يحاول المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا اختراق الرمال الوعرة للأزمة، مستعيناً بتجربته في العراق وكوسوفو ولبنان وأفغانستان، وذلك عبر خطة طموحة لا تتضمن أية أبعاد سياسية أو عسكرية آنية، وإنما تهدف إلى تثبيت الوضع الميداني القائم.
خطة دي ميستورا لتجميد الصراع جاءت إثر قراءة عميقة للوضع السوري ومشاورات غير رسمية مع أطراف إقليمية ودولية ومؤسسات مدنية، بعد بلوغ الأزمة السورية مستوى عالياً من التعقيد والتشابك بحيث يستحيل إنهاؤها عبر عمل عسكري مباشر أو عمل سياسي مباشر.
ليست خطة دي ميستورا مقدمة لإنشاء مناطق عازلة وفق ما تطالب به المعارضة وتركيا منذ زمن، ولا هي شبيهة بالمصالحات التي يقوم بها النظام في بعض المناطق وتنتهي بسيطرته عليها. إنها خطة تهدف إلى الحفاظ على الوضع الميداني بين القوى المعتدلة والنظام، ومحاولة تعميمها إذا كتب لها النجاح إلى مناطق أخرى.
أهمية الخطة أو المبادرة أنها تبدأ من الأرض، وليس من المستوى السياسي، كما كان الحال مع الأخضر الإبراهيمي في «جنيف 2» وقبله كوفي أنان مع خطته ذات البنود الست، بل على العكس يمكن القول إن دي ميستورا الذي يمكن وصفه بـ «الماركسي» يعمل على ربط النجاح السياسي في المراحل البعيدة بمدى نجاح خطته على الأرض في المرحلة المقبلة.
كما تنبع أهمية هذه الخطة من أنها تتضمن بشكل أو بآخر مضامين المبادرات الإقليمية، سواء مبادرة الجامعة العربية عام 2011 أو خطة إيران التي طرحت في نهاية عام 2012 أو حتى بعض مضامين اتفاق «جنيف 1» و «جنيف 2»، فضلاً عن مضامين بعض القرارات الدولية حول سورية. غير أن اختيار حلب تواجهه عوائق كثيرة قد تحيل خطة دي ميستورا إلى سراب وتضعه في الوضع الذي كان فيه سلفاه الأخضر الإبراهيمي وكوفي أنان، ومن هذه العوائق:
ـ وجود أكثر من عشرة فصائل عسكرية في مدينة حلب وريفها وهي لا تجتمع على هدف واحد وإن كانت محاربة النظام العنوان العريض لها.
ـ وجود «داعش» و»جبهة النصرة» أيضاً، وهما تنظيمان لهما أهدافهما الخاصة ولا يأتمران بأوامر من أحد ويصعب إن لم يكن من المستحيل إجبارهما على تجميد القتال.
ـ تنوع أشكال تواجد النظام في المنطقة من جيش نظامي إلى قوات حليفة كـ «حزب الله» وقوات فلسطينية، إلى مدنيين تابعين للنظام يمكن تسليحهم فوراً.
ـ تداخل جبهات التماس بين الفصائل المسلحة من جهة وبين هذه الفصائل والقوات النظامية من جهة أخرى.
ـ كيف يمكن مراقبة تجميد القتال ومعرفة من لم يلتزم بذلك على وجه التحديد من دون وجود قوات حفظ سلام.
ـ تنفيذ الخطة خارج إطار الأمم المتحدة حيث لن تأتي وفق قرار من مجلس الأمن سواء كان تحت الفصل السادس أو السابع، بسبب اعتراض موسكو على ذلك خشية تكرار نموذج كوسوفو وحدوث تدخل عسكري دولي إذا فشل تجميد القتال.
ـ تباين مواقف الأطراف من الغاية من تجميد النزاع، حيث يسعى النظام إلى تطويع خطة دي ميستورا لصالحه من خلال اختزالها في محاربة الإرهاب، وهذا سبب إصراره على ضرورة تنفيذ قراري مجلس الأمن 2170 و 2178 المتعلقين بمحاربة الإرهاب. ومفهوم محاربة الإرهاب مفهوم فضفاض لدى النظام حيث يشمل كافة المسلحين الذين يقاتلونه، في حين تسعى الفصائل المعارضة لا سيما «الجيش الحر» إلى ربط تجميد القتال بتنفيذ القرار الدولي 2165 الذي يتضمن وقف القصف من قبل النظام وعدم تحريك قواته وإطلاق سراح المعتقلين.
ـ غياب الثقة بين الأطراف الإقليمية الداعمة للنظام من جهة والفصائل المسلحة من جهة ثانية، وهذا الأمر يتطلب جهوداً ديبلوماسية كبيرة للوصول إلى تفاهم حولها.
روسيا تسعى إلى تقسيم جديد لأوروبا. هذا ما يحذر منه خصومها المعترضون على اندفاعها في أوكرانيا. تتدخل لتغيير الحدود القائمة واقتطاع ما تستطيع إذا استعصى تقسيم الدول القائمة. تريد إعادة إحياء الحدود بين الدول الأوروبية بهدف إضعاف الاتحاد الأوروبي. هذا ما فعلته في جورجيا ثم في أوكرانيا وتهدد به دول البلطيق. شعارها الدفاع عن الأقليات الروسية التي تعزز انتشارها في كثير من الدول زمن «الاتحاد السوفياتي». ويتهم الغرب اليوم الرئيس فلاديمير بوتين بالسعي إلى إعادة تقاسم بعض أطراف القارة العجوز ما دامت إعادة رسم الحدود بين دولها تبدو مستحيلة مع قيام الاتحاد وتوسعه المستمر. وهو يستعد لميلاد الاتحاد الاقتصادي الأورو- آسيوي مع روسيا البيضاء وكازخستان وأرمينيا مع حلول السنة الجديدة. ولا يخفي آماله بالتوسع في آسيا الوسطى، نحو طاجيكستان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان التي يتقدم إليها الاستثمار الصيني في مجال الطاقة. والهدف قيام تكتل سياسي- اقتصادي يوازن الاتحاد الأوروبي. والخروج من العزلة التي يفرضها الغرب على بلاده.
تقاسمت الدولتان العظميان النفوذ في معظم القارات أيام الحرب الباردة، وحافظت الدول الوطنية على وحداتها أرضاً ومكونات وأنظمة أيضاً في ظل هذا النفوذ أو ذاك. لكن معظم الأنظمة الشمولية في هذا المعسكر أو ذاك انهار في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا مع انهيار الكتلة الشرقية. وسعت الولايات المتحدة طوال ربع قرن ولا تزال إلى إرساء نظام دولي جديد، بعدما باتت القطب الأقوى الوحيد. ولم تتوان في السنوات الأخيرة عن خوض حروب أنهكتها وأوروبا في البلقان والقرن الأفريقي وأفغانستان والعراق وغيرها. حتى بات «التعب والخيبة والهموم الاقتصادية والنوازع القديمة والمتجددة إلى العزلة ترخي بثقلها على القرارات السياسية» في أميركا والغرب، كما عبر وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين في مقالة لجريدة «الموند» قبل أشهر. وهو ما شجع دولاً أخرى وقوى صاعدة على المواجهة والتقدم نحو أداء دور في بناء النظام العالمي. ويعزو وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسينجر موقف هذه الدول والقوى إلى ما يسميه رؤية مختلفة لكل دولة تتأثر بتاريخ هذه الدولة وبأوضاعها اليوم.
لذلك لا تخوض روسيا وحدها المواجهة مع الغرب والولايات المتحدة. الصين هي الأخرى تخوض حرباً باردة في المحيط الهادئ للحفاظ على نفوذها في جنوب شرقي آسيا. ولمنع تمدد الولايات المتحدة التي تتوسل التفاهم والتنسيق والتعاون مع دول المنطقة المنضوية في مجموعة «آسيان» ومع اليابان وأستراليا لاحتواء الصين. وأبعد من ذلك حذرت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون مراراً الدول الأفريقية من عودة الاستعمار إلى القارة السمراء، في إشارة إلى الحضور الصيني استثماراً وتجارة ومساعدات مختلفة. وباقي دول «البريكس»، الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، لا تخفي رغبتها في المساهمة في رسم النظام الدولي الجديد. وما يجري في المشرق العربي لا يختلف عما يجري في أقاليم أخرى. وليس الفراغ الاستراتيجي في المنطقة وحده ما يدفع القوى الإقليمية الكبرى، فضلاً عن الكبار، إلى المواجهة والصراع من أجل ملء هذا الفراغ. صحيح أن الولايات المتحدة عبرت صراحة عن نقل ثقل اهتمامها من الشرق الأوسط إلى المحيط الهادئ مع أنها لا تزال حاضرة بقوة. لكن الصحيح أيضاً أن الرئيس باراك أوباما نهج سياسة «الديبلوماسية المتعددة الأقطاب»، وفتح الباب لسياسة التعاون مع القوى الكبرى لإدارة شؤون العالم. والصحيح أيضاً أن تداعيات الأحداث التي عصفت وتعصف بالعالم العربي عجلت في انهيار النظام العربي.
وفرت هذه العوامل فرصة ثمينة للقوى الإقليمية الكبرى في استعادة ماض تليد، على خطى الرئيس بوتين. فحذت إيران حذوه. وتكاد اليوم تعجل في التقسيم الجديد للشرق الأوسط. أو اقتطاع حصصها هنا وهناك. ولا تخفي كما الروس حميتها في الدفاع عن كتل وقوى شيعية من اليمن إلى سورية والعراق ولبنان. وبات من الصعب تجاهل تمددها في عواصم عربية كثيرة. ومثلها تركيا التي تضيق ذرعاً بما جرى في القرم وما يجري في سورية والعراق، تحاول أن تزج بنفسها في المشرق العربي والشمال الأفريقي لتستعيد على الأقل بعض ما كان للسلطنة. وتكتفي إسرائيل بانشغال العرب والعالم عنها لتواصل سياسة تصفية القضية الفلسطينية فيما أهلها عاجزون عن استعادة اللحمة والحد الأدنى من وحدتهم. أما المملكة العربية السعودية التي أعادت بعث الروح في مجلس التعاون فتتحرك مع شركائها ومصر والأردن وغيرهم للحفاظ على ما بقي من «حصة» العرب في النظام المقبل للإقليم... إذا كانت إعادة اللحمة إلى ما كانت قبل عقدين أو ثلاثة تبدو شبه مستحيلة. ولا شك في أن مشاركتها ودول عربية أخرى في الحرب على «الدولة الإسلامية» ستترجم عاجلاً أو آجلاً مردوداً سياسياً وحصة وازنة في كل من سورية والعراق.
وإذا كانت روسيا وإيران تعبران عن طموحاتهما الإقليمية والدولية بتدخلات ميدانية خارج الإرادة الدولية، فإن الصين وتركيا يعينهما تقديم العامل الاقتصادي والتجاري على الصبر والمهادنة. فلا بكين في وارد مواجهة مع الولايات المتحدة على خلفية ما ترى إليه تدخلاً أميركياً في فضائها الأمني جنوب شرقي آسيا. وتقف في الشرق الأوسط خلف موسكو فتعفيها من صدارة المشهد. ولا أنقرة في وارد مواجهة مع إيران التي تتقدم نحو حدودها في بلاد الشام. بالطبع تختلف ظروف كل بلد من البلدان الأربعة. فالكرملين أغاظه ويغيظه «زحف حلف «الناتو» إلى «حدائقه» الخلفية والأمامية، وتوسع الاتحاد الأوروبي إلى ما يعتبره تاريخياً فضاءه الأمني. وطهران ترفع من سنوات لواء «حلف الممانعة» في وجه المشروع الأميركي الذي ترى إليه تهديداً مباشراً لنظام «الجمهورية الإسلامية». وترغب كما حليفها الروسي في كسر الحصار المضروب عليها بشتى الوسائل. وهذه ليست حال الصين أو تركيا.
على رغم هذه الحروب الباردة هنا وهناك، بات واضحاً أن أحداً من القوى الكبرى لا يرغب في الانجرار إلى المواجهة الشاملة. روسيا لا ترغب في العودة إلى الستار الحديد. ولا الغرب عموماً يريد اللجوء إلى القوة في أوكرانيا. يكتفي بسياسة العزل السياسي، كما حصل للرئيس بوتين في قمة العشرين، وبالحصار الاقتصادي والعقوبات. وتمديد المفاوضات في شأن الملف النووي الإيراني تأكيد لرغبة الأطراف المعنيين في استبعاد الخيار العسكري وتغليب سلاح الديبلوماسية يعززه الحصار الاقتصادي الذي يترك جروحاً مؤلمة... تعمقها أسعار النفط المتهاوية ومعها اقتصادات كثيرة. ولن يكون الشرق العربي استثناء أو بعيداً عن هذا السلاح. لذا يشهد المشرق العربي مروحة من التحركات السياسية والأفكار المطروحة من أجل تعديل موازين القوى. وهذه وحدها تسمح بالبحث في حلول وتسويات.
في هذا الإطار، تحرص تركيا مثلاً على إعلاء بنيان علاقاتها مع إقليم كردستان. وتبرع في اللعب بورقة كوباني على وقع حوارها الداخلي مع حزب العمال الكردستاني. ولا تزال تنأى بنفسها عن عمليات التحالف الدولي، وتصر على إنشاء منطقة آمنة شمال سورية، لعلها توفر لها أرضية صلبة لحضور فاعل في مستقبل هذا البلد الذي طالما اعتبرته أدبيات السلطنة «درة التاج العثماني». ومنه يمكنها أن تمارس نفوذها شرقاً وغرباً وجنوباً، كما كانت الحال حتى عشية انضمامها إلى الحرب في عام 1914. أما الرياض فتستعد لسلوك الطريق إلى بغداد. ولا تقفل الباب أمام أية أفكار لتسوية سياسية في سورية على قاعدة جنيف. ولا ترى نجاحاً لحملة التحالف على «الدولة الإسلامية» إلا بإرسال قوات برية. في حين لم تعد إيران تكتفي بتدخلها الميداني على أرض الرافدين. زجت بطيرانها الحربي. لعلها تخشى أن يقوم سريعاً جيش العشائر السنية على أيدي الأميركيين والعرب. لا تريد شركاء في بغداد، مثلما لا تريد شركاء في سورية، ولا حتى روسيا. بلاد الشام كانت قبلتها وميدان صراعاتها قديماً وحديثاً.
على رغم الخلافات التي تدور بين أركان إدارة الرئيس باراك أوباما، يبدو قيام منطقة أو مناطق آمنة، حتى وإن كانت شريطاً حدودياً صغيراً، اقتراحاً مؤجلاً. ليس لأن الأمر يحتاج إلى قرار من المجتمع الدولي. وليس لأن واشنطن تعترض. بل لأن إيران ستقاوم ذلك، وكانت وجهت أكثر من تحذير إلى تركيا من التدخل. ومثلها روسيا لن تسكت. وحتى أفكار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ستظل مجال أخذ ورد وقبول وتردد، ومثلها مساعي موسكو وأفكارها. ومثلها أيضاً الدعوات إلى الزج بقوات برية في الحرب على الإرهاب. عجلة التسويات على المسار الديبلوماسي ستظل بطيئةً، كما كانت الحال ولا تزال في الملف النووي، نظراً إلى تعدد الأطراف واللاعبين وتضارب مصالحهم وعلاقاتهم. وستبقى سورية تنتظر ما سيرسو عليه تقاسم العراق بين القوى الإقليمية الكبرى إذا تعذر التقسيم الرسمي المعلن. وما دام الذين خسروا بلاد الرافدين بعد سقوط صدام حسين يستعيدون حضورهم في بغداد وإن كانت الغلبة لطهران، فإن حضورهم في دمشق سيكون غالباً في المقابل. لا بد أن تعود السلطة إلى «شرعية الأكثرية» كما انتهى الأمر في العراق، إلا إذا تحقق المحظور ووقع التقسيم النهائي، كما يخشى الروس ويتساءلون في سرهم! فهل يكون «تجميد» الحرب كما يدعو دي ميستورا مقدمة لتكريس مثل هذا الحل، وبالتالي تكريس التقاسم القائم في كل الإقليم؟
يمتلك رئيس النظام السوري بشار الأسد قدرة، ليس بعدها قدرة، على الانتقام من سوريا والسوريين. كان آخر دليل على ذلك الحديث الذي أدلى به إلى مجلة “باري ماتش” الفرنسية، والذي يبدو واضحا أنّه جزء من حملة علاقات عامة تستهدف تلميع صورة رجل مسؤول عن مئتي ألف قتيل من مواطنيه وتهجير نصف أبناء الشعب، فضلا عن تدمير المدن والبلدات السورية.
الأكيد أنّ لدى المجلة ما دفعها إلى إجراء الحديث والتباهي به. ما ليس أكيدا هو مساهمة الحديث في تغيير شيء في الواقع السوري المتمثّل في أنّ النظام انتهى، لكنّه يصر على أن تنتهي سوريا معه.
خلاصة الحديث أن بشّار الأسد يرفض مغادرة الموقع الذي يحتله بالقوة والذي ورثه عن والده. يتحدّث عن “دولة” يقف على رأسها في حين أنّه لم توجد في سوريا الحديثة، أقلّه منذ تولي حزب البعث السلطة نتيجة انقلاب عسكري في الثامن من مارس 1963 أي مؤسسات لدولة من أي نوع كان. كل ما هناك نظام عسكري- أمني، يدعي أنه دولة، ولم تكن لديه في يوم من الأيّام أي شرعية.
تطوّر هذا النظام في اتجاه واحد، في اتجاه تحوّله من مجرد تركيبة مدنية- عسكرية في البداية إلى تركيبة طائفية، على رأسها عدد من الضبّاط العلويين اختُزلت التركيبة هذه ابتداء من العام ألف وتسعمئة وسبعين برجل واحد هو حافظ الأسد.
في عهد بشار الأسد، صارت التركيبة ذات طابع عائلي بعدما وضع أقرباؤه المباشرون يدهم على كل المرافق الاقتصادية للبلد في كل المجالات والحقول.
باختصار، لم توجد في سوريا ما بعد البعث مؤسسات لدولة. كانت هناك مجموعة من الأجهزة الأمنية تسيطر على الدولة وتسيّرها لا أكثر. كانت في الواجهة في بعض المواقع شخصيات سنية استخدمت لمجرّد التمويه. لم يكن يجمع بين هذه الشخصيات سوى أنّها من سُنّة الأرياف، نظرا إلى كره حافظ الأسد لسنة المدن الكبيرة. ما يجمع بين مصطفى طلاس وحكمت الشهابي وعبدالحليم خدّام وفاروق الشرع هو كونهم جميعا من سنّة الأرياف. الأهمّ من ذلك، أنهم كانوا مجرّد بيادق في لعبة يديرها حافظ الأسد الذي كان يستطيع التدمير والابتزاز واللعب على التوازنات الإقليمية… والذي اعتقد أن في استطاعته بناء دولة، لا مؤسسات فعالة فيها سوى المؤسسات الأمنية.
كان من المفيد قراءة حديث بشّار الأسد، أقلّه من أجل اكتشاف ما اكتشفه كثيرون منذ اندلاع الثورة الشعبية في سوريا في مارس 2011. تبيّن منذ اليوم الأول لاندلاع تلك الثورة الحقيقية أنّ بشار الأسد لا يعرف شيئا عن البلد الذي يحكمه بالحديد والنار وكل أشكال القمع. يتفهّم اللبنانيون، قدر الإمكان، أنّه لم يكن يعرف شيئا، ولو قليل القليل، عن لبنان. لكنّ الفضيحة الكبرى كانت جهله بسوريا والسوريين أيضا. لم تكن لديه حتى واجهات شكلية يمكن أن توحي بأن هناك مشاركة ما، ولو نظريا في السلطة.
يؤكد كل ما في حديث بشار الأسد أن ليس في استطاعة الرجل الخروج من حال الإنكار التي يعاني منها. لا يزال يعيش داخل عالم خاص به لا علاقة له بالواقع. يعتقد أنّه على رأس دولة، في حين أنّه على رأس مجموعة عائلية أقرب إلى مجلس إدارة لشركة. يتولى مجلس الإدارة هذا تسيير شركة اسمها سوريا. الشركة مفلسة حاليا، وصارت هناك حاجة إلى من يغذيها من الخارج، فجاءت المشاركة الإيرانية التي ارتدَتْ أشكالا مختلفة صبّت، في نهاية الأمر، في جعل الشركة التي اسمها سوريا شركة تمتلك إيران معظم الأسهم فيها. وهذا ما يفسّر إلى حد كبير انفراط عقد العائلة شيئا فشيئا من جهة، ومؤشرات على نقمة داخل أوساط علوية على بشّار من جهة أخرى.
كان تاريخ النظام السوري، منذ ما قبل استيلاء البعث على السلطة، سلسلة من عمليات الهروب إلى الخارج لتغطية الأزمة العميقة التي يعاني منها البلد منذ استقلاله. إنّها أزمة نظام وكيان في الوقت ذاته. كان الانقلاب العسكري الأوّل لحسني الزعيم تعبيرا عن هذه الأزمة التي صارت فاقعة مع قيام الوحدة المصطنعة مع مصر التي لم تدم سوى ثلاث سنوات.
لا حاجة إلى سرد المحطات التي مرّت بها سوريا، بما في ذلك، أخذ العرب إلى حرب خاسرة سلفا في العام 1967، حين كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع. لا حاجة إلى الاسترسال في كيفية إيقاع لبنان، عن سابق تصوّر وتصميم، تحت عبء الوجود الفلسطيني المسلّح في العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي لا يزال الوطن الصغير يعاني منه. لا حاجة إلى تكرار كيف أنّ النظام السوري وبعد حرب تشرين 1973 وجد نفسه في طريق مسدود، خصوصا بعد زيارة الرئيس أنور السادات للقدس في خريف العام 1977.
هرب النظام السوري إلى لبنان. استخدم الورقة الفلسطينية ثم الغرائز المذهبية إلى أبعد حدود من أجل احتلال البلد الجار عسكريا طوال ثلاثة عقود. وفي مرحلة معيّنة هرب إلى العراق. تصالح حافظ الأسد مع عدوّه اللدود صدام حسين للوقوف في وجه أنور السادات ظاهرا. الحقيقة أنّ صدّام حسين الذي لم يكن هناك من يتفوّق عليه بالغباء السياسي، وقع وقتذاك في الفخّ الذي نصبه له الأسد الأب…
في السنة الجارية، يتبين أنه لم يعد أمام بشار الأسد الذي خرج من لبنان نتيجة اغتيال رفيق الحريري، سوى الهرب إلى سوريا بعدما انتفضت في وجهه. إلى متّى يستطيع ممارسة لعبة الهروب هذه؟
يتحدّث عن “دولة” لا وجود لها في سوريا، ويلقي التهم يمينا ويسارا رافضا الاعتراف بأمرين، الأوّل أنّه لم تكن لديه شرعية ما في أي يوم من الأيام، والآخر أن الأجهزة الأمنية والشركات العائلية لا تصنع دولا. أقصى ما تستطيع هذه الأجهزة وهذه الشركات صنعه هو البراميل المتفجّرة. أقصى ما يمكن أن تصنعه هو تشريد مزيد من السوريين وتمكين إيران وأدواتها من بسط سيطرتها أكثر فأكثر على البلد، أو على ما بقي منه.
الثابت وسط كل هذه المأساة أن حديثا في مجلة فرنسية لا يقدم ولا يؤخر. إنه عودة إلى أساليب قديمة، تجاوزها الزمن لإظهار النظام في مظهر من لديه شيء يقوله. كل ما في الأمر أن الحديث كان مناسبة أخرى للتأكد من أن بشار الأسد يعيش في عالم لا علاقة له بالعالم. كل يوم يبقى فيه في دمشق يعني مزيدا من الخراب والتفتيت لبلد كان يمكن أن يكون من أفضل دول المنطقة وأكثرها ازدهارا، لو وجد فيه، في يوم من الأيّام، شخص طبيعي في السلطة يدرك أن لعبة الهروب إلى الأمام، إلى خارج سوريا، سترتد عليها عاجلا أم آجلا.
تجتاز مجتمعاتنا العربية، اليوم، مرحلة تاريخية صعبة جداً من متغيّرات التاريخ، وهي تمر بطور انتقالي طويل في تاريخنا. ربما لا يدرك الجميع أبعاده ومساحاته ومسافاته، لكن علاماته كانت قد بدأت منذ ثلاثين سنة مضت، أي مع 1979، وهي أخطر سنة في القرن العشرين، واجتزنا تضاعيف القرن العشرين، مع بدء تحوّل أساسي، ليس في تاريخنا نحن فحسب، بل في تاريخ العالم، عندما صعق العالم بأحداث غريبة يوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وما لحق بها من تداعيات في أفغانستان 2002، والعراق 2003. ومنذ تلك اللحظة التاريخية المريرة، بدأ العالم يتغيّر باتجاهات خطيرة، وبدأت مجتمعاتنا تسلك مسالك أخرى، غير التي ألفتها على مدى ثلاثين سنة مضت، بكل ما عشناه خلالها من أزمات ومشكلات ووقائع وحروب أهلية وإقليمية، وبكل ما مارسته الديكتاتوريات العربية المعروفة من دعارات وبطش وانتهاكات، وكل ما انتاب مجتمعاتنا من كوارث وآلام ومآس، وبكل ما انشغل به العرب من تفاهات وهموم، ومن عبث في إشعال قضايا ابتعدوا فيها عن قضاياهم المركزية.
وعندما اشتعلت الثورات العربية، كانت تحمل في واجهاتها شعارات مدنية سليمة، وهي تهدف، بطموحاتها، نحو التغيير السياسي الذي سيعمل على التغيير الاجتماعي والاقتصادي، وإن أسهل الطرق وأنجعها للتغيير السياسي هو الديمقراطية، وراح الجميع يستخدم الديمقراطية، ومن حقهم استخدامها، لكن السؤال: هل من حق مَن لا يؤمن بها مجرد توظيفها للوصول إلى السلطة، كما هو حال العراق والجزائر وليبيا واليمن ومصر وغيرها؟ وهل كانت مجتمعاتنا مؤهلة لممارسة الظاهرة حتى بالحد الأدنى؟ وجاء الجواب سريعاً، بأن هرع إلى ميدان التغيير مَن أراد افتراس الثورات العربية، أو سرقتها، لصالحه، والدخول في نفق زمني طويل من صراع التناقضات.
تركنا القرن العشرين وراءنا، بعد أن تشبّعت مجتمعاتنا بكل ترسباته وتجاربه المريرة، ومراحله القاسية، على الرغم من أن بعضهم يتحسّر على تلك الأيام واللحظات الجميلة التي عاشها في القرن العشرين، حتى مع كل أوبئته الأيديولوجية ومتغيّراته السياسية وانقلاباته العسكرية وحكوماته الفاشية. إنه على الرغم من كون السياسة مبعثرة ومتصادمة ومتنازعة، كانت المجتمعات العربية متماسكة وموحّدة وطنياً، ولها هموم قومية واحدة، وتشغل بالها قضية مركزية واحدة. اليوم لا، فالتمزّقات التي تعاني منها مجتمعاتنا، مع جبال من ركامات الكراهية والأحقاد واجتياح الأوبئة والأمراض السايكولوجية الموروثة مع التاريخ، قد فجّرت مجتمعاتنا من أعماقها، ويتكاثر المتوحشون، اليوم، بشكل لا يصدق، مذ بدأ التصادم والصراع، لأسباب طائفية وعقدية بأثواب سياسية، متخذة لها أساليب سياسية صعبة جداً، بل وإنها تمارس قوتها وسطوتها باسم الدين مرة، وباسم الطائفة مرة، وباسم التاريخ والجغرافيات مرات ومرات.
لم تمر مجتمعاتنا العربية، بالذات، في مرحلة مهمة من تحولات الطور الانتقالي لها، بحيث تخلق الظروف الاجتماعية الملائمة للتغيّر المستمر، فهي لا تنظر إلى الحياة، اليوم، نظرة تقدمية، نحو الأمام، بل إنها تؤمن إيماناً أعمى بالنظرة الأخروية التي لا ترى إلا نهايات الأشياء، وتكاد أغلب مجتمعاتنا العربية تدور في هذا المأزق، من دون أية محاولة للخروج منه. وعليه، إن التغيير لن يحصل كما يتوقع المرء بمثل هذه السهولة التي حمل شعاراتها أبناء الثورات العربية الأخيرة. وإذا سألني سائل عن التغيير الحاصل في ما يسمى بالمجتمعات "التقليدية"، أقول إنها تعيش التغيير، لكن وتيرته، كما تبدو، بطيئة جداً بالمعايير الحضرية. أهم مرتكز أساسي للمجتمعات الحية هو "التنظيم" و"الإنتاج"، فكيف إن غاب هذا العنصر الحيوي، أو ذاك، في النظام الاجتماعي العربي، وما الذي يستوجب التخطيط له، في إعداد تدابير التربية والتعليم والإدارة أو التنمية والإعلام؟
" التمزّقات التي تعاني منها مجتمعاتنا، مع جبال من ركامات الكراهية والأحقاد واجتياح الأوبئة والأمراض السايكولوجية الموروثة مع التاريخ، قد فجّرت مجتمعاتنا من أعماقها "
للوعي بهذا العنصر التاريخي أهمية خاصة، نظراً لأن الأوبئة التاريخية التي تجتاح مجتمعاتنا العربية أقوى بكثير من دول وديكتاتوريات وجيوش وأسلحة. إنها أوبئة تجد حواضنها في كل مجتمعاتنا التي تسيرّها العواطف والتقاليد البالية، وغالباً ما تشيع "الظاهرة"، ويتقبّلها الناس عاطفياً من دون التفكير في تجارب الآخرين على الأرض، فهم يؤمنون بما توارثوه، فكل مَن يحمل هذا "الموروث" يصفّقون له، بل ويندمجون معه. وهذا يعني أنهم يديرون العجلة أكثر نحو الوراء، وعليه، فإن التغيير طويل المدى، وإن بدائل الطور الانتقالي لم تحضر بعد!
لا أعتقد أنها ستحضر بسهولة، بل أتوقع أن ثلاثين سنة قادمة ستمر على مجتمعاتنا، وهي تنتقل من سيئ إلى أسوأ أولاً، وإن الأوبئة التاريخية ستنتشر في أصقاع العالم ثانياً، لأن العالم كان غبياً، منذ البداية، في التعامل مع منظمات وأحزاب ودول وكيانات وحركات متخلّفة وجائرة. وأيضاً، مع غياب الوعي وانغماس تفكير الناس (حتى من جاليات في الغرب)، فهم يتلهّفون عاطفياً من أجل تحقيق حلم وهمي، يعتقدون باستعادته من جديد، من خلال الخلف الجديد الذي يتبع السلف القديم.
على العالم أن يستعدّ لمواجهة صدمات قادمة، وأن يفكرّ بمصيره القادم، وهو يعيش بين ثقافة التمدّن وثقافة التوحّش! لا بد أن نفكر ما الذي سيحدث في تضاعيف القرن الحادي والعشرين في مجتمعاتنا والعالم أجمع. مجتمعاتنا تعاني، اليوم، من سياسات بليدة، وانقسامات حادة، بفعل سياسات التوحّش والإرهاب. مجتمعاتنا التي تتمزّق يوماً بعد آخر، ويتشظى الناس بقتلهم، أو تفجيرهم، أو تهجيرهم أو إفراغ مدن كاملة من موزاييكها الديني والعرقي جرائم لا تغتفر. مدن كاملة غدت موحشة مهدمة، يعشقها الغزاة الجدد الذين سحقوها ودمروها، فكيف سينشأ جيل جديد، اليوم، على مدى ثلاثين سنة مقبلة؟ جيل يتربى على مآسي البلاء العظيم؟ وسيتعلم ممارسات هذه الطواطم المتوحشة، أو الحاقدة على كل العصر؟ وهي مصممة على الزحف نحو كل العالم!
إننا بحاجة ماسة إلى تحليل العمليات التاريخية والتغييرات على أيدي مفكرين ومختصين حقيقيين، لفهم الاتجاهات الحالية والعمليات التي تجري. وينبغي إحضار مهارات سوسيولوجية وأنثروبولوجية لها أهميتها الخاصة في فهم الماضي، لا سيما في مجتمعاتٍ بات فيها الماضي المصدر الرئيسي للحياة وتشويه المستقبل، وإنها لم تزل متوهمة بأن حلول مشكلات هذا العصر كامنة في الماضي، وما يشاع سياسياً ويطغى إعلاميا ويكرس تربوياً بأن ثمة حقيقة واحدة، يمكنها أن تكون المنقذ من الضلال. كانت هذه الأفكار الميتة قد راجت في القرن العشرين، لكنها اليوم تمشي على الأرض، وتتفقس وتتوالد بشكل لا يمكن تصديقه. إن غياب فهم الحاضر قد قام بتشويه عملية التحليل باقتراح مختلف أنواع التدابير، وتوفير مستلزمات الحداثة، لتدمج في نظام التغيير القائم على التقدم والاستنارة، لا على اتباع هذا القادم، أو ذاك من بواطن العصور الوسطى.
تخفي الإشارات، التي أطلقها المسؤولون الأميركيون، قبل وبعد شن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية غاراته على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، في طياتها، دلالات كثيرة على ما يرمون إليه من إطالة حربهم في المنطقة. كذلك، عاد المسؤولون الأميركيون، وخصوصاً منهم وزير الدفاع الأسبق، ليون بانيتا، ورددوا تصريحات، رموا منها التأكيد على حرب طويلة ستبقى مستعرة في الشرق الأوسط، منطلقين في ذلك ومستندين، ليس على المعطيات المتوفرة بين أيديهم حول القدرات الهائلة التي يتمتع بها تنظيم داعش، وصعوبة دحره، بقدر استنادهم إلى استراتيجيتهم الجديدة التي وضعوها للعالم، في القرن الحادي والعشرين، والتي أطلقوا عليها: "مشروع عام 2000 للقرن الأميركي الجديد". المشروع الذي صاغه المحافظون الجدد، وشرع الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، في تنفيذ خططه عبر حربه على أفغانستان والعراق، بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، علاوة على حروب أخرى غير معلنة، تشنها الطائرات الأميركية بلا طيار على باكستان واليمن وغيرها.
يتلخص فحوى هذا المشروع في عقيدة الحرب الجديدة، المسماة "حرباً بلا حدود"، والتي ترمي إلى فرض الهيمنة الأميركية على العالم، عبر حروب متزامنة يخوضها الجيش الأميركي، في مناطق عديدة من العالم، وتحقيق نصر حاسم فيها، لدرء تهديدات يمكن أن تطال الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. وطبعاً، تندرج جميع هذه الحروب تحت مسمى ومسعى مكافحة الإرهاب. لذلك، رأينا عدم إعارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أية التفاتة لمطالبات المعارضة السورية المتكررة له، منذ بدء دورة العنف في سورية، للتدخل ضد النظام السوري وضربه، أو حتى لفرض مناطق حظر جوي، أو حتى لتسليح الجيش السوري الحر. وقد يكون أحد أسباب امتناعه ذاك هو عدم مطابقة الأعمال التي يقوم بها الجيش السوري لمعاييره حول الإرهاب، الأمر الذي يمكن أن يعرضه لانتقادات لتدخله في ما يعتبره الغرب حرباً أهلية. حتى أن استخدام الكيماوي ضد المدنيين، واتهام النظام السوري بذلك، لم يستجلب هذا التدخل، على الرغم من انتهاكه الخط الأحمر الذي وضعه أوباما نفسه. فقد انتظر حتى نضجت الظروف، أو المبررات التي ساهم في إنضاجها ذبحُ تنظيم داعش الصحافي الأميركي، جيمس فولي، وحصول استياء داخلي وعالمي بسبب هذه الجريمة، وتبدي الإرهاب في أكمل صوره، وتناقل أخباره عبر جميع شاشات تلفزة العالم وجرائده. فأُعطيَ التدخل الأميركي صفة أخلاقية، ولم يتلقّ أية ردة فعل، أو معارضة تذكر، على عكس ما جرى لدى شن الحروب الأميركية السابقة على أفغانستان، في عام 2001، وعلى العراق، في عام 2003.
قد يقول قائل إنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة إطالة الحرب على داعش. لكن، عدم كفاءة الضربات الجوية التي تشنها ضد التنظيم، وعدم تأثيرها على قوته وسرعة تحركه، لا بل إحرازه انتصارات في غير منطقة، تؤكد عدم جديتها، أو حتى عدم نيتها، القضاء عليه، في فترة قصيرة، وهو ما يؤكد سعيها إلى إطالة أمد الحرب، حيث أنها انطلاقاً من مشروعها، "مشروع عام 2000 للقرن الأميركي الجديد"، ربما تخطط لإقامة قواعد جديدة، تضاف إلى تلك الموجودة في غير مكان من المنطقة العربية، بهدف تحقيق أحد بنود المشروع، وهو تطوير شبكة قواعدها العاملة خلف البحار، لاستخدامها الاستخدام الأمثل في إطار عملياتها الحربية، وتعزيز شبكتها التجسسية على العالم أجمع.
" كان عهد أوباما استكمالاً لما شرع به الرئيس السابق، جورج بوش، في شن الحروب على ما أسموه الإرهاب "
إن استخدام الطائرات من دون طيار كأحد مقومات هذه الاستراتيجية أمر لا شك فيه. فعبر هذه الطائرات تخفض الولايات المتحدة من تكاليف حروبها إلى حد كبير، جراء انخفاض تكاليف تشغيلها، والتكلفة الضئيلة للصواريخ التي تحملها، مقارنة بتكلفة تشغيل الطائرات المقاتلة وصواريخها باهظة التكلفة. تضاف إلى هذا الأمر الفاعلية التي تتميز بها الطائرات من دون طيار، نظراً إلى دقة اختيارها أهدافها، بفضل قاعدة البيانات الضخمة المزودة بها، والتي تساعدها على التعرف على هدفها، وتحديده بدقة هائلة، سواء كان هذا الهدف عربة مقاتلة، أو قاعدة أو مبنى، أو حتى شخصاً راجلاً، أو راكباً. فهي تتعرف على الشخص من بصمة صوته، أو بصمه عينه، إن أجرى اتصالاً هاتفياً، أو نظر عالياً إلى السماء، حيث توجد الطائرة في المدى الذي ينظر إليه. وتملك الولايات المتحدة أسطولاً ضخماً من هذه الطائرات، تعدى الثمانية آلاف طائرة، منتشرة في جميع قواعدها حول العالم.
يستغرب المرء أن هذه الاستراتيجية استمرت موضع التنفيذ في عهد الرئيس الأميركي الحالي، أوباما، الذي ركب على حلم التغيير، الشعار الذي رفعه في طريقه إلى البيت الأبيض. لكن عهده، وعلى العكس، كان استكمالاً لما شرع به الرئيس السابق، جورج بوش، في شن الحروب على ما أسموه الإرهاب، مع فارق واحد أن أوباما استغرق به الأمر، بعد تسلمه منصبه في البيت الأبيض سنة 2009، أسابيعَ قليلة فحسب، لشن حرب غير معلنة على الشعب الباكستاني، حين أوعز للجيش الباكستاني القيام بعمليات عسكرية ضد "طالبان" في شمال وزيرستان. وهو ما استكمله في غارات الطائرات الأميركية من دون طيار على هذه المنطقة، وعلى منطقة بلوشستان، الغارات التي لا تزال تُشن حتى هذا اليوم حاصدة أرواح أبرياء كثيرين. في حين استغرق الأمر ببوش ما يقارب العام قبل شن حربه على أفغانستان في عام 2001.
كائناً من كان المقصود من الهجمات الأميركية على اليمن أو الصومال أو باكستان، أو حالياً العراق وسورية، إلا أن الملاحظ أن هذه الهجمات توقع ضحايا كثيرين بين المدنيين. وعلى عكس ما تتطلع إليه الإدارة الأميركية من محاربة الإرهاب والتطرف، فإن هذه الحرب، غالباً، ما تستطيل سنوات لا يعرف لها حد، وتستجلب مزيداً من التطرف بين سكان المجتمعات المستهدفة، وتجعل الولايات المتحدة ودولاً كثيرة على قائمة المنظمات والأشخاص المستهدفين.
لا يكاد يمرّ أسبوع من دون أن نسمع عن غرق قارب يحمل مهاجرين عربا غير شرعيين في محاولة للوصول إلى الشواطئ الأوروبية.
تقول الأخبار أن عددا أنقذ، والعشرات انتشلت جثثهم، واعتبر العشرات أو المئات في عداد المفقودين. الخبر ليس حتى من الأخبار الرئيسية، أو عناوين النشرة، كما يسمونها، فإذا ما تابعت ما يجري في سوريا وليبيا والعراق ومصر واليمن، وغيرّت محطة الجزيرة مثلا، فسيفوتك الخبر الذي سيأتي في نهاية النشرة. حتى الصحف العربية لا تنشره في صفحاتها الأولى. أما صفحات التواصل الاجتماعي فهي منهمكة في أمور أخرى، وإذا ما صدف أن إحدى الصفحات نشرته باقتضاب، فقد يمر مرور الكرام من دون أن يلاحظه أحد، أو يحظى بأي لايك أو شير.
الظاهرة مقلقة وتبعث على الحزن، وإن كانت دوافعها معروفة. قبل الثورات كانت الأوضاع الاقتصادية صعبة للغاية، وعاشت نسب لا يستهان بها من العائلات تحت مستوى الفقر. في ظروف كهذه، في دول أخرى، عادة ما تدفع بالبشر إلى كسب المال من طرق غير مشروعة، كالدعارة أو الاتجار بالمخدرات، أو الانتحار، ولكن هذا لم يحصل لحسن الحظ بشكل واسع نتيجة تمسك المواطن العربي بالقيم والعادات ووازع من دين. الوضع الاقتصادي تدهور بعد الثورات من سيئ إلى أسوأ، وكذلك الوضع الأمني وانعدمت فرص العمل التي كانت أصلا عملة نادرة. في وضع كهذا، من المنطق أن يفكر الشباب بالبحث عن فرص العمل، كمصدر لكسب الرزق، خارج أوطانهم، ولما كانت الطرق المشروعة ضئيلة، لم يجدوا أمامهم الا الهجرة غير الشرعية، بالتهريب.
الغريب أن هؤلاء الشباب المحتاجين للمال يدفعون لعصابات التهريب مبالغ كبيرة، هم لا شك بحاجة إلى كل ليرة أو دينار أو جنيه منها. الأغرب أنهم سمعوا عن المخاطر التي تحيق بهذه القوارب الصغيرة في عرض المتوسط، وغرق العديد منها، وفقدان المئات من مستقليها لحياتهم، هل هي المقامرة إذن في محاولة يائسة لمقارعة الاحتمالات؟ أم أنها، في اللاوعي محاولة للهروب، أو الانتحار؟
هل الدول العربية التي يهرب منها هؤلاء شحيحة الموارد، ليتها كذلك، ولكنه الفساد الذي يعشش في أركانها. إن تقرير منظمة الشفافية الدولية يكشف أن الدول العشر التي تتصدر الفساد في العالم، ست منها عربية، للأسف. أما باقي الدول العربية فليست ببعيدة عن منصة التتويج للفساد. يعزو البعض انتشار الفساد في عالمنا العربي لغياب الديمقراطية والحريات العامة والشفافية ونظم المحاسبة والمساءلة والقضاء المستقل والإرادة السياسية لتحسين الوضع.
الشاذ عن هذه القاعدة هو أن دولتي قطر والإمارات تبوأتا منزلتين متقدمتين مع الدول الاوروبية التي تعاني من فساد أقل، مع أنهما ليستا دولا ديمقراطية، والفارق أن قطر تتمتع بهامش من الحريات أكبر من الإمارات.
عودة إلى الفساد، المليارات من الدولارات تسرق من الشعوب وتنتهي في حسابات سرية في بنوك أمريكا وسويسرا وباقي الدول الاوروبية. أموال مبارك والقذافي وبن علي لم تسترد بعد، واحتمال استردادها ضئيل جدا، وتتمتع بها الدول التي أودعت فيها على حساب الشعوب العربية، وشبابها الذي يغرق في المتوسط. يعتقد البعض أن الرئيس أو الملك في الدول العربية هو الفاسد فقط. المحزن أن الفاسد يرسم حوله دوائر كبيرة لا تتوقف عن الاتساع حتى تشمل قطاعا واسعا من الشعب المنتفع من هذا الفساد. الفساد يعم «بخيره» الجميع ماعدا المواطن البسيط، والشباب العاطل عن العمل الهارب لشواطئ المتوسط يبحث عن عصابه تهربه إلى أيطاليا أو اليونان أو…..، ويلقى حتفه غرقا قبل أن يصلها.
مع تكرر حوادث الغرق هذه، لم نسمع عن أي تحقيق في أي دولة عربية بحثا عن عصابات التهريب التي تغرر بالشباب وتسرق أموالهم، وتحشرهم في قوارب صغيرة «كالسردين» فتكون النتيجة الحتمية، الغرق تحت جنح الظلام في المياه الباردة، حيث لا يسمع صراخهم أحد. هذه الأوطان التي جنت عليهم، حرمتهم من الحياة الكريمة على ترابها، والأشد حزنا أنها بخلت عليهم بقبور تحت ترابها، ورمتهم إلى قاع المتوسط لتنهش لحومهم أسماكه، ويموتون بعيدا عن ترابه الذي لفظهم أحياء وأمواتا.
فرحنا بالثورات العربية، واعتقدنا أنها ستزيل الغيوم الملبدة فوق منطقتنا من الديكتاتوريات الفاسدة التي تعرف أن تحافظ على كل شيء إلا على كرامة المواطن، لم يحدث ليس لأن هذه الثورات سيئة أو بدأت كمؤامرات، لا، ولكن لأن منظومة الفساد كانت بالقوة التي مكنتها من التماسك ومن اصطفاف نصف الشعب معها، في محاولات لعرقلة الثورات أو الانقلاب عليها. الفساد وجد من يدعمه أيضا إقليميا وعالميا، فتعقدت الأمور، وضاعت الأوطان. مسكين هذا المواطن العربي، سيئ الحظ، إلى درجة انه ينطبق عليه المثل المصري الطريف «تعيس الحظ بيلاقي العظم في الكرشة» أو «اللي ماله حظ لا يتعب ولا يشقى».
أيها المتوسط، ذو الأمواج العاتية، رفقا بشبابنا، تركوا أهلهم وراءهم في أوطانهم من أجل حياة كريمة، فلماذا تكسّر أمواجك، عديمة القلب، أحلامهم. هلا سألت أمواجك العالية أن تهدأ وتحملهم بسلام إلى مواطن أحلامهم؟
عندما يصبح لحـــــياة المواطــــن في أوطاننا قيمة، حينها سنرى عصابات تهريب الشباب العربي عبر المتوسط وراء القضبان، ليلاقوا جزاءهم، والأهم من هذا ليعترفوا، من وراءهم.
كتبنا كثيراً في بنية النظام القلوية، الطائفية. في استنادات نظام التفحيح، والطاغية الأكبر منذ البدايات، وقبل وصوله حاكماً مطلقاً، عن الموضعات الطائفية اللابسة كل الشعارات والمبادئ القومية، وشبه العلمانية. شبه اليسارية.. والتي أفرغتها ثم نحرتها، وعن المفاصل الحقيقية في الجيش ومن يمسك بها، والمخابرات وقياداتها، والقرارات وصنّاعها.. ونبّهنا إلى نهج النظام ومشروعه المبيّت في تشويه وجه، وحقيقة، ومبرر الثورة بإلحاقها قسراً، وعبر مجموعة آليات بحالة طائفية وكأنها صراع سني ـ علوي. فسني ـ شيعي، وسني بمواجهة المكوّنات الأخرى، وإيجاد فروع لذلك النهج في المنطقة يمتدّ من لبنان إلى العراق ..
ـ في الشهر الأول للثورة والدنيا انتفاضة، شعب حطّم قيوده، وانطلق منفجراً يردد شعارات الحرية والعدل والكرامة.. بمشاركة متنامية من معظم فئات الشعب السوري خرجت بثينة النظام بلؤمها لوصف الذي يجري بأنه : فتنة ومؤامرة، ثم كررها وريث الحقد بتفصيل ملغوم يريد أن يبرهن بطريقته العقدية على أن ما يجري هو حالة مذهبية.. ومؤامرة كونية... وأنه سيقبرها.. باعتباره" يمثل الوحدة الوطنية" وسورية الممانعة، والمقاومة.. وقد وضع عديد الواجهات السنية، ومن بقية المكوّنات في مواقع الصفّ الأول ليكونوا كراكوزات المسرحية الساذجة.
على امتداد سورية الحديثة، ورغم حقائق التركيب التي تشمل فسيفساء سورية بكل ما فيها من الإثنيات القومية، والأديان الثلاث، والمذاهب المتعددة، ورغم محاولات فرنسية مدحورة للموضعة الكانتونية، واللعب بالنسيج الاجتماعي، ومحركات بعض الأقليات القومية، وشطط بعض النزوعات الطائفية.. إلا أن سورية الوطن الواحد، والشعب الواحد الغني بالألوان، والتعايش، والتفاعل.. ذو الأكثرية العربية المطلقة، والسنية ـ بمعنى الاعتناق المذهبي ـ كانت هي الحقيقة الأبقى، وهي المصدّ، والمرجعية، وهي حاضنة الثورة ومواقد التغيير..ولم يك أحد يعتقد، أو يتصوّر أن تعمد جهات مختلفة تبدو متصارعة، ومتناقضة إلى جرجرة الثورة باتجاه الخَندقة، وما يشبه التقسيم، ومنح الاتجاهات المذهبية، خاصة السنية منها، المسوّغات، والقرائن للمضي المنزلق في هذا الطريق، خصوصاً وأن اللوحة لم تقتصر على سورية بل تمتدّ من العراق إلى لبنان، وتلتحق اليمن أيضاً فيها .
ـ لم يقتصر الأمر على ممارسات طائفية منهّجة من النظام الفئوي بتوجيه آلة تدميره وفنائه.. حتى التطهير البشري والمذهبي والديمغرافي نحو المناطق السنية في عموم البلد، بينما "تنعم" بقية المناطق بوضع آخر.. بل دخلت على الخط بقوة مدججة بكل الأسلحة والمليشيات والحقد والمشاريع الخاصة : إيران بثقلها لتدفع الأمور نحو ذلك بسرعة، وعلى رقعة جغرافية تشمل ساحات عربية متعددة.. وبما وضع الرأي العام الشعبي أمام أسئلة عبقها ردّ الفعل، ثم الدخول في متاهات لا تجد تفسيراتها سوى بتفسير، واختصار الذي يجري على أنه موجّه ضد المذهب السني صراحة.. وبأن السنة تحت المقصلة، وأنهم يتعرّضون لحرب إبادة عناوينها باتت فاقعة في كل ميدان، ومجزرة.. في اللجوء والتهجير والهجرة.. وفي نوعية القصف، والتحالفات..
ـ ومما زاد الوضع تفاقماً اقتحام الإدارة الأمريكية لبوابة الصراع من هذا الباب وترصيصه بقوتها، وآلتها الإبادية.. ثم حكايتها ب"محاربة الإرهاب" وحلفها وما يفعل.. والواقع وما يحدث فيه..
ـ سنضع جانباً كل ما يحكى عن مواقف التواطؤ، والاتفاق، وحتى التناغم مع النظام الإيراني ونتوقف عند الحالة العراقية التي هي منتج أمريكي بامتياز، وبما يتجاوز غزو العراق وتدمير دولته، وبناه التحتية، وعلمائه، وجيشه، واجتثاث وتصفية مئات آلاف الوطنيين فيه.. إلى تسليمه بوعي، ومن حيث النتيجة للنفوذ الإيراني، وتحويله إلى كانتونات طائفية وإثنية.. يعبّر عنها بصفاقة ما يسمى جيش العراق الذي أقاموه برعاية أمريكية، ثم "مليشيات الحشد الشعبي" وما تقوم به، واستهداف العرب السنة بشكل ممنهج، وشامل تقريباً. وقد أصبح شائعاً ورائجا تعبير السنة العرب، وها هو يمتدّ إلى سورية وغيرها كتحصيل حاصل فعل جرمي إبادي.. يستقي من الوقائع اليومية مسوّغاته.. ليضخّ ما يريدون من مفاعيل الانقسام.. وهذا بعض نتاج الجرجرة التي خططوا لها جميعهم هؤلاء .
ـ إن شعارات إقامة تحالف دولي عرمرمي بكل المَسرحة والتهويل، وسياساته المعلنة، وفعله على الأرض يصبّ كل أنواع الزيوت الحارقة علة فعل التقسيم الذي يراد رسم تخومه، وبما يتجاوز ذلك إلى تنصيب مخاوف تبدو جدّية جداً على "أهل السنة" العرب بأرواحهم، وديمغرافيتهم، وممتلكاتهم، وجغرافية وجودهم.. وكذا الأمر فيما يجري من دعم مشبوه، وملغوم للأكراد وفق خطين متوازيين بينما تتعرّض المناطق الأخرى لكل عمليات الإبادة والتهجير والاستهداف، ويجري التناغم الصفيق بين التحالف والنظام المجرم، وبينه وبين إيران.. بينما تزغرد الحوثية في اليمن وهي تكمل رسم اللوحة.. فتقذف بالصراع نحو الاحتراب المذهبي وما ينتج عنه من انقسامات عمودية، وحروب أهلية طويلة .
ـ كل الوقائع الناتجة عن أفعالهم تؤكد أن التطرف يزداد كردّ فعل، وأن الحواضن الشعبية لداعش وأخواتها تتسع، وتزجّ بفئات شعبية كانت في خندق الثورة تقاتل لأجل الحرية، وتصرخ بأن الشعب السوري واحد.. هؤلاء يملؤهم الخوف هذه الأيام، ويشحنهم فعل يومي لا يمكن لأغلبهم أن يرتقوا فوقه، أو أن يتغلّبوا على ما يعيشونه، وما يفقدونه من أهل وأملاك وأرض وبيوت ووطن..
ـ نعم مشاريعهم المشبوهة تتقدّم بقوة آلة الفتك. بجيوشهم الجرارة ودعاويهم الملغومة. بأجهزتهم الإعلامية ومخابراتهم وأموالهم.. وهم يريدون التقدّم في خط جغرافي طويل عريض يشمل العراق حتى لبنان، ويمتدّ لليمن فالخليج العربي.. ولمَ لا بلدان المغرب العربي.. طالما أن الشروط مهيّأة، وطالما أن الشعوب تئن تحت وطأة المذابح، والاستبداد، والنهب، والتغييب، والبسطار المصطنع..
ـ هذه اللوحة التي يمضون قدماً في ترسيخها ونشر مفاعلات انفجارها الدائم ستجابه بمصالح ومطامح وإرادة ملايين الأحرار العرب ومن المكونات جميعاً؟؟ الذين ثاروا لأجل تحرير بلادهم وليس لتقسيمها، أو نحرها بسمّ الطائفية والإثنيات التمزيقية. ولئن كان الوضع يرفع التحديات كبيرة إلى مستوى مصيري.. فإن الوعي بحقائق ما يراد فرضه علينا، ومجابهته بتنظيم وتوحيد الصفوف، والتحالف الداخلي والإقليمي مع الثائرين في العراق وغيره.. والتمسّك بروح الثورة وأهدافها من شأنه أن يقطع الطريق على هذا الذي يجري، وأن يعيد الأمور إلى حقيقتها ...
عوداً على بدء الثورة
الأسد أو نحرق البلد... الأسد أو لا أحد.
هٰذا الشعار الذي رفعه النظام في الأيام الأولى للثورة، ناهيكم عن حملة التأليه، هو الاعتراف الصريح التام الأركان بأن ما حدث ثورة وليس مؤامرة.
من غير المعقول أن يقول النظام لأمريكا أو إسرائيل التي تتآمر عليه وتحاربه: إما أن تتراجعوا أو أحرق البلد، إما أنا أو لا أحد... هٰذا الكلام يقال للشعب الذي ثار ولا يمكن أن يقال للأعداء... لم أقرأ في كل ما مضى من التاريخ، ولا يمكن أن يوجد من يقول للعدو إذا هاجمه: إما أن تتركني أو أحرق بيتي وأهلي، إما أن تتركني أو لن أبقي أحداً... إما أن تتراجع عن عدوانك أو أحرق البلد... حَتَّىٰ في الخيال لا يمكن تصور هٰذا الصورة.
هٰذا الشعار شعار من يعلم أن شعبه يرفضه ويثور عليه، وهو يهدده بالتراجع عن الثورة: إما أنا وحدي أو أقتلكم جميعاً، أحرقكم جميعاً...
لاحظوا الفرق في الخطاب. لو كان يؤمن أنَّ المؤامرة خارجيَّة لقال: إمَّا نحن، أو أحرق بلادكم، إما أنا أو أحرق أمريكا، إسرائيل، المريخ... أي بلد إلا سوريا التي تريدون تدميرها...
تخيلوا قائداً يهاجمه الأعداء ليدمروا بلده فيقول لهم: إما أن تتوقفوا عن إحراق بلدي، أو أنا أحرق بلدي!!!
هم يريدون حرق البلد فتقول لهم: إما أن تتراجعوا أو أحرق أنا البلد!!!!
كيف يمكن تصديق ذۤلكَ؟!
أي عقل يمكن أن يقبل هٰذه المعادلة؟
الحشاش إذا كان في ذروة التحشيش لا تصدر عنه مثل هٰذه المعادلة. حَتَّىٰ في حالات الهذيان لا يمكن للمرء أن يهذي بمثل هٰذه الهلوسات التي لا تستقيم مع منطق أبداً. هٰذا يذكرنا بوليد المعلم منذ أشهر قليلة عندما قال: «لا مبرر لأحد بالعدوان علىٰ سوريا، من أراد أن يعتدي علىٰ سوريا عليه أن ينسق معنا!!!!». تخيلوا مدى الصفاقة والوقاحة والوضوح. وفي قول آخر له بعد فترة: «لا مانع لدينا من التنسيق مع أمريكا»، أي بالمعنى الصريح للعبارة: «نحن لا مانع لدينا من التنسيق مع أمريكا التي تقود الحرب علينا في محاربة الدولة الإسلامية التي تحاربنا بأمر أمريكا!!!». علىٰ أساس أن الدولة الإسلامية عميلة أمريكا كما يقول الإعلام السوري وكثيرٌ آخرون.
لا يختلف هٰذا الكلام عن سياق الشعار الذي رفعه النظام منذ بداية الثورة: إما أن تتوقفوا أو أحرق أنا سوريا!!!.
النظام يعلم أنَّ ما حدث ويحدث ثورة ومن ثمَّ فإن كل ادعاءاته باطلة، وكل ممارساته ممارساته علىٰ هٰذا الأساس واعية ومعلومة، وليست أبداً لمواجهة أي مؤامرة خارجية، وإنما لمواجهة الشعب. ومن ثمَّ لا يوجد أي ذريعة يتبرأون بها أو يدافعون بها عن أنفسهم.
حَتَّىٰ في الكذبات التي يرددونها هم يدينون أنفسهم إدانة قاطعة. أضرب مثالاً مجزرة الكيماوي التي قالوا وقالت بثينة شعبان إنَّ المعارضة اختطفت أطفال العلويين من الساحل وارتكبت بهم مجزرة الكيماوي في ريف دمشق. في الوقت ذاته كان أهالي الأطفال أنفسهم يوزعون الحلوى ويتبادلون التهاني والتبريكات!!! كيف استقام ذۤلكَ؟!؟! إنها المعادلة السابقة ذاتها التي لا تستوي حَتَّىٰ مع الحشاش في ذروة التحشيش، ولا مع أقصى درجات الهلوسة والهذيان.
هٰذا الشِّعار وحده كان كافياً لإثارة كلِّ ما نفس الشعب من تقزز واشمئزاز وإصرار على رفض هٰذا النظام، وعدم القبول بالتعايش معه. النظام هو الذي فرض علىٰ الشعب خياره الوحيد برهان كله حمق غير محدود. والعجيب الغريب أنَّهُ كلما بضعة أشهر كان يعيد استفزاز الشعب أكثر، فأكثر، فأكثر...
منذ بداية الثورة قلت هٰذا الكلام كثيراً ومراراً علىٰ منابر مختلفة. كان الكثيرون يسألونني عما أرى، وكنت أقول: «النظام معميٌّ علىٰ قلبه». أعني بذۤلكَ أنَّ سلوكاته تتجاوز الغباء كثيراً، فالغبي لا يمكن أن يتورط الورطات التي يقع فيها النظام... الغباء لا يفسر شيئاً من سلوكاته. وما زال حَتَّىٰ اليوم معميًّا علىٰ قلبه. فإلىٰ أين يمكن أن يصل؟ وماذا جنىٰ وماذا يمكن أن يجني حَتَّىٰ ولو انتصر، ولا يمكن أن ينتصر؟!
لا جديد في حديث بشار الأسد الأخير مع مجلة "باري ماتش" الفرنسية، باستثناء عبارة واحدة مُلفتة، وهي أن الحرب في سوريا ستكون طويلة وصعبة، وأنه لا يمكن التكهن بموعد انتهاء الحرب مع متشددي الدولة الإسلامية.
في نيسان الفائت، توقع بشار الأسد أن تنتهي العمليات العسكرية الكبرى في سوريا، لصالحه، بحلول نهاية العام الجاري. أوحى حديثه حينها بأن لديه إقتناعا بقدرته على حسم المشهد الميداني السوري لصالحه في وقت قريب. علّق الأمريكيون يومها بأن ما يحدث في سوريا هي "حرب استنزاف"، مستغربين وصف الكفّة بأنها تميل لصالح الأسد.
أما اليوم، فلهجة الأسد تغيرت. ورغم تعهده بالانتصار على مناوئيه في نهاية المطاف، إلا أن تصريحاته الأخيرة للمجلة الفرنسية المذكورة، لا تُوحي أنه مقتنع بذلك حقاً. الأمريكيون أيضاً يعتقدون أنها ستكون حرباً طويلة، ومعقدة. هذه ليست المرة الأولى التي تخيب فيها تقديرات الأسد، لكن في هذه المرة أوحت تصريحاته أنه لا يملك رؤيةً للمستقبل، باستثناء استمرار الصراع، وإصراره على التمسك بالكرسي، مهما كان الثمن، متعهداً أنه سيكون آخر من يقفز من السفينة "الغارقة" – "سوريا".
يقرّ الأسد اليوم، دون قصد، أنه فشل في تقدير مستقبل الصراع وآفاقه. إقراره هذا يظهر في ما بين سطور تصريحاته. وهي رسالة لأنصاره بأن عليهم التزام الصبر، رداً على مؤشرات تذمرهم من الخسائر المستمرة في صفوف أبنائهم. لم يقدم الأسد لأنصاره أية قراءة لمستقبل الصراع وأفقه. فقط، أعطاهم أمراً قسرياً، غير مباشر، بعدم التذمر، فالقادم لن يقل صعوبة، وربما زمناً، عما فات.
صرامة حديث الأسد عن الحرب الطويلة والصعبة تعبّر عن فحوى طريقة تفكيره، وخلاصتها أنه لا يقدّر الخطر إلا حينما يلامس كرسيه بصورة مباشرة. أما المؤشرات الأخرى الأقل لفتاً للاهتمام، لا تجذب انتباه الأسد. فهو لا يبدو أنه يعي خطورة تراكم الاستنزاف الذي تعاني منه موارد نظامه البشرية والمالية والاقتصادية.
لا يلاحظ الأسد، حسب ما يُفهم من تصريحاته، أن آثار الاستنزاف في قدرة النظام السوري تتبدى اليوم في عجز مؤسسات الدولة عن تلبية المتطلبات الأولية لحياة السوريين في مناطق سيطرته.
إذ بدأ يظهر بوضوح التهالك في منظومة تموين الطاقة في البلاد، وما يعنيه ذلك من تهالك للاقتصاد ولظروف الحياة الطبيعية.
الكهرباء والماء والغاز والمازوت...وغيرها، باتت كلها أزمات متوالية، ما تكاد أزمة تنتهي حتى تليها أخرى. جاهد نظام الأسد في أن يؤمن للمناطق الخاضعة لسيطرته الحدود الدنيا لمتطلبات الحياة الطبيعية. كان يريد أن يقول للجميع أنه الخيار الأفضل لحياة آدمية وفق مفهومي الأمن وأولويات الغذاء والطاقة. لكن المشهد يبدو أنه آخذ في التغيير.
يواصل تنظيم "داعش" مهاجمة حقل الشاعر والحقول المحيطة به، وسط حمص، من حين لآخر. ويتكبد النظام بصورة شبه أسبوعية خسائر بشرية ضخمة لإحكام سيطرته على تلك المنطقة الحيوية بالنسبة له. فالغاز الموجود فيها هو المورد الأخير المُتبقي لدى نظام الاسد لإبقاء مولدات الكهرباء تعمل.
لا ينفي ما سبق أن نظام الأسد أتاح المجال لتأسيس اقتصاد حرب، وطبقات وشرائح مستفيدة منه، بحيث بات تأقلم السوريين مع الواقع الراهن، ربما لسنوات أخرى، أمراً لا مفرّ منه. لكن ذلك لا ينفي أيضاً بأن تراكم نزيف "الدولة السورية"، كمؤسسات، وكموارد، وكاحتياطي مالي، لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن هناك نقطة انهيار مُرتقبة.
في الوقت الذي كان فيه الأسد يتحدث للمجلة الفرنسية، كان مقاتلو "داعش" يدكون أسوار مطار دير الزور العسكري، أحد آخر جيوب النظام المُتبقية في المنطقة الشرقية.
الاشتباكات المحدودة بين قوات النظام وبين مقاتلي داعش في الأشهر القليلة الماضية أوحت بأن التنظيم قادر على تحقيق اختراقات خطيرة تعني أنه لو ركز على جبهة الأسد، ربما تمكن من تحقيق اختراقات أخطر في الأفق القريب. والضغط الدولي والإقليمي على التنظيم في جبهة العراق، وشمال سوريا (عين العرب – كوباني)، قد يضطر التنظيم لاعتماد جبهة الأسد باعتبارها أسهل الجبهات المُتاحة. خاصة نظراً للحرج الذي قد يقع فيه التحالف الدولي إزاء استهداف التنظيم في معركة له مع نظام الأسد، بصورة يبدو معها التحالف، علناً، وكأنه يقاتل في صفوف الأسد. مما يجعل من المستبعد أن يتدخل التحالف الدولي، مباشرة، في الصراع بين التنظيم والنظام.
هل يدرك الأسد هذه المرة أن الوقت لا يلعب لصالحه؟...لا يبدو ذلك، فهو ابن مدرسة لطالما اعتمدت استراتيجية حافة الهاوية وراهنت على الوقت علّه يرتق ما انفتق من قدرة النظام.
لكن "داعش" أيضاً، لا يلعب الوقت لصالحه. فتوقف تمدد التنظيم يهدد زخمه الذي اكتسبه في الأشهر السابقة، والذي أمده بآلاف المقاتلين المتحمسين، وبالكثير من الموارد. توقف التنظيم عن التمدد اليوم يهدد استقرار قبضته حتى في المناطق التي يسيطر عليها. فالمراوحة في المكان ليست خاصية إيجابية للتنظيمات المتشددة، بل على العكس. مما يعني أنه في الأفق القريب لن يجد "داعش" أفضل من جبهة الأسد للتمدد فيها.
هل يعي الأسد ما سبق؟...لا يبدو ذلك أيضاً، فرد فعل النظام، الملحوظ، حيال مساعي موسكو لوضع لبناتٍ مقبولة لحل سياسي في البلاد، يؤكد أنه ما يزال يراهن على الوقت.
رهان الوقت، بين نظام يراهن على طول الأمد، وبين تنظيم يراهن على سرعة الإنجاز، سيكون المعادلة التي قد تقصم ظهر نظام الأسد.
ما سبق يعني أن تقديرات الأسد بأن "الحرب طويلة"، قد تخيب مجدداً، فليس لدى "داعش" الوقت لذلك. أما أنها ستكون "صعبة"، فهو دون شك محقٌ تماماً في ذلك.
قلوب تقطر مرارة وكلمات تفيض بالأسى وشعور بالغصّة تماماً في منتصف الحنجرة تبدو واضحة عند كلّ من يتحدث عن رزان زيتونة، خصوصاً ممن عمل قريباً منها واكتشف مدى قناعتها وإيمانها بثورة أبناء شعبها واستشفّ مدى ثقتها ويقينها بدور منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني في الإبحار بالمجتمع السوري الثائر إلى برّ الأمان وتخليصه من الديكتاتورية وبراثم الطائفية والعنصرية البغيضة.
حلّت الذكرى السنوية الأولى لحادثة خطف رزان مع زوجها وائل حمادة وسميرة الخليل وناظم حمادي، ولعلّها أطول فترة على الإطلاق كانت لرزان يمكن أن تتخيلها وهي بعيدة عن هموم الناس والوطن. ولعلّ الأكثر غرابة وألماً لديها هو حدوث عملية الخطف الجبانة هذه على أراضٍ خاضعة لسيطرة «المعارضة» المسلّحة ومن بين من كانت تعتبرهم أهلها وأصدقاءها، يا لهما من أمرين فادحين لم تكن تشي الأيام التي سبقت الحادثة إلاّ بهما.
قبل وقوع حادث الخطف على أراضي مدينة دوما المحررة كانت أطراف أخرى في الشمال «المحرر» قد ارتكبت عشرات الحوادث المشابهة بحقّ نشطاء وإعلاميين وعاملين سوريين وأجانب في المجال الإنساني والإغاثي، ولم تُعِد تلك الحوادث إلى ذاكرة السوريين سوى ممارسات النظام السوري القعمية والوحشية عقب اندلاع الانتفاضة، ولم تكن حادثة خطف رزان الأولى لكنّها كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة الى معظم نشطاء الثورة ومنظمات المجتمع المدني السورية والدولية على السواء، فقد فتحت تلك الحادثة الباب على مصراعيه، خصوصاً في ما يتعلق بإعادة تعريف للمناطق المحررة، وأعادت إلى الأذهان بشكل كبير الشعارات والهتافات الأولى التي خرجت من أجلها ثورة الحرّية والكرامة، وفتحت الباب أمام النقاشات العميقة حول الدور المهم الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في ظلّ النزاع القائم في سورية، خصوصاً في مجال توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وإيصال صوت الضحايا، إضافة إلى الخدمات الكبيرة التي تقدمها في المجال الطبّي والإنساني وضرورة وضع حدّ لجميع الخروقات بحقهم. الوجود الكثيف لكتائب المعارضة المسلّحة في مدن الغوطة الشرقية في الريف الدمشقي، وتحديداً في مدينة دوما والتي يمكن وسم معظمها بالصبغة الإسلامية، سهّل من عملية الاصطياد في المياه العكرة، وإظهار حالة رزان زيتونة ورفاقها على أنّها حالة شاذة على المجتمع الدوماني «المتحفظ». وقد سبق ذلك حملة شرسة قام بها العديد من نشطاء الإعلام في دوما، ليتم اختزال الموضوع وتكييفيه مع «الصراع» العلماني-الإسلامي المتفاقم أساساً، وبالفعل فقد كانت حادثة الخطف بمثابة الرصاصة الأخيرة على العمل المدني الحضاري الذي كانت ملامحة تتشكل في الغوطة الشرقية. وكانت رزان ورفاقها قد قطعوا شوطاً كبيراً بهذا الاتجاه، إلاّ أنّ يد المسلّحين كانت أقرب مما كان يتصوره الجميع في مدينة تعتبر المعقل الرئيس لمقاتلي «جيش الإسلام» والذي يتزعمه زهران علّوش أحد المنضوين تحت لواء «الجبهة الإسلامية»، حيث تمّ تحميلهم من عشرات الأطراف المسؤولية الأخلاقية والقانونية في إعادة المخطوفين الأربعة سالمين إلى ذويهم.
كُتبت عشرات المقالات عن حادثة الخطف وشاهدنا عشرات الإدانات والاستنكارات التي تشجب هذه الجريمة البشعة. وعلى عكس توقعات الجهة الخاطفة وممن وفر الغطاء السياسي لعناصرها فقد تحولت الحادثة إلى نقطة تفصل بين مرحلتين مهتمين في التعاطي مع كتائب المعارضة المسلّحة ونظرة السوريين إليها من جهة، ونظرة المجتمع الدولي من جهة أخرى، إضافة إلى نظرة كبرى المنظمات الحقوقية العالمية التي شكّلت الحادثة لهم فهماً واقعياً وحقيقياً على طريقة تعاطي بعض المعارضة المسلّحة -والتي من المفترض أن تكون بديلة للنظام– مع الآخر المختلف عنه، خصوصاً ممن ينادون بمبادئ الديموقراطية ويدعون إلى مجتمع مدني حضاري. لكن ما لم يكتب عن رزان زيتونة ورفاقها هو حالتهم الصحية والنفسية التي سبقت حادثة الخطف والتي كانت المجازر اليومية والحصار المطبق من قبل قوات النظام قد أوصلتهم إليها كما جميع السكان، فرزان كانت تعاني قبيل الحادثة بأيام من مرض جلدي في منطقة اليد، ويبدو أنّه كان بسبب شحّ في مواد التنظيف وندرة في المياه النظيفة الخاصة بالشرب والاستحمام. وكانت في ليلة الحادثة تحديداً تعاني من وهن عام بسبب قلّة التغذية وعدم توافر الطعام المغذي والحلويات والشوكولاتة السوداء التي كانت رزان تحبها، فهل يا ترى قام الخاطفون خلال هذه السنة بتقديم أدنى مستلزمات المعيشة اليومية الكافية لهم؟ وهل يا ترى نظر «القاضي» في عينيها أثناء إصدار حكمه؟ وهل سمح لها بالدفاع عن نفسها؟ أشكّ في أن تصل بهم الشجاعة إلى هذا الحدّ وأجزم أنّ رزان بصقت (في وجوههم) ومرّغت أنوفهم في الوحل، بكرة وعشية.
بينما يضيّع الأميركيون والروس وقت العالم، ووقتنا، على مشاريع سلام وهمي، يظنون أن نظام الاسد سيوافق عليها، على الرغم من أنه قاوم، طوال عامين ونصف، تطبيق وثيقة دولية، أقرها الخمسة الكبار، هي ما سميت لاحقاً "وثيقة جنيف واحد"، وعارض، بقوة السلاح الروسي والدعم الإيراني، فكرتها حول الهيئة الحاكمة المكوّنة من أهل النظام والمعارضة، والمرحلة الانتقالية والتغيير الديمقراطي، تقدم، أخيراً، وزير خارجية فرنسا باقتراح يفتح قبوله باب السلام، أمام حل سياسي، يلبي تطلعات الشعب السوري ورغبته في السلام والحرية، وأمن وسلام منطقتنا والعالم. لم يقل الوزير إن بلاده ضد حل سياسي للمعضلة السورية، بل قال العكس: فرنسا تؤيد الحل السياسي، ولا ترى حلاً سواه، لكنها تعتقد أن حصر المعركة الدولية في "داعش"، وتجاهل ما يمارسه النظام من تصعيد متسارع للعنف ضد شعبه، بالتزامن والتوازي مع هذه المعركة، يبعد ويقوّض فرص الحل السياسي، ويغلّب كفّة الحل العسكري الذي قرر الأسد تطبيقه ضد ثورة الحرية السلمية في سورية، ويمكّنه من استغلال الحرب ضد الإرهاب لحسمه، مع ما سيترتب على ذلك من هزيمة نهائيةٍ، تنزل بالشعب والمقاومة، وسينتجه من تعقيدات عربية وإقليمية ودولية، ستكون معالجتها أشد خطورة على مصالح العالم وأمنه من الحل السياسي المتوازن في سورية الذي سيتم بلوغه سلمياً، وبرضا طرفي الصراع، حسب وثيقة جنيف.
يذكّر الوزير الفرنسي بما كان الأميركان وحلفاؤهم يؤكدونه دوماً، وهو أن تحقيق السلام مرتبط بتبدّل جدي في موازين القوى لصالح الجيش الحر. ويتمسك بهذا المبدأ الذي يبدو أن أميركا نسيته، ويقترح بذل ما يسميه بعض الجهد الجوي "الغامض"، لمنع النظام من تغيير موازين القوى لصالحه، لأن تغييرها سيقضي على فرص السلام في سورية، وسيزيد الصراعات الإقليمية والدولية تعقيداً وتشابكاً. في رأي الوزير، من الضروري القيام بعمل عسكري/ سياسي متوازن ومتوازٍ بين "داعش" والنظام، بوصفهما طرفي الإرهاب الأخطر في المنطقة وخارجها، ما دام قصر الجهد العسكري على "داعش" يخدم الإرهاب الأسدي، ويفوّت على الغرب فرصة التغلّب على الظاهرة الإرهابية في تجلياتها ومنابعها غير "الداعشية"، ويبقي ورقتها سلاحاً في يد الأسد، يستخدمه متى شاء، ضد تحقيق سلام متوازن يحفظ أمن العالم ومصالحه، تمكّنه من استخدامه ثغرة واضحة في خطة التحالف الحربية والسياسية ضد الإرهاب، تتجاهل أنه يتخطى "داعش"، ويتجسّد في نظام دمشق أيضاً، الذي يعتبر أفضل تنظيماً، وأقوى وأشد خطورة منها.
يذكّر الوزير بوعود الغرب حول العمل لتبديل ميزان القوى لصالح الثورة، تحقيقه شرط لازم لفتح طريق التسوية السلمية أمام السوريين، وفق وثيقة جنيف واحد. ويذكّر، كذلك، بما نسيه العالم من وعود والتزامات، تحفظ أمنه من خلال حفظ أمن الشعب السوري، ويذكّر، أخيراً، بأن ما يبذله الروس من جهد للتلاعب بالمعارضة لن ينتج شيئاً مفيداً، لأن النظام الذي يتلقى فيضاً من السلاح والمال الروسي لا يجد ما يمنعه عن قتل المدنيين بالمئات كل يوم، كما حدث يوم 25/11 في الرقة، عاصمة دولة "داعش"، التي لم يستهدفها القصف، ولم تخسر أيّاً من مقاتليها. بالمناسبة، يعتبر الوزير إنقاذ حلب بوابة السلام في سورية، الذي سينتجه ارتطام النظام بميزان قوى، لا يستطيع كسره، أو تحاشي انعكاساته السلبية عليه، وقد يقنع أطرافاً منه بحل متوازنٍ تقبله لكونه أفضل لها من هزيمة مؤكدة.
دعت البلغارية إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، من مقر المنظمة في باريس، وعلى هامش لقاء دولي حول التراث المادي المهدد في سورية وفي العراق، إلى إيجاد "مناطق حماية ثقافية"، وتحييد المناطق الأثرية في البلدين من أتون المعارك الجارية فيهما. وقد اقترحت أن يتم البدء بتجربة هذا المشروع في محيط الجامع الكبير/ الأموي في حلب، والذي تعرض لأضرار فادحة في الأشهر الماضية، من جرّاء المعارك الدائرة حوله، حيث فقد مئذنته الكبرى. وقد دانت السيدة المديرة، أيضاً، الهجمات ضد المواقع الثقافية، وتهريب اللقى الأثرية الذي يمكن اعتباره، حسب قولها "جزءاً من استراتيجية تطهير ثقافي، جرى التفكير فيها جيداً، وهو تطهير يتمتع بدرجة نادرة من العنف".
تقام هذه المؤتمرات بشكل متكرر في الآونة الأخيرة في إطار التوجه الدولي، المحمود والمشكور روسياً وإيرانياً، إلى حصر المسألة السورية بمواجهة جماعات متطرفةٍ، بعيداً عن خلفيات المشهد بعمومه وتعقيداته وتأثيراته. وبعيداً عن دور الطرف الآخر، والأساسي في المقتلة السورية، المتمثّل بنظامٍ، اختار منذ اللحظة الأولى، لغة العنف. فالأمم المتحدة التي لا تكلّ ولا تملّ من التعبير عن قلقها بلسان أمينها العام بان كي مون، تواجه "مؤتمرياً" خطر داعش التي لا تتورع، فعلاً، عن القيام بأبشع الجرائم بحق الإنسان. فهي منظمة إرهابية تتمدد كالسرطان ليس جغرافياً فحسب، بل و "فكرياً"، وتتميّز بأنها تعتبر أن الثقافة، بتكويناتها كافة، ما هي إلا رجسُ من عمل الشيطان. فما الضير، إذن، إن تحوّل القلق الأممي الفجّ والمتكرر بلا ملل، ولا خجل، إلى خطة عمل بيروقراطية واضحة، لمواجهة خطر هذه العصابات في مجال حماية الآثار والتراث الإنساني والموروث الثقافي؟
“ داعش منظمة إرهابية تتمدد كالسرطان ليس جغرافياً فحسب، بل و”فكرياً" "
من خلال اجتماعات أكثر من 500 خبير دولي عدة أيام في ظلال برج إيفل، توصّل المجتمعون إلى ضرورة تطبيق الميثاق الدولي المتعلق بحماية المواقع الثقافية في حالات النزاعات المسلحة الذي أقر سنة 1954، وجميع إضافاته وتعديلاته اللاحقة. حسناً، وماذا أيضاً؟ قرر المجتمعون السعي إلى إنزال أقسى العقوبات بمن يهاجم، بشكل مقصود، المواقع الأثرية والمراكز الثقافية (لم تذكر في الحيثيات معارض الفن التشكيلي، ولا صالات الموسيقى...). حيث تعتبر هذه العمليات الحربية ضد هذه المواقع جرائم حرب وردت في اتفاقية روما التي وضعت أسس المحكمة الجنائية الدولية. كما أكّد المشاركون والمشاركات في اللقاء على دعم اقتراح بتعزيز المنع الدولي لتجارة الآثار القادمة من سورية.
وفي اجتهادٍ سياسي متميّز، اعتبرت المديرة العامة "أنه لا يوجد حل عسكري للأزمة"، القائمة في سورية، وفي هذا التصريح، إعادة اكتشاف العجلة، كما يبدو. لكنها أرفقت هذه "البديهية" المُجمع عليها من جميع من يعتنون بفهم المقتلة السورية منذ سنوات، ولا تحتاج إلى مؤتمرات ثقافية، للتوقف عندها وتأكيدها، بإضافة تربط ربطاً غريباً بين المفاهيم. فهي اعتبرت، ولاحقاً لموضوعة الحل العسكري، بأنه "للنضال ضد التعصب، يجب، أيضاً، تعزيز التربية التي تساعد على مواجهة الكراهية، وحماية التراث، وعلى تكوين هوية مشتركة". فالخطر القائم، من وجهة نظرها، والذي لا يوجد فقط حل عسكري له، هو خطر الجماعات الإرهابية المتطرفة. إنه خطر التعصب المتنامي في ظل المقتلة السورية. أما الأخطار الأخرى الناجمة عن قصف المدنيين والبنى التحتية وبراميل الديناميت، فلا ذكر لها ألبتة في أي سطر من تصريحات السيدة المُصرّح بها، في مواقع المنظمة الأممية. ولا توجد أية مسؤولية لقوى النظام السوري في الاعتداء على أهم صانع للتراث البشري، وهو الإنسان.
كلامٌ لا يملّ أصحابه من تكرار مفاصله، المنوّه عنها في أدبيات الأمم المتحدة والصالحة لكل زمان ولكل مكان. كلام حقٍ تتبناه المنظمات الأممية، لا يراد به إلا تبرئة الذات من انعدام الحسّ بالمسؤولية، القابع في أروقة البيروقراطية الأممية. لا جديد فيه، ولا طعم له، ولا رائحة. إلا أنه، وفي سابقة "أممية" في الربط الأعرج، ندّدت المديرة العامة، وفي جملة واحدة "بالاعتداءات ضد الأقليات والتراث الثقافي". هي، إذاً، تتبنّى الخطاب السياسوي الغربي، المنتشر كالنار في الهشيم، في الآونة الأخيرة، والذي لا يهتم إلا بسورية الأقليات، وليس بسورية الوطن والمواطن. والعجيب هذا الربط الغريب بين الأقليات والآثار، والذي يُحيلنا إلى تضخم موضوعة الأقليات، في عملية بناء موقف غربي من الأحداث السورية.
أن تهتم الأمم المتحدة بالتنوع الديني واحترام المعتقدات وسائر الاختلافات الثقافية والعرقية، لهو من صلب مهامها، ولكن، أن تصمت (مهما ادعت العكس) طوال سنين عما يجري لسائر السكان لتستيقظ على مسألة الأقليات، فإنها تدخل في التسويق لخطاب فئوي، مناسب لكل من لا يريد أن تتوقف المقتلة السورية.
في موازاة المشهد الباريسي/ الأممي، تناقلت الأخبار شريطاً مصوراً، يُظهر قصفاً بدائياً وأعمى وأبله، لقلعة حلب التاريخية من متمردين، يعتبرونها موقعاً للنظام. الجميع يساهم في دوران عجلة التدمير والموت والجهل. أمميون ونظاميون ومتمردون. تنازل العقل عن جميع اللاعبين الأساسيين في المشهد السوري.