدنى. كل ذلك دفع الشباب للانخراط في الثورة، وتحدي الموت بدءاً بالرصاص وحتى البراميل المتفجرة.
ضاعفت حرب النظام على الشعب من حدة الأزمة الاقتصادية، بسبب التدمير والتجويع والحصار، والإنفاق الكبير على آلة القتل العسكرية؛ وأيضاً بسبب استمراره في انتهاج السياسات الليبرالية الجديدة نحو المزيد من الانفتاح الاقتصادي، والمزيد من الخصخصة، لتستفيد منها قلة فقط من رجال الأعمال المحيطين بالنظام، ويستمرون باكتناز رؤوس الأموال من أفواه الشعب، رغم أن معدل الفقر تزايد من 33 بالمئة في 2011، إلى ما يفوق الـ75 بالمئة اليوم. هذا فضلاً عن حالة عدم الاستقرار السياسي التي تحل بالبلاد، وسيطرة التيارات الجهادية، بمختلف تنويعاتها، على الجناح العسكري للثورة.
معظم الرؤى الاقتصادية المطروحة تتبع مصلحة الفئات التي تقول بها: فرجال الأعمال غير المستفيدين من النظام يضعون المشكلة كلَّها في فساد النظام وسيطرته الأمنية، ويوافقون سياساته الليبرالية، وبالتالي هم يرون أن من حقهم أن يكونوا في الدائرة الضيقة المستفيدة من تلك السياسات، ليس إلا، دون النظر إلى تحسين الأوضاع المعيشية لكل الشعب، سوى توفير بعض الوظائف في مشاريعهم الخدمية والهامشية وباستغلال كبير.
أما المثقفون وأبناء الطبقة الوسطى، فهم يتطلعون إلى توسيع مساحة حرية التعبير، والحد من التدخلات الأمنية في أمورهم الشخصية، وليست لديهم تصورات حول الأزمة الاقتصادية، حيث يرونها نتيجة، وليست الأساس المسبب والمحدد للسياسات الأخرى؛ وهم في الغالب يتطلعون إلى وظائف في المرافق الخدمية التي تحتاج إلى بعض المهارات التقنية، والعمل في البنوك والمصارف؛ ويمكنهم إيجاد الفرصة عبر شبكة العلاقات التي يقيمونها في وسطهم الضيق. ولا يهتمون بأزمة بقية الشعب المفقّر في الأرياف والأحياء الفقيرة.
المعارضون السوريون في أغلبهم ينتقدون النظام لاحتكاره السلطة؛ هؤلاء مطلبهم الديمقراطية؛ الديمقراطية الضعيفة التي توصلهم إلى الحكم، أو أقلها المشاركة فيه. وهم ربما لا يشعرون بأزمة الشعب المعيشية، سوى للاستفادة منها في “شيطنة” النظام، ودعوة الغرب ليتدخل للإنقاذ والإطاحة به، كما يتوهمون، دون أن يطرحوا البديل السياسي والاقتصادي، كبرنامج واقعي يلبي حاجات كل الشعب؛ هؤلاء يطرحون أنفسهم كبديل، مع تأكيدهم على الاستمرار في سياسات النظام الليبرالية التفقيرية نفسها، لكن بتغيير الأشخاص المستفيدين، أو بالتشارك معهم. ولعل سلسلة مؤتمرات إعادة هيكلة الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار، التي عُقدت بين دبي وبرلين، برعاية دول “أصدقاء الشعب السوري”، تؤكد تلك التوجهات.
إعلام النظام السوري ومنظروه يثنون على استمراره بالانفتاح الاقتصادي، رغم تهكم مؤيديه من المفقرين، ويؤيدون اللجوء إلى الاقتراض والاستثمارات الأجنبية لإعادة الإعمار. أما اليسار الممانع، خصوصاً “يسار قدري جميل”، فهؤلاء مصابون بانفصام شخصية “يساري”؛ فهم ينتقدون الانفتاح الاقتصادي للنظام على الغرب وتركيا والخليج، ويؤيدون الانفتاح تجاه ما يسمونه “الشرق”، أي روسيا والصين، بوصفها دولاً “اشتراكية” حسب رأيهم، وربما إيران أيضاً، وهم يتغافلون- قصداً- عن السياسات الإمبريالية لروسيا والصين في نهب الشعوب، والتي بنوكُها تنافسُ بنوكَ الغرب على الأدوار الاحتكارية ذاتها، في تقديم القروض وفرض سياسات التقشف على الحكومات، وإجبار الدول المقترضة على تقليل حجم الصرف الحكومي على الخدمات الاجتماعية، وفرض الضرائب التنازلية.
بعضُ الباحثين الاقتصاديين يرون أنّ حلَّ الأزمة الاقتصادية يمر عبر اقتصاد السوق الحر، والاعتماد على القطاع الخاص، وذلك بشكل مترافق مع الاستقرار السياسي، والديمقراطية، وإقرار العقد الاجتماعي الذي يكفل المواطنة والحريات العامة وغيرها من القيم الحداثية، لكن بشرط تدخل “ذكي” للدولة، من أجل ضمان توزيع أكثر عدالة للدخل، وضمان الخدمات الاجتماعية المجانية. هو رأي يريد محاكاة الدولة “الكينزية”، على غرار بعض الدول الأوروبية الغربية. هذا الطرح لا يخلو من ميل سلبي تجاه أيديولوجيا متخيلة تربط اليسار بالبيروقراطية والفساد. هذا الرأي يقرّ بكارثية الانفتاح الاقتصادي على الشعب، ويرى تحقيق التوازن بتدخلٍ إرادي للدولة لصالح الشعب؛ الأمر غير الواقعي.
فتلك الدّول “المثال” هي دول رأسمالية قبل كل شيء، ومحكومة بمافيات رجال الأعمال المستفيدة من سياساتها الداخلية والخارجية في نهب شعوب العالم. أما المكاسب الشعبية فقد حصلت عليها شعوب تلك الدول بعد تاريخ مرير من نضالاتها عبر المنظمات والأحزاب العمالية واليسارية، وذلك بعد التسوية التاريخية لتلك الأحزاب والمنظمات مع دولها. بحيث صارت حماية مكاسب الشعب، هي مهمة منظمات شعبية حكومية قوية شريكة في الرقابة وفي صنع القرار. وهي في صراع دائم مع الحكومات، للمحافظة على مكاسب الشعب؛ وكثيراً ما تنتصر السياسات الليبرالية الجديدة وتتقلص تلك المكاسب.
إذن هي مهمة اليسار في قيادة نضالات الشعب وفي حشده للضغط على الحكومة/ الدولة، لضمان حقوقه في العدالة الاجتماعية، وكذلك في مراقبته بنفسه للعملية الديمقراطية، ولضمان الحريات، ولجعل القطاعين العام والخاص منتجين، بعيداً عن السياسات الليبرالية الجديدة.
بقي القول أن السياسات الغربية للدول العظمى المتصارعة على سوريا غير معنية بالاستقرار وبتحسين معيشة الخلق، بل هي معنية أولاً بتقاسم النفوذ في المنطقة، وتقاسم الاستثمارات والهيمنة الاقتصادية والسياسية. وثانياً معنية بأمن إسرائيل؛ وثالثاً بتحويل سوريا إلى دولة ضعيفة عبر إطالة عمر النظام الذي يدمرها، وعبر السماح للجهادية بالتمدد فيها، وعبر إقرار حل سياسي، لاحقاً، يقوم على محاصصات، غالباً طائفية، لإغراق الشعب في مشكلات أيديولوجية، كي لا يقوى على العودة إلى الثورة.
جاءني صوتها مخنوقاً عبر الهاتف، لم تستطع أن تقاوم رغبة في البكاء. ابنها (25 عاماً) قتل في سورية، وهو يتصور أنه يجاهد مع داعش ضد أعداء البغدادي، كتائب الجيش الحر.. ما دخله؟ كيف غسلوا ذهنه، حتى خرج من حضن العائلة إلى الحرب؟ حاولت أن أهدئ الأم المكلومة التي تريد أن تتقاسم قصتها مع أمهاتٍ أخريات، حتى ينقذن أبناءهن من مصيرٍ مماثل. طلبت منها حكي القصة، فقالت: شاب متعلم، كان على أبواب الزواج، أسرته متوسطة الحال. الأب كان مناضلاً في حزب الاستقلال المغربي، يحلم بوطن حر مستقل وتقدم، تصور أن هذه الأهداف ستتحقق، بمجرد خروج آخر جندي من المغرب، لكن سنوات الاستقلال أصابت الأب بالإحباط. الأم تشتغل في التعليم العمومي، وبما أنها تعرف أعطابه دفعت بابنها إلى التعليم الأجنبي. كبر الابن في أسرة من ثلاثة إخوة، هو أصغرهم. درس في مدارس البعثة الإسبانية، وحصل على عمل مع شركة دولية. لم تكن أسرته بعيدة عن التدين المغربي الوسطي، ولا كانت تظهر عليه علامات التشدد. كان مقبلاً على الحياة، مولعاً بتكنولوجيا التواصل الحديثة. كان يقضي ساعات أمام "النت" وعالمه الافتراضي. لم تفطن الأسرة إلى أن الابن خرج من العالم الواقعي، وانخرط في عالم الجهاد العالمي، حيث الصورة والفيديو يلعبان لعبتهما.
لم يُستقطب إلياس إلى داعش عن طريق المسجد أو الخلايا النائمة أو الاتصال المباشر بشيوخ أو دعاة أو مقاتلين. جرى اصطياده من وراء الشاشة في الشبكة العنكبوتية، حيث يشتغل جهاديو "النت" في "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت الأرض الحقيقية للمعركة. هنا، جرى غسل دماغه، أولاً بعرض فيديوهات معاناة السوريين ضحايا بربرية الأسد، في محاولة لإثارة مشاعر إنسانية طبيعية، ثم عرض "معاناة أهل السنة مع عصابات الشيعة"، ومنها إلى محاربة أميركا والغرب الكافر الذي يحتقر المسلمين، ويحتل أرضهم ويستبيح خيراتهم. ما الحل؟ إنه مبايعة البغدادي، والانتماء إلى الخلافة الإسلامية، ثم الجهاد والموت في سبيل الله، والذهاب إلى الجنة، مباشرة بلا حساب ولا عقاب ولا سؤال! هكذا وجد إلياس نفسه في طائرة تركية إلى إسطنبول، ومنها إلى الحدود السورية، وبقية القصة معروفة. غاب أسابيع، بعدها هاتف أمه: أنا في العراق، جندي أقاتل من أجل العقيدة. .. أية عقيدة تدفع شاباً إلى المحرقة في معركةٍ، لا يعرف عنها إلا الشعارات العاطفية. كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ لا جواب. الابن خرج من عالم ودخل عالماً آخر، وبعد أشهر، قُتل في ظروف لا يعلمها أحد.
ليس الفقراء وحدهم من ينتمون إلى داعش هناك، فهناك شباب متعلم في مدارس الغرب، يرتمي بلا عقل في أحضان الحركات الأصولية المتطرفة، يحلم بالبطولة والانتماء إلى مشروع يتصوره كبيراً. ولأن المشروع القومي مات أو يكاد، ولأن المشروع اليساري هرم أو يكاد، ولأن المشروع الإسلامي انتكس أو يكاد، ولأن المشروع الديمقراطي أجهض أو يكاد، توهم إلياس أنه وجد الحل، وعثر على البديل.
شباب الخمسينات والستينات والسبعينات في المغرب، والعالم العربي، كان مشدوداً إلى مشاريع وأهداف كبرى، مثل الوحدة العربية وتحرير فلسطين وثورة العمال والفلاحين. اليوم، الشباب ضائعون في زحمة انهيار المشاريع الكبرى، وحتى ربيعهم الديمقراطي الذي كان واعداً تكالبت عليه قوى الثورة المضادة. لهذا، ينزلق بعضهم، بسرعة، إلى مشروع انتحاري، صنعه الكبار، ويموت من أجله الصغار. لم يقرأ هؤلاء كتاباً عن الإسلام أو الجهاد، ولم يعرفوا شيئاً عن فقه الحرب وفقه السياسة. مع ذلك، وضعوا أرواحهم فوق أكفّهم، وسافروا إلى أرضٍ ليست أرضهم، وماتوا، أو أوشكوا على الموت، لأنهم لم يفكروا في فهم العالم قبل تغييره، ولا اهتموا بفك تعقيداته، قبل الدخول إليه.
سياسة الولايات المتحدة لإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية محكومة بالفشل؛ وفيما يلي كيفية إصلاح تلك السياسة.
من المرجّح أن الاستراتيجية الراهنة التي تستعملها الولايات المتحدة لتدمير تنظيم الدولة الإسلامية محكومة بالفشل. في الواقع، ثمة مخاطرة في أن تفضي إلى العكس تماماً مما تهدف إلى تحقيقه، أي تعزيز جاذبية الجهاديين في سورية والعراق، وفي أماكن أبعد منهما بكثير، في حين تترك الباب مفتوحاً لتنظيم الدولة، لكي يتوسع إلى مناطق جديدة.
ويعود سبب ذلك، في جزء كبير منه، إلى أن الولايات المتحدة تصدّت، حتى الآن، لمشكلة تنظيم الدولة، في معزل عن الأوجه الأخرى للصراع العابر للحدود، في كل من سورية والعراق. ما لم تتبنَّ إدارة باراك أوباما نظرة أوسع، فإنها لن تتمكن من الاستجابة بفعالية للوضع المتدهور على الأرض. الأمر الجيد أنه لا يزال في وسع البيت الأبيض تغيير هذه السياسة. وبالفعل، فقد ذُكِر أن الرئيس باراك أوباما طلب إجراء مراجعة لاستراتيجية إدارته في سورية. في سياق صياغة مسعى البيت الأبيض لشق طريق جديد إلى الأمام، فإنه ينبغي أن يفهم ثلاثة أمور حول تنظيم الدولة والمشهد العسكري الذي يعمل في إطاره.
1. التمدد جوهري لمستقبل تنظيم الدولة الإسلامية، وأفضل احتمالاته في سورية.
إن قدرة هذه المجموعة الجهادية على إظهار تمتّعها بزخم كبير أمر جوهري، يُمَكّنها من تعبئة وحشد مقاتلين وأنصار جدد. في مناخ من الاستقطاب الطائفي، ووسط تنامي الغضب السنّي حيال استعمال الحكومتين السورية والعراقية والميليشيات الحليفة لهما للعنف الذي لا يميز بين المدنيين والمقاتلين، فإن نقطة القوة الرئيسية لتنظيم الدولة تمثّلت، حتى الآن، في قدرته على تحقيق سلسلة من الانتصارات اللافتة. إن سيطرته على مزيد من المناطق، تظهر قوته بصورة تتناقض، بشكل صارخ، مع خصومه من السنّة، مثل الشخصيات السياسية السنية في بغداد، التي تبدو لا حول لها ولا قوة، وفصائل المعارضة السورية المسلّحة غير الجهادية. كما أن الزخم الذي يظهره في ميدان المعركة يمنح تنظيم الدولة علامة مميزة، تخفي، في المحصلة، مُنتجَه المألوف وغير الجذّاب المتمثل في الحكم الأحادي الاستبدادي، الذي يفرضه بقوة وحشية، ومن خلال العمل الاستخباراتي السرّي.
في آخر تسجيل صوتي لـ "خليفة" الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي، قال، "اطمئنوا ايها المسلمون، فإن دولتكم بخير، وفي أحسن حال. لن يتوقف زحفها، وستظل تمتد، بإذن الله" على الرغم من أن المواد الدعائية التي يصدرها تنظيم الدولة تشير إلى غير ذلك، فإنه، في الواقع، أعطى الأولوية لتوسّعه، وتعزيز قوته في المناطق، ذات الأغلبية العربية السنّية. إذا نظر المرء إلى محاولات التنظيم الاستيلاء على الأرض والموارد من القوات الحكومية والكردية، لوجد أنه يفعل ذلك في الأطراف، أو في مناطق معزولة، مثل مدينة كوباني، الواقعة شمال سورية، وهي مناطق ضعيفة بشكل خاص.
" الاستراتيجية الراهنة التي تستعملها الولايات المتحدة لتدمير تنظيم الدولة الإسلامية محكومة بالفشل "
ثمة حوافز كثيرة، تدفع تنظيم الدولة لقطف مثل تلك الثمار الدانية، لكن مكاسبه ستكون أكبر، إذا استولى على مناطق، يقطنها العرب السنّة. إن كلّ تقدّم يحققه في هذه المناطق لا يسهم في تعزيز الزخم الذي يُعتقَد أن التنظيم يتمتع به، وحسب، بل إنه يتحقق، أيضاً، على حساب المنافسين السنّة المحليين. وهذا أمر محوري، لأن للقوات المحلية سجلاً حافلاً بصدّ هجمات التنظيم في المناطق العربية السنية في العراق وسورية. لقد تمكّنت القبائل السنّية المحلّية، والمجموعات المسلّحة، من طرد التنظيم الذي كان يُعرف، حينذاك بدولة العراق الإسلامية، بمساعدة أميركية في عامي 2007 و2008، وأخرجته مجموعات المعارضة المسلّحة من مدينة حلب، ومن معظم المناطق في شمال غرب سورية، في مطلع عام 2014.
إذا تمكّن تنظيم الدولة من تهميش مثل هؤلاء المنافسين، وفرض احتكاره المقاومة السنّية للقوات الحكومية والميليشيات المتحالفة معها، والمكروهة من السكان المحليين، فإنه يضمن بقاءه في المستقبل المنظور. وقد تمكّن من تحقيق ذلك فعلياً في العراق، ويأمل بتحقيقه في سورية.
بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية، فإن أكثر أهداف توسّعه في سورية والعراق أهمية ريف حلب الشمالي في سورية. تسيطر مجموعات المعارضة المسلّحة غير الجهادية على هذه المنطقة، لكنها تنتشر على منطقة واسعةٍ، وبأعداد قليلة، حيث تسعى إلى صد هجمات تنظيم الدولة، قرب مدينة مارع. وفي الوقت نفسه، تقاتل لمنع النظام من تطويق قواتها داخل مدينة حلب الواقعة على بعد 15 ميلاً إلى الجنوب. إذا صعّد الجهاديون من هجماتهم على مارع في المستقبل القريب، فإن المجموعات المسلّحة غير الجهادية التي تصارع لإبطاء تقدّم قوات النظام في حلب قد لا تتمكن من منع تنظيم الدولة من تحقيق مكاسب مهمة.
ما هو على المحكّ في ريف حلب الشمالي هو المناطق الحدودية الاستراتيجية التي تسيطر عليها المعارضة. إذا استولى تنظيم الدولة على هذه المناطق، فذلك سيمنحه السيطرة على خط إمداد مهم من تركيا، والحصول على موطئ قدم، يتوسّع منه باتجاه الغرب. بالنسبة لقوات المعارضة غير الجهادية، سيكون هذا المزيج من الخسائر البشرية، واللوجستية والنفسية مدمّراً.
" تمكّنت القبائل السنّية المحلّية، والمجموعات المسلّحة، من طرد التنظيم الذي كان يُعرف، حينذاك بدولة العراق الإسلامية، بمساعدة أميركية في عامي 2007 و2008 "
في هذا السياق، فإن المقاربة الأميركية الحالية التي تعطي الأولوية للميدان العراقي من المعركة، وتؤجّل القرارات الصعبة فيما يتعلق بسورية، تتناقض مع الديناميكيات العاملة على الأرض.
2. أزمتا "الدولة الإسلامية" والنظام مرتبطتان.
يقرّ المسؤولون الأميركيون، علناً، بأن سلوك النظام السوري، وطبيعته بحد ذاتها، يشكلان عاملاً رئيسياً في تغذية صعود الجهاديين، وأن العدد الذي تقتله قوات الرئيس السوري، بشار الأسد، من المدنيين (وأفراد مجموعات المعارضة المسلحة) أكبر بكثير مما يقتله تنظيم الدولة. كما أنهم يعترفون بأن دور مجموعات المعارضة المسلحة، غير الجهادية، سيكون محورياً في تقليص المكاسب التي يحققها الجهاديون. إلاّ أنه، من الناحية العملية، السياسة الأميركية تجعل دمشق أكثر جرأة، وتُضعِف مجموعات المعارضة المسلحة التي صُمِّمت هذه السياسة، أصلاً، لدعمها.
مكّنت الضربات الجوية التي يشنها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة النظام من إعادة نشر قواته لمواجهة قوات المعارضة المسلّحة غير الجهادية، التي يبقى إلحاق الهزيمة بها الأولوية القصوى للنظام. منذ بداية الضربات الجويّة الموجّهة لتنظيم الدولة، حققت قوات النظام مكاسب على الأرض ضد قوات المعارضة المسلحة غير الجهادية، على جبهات رئيسية في محافظة حماه ومدينة حلب. وفي حالة حلب، جاءت مكاسبها على حساب فصائل المعارضة المسلحة التي تواجه تنظيم الدولة في ريف حلب الشمالي.
لقد أدّت الغارات الجوية الأميركية إلى محوٍ جزئي للخطوط الفاصلة بين الاستراتيجية العسكرية الأميركية والاستراتيجية العسكرية للنظام. بدلاً من حصر التركيز على ضرب أهداف تنظيم الدولة في شرق سورية، فإن الولايات المتحدة قصفت، غرب حلب، جبهة النصرة، التابعة لتنظيم القاعدة، والتي أكسبها دورها في محاربة النظام وتنظيم الدولة مصداقية لدى قواعد المعارضة. ويبدو أن الولايات المتحدة قصفت، في إحدى المرات، "أحرار الشام"، وهي مجموعة سلفية، غيّرت برنامجها السياسي، في الشهور الأخيرة، ليصبح أكثر اعتدالاً، ويُنظَر إليها، على نطاق واسع، على أنها مكوّن سوري أساسي (على الرغم من أنه متشدد) في المعارضة المسلّحة. إن ادعاءات واشنطن بأن هذه الضربات استهدفت أعضاء خلية سرية باسم "خراسان"، تخطط لمهاجمة الولايات المتحدة أو أوروبا، غير مقنعة في نظر فصائل المعارضة المسلّحة، بشكل أساسي، لأن واشنطن لم تكن قد ذكرت تنظيم "خراسان"، حتى الأسبوع الذي سبق أول جولة من الضربات الجوية.
" المقاربة الأميركية الحالية تعطي الأولوية للميدان العراقي من المعركة، وتؤجّل القرارات الصعبة فيما يتعلق بسورية "
تعزز مثل هذه الضربات مزاعم الجهاديين بأن الحملة الأميركية تهدف إلى تعزيز قوة الأسد، وإضعاف طيف واسع من القوى الإسلامية، وبالتالي، هي تشكّل ضربة كبيرة لمصداقية فصائل المعارضة، المستعدة لبناء شراكة مع الولايات المتحدة. بالنسبة لقائد فصيل معارض، يسعى إلى إقناع مقاتليه بأن التعاون مع واشنطن في مصلحة الثورة، فإن الضربات الأميركية التي تتجاهل نظام الأسد، في حين تقصف "أحرار الشام" يصعب تفسيرها. حتى على فرَض أن "خراسان" يشكّل تهديداً، يبرر القيام بعمل عاجل ضده، فإن على واشنطن أن تكون أكثر حذراً في سعيها إلى الموازنة بين الخسائر التي تلحق بالجهاديين، جراء الضربات التي توجهها لهم في مقابل الفوائد التي يجنيها هؤلاء، من خلال تنامي الاستياء من مقاربة الولايات المتحدة في أوساط المعارضة المسلّحة.
كما أن واشنطن تواجه مشكلة عملياتية ملموسة، تتمثل فيما يلي:
كيف يمكنها أن تأمل بتمكين فصائل المعارضة المعتدلة في شمال سورية، إذا استمر النظام بدفعها نحو حافة الهزيمة؟ سيثبت أن الجزء المخصَّص لتعزيز قوة هذه الفصائل في سياسة البيت الأبيض، والمتمثل في برنامج بقيمة 500 مليون دولار، لتدريب وتسليح 5000 مقاتل، على مدى عام، ضئيل جداً ومتأخر جداً، بحيث لن يمكّنها من المحافظة على المناطق التي تسيطر عليها ضد التصعيد المتوقّع من تنظيم الدولة، والجهود المستمرة التي تبذلها جبهة النصرة، لتوسيع سيطرتها داخل مناطق المعارضة المسلحة، إضافة إلى هجمات النظام المستمرة.
3. ليكون "تجميد القتال" مفيداً، ينبغي أن يختلف جذرياً عن حالة "وقف إطلاق النار".
يسعى المبعوث الخاص للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، إلى تحقيق "تجميد للقتال" في المعركة المحورية بين النظام وقوات المعارضة في حلب. وتهدف هذه الجهود إلى درء الكارثة الإنسانية في تلك المدينة، والسماح لجميع الفصائل بتعبئة مواردها لمقاتلة تنظيم الدولة.
إن استعمال دي ميستورا عبارة "تجميد القتال"، بدلاً من "وقف إطلاق النار" أمر مهم. لقد فقدت عمليات وقف إطلاق النار مصداقيتها في سورية، حيث استغلّها النظام كجزء محوري في استراتيجيته، في التوصّل إلى مثل تلك الاتفاقيات مع فصائل المعارضة، لتعزيز انتصار عسكري، أو لسحب قواته من منطقةٍ، لتوجيهها إلى جبهة أخرى. لقد ضمن تفوّق النظام في قوة النيران أن تكون الشروط في مثل تلك الاتفاقيات لصالحه؛ وقد لجأ إلى انتهاكات صارخةٍ للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك، استخدام الحصار والقصف الذي لا يميّز بين المدنيين والمقاتلين، لتحيق أهدافه. وهكذا، فإن حالات وقف إطلاق النار لم تؤدِّ إلى تقليص إجمالي في مستويات العنف في البلاد، أو إلى الاستجابة للمظالم المشروعة التي نجحت المجموعات الجهادية في استغلالها.
" ضمن تفوّق النظام في قوة النيران أن تكون الشروط لصالحه؛ وقد لجأ إلى انتهاكات صارخةٍ للقانون الدولي الإنساني "
يمكن لتجميد القتال في حلب أن ينقذ حياة كثيرين، وأن يساعد الجهود المبذولة لمحاربة تنظيم الدولة. لكن، فقط إذا حافظ على القدرات القتالية لفصائل المعارضة المسلّحة، غير الجهادية. أما إذا أدّى إلى تثبيت انتصار النظام هناك، أو إذا مكّن دمشق من إعادة نشر قواتها ضد فصائل المعارضة، في أماكن أخرى، فإنه سيكون لمصلحة تنظيم الدولة. إذا تمكّن النظام من تحقيق مكاسب على الأرض، على حساب مجموعات المعارضة المسلحة، باستعمال القوة أو من خلال الهدنة، فذلك يؤدي إلى إزاحة المنافسين السنة من طريق الجهاديين.
إلا أن وضع النظام في محيط حلب قوي، بالنظر إلى تقدم أحرزه، في محاولته قطع آخر خط إمداد للمعارضة المسلّحة في المدينة. وبالتالي، فإنه ليس لديه أي دافع، حالياً، للتوصّل إلى اتفاق يحافظ على القدرات القتالية لفصائل المعارضة المسلّحة. تفضّل دمشق توجيه ضربة حاسمة للمعارضة المسلّحة في حلب، وهو ما سيشلُّ قدرة الشركاء المحتملين للغرب، وسيترك النظام بوصفه الحصن المفترض ضد الجهاديين. تدرك فصائل المعارضة ذلك، وبالنظر إلى تجربتها السلبية مع حالات وقف إطلاق النار في أمكنة أخرى، فإن حتى الذين يفضّلون تجميد القتال من غير المرجح أن يستثمروا أي رأسمال سياسي، في إقناع المتشككين ضمن صفوفهم، ما لم يروا اسباباً جديدة، تجعلهم يأملون باتفاق منصف.
وهكذا، فإن جوهر المأزق الأميركي في سورية واضح؛ وهو يتمثل في أن إضعاف الجماعات الجهادية يتطلّب تمكين البدائل السنّية المعتدلة، إلا أن تحقيق ذلك قد يكون مستحيلاً، ما لم يكن بالإمكان إقناع دمشق (أو داعميها في طهران) بتغيير استراتيجيتها، أو إجبارها على إجراء هذا التغيير. حتى الآن، يتعامل النظام مع المعارضة التي يدعمها الغرب ودول الخليج وتركيا بوصفها التهديد الأساسي لسيطرته في سورية، ويتعامل مع تنظيم الدولة بوصفه تهديداً ثانوياً، تساعد الولايات المتحدة في التصدي له.
" يتعامل النظام مع المعارضة التي يدعمها الغرب ودول الخليج وتركيا بوصفها التهديد الأساسي لسيطرته في سورية "
لم تفعل إيران شيئاً يوحي بأنها تعترض على استراتيجية النظام، بل إنها تساعده على تحقيق تلك الاستراتيجية.
يبدو أن دمشق وطهران تعتقدان أن انتصار النظام يتمثل، ببساطة، في المحافظة على المسار الراهن للصراع، إلا أن هذه الرؤية قصيرة النظر، وستكون نتائجها تمكين الجهاديين من تجنيد أعداد غير مسبوقة من المقاتلين. إذا أرادت واشنطن منع ذلك، وبالتالي، وقف دورة العنف المستمر التي سيؤدي استمرار هذا الوضع إلى ترسيخها، فعلى الولايات المتحدة أن تحقق التوازن بين استراتيجيتها في العراق وسورية، وأن تعيد النظر في تكتيكات تتّبعها في توجيه ضرباتها الجوية، وإيجاد السبل الكفيلة بتغيير حسابات دمشق وطهران.
السوريون في الداخل لا يسمعون يوميا سوى أصوات الرصاص والقنابل فيما لم يعد اللاجئون منهم في دول الجوار يسمعون هذه الأيام سوى تحذيرات برنامج الغذاء العالمي من أنه لم يعد بمقدوره توفير المساعدات الغذائية لهم خلال شهر كانون الاول/ديسمبر الجاري، أبرد شهور العام، بسبب نقص التمويل رغم أن هؤلاء اللاجئين يعيشون أصلا في أوضاع مزرية. ووفق ما قالته إرثارين كوزين رئيسة برنامج الغذاء العالمي فإن وكالة عمليات الطوارىء في سوريا بحاجة إلى 64 مليون دولار لمساعدة اللاجئين السوريين خلال ديسمبر فقط وهو ما لم تستطع تأمينه إلى حد الآن.
وفي التفاصيل فقد توقفت بشكل كامل منذ بداية الشهر الحالي مساعدات اللاجئين في لبنان، بينما تستمر المساعدات المقدمة للاجئين في المخيمات بالأردن لهذا الشهر فقط. أما بالنسبة لمصر وتركيا فإن المساعدات ستستمر لمدة ثلاثة عشر يوماً ومن ثم تتوقف بالكامل ما لم يتم توفير التمويل المطلوب عاجلا. ويقول المتحدثون باسم برنامج الغذاء العالمي أنه ينفق 35 مليون دولار أسبوعيا لمواصلة عملية إنقاذ حياة اللاجئين بتوفير معونات الغذاء لمن هم في أشد الحاجة إليها، سواء لمن هم داخل سوريا والبالغ عددهم 4.2 مليون شخص أو اللاجئين في دول الجوار السوري والذين يقترب عددهم من مليوني لاجئ.
ويتمثل التمويل قضية محرجة للغاية لأن البرنامج وهو يعاني هذا المأزق لا يستطيع أن يدين بالإسم أي دولة مترددة في المساعدة أو لم تف بالتزامات قطعتها على نفسها، فالمتحدثة باسم البرنامج في الشرق الأوسط عبير عطيفة تقول إنه رغم تلقي «مساعدات سخية من المانحين التقليديين»، الذين لم تذكر أسماءهم، فإن كثيرا من التعهدات بالتمويل لم تصل بعد كما كان يفترض، بل إن 74٪ من المبالغ التي تم التعهد بها في مؤتمر الكويت مطلع هذا العام، والذي خصص لتمويل المساعدات الإنسانية للاجئين السوريين، لم يقع الإيفاء بها. هذه النسبة الكبيرة تدل في أدنى الإحتمالات على عدم جدية هذه الدول وفي أقصاها على عدم اكتراث بحياة هؤلاء السوريين البائسين.
وبخصوص عدم ذكر الدول التي تخلفت عما تعهد به، تقول السيدة عطيفة بأننا «لسنا هنا للتشهير بأحد من المانحين لأننا نريد أن يساهم الجميع وخاصة أن الأزمة ذات أبعاد إقليمية حيث تحملت دول الجوار لسوريا الكثير من الأعباء للإبقاء على حدودها مفتوحة أمام اللاجئين السوريين».. وهو كلام يدل على أن قسوة الأزمة المالية لا تسمح على الإطلاق ولو بتوجيه إشارة عابرة لهذه الدولة أو تلك لأن الأمل في أن تتحرك لم يفقد بالكامل، وليس من المسؤولية إتهام أي منها بالتقصير أو التأخير لأن ذلك قد يدفعها بالكامل إلى نفض يدها من أية مساهمة الآن وربما في المستقبل.
لم يقدم برنامج الغذاء العالمي فجأة على هذه الخطوة القاسية بإعلان إفلاسه تقريبا في نجدة السوريين بلقمة الكفاف الغذائي إذ سبق له أن دقَّ ناقوس الخطر مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي حينما خفض من حجم مساعداته الغذائية للنازحين واللاجئين السوريين بنسب تتراوح بين ثلاثين وأربعين بالمائة بسبب التمويل أيضا. ومنذ ذلك التاريخ وهو ما انفك يحذر من مغبة ما هو آت.. ولكن دون فائدة.
الملفت للانتباه أن برنامج الغذاء العالمي لم يستطع أصلا الاستمرار جزئيا في الايفاء بالتزاماته الأخيرة إلا بفضل مساعدة أمريكية بــ 125 مليون دولار قدمتها الولايات المتحدة : 55 مليون دولار للمساعدة في توفير الغذاء في الداخل السوري و70 مليون دولار للاجئين في مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا. ووفق أرقام البرنامج أيضا، فإن الحكومة الأمريكية ضخت منذ اندلاع الحرب في سوريا ما يقرب من مليار دولار للمساعدات الغذائية (933 مليون دولار أمريكي) لآلاف من الأسر السورية المحتاجة من خلال برنامج الأغذية العالمي مما يجعلها أكبر مانح إقليمياً وعالمياً، فيما لا توجد أرقام متداولة عما قدمته الدول العربية الغنية لهذا الصندوق على وجه الدقة.
من جوانب المأساة السورية التي بات العالم يتابع أخبارها يوميا ببرود وبنوع من عدم الاكتراث أن هذا الشعب الذي فر مئات الآلاف من أبنائه إلى الخارج وقتل منه ما يقارب المائتي ألف منذ اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011 لم يعد اليوم يتطلع إلى تدخل العالم لإنهاء مأساته المتمثلة حاليا في تواصل عربدة النظام وخور التنظيمات المتطرفة وعبثها وهي التي تقول إنها جاءت لنجدته فزادت من بلواه، بل إن هذا الشعب بات يبحث فقط عن النجاة من الموت جوعا وبردا في حال نجاته من الموت بالرصاص والقنابل. لن يغفر السوريون لنظام قادهم إلى هذا الجحيم، ولكنهم كذلك لن يغفر للعالم كله، القريب والبعيد، أن تركه يواجه بمفرده سلسلة الجرائم هذه.
في العام 1980 تدخلت القوات السوفياتية لحماية حليفها، بابراك كارمل، فبدأت الحرب الاهلية التي استمرت قرابة عشرة اعوام. كانت هناك حرب خاضها «المجاهدون» بدعم امريكي – سعودي – باكستاني، اتت على الاخضر واليابس، وانتهت بانسحاب مذل للقوات الغازية، كان بداية سقوط الاتحاد السوفييتي، فماذا كانت النتيجة؟ بخروج السوفيات شعرت المجموعات المسلحة التي خاضت الحرب طوال عشر سنوات ان بامكانها دحر الامريكيين ما دامت قد استطاعت هزيمة السوفيات. وهنا بدأ مسلسل آخر بقيام تنظيم القاعدة الذي حول التصدي لامريكا الى حقيقة، فاستهدفها بالإرهاب الذي لم يشهد العالم له مثيلا في التاريخ الحديث.
في البداية تم الضغط على الرئيس الافغاني آنذاك، برهان الدين رباني، لطرد «الافغان العرب»، فانتشر هؤلاء في الاصقاع وشكلوا مجموعات تقاتل في بلدان عدة: البوسنة والهرسك لمساعدة المسلمين ضد الصرب، وفي الشيشان ضد الروس، وفي الصومال ضد القوات الامريكية. وطوال السنوات العشر التي اعقبت خروج السوفييت
من افغانستان تم بناء تنظيم «القاعدة» في ذلك البلد الى جانب حركة طالبان التي وصلت الى الحكم في 1995 باسقاط حكومة رباني. ثم جاءت الضربة الكبرى للولايات المتحدة في 11 ايلول/سبتمبر 2001 حين استهدف انتحاريون من تنظيم القاعدة مبنى التجارة العالمي في نيويورك ومقر وزارة الدفاع (البنتاغون) في واشنطن.
كان رد الفعل الامريكي المزيد من التدخل العسكري في افغانستان، الذي تحول الى حرب استنزاف استمرت اثني عشر عاما. وقبل اسابيع قررت امريكا وبريطانيا سحب قواتهما من افغانستان واعترفتا ان حركة طالبان لم تهزم، وانهما لم تنهيا ظاهرة العنف المستمرة في البلاد. وليس معروفا ما الدروس التي استفادها الغربيون من تدخلهم العسكري في ذلك البلد.
والوضع في العراق لا يختلف كثيرا، فقد انتشرت ظاهرة العنف والإرهاب ووصلت مستويات غير مسبوقة من القسوة، وذلك بعد ان تحول بعض مناطقه الى حاضنة لتنظيم داعش الموازي لتنظيم «القاعدة». هذا يعني ان الإرهاب الذي شنت الولايات المتحدة الامريكية حربا عالمية ضده منذ اكثر من عشرة اعوام اصبح أوسع وأخطر. الانجاز الوحيد ان الغربيين استطاعوا اعادة توجيه ذلك الإرهاب بعيدا عن بلدانهم وعواصمهم، وتركيزه في بلدان العالمين العربي والإسلامي مثل العراق وسوريا ونيجيريا وباكستان. بل ان مصر اصبحت هي الاخرى مهددة بانتشار ظاهرة الإرهاب الداعشي المرعب.
هذا السيناريو الذي يرسم تطور الاوضاع في مجال العنف على مدى ما يقرب من عقدين، سيتكرر في سوريا التي تحولت الى افغانستان اخرى. والملاحظ ان البلدان التي تحمست للتصدي للقوات السوفياتية في افغانستان، هي نفسها التي تحمست للتصدي لنظام بشار الاسد وساهمت بتشكيل المجموعات المسلحة المخلتفة وتمويلها وتدريبها، على امل ان تحدث تغييرا جوهريا في النظام السياسي السوري. ولكن بعد اكثر من ثلاثة اعوام ما النتيجة؟ أليس واضحا ان السيناريو الافغاني يتكرر مجددا في سوريا؟
تطورات الشهور الاخيرة ربما كشفت ان هناك شيئا من الاستيعاب لخطر المجموعات المسلحة التي تزداد تطرفا وتوسيعا لدائرة استهدافاتها. فقد بثت مجموعة «داعش» خريطة «الدولة الإسلامية» التي تعمل لاقامتها والتي تشمل كافة مناطق الجزيرة العربية ومصر، الامر الذي ارعب بعض الحكام ودفعهم لاتخاذ أجراءات مشددة ضد المجموعة والمتعاطفين معها.
ويلاحظ ايضا ان تبعات الازمة السورية اصبحت تحاصر الدول التي كانت اكثر حماسا لدعم العمل العسكري ضد النظام السوري، ولكنها اليوم ادركت ان الثمن الذي دفعته والذي ما تزال مطالبة بدفعه يفوق امكاناتها ويهدد وجودها. فمثلا اصبح الاردن الذي فتح حدوده للاجئين السوريين الفارين من الحرب المدمرة، أقل قدرة على توفير احتياجات اللاجئين السوريين على اراضيه. وقد قررت الحكومة وقف الرعاية الصحية المجانية لـ 1.3 لاجىء اضطرتهم ظروف الحرب في بلادهم لعبور الحدود. وقد تدخلت الامارات والكويت لتوفير بعض المبالغ لمساعدة الاردن في هذا المجال. هذا التطور يكشف حجم المشكلة التي تفاقمت حتى وصلت مستوياتها الحالية. ويشعر اللاجئون السوريون بشظف العيش في مخيمات اللاجئين في لبنان وكذلك في تركيا. وهذه الدول جميعا ضاقت ذرعا بذلك وتسعى لاحتواء الازمة حسب ما يتوفر من دعم خارجي لها.
لقد اصبح واضحا وجود تبعات لاستمرار الازمة السورية التي ربما كان بعض مؤججيها يعتقد بانها ستنتهي منذ زمن. كما ان هناك تباينا في وجهات النظر بين الدول المعنية بتلك الازمة. ففيما تسعى الولايات المتحدة الامريكية لتجاوز القول بضرورة اسقاط حكم بشار الاسد كهدف للنزاع، فقد ربطت تركيا دعمها لجهود المعارضة بتصدي واشنطن لذلك النظام. وترفض الادارة الامريكية الطلب التركي بعد ان فحصت البدائل العديدة المتاحة لانهاء الازمة. وقد تكون امريكا قد تعلمت من التجربة الافغانية التي اضطرت واشنطن لسحب قواتها قبل القضاء على مصادر التهديد لنظام كابل، واصبحت تعيش كابوس التغيير في سوريا، وما ينطوي عليه من احتمال انتشار مجموعات العنف على نطاق اوسع. والخشية الامريكية مرتبطة برغبة واشنطن بحماية الكيان الاسرائيلي من المجموعات «الجهادية».
فبرغم انتشار ثقافة «الصراع مع الداخل» اولا لدى مجموعات العنف الجديدة، مثل داعش، فلدى الغربيين خشية من حدوث ما يعيد مسار «الجهاد» الى وجهته الاساسية، ليواجه الاحتلال الاسرائيلي وداعميه. ومن المؤكد ان النتائج ستكون وخيمة لقوات الاحتلال لو اعيد تقويم البوصلة. وللتدليل على خطر ذلك التقويم للاحتلال الاسرائيلي، تقول الاحصاءات المتوفرة ان عددا كبيرا من الفلسطينيين نفذ عمليات انتحارية في سوريا والعراق، تفوق عدد ما نفذه الفلسطينيون ضد اهداف اسرائيلية طوال الستين عاما الماضية. ولذلك تخشى «اسرائيل» من توقف العنف في العراق وسوريا، لان ذلك سينعكس سلبا على امنها. ومن جهة اخرى فان ظاهرة «داعش» ادت لمواقف وتحالفات غير متوقعة. ففي لبنان مثلا، يتعاون المسيحيون على الحدود مع سوريا، مع حزب الله للتصدي لداعش، ومنع مقاتليها من اختراق الحدود باتجاه «عرسال» الحدودية التي تم ابعاد مقاتلي «الدولة الإسلامية» عنها قبل اسابيع. ووفقا للتقارير يتلقى المسيحيون تدريبا عسكريا واسلحة ورواتب من حزب الله في تطور غير مسبوق. كما ان التدخل الانكلو – امريكي في العراق اصبح اكثر ضغطا على تركيا بشكل خاص.
فأصر رئيس وزرائها على العودة لاستهداف نظام بشار الاسد، كما يستهدف مقاتلي «الدولة الإسلامية»، الامر الذي رفضته واشنطن. فهي تعتقد ان خطر المجموعات المسلحة أصبح أشد على المصالح الامريكية مما يمثله النظام السوري، وبالتالي فليس من المنطقي استهدافه في الوقت الحاضر. ولذلك تسعى واشنطن لتطوير ادائها في العراق بارسال طائرة A10 التي تستطيع حصد المقاتلين بطلقاتها التي تبلغ 4200 في طلقة في الدقيقة.
امريكا تشعر بخطر داهم ان اخطأ عملها الاستخباراتي والأمني قليلا، برغم انشغال داعش في الوقت الحاضر بالقتال في سوريا والعراق. والواضح ان هناك نزعات داخل صفوفها لاستهداف الغربيين بعد ان بدأ التحالف ضدهم بالعمل الميداني.
ولكن برغم توسع دائرة نفوذ داعش فهناك شعور عام بان مزيجا من العمل العسكري الموجه ضدها وتغير مزاج سكان المناطق الواقعة تحت نفوذها، سيؤدي في وقت غير بعيد لرفض حكمها.
فهل استنفدت «داعش» اهدافها التي أسسها داعموها من اجلها؟ ثمة حقائق في هذا الجانب تتمثل بالتالي. اولا ان تجربة العيش في ظل الحكم الداعشي في شمال العراق وسوريا وما تضمنه من قسوة في التعامل مع السكان المحليين ليس مشجعا، فتطبيق الحدود كالذبح والجلد وقطع الايدي والصلب أشعرت الكثيرين بالتقزز والنفور ورفض استمرار العيش تحت حكم داعش. ثانيا: ان ما حدث من تدمير رهيب لبنى التحتية والتراث التاريخي والديني أشعر الكثيرين بالغضب والاحباط وخيبة الامل، ودفعهم للاحتجاج السلبي ضد حكم «الدولة الإسلامية». ثالثا ان التدمير البشري وحمامات الدماء احدثت تقززا لدى الرأي العام المحلي والدولي، الذي اصبح يرفض استمرار حكم داعش. رابعا: تصاعد احتمالات تقسيم العراق وسوريا اصبح مقلقا للدول الاخرى حتى مصر والسعودية.
لقد دفعت الامتان العربية والإسلامية ثمنا باهضا لما فعلته قوى الثورة المضادة، وتمثل ذلك بعدد من النتائج الوخيمة: اولاها: اضطراب البلدان التي حدثت فيها ثورات عربية انقضت عليها قوى الثورة المضادة مثل ليبيا ومصر واليمن وسوريا والعراق.
وجاءت تبرئة حسني مبارك من التهم التي وجهت اليه بالقتل هذا الاسبوع لتؤجج مشاعر الغضب في اوساط قوى الثورة. ثانيتها: تراجع قضية فلسطين واشغال الرأي العام العربي والإسلامي عنها، ثالثتها: تصاعد احتمالات تدمير المسجد الاقصى بعد ان امتحنت الامة ولم تنجح بموقفها الباهت ازاء تدمير الآثار الإسلامية والمساجد في سوريا والعراق والسعودية والبحرين والصومال وليبيا، وبعضها يحتوي قبور صحابة رسول الله. رابعتها ضرب الامة الإسلامية من داخلها ببث الطائفية والمذهبية على نطاق غير مسبوق.
الصراع على سورية مستمر. لكن الجديد فيه أنه لم يعد يقتصر على معسكرين، «حلفاء النظام» و «أصدقاء الشعب». ناره تستعر تحت الرماد داخل أطراف كل معسكر من المعسكرين. الحد الفاصل بين «الحلفاء» و «الأصدقاء» غير موجود أو تلاشى. في بعض الأحيان، التناقضات بين أعضاء مجموعة «أصدقاء سورية» أشد مما عليه بين هذه الكتلة و «حلفاء النظام»، كما بات الشرخ يتسع بين موسكو ودمشق وطهران.
ليس جديداً القول إن «النواة الصلبة» التي تضم ١١ من «أصدقاء سورية» ليست على قلب واحد إزاء مقاربة المسألة السورية. لكن الجديد أن الاجتماع الأخير في لندن، كشف عمق الفجوة ومدى الوهم حول صلابة «النواة» في المواقف الاستراتيجية. بدت أنقرة - رجب طيب أردوغان، وواشنطن - باراك أوباما على جانبي الطاولة المتناقضين. استعادت الأطراف المشاركة صراعات لها علاقة بالتاريخ على سورية. وفتحت شهيتها على مستقبل هذا البلد المحوري في الشرق الأوسط. مصر التي تموضع نفسها بين «النظام» و «الشعب» وبين طهران وخصوصية العلاقة مع الرياض وبين واشنطن وموسكو، عادت خطوات إضافية في انخراطها في «النواة الصلبة». حضت شركاءها على التخلي عن المواقف الجذرية في سورية والتخلي عن «الاستخفاف» بما يحصل فيها.
كان واضحاً مدى رفض القاهرة مشروع تركيا إقامة منطقة حظر جوي ومناطق آمنة. بات واضحاً الاستياء من حماسة باريس للمشروع التركي. مصر، الرئيس عبدالفتاح السيسي، حددت ثلاثة مبادئ لتحركها السياسي: الحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً، رفض التدخل الخارجي ومنع مؤسسات الدولة بما فيها الأمن والجيش من الانهيار، وتحقيق تطلعات الشعب السوري. ضمن هذه المبادئ، يقع المحظور في المشروع التركي، لأنه يتضمن ضرب الجيش السوري ووقوع شريط شمال سورية وعاصمته حلب في فضاء نفوذ تركيا - أردوغان، المناهض لحكم السيسي.
يذكّر هذا بالصراع الإقليمي القديم في بدايات القرن الماضي ومنتصفه على النفوذ في سورية. وينسحب هذا على موقف الأردن والدول الداعمة له في «أصدقاء سورية» عبر مد شرايين النفوذ العسكري والأمني والاجتماعي والاقتصادي إلى سهول حوران في جنوب سورية. دعم الفصائل المعتدلة من غرف العمليات العسكرية. العمل مبكراً لوأد أي وجود لتنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) على الجانب الآخر. الحيلولة دون نسخ الفوضى الموجودة في الشمال إلى الجنوب لخطورة امتداد هذا الى ما وراء الأردن. تنسيق العمل العسكري المعارض للضغط على النظام من الخاصرة الجنوبية الغربية لدمشق. بات واضحاً، أن التنسيق الذي كان يجرى الحديث عنه بين «جبهة الشمال» و «جبهة الجنوب» وضع على رف تجميع الأوراق الإقليمية. التعبير السياسي عن هذا الصراع، بدا جلياً في الاجتماع الأخير للهيئة العامة لـ «الائتلاف الوطني السوري» المعارض. الخلاف الظاهر كان على حصة هيئة الأركان في «الجيش الحر» وعلى حقائب الحكومة الموقتة. في الباطن هو تعبير على الصراع الإقليمي على النفوذ. سيتصاعد هذا الصراع إلى حين انتخاب رئيس لـ «الائتلاف» في بداية العام المقبل. إنه مؤشر إلى صراع النفوذ ضمن بوتقة «الأصدقاء» الذين يفترض أن تمطر غيومهم جميعاً في الأمصار الأميركية.
خندق النظام
الجديد أيضاً، هو عمق الشرخ في خندق «حلفاء النظام». عمود رئيسي في موقف أطراف هذا الحلف في السنوات الأربع الماضية، كان أن في البيت الأبيض رئيساً هو باراك أوباما. «كبير المحللين» و «كبير المترددين». «المهووس بالصفقة النووية» مع إيران. الخاضع لاعتبارات داخلية ويوجه بوصلته الاستراتيجية نحو آسيا والانسحاب من الشرق الأوسط. نقيض الرئيس جورج بوش الذي كان «مخيفاً لآخر لحظة» من وجوده في المكتب البيضاوي.
العد التنازلي لإدارة أوباما بدأ. «حليف أعدائه» و «عدو حلفائه». بقيت نحو سنتين. يزداد يوماً بعد يوم نزول أعضاء حكومته من سفينته المتأرجحة. يزداد عدد الذين يقيدون التموضع استعداداً لانتخابات الرئاسة في ٢٠١٦. تضيق دائرته الضيقة على وقع انحسار «الحزب الديموقراطي» في الكونغرس لمصلحة «الجمهوريين».
لا شك في أن هذا كان أحد أسباب بدء الكرملين التحرك في الملف السوري، لكنه ليس السبب الوحيد.
من موسكو يبدو المشهد السوري، كالآتي: مقاتلات التحالف الدولي - العربي بقيادة أميركا تصول وتجول في شمال سورية «الحليف الاستراتيجي» منذ العهد السوفياتي. مقاتلات التحالف لا تستهدف القوات النظامية حالياً. «الحرب على الإرهاب» لم تأتِ من بوابة مجلس الأمن والبوابة الدولية. لم يوقّع فلاديمير بوتين القرار ولم يعطِ فرصاً كي ينقضه بالفيتو. التحالف لهزيمة «داعش» جاء بطلب بغداد ومباركة طهران - الحليف الروسي في المنطقة. وقائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليمان ومقاتلو «البيشمركة» يقودون المعارك على الأرض ضد «داعش» في العراق. الأولوية للعراق وسورية جزء من الاستراتيجية هناك. هزيمة «داعش» ليست عاجلة. التطرف موجود وربما يزيد ويتمدد إلى الأقاليم الإسلامية الروسية. ترى موسكو أن ذلك يترافق مع مشروع الحكومة الإسلامية التركية لمنطقة الحظر الجوي والمناطق الآمنة.
في سورية الداخل، يبدو من موسكو واضحاً أن الأولوية الأميركية حالياً ليست لتغيير الرئيس بشار الأسد والنظام، بل لمحاربة «داعش». لكن برنامج التدريب والتسليح، السري والمعلن، قائم ويتصاعد. أيضاً، نفوذ الحليف الروسي في سورية يزداد. نجحت إيران في بناء هيكلية عسكرية غير منظمة واقتصادية وأمنية وسياسية وطائفية. هذه الهيكلية تتعمق وتوازي نفوذ المؤسسات التقليدية في الجيش والأمن والقطاع العام والحكومة التي كانت تاريخياً في دائرة النفوذ الروسي. ترى موسكو أيضاً، كلفة الحرب السورية اقتصادياً ومالياً. ترى كلفة النزف البطيء الذي وجدت نفسها فيه. الكلفة الاقتصادية والمالية وكلفة السمعة في الدول العربية.
الروسي البارع في لعبة الشطرنج، يرى حليفه الإيراني يلعب في رقعة الشرق الأوسط من العراق وسورية ولبنان إلى اليمن. ويعرف ما يدور في فيينا حول الملف النووي، لكنه لا يريد أن يعرف ما يجري من مفاوضات سرية و «مسار ثان» مع الأميركي حول سورية والشرق الأوسط.
بالنسبة إلى موسكو، التي تعاني من جروح الأزمة الأوكرانية وأسعار النفط، كانت لحظة ضرورية لبدء مسيرة البحث عن حل في سورية وفق الترجمة الروسية لبيان جنيف. كان التصور باستقبال أوسع شريحة من المعارضة. بدأت بالرئيس السابق لـ «الائتلاف» معاذ الخطيب، ثم عقد لقاء للمعارضة ولقاء بين ممثلي النظام والمعارضة ضمن صيغة «موسكو ١» ليتم تذخيره في مفاوضات جنيف. كما بدأت اتصالات أولية مع دول كبرى ودول إقليمية فاعلة لتوفير الأرضية للوصول إلى حل سياسي في غضون سنة. كانت العودة إلى مفاوضات جنيف، بوابة للعودة إلى «الشراكة» في الملف السوري.
التفكير الروسي، كان في العودة إلى المشهد بالتوازي مع المفاوضات النووية الإيرانية - الغربية في الأشهر السبعة المقبلة. الأمل كان وربما لا يزال، في إنجاز في لحظة سياسية لسيد الكرملين ليراه الرئيس الأميركي الجديد على الطاولة، ما يجعل البحث عن خيارات أخرى، كان أوباما تجنبها، ليس ضرورياً. لحظة استعادة اللعبة لتكون روسية - أميركية وليس أميركية - إقليمية.
كانت قراءة الجانب السوري الرسمي، مشابهة في ما يتعلق بالمشهد الاستراتيجي. لكن زيارة وزير الخارجية وليد المعلم أظهرت اختلافاً في كيفية التعاطي معها. بالنسبة إلى دمشق، صيغة بيان جنيف «انتهت» ولا مجال للحديث ثانية عن «هيئة حكم انتقالية»، كما أن «معارضة الخارج» بمن فيها معاذ الخطيب «لا تمون على أحد في الداخل»، بل إن النيران الصديقة كانت الأشد على معاذ الخطيب. انتقادات شديدة من أعضاء «الائتلاف» وزملاء الأمس. المعلم قال بعد لقائه بوتين، إن الجانب الروسي «يريد الحوار مع المعارضة الوطنية. حوار سوري - سوري بعيداً من أي تدخل خارجي، وهو ما نصبو إليه، لكن العملية قد تحتاج إلى مزيد من الوقت».
«النصيحة» لدمشق
ديبلوماسي سوفياتي مخضرم، كان قال إن «دمشق تأخذ من موسكو كل شيء عدا النصيحة». لم يفت وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التذكير بأن غارات التحالف «غير شرعية» وبوجوب العمل عبر مجلس الأمن. بالنسبة إلى النظام الذي يعرف أهميته لطهران وموسكو، فهو يرى «الحل والعقد» عند المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، أي البدء بتجميع اتفاقات وقف إطلاق النار الموجودة في وسط البلاد وأطراف دمشق وإضافتها إلى الاتفاق الجاري العمل عليه في حلب. التفضيل هو التعاطي مع «مقاتلي الخنادق» وليس «معارضة الفنادق». في المضمون، هناك اعتقاد في دمشق، بأن «النصر حليفنا» وما هو «إلا صبر ساعة». العمل جارٍ على دفع الصراع إلى الخيار بين لونين: «الأبيض - نحن، النظام، الدولة، العلمانية، الانفتاح، المؤسسات، هيكلية القرار، العقلانية، التعاون مع الغرب، بل شركاء الغرب. الأسود - هم، الإرهاب، الظلام، الانغلاق، الفوضى، الخطر على الغرب، بل أعداء الغرب في بيته».
رهان النظام، هو على جعل الصراع صافياً في الأشهر المقبلة. تحت الغطاء الجوي للحرب على «داعش»، العمل جارٍ على اقتلاع أي بذور للاعتدال السياسي أو العسكري. في الأشهر المقبلة، سيكون الصراع بين «الجيش العربي السوري» و «الإرهابيين في داعش والنصرة». هذا يجرى بالتعاون والتنسيق بخط دمشق - بغداد - طهران من جهة أخرى. على واشنطن التنسيق «معنا»، عليها أن تمضي خطوة جريئة من «التبيلغ» عن غاراتها ضد «داعش» إلى «التنسيق العملياتي».
هذا التفكير مصدر قلق في الكرملين. المشهد يبدو من موسكو غير ما يبدو من دمشق أو طهران. الأولويات ليست متطابقة. لكن كل طرف لا يزال محتاجاً إلى الآخر. الظروف ليست مناسبة لإظهار الاختلافات. ستبقى كامنة تحت رماد الأقنية الديبلوماسية. وراء الجدران الحديد، كما الحال في جبهة «أصدقاء سورية». الشماعة الوحيدة التي يمكن أن تعلق عليها كل الأطراف اختلافاتها، هي خطة دي ميستورا. لكن، لا بأس من إغراقها بالتفاصيل. لا بد من أن يجيب فريق المبعوث عن أسئلة تتعلق بالعلاقة أيضاً بين «تجميد» الصراع في حلب شمالاً ودرعا جنوباً. بين «جبهة الشمال» والدول الداعمة لها و «جبهة الجنوب» والدول الداعمة لها. لا بد أيضاً، من أن يجيب عن أسئلة تتعلق بالعلاقة مع «جبهة النصرة». هي مصنفة في عواصم عدة على أنها «منظمة إرهابية»، لكن، هل يمكن «توحيد الجهود ضد داعش» من دونها؟ ما مصير «التجميد» في ظل لا تفاوض مع فصيل أساسي على الأرض؟
مواقف الأطراف حارّة إزاء «تجميد» الصراع. وكلها لا تريد بعد إدخاله في الثلاجة. أرجح الظن، لن يتخلى أي من الأطراف عن مقاربته. وأرجح الظن، أن الأشهر المقبلة، ستظهر إعادة التموضع في مواقف الأطراف المتصارعة على المسرح السوري.
هل تبقى الشيعة محكومة، أبديا، بظاهرة الجلد وتعذيب الذات؟! سؤال كنت أطرحه، بمنطق الغرابة والحسرة، على أصدقاء أعزاء من شيعة مثقفين وعاديين، في دمشق وبيروت، كلما طفح أمامي موسم عاشوراء، بالدماء المتدفقة من الرؤوس الحليقة المشطوبة بالمدى والخناجر. والظهور المشقوقة بسلاسل الحديد.
بشيء من الفكاهة «العلمانية» الممزوجة بخجل مريب، كان الأصدقاء المثقفون، ومعظمهم ينتسب إلى أحزاب سياسية «كافرة»، في تلك السنين الخوالي يجيبون بأن «أعراف» عاشوراء من لزوميات ما لا يلزم، ما دام أن هناك شيعة تشعر بندم تاريخي مزمن، على عدم نجدة وإنقاذ آل البيت، قبل كذا من مئات السنين.
أما الصحاب الشيعة العاديون، فكانوا يجيبون بأن لولا محبة آل البيت لما كانت هناك شيعة. ثم يتحسسون رؤوسهم المشطوبة، وكأنهم يتأكدون أنها ما زالت موجودة، في زمن لم يكن، بعد، يعرف ظاهرة الرؤوس المقطوعة.
تذكرني «خناقاتي» الفكاهية مع الأصدقاء الشيعة بـ«خناقة» الرئيس اللبناني فؤاد شهاب مع صديقه رئيس الحكومة صائب سلام. وقد رويت سابقا للقراء الأعزاء حكاية الجدل الذي كان يحتدم في مجلس الوزراء حول «حقوق» الطائفة الشيعية التي تعتبر نفسها مظلومة في التسوية التاريخية بين السنة والموارنة التي قام على أساسها استقلال لبنان، ولم يقعد بعدها.
كان الرئيس الماروني يقول للرئيس السنِّي: «إذا كانت هناك حقوق للشيعة، فليأخذوها من السنّة». وكان صائب بيك يردّ ببلاغته المعهودة: «وماذا يعطي المغبون للمحروم يا فخامة الرئيس؟!». والجواب دلالة على أن السنة لم تكن راضية عن تلك التسوية إلا بعد أن أصلحها اتفاق الطائف، بتحقيق توازن سلطوي بين الطوائف الثلاث السنة. والشيعة. والمسيحية.
السنة لم تتملكهم ثقافة الأضرحة والموتى. وهم يترحمون على علي بن أبي طالب ونجليه الحسن والحسين، بقدر ما يعتزون بمعاوية الذي انتقل إلى دمشق، كعاصمة سياسية وحضارية، لأقوى دولة في العالم آنذاك.
كصحافيين، كنا نتجنب نشر صور مواكب عاشوراء البشرية الدامية. بل كانت المرجعيات الدينية الشيعية تؤثر عدم النشر. وتطلب ذلك من الصحافة. أين أمس من مواكب عاشوراء اليوم التي تبدو القيادات السياسية والدينية الشيعية، وخصوصا في العراق، أنها وراء تنظيمها وسوقها؟! أذهب إلى القول إن هذه المراجع الطائفية تتحمل المسؤولية عن عدم تأمين سلامة عشرات ألوف الساعين الذين يتجهون إلى الأضرحة، أو إلى حتفهم قبل الأوان، وذلك على قدر مسؤولية المجهولين الذين يدبرون الانتحاريين الذين ينسفون هذه المواكب، بلا رحمة. وبلا اعتبار للنواهي الدينية المقدسة عن الثأر والانتقام، باستخدام العنف. والقتل المتعمد.
بات الإنسان أداة رخيصة للدعاية الاستفزازية، في الإعلام الموجه لخدمة الأغراض السياسية لأنظمة الطوائف. نكايةً بمشاعر السنة، فقد سمح نظام بشار للقوات والميليشيات الإيرانية بتنظيم موسم علني لعاشوراء في دمشق، وذلك ربما للمرة الأولى في تاريخها.
في المقابل، تنظم «داعش» مشاهد تلفزيونية لقطع الرؤوس. وكأنها لا تدري أنها تسيء بوحشيتها ولا إنسانيتها إلى الإسلام السنِّي أمام العالم كله. بل تقول إنها تتعمد ذلك، لحفز أميركا وأوروبا على إنزال جيوشها في ديار الإسلام! متجاهلة بغباء ما حل بسوريا. وفلسطين. ومصر من مجازر. ومذابح. وتدمير. وتخريب، خلال ثلاثة قرون من الهجمات الصليبية المدعومة بالكراهية الدينية والعنصرية للعرب والإسلام.
لماذا وكيف تدهورت الانتفاضات، من تظاهرات سلمية خجولة إلى هذه الحروب الدينية والسياسية، بكل ما يرافقها من استفزازات متبادلة، حتى بين الطوائف المعارضة للأنظمة؟ في الخلفية البعيدة، هناك الفقه الديني المتزمت غير المؤهل، بعد ثلاثة قرون صليبية، للتعامل مع المجتمع والعالم وفق أنظمة وشرائع القانون الدولي.
في الأسباب المعاصرة، هناك أنظمة فقدت كبرياء المسؤولية الأخلاقية في التعامل مع مجتمعاتها. ثم هناك الفشل المروع في التعليم الرسمي. والتربية العائلية. وخطط التنمية. وتخطيط الأسرة. كل ذلك أدى إلى إنتاج أجيال فالتة شبه أمية، من صلب آباء لا يجيدون سوى إنتاج الأطفال، بلا معرفة أو قدرة على تربيتهم. ثم هناك جامعة لا تنتج سوى شباب ينتظرون تلقي وظيفة حكومية، فتتلقفهم البطالة التي قد تدفعهم مع فقدان الأمل، إلى حشر أنفسهم في تنظيمات الفاشية الدينية.
تقية النظام في الخوف من مرجعيته الدينية التقليدية دفعته إلى صرف النظر عن تخطيط الأسرة. فازداد عدد المصريين في عهد الرئيس مبارك 40 مليونا. وتضاعف عدد الجزائريين ستة أمثال في خمسين سنة (37 مليونا). والحال في المغرب مشابه للحال في الجزائر.
لم يحظ الرقم الرسمي، بعد، بالاحترام في الدول العربية المعاصرة. وما زال الشك يساور المواطن في مصداقية هذا الرقم ودقته. وأروي هنا للقارئ حادثة قديمة العهد تؤكد صحة ما أقول. ففي أول زيارة لعبد الناصر إلى دمشق بعد قيام الوحدة المصرية / السورية، استدعى مصطفى حمدون وزير الإصلاح الزراعي في الإقليم الشمالي (السوري).
قال الرئيس للوزير بغضب وانفعال: «إيه ده يا مصطفى. انتو توزعوا أراضي على الفلاحين قد مساحة سوريا مرتين؟!»، ثم سحب عبد الناصر من حقيبته ملفا لتصريحات وبيانات المكتب الصحافي في الوزارة يتضمن الأرقام المبالغ فيها.
وكان مصطفى حمدون يحرص على نزاهة سمعته. فقد كان ضابطا كبيرا في الجيش. وشارك في قيادة الانقلاب العسكري الناجح على ديكتاتورية أديب الشيشكلي (1954). وعندما قامت الوحدة، فعل عبد الناصر خيرا. فقد سرح كل ضباط السياسة والآيديولوجيا من الجيش السوري. وبينهم مصطفى حمدون الذي كان محسوبا على زعيمه الاشتراكي أكرم الحوراني. لكنه أسند مناصب وزارية لبعض الضباط المسرحين، لإرضائهم. وكسبهم إلى جانبه. على كل حال، راجع حمدون أرقام مكتبه الصحافي، ثم أمر بتسريح مديره.
وبعد، قد تسألني يا قارئي العزيز عن حل، لكل هذه الكوارث التي نزلت بنا. أجيب بأن الكاتب الصحافي لا يملك حلا لكل هذه الكمية الهائلة من التراكمات والتعقيدات في السياسة. والمجتمع. والطائفة. الصحافي مجرد ناقد يتولى توصيف إشكالية أو إشكاليات حياتنا الاجتماعية والسياسية. أما الإصلاح فهو مهمة الذين يقولون ويعملون في الميدان. أقصد هذا الجمع الغفير من الدارسين. والباحثين. ورجال البيروقراط والتكنوقراط الذين يملكون الخبرة والتجربة.
الكاتب الصحافي لا ينصح. ولا يتفلسف. فهو ليس بمعلم مدرسة. لست مصلحا إداريا أو اجتماعيا. ولا أبالي أن أغادر هذا العالم كما وجدته. إنما الصحافي ناقد يمارس واجبه. لكن لا أخجل شخصيا من الاعتراف بأني أدخلت الرقم على المقالة السياسية. انتقدني الكثيرون. فقد اعتبروا الرقم متطفلا على التحليل السياسي. قالوا إني حولت المقالة إلى ريبورتاج (تحقيق). ثم عاد معظمهم إلى استخدام الرقم. فقد وجدوا فيه دعما لمصداقية منطق الصحافة السياسية.
في أواخر زيارته إلى تركيا وصف البابا فرنسيس ممارسات تنظيم «داعش» في سوريا والعراق بأنها «خطيئة كبرى بحق الرب»، رافضا بشكل مطلق أن تكون منطقة الشرق الأوسط بـ«دون مسيحيين»، وهم «الذين يمارسون عقيدتهم فيه منذ ألفي سنة»، بحسب البابا.
ولأنني كنت من طلائع من حذر من المساس بالمسيحيين في منطقتنا، ومن خلال عدة مقالات في هذه الزاوية، سواء ما يحدث للمسيحيين بالعراق، أو سوريا، وغيرهم، فإنني لست ملزما للتبرير أمام ما يجب أن يقال، وهو أن الخشية اليوم ليست من شرق أوسط بـ«دون المسيحيين» كما يقول البابا الأرجنتيني في بيانه المشترك مع البطريرك بارثولموس، الزعيم الروحي لثلاثمائة مليون مسيحي أرثوذكسي، وإنما الخشية الحقيقية هي من شرق أوسط بلا عقلاء يدفعهم القمع، والترويع، مثل ما يحدث بالعراق وسوريا واليمن وليبيا، للهجرة، كما تدفع قلة الفرص، وانعدام الأمل، آخرين من العقلاء للهجرة من المنطقة، وهذا الأمر يشمل المسيحيين أيضا، وهذه كارثة حقيقية.
وهنا يجب أن نتذكر أن ما قتلته «داعش» من سنة العراق، وسوريا، عدد لا يستهان به. ومن نكلت بهم حكومة نوري المالكي الشيعية، وبدعم إيراني، من السنة يفوق أعداد أي فصيل آخر يعاني اليوم بالعراق، والأمر نفسه فعله النظام العراقي الطائفي بحق عقلاء الشيعة، وكذلك بالمسيحيين. ومن قتلهم بشار الأسد بسوريا من السنة يفوق عددهم، ومصابهم، حجم إشكالية وخوف كل الأقليات السورية، سواء كانوا علويين، أو مسيحيين، ومن هم عقلاء أيضا تعرضوا للقمع لأنهم قالوا كلمة حق. وما فعله حزب الله، ومن خلفه إيران، في لبنان يفوق كل وصف سواء بحق عقلاء الشيعة، أو السنة بشكل عام، وكذلك المسيحيين، والأقليات الأخرى. وفوق هذا وذاك، فإن حجم التحريض الذي تتولاه تركيا اليوم دفاعا عن الإخوان المسلمين، وجماعة الإسلام السياسي، ومصر أبرز حالة، يناقض دور تركيا الذي يفترضه البابا حيث يعتبر تركيا «جسرا طبيعيا» بين الغرب والشرق، وأن عليها لعب دور نموذجي للحوار بين الثقافات!
وعليه، فالخوف اليوم ليس من شرق أوسط بلا مسيحيين، بل إن الخوف هو من شرق أوسط طارد للعقلاء وسط حفلة التخوين والتحريض هذه، ووسط مسلسل ضياع الفرص الواعدة للأجيال القادمة، سواء كانوا مسلمين، سنة وشيعة، أو مسيحيين، وباقي الأقليات. فالعبث الذي تقوم به إيران بمنطقتنا، ووسط تساهل دولي، بات أمرا يؤجج الطائفية، ويشرعن القتال، هذا عدا عن الدفاع المستميت من قِبل تركيا، تحديدا، عن الإخوان المسلمين، وجماعات الإسلام السياسي، وهو ما يتلخص خطره اليوم في ليبيا، وبدرجة أقل بمصر، كل ذلك هو ما يثير الخوف، والقلق، ويتطلب جهدا عربيا ودوليا لتصحيح المسار، وإلا حينها فإن الشرق الأوسط ككل سيكون مسرحا للعنف، والإقصاء، والجنون، وهذا خطر على المنطقة، والمجتمع الدولي ككل.