قبل نحو عقدين من الزمن، لم يكن للإيرانيين نفوذ وسيطرة واضحة على القرار السوري كما هو الحال اليوم، إذ بدأ هذا النفوذ غير الطبيعي بالنمو متسارعاً خلال السنوات العشرين الأخيرة، فتصنيف الولايات المتحدة سوريا ونظامها كدولة “داعمة للإرهاب” دفع الأسد الأب لإقامة تحالف استراتيجي مع إيران التي صنفتها أمريكا أيضاً “دولة الشر”، وكان تحالفاً عضوياً لم ترغب فيه غالبية السوريين، ففيه سمح الأسد الأب لإيران بالمشاركة في رسم سياسات سوريا الداخلية والخارجية.
ورث الأسد الابن السلطة عن أبيه، وورث معها استعلاءه على المجتمع الدولي وتمرده عليه، كما ورث رغبة بـ(الخلود)، فقابله الغرب بتشديد العقوبات خاصة بعد اتهامه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وإجباره على إخراج الجيش السوري من لبنان، وزاد على ذلك سوء علاقة الرئيس عديم الخبرة بالكثير من الزعماء العرب.
مع بدء الثورات العربية ضد الدكتاتوريات، وإطاحتها برؤوس كبيرة، وانطلاق انتفاضة كرامة وحرية في سوريا، قرر الأسد تسليم مصيره لإيران تدريجياً، وتجاوز الحد الذي رسمه نظام أبيه لهذه العلاقة، وفتح أبواب سوريا على مصراعيها لإيران مقابل أن تضمن له (الخلود) في السلطة والحماية من غضب شعبي، كان يتوقعه أبوه الذي بنى منظومته الأمنية العسكرية لتكون مستعدة له عندما يأتي.
رحّبت إيران بهذا العرض “السخي” من الأسد، وسخّرت أذرعها الدينية والاقتصادية والعسكرية، المباشرة وغير المباشرة، لحمايته ونظامه، فخططت للنظام وأجهزته الأمنية وجيشه، ودربت ميليشيات غير نظامية طائفية تابعة للنظام، وسخرت قدرات حزب الله اللبناني الشيعي لحمايته، كما أدخلت ميليشيات عراقية ويمنية وغيرها من الدول للدفاع عنه، ولحفظ ماء الوجه أمام المجتمع الدولي والعرب تذرّعت بحجة الدفاع عن الأماكن الدينية الشيعية في سوريا، والدفاع عن محور “الممانعة والمقاومة” المعادي لإسرائيل، وعبثت بكل شيء يمكن أن يثير الأحقاد الطائفية في سوريا وفي خارجها.
إيران التي قدّمت كل هذا للأسد ونظامه حصلت بالمقابل على ما تريد، فسيطرت على القرار السياسي والعسكري، وأصبح قادة الحرس الثوري هم أصحاب القرار لا الأسد، وانتقلت قيادة سوريا من أسرة الأسد إلى يد خامنئي، وربما لأصحاب رتب أقل كثيراً من خامنئي، وتعامل الأخير مع الملف السوري كزعيم فارسي شيعي في مواجهة ثورة عربية سنّية، وزاوج الإيرانيون حالة القومية الفارسية مع حالة المذهبية الشيعية، ليس لقناعة بل لمصلحة. لم ينس السوريون ما قاله أحد كبار قادتهم (رحيم صفوي) بأن حدود بلاده الحقيقية صارت على شواطئ المتوسط، كما لم ينسوا ما أعلنه أحد مراجعهم الدينية (مهدي طائب) بأن سوريا صارت المحافظة رقم 35 في إيران، وهو كلام ليس فيه مبالغة، فقد حوّل بشار الأسد سوريا إلى كيان إداري إيراني محلّي.
دعمت إيران بكل الطرق حرب النظام السوري ضد الغالبية المنتفضة في سوريا، وأدى عنفها وعنف النظام إلى مقتل مئات الآلاف من السوريين، وأدى هذا بدوره لتأجيج الإسلام المتطرّف وتمدده على حساب الإسلام المعتدل.
عندما أوشكت شبكة سيطرة نظام الأسد على سوريا على الانهيار، أشرفت إيران بنفسها على ترتيب المشهد الميداني في سوريا تخطيطاً وتنفيذاً وإشرافاً، حتى أن بعض القطاعات صار محرماً دخولها، أو التواجد فيها، على أي سوري إلا لنخبة ممن تثق فيهم إيران.
بهيمنة إيران على سوريا سيطرت بالمعنى الاستراتيجي على قلب الشرق الأوسط، وبات نفوذها يمتد من إيران وحتى المتوسط، شاملاً العراق الذي يقع تحت سيطرة حكومة شيعية موالية لطهران همّشت المكوّن السنّي، ثم لبنان الواقع تحت سيطرة حزب الله اللبناني الشيعي الذي أعلن أمينه العام حسن نصر الله في أحد خطبه أن ولاءه الأول للولي الفقيه وليس للبنان، فضلاً عن موطئ قدم لإيران في فلسطين عبر تمويل فصائل فلسطينية إسلامية مسلحة متمردة، وهذا الكلام يُترجم عملياً لخريطة “الهلال الشيعي” التي حذّر منها الملك الأردني قبل نحو عقد من الزمن، وأنجزت إيران أول هلال، وأردفته بهلال آخر من الجنوب، يمر بالبحرين التي تحاول إيران زعزعة أمنها، واليمن الذي سيطر الحوثيون المرتبطون بإيران على السلطة فيه، وكذلك عمان والسودان المرتبطتان بعلاقات خاصة مع إيران.
تحقق إذن حلم إيران الجامح في الوصول إلى البحر المتوسط، وربما تعتقد الآن أنها اقتربت من تحقيق حلم أهم لطالما داعب خيال قادتها، وهو المشاركة في تقرير مصير الشرق الأوسط والخليج العربي، وصياغة النظام الإقليمي برمته، وتحديد موقع أطرافه منفردة أو بالتشارك مع الدول العظمى، وإعادة رسم خارطة الإقليم العربي وفق مصالحها وأطماعها الفارسية، وهي، بطبيعة الحال، خارطة قومية طائفية أيديولوجية ثأرية قسمت الشرق الأوسط لدول طائفية غير قابلة للعيش وغير قابلة للعودة لطبيعتها في نفس الوقت.
لكن يصح هنا التساؤل، هل تتناسى إيران أن بنيتها العرقية والمذهبية بنية قلقة؟ لأن أكثر من نصف الإيرانيين (حوالي 55 بالمئة) من أصول غير فارسية: أذريون (شمال إيران) وأكراد (شمال غرب إيـران) وعرب (جنوب غرب إيران) وبلوش (شرق إيران)، كما أن 35 بالمئة من الإيرانيين هم من السنّة، ولعبها بالخرائط هي لعبة خطرة يمكن أن تستخدم ضدها، وهو في الغالب ما سيكون في يوم من الأيام.
الإستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط مرت بعدة مستويات، الأول تصدير الثورة وإقامة أنظمة سياسية تتبنى الرؤية الإيرانية في الحكم (ولاية الفقيه) كالعراق، والثاني كسب نفوذ في دول الشرق الأوسط عبر استتباع الأنظمة السياسية كما في سوريا، والثالث عبر إقامة أحزاب سياسية شيعية وتشكيل ميليشيا طائفية مسلحة في الدول التي تضم طائفة شيعية كما في لبنان والعراق واليمن وأفغانستان، والمستوى الرابع عبر تبنّي أحزاب سياسية إسلامية في الدول التي لا توجد فيها طائفة شيعية كما في فلسطين (حماس والجهاد الإسلامي) وكردستان العراق (حزب الاتحاد الوطني- طالباني) ومصر (الإخوان المسلمون) والسودان ونيجيريا (بوكو حرام) وطاجيكستان وأوزبكستان وتركيا (حزب الله التركي، وحزب العمال الكردستاني).
ساعد بشار الأسد إيران على تنفيذ مخططاتها، فدفع الثورة نحو العسكرة وغذى التطرف، ورفد التنظيمات الإرهابية بكل أسباب الحياة والقوة ومنها إطلاق سراح سجناء تكفيريين، وورط طائفته كلها في معركته ضد الشعب، وسمح لميليشياته بارتكاب مجازر طائفية، لكن ليس الأسد وحده من ساعد إيران، بل هناك الدول الغربية التي لم تقم بأي تصرف يمكن أن يردعه ويضع حداً لحربه غير المتكافئة ضد الشعب.
لإيران تاريخ من الاستفادة من الفوضى، وهو أسلوب استعملته في لبنان والعراق وأفغانستان واليمن والسودان والآن في سوريا، لكنها حتى لو استطاعت ترتيب المشهد الحالي، فإنه سيكون مشهد متحرك غير مستقر في بحر عربي سنّي رافض لها، وربما تكتشف متأخرة أنها استنزفت طاقاتها في الورطة الشرق أوسطية، وتضطر ليس فقط للاستغناء عن خرائطها وأقواسها وهلالاتها التي تحلم بها، بل لاستنفار كل طاقاتها لإبعاد خطر التقسيم عن الخريطة الإيرانية الحالية.
لم تحل أزمة أوكرانيا، وبسببها ينكمش الاقتصاد الروسي ويُحاصَر عالمياً. المَخْرَج الروسي للمشكلة كان بزيارة فلاديمير بوتين إلى تركيا وعقد قمة لزعيمي الدولتين، غلب عليها البعد الاقتصادي. ولكن وفق التصريحات الإعلامية لم يتفقا في ما يخص الموقف من النظام السوري ومن الثورة. التحرك الروسي الأخير، يستفيد من خطة دي ميستورا، والتي تتوافق مع الرؤية الروسية لمستقبل سوريا وأنها تواجه إرهاباً وعلى المعارضة ودول العالم التصالح مع النظام لمحاربته، وهذا في كل الأحوال ما أتى التحالف الدولي بهديه إلى سوريا.
روسيا استدعت شخصيات معارضة، ثم وفدا رفيع المستوى من النظام، ثم وفدا من هيئة التنسيق، والتسريبات الإعلامية المنشورة تقول بأنها التقت 12 حزبا كرديا، وقدري جميل وشخصيات أخرى. كي تكتسب المفاوضات الأخيرة قيمة فإن روسيا تؤكد أنها ليست متمسكة بالرئيس السوري، حيث أن هذه القضية بالتحديد كانت وستظل المشكلة الأبرز، وتتطلب حلاً حقيقيا وتوافقا بين قوى المعارضة مع النظام.
خطة دي ميتسورا تجاهلت البعد السياسي كمدخل للحل، وركزت على وقف العمليات العسكرية ولاحقاً يتم التوصل إلى حل سياسي. الخطة الروسية الجديدة تدمج النظام مع جزء من المعارضة لتقاسم المقاعد الوزارية، وموضوع الرئاسة لا يزال ملتبساً. النظام لن يتخلى عن منصب وزير الدفاع والأجهزة الأمنية.
هذه الخطة ستفشل بالتأكيد، فلا المعارضة ستقبل بهذه الشروط ولا الدول الداعمة لها. مقابل ذلك هناك كلام يتم تداوله في معظم عواصم العالم المعادية للنظام و”الداعمة” للثورة على ضرورة الحل السياسي، ويتم التخفيف من الحديث عن المكون العسكري، عدا أن الكلام عن تأهيل قوات المعارضة لا أحد يأخذه بعين الاعتبار.
المعطى الأخير، ربما سيسمح بالذهاب نحو حل سياسي ما. المشكلة ليست في ضرورة الحل السياسي، فهذا ومنذ اتفاق جنيف صار الحل الوحيد لأزمة النظام، القضية أن الروس هم من أفشل جنيف2 وهم من حمى النظام في مجلس الأمن الدولي واستعملوا أربع مرات حق نقض أي قرار تحت البند السابع. الروس وافقوا على وثيقة جنيف كأساس للحل، ولكنهم أطلقوا عليها النار في دعمهم للنظام. المفاوضات الأخيرة ضرورية لتنجح في تحقيق مطالب واسعة للمعارضة، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وفي تحديد خطة انتقالية تسمح بتغيير كل السلطة السياسية.
التوافق الإيراني الأميركي ولاسيما النووي، واحتمال الاعتماد على إيران في شؤون المنطقة، قد يسمح للأخيرة بدور ما في سوريا، وبالتالي هناك خوف روسي من انتهاج إيران سياسات تخص سوريا. فكثير من التحليلات تؤشر إلى تفاهمات بما يخص كل المنطقة. الخوف الروسي ربما يتأتى من هنا، ولكن روسيا لا تمتلك أوراقا قوية، فالمعارضة لا تستطيع التوقيع على أي اتفاق لا يحقق نقلة نوعية. يبعد النظامَ عن روسيا توهمه أنه حقق تقدما في حلب ومؤخراً في درعا، وقد شدد الخناق على الغوطة وبالتالي لماذا يتراجع الآن؟ يعزز هذه الفكرة أن تصريحات وليد المعلم تتضمن تمايزاً عن الروس في الرؤية للحل. وذهابه مؤخراً إلى إيران، ربما لدراسة الموقف من الروس.
لاشك أن إيران بحاجة إلى روسيا، فالإيرانيون لا يثقون في أميركا لأنها قد تتبنى موقفاً جديداً ضدها. سيما وأن أوباما يُحاصر يومياً، وبعد عامين قد يتم التخلي عن كل سياساته، ولكن هناك سبعة أشهر متبقية ولابد من خلق واقع جديد كي تفرض الدول شروطها على طاولة المفاوضات. فهل تنعطف إيران نحو أميركا بشكل واسع؟ السياسة الإيرانية ماكرة والأمر ممكن. روسيا تعي ذلك تماماً وتخشاه، ولكن قوة روسيا تتأتى من تأثيرها الواسع على النظام. روسيا تتحرك أيضاً ضمن الأشهر السبعة القادمة.
أميركا لن تعارض أي اتفاق يخص سوريا، ولكن يفترض أن لا يخرج عن اتفاق جنيف. يضاف هنا أن أميركا تعتبر سوريا رهينة بيدها ضد إيران ومن أجل توقيع صفقة تخص الاتفاق النووي بعد سبعة أشهر، عدا أنها منشغلة الآن، بترتيب الحكم في العراق. في كل الأحوال، أميركا لا تزال تعترف للروس بدور لحل أزمة النظام، وهي من ساهم في صياغة اتفاق جنيف، وبالتالي هل يمكن للروس اعتماد استراتيجية جديدة، وإجبار النظام وإيران على توقيع ذلك الاتفاق؟ المشكلة أن القوى السورية التي يتم التوافق معها، تنطلق من أي حل سياسي ولو لم يكن وفق جنيف، وليست لديها مشكلة التنازل عن بعض بنوده، وليس بالضرورة أن تتبنى موقفاً من مصير الرئيس السوري. لذلك ستفشل المفاوضات إن لم تحدد بدقة الموقف من القضية الأخيرة. ولن تقبل بها جهات متعددة في المعارضة، ويعلم النظام أنه دون حل هذه القضية ليس من حل أبدا.
شهد عام 2014 سقوط أربع دول عربية - سورية والعراق وليبيا واليمن - في عداد الدول الفاشلة، كما شهد صعود تنظيم «داعش»، أكبر نموذج للتهديد الارهابي المتطرف في التاريخ العربي الحديث. ومن المتوقع أن تستمر المنطقة في تزويد العالم بفائض من الأزمات في عام 2015. لكن من المحتمل أيضاً أن تشهد المنطقة بعض النجاحات إلى جانب هذه الازمات وحالات الفشل.
من المرجح ان تستمر تجربة المغرب في تقاسم السلطة بين ملكية قوية وحكومة يقودها حزب «العدالة والتنمية» الاسلامي. يتمتع الملك بشرعية قوية، وفي وقت مبكر بعد الانتفاضات العربية تولى الإشراف على مجموعة من الإجراءات من خلال الدفع بدستور ليبرالي من جهة، والسماح لحزب «العدالة والتنمية» الذي فاز في الانتخابات برئاسة حكومة متعددة الأحزاب محدودة السلطة وتحت إشراف الملك، من جهة أخرى. يبدو أن هذه الصيغة قد تؤسس لنوع من التوازن والاستقرار في المغرب في العام القادم.
كانت الجزائر من البلدان التي لم تشهد انتفاضة في حقبة الربيع العربي، رغم أن لديها التناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ذاتها التي أدت إلى إشعال ثورات في بلدان أخرى. ولكن الذاكرة الحية للحرب الأهلية بين الإسلاميين والدولة، فضلا عن موارد النفط الوافرة، أحكمت الغطاء ومنعت تفجير الثورة. لكن انخفاض أسعار النفط، واستمرار الحراك الشبابي، ومشكلة انتقال السلطة بعد الرئيس بوتفليقة، ستعني أن عام 2015 يمكن أن يكون عاماً صعباً بالنسبة الى الجزائر.
كادت تونس أن تنهار في عام 2013، لكنها خطت خطوات كبيرة إلى الأمام في عام 2014. ويفترض أن تبدأ في عام 2015 جني ثمار التقدم السياسي، مع حكومة جديدة ورئيس وبرلمان جديدين. وعلى الرغم من أن التوترات سوف تتواصل بين العلمانيين والإسلاميين والتهديدات الأمنية من الجماعات المتطرفة التي تعمل عبر الحدود الليبية، إلا أن تونس ينبغي أن تكون قادرة على البدء في التركيز على القضايا الاجتماعية والاقتصادية الأساسية التي كانت دافعاً كبيراً وراء انتفاضة كانون الاول (ديسمبر) 2010.
من المرجح أن تستمر ليبيا في الشرذمة والحرب الأهلية في عام 2015. ان الطريق الوحيد للمضي قدماً هو العمل الاقليمي والدولي لحث الاطراف على معاودة الحوار والضغط لمنع التصعيد، وتقديم الدعم للمؤسسات السياسية والأمنية الناشئة التابعة للحكومة المركزية، رغم ضعفها الحالي.
ستواصل مصر مواجهة تحديات أمنية كبيرة، إضافة إلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية الصعبة. ولكن عليها التوفيق بين الأهداف الليبرالية والديموقراطية التي هللت لها في دستورها الجديد مع واقع الحملات الأمنية والقمع الذي يشهده الشارع السياسي والمدني. فقد أكد الرئيس السيسي على خطورة التهديدات الأمنية التي تواجه مصر، واتخذ قرارات اقتصادية صعبة ومهمة، ولكن عليه أيضا اتخاذ قرار بشأن شكل النظام السياسي على المدى الطويل في مصر. فالدستور على حق في الإصرار على أن الدين ينبغي أن يترك بعيدا عن السياسة، ولكن مصر يجب عليها الاستفادة من الفترة القادمة لإعادة فتح الفضاء العام للأحزاب والقادة الذين يقبلون قواعد اللعبة هذه، والعمل تدريجيا نحو بناء نظام سياسي ديموقراطي. وتشكل الانتخابات البرلمانية المؤجلة فرصة لاعادة تحريك الحياة السياسية خلال عام 2015 .
في بلاد الشام، ستواجه كل من سورية والعراق أكبر التحديات. لدى العراق على الأقل فرصة للمضي قدماً مع رئيس وزراء جديد وحكومة ائتلافية ودعم دولي يجمع بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وايران وتركيا ومعظم الدول العربية. وفي عام 2015 من المحتمل ان يحقق العراقيون انتصارات ضد تنظيم «داعش» واستعادة مدينة الموصل ومناطق محتلة اخرى واحراز تقدم في انشاء الحرس الوطني وتطوير الفيديرالية.
للأسف، يبدو أن سورية ماضية في الاتجاه المعاكس في عام 2015 نحو مزيد من القتال والخراب. الا ان العام المقبل قد يكشف أيضا عن بعض نقاط التحول. فقد شهد عام 2014 ذروة صعود «داعش»، لكنه شهد أيضا عودة الولايات المتحدة إلى بلاد الشام وإنشاء تحالف للاستمرار في معركة طويلة الأمد ضد «داعش». قد يتطور هذا في عام 2015 الى تصعيد لاعمال التحالف في سورية بشكل منطقة حظر جوي في الشمال ودخول قوات المعارضة المسلحة، التي سيتم تدريبها وتأهيلها في الاشهر القادمة، الى المعركة. وعلى الصعيد السياسي فمن غير المرجح أن يكون هناك إحياء لمحادثات جنيف برعاية الولايات المتحدة وروسيا، الا ان مبعوث الأمم المتحدة يدفع باتجاه وقف إطلاق نار في حلب، وروسيا تتوسط بين النظام وبعض اطراف المعارضة لطرح صيغة استمرار الاسد بصلاحيات مقلصة وتشكيل حكومة مع بعض رموز المعارضة.
أما بالنسبة الى لبنان، ورغم الانقسامات الطائفية والسياسية العميقة، فضلاً عن التدفق الكثيف للاجئين السوريين، فقد تمكن من الصمود في وجه العاصفة حتى الآن. لكن لا يزال لبنان من دون رئيس للجمهورية، ومدد البرلمان ولايته حتى عام 2017، مما يزيد من مخاطرعدم اجراء الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية طيلة عام 2015. ويكتسب الجيش المزيد من القدرة في حماية الحدود مع سورية ولكن الوضع الأمني في البلاد لا يزال هشا للغاية. في عام 2015، يجب على اللبنانيين تعزيز النظام السياسي من خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، كما يجب على أصدقاء لبنان الاستمرار في تقديم الدعم المطلوب للجيش.
في شبه الجزيرة العربية، يدخل اليمن فعلاً في مرحلة التفكك الوطني. كان اليمن متعثراً خلال السنوات الاخيرة، حتى قبل مرحلة الانتفاضات العربية، مع تضاؤل موارد المياه والطاقة، والانقسامات الإقليمية والقبلية الحادة، وكل هذا في ظل حكومة مركزية ضعيفة. الا انه بعد الانتفاضة، وبمساعدة وضغط من دول الخليج استطاع ان يدخل مرحلة انتقالية واعدة. ولكن الصعود الخطير للحركة الحوثية المسلحة واستيلاءها على العاصمة وإملاءاتها السياسية، كسرت هذه المرحلة الانتقالية. فصعود الحوثييين ادى الى صعود مواز لتنظيم «القاعدة»، وتراجع الاستقرار في العاصمة ادى الى تصعيد المطالبة بالانفصال من قبل الحراك الجنوبي. يواجه اليمن مخاطر الانزلاق إلى الفوضى كما في ليبيا وسورية، مع تداعيات مماثلة لليمنيين أنفسهم ولجيرانهم. واذا تطورت العلاقة بين الحوثيين وايران على نموذج «حزب الله» اللبناني، يصبح لإيران موطئ قدم جديد للضغط على المملكة العربية السعودية.
في دول مجلس التعاون الخليجي من المرجح أن تستمر الثروة النفطية والنمو الاقتصادي والنفقات العامة السخية، فضلاً عن السياسات الأمنية القوية، في توفير قدر كبير من الاستقرار الداخلي. وستستمر السعودية ودولة الإمارات في سياساتهما الخارجية الدينامية في المنطقة.
وفي إيران، سيعتمد الوضع كثيراً على نتائج المحادثات النووية المؤجلة حتى منتصف عام 2015. فنجاح المفاوضات سوف يعطي دفعة للرئيس روحاني والبراغماتيين. وإذا فشلت المحادثات، فإن هذا يمكن أن يشل رئاسة روحاني ويضاعف قوة المتشددين. في غضون ذلك، من المرجح أن تستمر سيطرة «الحرس الثوري» على سياسات إيران في العالم العربي، والداعم للتدخل الفئوي في العراق وسورية ولبنان، وفي آخر مرحلة، اليمن.
وفي تركيا، تخطى الرئيس أردوغان التحديات المتعددة التي اعترضت طريقه: احتجاجات الشباب، الخلاف مع حركة غولن، انهيار سياسته في الشرق الأوسط، وفضائح الفساد. وفاز بشكل حاسم في الانتخابات المحلية والرئاسية لعام 2014، ويتطلع إلى الانتخابات البرلمانية عام 2015 كطريق لإعادة صياغة الدستور وتوسيع سلطات الرئاسة. إن موقف أردوغان واصراره على أن الحرب ضد «داعش» لا يمكن لها المضي قدماً من دون سياسة واضحة ضد الأسد ومطالب أخرى مثل فرض منطقة حظر جوي ومنطقة عازلة قد تحظى باهتمام أكبر من جانب الولايات المتحدة في عام 2015، ومن ناحية أخرى، فإن رفضه إغاثة كوباني في وقت مبكر تسبب في رد فعل كردي قوي في تركيا كما تسبب في انتكاس جهوده للحفاظ على الدعم الانتخابي الكردي وإبرام اتفاق مع أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني.
أما في الساحة الفلسطينية - الاسرائيلية، سيشكل نتانياهو حكومة اكثر تشدداً بعد انتخابات الكنيست المتوقعة في شهر آذار (مارس)، بينما قد يدفع اليأس بالفلسطينيين الى اطلاق انتفاضة ثالثة، انطلاقاً من القدس. واذا حصل ذلك قد يقلب مقاييس كثيرة في السياسات الاقليمية والدولية ويعيد خلط الاوراق والحسابات.
مرّة جديدة، بعد مفاوضات «جنيف 2» (قبل عام)، تواجه قوى الثورة السورية اختبار المفاوضة مع النظام. الفارق أن المفاوضات السابقة كانت تركّز على إيجاد تفاهمات من فوق، أي بين النظام والمعارضة المتمثلة بـ «الائتلاف الوطني»، في حين يفترض أن تجري المفاوضات الحالية في الميدان، أي في نقاط التماس، وعلى أساس تجميد، أو فك الاشتباك، بين القوى المتحاربة، بحسب اقتراح ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية.
المشكلة أن قوى الثورة والمعارضة تواجه هذا الاستحقاق في أوضاع غير مريحة، حتى بالقياس للجولة التفاوضية السابقة، إذ إنها أقل وحدة، وأكثر ضعفاً، من السابق، سواء في هيئاتها السياسية أو تشكيلاتها العسكرية. فوق ذلك فهذه القوى باتت في مواجهة تحديات وتعقيدات جديدة، أهمها صعود «داعش» و «النصرة» في المشهد السوري، مع ما يخلفه ذلك من تداعيات تتعلق بتركيز الجهد الدولي في الحرب على الإرهاب.
وعلى رغم أن هذا التحول يثير المخاوف من احتمال انزلاق الوضع نحو تقديم طوق نجاة للنظام، إلا أن ردود الفعل على مقترح المبعوث الدولي تفيد بأن رفض قوى الثورة لفكرة المفاوضة باتت أقل حدّة من السابق، وأنها بدلاً من ذلك باتت تسعى إلى تطوير فكرة «التجميد» بحيث تشتمل على مناطق أخرى، إضافة إلى منطقة حلب، بحيث لا يتمكن النظام من استغلال هذه الخطوة لصالحه، وهو ما أكده أيضاً المبعوث الدولي في أحد تصريحاته. والفكرة الثانية التي تطرحها المعارضة تتمثل بضرورة أن تفضي هذه الخطة إلى حل سياسي، يتضمن تشكيل هيئة حكم انتقالية، بحسب مضمون اتفاق «جنيف 1» (حزيران/يونيو 2012) التي كانت رفضته وقتها جملة وتفصيلاً.
هكذا، احتاجت المعارضة السورية فترة زمنية قدرها عامان ونصف العام كي تصل إلى هذه المرحلة، مع كل الأثمان التي دفعها السوريون، والأهوال التي اختبروها، ومع كل التغيرات الحاصلة في المشهد السوري.
وفي الواقع شهت هذه الفترة أقصى قدر من العنف من قبل النظام، الذي تسبب ما نجم عنه بمصرع حوالى ربع مليون سوري، وتدمير عمران مدن سورية، وتشريد الملايين من بيوتهم. كما شهدت هذه الفترة تحول الثورة إلى العمل المسلح، وتصدر التيارات الإسلامية المتطرفة، وتطبيع الصراع بالصبغة الطائفية، وصولاً إلى الحضور الطاغي لتنظيم «داعش» في المشهدين العراقي والسوري. ونجمت عن كل هذه التطورات ظاهرتان، أولاهما، تتمثل بتآكل دور السوريين في الثورة، وفي تقرير أحوالهم ومستقبلهم، ناهيك عن تمزق مجتمعهم، وتشرد الملايين منه. وثانيتهما، تزايد حجم التدخلات الخارجية السلبية والمضرّة في الشأن السوري، من قبل «أصدقاء» النظام و «أصدقاء» الشعب، إلى درجة بات فيها العامل الخارجي هو المقرّر، لا سيما مع ارتهان النظام والثورة للأطراف الخارجية.
طبعاً ليست ثمة مشكلة من حيث المبدأ في التفاوض، ذلك أن أي صراع مهما كان نوعه لا بد أن يصل إلى مرحلة تتّجه فيها أطرافه إلى الحوار لإيجاد مخرج سياسي من الوضع الحاصل، لا سيما مع تعذر الحسم على أي منها بوسائل القوة.
وعلى الأخص، فهذا الأمر ينطبق على قوى الثورة والمعارضة. فهي المعنية أساساً بتأكيد شرعيتها وحضورها، والحفاظ على زخم التعاطف الدولي معها، وتحميل النظام مسؤولية رفض التفاوض. وقد كانت التجربة التفاوضية السابقة، في جنيف (مطلع هذا العام)، إيجابية، إذ لم تخسر المعارضة شيئاً بخوضها هذا الاختبار، بل حظيت بقبول وتعاطف كبيرين في الرأي العام، لا سيما مع الأداء المدروس والمتوازن الذي قدمته في المفاوضات وأمام وسائل الإعلام، بالقياس لأداء وفد النظام.
فوق ذلك فإن قوى الثورة والمعارضة، وبعد كل ما حصل، هي المعنية بمراعاة مصلحة السوريين، والتي تتضمن حض وقف إطلاق النار، وضمنه وقف القصف المدفعي والجوي، المنفلت من كل المعايير، الذي يدمر البيئات الشعبية الحاضنة للثورة، ويلحق أفدح الأضرار بالسوريين وبعمرانهم. بل إن قوى الثورة والمعارضة معنية بالعمل على تضمين اقتراح وقف إطلاق النار مطالب أخرى، من مثل الإفراج عن المعتقلين، وإدخال مواد تموينية وطبية إلى المناطق المحاصرة، وتمكين النازحين من العودة إلى بيوتهم. أي أن المطلوب التوسع في طرح المطالب ذات الطابع الميداني، والتي تخدم وقف تدهور مجتمع السوريين، وتمكنه من التقاط أنفاسه، على أن يتم ربط كل ذلك بأفق سياسي يتمثل بإقامة حكم انتقالي، بحسب مضمون بيان «جنيف 1».
القصد أن أي عملية تفاوضية على هذه الأسس لن تخل بمبادئ الثورة السورية، ولا بأهدافها، لا سيما أن مقولة «سورية الأسد إلى الأبد»، انكسرت وانتهت إلى الأبد، من الناحية العملية، والمسألة على هذا الصعيد باتت تتعلق بالوقت وبالظروف، وبتوفر العوامل المناسبة للتأسيس للمرحلة الانتقالية.
في الغضون فإن قوى الثورة والمعارضة معنية بإعادة ترتيب أوضاعها، وتنظيم صفوفها، وتقوية مجتمعها، والعمل على كل ما من شأنه تخفيض اثمان الصراع الدائر في سورية، لا سيما مع إدراك حجم التعقيدات والمداخلات والتحديات الكامنة فيه، إلى حين توافر المعطيات الدولية والإقليمية والعربية التي تسمح بالتغيير السياسي في سورية.
هل كانت مصادفة محضة أنّ ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي الحالي، الذي كان شخصية محورية في السفارة الروسية في دمشق مطالع ثمانينات القرن الماضي؛ رافق رفعت الأسد، صحبة اللواءين علي حيدر وشفيق فياض، على متن الطائرة التي أقلّت المجموعة إلى موسكو، ضمن إجراء «نفي» تمهيدي فرضه حافظ الأسد على الثلاثة، بعد استفاقته من غيبوبة المرض الشهيرة؛ تفادياً لصدامات عسكرية مباشرة كانت مرشحة للاندلاع بين ثلاثة من أهمّ تشكيلات النظام العسكرية: «سرايا الدفاع» من جهة، و»الوحدات الخاصة»، والفرقة الثالثة من جهة ثانية؟
وكم من الأسباب الوجيهة كانت قد توفرت لدى كبار موظفي السفارة الأمريكية في دمشق، قبل أن يقرروا أنّ زميلهم الروسي يستحق صفة «المستر سوريا»؛ وأنّ الإصغاء إلى ما يسرّبه من معلومات، عامداً بالطبع، وعفو خاطر الزمالة نادراً، يظلّ كنزاً ثميناً حول الحلقة الأعلى المحيطة بالأسد، الأب آنذاك، خاصة في صفوف ضباط الجيش والأمن؟ ولماذا حرص بوغدانوف على إبلاغ زملائه الأمريكيين أنّ موسكو «سعيدة جداً» لأنّ الأسد استقرّ على اختيار ابنه بشار، وليس أيّ مدني أو عسكري آخر، خليفة له؛ بعد وفاة شقيقه باسل في حادث سيارة، سنة 1994 (كما تروي برقية من السفارة الأمريكية مؤرخة في 7/2/1994، كشفتها منظومة «ويكيليكس»)؟
من الإنصاف الافتراض، استطراداً، أنّ العهدة إلى بوغدانوف بإدارة الملفّ السوري، حتى على حساب رئيسه المباشر، وزير الخارجية سيرغي لافروف؛ هو طراز من تطبيق القاعدة العتيقة، حول وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. ومنذ انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا، أواخر آذار (مارس) 2011، وحتى يوم أمس، حين اختتم بوغدانوف جولة في بيروت واسطنبول ودمشق؛ مارس «المستر سوريا» مهارات شتى، متباينة متغايرة بالضرورة، ولكنها لا تكاد تغادر أسلوباً واحداً مزدوج الفعل: طاسة ساخنة تارة، وأخرى باردة طوراً، كما في المثل الشعبي الشهير.
في بيروت، على سبيل المثال الأوّل، أسمع حسن نصر الله، الأمين العام لـ»حزب الله»، كلاماً حول «التكفير» و»الإرهاب» و»المقاومة» وإيران ودور الحزب… لا يُعلى عليه، ولا يناقض كثيراً ما درج نصر الله نفسه على استعراضه، واجتراره، في خطبه حول سوريا، خاصة بعد الانتفاضة. وحين اجتمع، في مثال ثانٍ، مع وفود «المعارضة السورية الداخلية»، من حسن عبد العظيم، المنسق العام لـ»هيئة التنسيق الوطنية»، إلى ممثلي «تيار بناء الدولة» و»ملتقى الحوار الوطني السوري»؛ توصل مع هؤلاء إلى بيانات لا تخرج أبداً عن اللغة الخشبية ذاتها، حول «ضرورة العمل على توحيد الجهود من أجل إطلاق الحل السياسي في سوريا».
وحتى حين بدا لقاؤه مع هادي البحرة، رئيس «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، وبعض أعضاء الهيئة السياسية للائتلاف، مختلفاً أو خلافياً؛ رشق بوغدانوف على ممثلي «المعارضة السورية الخارجية» طاسات مماثلة، أو تكاد، فاتفق معهم على «ضرورة الإسراع بإيجاد الطرق للدفع نحو عملية سياسية تفاوضية تؤدي إلى تحقيق تطلعات الشعب السوري»، كما توافق المتباحثون على «أن يشكل بيان جنيف 2012 إطاراً تفاوضياً مقبولاً، تُبنى عليه أي عملية تفاوضية مستقبلية»، كما جاء في الإعلان الرسمي الذي صدر عن الائتلاف.
المثال الثالث هو لقاء بوغدانوف مع الأسد، في دمشق، حيث نقل للأخير رسالة شفوية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، «حول استمرار روسيا في دعمها ووقوفها إلى جانب الشعب السوري»، كما «أطلعه على مجمل اللقاءات التي عقدها أخيراً في إطار الجهود التي تبذلها روسيا لإجراء حوار سوري ـ سوري»؛ وفي المقابل، «أكد الأسد أن سوريا تتعامل بإيجابية مع الجهود التي تبذلها موسكو بهدف إيجاد حل للأزمة»، استناداً إلى «سانا»، وكالة أنباء النظام. وكأنّ زيارة دمشق كانت مجرد استطالة للقاء بوتين ولافروف مع وزير خارجية النظام، وليد المعلم، في سوشي، مؤخراً، حيث سادت اللغة الخشبية أيضاً: أعرب المعلم عن ارتياحه لنتائج المباحثات، معلناً أنّ بوتين أكد تصميم روسيا الاتحادية على التعاون مع سوريا، ومع الأسد شخصياً، «من أجل الانتصار على الإرهاب»، و»تعميق علاقات الشراكة الاستراتيجية القائمة بين البلدين»؛ على ذمة «سانا»، دائماً.
غير أنّ بوغدانوف، ولأنه أحد أذكى دبلوماسيي موسكو، وأعلاهم خبرة بالملفّ السوري، وبمعمار النظام وطبائعه تحديداً؛ لم يباشر هذه الجولة لكي يهنىء اللبنانيين بالذكرى السبعين للعلاقات الدبلوماسية بين موسكو وبيروت، أو ليستمتع ببعض مفاجآت ربع الساعة الأخير في الضاحية الجنوبية قبيل نقله للقاء نصر الله، أو ليكحّل عينيه بمرأى ممثّلي المعارضة السورية «الداخلية» و«الخارجية»، أو يستعيد بعض ذكرياته الثمانينية مع الفتى بشار الأسد… لقد جاء، أغلب الظنّ، لأنّ موسكو أخذت تستشعر رياحاً مختلفة في أجواء أربع سنوات من المساندة العمياء للنظام السوري؛ لم تعد تليق ـ على أصعدة التكتيك أوّلاً، ثمّ الستراتيجيات العليا الجيو ـ سياسية ـ بقوّة عظمى: هي الثانية على مستوى كوني، وهي مأزومة مثل عشرات الدول النامية!
ثمة، بادىء ذي بدء، هذا الانزلاق الأمريكي التدريجي نحو «منطق تدخّل» موضوعي في سوريا، أسوة بالعراق؛ لن تفلح عقيدة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ضبطه عند الحدود التي تشبث بها سيد البيت الأبيض منذ الأسابيع الأولى لاتضاح مأزق النظام السوري الشامل. وثمة، بالتضافر مع هذا، منطق تصعيدي أمريكي، تلتقي فيه أوروبا أيضاً، بصدد دفع موسكو إلى مضائق خانقة، عبر منعرجات الملف الأوكراني والعقوبات الاقتصادية وتقلبات أسعار النفط.
وثمة، ثالثاً، الأمدية القصوى التي يمكن أن تلتزم بها موسكو في دعم الأسد، بالقياس إلى الحاجات المتزايدة لنظام آخذ في التآكل والتبعية والارتهان، من جهة؛ وقدرة إيران، الحليف الثاني للأسد، على التخفيف من أعباء الكرملين في هذا الصدد، بالنظر تحديداً إلى أنّ بارومتر طهران في مساندة الأسد ليس مفتوح السقوف، حتى إذا كان مرتفعاً، وأنّ مفاوضات الملفّ النووي مع الغرب ذات صلة وثيقة بمدرّجات الصعود أو الهبوط في المؤشر، من جهة ثانية.
بذلك فإنّ مبادرات بوغدانوف، أو بالأحرى: طاساته، تظلّ أقرب إلى الرقص على حبال زلقة، من شاهق تكتنفه مخاطر السقوط دائماً؛ حتى إشعار آخر، غير محدد، وليست موسكو هي الضابط الأوّل لتوقيتاته. وليست تلميحات بوغدانوف إلى إمكانية التحاور مع أمريكا، إذا طُبخت مبادرة معقولة حول حوار سوري ـ سوري ترعاه موسكو (مقابل تصريحات لافروف، بأنّ واشنطن تجهد ضمناً لإسقاط الأسد)؛ إلا وجهة أولى، منكشفة، حول مزالق ذلك الرقص على الحبال.
والودّ القديم الذي جمع الدبلوماسي الروسي المخضرم بزملائه الأمريكيين، أيام السفارة في دمشق، قد لا يفيد كثيراً في شدّ حبال الرقص الراهن، أو تفادي الانزلاق؛ إذْ قد تكون نوايا معاكسة هي الحال بالفعل، وأنّ الزملاء يتربصون أكثر مما يعينون!
والمرء، مجدداً، يتمنى أن تلعب موسكو أي دور حيوي يكسر نظام القطب الأمريكي الواحد، لولا أنّ التعويل على روسيا الراهنة هو ضرب من الاتكاء على قوّة عالقة في شباك مآزقها المحلية والوطنية ذاتها، قبل مآزق الكون. وليس جديداً التذكير بأنّ روسيا تعاني من وتضخّم وعجز وبطالة، وعصابات مافيا، وتحديث ليبرالي شائه، ومؤسسة رئاسية احتكارية شبه دكتاتورية… وهيهات، بالتالي، أن يفلح بوغدانوف في إتمام رقصة واحدة، في سوريا تحديداً، على حبال فُتلت من مادّة الهشاشة هذه!
كتب هذا المقال قبل صدور البيان الختامي للقمة الخليجية، لكنه يطرح رؤية في ملف مهم جدا لدول الخليج العربي، هو تركيا، الدولة الصاعدة والأمة الناطقة بلغتها والتي تستعيد اليوم حضورها في آسيا الوسطى والبلقان وغيرهما، وتمثل بحد ذاتها محورا إقليميا قويا في الشرق الإسلامي والمشرق العربي.
لذلك يجدر بنا أن نقرأ هذا الصعود التركي الجديد والمتماسك قبل الاستطراد في مصالح الخليج العربي المشتركة أو المتقاطعة مع أنقرة، وهو يطرح اليوم في هذا المنظور السياسي الإقليمي المهم جدا للخليج العربي، في ظل عواصف وتغيرات كبيرة تعيشها المنطقة وتداخلات الحدود والصراعات.
كما أن هذه الرؤية تأتي في ظل ما يُطرح من أطراف خليجية إعلامية أو تلميحات وتصريحات سياسية، بأن على دول الخليج العربي التقدم نحو مد جسور علاقات مكثفة مع إيران ومناهضة لتركيا، باعتبار أن طهران مؤتمنة ومتحفزة لعلاقات شراكة مع الخليج العربي. فهل هذا الميزان صحيح ودقيق؟
"الخلاف الكبير مع تركيا يتركز أساسا حول موقفها من الربيع العربي ودعم تطلعات شعوبه، وهو موقف مبدئي وإنساني لا تجسيد له في أي صور سياسية تنفيذية، رغم أن أحداث وعمليات إسقاط الربيع العربي تتواصل دمويا وسياسيا في كل أقطاره"
الحقيقة أن التحمس العاطفي نحو إيران لتقديم تنازلات لها على الساحة الخليجية، والتجاوب معها فيما تصيغه مع الولايات المتحدة لمستقبل سوريا والعراق أو لبنان، مناكفة لأنقرة أو متابعة لرغبة واشنطن في احتواء دول الخليج العربي مع طهران لتسوية الملفات الإقليمية.. هذا التحمس لا يخلو من سطحية لا تتماشى مع منظور المصالح الإستراتيجية المطلوب اعتمادها.
وهذا لا يعني أن أبواب التفاوض والحوار مع إيران ممنوعة، فهذا يخالف أصل المسار الدبلوماسي وسياساته، لكن المقصود أن طهران اليوم والأمس متمكنة من مفاصل حساسة في المنطقة وتضغط باتجاه يقلص الحضور العربي وحقوق الشعوب، مقابل قوة نفوذها واستمرارها في ضخ أسباب الاحتقان الطائفي الذي تعيشه عدة دول وترى فيه طهران حصان طروادة لن تتخلى عنه.
إن إعادة كشف الحساب لآخر الملفات بين طهران والخليج العربي في اليمن أظهر لدول الخليج العربي وخاصة السعودية التي غيرت من تعاطيها مع المشهد الأخير، حجم ما يمكن أن تحققه جماعات إيران السياسية الطائفية في توازنات اليمن وعلاقته بالعمق العربي الإسلامي والوطني الاجتماعي في الخليج العربي، والملفات كُثر في هذا الاتجاه، الذي يؤكد أن قدرات الخليج العربي معدومة تفاوضيا لأنها فاقدة لبطاقات النفوذ مع طهران، وهذا ما يثير علامات استفهام كبيرة عن برنامج التنازلات المقترح لطهران.
في المقابل، يتركز الملف الخلافي الكبير مع تركيا أساسا حول موقفها من الربيع العربي ودعم تطلعات شعوبه، وتثبيت موقفها في إطار مبدئي وإنساني دون تجسيده في أي صورة سياسية تنفيذية، رغم أن أحداث وعمليات إسقاط الربيع العربي تتواصل دمويا وسياسيا في كل أقطاره، ولعل موقف تركيا المبدئي والإعلامي هو سبب "الاحتقان" الحاصل في علاقاتها مع بعض الأطراف العربية.
كما أن العجز عن إسقاط حكم حزب العدالة بعد الحسم في الانتخابات البلدية والرئاسية، وقوة بنائه السياسي والالتفاف الشعبي معه، يعطي مؤشرا على أن هذا الثبات السياسي في تركيا سيأخذ مدارا مستقرا لسنوات أمام عواصف المنطقة، ولديه قدرات لمواجهة أزماته الداخلية ومحاولات أي محاور لزج تركيا إلى منطقة صراع خارج قرار سياستها السيادية.
وتلك قضية مهمة بالنسبة للمجلس الخليجي ضمن أعراف التعامل الدبلوماسي، فالوضع المستقر في تركيا يتطلب الاعتراف به والتعامل معه في إطار مصلحي، وأي مراقب يُدرك أن البراغماتية حاضرة في سياسة أنقرة، بل وتتعزز في ظل إمساك منظر العهد الجديد أحمد داود أوغلو بالبرنامج الحكومي الشامل وتناغمه مع الرئيس رجب طيب أردوغان.
المنطق ذاته هو ما تتعاطى بواسطته مع الأتراك، أوروبا وأميركا وروسيا كما اتضح في زيارة بوتين الأخيرة لتركيا، فلماذا يُطلب من دول الخليج أن تنزع إلى مواجهة أو تصعيد مع أنقرة؟
"الاحتواء المزدوج لتنظيم الدولة وإيران يمكن تحقيقه عبر شراكة تركية خليجية لا يُقصد منها مواجهة عسكرية مع إيران ولا احتقان طائفي، ولكنه التعاط الفاعل مع حقيبة ملفات من العراق إلى اليمن وصولا إلى ضمان أمن إستراتيجي في البحرين"
إن المواقف المبدئية لتركيا التي تتناغم مع مشاعر الرأي العام العربي، ونجاح الديمقراطية التركية لا علاقة لهما بجداول الدول التي تسعى لتحقيق مصالحها وتختلف مع أنقرة في هذه الملفات، واختيار الحزب ذي الأصول الإسلامية -ضمن تحولات كبرى شهدتها تركيا منذ سقوط الدولة العثمانية وعزل سلاطينها- سبق الربيع العربي بسنوات.
أما بالنسبة لدول الخليج العربي فإن متطلبات المرحلة تفرض حاجتها إلى محور رديف أو داعم أو صديق في ظل هذه التحولات الكبرى، ولذلك يفترض أن يتم البناء على إمكانياته وعلاقاته وجسوره المتاحة في الجوار وليس نقضها، وإن القاعدة الاجتماعية السياسية في تركيا اليوم منفصلة تماما عن أي استقطاب أو صراع ذي طبيعة طائفية أو قومية أو عرقية مع دول الخليج العربي، مما يعني غياب أي مهددات تدخل سلبية مع الخليج العربي، وقصة عودة السلطنة هي مناكفات إعلامية ساخرة لا أكثر، فتركيا اليوم تُصنع دستوريا بدولة حديثة وبرلمان لا بفرمانات سلطانية.
إن علاقة تركيا الداخلية بطوائفها قوية ومستقرة حقوقيا وسياسيا، وأتباع المذهب الاثني عشري الشيعي لهم كافة الحقوق الوطنية الدستورية وينالون اعتناء في مناسباتهم الدينية المنظمة قانونيا، وليس لديهم صدامات مع حزب العدالة الحاكم، في الوقت الذي تخالف فيه أنقرة سياسات إيران التوسعية في المنطقة فتدير صراعها السياسي معها بمعزل عن أي ضغط على أبناء الطائفة رغم تداخل البعد الثقافي والأيدولوجي.
هنا ستقفز العديد من الملفات لمصالح الخليج العربي مع أنقرة لتستدعي إقامة حوار إستراتيجي وتنسيق للمواقف في عدة ملفات ستحصد فيها دول الخليج العربي فوائد كبيرة، خاصة في حجم دولة مركزية عربية مهمة كالسعودية، فما يمكن أن يُطلق عليه الاحتواء المزدوج لتنظيم الدولة الإسلامية وإيران يمكن تحقيقه عبر شراكة تركية خليجية لا يُقصد منها مواجهة عسكرية مع إيران ولا احتقان طائفي، ولكنه التعاطي الفاعل مع حقيبة ملفات من العراق إلى اليمن وصولا إلى تأمين أمن إستراتيجي في البحرين عبر هذه الترويكا المهمة والحيوية للجانبين التركي والخليجي العربي.
ومن المهم هنا في خاتمة المقال أن نذكر بأن قاعدة الاستقطاب الدبلوماسي للمصالح مسار مهم جدا لدول الخليج العربي التي هي بحاجة اليوم بعد معالجة أزمة انقسام المجلس، ألا تخسر بعدا إقليميا مهما كتركيا بفنتازيا إعلامية صاخبة، فأخطاء اليوم تفقدك الدعم لكوارث الغد.
حملت زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تركيا، وقد التقى فيها نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، أقاويل كثيرة، بتوقيتها ومضمونها، على الرغم من الإعلان الرسمي عن زيادة التبادل التجاري بين البلدين. فالعلاقات التجارية، والتي تشكّل حاجة لهما، ولا سيما في مجال الطاقة، وخصوصاً الغاز الروسي الذي يصل عبر الأنابيب التركية، إضافة إلى حاجة روسيا لرفع العزلة عنها، بعد العقوبات الأخيرة التي فرضها الغرب على خلفية الملف الأوكراني. ذلك كله طرح أسئلة عديدة، ليس فقط حول الحاجة الاقتصادية، بل العلاقات السياسية، خصوصاً أن الخلاف لا يزال قائما على خلفية الموقف من الأزمة في سورية، وموقف أردوغان شخصيا الداعي إلى إطاحة الرئيس السوري بشار الأسد.
جاءت الزيارة، أيضاً، بعد سلسلة لقاءات عُقدت في موسكو، وجمعت المعارضة السورية كما النظام، كلّا على حدة، من أجل استطلاع الأجواء، لإعادة البحث في جنيف1، واستكمال العملية السياسية. ولو أن التوقيت يبقى رهناً ببقية اللاعبين الإقليميين والدوليين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وإيران والسعودية وتركيا وأوروبا، كما في الظروف على الأرض، ولا سيما أن الموفد الدولي، ستيفان دي ميستورا، كان قد اقترح تجميداً للمعارك في حلب، وهو طلب لم يتم اعتماده بعد، إلا أن مراقبين عديدين رأوا في هذا الطلب موقفاً دولياً إيجابياً، باتجاه تشجيع العملية السياسية.
" تحمّل روسيا موضوع انخفاض أسعار النفط للسعودية والولايات المتحدة الأميركية، للضغط عليها وعلى طهران "
تم في زيارة بوتين إلى تركيا، والتي سبقتها لقاءات لوزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل في موسكو، البحث، أيضاً، في الملف السوري، إضافة الى موضوع انخفاض أسعار النفط الذي تحمّله روسيا للسعودية والولايات المتحدة الأميركية، للضغط عليها وعلى طهران، نتيجة خسارتهم العائدات النفطية، تبعتها زيارة للموفد الرئاسي الروسي، ميخائيل بوغدانوف، إلى لبنان، وهي محطة مهمة في إطار الدور الروسي الاستكشافي.
زيارة بوغدانوف التي حرص فيها على عقد اجتماعين مع حزب الله، مع رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، النائب محمد رعد، ومع الأمين العام للحزب، السيد حسن نصرالله، أراد منها الموفد الروسي البحث في التطورات السورية الميدانية والاستماع لوجهة نظر حزب الله المشارك على الأرض، كما البحث في ملف الإرهاب، لما يشكله هذا الملف من هاجس للإدارة الروسية، بعد المعاناة التي عاشتها موسكو، نتيجة العمليات الإرهابية، وهي التي كانت قد طرحت الملف أولوية في مؤتمر جنيف2 الذي بحث في العملية السياسية السورية.
الدبلوماسي بوغدانوف، وعلى الرغم من كلامه عن دعم الاستقرار في لبنان، وحديثه عن قناعته بسياسة النأي بالنفس وإعلان بعبدا، إلا أنه لم يشأ إعطاء انطباع بأنه يحمل مقترحات معينة، فيما يتعلق بالأمور العالقة في الداخل اللبناني، ولا سيما موضوع رئاسة الجمهورية، لأنه جاء مستطلعا الشأن السوري من البوابة اللبنانية، ومن هنا، اهتمامه الفعلي للقاء قيادات حزب الله.
صحيح أن روسيا موجودة في المنطقة، ولديها قواعدها في سورية، وصحيح أن طموحاتها بلعب دور سياسي في المنطقة مشروعة، نتيجة علاقاتها مع النظام في سورية، إلا أن هذه الجولة الاستطلاعية لبوتين في تركيا لم تستطع أن تتجاوز الحاجة الاقتصادية للبلدين، مع فتح الأفق المستقبلي في السياسة، من أجل إدارة الخلاف في الملف السوري، الذي لا يزال الحل السياسي فيه يحتاج إلى أكثر من عمليات الاستطلاع.
خلال الأشهر الاثني عشر الماضية تباهى نظام الأسد مراراً وتكراراً بثقته إزاء تحسّن وضعه الاستراتيجي. فقد حفّزه التقدّم البرّي في بعض الجبهات، خصوصاً حول حلب، وفي أجزاء من ريف حماة وحمص، وفي منطقة القلمون والمناطق المجاورة للعاصمة دمشق، على الحفاظ على نهجه المتشدّد في التعاطي مع الثورة السورية العنيدة. ويركّز هذا النهج على العمل العسكري، إلى الحدّ الذي يتم فيه الاستبعاد الكامل لأي عملية سياسية قد تنطوي على إصلاحات ذات صدقيّة في أي مجال من مجالات السياسة العامة، ناهيك عن تقاسم ذي معنى للسلطة. بيد أن النظام بات يعاني في شكل متزايد من التمدّد الزائد عسكريّاً وماليّاً، بالتالي فإن رفضه تغيير نمط تعامله سياسياً مع حاضنته الشعبية، ناهيك عن خصومه، يعرّضه للخطر.
على رغم أهمية المكاسب التي حققها النظام، وإمكان أن تكمِل قواته تطويق مدينة حلب، يبدو جلياً أنه أصبح أكثر ضعفاً في أجزاء أخرى من البلاد. فقد حقق تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) مكاسب إضافية في شرق محافظتي حماة وحمص، حيث يمكن نظرياً أن يخترق خطوط النظام ليندفع باتجاه إدلب أو القلمون. كما حققت التحالفات المحلية بين بعض الثوار المعتدلين و «جبهة النصرة» المرتبطة بتنظيم «القاعدة» مكاسب كبيرة في الجنوب وجنوب غربي دمشق، وعادت إلى الظهور في منطقة القلمون. بالتالي، فإن هذا الوضع يجبر النظام على وقف هجماته في الشمال ويشتّت جهوده العسكرية، في وقت يتعيّن عليه أيضاً مواجهة الضغط المتزايد من جانب «داعش» على معقله الأخير المتبقي في مدينة دير الزور في الشرق.
لقد أشار كثرٌ من المعلقين إلى أن النظام يستدعي جنود الاحتياط الذين أدّوا أصلاً خدمتهم العسكرية، وينقل المجندين من «قوات الدفاع الوطني»، حيث سمح لهم بالخدمة سابقاً، إلى الجيش النظامي. ومغزى ذلك هو أنه يشير إلى تفاقم النقص في عديد القوى المقاتلة. بالتالي، أصبح من الصعب على قوات النظام دعم وإسناد خط المواجهة في جميع النقاط، في آن واحد. فقد اضطر الجيش مراراً وتكراراً إلى إرسال وحدات قتالية مجرَّبة ومتمرِّسة من نقطة ضعيفة إلى أخرى بطريقة أشبه بعمليات الإطفاء، كلما تراجعت الميليشيات غير النظامية التي يعتمد عليها. وتؤكد المصادر العسكرية من الداخل أن التردد في الاستيلاء على مدينة حلب، وهي الجائزة الكبرى، إنما يدل على افتقار الجيش الى الفرق الكافية لإنجاز هذه المهمة المكلفة بشرياً.
بيد أن النظام لم يفقد إلى الآن تفوقه على معارضيه. فكثافة وتحصين مواقع الجيش وتدفق التكنولوجيا العسكرية الروسية الجديدة تعني أن ثمّة معارك صعبة تنتظر «داعش» قبل أن ينتزع حقول الغاز نهائياً في «جبل الشاعر»، التي هي الآن تحت السيطرة المحكمة للجيش مرة أخرى، أو دير الزور من النظام. لكن، حتى لو أمكن النظام رد تقدم الثوار أو «داعش» في منطقة أو أخرى، فإن أي خسارة كبيرة جديدة للأرواح في صفوف الجيش، كما حدث في مطار الطبقة في آب (أغسطس) الماضي، أو أي تهديد مباشر للمناطق الموالية، سيكون له أثر نفسي قوي على القاعدة المجتمعية للنظام التي بدأت تُظهر على مدى أشهر تزايد مشاعر الاستياء إزاء الخسائر البشرية المتواصلة، وتردّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية.
وفي الوقت ذاته، فإن قدرة النظام على احتواء المعارضة داخل الدوائر الموالية له، من طريق الإعانات والتعويضات لأسر القتلى على سبيل المثل، آخذة في التناقص بسبب العجز المالي المتفاقم. وهذا أيضاً يزيد من صعوبة استيراد احتياجاته من الوقود والطاقة، حيث أدّت الضربات الجوية التي تشنّها الولايات المتحدة على مصافي النفط التي يسيطر عليها «داعش» في الشرق، والهجمات التي يشنّها التنظيم على محطات معالجة الغاز الطبيعي التابعة للنظام، إلى خفض إنتاج الكهرباء مع بدء فصل الشتاء. وقد انخفضت المساعدات الإيرانية، ومن المستبعد أن تعود إلى مستوياتها السابقة في ضوء الانخفاض الحادّ في أسعار النفط العالمية. ويقال كذلك إن روسيا رفضت طلب النظام أخيراً توفير تسهيلات ائتمانية جديدة بقيمة بليون دولار، وهي تكتفي بتقديم كميات أصغر من المعونة والاستثمارات. ويقدّر بعض الاقتصاديين أن أموال النظام ستنفد قبل نهاية عام 2015. وحتى لو كانت تلك التقديرات تبالغ في حجم التحدّي، أو تقلِّل من حجم الاحتياط المالي المخفي، إلا أنها تقلّص خيارات النظام الخاصة بمواصلة سياساته الحالية إلى أجل غير مسمّى.
لا ترقى المعارضة في الأوساط الموالية حتى الآن إلى درجة تشكيل أزمة سياسية حادّة. بيد أن هذا الأمر قد يتغيّر مع بروز تحوّلات استراتيجية على الأرض. ذلك أن عودة «جبهة النصرة» إلى الظهور باعتبارها قوة متمرّدة بارزة، على الأخص، تشير إلى أن الصراع المسلح في جزء كبير من سورية (باستثناء الجيوب الكردية) قد يتقلّص ليقتصر على الأطراف المسلحة الرئيسية الثلاثة خلال الأشهر المقبلة: النظام وتنظيم «الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة» (التي قد تعمل كإطار تنسيقي لجماعات الثوار المعتدلين التي توافق على العمل معها). وبدلاً من مواجهة تمرّد مسلح كان استثنائياً في تفتّته، وبطء تطوّره العملياتي والسياسي، سيواجه النظام حركتين مسلحتين، تنظيم «الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة»، أظهرتا مستوى أعلى بكثير من قدرة القيادة والسيطرة.
على المدى القصير، سيصوّر النظام هذا أنه دليل لا جدال فيه على ما ادّعاه طوال الوقت من أن معارضيه الحقيقيين هم كل المتطرّفين الجهاديين، ويقدّم نفسه مرة أخرى كحليف واضح وطبيعي للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة «داعش». وقد علّق الأسد آماله على مثل هذا التحالف بوضوح، عندما تحدث إلى مجلة «باري ماتش» الفرنسية في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، مدّعياً أنه «لا يمكن تدمير الإرهاب من الجو، ولا يمكن تحقيق النتائج على الأرض من دون وجود قوات برّية تعرف تفاصيل المناطق الجغرافية وتتحرك بالتزامن مع الضربات الجوية».
لكن، إذا خيّبت الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف آمال الأسد، كما هو مرجّح، فسيتعرّض النظام لضغوط متزايدة داخلياً. فبعد أن فقد الميزة الحاسمة المتمثّلة بتفوّقه النسبي على التمرّد المسلح في السابق، سيحتاج إلى إيجاد موارد محلية وخارجية أكبر. غير أن هذه الموارد بلغت حدّها الأقصى فعلياً، ولا تمكن زيادتها من دون دفع ثمن سياسي باهظ. وعلى المستوى المحلي، سيجهد النظام للاحتفاظ بسيطرته الفضفاضة على الكتل العسكرية والاقتصادية شبه المستقلّة التي شجّع على ظهورها كوسيلة لتحويل عبء الدفاع وإيجاد الإيرادات في المناطق الموالية. وإذا كان النظام يبدو غير قادر على حماية المراكز السكانية الضعيفة أو تخفيف الضغوط المالية على الجماعات الموالية، أو غير راغب في تحقيق كل ذلك، فقد تبدأ جبهته الداخلية بالتداعي.
لا تزال هذه اتجاهات محتملة، ليس أكثر. وقد ردّ النظام حتى الآن على هذه التحديات بتكثيف التدابير الأمنية وتركيز السيطرة في يد الأسد. وعلى رغم أنه استخدم تلك السيطرة في بعض الأحيان لتعزيز سياسة «المصالحة» كما يطلق عليها النظام في بعض ضواحي دمشق، إلا أن سعيه إلى السيطرة على أدق التفاصيل، يكشف عجزه عن ضمان انصياع المجتمع للسياسات الحكومية، مثل الامتثال للخدمة العسكرية، أو الأداء الفعّال من جانب أجهزته القسرية المختلفة. وحين يتباهى بعض كبار الضباط بأن الجيش سينتقل إلى استرجاع الرقة بعد استعادة حلب، فإنهم يبالغون في تقويم قدرات الجيش، ويتغاضون عن محدودية موارد النظام، ويقلّلون من شأن خطر فقدان عاصمة محافظة ثانية في دير الزُّور. وفي السياق نفسه، فإن آمال النظام بإقناع رجال الأعمال السوريين بإعادة الرأسمال الهارب من الخارج إلى سورية واستثماره في منطقة حلب الصناعية وغيرها، لم ولن تأتي سوى بنتائج متواضعة.
من الناحية النظرية، يمكن النظام أن يخفّف من أعبائه المادية والسياسية عبر الانخراط جدّياً في مقترحات الحدّ من مستويات العنف في البلاد، سواء من خلال هدنة عامة أحادية الجانب، أو عبر «تجميد القتال في حلب» الذي دعا إليه ستيفان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية. فمن شأن ذلك أن يظهر استجابة مُقنعة لرغبات الدوائر الموالية التي يُطلب منها أن تتحمّل العبء الأكبر ليس لمعركة لا نهاية لها وحسب، بل لمعركة يزداد فيها الأعداء قدرة مجدّداً.
يبدو أن النظام يعتقد أن الدوائر الموالية لا خيار لها سوى الولاء والمضي في القتال، غير أن هامش المناورة أمامه يضيق. فهو يدرك أن القبول بإجراء الإصلاحات الحقيقية سيضعه على الدرب نحو تفكيك نفسه، بيد أن إصراره على اتّباع نهج عسكري حصراً يقرِّبه من النقطة التي لا يمتلك فيها حاضنة سياسية أو اجتماعية محلية. هذه هي نقطة ضعفه الكبرى.
ليست المسألة مثيرة فحسب لحساسيات الدول العربية المشاركة في «التحالف الدولي ضد الإرهاب»، ولا هي تتعلّق فقط بـ «عدم تنسيق» معلن و»تنسيق» فعلي غير معلن بين الولايات المتحدة وإيران، بل إنها مسألة خداع تتعرض له كل دول «التحالف». والأهم أنها ترتبط في شكل وثيق بإمكان نجاح أو فشل «الحرب على داعش» ليس فقط في جانبها العسكري الراهن بل خصوصاً في شقّها السياسي - الاجتماعي بعيد المدى. فكل الدول متفقة، أو أنها على الأقل تعرف، أن إيران لعبت «ورقة» الإرهاب لتدعيم نفوذها في العراق وسورية وتلعبها الآن لحماية هذا النفوذ. وبالتالي فهي أولت الجو إلى مقاتلات «التحالف» فيما تفلت ميليشياتها على الأرض، وها هي تقحم أيضاً طيرانها. أما «النفوذ» فهو ما رأيناه من تخريب للدولة والمؤسسات والاقتصاد والعمران والثقافة والتعايش بين مكوّنات الشعوب في العراق وسورية ولبنان واليمن و... قطاع غزة (بدور إيراني مكمّل للتخريب الإسرائيلي).
لم يقل الأميركيون لماذا أخفوا علمهم بالتدخل الإيراني المباشر في الحرب. ولم يوضحوا، بعد انكشافه، لماذا كانت لديهم أكثر من إجابة مرتبكة، صحيحة أو كاذبة. ولو لم تظهر طائرة «فانتوم اف-4» الإيرانية على قناة «الجزيرة» وهي تقصف في ديالى، هل كان الأميركيون سيواصلون التغاضي عن التدخل. وبعدما أصبح معروفاً قال ناطق البيت الأبيض: «لم تتغير تقديراتنا في شأن دواعي التعاون مع الإيرانيين. لن نفعل هذا». أما «البنتاغون» فترك لـ «مصادر» تأكيد الواقعة في شكل غير رسمي، قبل أن يعود فيؤكدها. وأما وزير الخارجية جون كيري الذي كان يترأس اجتماعاً لنظرائه من دول «التحالف» في بروكسيل، فقال أولاً: «لن أعلن عن أي شيء، لن أؤكد أو أنفي العمل العسكري الذي تردد أن دولة أخرى نفذته في العراق. هذا يرجع إليهم (الإيرانيين) أو العراقيين إذا كان هذا قد حدث بالفعل». وفيما أفاد حيدر العبادي أن «لا معلومات» لديه، وهو «القائد الأعلى للقوات المسلحة» في العراق، كان مستغرباً أن يتحدث كيري عن «دولة أخرى» أو يقول إن الأمر «يرجع إليهم»، إلى أن أفصح عن حقيقة الموقف الأميركي، معتبراً أنه «إذا كانت إيران تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية في أماكن معينة ويقتصر دورها على استهداف تنظيم الدولة الإسلامية وهو أمر مؤثر وسيكون مؤثراً... فإن المحصلة النهائية إيجابية»... وطالما أن الأمر «يرجع اليهم» فهذا يعني أن هذه الحرب ذات مسارين، أميركي وإيراني، وكلاهما يخدم التقارب المتعاظم بين «الشيطانَين» الأكبر والأصغر.
ليس مؤكداً أن المحصّلة النهائية ستكون «إيجابية»، إلا إذا كان كيري مصمماً على جهل ما حصل في العراق وتجاهل الدور الإيراني الذي صنع ظروف نشأة «داعش» وبروزه. بدا كيري أكثر حرصاً على تثبيت «الإيجابية» في علاقته مع نظيره الإيراني خلال المفاوضات النووية أخيراً. وهو ما ردد محمد جواد ظريف صداه متوقعاً «نهاية ناجحة» للمفاوضات، وكذلك الرئيس حسن روحاني متحدثاً عن «الحاجة إلى إيران من أجل أمن المنطقة والعالم». ويمكن إجمال هذا المناخ بأن طهران تشعر للمرة الأولى منذ عقود بأنها حققت «اختراقاً» سياسياً مهماً في الموقف الأميركي المناوئ لها من دون أن تضطر إلى تنازلات جوهرية. لكن هذا التطوّر الذي يريد كيري تصويره على أنه «إيجابي» بالنسبة إلى مجريات الحرب يرمي عملياً إلى ترسيخ الأمر الواقع الإيراني على الأرض، في العراق كما في سورية، بما فيه من مخاطر وألغام، وبما فيه أيضاً من إحباط للعرب المشاركين في محاربة «داعش».
ذاك أن طهران تسعى إلى إظهار هزم هذا التنظيم على أنه «انتصار إيراني» لن يراه أتباعها وخصومها إلا بأنه «انتصار شيعي على السنّة»، وبالتالي فإن إيران تستحقّ أن تُكافَأ عليه بالاعتراف لها بنفوذ دائم يقوم على إخضاع اتباع مذهب آخر سواء كانوا غالبية أو أقلية. فهذا كان ولا يزال منطق النظامين «الداعشيين» الإيراني والسوري في حربهما داخل سورية قبل استدعائهما «داعش» وبعده، بل هذا ما ظهر جلياً في حرب نوري المالكي على المحافظات السنية، وما تبدو إيران وميليشياتها العراقية في صدد استكماله تحت شعار «محاربة داعش»، أو بالأحرى «داعش تحارب داعش». إذ أن «داعشيي» ما يسمّى «جيش الحشد الشعبي» يرتكبون حالياً انتهاكات مشينة في قرى وبلدات سنّية، مشابهة بل مطابقة تماماً لما يرتكبه «داعش» ولما كان يرتكبه «جيش المالكي». وبطبيعة الحال فإن هذا النهج يؤسس أو يثبّت حالاً صراعية مستحيلة لعشائر السنّة بين «داعش» هجين كانوا تعايشوا قسراً وعلى مضض لكنهم حاربوه ويحاربونه بكلفة بشرية عالية، وبين «داعش» إيراني يرفضونه أيضاً وسيكون عليهم أن يحاربوه إلى ما لا نهاية.
هل يجب التذكير بالقواعد التي حددتها واشنطن، بلسان رئيس أركان جيوشها، لتدخلها في العراق ولخوض هذه الحرب، وأهمها: تشكيل حكومة تمثل جميع الأطراف، وإعادة هيكلة الجيش وتأهيله، والتعاون مع سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة «داعش» أي العشائر. تغيّرت الحكومة وزار رئيسها طهران ليتعرف عن كثب إلى المسموح والممنوع، وإلى ما يستدعي العجلة أو الإبطاء. وفهم أن العراق صار إيرانياً ويجب أن يبقى كذلك، وأنه مقبول أميركياً بهذه الحال التي مسخته وابتذلته، وإذا أراد العرب (السنّة) الانفتاح على إيرانيته (شيعيته) فأهلاً وسهلاً. لم يعد هناك مجال لعراق يتمتع باستقلالية قرار أو بشيء منها (كما هو الواقع أيضاً في سورية ولبنان واليمن). أما بالنسبة إلى الجيش فيوحي الأميركيون بأنهم سيشرفون على إعادة هيكلته، كما تولوا تأسيسه وتدريبه، لكن هل يضمنون هذه المرّة أن الإيرانيين لن يعيدوا تهميشه وإفساده كما فعلوا بواسطة نوري المالكي، وكيف يضمن الأميركيون لهذا الجيش مكانته ودوره وتغليبه للدولة على الدويلات إذا كان الإيرانيون سبقوهم بتدريب ميليشيات وتسليحها لتكون أكثر قوة وفاعلية من أي جيش حكومي.
لكن الاعتماد على العشائر بنمط من «الصحوات» الجديدة بدا الملف الأكثر دلالة على شدّة التدخل الإيراني وجلافته. وعكست مماطلة حكومة العبادي ممانعة طهران لتسليح السنّة إلا إذا كانوا جزءاً من ميليشياتها، وقد تولّى هادي العامري قائد «فيلق بدر» إيضاح ذلك بقوله: «نعوّل على دعم مقاتلي العشائر السنّة، فبانضمامهم إلى القتال أصبح نصرنا مؤكداً»، غير أن العارفين يقولون أن الرجل توهّم أن يصبح وزيراً للداخلية وهو قائد ميليشيا ويتوهّم أن العشائر صاروا معه رغم أنهم يعتبرونه من «دواعش إيران». لكن العامري فسّر عملياً ما هو متاح للعبادي، فالمماطلة ترمي إلى منح إيران والميليشيات الوقت لـ «استمالة» السنّة وتيئيسهم من الحكومة ومن الأميركيين، فالخطر يدهمهم وليس لهم سوى الخيار الإيراني. لكن العشائر التي يئست فعلاً من العبادي، بادرت إلى مخاطبة الأميركيين مباشرة، سواء من خلال السفير في بغداد أو عبر وفد سنّي زار واشنطن أخيراً. وطالما أن الدفاع عن النفس بات شأناً يخصّهم، والحكومة غير متجاوبة، فقد طالب هؤلاء بأن تسلّحهم الولايات المتحدة مباشرة أسوة بما تفعل مع البشمركة الكردية طالما أن الدولة لا تريد ولا تستطيع الدفاع عنهم. في المقابل أطلق العديد من العشائر نداءات تطالب دولاً عربية بتسليحها، أما عشيرة البو نمر التي قتل «داعش» مئات من أبنائها خلال بضعة أيام فأعلنت أنها باعت أملاكاً لها في بغداد لتشتري أسلحة بما يصل إلى نحو مليون دولار... وإزاء هذا التحرك ظهر فجأة مشروع قانون «الحرس الوطني»، إذ سمح الإيرانيون للعبادي بإخراجه من درجه، والسبب أن «الحرس» صيغة أفضل من الصحوات، لأنها تتيح من جهة وضع أبناء العشائر في ملفات والاستدلال إلى نشطائهم، لكن الأهم من جهة أخرى أنها فرصة لإدخال «الحشد الشعبي» في هذا «الحرس» مع ما يعنيه ذلك من تمويل حكومي لميليشيات لم يعرف شبّانها في حياتهم سوى الولاء لإيران.
يعرّف هربرت بلومر الثورة بأنها: "تغيير مفاجئ قصدي سريع بعيد الأثر، يبتغي إعادة بناء وتنظيم النظام الاجتماعي كلياً". ولعلنا نتوقف عند جزئية من التعريف، تتحدث عن السرعة في التغيير، كما يشير بلومر، ونطرح التساؤل التالي: لقد امتدت الثورة أربع سنوات، ولم تحقق هدفها المنشود، فهل هي ثورة، كما جاء في التعريف؟
يمثل السؤال فكر "النفعيين" المؤيدين للقول إن صدق قضيةٍ ما يكمن في مدى كونها مفيدة للناس، وهو ما ظهر عكسه. وقد تناسى هؤلاء أن الثورة الفرنسية بدأت في عام 1789، وانتهت عام 1799.
حال السوريين، اليوم، وأتحدث عن "الأثرياء"، كما عن "طوائف" بعينها، ينم عن صورةٍ أقرب لهذا المفهوم. لكن، ما الذي دعا هؤلاء إلى مقاومة التغيير؟
مقاومة التغيير طبيعة بشرية تحدث في أي مكان وزمان. فالإنسان يكره، إجمالاً، التغيير، وذلك لعدة عوامل، كالخوف من فقدان مزايا خاصة، أو من التغيير بذاته، إلى غير ذلك من العوامل المختلفة.
علاوة على ذلك، تنسحب مقاومة التغيير على مناحي الحياة المختلفة، فتجدها، مثلاً، في الناحية الاجتماعية، حيث تخشى المجتمعات من التغيير، وتسعى إلى مقاومته وتجنبه، مع أنه من حقائق الحياة، ولن يستطيع أحد مقاومته أو إيقافه، وهو ما يشير له المختصون في علم الاجتماع.
الخوف، أولاً وأخيراً، يتبعه مبرر الحفاظ على المصالح، الدماء، مزايا معينة قد يفقدونها، الفوضى، وغيرها من المبررات التي تدفع هؤلاء إلى الوقوف في صف القوي، وطبعاً أعني القوي من الناحية المادية، وفقاً لرؤيتهم.
لكن، كون الثورة بعيدة الأثر، فهي الحقيقة التي يؤمن بها الثوار في سورية، ولعل الطابع الجهادي الذي تحولت له الثورة زاد من الإيمان بهذا التغيير المستقبلي.
وعلى العكس من ذلك، التشكيك في أهمية ما يحدث، والتقليل مما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً، لم يأت من فراغ، بل يؤكد ابتعاد هذه الرؤى عن مصائر الطغاة في التاريخ، كما أنه وجه من وجوه العقيدة الإسلامية المشوهة، ويشكل بالنسبة لغير المسلمين غياب الرغبة في العيش المشترك وفق مفهوم المواطنة والشراكة في بلدٍ واحد.
تضارب المصالح وطبيعة مكونات المجتمع السوري كانت اللاعب الأساسي في تبني فكر معين وغض الطرف عن وجود الحق لدى طرف دون غيره، وبينما حارب كل مكون لغايته، بحسب مبرراته، ازدادت الأزمة الإنسانية بالتفاقم.
البراغماتية هذه لم تنشأ في مجتمعنا العربي، فضلاً عن الإسلامي، بل هي دخيلة، قد يتعامل بها بعضهم، وفقاً لمصلحتهم الآنية، ممارسةً، لا عن معرفة علمية مسبقة.
نحن، إذن، أمام ظهور طبقة غلّبت "الأنا"، وأغرقت في عالم المادية، مبتعدة عن ملامح رسمها حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي شكل لبنة المجتمع الصحيح، وحدد صفاتها بالجسد الواحد، هذا بالنسبة للمسلمين، أما غيرهم، فالتاريخ الماضي كفيلٌ بتذكيرهم بأن الوحدة الوطنية والتلاحم الاجتماعي كان قبل أن يتسلم آل الأسد السلطة.
يبدو أننا أمام اعتراف لا مفر منه، هو أن "الذرائعية" متغلغلة في المجتمع، لن ينهيها ذات يوم اتفاق طائفٍ جديد، بل على العكس سيكون ترسيخاً لها، ولبنان خير شاهد.
أما إذا تناولنا، في هذا الإطار، مواقف المسلمين، فأرجّح الابتعاد عن تعاليم الإسلام الصافي والبناء الروحي السليم طوال تلك الحقبة، بالتالي، ليس مستغرباً أن يعيش الناس في جزر منعزلة، حتى داخل البيت الواحد، ومن الطبيعي تحكيم المصلحة الفردية على حساب الجماعة.
فالذرائعية من أشكال الاحتجاج والمبرر الذي تتمسك به بعض طبقات المجتمع السوري، متوارين خلفه بغير تصريحٍ واضح، يبرر لهم مواقفهم، وفق نظرة صحيحة، إذا ما قارناها مع المشهد على الأرض، وما أصاب الشام من نكبة سببتها الحرب الدائرة، لكنها نظرة بعيدة كلياً عن الأخلاق والقيم الإسلامية.
لا يهم إن كان الاعتقاد الفكري بالذرائعية موجودا، أو نشأ مجدداً في سورية، الأهم أنه ممارسة فعلية، تمارسها طبقات من المجتمع السوري، وجب التنبه إليها، واقتلاع جذورها فكرياً، أولاً وقبل كل شيء.
بحسب حكايات جدتي، نقلاً عن جدتها، وتلك عن جدتها الأخرى، وصولاً إلى جدة ضاعت في أزمنة الحكايات، فإن المستقرضات هي الأيام السبعة المتعلقة بذيل آخر السعود: سعد الخبايا. لكن هذه المستقرضات استمرأت أجساد السوريين، وأرواحهم، منذ أربع سنوات، وأخذت تقرض بهم مع أول سعد من السعود، وهم في مخيمات اللجوء، أو في العراء تحت رحمة جبابرة الكون، من أرض وسماء، بينما العالم غارق في نعيم دفئه، وشعبي السوري يكويه الصقيع والنار.
ولمن لا يعرف السعود، التي هي جمع سعد، وأظن أن شعبنا كله لا يعرف السعد، منذ سنوات عجاف حلّت في أوطاننا، فسوف أذكّر بها، بما أنها تسبق الربيع، بعد أن تأخر ربيعنا، وربما تاهت به الدروب. هذه السعود على ذمة ساكني الديار منذ القديم، خلاصة خبرتهم التجريبية التي استقطروها من روح الطبيعة، الملتصقين بها، مثلما لو كانوا جزءاً منها يربطهم بها حبل سري، فيدور نسغها في شرايينهم، ويرجع إلى قلبها، تأتي بعد "المربعينية"، وهي أيام البرد الممتدة من 21 ديسمبر/كانون أول حتي 30 يناير/كانون ثاني، وهي رحيمة قياساً بالخمسينية، جامعة السعود كلها، إذ تمنن: "إذا ماعجبكم حالي ببعتلكم خوالي" أي "السعود" الأربعة متساوية الأعمار، لكل منها اثنا عشرة يوماً ونصف، يبدأ أولها بأواخر المربعينية، أي 31 كانون الثاني، ويسمى: "سعد الذابح"، حيث تموت الماشية من شدة البرد فيه: "سعد الدابح ما بخلّي كلب نابح". يلحق به سعد بلع حيث تفيض الأنهار وتزداد الآبار امتلاء وكأن الأرض ابتلعت ماء الأمطار: "بسعد بلع بتنزل النقطة وبتنبلع". ثم يأتي سعد السعود الذي قيل فيه: "سعد السعود سلاخ الجلود"، كما قيل: "في سعد السعود بتدور الميّة بالعود"، أي يسري النسغ في الأشجار وغ
صونها. وأخيراً، يطل سعد الخبايا برأسه، واعداً بنبش الحشرات والزواحف من أوكارها، بعد أن احتمت بسبات طويل من شر البرد المستطير: "في سعد الخبايا يطلعن الحيايا".
لكن، لا تنسل هذه السعود الأربعة المتغطرسة، فجأة، مثلما كان قدومها ممهداً له بالمربعينية، فهي تطلب أسبوعاً آخر من شباط الذي يستنجد بابن عمه آذار:" آذار يا ابن عمي، أربعة منك، وثلاثة مني، منخلّي دولاب العجوز يغني". وقد يكون عادلاً إذا كانت السنة كبيسة، فيعرض عليه: ثلاثة منك وأربعة مني. هذه الأيام السبعة تسمى "قرون العجائز: أو "المستقرضات" وفيها برد قارس، وريح قوية وأمطار وفيضانات، وتقعد العجائز قرب المدافئ: "بالمستقرضات، عند جارك لا تبات"، ويموت فيها ماشية كثيرة: "غنمنا ما بتدوم حتى تروح عجايز الروم".
هذا هو شعب هذه الأرض، عاش في رحم الطبيعة، عرف نبضها وخبر أطوارها، فشخصنها ونسج حكاياته عنها، وتوارثت هذه الخبرة الأجيال. أحب الحياة، وظل ملتصقاً بأرضه، بزيتونه وليمونه، يقلّم أشجاره، ويبذر الأرض لتمنحه السنابل فيعجن خبزه كفاف يومه.
" ما أكثر اللاءات التي ضيقت خناقها على رقبة الشعب، منذ أن صرخ بـ (الّلا) الأولى في وجه الظلم والجور والاستبداد، إلى اليوم "
كان همّهم، فيما مضى، ينحصر في زرعهم وماشيتهم، أما اليوم، وبعد سنوات من تغوّل شياطين الأرض فوق أرضهم ودفع مصائرهم باتجاه المجهول، فصار لسعود الطبيعة حكاية أخرى، وصار للسوريين هموم أخرى أيضاً. صارت المستقرضات تلاحق السوريين، حتى لو لم يكونوا عجائز، فتحصد الأطفال والأمهات، تتحالف مع الموت على السوريين، مع الجوع، مع داعش، مع البراميل المنهمرة من السماء، ولم ينفع هذا الشعب المغدور كل التحالفات التي تعقد على اسمه وباسمه. هاهم في المخيمات يحصدهم البرد والجوع، وتعلن منظمة الغذاء العالمي وقف مساعدات بالمبلغ المرقوم عن مليون وسبعمائة ألف من اللاجئين السوريين، وعازمة، في الوقت نفسه، على إيقافها عن النازحين في داخل الأراضي السورية، بينما كلفة الحرب الدونكيشوتية على طواحين الهواء الداعشية تتعدى ما يحتاجه هؤلاء المشردون المهجرون عن ديارهم وأراضيهم بعشرات المرات، ولو استشهدنا بالأرقام، طالما تحوّلت نكبات الشعب السوري، كما تحوّل هو إلى جداول إحصائية وأرقام، فقد بلغت قيمة المساعدات في العام 800 مليون دولار، بينما تقدر تكاليف الحرب المفتوحة الأمد على داعش بأضيق نطاق، وقبل أن تتوسع أكثر، إلى ما يقترب من أربعة مليار دولار في العام، هذا إذا لم نحسب تكاليف الحرب السورية الأخرى، وما يُدفع لأجل تسليح كل الأطراف المشاركة فيها، فأين الضمير العالمي وأين الحياء الإنساني؟ أموال بأرقام فلكية تُدفع على التسليح والحروب، بينما شعب ينام معظمه في العراء، ويموت من البرد والجوع والفاقة والمرض؟ الشعب السوري واقع بين حدّ السيف ومسقط البراميل، يناور الموت، ومن ينجُ من هذا الموت ليس نصيبه في الحياة أوفر، حتى الباقون في المناطق الأقل توتراً مهددون بالبرد والجوع وتردي الحياة إلى دركها الأسفل، تحت رحمة انقطاع المواد الأساسية للعيش، لا محروقات، لا مياه، لا كهرباء، لا مواد تموينية، لا دواء، وما أكثر اللاءات التي ضيقت خناقها على رقبة الشعب، منذ أن صرخ بـ (الّلا) الأولى في وجه الظلم والجور والاستبداد، إلى اليوم.
جاءت وراحت السعود الأربعة في السنوات الأربع التي خلت، وأخذت معها الكثير الكثير من شعبنا، ولم تعد جدتي على قيد الحياة، لأسألها أن تتوسط لنا عند سعود "الأربعة"، علّهم يرأفون بحالنا، بعدما لم يكترث جبابرة العالم بحالنا، ولا بأطفالنا، وهم يتضورون جوعاً ويتجمدون برداً، ولا بأمهات جف حليب أثدائهن، ولا بفتيات يُسَمن في بازارات الفحولة كل صنوف الذل والمهانة، وعلّهم يمنعون الموت وزبانيته عنا.
سنويا تزداد بشكل مطرد حالات انتهاك الحقوق والحريات، على المستوى العالمي، للجماعات والأفراد، وبأسباب تتصل بمسألة حرية الرأي والعبادة، والتفكير واللجوء والعمل، ويتعرض من انتهكت حقوقهم إلى الاعتقال والتمييز والتصفية الجسدية، والتعذيب وغير ذلك بسبب المطالبة بحقوقهم. وتسجل المنظمات المعنية بذلك تجاوزات كبيرة، ترتكبها الدول بشكل يتنافى مع التزاماتها الدولية، وفي مقدمتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
ورغم وجود آليات واضحة في القوانين الدولية، فإن المجتمع الدولي يؤكد عجزه في الحدّ من تصاعد وتيرة الانتهاكات التي يرتكبها الأفراد والتنظيمات والدول، بأدوات وأساليب مختلفة، تقف المنظمات الدولية حيالها موقف المتغاضي أو الصامت، دون أن تتمكن من إدانة تلك الممارسات في الحدّ الأدنى، بسبب سياسة توازنات المصالح في مجلس الأمن الدولي، وهذا بالطبع ينسحب على أداء مجلس حقوق الإنسان، لدى الأمم المتحدة بصورة خاصة، والذي يضطلع بمسؤولية مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، وخاصة الانتهاكات الجسيمة ومنتظمة التكرار وتقديم التوصيات اللازمة لوقف مثل هذه الانتهاكات أو الحد منها.
ما يجب الإشارة إليه هنا أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، هي الأشد انتهاكا للقوانين الدولية، وتحوز على مقعد في المجلس، والمثال الليبي، دليل ليس فقط على التغاضي عن ممارسات الدول المتعارضة كليّا مع الاتفاقات الدولية الموقع عليها.
قاد ذلك -حتى اليوم- إلى عدم وجود ضمانات دولية، لحماية الحقوق والحريات، فيما لا تتوفر آليات فعّالة تجبر الدول على الالتزام بتعهداتها الدولية/القانونية. والواقع فإن سياسات الدول الكبرى الأمنية، وطرق معالجتها لملفات حقوق الإنسان، وممارساتها ومواقفها الدولية، التي تتجاوز التزاماتها، بحيث تكون حريصة على ذلك فوق أراضيها، لكنها لا تلتزم قواعد حقوق الإنسان في سياساتها وأساليب عملها خارج إقليمها، مثال الولايات المتحدة، غوانتانامو والسجون السرية، ومواقفها مما يجري في العالم قد شجعت دولا كثيرة على ارتكاب أبشع الانتهاكات وارتكبت المجازر ومارست مختلف صنوف القتل والتعذيب ومارست سياسات الإقصاء والتمييز على أوسع نطاق. نسوق الولايات المتحدة كمثال، لأنها تتقدم المجموعات الدولية -أو هكذا يفترض- في الدفاع عن الحقوق والحريات، وهو دور لا تتنطع له روسيا أو الصين وإيران مثلا.
طوال ما يزيد على نصف قرن، دخلت سوريا نفق قانون الطوارئ، وبموجبه تم تعطيل الحياة السياسية والمدنية بشكل عام، ومعظم بنود القانون الدستوري، لصالح دور بارز للجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات، مما قاد إلى بناء منظومات سلطوية، تتجاوز القوانين الوطنية والدولية، دون أي اعتبار للالتزامات الدولية، وعلى رأسها الاتفاقيات المتصلة بحقوق الإنسان، وحماية المدنيين، ومن أهمها اتفاقية جنيف الرابعة، والبروتوكولات المحددة لكل من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وحتى اليوم، بعد أربع سنوات على انتفاضة السوريين، فإن النظام السوري واجه تلك المطالب بمزيد من القمع والقتل، واستبدل قانون الطوارئ بقانون مكافحة الإرهاب، تامشيا مع التوجهات الدولية بخصوص الإرهاب، ومسبغا على النضال الوطني من أجل الحرية، صفة الإرهاب الواجب استئصال شأفته من المجتمع السوري.
ورغم كل الجهود التي تبذلها منظمات سورية، وإقليمية ودولية في إطار شراكة مع منظمات سورية، أو مهنية مستقلة، فإن الأمم المتحدة، وبالطبع القوى الدولية الكبرى، لم تقم بأي خطوات فعّالة لدعم تجريم نظام الأسد، وتقديم الدعم للسوريين بما يوقف الانتهاكات اليومية، أو الحدّ منها على الأقل. وقد ساهم ذلك في توسيع النظام لمدى انتهاكاته إلى درجة الإبادة البشرية المنظمة. نظام الأسد اليوم يرتكب كل يوم مجزرة، ويعتقل النشطاء، ويقتل الأطفال والنساء، ويشرد العشرات.
ويعتبر الاختفاء القسري، إحدى المشكلات الأشد تعقيدا اليوم، في الساحة السورية، ويعود ذلك إلى حقبة الثمانينات من القرن الماضي، حين بدأ نظام الأسد الأب بحملة اعتقالات واسعة شملت أعضاء في تيارات وأحزاب اليسار السوري من شيوعيين وقوميين، أعضاء في حركة الإخوان المسلمين، لا يزال عدد كبير منهم حتى الآن لا يعرف عنه، أو مصيره، أو مكان وجوده أي شيء. ولا يزال هذا الملف مفتوحا بما يضمه من أسماء سياسيين ومثقفين سوريين، وعرب استهدفهم النظام السوري، نتيجة مواقفهم في ما يتصل بالديمقراطية والحكم، بشكل أساسي.
في ظل الثورة السورية، برزت بشكل أوسع قضية الاختفاء القسري، فقد لجأ إليها النظام خلال الفترة التي سبقت 15 مارس 2011، عبر اعتقالات تستبق أي حدث، منذ الدعوة إلى يوم الغضب السوري، تلتها اعتقالات واسعة في صفوف المثقفين ونشطاء العمل المدني، بعضهم لا يزال مغيبا في سجون الأسد، وكثير منهم لقي حتفه بسبب التعذيب والتنكيل الذي تعرض له. فيما انتشرت عمليات الاختطاف والتغييب من قبل أطراف عديدة في الساحة السورية، من أطراف أساسية هي عصابات الأسد (الأجهزة الأمنية والشبيحة) وميليشيات مسلحة داخل المعارضة السورية (الجبهة الإسلامية) وقوى الإرهاب الظلامية (داعش النصرة).
ما يجمع هذه القوى هو شيء أساسي واحد هو تكميم الأفواه، وملاحقة رموز العمل المدني ونشطائه، وخاصة أولئك الذين يتحفظون على عسكرة الثورة، أو أنهم يتابعون بشدة انتهاكات حقوق الإنسان من قبل أي اطراف سورية وغيرها، أو أنهم من دعاة بناء الدولة المدنية. هذا قاسم مشترك بين نظام الأسد وكل المجموعات المسلحة التي أقصت نشطاء العمل المدني، ثم منعت نشاطهم بالقوة، ثم اعتقلت أو قتلت واختطفت من تبقى منهم.
يمكننا أن نذكر المجتمع الدولي، مع مرور الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بما يتوجب عليه القيام به، ليس فقط للحد من انتهاكات الحقوق والحريات واستهداف المدنيين، بل وحماية نشطاء العمل المدني بصورة رئيسة، والعمل على فضح هذه الممارسات، وفي مقدمتها الاختفاء القسري، وأنه يتوجب اليوم إطلاق سراح المئات من الذين تم اختطافهم، وكذلك إطلاق سراح فريق الأورينت، والأب باولو، والمصور عبود الحداد، وعشرات غيرهم، وأولئك الذين لا نعرف أسماءهم ومصائرهم. نريد الحرية لهم جميعا، اليوم وليس غدا.