بحسب حكايات جدتي، نقلاً عن جدتها، وتلك عن جدتها الأخرى، وصولاً إلى جدة ضاعت في أزمنة الحكايات، فإن المستقرضات هي الأيام السبعة المتعلقة بذيل آخر السعود: سعد الخبايا. لكن هذه المستقرضات استمرأت أجساد السوريين، وأرواحهم، منذ أربع سنوات، وأخذت تقرض بهم مع أول سعد من السعود، وهم في مخيمات اللجوء، أو في العراء تحت رحمة جبابرة الكون، من أرض وسماء، بينما العالم غارق في نعيم دفئه، وشعبي السوري يكويه الصقيع والنار.
ولمن لا يعرف السعود، التي هي جمع سعد، وأظن أن شعبنا كله لا يعرف السعد، منذ سنوات عجاف حلّت في أوطاننا، فسوف أذكّر بها، بما أنها تسبق الربيع، بعد أن تأخر ربيعنا، وربما تاهت به الدروب. هذه السعود على ذمة ساكني الديار منذ القديم، خلاصة خبرتهم التجريبية التي استقطروها من روح الطبيعة، الملتصقين بها، مثلما لو كانوا جزءاً منها يربطهم بها حبل سري، فيدور نسغها في شرايينهم، ويرجع إلى قلبها، تأتي بعد "المربعينية"، وهي أيام البرد الممتدة من 21 ديسمبر/كانون أول حتي 30 يناير/كانون ثاني، وهي رحيمة قياساً بالخمسينية، جامعة السعود كلها، إذ تمنن: "إذا ماعجبكم حالي ببعتلكم خوالي" أي "السعود" الأربعة متساوية الأعمار، لكل منها اثنا عشرة يوماً ونصف، يبدأ أولها بأواخر المربعينية، أي 31 كانون الثاني، ويسمى: "سعد الذابح"، حيث تموت الماشية من شدة البرد فيه: "سعد الدابح ما بخلّي كلب نابح". يلحق به سعد بلع حيث تفيض الأنهار وتزداد الآبار امتلاء وكأن الأرض ابتلعت ماء الأمطار: "بسعد بلع بتنزل النقطة وبتنبلع". ثم يأتي سعد السعود الذي قيل فيه: "سعد السعود سلاخ الجلود"، كما قيل: "في سعد السعود بتدور الميّة بالعود"، أي يسري النسغ في الأشجار وغ
صونها. وأخيراً، يطل سعد الخبايا برأسه، واعداً بنبش الحشرات والزواحف من أوكارها، بعد أن احتمت بسبات طويل من شر البرد المستطير: "في سعد الخبايا يطلعن الحيايا".
لكن، لا تنسل هذه السعود الأربعة المتغطرسة، فجأة، مثلما كان قدومها ممهداً له بالمربعينية، فهي تطلب أسبوعاً آخر من شباط الذي يستنجد بابن عمه آذار:" آذار يا ابن عمي، أربعة منك، وثلاثة مني، منخلّي دولاب العجوز يغني". وقد يكون عادلاً إذا كانت السنة كبيسة، فيعرض عليه: ثلاثة منك وأربعة مني. هذه الأيام السبعة تسمى "قرون العجائز: أو "المستقرضات" وفيها برد قارس، وريح قوية وأمطار وفيضانات، وتقعد العجائز قرب المدافئ: "بالمستقرضات، عند جارك لا تبات"، ويموت فيها ماشية كثيرة: "غنمنا ما بتدوم حتى تروح عجايز الروم".
هذا هو شعب هذه الأرض، عاش في رحم الطبيعة، عرف نبضها وخبر أطوارها، فشخصنها ونسج حكاياته عنها، وتوارثت هذه الخبرة الأجيال. أحب الحياة، وظل ملتصقاً بأرضه، بزيتونه وليمونه، يقلّم أشجاره، ويبذر الأرض لتمنحه السنابل فيعجن خبزه كفاف يومه.
" ما أكثر اللاءات التي ضيقت خناقها على رقبة الشعب، منذ أن صرخ بـ (الّلا) الأولى في وجه الظلم والجور والاستبداد، إلى اليوم "
كان همّهم، فيما مضى، ينحصر في زرعهم وماشيتهم، أما اليوم، وبعد سنوات من تغوّل شياطين الأرض فوق أرضهم ودفع مصائرهم باتجاه المجهول، فصار لسعود الطبيعة حكاية أخرى، وصار للسوريين هموم أخرى أيضاً. صارت المستقرضات تلاحق السوريين، حتى لو لم يكونوا عجائز، فتحصد الأطفال والأمهات، تتحالف مع الموت على السوريين، مع الجوع، مع داعش، مع البراميل المنهمرة من السماء، ولم ينفع هذا الشعب المغدور كل التحالفات التي تعقد على اسمه وباسمه. هاهم في المخيمات يحصدهم البرد والجوع، وتعلن منظمة الغذاء العالمي وقف مساعدات بالمبلغ المرقوم عن مليون وسبعمائة ألف من اللاجئين السوريين، وعازمة، في الوقت نفسه، على إيقافها عن النازحين في داخل الأراضي السورية، بينما كلفة الحرب الدونكيشوتية على طواحين الهواء الداعشية تتعدى ما يحتاجه هؤلاء المشردون المهجرون عن ديارهم وأراضيهم بعشرات المرات، ولو استشهدنا بالأرقام، طالما تحوّلت نكبات الشعب السوري، كما تحوّل هو إلى جداول إحصائية وأرقام، فقد بلغت قيمة المساعدات في العام 800 مليون دولار، بينما تقدر تكاليف الحرب المفتوحة الأمد على داعش بأضيق نطاق، وقبل أن تتوسع أكثر، إلى ما يقترب من أربعة مليار دولار في العام، هذا إذا لم نحسب تكاليف الحرب السورية الأخرى، وما يُدفع لأجل تسليح كل الأطراف المشاركة فيها، فأين الضمير العالمي وأين الحياء الإنساني؟ أموال بأرقام فلكية تُدفع على التسليح والحروب، بينما شعب ينام معظمه في العراء، ويموت من البرد والجوع والفاقة والمرض؟ الشعب السوري واقع بين حدّ السيف ومسقط البراميل، يناور الموت، ومن ينجُ من هذا الموت ليس نصيبه في الحياة أوفر، حتى الباقون في المناطق الأقل توتراً مهددون بالبرد والجوع وتردي الحياة إلى دركها الأسفل، تحت رحمة انقطاع المواد الأساسية للعيش، لا محروقات، لا مياه، لا كهرباء، لا مواد تموينية، لا دواء، وما أكثر اللاءات التي ضيقت خناقها على رقبة الشعب، منذ أن صرخ بـ (الّلا) الأولى في وجه الظلم والجور والاستبداد، إلى اليوم.
جاءت وراحت السعود الأربعة في السنوات الأربع التي خلت، وأخذت معها الكثير الكثير من شعبنا، ولم تعد جدتي على قيد الحياة، لأسألها أن تتوسط لنا عند سعود "الأربعة"، علّهم يرأفون بحالنا، بعدما لم يكترث جبابرة العالم بحالنا، ولا بأطفالنا، وهم يتضورون جوعاً ويتجمدون برداً، ولا بأمهات جف حليب أثدائهن، ولا بفتيات يُسَمن في بازارات الفحولة كل صنوف الذل والمهانة، وعلّهم يمنعون الموت وزبانيته عنا.
سنويا تزداد بشكل مطرد حالات انتهاك الحقوق والحريات، على المستوى العالمي، للجماعات والأفراد، وبأسباب تتصل بمسألة حرية الرأي والعبادة، والتفكير واللجوء والعمل، ويتعرض من انتهكت حقوقهم إلى الاعتقال والتمييز والتصفية الجسدية، والتعذيب وغير ذلك بسبب المطالبة بحقوقهم. وتسجل المنظمات المعنية بذلك تجاوزات كبيرة، ترتكبها الدول بشكل يتنافى مع التزاماتها الدولية، وفي مقدمتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
ورغم وجود آليات واضحة في القوانين الدولية، فإن المجتمع الدولي يؤكد عجزه في الحدّ من تصاعد وتيرة الانتهاكات التي يرتكبها الأفراد والتنظيمات والدول، بأدوات وأساليب مختلفة، تقف المنظمات الدولية حيالها موقف المتغاضي أو الصامت، دون أن تتمكن من إدانة تلك الممارسات في الحدّ الأدنى، بسبب سياسة توازنات المصالح في مجلس الأمن الدولي، وهذا بالطبع ينسحب على أداء مجلس حقوق الإنسان، لدى الأمم المتحدة بصورة خاصة، والذي يضطلع بمسؤولية مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، وخاصة الانتهاكات الجسيمة ومنتظمة التكرار وتقديم التوصيات اللازمة لوقف مثل هذه الانتهاكات أو الحد منها.
ما يجب الإشارة إليه هنا أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، هي الأشد انتهاكا للقوانين الدولية، وتحوز على مقعد في المجلس، والمثال الليبي، دليل ليس فقط على التغاضي عن ممارسات الدول المتعارضة كليّا مع الاتفاقات الدولية الموقع عليها.
قاد ذلك -حتى اليوم- إلى عدم وجود ضمانات دولية، لحماية الحقوق والحريات، فيما لا تتوفر آليات فعّالة تجبر الدول على الالتزام بتعهداتها الدولية/القانونية. والواقع فإن سياسات الدول الكبرى الأمنية، وطرق معالجتها لملفات حقوق الإنسان، وممارساتها ومواقفها الدولية، التي تتجاوز التزاماتها، بحيث تكون حريصة على ذلك فوق أراضيها، لكنها لا تلتزم قواعد حقوق الإنسان في سياساتها وأساليب عملها خارج إقليمها، مثال الولايات المتحدة، غوانتانامو والسجون السرية، ومواقفها مما يجري في العالم قد شجعت دولا كثيرة على ارتكاب أبشع الانتهاكات وارتكبت المجازر ومارست مختلف صنوف القتل والتعذيب ومارست سياسات الإقصاء والتمييز على أوسع نطاق. نسوق الولايات المتحدة كمثال، لأنها تتقدم المجموعات الدولية -أو هكذا يفترض- في الدفاع عن الحقوق والحريات، وهو دور لا تتنطع له روسيا أو الصين وإيران مثلا.
طوال ما يزيد على نصف قرن، دخلت سوريا نفق قانون الطوارئ، وبموجبه تم تعطيل الحياة السياسية والمدنية بشكل عام، ومعظم بنود القانون الدستوري، لصالح دور بارز للجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات، مما قاد إلى بناء منظومات سلطوية، تتجاوز القوانين الوطنية والدولية، دون أي اعتبار للالتزامات الدولية، وعلى رأسها الاتفاقيات المتصلة بحقوق الإنسان، وحماية المدنيين، ومن أهمها اتفاقية جنيف الرابعة، والبروتوكولات المحددة لكل من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وحتى اليوم، بعد أربع سنوات على انتفاضة السوريين، فإن النظام السوري واجه تلك المطالب بمزيد من القمع والقتل، واستبدل قانون الطوارئ بقانون مكافحة الإرهاب، تامشيا مع التوجهات الدولية بخصوص الإرهاب، ومسبغا على النضال الوطني من أجل الحرية، صفة الإرهاب الواجب استئصال شأفته من المجتمع السوري.
ورغم كل الجهود التي تبذلها منظمات سورية، وإقليمية ودولية في إطار شراكة مع منظمات سورية، أو مهنية مستقلة، فإن الأمم المتحدة، وبالطبع القوى الدولية الكبرى، لم تقم بأي خطوات فعّالة لدعم تجريم نظام الأسد، وتقديم الدعم للسوريين بما يوقف الانتهاكات اليومية، أو الحدّ منها على الأقل. وقد ساهم ذلك في توسيع النظام لمدى انتهاكاته إلى درجة الإبادة البشرية المنظمة. نظام الأسد اليوم يرتكب كل يوم مجزرة، ويعتقل النشطاء، ويقتل الأطفال والنساء، ويشرد العشرات.
ويعتبر الاختفاء القسري، إحدى المشكلات الأشد تعقيدا اليوم، في الساحة السورية، ويعود ذلك إلى حقبة الثمانينات من القرن الماضي، حين بدأ نظام الأسد الأب بحملة اعتقالات واسعة شملت أعضاء في تيارات وأحزاب اليسار السوري من شيوعيين وقوميين، أعضاء في حركة الإخوان المسلمين، لا يزال عدد كبير منهم حتى الآن لا يعرف عنه، أو مصيره، أو مكان وجوده أي شيء. ولا يزال هذا الملف مفتوحا بما يضمه من أسماء سياسيين ومثقفين سوريين، وعرب استهدفهم النظام السوري، نتيجة مواقفهم في ما يتصل بالديمقراطية والحكم، بشكل أساسي.
في ظل الثورة السورية، برزت بشكل أوسع قضية الاختفاء القسري، فقد لجأ إليها النظام خلال الفترة التي سبقت 15 مارس 2011، عبر اعتقالات تستبق أي حدث، منذ الدعوة إلى يوم الغضب السوري، تلتها اعتقالات واسعة في صفوف المثقفين ونشطاء العمل المدني، بعضهم لا يزال مغيبا في سجون الأسد، وكثير منهم لقي حتفه بسبب التعذيب والتنكيل الذي تعرض له. فيما انتشرت عمليات الاختطاف والتغييب من قبل أطراف عديدة في الساحة السورية، من أطراف أساسية هي عصابات الأسد (الأجهزة الأمنية والشبيحة) وميليشيات مسلحة داخل المعارضة السورية (الجبهة الإسلامية) وقوى الإرهاب الظلامية (داعش النصرة).
ما يجمع هذه القوى هو شيء أساسي واحد هو تكميم الأفواه، وملاحقة رموز العمل المدني ونشطائه، وخاصة أولئك الذين يتحفظون على عسكرة الثورة، أو أنهم يتابعون بشدة انتهاكات حقوق الإنسان من قبل أي اطراف سورية وغيرها، أو أنهم من دعاة بناء الدولة المدنية. هذا قاسم مشترك بين نظام الأسد وكل المجموعات المسلحة التي أقصت نشطاء العمل المدني، ثم منعت نشاطهم بالقوة، ثم اعتقلت أو قتلت واختطفت من تبقى منهم.
يمكننا أن نذكر المجتمع الدولي، مع مرور الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بما يتوجب عليه القيام به، ليس فقط للحد من انتهاكات الحقوق والحريات واستهداف المدنيين، بل وحماية نشطاء العمل المدني بصورة رئيسة، والعمل على فضح هذه الممارسات، وفي مقدمتها الاختفاء القسري، وأنه يتوجب اليوم إطلاق سراح المئات من الذين تم اختطافهم، وكذلك إطلاق سراح فريق الأورينت، والأب باولو، والمصور عبود الحداد، وعشرات غيرهم، وأولئك الذين لا نعرف أسماءهم ومصائرهم. نريد الحرية لهم جميعا، اليوم وليس غدا.
منذ سنوات وإيران محاصرة اقتصاديا من قبل الغرب بسبب تعقيدات ملفها النووي. الشعب الإيراني يدفع ثمن ذلك الحصار من خلال مواجهة وضع اقتصادي صعب. يكاد الإيرانيون أن يكونوا ممنوعين من السفر. التحويلات المالية من إيران وإليها لا تجري إلا في السر وبطرق غير قانونية.
إيران واقعة تحت رقابة دولية يقال إنها محكمة. غير أن أحدا لا يكترث بشحنات الأسلحة التي تصدرها إيران إلى جماعة الحوثي في اليمن، وإلى حزب الله في لبنان، وإلى جهات أخرى لم يعلن عنها بعد. من وجهة نظر إسرائيل فإن وجود واحدة من تلك الشحنات على الأراضي السورية، حتى وإن كان ذلك الوجود افتراضيا يكفي ليكون سببا لضرب سوريا. فلا يرى الغرب في ما تفعله إسرائيل عملا عدائيا. معادلة من هذا النوع، كيف يمكن لها أن تستقيم؟
يفتح الغرب عينا على الوضع الاقتصادي الإيراني من أجل أن يلحق بالشعب الإيراني أكبر قدر ممكن من الضرر، في الوقت الذي يغمض عينه الأخرى عن مساهمة النظام الإيراني الكبيرة في بث حالة من عدم الاستقرار في المنطقة من خلال تزويده بالسلاح جماعات سياسية هي، في حقيقتها، كيانات طائفية مستقلة عن محيطها، وتعمل على إضعاف سلطة القانون وتهدد بنشر الفوضى إذا ما تعرض لها أحد.
في بعض الحالات تبدو إيران مرضيّا عنها من قبل الغرب. نفوذها في العراق، مثلا، لم يشهد أي نوع من التقهقر، بل إنه ازداد قوة واتساعا في الوقت الذي تحول فضاء العراق إلى ملعب مفتوح لطائرات التحالف الدولي في الحرب على تنظيم داعش. فهل يجري حوار الغرب مع إيران في سياق متعدد المستويات، ليس العداء صفته الوحيدة؟
يظن البعض أن الغرب من خلال معالجته الملف النووي الإيراني بصرامة، إنما يسعى إلى احتواء إيران ووضعها تحت السيطرة. وهو وهم غذته الدعاية الإيرانية الموجهة من أجل أن تكتسب إيران حجما عالميا لا يمت لحجمها الحقيقي، باعتبارها دولة تعاني من مشكلات بنيوية قد تدفع بها في أي لحظة إلى أن تكون مادة لصدام دموي بين المجتمع المدني والمؤسسة الدينية، بما تملكه تلك المؤسسة من أجهزة أمنية وحرس ثوري. ولكن من قال إن إيران تقع خارج السيطرة؟
ينبغي علينا هنا أن نحذر من خطأ الوقوع في حبائل الخطاب الثوري الإيراني. فإيران، في أقصى ما تطرحه من بدائل، لا تجد بديلا أفضل من نظام سياسي رجعي، يحكم المجتمع من خلال أجهزة قمعية وماكنة دعائية تضع الحاضر في خدمة الماضي، وترهن المستقبل لإرادة الغيب. وحتى فكرة تصدير الثورة التي لا تزال تتحرك في صدور المتعصبين طائفيا، فإن أثرها لا يتجاوز حدود ما هو مرسوم لها على الخرائط السياسية المرسومة بدقة.
وفق هذا الواقع فإن أثر إيران السيئ لن ينال إلا أجزاء من العالم العربي، كان الغرب قد وجد فيها محورا لتأكيد الحاجة إلى استمرار وجوده الأمني والعسكري في المنطقة. لن يكون اضطرار البحرين إلى بناء قاعدة للأسطول البريطاني بعيدا عن هذا الاستقراء. ألا يعني هذا أن إيران بطريقة أو بأخرى تقدم للغرب خدمات، هو في حاجة إليها؟
في الحرب السورية لم يكن التدخل الإيراني المباشر، أو من خلال الميليشيات الملحقة به مثل حزب الله والجماعات العراقية، موضع خلاف غربي- إيراني. كان ذلك التدخل وسيلة لتبرير مشاركة جماعات مسلحة أجنبية في القتال إلى جانب المعارضة. وهو أمر كانت تركيا العضو في حلف الناتو قد أشرفت عليه بطريقة معلنة.
فهل يعقل أن تقوم إيران باستفزاز الغرب، فيما ملفها النووي موضوع على النقاش؟ يمكننا أن نقرأ الدور الإيراني الخبيث في المنطقة العربية من جهة ما يهبه من نقاط، وما يجلبه من رضا غربي. قد لا يستهوي ما نقول عقول المأخوذين بالخطاب الثوري الإيراني، ولكن الوقائع تقول إن العرب لم يحصدوا من السياسة الإيرانية إلا الفوضى.
ظن البعض أنهم أخيرا عثروا على السلاح الذي سيركع أشهر إرهابي في العالم، أبو بكر البغدادي، زوجته وابنته، اللتين تم اعتقالهما في لبنان.
لكن بدل أن يفرج الإرهابيون عن العسكريين اللبنانيين المخطوفين، ساءت الأمور فقتل المزيد منهم، وانسحبت قطر من الوساطة الموعودة، وطالبت شخصيات بأخذ رهائن من أطفال ونساء ردا على «داعش» و«جبهة النصرة»!
واتضح أن السلطات اللبنانية أفسدت واحدة من عملياتها السرية بسبب التناحر السياسي. فالمرأة لا قيمة لها في مساومات إطلاق سراح المخطوفين، لأنها مطلقة البغدادي منذ سنوات، أي قبل قيادته للتنظيم الجديد، ولا تنفع أن تكون وسيلة ضغط عليه، بل أفشلت مخطط الأمن اللبناني، وأفقدته ربما واحدا من أهم مصادر معلوماته عندما قبض عليها!
وزير الداخلية نهاد مشنوق عبر عن غضبه، لكنه اختار عبارات محايدة، معتبرا أن القبض على النساء يستفز الإرهابيين ويهدد سلامة المعتقلين. الصحيح أن القبض عليهن، مطلقة البغدادي وابنته وزوجة أبو علي الشيشاني، أفسد أي عملية مراقبة لهن لضبط مخططات تنظيم داعش، وهي حماقة سياسية كبرى.
الشيء الوحيد الذي يمكن للمحققين انتزاعه منهن هو معرفة شيء من تاريخ شخصيات «داعش»، مجرد تاريخ. الإرهابيون لا يبالون كثيرا بالتضحيات الإنسانية، ولا بالأعراض النسائية، كلها في سبيل الحرب تستحق التضحية، هكذا يفكرون!
أما على الجانب الآخر فدائما كانت عائلات الإرهابيين توضع تحت الملاحظة والرقابة، لكنها لا تصلح للابتزاز، أو الاستخدام السياسي، ولهذا عادت عائلات أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة القتيل، دون التعرض لها من إيران وباكستان وسوريا. فالبغدادي لن يتنازل عن شيء مقابل إطلاق سراح أحد من أقاربه، بل سيستخدم تلك المسألة لإثبات ولائه للتنظيم واستعداده للتضحية بأقرب الناس إليه.
ونحن نتفهم ألم عائلات المخطوفين العسكريين اللبنانيين الذين تدور حولهم المعارك السياسية والإعلامية في لبنان، لكن بكل أسف من ذا الذي يهتم بمصير بضعة أشخاص في بلد قتل فيه أكثر من ربع مليون إنسان؟ إنها مأساة هائلة يصعب أن تفتش فيها عن التفاصيل.
أعتقد أنه على «حزب الله» أن يفكر مليا في مسألة تورطه في سوريا، وتوريطه لفئات مختلفة من اللبنانيين، عسكريين ومدنيين. عليه أن يستوعب حجم المشكلة، وزمنها المحتمل، حيث إنها قد تطول. اللبنانيون أكثر من سيدفع الثمن بعد السوريين. فالأتراك والأردنيون ليسوا طرفا مباشرا، ولا حتى الإيرانيون. هناك العراقيون جزء من الحرب لأن العراق نفسه أرض معركة ولا يمكن الفصل بين مصير البلدين.
مشكلة لبنان تورط «حزب الله» برغبته في حرب سوريا، يقاتل مع النظام، وبكل أسف من الطبيعي أن يكون لبنان جزءا من أرض المعركة.
على اللبنانيين أن يدركوا أن مشكلتهم ليست مع «داعش» و«جبهة النصرة» الإرهابيتين، بل مع «حزب الله»، لأنه يصر على أن يكون طرفا في الاقتتال في سوريا ويفاخر بذلك. وبالتالي من الطبيعي جدا أن تنتقل المعركة إلى الساحة اللبنانية، ولن تتوقف عند خط الدم الذي نراه اليوم.
التفكير في موضوع الخليج والتحولات الإقليمية والدولية يشكل، بالنسبة لنا نحن سكان المشرق، مناسبةً مهمةً، لاستعادة التفكير بقضايا استراتيجية كبرى، كادت تغيب في العقود الماضية عن أذهاننا. ولضيق الوقت، سوف أقتصر على التنويه إلى وقائع يصعب، من دون معرفتها، فهم علاقة دول الخليج بالثورة السورية، وبسورية ذاتها، ورهانات الصراع الإقليمي والدولي على سورية والخليج معا، ومآل هذا الصراع، وآفاق الخروج من المحرقة التي شاركت أطراف عديدة ولا تزال تشارك فيها، بما في ذلك دول عظمى، كان ينتظر منها المساهمة في إيجاد حل لها، لا تغذيتها.
1-ليست العلاقة بين الجزيرة العربية وبلاد الشام، وعلى نطاق أوسع، الهلال الخصيب، طارئة ولا تنبثق من الدفاع عن مصالح سياسية وقتية. إنها علاقة بنيوية محفورة في الجغرافية الطبيعية، والجغرافية السياسية والتاريخ. وهذا ما يفسر وحدة الثقافة والدين واللغة والهوية. فالهلال الخصيب امتداد طبيعي للجزيرة العربية، بصرف النظر عن طبيعة الدول والنظم التي تحكمها، ومصائر الطرفين ارتبطت بعضها ببعض، عبر التاريخ السياسي والاجتماعي منذ ما قبل الاسلام. وقد تأكدت حقيقة هذه الشراكة التاريخية في العصر الحديث، بمناسبة الثورة العربية الكبرى عام 1916، حيث توحدت نخب الجزيرة والشام والعراق لانتزاع استقلال الولايات العربية، وتأسيس المملكة العربية التي لم تكتب لها الحياة. كانت الجزيرة العربية الخزان البشري للهلال الخصيب، وأصبح الهلال، ولا يزال، درع الجزيرة الحقيقي. وهو، اليوم، خزان بشري لمشاريع التنمية والتقدم في المشرق كله.
2-عروبة سورية لا تلغي خصوصيتها، فبحكم تراثها التاريخي الغني، وموقعها على مقربة من آسيا والأناضول وأوروبا، تحولت بلاد الشام إلى ملتقى تيارات حضارية، متعددة ومتنوعة، أخصبت ثقافتها العربية، وأغنتها. وقد حولها هذا التلاقح المخصب إلى ثقافة تعددية إنسانية، منفتحة على العالم، وقادرة على التواصل مع الجميع، من كل اللغات والثقافات والأديان، لكنه لم يفقدها هويتها، ولم يجعل منها، ولن يجعل منها منطقة هجينة، من دون شخصية أو انتماء، مستعدة، كما تعتقد إحدى الدول الإقليمية التي اكتشفت متأخرة "فضائل" سياسة الهيمنة الاستعمارية، لبيع ولائها لمن يدفع لها الثمن الأغلى. ولا تكفي ثلاثون سنة من التحالف مع نظم دموية، قائمة على نزع الهوية وتدمير البنية الحضارية، لتأهيل أي دولة أجنبية، مهما عظمت قدراتها العسكرية والمالية، أو لإكسابها حقوقاً، كي تمحو ما خطته الجغرافيا والتاريخ والثقافة والدين والمصالح البعيدة والقريبة خلال آلاف السنين. سورية كانت، وستبقى، جزءاً من الجغرافية والسياسة والثقافة العربية.
" الهلال الخصيب امتداد طبيعي للجزيرة العربية، بصرف النظر عن طبيعة الدول والنظم التي تحكمها "
3-إن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن دول الخليج هي التي قامت بالعبء الأكبر في تقديم الدعم المادي والعسكري، ثم الإنساني، للشعب السوري، في محنته الراهنة، بصرف النظر عن ملاحظات يمكن أن توجه لضعف الأداء والتنسيق والتنظيم والتوزيع لهذا الدعم. ونحن، إذ نتلفت حولنا، اليوم، لمواجهة العجز الذي أعلنت عنه منظمة الغذاء العالمي، والذي يهدد بالجوع أكثر من مليون وسبعمائة ألف لاجئ ومحتاج من السوريين، لا نجد أمامنا من نلجأ إليه سوى أخوتنا في الخليج، لأننا جزء منهم، وهم جزء منا.
4-المعركة التي يخوضها الشعب السوري منذ أربع سنوات، والتي خاضها ببطولة نادرة، ولا يزال يقدم فيها من التضحيات ما لم يقدمه شعب في سبيل حريته وكرامته، لم تعد منذ عامين حرباً سورية، وإنما أصبحت حرباً إقليمية، يدافع فيها السوريون عن أمن المشرق وحرية شعوبه ضد صعود مشاريع الهيمنة والسيطرة الإقليمية. وهم لا يواجهون على الأرض قوات الأسد التي تكبدت أكبر الهزائم خلال السنتين الأوليتين، وإنما، بشكل أكبر، قوات وميليشيات إقليمية، تمول وتسلح وتنظم من طهران، وتعمل لحساب أجندة توسعية جديدة، تهدف إلى تطويق الخليج وإسقاط الجزيرة العربية كاملة تحت السيطرة الايرانية.
لكن، لا يمكن لسورية أن تكون، ولا يستطيع أحد أن يجعل منها، خط الدفاع عن أمن طهران، وشوكة في ظهر شعوب الخليج واستقلال دوله واستقرارها. ومن هذا المنطلق، ينبغي أن نستعيد المبادرة، ونرسم الخطط الدفاعية التي لم يعد يجدي فيها أن تكون وطنية ضيقة، ونحن في سياق مواجهة إقليمية تاريخية.
5-الضغط الايراني على المشرق كله، الهلال الخصيب والجزيرة العربية معاً، سيكون طويل المدى. فهو ليس نتيجة تحالفات دولية مؤقتة، أو تردد القيادة الأميركية الحالية فحسب، وإنما ينبع من اختلالات بنيوية، نشأت من فشلنا، في العقود الخمسة الماضية، في إقامة أي شكل فعال من التعاون والتنسيق الجاد، يساعد على تطوير قوانا الاستراتيجية، ويعزز استقلال قرارنا، وهو ثمرة استسلامنا، أيضاً، لوهم الحماية التي تقدمها الشرعية الدولية، والتحالفات الأجنبية، في وقت كانت طهران الخامنئية توظف سنوات الحصار، لتعيد بناء نفسها، وتعزز قدراتها التصنيعية في السلاح وغيره، وتعمل على التسلل إلى داخل البلاد العربية، لتقويض أسس الاستقرار والوحدة فيها، ولتحويل دولها إلى رهائن لميليشياتها، كما هو الحال في لبنان وسورية والعراق واليمن. وهي مستمرة، ما لم تجد أمامها قوة توقف اختراقاتها. المعادلة، في نظري، في غاية البساطة: منطقة فارغة استراتيجياً، ومنزوعة الحماية، وقوة توسعية معبأة مجاورة. وهي قادرة، أكثر من ذلك، على أن تخوض الحرب على أرضنا، وتستخدم فيها أبناءنا، وتحقق مكاسبها بدمائنا.
6-لم يعد من الممكن ضمان أمن المنطقة بأيدٍ خارجية، ولم يعد ينفع فيه الرهان على التحالفات الدولية، فحماية المشرق لم تعد من أولويات الاستراتيجية الأميركية والدولية. وواشنطن ليست مستعدة للاستثمار فيها، بعد أن حررت نفسها من ارتهانها للطاقة الشرق أوسطية. وأشك أن تتغير سياسة واشنطن كثيراً بعد رحيل أوباما وقدوم الجمهوريين. وما لم نخرج منطقتنا من الفوضى، ونفرض أنفسنا على المنظومة الدولية، بجهودنا وقوانا كمشرق قوي، إنساني، وموحد، لن يتردد الأميركيون في اعتماد القوة المتغلبة، مهما كانت، شرطياً للمنطقة، يتقاسمون معها المصالح والمنافع. وهذا ما كانوا يفعلونه، على نطاق أضيق، بتوكيل نظام الأسد في لبنان وفلسطين، ضد المقاومة ومنظمة التحرير، وغيرهما.
" شعوب المشرق قادرة على بناء المشرق العربي الجديد، كتلة قوية ومتراصة في وجه جميع التهديدات والأطماع "
بالتأكيد، لن تستطيع طهران، مهما فعلت، أن تحقق هدفها في السيطرة على المشرق، وإخضاعه لأجندتها الخاصة. وسوف تستمر المقاومة العربية، وتتوسع حتى داخل الشرائح التي يعتقد القادة الإيرانيون أنهم كسبوها لصفهم. لكن حرب الهيمنة المفروضة على المشرق تحمل، في طياتها، موجات عميقة من العنف والخراب والدمار وملايين الضحايا البريئة.
7-ليس صحيحاً أنه لا توجد لدينا خيارات، وليس أمامنا إلا أن نذعن للضغوط والاعتداءات الخارجية، أو نتسول الحماية الأجنبية. نستطيع، منذ الآن، أن نغير اتجاه الأحداث، ونعيد الأمور إلى نصابها، إذا امتلكنا الجرأة والإرادة، لتغيير خياراتنا التقليدية، ونبذ أفكارنا المتكلسة. بمجرد إطلاقنا مشروع شراكة تاريخية، تجمع بلدان الخليج وبلدان الهلال الخصيب، وتوحد طاقات شعوب هذه المنطقة المعرضة لزلازل لن تنتهي، بسبب هشاشتها الاستراتيجية، سوف يتغير الوضع، وتتغير المعطيات السياسية والاستراتيجية. شعوب المشرق قادرة على بناء المشرق العربي الجديد، كتلة قوية ومتراصة في وجه جميع التهديدات والأطماع. ولدى الخليج القدرات المالية والبشرية ليقود مشروع هذه الشراكة الكبرى التي ستغير وجه المنطقة، في أقل من عشر سنوات، حتى في ظل استمرار الحرب والمقاومة، وتعيد بناء التوازنات المنهارة، حتى ينتصف العرب من ظالميهم، أولئك الذين خانوا عهد أخوة الحضارة والدين، واستخدموا دماء الشعوب وقوداً لمشاريع عظمتهم الامبرطورية، ونفوذهم الدولي. وما علينا إلا أن نخطو الخطوة الأولى، حتى تلتف شعوب المشرق جميعاً حول المشروع الجديد الذي لن يخسر فيه أحد، والجميع سيكونون فيه من الرابحين. البديل الوحيد لهذا المشروع تسليم الشمال العربي إلى الدول القوية المجاورة، وتحويله إلى مصدر تهديد لأمن الخليج والجزيرة.
8- فقد الشعب السوري الثقة، عن حق، بالأمم المتحدة وبدولها التي أظهرت شللاً وعجزاً غير مسبوقين، ووقفت مكتوفة الأيدي أمام المذبحة اليومية، المستمرة منذ أربع سنوات، على الرغم من كل القرارات الدولية والتصريحات الرنانة. لا يمكن الثقة بعالم يتنكر للعدالة وللضحايا، ويتذرع بالحرب ضد الإرهاب ليغطي على التواطؤ في جريمة استباحة دماء شعب كامل، لا لذنبٍ إلا لأنه كسر قيود العبودية، وأراد أن يعيش، كما تعيش بقية الشعوب، خارج الأسر والإرهاب والقهر.
" لا يمكن الثقة بعالم يتنكر للعدالة وللضحايا، ويتذرع بالحرب ضد الإرهاب ليغطي على التواطؤ في جريمة استباحة دماء شعب "
كيف يمكن أن نتحدث عن المستقبل، من دون أن نفكر بمصير أولئك الشباب السوريين الذين تركوا مقاعد الدراسة للقتال ضد ميليشيات همجية، تتدفق على بلادهم، من كل مكان. بمصير مئات آلاف المعتقلين والمختطفين الذين يتعرضون، نساءً ورجالاً وأطفالاً، للتعذيب والتمثيل بالأجساد والتشويه والدفن أحياءً. بمصير هؤلاء النساء والأطفال الذين فرض عليهم الموت جوعاً تحت الحصار، لكسر إرادة آبائهم وإخوانهم في مقاومة العدوان، بملايين النازحين والمشردين الذين ينتظرون المعونة التي قد تأتي، ولا تأتي، من منظمات الإغاثة الدولية. بأولئك الذين انقطعت السبل بهم، فرموا بأنفسهم لتجار الموت في مراكب أعدت كي لا يصل أغلبها إلى أي بر أمان.
أخيراً
التفكير بآلاف السوريين المرميين على قارعة طرقات العواصم وأمام سفارات بلدانها، ليلاً نهاراً، بحثاً عن أمل في لجوء تتفنن في حرمانهم منه قوانين الدول المدافعة عن حقوق الإنسان. هؤلاء هم، أيضاً، إخوتكم وأخواتكم، وهم يستحقون اهتمامكم وينتظرون مبادراتكم. لا يمكن أن نعفي العالم من مسؤولياته، وأن نقف مكتوفي اليدين أمام مأساة التواطؤ الدولي ومؤامرة الصمت، ولا أن نقبل الاستسلام لإرادة تمديد حرب الاستنزاف التي أصبحنا هدفاً لها، والتي لن تكون نتائجها كارثية إلا علينا وحدنا.
كانت دول الخليج سباقة في تقديم أول مبادرة سياسية، للخروج من المحنة السورية، وهي التي أصبحت أساساً لكل المبادرات الدولية التي جاءت بعدها. لكنها تراجعت إلى الوراء، وتخلت عن دورها الأول للآخرين الذين عملوا على كسب الوقت، وخدعوا الجميع. ومع ذلك، لا يزال مفتاح الحل في أيدينا. وبإمكان مجلس التعاون، بعد أن استعاد وحدته، أن يستعيد دوره الأول، ويطلق مبادرة جديدة قوية، تبدأ من توحيد السوريين، سياسياً وعسكرياً، وتشجع الأطراف الدولية المترددة على السير بحزم في طريق إنهاء الحرب، ووضع حد للكارثة التي تهدد بالاتساع والتفاقم. ولا أتحدث، هنا، عن سورية وحدها، وإنما عن حق شعوب المشرق، في أن تعيش بسلام وأمن بمعزل عن التدخلات الأجنبية، وجميع أشكال زعزعة الاستقرار التي تقوم بها قوى داخلية أو خارجية.
الطموحات الإيرانية التوسعية ليست بالجديدة، طموح استعادة الامبراطورية الفارسية ولاحقاً الشاهنشاهية فالجمهورية الاسلامية تحت مظلة عمليات التشيع الواسعة و البعيدة بدءا من الخليج حيث السعودية و البحرين و الكويت و الإمارات إلى أقصى شرقي آسيا حيث البلدان الإسلامية كأندونيسيا و ماليزيا اللتان اصبحتا تحويان على نسبة شيعية غير مسبوقة، و انتهاءا بالشاطئء الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط.
وبالتالي تحويل ما يعرف بالجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق الى سوق ضخم يمنحها القوة فإلى جسر عظيم تعبره الى العالم وتنافس عبره روسيا حتى لو كانت حليفتها الحالي.
في البداية وجدت طهران في قضية الفلسطينيين أرضية خصبة لتكون حاضرة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، بالإضافة الى ان حزب الله والمقاومة ضد إسرائيل أمّن لها هذا الحضور مع ترحيب كامل ما دام الهدف هو "معاداة اسرائيل". لكن يبدو أن الخبرة العميقة من جهة وضعف أهل الشرق العربي من جهة اخرى، رفعا منسوب "الشراهة" الايرانية، و حيوية التحرك على الارضية الخصبة الذي دفع للسؤال بلماذا لا يكون لنا في الشرق ما نستحقه، و نحن احفاد الامبراطورية الايرانية؟
اهمية المشررع الايراني يفسر استماتته في الدفاع عن نفوذه في سوريا الذي يؤمن لها اطلالة فسيحة على المتوسط، فقاسم سليماني الذي دير الحرب على مدار ما يقارب الاربع سنوات استعانة بكل ما يمكن تحريكه في مناطق النفوذ في كل من العراق و لبنان، و مجموعات اخرى ابعد،في سبيل البقاء في سوريا و ربط ايران بالمتوسط برا عبر العراق و سوريا.
التمدد الايراني واجه تحديات اخرى و اثقلت كاهل الايرانيين المثقل اصلا بالوضع السوري، هذه المرة هي بغداد، فالاصرار الاميركي و الشبه الشعبي في إبعاد المالكي عن رئاسة الوزراء، كان لابد التعامل معه بجدية، فهي نقطة التلاقي بين طهران و واشنطن فيما يخص العراق، ما اضطرت ايران بالدفع في اتجاه تبديل المالكي، للحفاظ على ما تم بناؤه في العراق، من اجهزة و سلطة و نفوذ ايراني.
خطر هذا المشروع الاخطبوطي هو الاكبر بالنسبة الى دول الخليج العربي، و خاصة فيما يخص الوضع الحالي في اليمن، فالحوثيين لا يهددون الحكومة اليمنية و السيطرة على صنعاء العاصمة فقط بل كامل الخليج ان لم يتم السيطرة عليها بشكل عقلاني و احتوائهم.
خبر مراسلة خامنئي من قبل اوباما المسرب، حول تشجيعهم في التفاعل بشكل ايجابي في المباحثات النووية، و الوصول الى اتفاق شامل بحلول الشهر الحالي، استغل من قبل الجمهوريين و اعتبروه ضعفا لاوباما و سوء فهم للسياسة الدولية، الرسالة كانت بمثابة بروز تعاون بين الطرفين في كثير من الملفات في المنطقة و على راسها محاربة داعش، و بالطبع حول الوضع في كل من العراق و سوريا.
لكن على ما يبدو أن الرسالة فُسرت في طهران على أنها علامة ضعف اميركي، وبالتالي فمن المرجح أن تشجع إيران على أن تكون أكثر تشدداً في مفاوضاتها.
التقارب الامريكي او حسن نية اوباما اتجاه ايران بالاضافة الى الاسباب التي ذكرناها آنفا، كان عاملا مهما في تمادي الايرانيين، و الذي تجلى في كل من الضاحية الجنوبية اللبنانية و التعامل الوحشي مع السنة.
ايضا في اليمن، كلها كانت مقدمات لظهور تنظيم داعش حيث جرت بين الأمريكين وجماعة الحوثي الشيعية اليمنية اتصالات قضت بتمكين الحوثيين في اليمن، بينما يتعهد الحوثيون بضرب تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مع توفير إسناد جوي من الطيران الأمريكي. بمقتضى هذا الاتفاق تقوم أمريكا بدفع تكاليف الحرب ودفع رواتب المقاتلين الحوثيين ورعاية أسر القتلى منهم وعلاج الجرحى على أن يقوم الحوثيون بحسم عسكري مع القاعدة في مدة لا تتجاوز السنتين فيما اشترط الحوثيون سرية الاتفاق.
أن هذا الاتفاق بين الأمريكان والحوثيين يأتي في سياق التخادم الأمريكي الإيراني في الشرق الأوسط, فهذه الاحداث كانت لها تاثيرا مباشرا على شعبية اوباما و حزبه الديمقراطي، اذ حقق الجمهوريون تقدماً على حسابهم، و اتهموا اوباما بتراجعه عن الخط الأحمر الذي رسمه للأسد بشأن الأسلحة الكيماوية في سورية في عام 2013 واستغراقه وقتاً طويلاً ليدرك تهديد تنظيم «داعش» ونهجه المتسامح تجاه إيران وضعفه في مواجهة التدخل الروسي في أوكرانيا.
فعلى الرغم أن دستور الولايات المتحدة يجعل مركز القرار النهائي إلى حد كبير في يد الرئيس إلا أن أوباما لا يزال يحتاج الى الكونغرس ليأذن بعملية عسكرية كبرى ويمولها، فسيطرة الجمهوريين على مجلسي الشيوخ والنواب سيدفع أوباما إلى أن يكون أكثر حذرا في شأن عدد من القضايا، و من المتوقع أن يدفع قادة الجمهوريين مثل (ميتشماكونيل وجون ماكين) وغيرهم باتجاه القضايا التالية:
1-وقف التخفيضات التلقائية لموازنة الجيش التي تم تشريعها في السنوات السابقة، وإعادة التركيز على بناء القدرات العسكرية للولايات المتحدة فرض المزيد من العقوبات على روسيا، وزيادة المساعدات إلى أوكرانيا، وإرسال وحدات تدريب عسكرية أميركية لتتمركز في كييف و بولندا وجمهوريات البلطيق.
2- وضع الصيغة النهائية لاتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ مع الحلفاء الآسيويين للمساعدة في احتواء الصين، وكذلك إلغاء الموعد النهائي لانسحاب القوات الاميركية من أفغانستان عام 2016 ووضع خطة لوجود عسكري أميركي محدود ولكن طويل الامد في كابول.
3- كذلك زيادة كثافة الضربات الجوية ضد تنظيم "داعش وزيادة عديد القوات الاميركية في العراق (وربما سورية لاحقاً) للدعم و التدريب في مجال مكافحة داعش. تكثيف الدعم للثوار السوريين وقطع الامداد عن المتطرفين و المتشددين.
4- ومن بين القضايا, ضرب أهداف تابعة لنظام الأسد ضمن العمليات الجوية في سورية، وبخاصة التي تمنع النظام من استخدام القوة الجوية و البراميل المتفجرة ضد المدنيين وقوات المعارضة المعتدلة, والإصرار على التفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني، وإلا ستزيد العقوبات على إيران .
5- وضع حد للتقارب مع إيران الذي لم يثمر شيئاً برأي الجمهوريين وساهم في نفور حلفاء واشنطن التقليديين في الشرق الأوسط بالرغم ان أوباما لا يزال لديه السلطة في السياسة الخارجية ولكن عليه أن يأخذ آراء الكونغرس ان اراد استعادة زخم رئاسته وحزبه، هذا فيما يخص اعلان حرب شامل ضد «داعش»
اوباما سيحتاج أيضاً إلى موافقة الكونغرس لرفع العقوبات عن ايران إذا كان هناك اتفاق نووي معها وهو أمر لا يرغب الكونغرس الجديد القيام به. كان من الواضح ان مفاوضات 5+1 مع ايران لن تفضي الى اتفاق، حتى ان توصلوا الى اتفاق في وقت لاحق فأنه سيكون له ثغرات تمكّن الايرانيين من الهروب من تنفيذه، او على الاقل بشكل يتيح له التملص في تنفيذه بدقة و بشكل فوري.
اما في الجانب الآخر, فان واشنطن تريد أن تنهي المفاوضات باتفاق يعيد إيران الى "حاضنتها"، على عكس طهران التي تسعى الى بسط نفوذها بشكل يمنحها سلطة القرار في هذا الشرق المعقد.
مؤشرات ما يدور خلف الكواليس واضحة، فبالنسبة الى العراق, الوضع كارثي على الصعيدين العسكري و الامني، و التغير الديمغرافي في المحافظات السنية على حساب استقدام ميليشيات شيعية كالمقدادية الاستراتيجية على سبيل المثال جارية على قدم وساق ولا ننسى الوضع في فلسطين المغيب و ما يتم تطبيقة من سياسات تهجير و اعادة الاستيطان.
أما في سوريا فالساحة مفتوحة، ويبدو المشهد اكثر بطشا و طموحا، فقد أطلق العنان لميليشيات النظام السوري لارتكاب افظع المجازر لتكريس دويلة علوية تحده شرقا نهر العاصي من منبعه في لبنان الى نصبه في تركيا، و المجازر على خط التماس كثيرة منها (حي القبير والتريمسة وحلفايا وكفر نبودة وجسر الشغور).
عمليا اليوم ايران تتواجد و بقوة في كل من بغداد و دمشق و بيروت و صنعاء، فهي تفاوض بقوة، و الصفقة الشاملة في المنطقة، بناء على هذا المسار ستكون إعادة تأهيل نظام الأسد (حتى ان تنحّى بشار عن السلطة) وتطبيع العلاقة بين الغرب وايران مع تحديد مرن لدورها الإقليمي.
أخيراً, الدعم الإيراني الخفي للقاعدة و داعش و التكفيريين السنة يهدف الى اظهاره كفئة متشددة متعطشة للدم ، في نفس الوقت طرح الشيعة كقوة معتدلة يمكن التعامل معها، اما في الحقيقة فهو اخطر من التكفيريين الداعشيين و القاعدة أو لنقل هما وجهان لعملة واحدة، فدولة اسلامية داعشية لا تختلف عن دولة فارسية متطرفة تسعى الى بسط سيطرتها بكل تلك الاساليب اللانسانية الارهابية.
تحتار السلطات اللبنانية ماذا تفعل بمسألة اعتقال زوجة "خليفة" المسلمين، و"أمير دولة الإسلام في العراق والشام"، سجى الدليمي، وكيف توظفها.
فلبنان غارق في أزمته، لا يرى سبيلا للخروج منها، فقد مضى على شغور موقع رئاسة الجمهورية أكثر من ستة أشهر، والبرلمان مشلول، بفعل انتهاء ولايته، ولجوء النواب للتمديد لأنفسهم ولاية كاملة، والحكومة تعمل بشق النفس، وتقف عاجزة عن حل مشكلة العسكريين المخطوفين منذ أكثر من أربعة أشهر، من تنظيمي "داعش" و"النصرة" في معركة عرسال الحدودية، في أوائل أغسطس/آب الماضي، وهي تخضع لابتزاز هاتين المجموعتين الإرهابيتين، اللتين تهددان، ثم تنفذان تهديداتهما، بذبحهما أربعة عناصر من الجيش وقوى الأمن، حتى اليوم.
وتقف الحكومة حائرة في أمرها، ضائعة ومرعوبة، تحت الضغط الهائل الذي يمارسه أهالي المخطوفين الذين يفترشون الساحات، وينصبون خيمهم، ويقطعون الطرقات في محيط السراي الحكومي ومجلس النواب، وعلى الطرقات بقاعاً وشمالاً. يتحرك الوسطاء المحليون، من دون أن يعرف كيف ومع من يتصلون. هل مع الخاطفين مباشرة، أو عبر وسطاء محليين؟ ومن هو المفوض الفعلي، وزير الصحة الجنبلاطي، وائل أبو فاعور، الذي يزور الأهالي في خيمهم مُطمئناً، أم المدير العام للأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، الذي يتواصل مع أجهزة النظام السوري الأمنية، ويلقى اعتراضاً من بعض قوى 14 آذار؟ فيما يعلن الوسيط القطري، قبل أيام، انسحابه من عملية التفاوض مقراً بعجزه، بعد أن أعدم "داعش" العسكري الرابع، علي البزال، نهاية الأسبوع الماضي.
ويختلط الحابل بالنابل، وتتشوش الصورة في أذهان اللبنانيين الذين يعيشون المسلسل الدرامي مضاعفاً عبر سماع ومشاهدة السجالات، التي تدور على شاشات التلفزة، حول السبيل إلى إنقاذ حياة العسكريين، وخصوصاً حول صحة أو عدم صحة إجراء عملية مقايضة مع الإرهابيين، ومبادلة أسرى الجيش بمعتقلين إسلاميين "أصوليين"، أو "سلفيين" لدى السلطات اللبنانية، يطالب بعضهم "داعش" و"النصرة" بإطلاق سراحهم.
ويزيد من مأساوية هذا السجال وبؤسه، قيام "حزب الله" بعملية تفاوض موازية، ومقايضة تمكنه من استرجاع أحد مقاتليه الأسرى في مقابل تسليمه عنصرين محتجزين لديه. ليتحول هذا السلوك إلى نموذج يطالب به كثيرون، بهدف الضغط على الحكومة، وإجبارها على المقايضة، وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، مطالبا بتسليم ملف الأسرى برمته إلى حزب الله الذي، برأيهم، "يتقن فن التفاوض وأساليب تحرير الأسرى"، علماً بأن الحزب نفسه كان يرفض، في البداية، أية مقايضة مع تنظيمي "داعش" و"النصرة"، إلا أنه اضطر إلى التراجع تحت ضغط وغضب أهالي العسكريين الذين يشكلون خليطاً طائفياً، من سنة وشيعة وبعض المسيحيين. كذلك حليفه رئيس التيار الوطني الحر، ميشال عون، الذي ما زال على موقفه الرافض، فيما يقف وزراء داخل الحكومة مع المقايضة، وبعضهم الآخر ضدها.
" كان حزب الله يرفض، في البداية، أية مقايضة مع تنظيمي (داعش) و(النصرة)، إلا أنه اضطر إلى التراجع تحت ضغط وغضب أهالي العسكريين الذين يشكلون خليطاً طائفياً "
وفي خضم هذا الضياع المثير، وغياب أي تحمل فعلي للمسؤولية، تظهر فجأة على السطح مسألة اعتقال إحدى زوجات "الخليفة"، أبو بكر البغدادي، التي كانت تتحرك بين مناطق في البقاع وشمال لبنان، والتي تحمل هوية مزورة. وكانت قد دخلت على ما يبدو "خلسة" إلى لبنان قبل نحو ستة أشهر، فيما تفيد معلومات أخرى بأن سجى الدليمي، عراقية الجنسية، تمكنت من مغادرة سورية مع مجموعة راهبات دير معلولا اللواتي تم تحريرهن عبر الوساطة التي قام بها يومها اللواء إبراهيم. وقد تمكن الجيش اللبناني، أيضاً، من اعتقال آلاء العقيلي، زوجة قيادي في جبهة "النصرة"، يدعى أنس شركس، وهي سورية. وفيما تفيد المعلومات المسربة عن التحقيقات بأن العقيلي كانت تقوم بدور صلة الوصل بين المجموعات وخلايا "النصرة" على الأرض، كان دور الدليمي جمع التبرعات وتأمين وصولها إلى مقاتلي "داعش" في سورية، وتتلقى، أيضاً، أموالاً من الخارج.
فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا تم اعتقال زوجة البغدادي؟ هل لخطورة الدور الذي تقوم به، أم بهدف مقايضتها "صيداً ثميناً"، من أجل استرجاع العسكريين المخطوفين؟ وهل إن من اعتقلها متأكدٌ فعلاً من أنها تحظى بمكانة خاصة عند البغدادي، مما يضطره إلى لخضوع للابتزاز والقبول بالصفقة، كي يسترجع زوجته؟ وهل هي الزوجة الوحيدة لديه، أم لديه أخريات؟ ثم هل إنها لا تزال فعلا زوجته، أم أصبحت طليقته، إذ من اللافت عدم صدور أية ردة فعل من "أمير الدولة الإسلامية" منذ اعتقالها؟ كما أن جريدة "السفير" اللبنانية نشرت، قبل أيام، معلومات تفيد بأن الدليمي حامل، فمن تراه يكون والد الجنين؟
أسئلة وأسئلة كثيرة تزيد من غموض القضية، وتطرح مزيداً من التساؤلات حول الهدف من القبض على المرأة. والأغرب والأطرف من ذلك أن وزير الداخلية، نهاد المشنوق، الذي ينتمي إلى تيار سعد الحريري ("المستقبل")، فاجأ الرأي العام بانتقاده العلني عبر محطة تلفزيونية توقيف السيدتين. فهل إنه لم يكن يعلم بذلك، أو إنه لم يحط علماً به قبل حدوثه؟ أم إن القضية أدخلت، كالعادة، في زواريب السياسة الداخلية؟
الثابت والمضحك، في آن، أن قضية اعتقال زوجة "الخليفة" بدل أن تكون سلاحاً فعالاً في يد الدولة اللبنانية تحولت، على الأرجح، إلى ورطة!
لا أفشي سراً إذا قلت إن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين لا يريدون إسقاط نظام الأسد؛ وهذه حقيقة، احتاج كثير من السوريين إلى فاجعة بحجم مجزرة الغوطة الكيماوية ليقتنعوا بها، فقد ظلت أوضاعهم المأساوية، التي ما زالوا يقاسونها تفرض عليهم استجداء الخلاص، ولو من الأمريكيين، غير أن الواقع لا مهرب منه؛ فلن يأتي الحل إلا عبرهم ولن يكون إلا برضاهم، يتشدقون بدعمهم للشعب السوري ولا يملون بين الفينة والأخرى تكرار تأكيدهم على فقدان رأس النظام شرعيته وضرورة رحيله؛ ولكنهم يشددون في الوقت نفسه على حتمية الحل السياسي للأزمة السورية، الذي لا يرون عنه بديلاً، وطبعاً من دون تحديد موعد له، قبل أن يغير صعود «داعش» شيئاً في أولوياتهم، فقد أصبح القضاء عليه هدفهم الأول. وصف وزير الدفاع المقال هيغل الحرب عليه بطويلة الأمد، فلينتظر السوريون ما بعد انتهاء هذا الأمد البعيد، لكي يبدأوا التفكير بأزمتهم ثم معالجتها سياسياً.
على كل حال يجب عدم الإفراط في التفاؤل، فالحل السياسي المنتظر يقتضي جلوس النظام والمعارضة إلى طاولة المفاوضات، قبل الخروج باتفاقية يرضاها النظام، باعتباره أحد أطرفها؛ فأي حل ذاك الذي سيقبل به نظام كهذا؟ من دون أن يفوتنا هنا ذكر أن الأساس في المسار السياسي المنشود هو مؤتمر «جنيف-1»، الذي كان من أهم بنوده تشكيل هيئة حكم انتقالية تضم أطرافا من المعارضة والنظام، فهل دفع السوريون ويدفعون كل تلك التضحيات من أجل عدة مقاعد وزارية!
إيران وروسيا يدعمان نظام الأسد فتأتيه الأموال والأسلحة والذخائر ويقاتل معه عناصر وخبراء إيرانيون، فضلاً عن تسخير إيران مليشيات حلفائها في لبنان والعراق للقتال معه؛ في حين يُقابل ذلك بموقف غربي أمريكي متفرج، ليمزق ما يسمى مجموعة أصدقاء سورية، ويضيف المزيد من التناقضات إلى دولها التي يتخبط ويتصارع بعضها، حتى على التراب السوري، وقد شرذم المال الخليجي المقاتلين وأبعد سياسيي الإئتلاف إلى كوكب آخر غير الذي يموت فيه السوريون. أما من ما يزال يحتفظ بموقف يظهر وكأنه يزداد صلابة يوماً بعد آخر فهم الأتراك؛ فالرئيس أردوغان لا يفوّت أي مناسبة من دون أن يحمل نظام الأسد مسؤولية ما حدث في سورية، ويشدد على حتمية رحليه أو إسقاطه قبل الالتفات لباقي مشاكل المنطقة.
كما لا يزال يعارض المشاركة بفاعلية أكثر في التحالف الدولي ضد «داعش» ويمنع الأمريكيين من استخدام أراضيه وقواعده العسكرية لضربها، ويضع شروطاً لذلك، من شأنها زيادة الضغط على نظام الأسد والعمل على إسقاطه؛ لكن وعلى النقيض تماماً من موقفه ذاك يفعل الجانب التركي أشياء تزيد في عمر نظام الأسد بطريقة غير مباشرة، فتركيا ليست صديقة أصدقاء سورية فقط، بل هي أيضاً من أوفى الأصدقاء لأعداء الشعب السوري، فعلى صعيد العلاقات الاقتصادية التركية ـ الإيرانية نرى أن تركيا تعمل على مداواة جراح إيران، من جراء العقوبات الغربية المفروضة عليها، فتعزز علاقاتها الاقتصادية معها بغض النظر عن القضايا الخلافية بينهما، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما من 10.7 مليار دولار عام 2010 ليصل إلى 22 مليار دولار عام 2012، في ظل الأزمة السورية واحتدام الخلافات بينهما حولها، لكنه انخفض بسبب العقوبات العام الماضي قبل أن يعود ويرتفع هذا العام، كما أبرمت عدة اتفاقيات لتعزيزه وإيصاله إلى 30 مليار دولار العام المقبل.
وكذلك تلعب تركيا الآن دور الطبيب المداوي لجراح الدب الروسي الأوكرانية، فبعدما رفضت مفوضية الاتحاد الأوروبي إتمام مشروع خط الغاز الروسي المسمى «ساوث ستريم»، متذرعة بأنه ينتهك قوانينها الخاصة بالمنافسة التجارية، أعلن بوتين من أنقرة إيقاف العمل بذلك الخط وتعويضه بإقامة مجمع للغاز قرب الحدود التركية اليونانية، ليسارع أردوغان ويبدي رغبته بشراء الغاز الروسي من هذا المجمع، كما وقع الجانبان ثماني اتفاقيات اقتصادية، وأكدا على رفع قيمة التبادل التجاري بينهما من 33 مليار دولار حالياً إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2023، تبحث روسيا شرقاً وغرباً عن مصادر جديدة للعملة الصعبة بعد تراجع احتياطياتها ما يقارب 100 مليار دولار نتيجة العقوبات الغربية، واستمرار انخفاض أسعار النفط، وهذا ما ساعدها فيه أردوغان، مقابل اعتراف روسي باللغة التركية لغة رسمية في شبه جزيرة القرم، التي كان من المفترض أن تشكل قضية خلافية أخرى بينهما، لم ينس أردوغان التأكيد على اتفاقه مع بوتين حول ضرورة حل الأزمة السورية، ولكنهما مختلفان بشأن كيفية ذلك الحل؛ فهل يدل تصريح كهذا على حدوث أي تقارب بين وجهتي نظرهما، في ما يتعلق بالملف السوري، هذا إن بحثاه أصلاً في اجتماعهما.
من حق تركيا السعي وراء مصالحها ولكن في مسألة إستراتيجية مثل القضية السورية لا بد من تقديم بعض التضحيا. إذا كان الجميع يعول على العقوبات الغربية على كل من روسيا وإيران المتزامنه مع انخفاض أسعار النفط للضغط عليهما واستنزافهما فتُرغمان على تقديم تنازلات في القضايا الخلافية معهما، ومنها الأزمة السورية، لكن ما يفعله أردوغان يعقد الأمور أكثر، ولعله كان من أضعف الإيمان أن يستغل حاجة إيران وروسيا إليه ويطلب ولو القليل منهما في الملف السوري، ولو بتخفيف قصف نظام الأسد على المدنيين، أو فتح ممرات لمناطق فات على حصار النظام لبعضها سنوات. على الرغم من المسألة الكردية ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة لتركيا، إضافة لقضايا اللاجئين والخوف من امتداد «داعش» إلى الداخل التركي، حيث تشكل السياحة أبرز دعائم الاقتصاد فيها؛ يبدو أنه لا توجد لسوريا أهمية لدى الأتراك كتلك التي تمثلها للإيرانيين، ولا يزال الاقتصاد الشغل الشاغل لأردوغان، الذي لا يقدم عليه أي مصالح أخرى. ي
يُركز في بعض وسائل الإعلام على الصمود الأسطوري للشعب السوري ويحمل وحده مسؤولية العمل على إسقاط نظام يدعمه العالم، فهل هذا من المنطق بشيء؟ اكتملت المصائب على رأس السوريين بتوقيف برنامج الأغذية العالمي مساعداته لنحو مليوني سوري في بلدان اللجوء، في وقت كان من المفترض فيه العمل على زيادة تلك المساعدات، فالشتاء واستمرار الحرب يرغم المزيد من اللاجئين على طرق باب تلك المنظمة كل يوم، فهل ما يزال يوجد أحد يريد مساعدة الشعب السوري؟
لماذا يتحمس النظام السوري لخطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، رغم أنها تتطلّب منه تنازلات رفضها سابقاً، مثل الموافقة على وقف اطلاق النار وإبقاء خطوط المواجهة مع قوات المعارضة على حالها؟ الأرجح لأنه سيكون المستفيد الأول والوحيد من هذه الخطّة، إذ قدّر أن باستطاعته الالتفاف عليها بسهولة، معتمداً على غموض آلياتها وأهدافها. ذاك أن اسمها على الورق «تجميد الصراع»، ومنطلقها المحدد «بدءاً من حلب»، وهدفها المعلن «معالجة الوضع الإنساني». كل ذلك عناوين يصعب مبدئياً الاعتراض عليها، خصوصاً أنها تواجه الطرفين بخلاصة مفادها أنهما برهنا عدم قدرتهما على الحسم، ما يعني انتفاء الفائدة من أي جهد عسكري.
قد لا يقبل الطرفان مثل هذا الحكم، على صوابه، لكنهما تعلّما ألا يرفضا أي معطى دولي قبل التعرّف إليه. فمن جهة النظام، لديه أكثر من مصدر يساعده في تحليل الخطة، وقد أوعز إلى صحيفة تابعة له بمهاجمتها لجعل دي ميستورا يعتقد أنه يرفضها، وعندما استقبله أمطره بوابل من الأسئلة، ثم وافق عليها، بعدما كانت موسكو وطهران دققتا أيضاً في التفاصيل. ثم إن مركز أبحاث في جنيف يدعى «مركز الحوار الإنساني» هو الذي اقترح المشروع على المبعوث الدولي بعدما درسه مستعيناً بـ«خبراء» لديهم صلات مباشرة أو غير مباشرة مع النظام وحليفيه الروسي والإيراني. أي أن دمشق لم تفاجأ عملياً بالاقتراح الديميستوري، بل بدا الأمر كما لو أنها قذفت بالون اختبار مدركة سلفاً أنه سيعود إليها. فهي عملت منذ بدايات السنة على ترويج نمط هدنات متفرقة توصلّت إليها في مواقع عدة في ريف العاصمة، بعدما استبقتها بشهور طويلة من الحصار التجويعي والطبي حتى صار سوء التغذية وقلّتها يقتلان الأطفال والمسنّين حين لا يُقتلون بالقذائف والصواريخ. كانت أهم تلك الهدنات في حمص، وقد تولّى مبعوث إيراني برفقة آخر روسي تنسيق مراحلها الأخيرة لتأمين انسحاب المقاتلين دون التعرّض لهم.
في المقابل تفرّقت المعارضة في المواقف، على جاري العادة. فهيئات المعارضة في الداخل، كـ«هيئة التنسيق» و«تيار بناء الدولة» و«جبهة التحرير» و«المنبر الديمقراطي» بالإضافة إلى عدد من الشخصيات، تلقفت الخطة بترحيب. أما المعارضة المقاتلة فأشهرت الرفض والتشكيك ضدها. وأما «الائتلاف» المصنّف كـ«معارضة من الخارج» فالتزم الحذر والتأني، ساعياً الى «خطة متكاملة» تحظى بضمانات دولية، وأيضاً إلى معرفة آراء الدول الداعمة له. وتعتبر أوساط المعارضة أن الهدنات التي حصلت كانت في غالبيتها أقرب إلى استسلام قسري بفعل الحصار، وأن النظام في كل الحالات لم يفِ بوعوده، خصوصاً بالنسبة إلى إطلاق المعتقلين. كما تعتقد مصادرها أن النظام ربما يقبل بتجميد القتال في حلب في مرحلة أولى، فقط كي يسحب قسماً من قواته لإرساله إلى جبهة الجنوب التي تتواصل خسائره فيها.
والواقع أن دي ميستورا قدّم عرضاً أولياً لخطته على أعضاء مجلس الأمن، مستنداً إلى ما يعتقده «اختراقاً» يتمثل بموافقة دمشق. ولم يُدعَ المجلس إلى التداول فيه رسمياً، فلا اتفاق بعد على إمكان صوغه في قرار دولي. ثمة من يشكك فيه كفرنسا، ومن يوافق عليه كإيطاليا وألمانيا، ومن لا يعطيه أهمية كتركيا طالما أن المتحمسين له ليسوا متحمّسين لجعله قراراً دولياً ولذا فهي تصرّ على إقامة «منطقة حظر جوي ومناطق آمنة». واللافت أن الدول العربية الداعمة للشعب السوري لم تعلن موقفاً منه، لكنها تراقب حركة التشاور الدولي بشأنه. أما الولايات المتحدة، المنشغلة بالحرب على «داعش»، فترى في الاقتراح وسيلة لتمرير الوقت طالما أنها لا تملك خيارات أخرى حالياً.
كان واضحاً أن الدول الكبرى تريد أن تجاري دي ميستورا إيجابياً، مع السعي إلى استخدام اقتراحه في تجاذباتها. فالمفهوم عموماً أن الخطة لن تصبح جدية إلا إذا حظيت بتوافق أميركي- روسي، وهذا متعذر حالياً، فالثقة معدومة، والخلافات ماضية في التوسّع بين الدولتين الكبريين. ولعل وجود ثغرة سياسية كبيرة في الخطة أوحى لموسكو بأن تعود إلى المسرح الدولي عبر محاولة جمع النظام ومعارضين لإحياء «حل سياسي» كانت مارست عملية خداع لإحباطه في جنيف. العجيب أنها تعيد طرح بيان «جنيف 1»، وفقاً لتفسيرها طبعاً. والأعجب أن دي ميستورا صار يردد أن خطته لا تتعارض مع هذا البيان، مع أنها تلتفّ عليه، بل تتجاوزه.
رنا الفليطي هو الاسم الحركي لجبهة النصرة التي قتلت علي البزال. هذا ما قرره حزب الله وهذا ما سيكون. لا يريد الحزب أن يمنح أحدا سواه الحق في أن يقتل القتيل ويمشي في جنازته. أعطى الأوامر بتصنيف رنا الفليطي زوجة علي البزال، السنية العرسالية، إرهابية وقاتلة، ولكنه لم يمنحها شرف الاستمتاع المنتشي بالمشي في جنازة ضحيتها فذلك حق حصري له.
لم يحرم الحزب الإلهي الفليطي من أن تكون زوجة الشهيد، بل نزع عنها كل تاريخ علاقتها بها. سرق كل لحظة عاشتها معه ووهب عمرها برفقته معاني جديدة، سرعان ما احتلت ذاكرة أبناء البزالية وصارت السيرة الوحيدة الممكنة لهذه المرأة. تتلخص هذه السيرة في أن هذه العرسالية كانت قد قتلت زوجها بمجرد انتمائها إلى عرسال. لذا فإن ما قامت به النصرة ليس فعلا أصليا، بل إعادة تمثيل لجريمة عرسالية الأصل والمنشأ.
يعلم الجميع أن السوريين هم ضحايا الإهدار الإلهي للدم، وهو إهدار مفتوح وتام ولا حدود له، وبما أنه حد أقصى فإن كل ما عداه يبدو وكأنه نوع من الرقة والرحمة. لم ينجح الحزب بعد في “سورنة” عرسال تماما، وكذلك لم ينجح في “سورنة” رنا الفليطي تماما، لذا تبدو “العرسلة” في هذه اللحظة مقدمة أخيرة تسبق لحظة الوصول إلى حفلة الإهدار النهائية وهي “السورنة”.
حرمان الفليطي من المشاركة في جنازة زوجها هو بعض ما تتيحه رقة القاتل قبل تنفيذ حكم الإعدام. قبل التنفيذ بلحظة يكون المحكوم عليه لازال متمتعا بنسب إنساني ما، فلا يستطيع أحد ممارسة القتل دون نزع هذه الصفة تماما. لا أحد يقول إنه يقتل الناس إنما يكون التبرير الدائم هو قتل القتل. فعل تصفية الإرهابيين يلحق بهذا التوصيف، فهو لا يلغي من الوجود أناسا وشخصيات وكائنات لهم حيثية متصلة بالعيش والحياة، بل يلغي سياقا من سياقات الموت. هو إذن يستهدف الموت نفسه. لحظة “عرسلة” الفليطي هي لحظة أخيرة قبل هذا السياق، إنها القاتلة بالقوة وتحتاج أن تكون من جبهة النصرة لتكون القاتلة بالفعل.
اغتيال زوجها تم بيديها ولكنها لم تضغط الزناد. هذه هي المسافة التي تضيق بين البيئة الحاضنة للإرهاب وبين البيئة الصانعة له، بمعنى آخر لا تزال عرسال بيئة مؤيدة للنصرة، والحزب يريد أن يرفع تصنيفها الإرهابي لتصبح جبهة النصرة نفسها.
عملية رفع التصنيف تحتاج إلى ما يمكن أن نسميه شيوع الإهدار العادي. هكذا وفي ظل هذه المعمعة التي تلت اغتيال علي البزال بدا كل ما حدث من قتل اللاجئين السوريين والاعتداء على عرسال وتصفية بعض أبنائها، وكأنه جزء من الحياة الطبيعية واليومية. باتت هذه الأفعال معلما من معالم الألفة التي لا يحق لها استجرار استغراب أو استهجان، فكيف الحال إذا كنا نسعى إلى إدانتها؟
لا يستطيع “السياسي” العبور في غابة الجثث هذه. السياسة تعمل قبل المجزرة من أجل تجنبها. يريد الحزب والنظام السوري وإيران للسياسة أن تعمل بشكل مغاير لما وضعت له. يريدونها أن تعمل في المجزرة ومنها وفيها، وألا تكون استمرارا لها أو ممارسة لها بشكل آخر، بل يريدونها أن تتقمصها وأن تتحول إلى سياسة للمجزرة بالمعنى الإداري والتنظيمي. من هنا بات كل شيء يجنح نحو النهايات. النهايات تعلمنا كل شيء عن البدايات وعن السياقات التي أوصلت إلى النهايات، وتعلمنا أن نعيد تأويل كل شيء من جديد انطلاقا من اللحظة الختامية المحترقة. هكذا بتنا قادرين أن نرى كل تاريخ الحرائق مكثفا في لحظة واحدة.
تقول النهايات إن لحظة إعدام علي البزال وما تلاها، ترافقت مع غارات إسرائيلية استهدفت قوافل تحمل أسلحة تعود للنظام البشاري كانت في طريقها إلى حزب الله في لبنان. ليست هذه الأسلحة معدة لقتال إسرائيل، بل تهدف إلى استثارتها من أجل أن يبدو عنوان الحرب الرئيسي ضد السوريين هامشا واسعا يتسع لمقابر جماعية مفتوحة.
إسرائيل لا تريد أن تتعامل مع هذا الاحتمال. تريد للمجزرة ضد السوريين أن تكون عارية ومباشرة. تريد لبشار أن يستمر في ذبح السوريين قي سوريا بكل الأسلحة المبيدة والغبية التي لا تستعمل في أي حرب فعلية بل فقط في حالات الإبادة، وهي الحالة التي تسم تعامل النظام مع السوريين.
تريد من حزب الله أن يفعل الأمر نفسه مع اللاجئين السوريين في لبنان. تسعى إلى عدم السماح له بالحصول على أي سلاح متطور يمكن استخدامه ضدها أن يجعل المجزرة التي سيغطيها تتخفف من بعض وحشيتها، أو تتجه لتصبح نوعا من حرب. لا تريد إسرائيل حربا ضد السوريين، بل تريد إبادة. تريد ذبحا قريبا بالسكاكين كي يرى القاتل وجه الضحية، وكي تحتفظ الجينات السورية الناجية بصورة القاتل ووجهه، ولا تغفر له كي تكون الإبادة التالية شاملة. “السورنة” عنوان “إهدار حزبللهي وإسرائيلي” تام. رنا الفليطي العرسالية المتجهة نحو السورنة كانت إشارة لا تخفى على هذا النزوع.
تراقب الدول العربية، بحذر شديد، تطورات التفاوض الإيراني الأميركي، وتذهب معظم التحليلات إلى أن هذا المتغير العلاقاتي، في حال تحققه، سيكون له أثر سلبي كبير على الوضع العربي، وربما يساهم بإعادة صياغة النظام الإقليمي في المنطقة، وخصوصاً وأنه يتزامن مع الاعتقاد بوجود توجهات أميركية لفك الارتباط مع المنطقة، نظراً لتراجع قيمتها الإستراتيجية، والتوجه، تالياً، إلى تلزيمها لطرف إقليمي قوي، بعد أن يصار إلى صنع ترتيبات معينة، تساعد على إنتاج هذا الواقع.
نظرياً، لا يمكن استبعاد مثل هذه الاحتمالات، فالعلاقات بين الدول، في ظل التفكير الواقعي الذي يحكم حقل العلاقات الدولية، محكومة بالمصالح المشتركة للأطراف، وهذه تحكمها المتغيرات السياسية والتقنية والاقتصادية، ذات الطبيعة المتحركة وغير الثابتة، وعلى ضوء ذلك، لا يمكن استبعاد حصول تطورات مهمة في العلاقة بين واشنطن وطهران، وخصوصاً في القضايا التي تتقاطع فيها مصالح الطرفين.
وفي التطبيق العملي لممكنات هذا التطور العلاقاتي، ومجالاته، فإنه يصعب إدراجها في الفضاء العربي، لأسبابٍ، يتنافى بعضها مع منطق العلاقات الدولية، ويقع بعضها خارج قدرة الطرفين على تحقيقه، إذ من غير المنطقي أن تفاوض واشنطن طهران على ساحات تملك النفوذ فيها، ولها مصالحها القائمة حتى أمد مستقبلي بعيد، وتشكل جزءاً من أعمدة قوتها على الصعيد الدولي، كما تدرك كل من واشنطن وطهران أن النفوذ في المنطقة لا يتم منحه جائزة ترضية، ذلك الأمر تحكمه ديناميات داخلية، يظهر حتى اللحظة صعوبة التحكم بها.
الأقرب إلى المنطق أن التأثير السلبي لتطور العلاقات الأميركية الإيرانية سيكون على الدور والمكانة الروسية في المنطقة والعالم، وستجري ترجمته بتأهيل إيران للعب دور البديل عن روسيا، في سد احتياجات الغرب الأوروبي من الطاقة، وفي هذا ستلعب واشنطن على وتر طموحات طهران ورغباتها في التقارب مع الغرب، وتحويلها إلى أكبر مورد للطاقة إلى أوروبا واحتلال الدور الروسي في هذا المجال، وينطوي هذا الأمر على حزمة من الأهداف الغربية، فعدا عن إضعاف روسيا اقتصاديا، تقوية التيار الإيراني المعتدل واحتواء إيران، اقتصاداً ومجتمعاً، عبر تشبيك اقتصادها بمنظومة الاقتصاد الغربي، وتنمية القطاعات التي تقدم خدمات للغرب، كالطاقة والسياحة.
تدرك واشنطن هشاشة العلاقات الإيرانية الروسية، فهي، وإن بدت في لحظة متينة في الشكل، إلا أنها تأسّست على مبدأ "تحالف الضرورة" بالدرجة الأولى، كما أنها تنطوي على تناقضات عميقة، تمثل إشكالات نائمة، من السهل إعادة إحيائها عبر إطلاق دينامية تنافسية بين البلدين، تعيد وضع تلك التناقضات على السطح، والتي من أهمها الخلاف على توزيع حصص ثروات بحر قزوين، حيث تقف روسيا مع كازاخستان وأذربيجان في خلافهما مع إيران، كما توجد إيران في المناطق التي تعتبرها روسيا تقليدياً مجالاً خاصاً لمصالحها الاستراتيجية والتاريخية، مثل مناطق آسيا الوسطى والقوقاز، وبحر قزوين وسورية، وبالتالي، فإن تصادمهما محتمل على الدوام، كما لم يعمل الطرفان، جدياً، على تثبيت آليات لتطوير العلاقات بينهما، وجرى إدارتها على أساس "قضية تلو الأخرى"، في إطار توظيف كل منهما الآخر في علاقاته مع الغرب.
“ ستلعب واشنطن على وتر طموحات طهران ورغباتها في التقارب مع الغرب "
على مدار سنوات سابقة، صاغت كل من طهران وموسكو علاقاتهما البينية بحذر، وبتناسب عكسي، مع تطور علاقاتهما الغربية، وكان كل طرف منهما مستعد لبيع تلك العلاقة في سوق تفاوضه مع الغرب، وبناءً على ذلك، أسّسا منظومة علاقات مشرّعة نوافذها لاختراق غربي، كانا يستجلبانه، واليوم يمثّل لهاث طهران خلف دور إقليمي، أحد أكبر مداخل الاختراق الغربي لعلاقتها مع روسيا، ذلك أن تأهيل إيران لتكون البديل عن روسيا في مجال تزويد أوروبا بالطاقة، يعتبر أفضل بديل عن صناعة القنبلة النوويّة، ثم أن إيران، في نظر الغرب، لا تشكّل خطراً مثل روسيا، إذ على الرغم من امتلاك إيران نفوذاً معيناً في الشرق الأوسط، فإن معادلات هذه المنطقة أعقد من أن تتحكّم بها إيران، وحالة الاختلال في ميزان القوة لصالح إيران مؤقتة وعابرة، وكفيلة بإصلاح نفسها مع الزمن، كما تستطيع أميركا إدارتها وضبطها في إطار الصراع السني الشيعي الذي سيكون العنوان الأساسي للمنطقة عقوداً مقبلة، ويمكنها وضع آليات لاستمرار استنزاف إيران، وهي ترى أن ثمة تشكيلات جديدة تلد في المنطقة، ولا يمكن وقفها، وهي كفيلة بامتصاص فوائض ايران المستقبلية من الطاقة. غير أنّ لعب واشنطن على خط العلاقات الروسية الإيرانية، من شأنه تغيير المعادلات العالمية التي تتشكل، في الوقت الراهن، والتي تشكّل روسيا وإيران واحدة منها، ذلك أن إطلاق دينامية التنافس بينهما، بهذه الحدة، سيتحول مستقبلياً إلى صراع مؤكد على الأدوار ومناطق النفوذ، وسيكون بداية لتفكيك منظومة القوة المقابلة لأميركا في النظام العالمي، والتي تتمثل بدول "البريكس"، والتي تشكل روسيا وإيران أحد أصلب أعمدتها.
يبدو أن موسكو كانت الأكثر قدرة على قراءة التطور في العلاقة بين طهران وواشنطن، فسارعت إلى تركيا، لتوقيع اتفاقات اقتصادية، في محاولة استباقية لضرب مشروع الطاقة الإيراني البديل، والذي قد يمر عبر الأراضي التركية، كما بدأت بمحاولة إعادة صياغة الواقع السوري لمصلحتها، عبر إيجاد بنية سياسية قريبة لها، تعبر من خلالها إلى تسويةٍ تضمن مصالحها على البحر المتوسط.
ماذا يريد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من نظيره التركي، رجب طيب أردوغان؟ وماذا يريد أردوغان من بوتين؟ سؤالان هما سؤال واحد، يطرح بقوة مع زيارة بوتين إلى تركيا. ربما الجواب معروف للجميع، بوتين يريد من أردوغان تغيير سياسته تجاه الأزمة السورية، فيما يريد أردوغان الشيء نفسه من بوتين. ولكن، كل طرف بالاتجاه الذي يريده، ما يبدو غير ممكن في ظل الاختلاف الاستراتيجي في سياسة البلدين تجاه الأزمة السورية. فروسيا تتمسك بالنظام السوري حتى النهاية، فيما تركيا تريد إسقاطه. لكن هذا الاختلاف أو التنافض لا يفسد ود المصالح الاقتصادية الكبيرة بين البلدين، على الرغم من أن العلاقات التركية - الروسية تقف على بحر من العداء التاريخي منذ الحروب المتتالية بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، مروراً بمرحلة الحرب الباردة، عندما كانت تركيا تقوم بدور الشرطي الأطلسي في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق.
تأتي زيارة بوتين إلى تركيا في إطار الاجتماعات الدورية لمجلس التعاون الاستراتيجي الأعلى الذي تأسس بين البلدين عام 2010، وتأتي في وقت حساس لجهة العلاقات التركية – الأميركية التي توترت أكثر، بعد زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى تركيا، وما وصف أردوغان حليفه الأميركي بالوقاحة ومطالبه اللامتناهية إلا تعبيراً عن هذا التوتر، وعن تناقض الأجندة إزاء ما يحدث في سورية والعراق، ومنطقة الشرق الأوسط عموما، وهي لحظة ربما يستفيد منها بوتين، ويحاول استغلالها في التقرب من تركيا أكثر فأكثر، سياسة واقتصاداً.
من دون شك، تشكل العلاقات الاقتصادية والمصالح المشتركة الكبيرة بين البلدين، عاملاً مهماً لدفع هذه العلاقات إلى الأمام، خصوصاً إذا ما علمنا أن روسيا هي الشريك التجاري الأول لتركيا، بعد أن بلغ حجم التجاري بين البلدين نهاية العام 2013 أكثر من 30 مليار دولار، وتؤمن تركيا ما بين 60 إلى 70% من مواردها في مجال الطاقة من روسيا التي هي الدولة الأهم المصدرة للغاز في العالم. لكن، على الرغم من أهمية هذا العامل الاقتصادي، ودوره في تحسين العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياحية بين البلدين، فإن ثمة صراعا مريرا على مناطق استراتيجية عديدة في العالم، ولا سيما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومنطقة القوقاز التي تعوم على بحر من النفط والغاز، حيث الصراع العالمي على مد خطوط الطاقة من هذه المناطق إلى الدول الأطلسية، بشقيها الأوروبي والأميركي.
" ستعمل روسيا التي تخوض صراعاً استراتيجياً مع الغرب، وانطلاقا من مصالحها الاستراتيجية، من أجل عدم تكرار التجربة الليبية في سورية "
القيادة الروسية، وانطلاقا من مصالحها، موقفها واضح من الأزمة السورية، لعل أهم معالمه الرفض المطلق للتدخل العسكري، والتمسك بإيجاد حل سلمي، عبر مرحلة انتقالية، من خلال حوار يفضي إلى مثل هذا الحل، حيث طرحت مراراً اتفاق جنيف واحد أساساً يمكن الاعتماد عليه للحل، وهو ما كررته موسكو في أثناء زيارة وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، أخيراً، إلى روسيا التي تعمل على إعداد مبادرة للعودة إلى الحوار مجددا، في حين القيادة التركية التي قطعت كل علاقاتها مع النظام السوري، وانخرطت في الأزمة السورية، واحتضنت، منذ البداية، المجلس الوطني السوري، ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والجيش الحر، وباقي المجموعات المسلحة التي تعمل لإسقاط النظام السوري بكل قوة.
تخشى روسيا التي تحارب في سورية دفاعاً عن مصالحها الاستراتيجية من البعد الإيديولوجي لتداعيات صعود الحركات الإسلامية المتشددة، من أمثال داعش والنصرة، ولا سيما في ظل وجود نحو 50 مليون مسلم في جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت، حتى وقت قريب، جزءا من الأراضي الروسية. روسيا هذه تنظر بعين الخوف إلى تداعيات هذه السياسة على أمنها القومي. وفي مواجهة ذلك، تعمل، بقوة وعلى مختلف المستويات، لبقاء النار المشتعلة خارج أراضيها، وهي حجة ستدفع بوتين إلى الطلب من أردوغان اتخاذ مزيد من الإجراءات ضد هذه التنظيمات، باسم مكافحة الإرهاب، ولو بطريقة مختلفة عن حرب التحالف الأميركي – العربي ضد داعش. وفي المقابل، سيحاول أردوغان القول لبوتين إن المعطيات والمتغيرات والوقائع بشأن الأزمة السورية تغيرت، وإن على موسكو الاستجابة لذلك كله، بعد كل هذا القتل والدمار، لكن الثابت أن روسيا التي تخوض صراعاً استراتيجياً مع الغرب، وانطلاقا من مصالحها الاستراتيجية، ستعمل من أجل عدم تكرار التجربة الليبية، ولعل ما يدفعها إلى اتخاذ هذا الموقف حتى النهاية هو الموقف الغربي، وتحديدا الأميركي من الأزمة السورية. معادلة لن تجعل من لقاء بوتين – أردوغان، في شقه السوري، سوى لقاء تثبيت المواقف لا أكثر، فأردوغان لا يستطيع التراجع عن مواقفه، بعد أن قطع العلاقات نهائيا مع النظام السوري، وأصبح إسقاطه هدفاً لا محيد عنه، فيما لن يقدم بوتين هدية مجانية له، خصوصاً وأنه يتحدث من منطلق الحاكم القيصري والدولة الاستراتيجية القوية.