لم تشهد أي إدارة أميركية تخبّطاً وتشوّشاً مثل الذي تشهده إدارة باراك أوباما، اليوم، حيال الملف السوري، حيث الارتباك والضعف وغياب الرؤية. وقد تعاملت الإدارة المذكورة مع الأزمة السورية منذ بدايتها بحذر ورويّة كثيرين، معتمدة على مبدأين: العمل الجماعي مع المنظومة الدولية وإعطائها دوراً دولياً أكبر، وممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية من بعيد. لكن، مع تعقّد الأزمة، بدأت الإدارة الأميركية تتبع سلوكاً سياسياً متشابكاً، يعكس هذه الطبيعة المعقدة للأزمة، ويعكس، أيضاً، مخاوف الولايات المتحدة ذاتها وحلفائها في المنطقة، فضلاً عن مخاوف النظام السوري التي أصبحت حاضرة في السلوك السياسي الأميركي.
وقد دفع التغيير المستمر في السلوك الأميركي وغياب رؤية محددة شخصيات مرموقة إلى توجيه نقد لاذع لسياسة أوباما، وهذا غير مألوف في تاريخ الولايات المتحدة: المبعوثان الخاصان لأوباما للأزمة السورية، فريد هوف وروبرت فورد، وسبقهما إلى ذلك وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، ووزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلنتون، وأخيراً وزير الدفاع المستقيل تشاك هاغل. وقد مر الموقف الأميركي بأربع تحولات خلال أعوام الأزمة السورية:
ارتباك في التعامل مع الأحداث المتسارعة مع مراقبتها أولاً، ثم دعم المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، في مقابل فرض عقوبات اقتصادية على النظام ثانياً، ثم تراجع الدعم العسكري للمعارضة المسلحة، وتغيير التحالفات الميدانية مع الاستمرار في استنزاف النظام وحلفائه ثالثاً. وأخيراً، الميل إلى إمكانية التفاهم مع حلفاء النظام في محاربة الإرهاب، وتهيئة الأرضية لإيجاد حل سياسي يلائم الواقع السوري.
والصيغة الأخيرة هي التي يحاول أوباما تكريسها في المرحلة المتبقية من ولايته، إذ تعمد إدارته إلى تعريف الأزمة السورية على أنها صراع بين متساوين، أي حرب أهلية، وهذا ما يفسّر توقف واشنطن عن دعم اللجنة الخاصة بالتحقيق في جرائم الحرب في سورية. وبموجب هذه الصيغة، لن يكون مصير بشار الأسد شرطاً مسبقاً في أي عملية تفاوض، لكن هذا لا يعني، في المقابل، بقاء الأسد في السلطة، ضمن أية تسوية. وتقوم المقاربة الأميركية على الفصل الحاد بين الميدان والسياسة، بين نتائج المعارك العسكرية ونتائج مفاوضات السلام، فهدف استمرار المعارك يتجاوز مسألة بقاء الأسد، أو خروجه من السلطة. والنتائج العسكرية لا يمكن أن تحدد النتائج السياسية، لأن نتائج العمليات العسكرية تتجاوز مسألة بقاء النظام أو عدمه، وفق رؤية أوباما. وبالتالي، لا يمكن أن تختزل الأزمة السورية وتداعياتها الإقليمية والدولية بانتصار عسكري لهذا الجانب أو ذاك.
“ مخاوف النظام السوري أصبحت حاضرة في السلوك السياسي الأميركي "
المهم للولايات المتحدة، في هذه المرحلة، بقاء النظام على حاله، من أجل بقاء الدولة وعدم صوملة سورية، وإقناع الأطراف المعارضة بجعل مصير الأسد نتاجاً للعملية السياسية وليس مقدمة لها، وهذه هي المهمة السياسية الموكلة إلى روسيا خفية، من المجتمع الدولي، بالسماح لموسكو بتتبّع مسار دبلوماسي للأزمة، إثر علاقاتها مع النظام السوري، ومحاولتها تشكيل تكتل سياسي جديد، وليس مصادفة أن تعلن واشنطن، قبل نحو شهرين، عدم اعترافها بالائتلاف الوطني، ممثلاً وحيداً للشعب السوري.
كان أوباما صريحاً للغاية، حين قال في قمة العشرين في أستراليا، الشهر الماضي، إن واشنطن ترغب بحل سياسي في سورية، يرضي جميع الأطراف الداخلية والخارجية، وسيضطر الشعب السوري للقيام بتفاهمات سياسية مع تركيا وإيران وكذلك الأسد. لكن، تتطلّب هذه المعادلة، أولاً، تغييراً، أو تعديلاً، للواقع الميداني في سورية، ولا سيما محاولة القضاء على داعش، وهي معادلة بدأت ترتسم ملامحها أخيراً على الأرض، بالسماح لقوات إيرانية وحزب الله، وأخرى عراقية، مقاتلة داعش وبعض الفصائل في شمالي سورية من جهة، وبوادر اتفاق أميركي ـ تركي على إقامة منطقة عازلة شمالي سورية من جهة ثانية، على الرغم من إعلان الخارجية الأميركية عدم حسمها خيار المنطقة العازلة.
يقوم جوهر السياسة الأميركية على إيجاد حل للأزمة السورية على الطريقة اليمنية، بعد "تبيئتها" لتتلاءم مع الواقع السوري، وبالتالي، العمل العسكري المتاح هو لمحاربة الإرهاب، وليس لإسقاط النظام السوري، فتكاليف إسقاطه عسكرياً تتجاوز بكثير تكاليف تغييره سياسياً، طالما أن الأزمة السورية لا تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي، وفق تعريف أوباما الأزمات الدولية.
يتسم عمل توثيق انتهاك حقوق الإنسان في سوريا بصعوبات مركبة ومتداخلة فيما بينها بدءاً من تصحر الوطن السوري من كل نشاط مجتمعي مدني حقيقي من قبيل الدفاع عن حقوق الإنسان خلال العقود الطويلة من تسيد نظام الاستبداد والدولة الأمنية المافيوية في كل مفاصل حياة المواطن السوري، وصولاً إلى مأساة التغييب القسري سواءً بالقتل أو الاعتقال للعديد من الناشطين الحقوقيين الذين تمكنوا، وخلال فترة وجيزة من عمر الثورة السورية، من الإمساك بالمفاتيح الأساسية للعمل في ميدان حقوق الإنسان وتقديمه في صيغة صحيحة وصادقة، على الرغم من أنها في معظم الأحيان ظلت تتراوح في حيز التوثيق الأولي الخام الذي يحتاج دائماً إلى التدقيق والتنقية لزيادة قدرته التأثيرية عند المتلقي له، ومروراً بالصعوبات المهولة التي تقارب المستحيل لتحرك الناشطين الحقوقيين في سوريا وقدرتهم على العمل المشترك فيما بينهم في الداخل السوري ومع رفاقهم الموجودين خارج حدود الوطن.
وما ساهم بشكل مؤلم في تشويش عمل ونتاج وتعقيد مهمة الناشطين الحقوقيين في سورية ظهور مؤسسة تزعم اهتمامها بالعمل في ميدان حقوق الإنسان وهي في واقع الأمر شخص واحد ليس لكيان المؤسسة التي يتحرك باسمها أي كيان اعتباري أو قانوني أو جسم تنظيمي عياني مشخص سواء في سورية أو في المهجر. وهو الذي قام دائباً بتحويل ضآلة العمل مجال حقوق الإنسان في سورية من توثيق لكل الانتهاكات التي تندرج تحت الأبواب الأساسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى عمل إخباري مسطح يتناول التطورات الميدانية في واقع المأساة السورية من اشتباكات ومواجهات وتفجيرات وحوادث قتل على أساس طائفي أو ثأري دون التحقق الموضوعي من أنها في الواقع الحقيقي كذلك.
ولأن معظم المؤسسات الإعلامية الغربية محكومة بمعادلة القرد الذي إن خيرته بين أنواع الطعام فلن يختار إلا الموز من كل ما لذ وطاب لأن ذائقة القرد وتكوينه البنيوي والوظيفي تفرض ذلك، فهي، أي تلك المؤسسات الغربية، ظلت تستمرئ كل الرسائل الإخبارية التي تصور الثورة السورية على أنها حرب أهلية على أساس طائفي ومنذ الأشهر الأولى لعمر الثورة السورية، وأنها لم تقم أساساً كثورة شعبية تطمح للتحرر من الاستبداد وتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية.
ولذلك ظلت الوسائل الإعلامية الغربية الكبرى تدمن اختزال انتهاكات حقوق الإنسان في سورية بما تقدمه لها تلك المؤسسة/ الفرد من صور شوهاء عن الثورة السورية دون البحث أو التمحيص في مدى صدقية وتوثيق المعلومات المقدمة لها كتفاصيل لتلك الصورة الشوهاء، وخاصة إن كانت من قبيل أكل قاتل همجي لقلب قتيله دون تحليل وشرح الظروف الموضوعية التي أدت إلى ذلك التحول الوحشي وفق مبدأ العنف الذي لا يولد إلا العنف في السياق المكاني والزماني لتلك الحادثة الشاذة، وأن التعميم من حالة استثنائية هو خطأ ما لم يتم التحقق علمياً وإحصائياً من أن ذلك المثال الخاص تشخيص صحيح لحالة عامة وسائدة.
وما ساهم في مفاقمة صعوبة مهمة توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وإيصالها إلى الإعلام الغربي هو تنطع تلك المؤسسة/ الفرد لتقديم أرقام تحصي أعداد القتلى من أفراد الجيش والجهات الأمنية السورية دون تقديم أي قوائم قابلة للتحقق من صحتها وواقعيتها، واستخدام تلك الطريقة المخاتلة وسيلة للتشكيك في مصداقية الهيئات الحقوقية الأخرى التي لا تستطيع أن تقوم بأي توثيق ملموس لأعداد القتلى من الجيش النظامي والجهات الأمنية الموالية لنظام الأسد لعدم وجود أي ارتباط بينها وبين الجهات الرسمية السورية المعنية بإحصاء أعداد القتلى من أفراد جيش النظام الأسدي وأجهزته الأمنية، وخاصة في ضوء التضييق المهول على ناشطيها وملاحقة معظمهم من قبل الأجهزة الأمنية السورية.
يضاف إلى ذلك وقوع كل الكيانات السورية الأخرى المعنية بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية على اختلاف مشاربها في أسر المطلب الجوهري والثابت بضرورة الحفاظ على الاستقلالية المطلقة لكل أنواع العمل في ميدان توثيق انتهاكات حقوق الإنسان عن ارتهانات التمويل الخارجي المباشر وغير المباشر، والحفاظ على أن يكون العمل دائماً وفق مبدأ يقيني ينطلق من أن العمل في مجال حقوق الإنسان وخاصة في مثل الحالة السورية يجب أن يكون عملاً تطوعياً وممولاً بشكل ذاتي من مساهمات المنخرطين فيه فقط، وهو ما أصبح مطلباً مركباً ومعقداً خاصاً في ضوء النكبة الشاملة عمقاً وسطحاً لكل تكوينات المجتمع السوري المنتفض، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى اضطرار العديد من الناشطين الحقوقيين الذين لم يعودوا قادرين على القبض على جمرة الاستقلالية المادية إلى قبول عروض العمل هنا وهناك مع مؤسسات إعلامية وحقوقية غربية وعربية وهجران العمل في ميدان توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية بشكل موضوعي ومنهج.
وذلك كله كان قد وسع الفسحة لما أتينا على ذكره آنفاً للإدلاء بنتاجه غير الموثق على أنه توثيق لانتهاكات حقوق الإنسان في الإعلام الغربي خاصة وبعض الإعلام العربي المتكاسل أيضاً الذي لم يكلف نفسه عناء البحث عن الحقيقة الموضوعية بما يجرى في سورية إنْ لم يكن في الواقع منغمساً في معادلة تفارق المقول عن الفعل!
حوصرت قضية الجنود اللبنانيين الأسرى لدى تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة بكمّ كبير من الملابسات والتعقيدات، حيث لم تعد شأنا لبنانيا بل كادت صلتها باللبننة على مستوى الحلول والوساطات تكون معدومة.
يعود تفخيخ هذه القضية إلى تراكمات سابقة بكثير على وقوعها وتتعلق بشكل خاص بقضية المحتجزين الإسلاميين في السجون اللبنانية، وهي القضية التي لم تتم تغطيتها قانونيا ولا قضائيا، فارتدت تاليا شكل اعتداء سافر من طرف المخابرات السورية التي كانت تحكم لبنان آنذاك وملحقاتها اللبنانية وأبرزهم حزب الله على المكوّن السني.
هذه الأزمة المفتوحة انفجرت بعد تطور الأحداث ودخول حزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري وأصبحت واحدة من علامات الصراع الذي ارتدى شكلا طائفيا.
بات هؤلاء المسجونون عنوانا للتنازع بين من يحملون لواء الدفاع عن السنة وبين حزب الله الشيعي حليف النظام السوري والذي يسيطر على الحكومة اللبنانية ويمنعها من إنجاز أي تفاوض جدي يمكن أن يؤدي إلى إنجاح عملية المقايضة التي تطالب بها الجهات الخاطفة. كل مرة تظهر فيها انفراجات في الملف تشي بقرب التوصل إلى حل يبادر الحزب إلى خطوات تصعيدية، لا تعيد الأمور إلى نقطة الصفر وحسب بل وتساهم في إضفاء تعقيدات جديدة عليها.
أبرز مثال على ذلك هو ما قامت به مؤخرا مخابرات الجيش من اعتقال سجى الدليمي التي قيل إنها زوجة خليفة داعش وآلاء العقيلي زوجة أبي علي الشيشاني، ما استثار ردود فعل غاضبة تسببت بإعدام الجندي علي البزال.
بات من الواضح أن حزب الله وإيران من ورائه لا يريدان لهذا الملف نهاية سعيدة، أو يريدان أن يدفع الجميع ثمنا باهظا مقابل تسهيل التوصل إلى حلول فيه. ولا يبدو هذا الثمن داخليا على الإطلاق بل يتصل بشكل مباشر بالحرب المستعرة في المنطقة والتي تتجاوز سوريا لتصل إلى العراق وإيران.
الثمن الذي تريد إيران الحصول عليه هو إجبار الجميع على إدراجها في سياق الحرب على الإرهاب، ومن ثمة تفكيك كل منظومات العقوبات الدولية ضدها وحلحلة ملفها النووي التي أعلنت مؤخرا عن موعد جديد لإعادة انطلاق المباحثات بشأنه، وإعادة العراق إلى دائرة نفوذها، وإعادة إحكام سيطرتها على الوضع الداخلي في إيران حيث تسببت العقوبات في أزمة اقتصادية خانقة جعلت إمكانية ظهور حركات احتجاج عامة وواسعة أمرا ممكنا.
تريد إيران أن تضع كل البيض في سلتها مقابل تسهيل موضوع الجنود الأسرى ودور حزب الله يقوم على السيطرة على عرسال وإقفال دروب التسلل على المقاتلين لرفع الضغط عن قوات النظام الأسدي التي عانت من خسائر كبيرة في الجبهات الجنوبية.
قضية الجنود الأسرى ارتبطت موضوعيا وميدانيا بعرسال فقد سبق المعركة التي أسر الجنود إثرها تصعيد سياسي وميداني وتحريض كبير ضد عرسال ثم انفجرت المعركة التي كان يراد لها أن تتوسع أكثر بكثير من الحدود التي فرضها قائد الجيش العماد جان قهوجي والذي خسر إثرها تأييد حزب الله كمرشح قوي لرئاسة الجمهورية.
حزب الله كان ينوي محاصرة مجموعات من المقاتلين بالقرب من عرسال، ودفعهم إلى اللجوء إلى داخل القرية، ثم دفع هؤلاء إلى فتح معركة مع الجيش يشارك هو فيها تؤدي إلى تدمير عرسال واحتلالها وتوصيفها كبلدة إرهابية. فعل ذلك ونجح في دفع بعض المقاتلين إلى داخل البلدة حيث شرعوا بإطلاق النار على الجيش.
ما لم ينجح في صناعته هو الصفة التي دخل فيها هؤلاء إلى القرية، فهم لم يدخلوا بشكل طبيعي ولم يكونوا مرحّبا بهم، بل دخلوا كغزاة وفتحوا معركتهم مع الجيش.
الحزب كان يرفض مبدأ المقايضة وكان يسعى إلى إخراج الجنود عبر عملية عسكرية وقد نشرت معلومات منذ فترة تفيد بأن الجيش اللبناني قد قام بمشاركة الحزب بعملية عسكرية لإنقاذ الجنود وقد فشلت تلك العملية وتسببت بمقتل واحد أو أكثر من الجنود الأسرى. بعدها أفادت بعض المصادر أن الحزب عمد إلى قصف مكان وجود الجنود كي يقضي عليهم ويتهم الجهات الخاطفة بتصفيتهم، كي يتسبب في حالة غضب وجنون عارمة تتيح له تنفيذ مشروع شيطنة عرسال.
كذلك تم إطلاق النار على وفد هيئة العلماء المسلمين وهو عائد من إحدى جولاته التفاوضية وقد اتهم الجيش اللبناني بأنه هو من أطلق النار. الالتباس شمل كذلك مهمة الموفد القطري حتى بات البعض يشكك في وجوده أصلا، ففي حين تشير معلومات تنشر في وسائل الإعلام اللبنانية مسربة من جهات حكومية حول تقدم في مسار التفاوض من خلال جهود الموفد القطري، كانت جبهة النصرة تصدر بيانات تقول فيها إن أحدا لم يفاوضها.
القشة التي قصمت ظهر البعير في هذا المسار كانت نجاح حزب الله في إطلاق سراح أسير لديه عبر عملية مقايضة مشبوهة تمت عبر مبادلة العقيد في الجيش الحر مرهف الحسين ومعتقل آخر كانا محتجزين وكان الأمن العام قد سلمهما الى حزب الله، وهو أمر يعمق تعقيد المسألة ويضرب مصداقية مدير الأمن العام عباس إبراهيم، ويضع على المحك مسألة استمرار نشاطه التفاوضي مع النصرة وداعش.
زيارة المالكي السريعة والغامضة إلى لبنان يمكن إضافتها إلى سلسلة التعقيدات التي تتراكم في قضية الأسرى، فقد رشحت معلومات تفيد أن السبب الفعلي لزيارته هو محاولة الإفراج عن نجله الذي ألقي القبض عليه في لبنان وبحوزته مبلغ هائل من المال المهرب يبلغ 1.5 مليار دولار أميركي، وهو الأمر الذي لم ينجح في تحقيقه فغادر لبنان سريعا خاصة أن المحامي اللبناني طارق شندب كان قد رفع دعوى قضائية ضده أمام النيابة العامة التمييزية بتهمة مشاركته في تفجير السفارة العراقية في بيروت في 15 يناير 1981.
هذا المعطى يرجّح أن المالكي كان يحاول مع حزب الله الإفراج عن هذه الأموال لاستخدامها في تمويل الحزب في اللحظة التي بات فيها يعاني من شح شديد في التمويل القادم من إيران ما تسبب بظهور بعض الحركات الاحتجاجية غير المسبوقة داخل الحزب. وفشل هذا التفاوض قد يكون سببا إضافيا لزيادة تعقيد مسألة الجنود الأسرى.
حزب الله كان قد بادل أسيره بعناصر في الجيش الحر. وتؤكد مصادر عديدة أن لا أسرى أحياء لديه من جبهة النصرة ولا من داعش في حين تشير المعلومات إلى وجود ثلاثة أسرى على الأقل له عند عناصر النصرة وداعش الذين يتمركزون في جرود عرسال القلمون، لذا فإن لا أوراق لديه للتفاوض وهو يستعمل ملف الأسرى بطريقة مواربة للتوصل إلى الإفراج عن عناصره واستعادة جثث قتلاه بشكل بعيد عن الأنظار، في حين أنه حين كان يملك خطا مباشرا للتفاوض فإنه لم ينتظر أحدا وبادر إلى إنجاز المقايضة بنفسه.
كذلك وفي قراءة أوسع تتصل بالنزوع الإيراني لاستغلال مسألة الجنود لتركيب سياقات تدخلها إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب نرى أنها دفعت بالنظام السوري وحزب الله إلى التضييق على الجيش السوري الحر وتفكيك قوته وإشغاله على جبهتين واحدة مع النظام وأخرى مع داعش. خسر الجيش الحر خلال هذه المواجهات الثنائية المكلفة الآلاف من عناصره وقوته، وكان النظام لا يحاول استعادة السيطرة على المناطق التي ينتزعها النظام من الجيش الحر، بل يتركها ويعمد إلى محاربة الجيش الحر في ما تبقى له من مناطق.
جل منطقة نفوذ داعش في سوريا الآن كانت سابقا واقعة تحت سيطرة الجيش الحر. هذا الأمر انعكس على طبيعة الوجود العسكري على الحدود المتاخمة للبنان التي انحسر فيها وجود الجيش الحر بشكل كبير وبات يشكل هامشا أمنيا وعسكريا، وباتت الغلبة بشكل واضح للمنظمات الخاضعة لتوصيف الإرهاب.
من هنا بات صراع حزب الله ضدها يؤمن مشهدا تحاول إيران من خلاله إغواء التحالف الدولي بضمها إليه من خلاله، وهو أمر حاولته في العراق ولكنه لم يلق انتباه التحالف، لذا فإنها تلجأ إلى الخاصرة الأضعف في المنطقة وتحاول استخدام ملف الجنود الأسرى من أجل تحقيقه. هذه هي طموحات إيران ولكن لا يبدو أن الرياح تسير وفق ما تشتهيه سفنها، فهناك تطورات عديدة يمكن استشفافها من بدء وصول الأسلحة الفرنسية إلى الجيش اللبناني وهبوط أسعار النفط إلى أدنى سعر قياسي لها منذ فترة طويلة.
وليس قبول الأسد بالمقترح الإيراني الذي يقضي بإجراء انتخابات لا يشارك فيها سوى استجابة لمعطيات تقول إن هناك نية للحسم ضد النظام باتت بشائرها تلوح عبر قوة بريطانية فرنسية تركية عربية، كما أن نجاح داعش في التوسع في العراق على الرغم من ضربات قوات التحالف واقترابه من الحدود الإيرانية يفرض واقعا جديدا يقول إن الضربة الإيرانية لداعش في العراق ليست سوى نوع من استثمار يائس ومحاولة مذعورة لتجنب تداعيات كارثية.
من هنا يمكن أن نلحظ في الفترة القادمة انفراجات في ملف الجنود الأسرى الذي بات ملفا دوليا مرتبطا بكامل أزمة المنطقة.
إيران لا تفهم سوى لغة القوة. هذا ما أثبتته التجارب معها، لذا يمكن أن نتوقع تشددا وعرقلة في ملف الجنود الأسرى يليه انفراج مفاجئ حيث لا يظهر وكأنه انعكاس لضعف إيراني.
القضية الأولى التي تشغل العالم العربي، والمجتمع الدولي أيضا، هي الحرب على الإرهاب، يليها المشروع النووي الإيراني المقرون بمخطط الهيمنة السياسية على دول المنطقة، وفي الدرجة الثالثة تأتي الحروب الأهلية والصراعات المتعددة الألوان والأهداف في سوريا والعراق وليبيا واليمن، والأقل احتداما في مصر ولبنان والأردن.. وغيرها من الدول العربية والإسلامية. أما القضية الفلسطينية فلا نغالي إذا قلنا إنها تراجعت إلى المرتبة الرابعة أو الخامسة في سلم أولويات وهموم المسؤولين والرأي العام؟
ولا تنحصر المحنة المصيرية العربية في هذه الصراعات والتحديات السياسية والقتالية، بل تتعداها إلى ما هو أخطر، ونعني إدخال الدين في هذه الصراعات على أكثر من مستوى ومنطلق، وتصنيف المسلمين العرب وغير العرب، إلى «معتدلين» و«متطرفين»، وإلى «مؤمنين» و«مجاهدين»، وإلى «منفتحين على العصر والحداثة» و«غلاة متعصبين» منغلقين؛ تفكيرا ولباسا وأسلوبا في القتال، يعتقدون أن نهضة المسلمين لا تكون إلا بالعودة إلى المجتمع الإسلامي الأول، أي ألف وخمسمائة سنة إلى الوراء، وأن من أصول الجهاد اللجوء إلى أسلوب إعدام الأسرى والذبح وترويع البشر وسجن النساء في المنازل، ويقسمون العالم، في ذهنهم، إلى «دار الإسلام» و«دار الحرب»، ويستبيحون دم كل من لا يدين بالإسلام على طريقتهم.
لقد قام حلف دولي - عربي لمحاربة الجماعات الإسلامية التي باتت تحتل قسما من العراق وسوريا، وباتت أكثر من دولة عربية وإسلامية «حليفة» للدول الكبرى المستعمرة لها سابقا، في هذه الحرب على الإرهاب الممارس تحت شعار الإسلام. غير أن هذه الحرب - كما يتفق الجميع - قد تستمر سنوات. والله وحده يعرف ماذا يمكن أن يحدث في هذه السنوات من تحولات دولية وإقليمية.. هل سيبقى العراق دولة عربية موحدة؟ أم تبقى سوريا بكيانها وحدودها الدولية المعترف بها؟ وهل ينفجر الخلاف بين أنقرة وطهران على مستقبل الهلال الخصيب؟ وهل ستتمكن المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي من تأليف نواة صلبة لكتلة عربية تستطيع صدّ جموح الجماعات الإسلاموية المتطرفة وإرساء قواعد جديدة لمستقبل الأمة العربية؟ وماذا عن أوضاع المغرب العربي الكبير ومستقبل علاقته بالمشرق العربي.. بعد أن لوحظ موقف أكثر من دولة مغاربية «النأي بالنفس» عما يجري في المشرق؟
إن الحركات والأحزاب والتنظيمات الجهادية الإسلاموية المتطرفة لا تنحصر في «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» وطالبان و«بوكو حرام»، ولا في من هم أخف تطرفا وإرهابا كالإخوان المسلمين و«حزب الله» وحزب التحرير، بل هناك اليوم انتشار قاري لمثل هذه الجماعات المتطرفة في المغرب وفي أفغانستان وإندونيسيا وأفريقيا السوداء؛ من الصومال إلى نيجيريا، وهذه الحركات والدعوات تتواصل وتتعاون في شق طريقها إلى الحكم بالعنف الدموي. وليس أمام الأنظمة القائمة في هذه البلدان للوقوف في وجهها سوى الاستعانة بالدول الكبرى. ولسنا نغالي إذا تصورنا المعركة، المحتدمة بين الحلف الدولي – العربي، و«داعش»، وقد تحولت إلى حرب عالمية على هذا الإرهاب الإسلاموي. أفلا تلتقي الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، اليوم، معا في جبهة واحدة في الحرب على الإرهاب؟
لقد صمد النظام السوري في وجه معارضيه وحاملي السلاح عليه، من إسلامويين وغير إسلامويين بفضل دعم روسيا وإيران العسكري والسياسي، وكون معظم كبار ضباط القيادة من العلويين، ولا نسقط موقف الأقليات المتخوفة من الوقوع تحت حكم ديني متشدد.. إلا أن موازين القوى قد تتغير إذا كانت الدول الغربية جادة في تعزيز دعمها للمعارضة وفي استمرار ضرباتها الجوية. أما في العراق، فإن كل شيء يدل على أن المساحة المحتلة من قبل «داعش» من الأراضي العراقية سوف تتقلص. ويمكننا، بالتالي، القول بأن طموحات التنظيمات الإسلاموية المتطرفة أكبر بكثير من طاقاتها وقدراتها، على الرغم مما حققته من انتصارات ونجاحات.
أما الجراحات العميقة التي أحدثتها هذه الهبة الجهادية المرتجلة في جسم الأمة على حساب ملايين المشردين من ديارهم ومنازلهم، ومئات الألوف من الأقليات غير المسلمة المقيمة في العراق وسوريا منذ ما قبل الإسلام، والتي أثار تهجيرها أو اضطهادها الرأي العام العالمي.. وأما الدمار الذي لحق بالمدن السورية والعراقية والليبية، وعشرات المليارات التي أهدرت في هذه المعارك وأكثر منها ما خسرته الأمة العربية من فرص التنمية.. كل ذلك سوف يؤخر استعادة الشعوب العربية صحة اقتصادها ونمو مجتمعاتها.
صحيح أن هذه التنظيمات والجماعات الإسلاموية المتطرفة ما كانت لتنشأ ولتستقطب ألوف الشباب المسلمين، لو أن الشعوب العربية والإسلامية كانت متمتعة بما يتمناه كل شعب من سلام واستقرار وحرية وعدالة ونمو اقتصادي ورقي اجتماعي.. ولو لم تتكرر إصابة الدول العربية بالهزائم والنكبات، ولولا جور بعض الحكام.. ولكن إذا كان ما حدث في عام 2011 وسمي بالربيع العربي له مبرره، فإن ما تطورت إليه هذه الثورات لم يكن باتجاه مجرى التاريخ ومسار حضارة القرن الحادي والعشرين، فكيف حين تحولت إلى حروب أهلية وتدمير مدن وتشريد ملايين البشر؟!
لقد ناضل العرب والمسلمون قرنا بكامله كي يتحرروا من الاستعمار ويبلغوا الاستقلال، وبدلا من أن يتكاتفوا ويوحدوا صفوفهم ويسعد بعض حكامهم رعاياهم، انقسم بعضهم على بعض، بل وتحولوا إلى خصوم وأعداء، وهم اليوم في طريقهم إلى أن يفقدوا أوطانهم واستقلالاتهم وهويتهم القومية. رحماك ربي.
لم تكن الغارات الإسرائيلية على مخازن أسلحة، في الأسبوع الفائت، الأولى من نوعها، فقد سبقتها ستّ غارات من هذا النوع منذ بدء الثورة، ما يعني أن ثمة أمراً واقعاً قد تكرّس، يستطيع الطيران الإسرائيلي بموجبه استباحة الأجواء السورية على نحو ما يفعل في الأجواء اللبنانية.
يُذكر أيضاً أن الغارات الإسرائيلية على مواقع سورية سبقت الثورة بسنوات، وفي 2006 حلق الطيران فوق القصر الرئاسي في مدينة اللاذقية أثناء تواجد بشار الأسد فيه، أي أن الغارات لا تُعدّ استقواءً على النظام في ضعفه الحالي، بل أتى التحليق على القصر الرئاسي بينما كان صاحبه يزهو بإفلاته من العدالة في قضية اغتيال الحريري، ولم تردعه تلك الإهانة الصارخة عن وصف قادة عرب آخرين بأنصاف الرجال، في خطاب له بعد انتهاء حرب تموز.
وبما أن خطاب الممانعة انكشف زيفه وسفاهته، ولم يعد يستحق التفنيد، فالأجدى النظــــر في سياق الغارات الحالية وارتباطها بتكريس الوقائع على الأرض. فمنذ حرب تموز 2006 سارت القيادات الإسرائيلية، ومن خلفها القوى الكبرى في المـــجتمع الدولي، على نحو يُبعد الخطر عـــن شمال إسرائيل، ولم تعد تُستثنى طرق الإمـــدادات من الضربات الاستباقية، أما حق الرد الذي كان يلوّح به النظام إثر كل غـــارة فمــحـــض إنشاء ممانع، لأن جبهة الجنوب اللبناني التي كانت تتكفل بالرد أُقفلت بموافقـــة حلــــف الممانعة نفسه علـــى القرار 1701 الذي نص على سحب قوة حزب الله الضاربة إلى شمال الليطاني.
ما يتلطى خلفه خطاب الممانعة الحالي هو أن إسرائيل تستغل انشغال الحلف بالحرب في سورية لتكيل الضربات، في رهان على ضعف ذاكرة الناس عموماً، لكن من جانب آخر لحصر الغارات في إطارها السوري، بحيث يبدو النظام السوري كأنه وحده من يتلقى الضربة والإهانة، وعلى هذا الصعيد لا بأس في ضمها إلى الإهانات التي يتلقاها من هنا ومن هناك، وأحياناً من الحلفاء قبل الأعداء. وضع الاعتداءات في إطارها يستلزم خطاباً من نوع آخر، ويستلزم الجرأة لأن الغارات الإسرائيلية تفنّد المزاعم التي ساقها حزب الله تبريراً لتدخله في سورية. وإذا كان الحزب قد بدّل مبررات تدخله حسب الحاجة، فإن المبرر الثابت والأقوى بقي حماية النظام السوري، بوصفه ظهيراً للإمدادات القادمة من إيران. الإقرار بأن الغارات الإسرائيلية المتتالية تقطع خط الإمدادات يعني ضعف الحجة التي يسوقها الحزب، أو يقتضي منه رداً مباشراً على الاعتداءات.
يزعم الحزب أنه يحارب التكفيريين عملاء الغرب وإسرائيل، ويزعم النظام أن الغارات الإسرائيلية أتت بعد تحقيق قواته انتصارات كبيرة على المعارضة العميلة. يقتضي المنطق هنا محاربة الأصيل بعد فشل الوكلاء، خاصة عندما يتقدم الأصيل "الإسرائيلي" إلى الساحة، أو على الأقل خوض معركة متكاملة ضد الأصيل وأعوانه. ذلك يوجب الاعتراف بأن الحلف الممتد من طهران إلى جنوب لبنان صار مخترقاً، وأنه يتعرض لخطر حقيقي، بخلاف المزاعم الإعلامية عن الانتصارات التي يحققها، وبناء عليه يتوجب الإقرار بأن قواعد اللعبة تغيرت تماماً منذ حرب تموز، في شقيها اللبناني والفلسطيني.
لا يفيد هنا التحدث عن تغير في قواعد الاشتباك، لأنه ينتمي إلى اللغو الممانع نفسه، فالتغير أصاب فقط قدرة حلف الممانعة على الوصول بشكل مجدٍ إلى أهداف إسرائيلية، وأيضاً القدرة على تلقي الإمدادات المرسلة إلى الجنوب أو إلى غزة، في الوقت الذي لم تفقد فيه إسرائيل قوتها الهجومية وقدرتها على شن غارات استباقية في عمليات تدل على قوتها الاستخباراتية مع قوة سلاحها الجوي.
لا يفيد هنا أيضاً الحديث عن أزمات داخلية تعيش فيها القيادات الإسرائيلية، وتدفعها إلى افتعال الحروب، فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أبقت على الإستراتيجية ذاتها في ما يخص دفع الخطر بعيداً عن الحدود البرية، مع الاحتفاظ بقوة رادعة كبيرة من خلال سلاح الجو. يجوز الاعتقاد أن هذه الاستراتيجية بدأت مع الانسحاب من جنوب لبنان، الأمر الذي أغضب حلف الممانعة، واعتبره النظام السوري حينها بمثابة مؤامرة عليه.
أيضاً، يجوز الاعتقاد أن مكانة النظام قد تأذت عموماً لمصلحة وظيفته المحدودة كمعبر لإمدادات الحزب، في الوقت الذي راح فيه الأخير يباشر مهمته اللبنانية بالأصالة بعد انكفائه إلى شمال الليطاني. أي أننا كنا إزاء تبادل في الأدوار لم يظهر إلى العلن إلا مع بدء الثورة السورية، تبادل بانت فيه الأفضلية لحزب الله على النظام ضمن الإستراتيجية الإيرانية. وإذا كان النظام قد حاول سابقاً تعويض مكانته الإقليمية المنهارة، من خلال الانفتاح على الغرب والعلاقة الوطيدة مع الجار التركي، إلا أن الثورة وعدم قدرته على قمعها أعاداه إلى حجمه الفعلي الذي تضاءل منذ انسحاب قواته من لبنان.
وأن يتحدث إعلام الممانعة عن بقاء الضربات الإسرائيلية "ضمن قواعد اللعبة"، لأنها لا تنال من البنى العسكرية للنظام، فلهذا معنى محدد هو عدم تأثير الضربات على مجريات الحرب في سورية، الأمر الذي يعكس رضوخاً لمتطلبات أمن إسرائيل ما دام منسجماً مع أمن النظام وبقائه. ليس سراً على هذا الصعيد أن إسرائيل لا ترى مصلحة لها في إسقاط نظام الأسد، لا لأنها تتخوف من البديل وإنما لأن بقاءه على هذا النحو من الضعف مصلحةً إسرائيلية، بعد أدائه لدوره في ضبط الجبهتين السورية واللبنانية طوال عقود، ولا يدعو للاستغراب أن تتوافق مصلحتها مع مصالح الحلف الإيراني الذي لا يزال يرى بقاء نظام تابع ضعيف أفضل من خسارته كلياً.
السؤال الفعلي هو: لماذا لا ترد إيران أو يرد حزب الله، بصفتهما المتضررين مباشرة، على الغارات الإسرائيلية؟ ألا يعني هذا إقراراً منهما بالقواعد الإسرائيلية للعبة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فعن أية انتصارات يتحدث الممانعون؟
من التجربة القريبة نستطيع الجزم بأن هزيمة كبيرة قد تلقوها، هزيمة تعادل أو تفوق الضجيج عن الانتصار في سورية. يبقى أن يعي هؤلاء أن إسرائيل لا تتحرش، وفق وصفهم، بل تنفذ ما تريده بالضبط، وأنهم في الجانب الآخر لم يعودوا يمانعون.
نعم إنها الشعوب ، فهي مصدر أحقية الحاكم بالسلطة ، هي نبع قوته ، هي متلقي الإستبداد ، و مُستقبل الضربات ... فهي وُجدت فداء للرئيس ، تنتهي ولا يفنى الزعيم .
بالأمس إحتفلنا بإنتصار العدل مع براءة مبارك ، و اليوم نقيم الأفراح لإنتصار البشير على المحاكم الاستعمارية ، و لم لا يكون في الغد القريب على موعدِ جديد لرئيس آخر فعل الأهوال ليفنى الجميع و يبقى على سدة عرشه الإستبدادي .
فالتسلسل الحاصل حالياً يجمع بين عناصره كثيرٌ من الأمور المتشابهة مما يجعل أمر تكرار النهايات أمرٌ وارد .
و إذا ما دخلنا أكثر و تسائلنا : هل هي عبارة عن رسائل تطمين لم حان الدور عليه أو موجود على القائمة ، بأن إفعل ما تشاء فهذا هو الجزاء .
الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك جاء بإرادة العسكر ، و كذلك عمر البشير الرئيس السوداني الحالي كذلك جاء عن طريق العسكر ، و رئيس النظام السوري جاء هو الأخر كمولود طبيعي لقبضة العسكر .
مبارك حكم بأجهزة مخابراتية فاسدة ، البشير قدّم الفساد على المخابرات ، أما الأسد فجمع بين الإثنين و أضاف نكهته الخاصة ( الإحاطة بالطائفة العشائرية ) .
مبارك لعب بمنطق الحزب الأقوى ، البشير غيّب الأحزاب و ظهر بشخصه مع وجود صوري لحزبه ، و هنا الأسد أثبت تفوقه على الإثنين بأن إخترع الحزب الأوحد ، القائد للدولة و المجتمع ، المتعلق وجوده و إنهاءه بشخصه .
لا شك التقاطعات هي كثيرة و تحتاج لأبحاث مفصّلة إلاّ أن مرتكزاتها الأساسية تتمثل بالنقاط الثلاث آنفة الذكر ، و ما يترتب عليها من تبعيات من حيث العنف و الإستبداد و التغيّب و النفي للآخر ، الفساد ، الإعتماد على الحكم الاُسري الولائي و إنهاء أي بديل أو معارض .
مبارك بريئ من قتل المتظاهرين و سرقت البلاد ، البشير بلا محاكمة بعد تجميد ملف قضية دارفور وإعادتها الى مجلس الامن ، و لم لا يأتي ذلك الغد الذي يكون فيه بشار الأسد نبع الأمل و الوفاء و الوطنية ، فالبدايات و المراحل تتشابه ، و من المفروض النهايات كذلك ، فالرسائل تتالى و المرسل إليه سعيد بالتطمينات.
يا لها من سخرية، ففي الوقت الذي تتحدث فيه الإدارة الأميركية عن الحاجة لفترة طويلة لتدريب المعارضة السورية المعتدلة لمقاتلة نظام الأسد الإجرامي، والتنظيمات الإرهابية، تعلن «داعش» عن وقف التدريس بمدارس مدينة منبج بريف حلب إلى حين الانتهاء من إخضاع المدرسين لـ«دورات شرعية»!
وهنا نحن أمام احتمالين؛ فإما أن «داعش» تقوم بدعاية لإظهار قوتها، وعدم مبالاتها بالتحالف الدولي، أو أننا أمام كارثة حقيقية تنافي تصريحات وزير الدفاع الأميركي هيغل بأن قوات التحالف تحقق نجاحات ضد «داعش»! والحقيقة أن قرار «داعش» إيقاف التدريس بمنبج سبقه قرار مماثل في مدارس دير الزور، والبوكمال والرقة مما يعني أن «داعش» تتصرف بحرية! ولذا فعندما نقول إن خبر إيقاف «داعش» للدراسة مثير للسخرية، وكارثة، فلأسباب بسيطة، لكنها مهمة جدا، تفعل «داعش» ما تفعله في سوريا بسبب حالة الاضطراب الحقيقية التي تشهدها الإدارة الأميركية الآن داخليا، فبعد إشكالية تردد الرئيس الأميركي، نحن الآن أمام حالة ضعفه الواضحة، التي ليست بسبب سيطرة الجمهوريين على الكونغرس بمجلسيه، أو قرب انتهاء فترة أوباما الرئاسية، بل بسبب الخلافات التي باتت واضحة داخل إدارة أوباما حاليا، وعلى مستوى القيادات المؤثرة.
هناك وزير الدفاع المستقيل، وسبق له أن احتج على أسلوب إدارة أوباما بسوريا، والآن هناك رئيس الاستخبارات الأميركية الذي يواجه عاصفة نتيجة تحقيقات أساليب الاستخبارات الأميركية بعد أحداث سبتمبر الإرهابية في أميركا، ولم يقف معه الرئيس أوباما، بل إنه، أي رئيس الاستخبارات، تناقض مع أوباما في تصريحاته دفاعا عن جهاز الاستخبارات الأميركية الخارجية. وقبل هذه القضية المشتعلة في الداخل الأميركي، أي أسلوب التحقيقات الذي انتهجته «سي آي إيه» في التحقيق مع الإرهابيين، سبق لأوباما أن انتقد جهاز استخباراته الخارجية بأنه فشل في تقدير قوة «داعش» الحقيقية!
وعليه يحدث كل ذلك في داخل الإدارة الأميركية نفسها الآن بينما تعلن «داعش» عن إيقاف الدراسة في مناطق سورية وذلك لتدريب المعلمين، والأخطر من كل ذلك، وهو ما لم يجد اهتماما إعلاميا، سواء عربيا أو غربيا، أو اهتماما سياسيا، أنه طوال قرابة 4 أعوام من عمر الأزمة السورية فإن جيلا من السوريين الصغار بات بعيدا عن التعليم، سواء داخل سوريا، أو خارجها، حيث اللاجئون، مما يعني أن سوريا، والمنطقة، بانتظار دفعة جديدة من غير المتعلمين، والقابلين للتطرف، إما انتقاما أو جهلا، وهو ما سيزيد من تعقيد ملف الأزمة السورية، وحتى في حال رحيل الأسد، والحقيقة أن كل ذلك يحدث بسبب الإهمال الدولي، وتحديدا الإهمال الأميركي، فالأزمة السورية لن تحل بعامل الوقت كما يعتقد البعض، بل إنها تتطلب قيادة دولية حقيقية، وهو الأمر غير الموجود الآن، وتحديدا بأميركا، وهذا أمر مريح بكل تأكيد بالنسبة لـ«داعش» والأسد، وإيران!
عندما أعلنت فيديريكا موغيريني مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية أن وزراء خارجية الاتحاد سيلتقون غدا الأحد مع مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا في بروكسل، للبحث في استئناف عملية السلام في سوريا في موازاة تنسيق المعركة ضد تنظيم داعش، طرح الكثيرون سؤالا واحدا:
ولكن متى قبل النظام السوري وحلفاؤه عملية السلام لكي يتم الحديث الآن عن استئنافها؟
لا يملك ستيفان دي ميستورا حتى الآن سوى تلك الخريطة المرسومة باللونين الأحمر والأخضر التي «يشهرها» في وجوه الصحافيين، وتمثّل خطوط القتال في مدينة حلب المنكوبة بالبراميل المتفجرة، ويحاول من خلالها القول إن لديه خطة اسمها «تجميد القتال في حلب»، كمدخل للعودة إلى التسوية السلمية.
التسوية السلمية؟
بعد 5 أشهر من بدء الأزمة السورية إثر تكسير أصابع الأطفال في درعا، دعت الجامعة العربية إلى تسوية سلمية للأزمة. كان هناك متظاهرون يهتفون «سلمية سلمية»، وكان هناك نظام يمطرهم بالرصاص، ومنذ 4 أعوام تقريبا ليس هناك ما يوازي القصف والتدمير والقتل أكثر من الحديث عن الوسطاء والمبعوثين.. والتسوية السلمية!
ليس في «خطة» دي ميستورا التي يبدو أن الروس دسّوها في رأسه، أي شيء جديد، فبعد 3 أيام من الاجتماعات التي عقدها مع المعارضة في غازي عنتاب في تركيا، قال قيس الشيخ رئيس مجلس قيادة الثورة، وهو تحالف جديد يضم عشرات الفصائل المقاتلة بينها العلمانية والإسلامية «إن خطة دي ميستورا التي عرضها لنا لم تكن مكتوبة ولا تحتوي على كل الآليات والضمانات المطلوبة، ولقد ناقشناه في القناعات التي بنى عليها خطته والتي تختلف عن قناعاتنا»!
منذ أسابيع والمبعوث الدولي يتحدث عن «تجميد القتال» في حلب، لكن ليس هناك من يشرح للمعارضة السورية على الأقل، ما الفرق بين «تجميد» القتال و«وقف» القتال، وخصوصا إذا كان التجميد سيتحوّل مدخلا يدفع حلب إلى الاستسلام للنظام على ما جرى في حمص.
عندما يتحدث دي ميستورا عن «تجميد القتال» فإنه ينسى أو يتناسى سلسلة طويلة من المساعي العربية والدولية الفاشلة في هذا السياق، من «المراقبين العرب» الذين سعوا إلى وقف متدرّج للقتال يفضي إلى الحل السلمي، إلى «المراقبين الدوليين» الذين خرجوا أيضا بخفي حنين أمام إصرار النظام على الحل العسكري.
ثم ما الذي سعى إليه كوفي أنان مثلا غير وقف للنار يجمّد العمليات العسكرية، بما يمهّد للدخول في التسوية السلمية التي تقرع الآن طبولها الكلامية في كل العواصم هذه الأيام دون أي مستند ميداني يساعد على ذلك، وهل يتفضل دي ميستورا فيقرأ نص البنود الستة التي حملها أنان إلى الرئيس بشار الأسد، وخصوصا البند الثاني الذي ينص على «الالتزام بوقف القتال والتوصل إلى وقف العنف المسلح من كل الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة لحماية المدنيين وتحقيق الاستقرار».
وماذا فعل الأخضر الإبراهيمي غير السعي إلى وقف أو تجميد للقتال يسمح بالانتقال إلى التسوية السلمية، ليكتشف أن عليه الاستقالة لأن مهمته مستحيلة فعلا كما قال عشية تكليفه بها، أولم يكن الحافز الإنساني حيال المهجّرين والمحاصرين دائما المستند الذي تأبّطه أنان والإبراهيمي، تماما كما يفعل دي ميستورا الآن عندما يتحدث عن مأساة 300 ألف من المحاصرين المهددين في حلب؟
بعد ستة اجتماعات بين دي ميستورا والمعارضين في غازي عنتاب، قال إنه أجرى «محادثات بناءة» لكن تصريحات قيس الشيخ لم توحِ بوجود ما يمكن أن يبنى عليه، وقال إنها خطة للأمم المتحدة وليست لأحد آخر بينما الواضح تماما أنها خطة روسية يراد لها أن تلبس أقنعة الأمم المتحدة، أما بخصوص مسألة التجميد فيقول إنها «ليست وقفا للنار مثلما هي الحال في حمص.. هذا تجميد وقف القتال»، هكذا بالحرف والشاطر من يفهم!
وليد المعلم كان قد قدّم من سوتشي بعد لقائه مع فلاديمير بوتين شرحا أكثر وضوحا لموضوع التجميد عندما أعلن أن شروط النظام لقبول مبادرة دي ميستورا هي «استعادة السلطة المركزية» لكل المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، وأن تبدأ المجموعات المسلحة بالتجميد وتقوم بتسليم سلاحها الثقيل وتسوية أوضاعها، أو أن تخرج من المدينة لمقاتلة «داعش» و«النصرة»، وأن تستعيد دمشق سلطتها على المدينة.
أمام هذا لا يرى المعارضون فرقا بين حال الاستسلام الذي انتهت إليه حمص وبين ما يطلبه المعلم ويمثّل استسلاما كاملا لحلب، ليس هذا فحسب فبعد ستة اجتماعات بين دي ميستورا والمعارضين في تركيا قال الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، إن أي خطة للهدنة (لم يستعمل كلمة تجميد) تحتاج إلى أن تكون جزءا من استراتيجية أشمل تتضمن عزل بشار الأسد من السلطة!
عزل الأسد من السلطة؟
ولكن من قال إن عزل الأسد، ليس في رأي النظام أكثر من «يا حصرمًا يراه مستر ميستورا في حلب»، ذلك أن أقصى التفاؤل بإمكان نجاح خطة التجميد وتحويلها مدخلا إلى الحل السلمي الذي يطالب به الجميع دون وجود تصوّر واضح للحل، وما توافر حتى الآن في هذا السياق لا يتجاوز الإشارة إلى أنه يمكن البدء في التسوية السياسية سنة 2016، ولكن على أي أساس؟
السفير رمزي علم الدين نائب المبعوث الدولي إلى سوريا قال في حديثه إلى «الشرق الأوسط» قبل أيام إن تفاصيل خطة دي ميستورا تستند إلى مستويين، الأول هو التعامل مع موضوع تجميد القتال في حلب ثم تعميم التجميد إلى مناطق أخرى، والثاني يتم في المدى المتوسط أي بعد سنة 2016، ويرتبط بالأفق السياسي الذي سيكون قوامه اتفاق «جنيف - 1» وهو الوثيقة الوحيدة المقبولة دوليا.
صحيح أنها مقبولة دوليا ولكن من الذي يستطيع أن يجعل منها وثيقة صالحة للتطبيق وإرساء التسوية السلمية في سوريا، وخصوصا بعد الفشل المزدوج الذي انتهى إليه مؤتمر جنيف في مرحلتيه انطلاقا من العقدة الواحدة التي اعترضته ولا تزال، وهي موقع الأسد من الحل ومصيره بعد التسوية؟
ولأنه ليس من الواضح حتى الآن إذا كانت التسوية التي يسعى إليها المبعوث الدولي بدفع من روسيا وتأييد مشروط من النظام وتشجيع من إيران، ستحدد مصير الأسد عبر عملية توضّح مراحل عملية الانتقال السياسي، فيا حصرما يراه دي ميستورا ولافروف في حلب!
أربعة أعوام من الاستعصاء السياسي في سوريا انعكست فوضى شاملة ودمارا واسعا اجتاح، بضراوة خلال العام الماضي، كلا من لبنان والعراق. استعصاءات مركّبة من طبقات عديدة، محلية وإقليمية ودولية. كل طبقة تمتلك دينامية داخلية من التوازن تجعلها تحافظ على مستوى ثابت من التحالفات والتفارقات، فيما الواقع يتغير بسرعة، ينحدر إلى حضيض لا قعر له. لكن هذا الواقع دخل في أشد مراحل الفوضى والرعب، حيث بات الخطر محدقا، وحيث تنامت الشكوك في إمكانية الوصول إلى نقطة اللاعودة على المستوى الإقليمي والدولي، بعد أن وصلت سوريا والعراق إلى تلك النقطة منذ زمن.
هكذا تحركت الولايات المتحدة الأميركية على المستوى العسكري هذه المرة في محاولة لكسر الاستعصاء على المستوى السياسي. فابتعادها عن الساحة العراقية بعد سحب قواتها، وعدم وجودها أساسا في الساحة السورية واللبنانية مكّن كلا من إيران وروسيا من لعب دور كبير في تثبيت الاستعصاء، ومن سد كل أفق أمام أي حل سياسي. كانت أعوام من “البلطجة” الإيرانية والروسية بامتياز، حتى تماهى الطرفان مع دورهما الجديد كمطرقة ضخمة وحيدة في ميدان الحرب السورية والعراقية لا ترى في أعداء حليفيها، بشار الأسد ونوري المالكي، سوى مسامير صغيرة تستدعي السحق.
اتضح، مبكراً جداً، للقوى الغربية أن تركيبة النظام السوري صلدة جداً وغير قابلة للتفكك أو الانفتاح على تسوية سياسية مرضية تنهي ما بدأ كاحتجاج سلمي وتحول إلى حرب. ما لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية هو أن روسيا وإيران تديران الملف السوري بنفس العقلية والروح الإجرامية التي يمتلكها نظام الأسد. إدارة مجنونة كتلك للصراع، لا يمكن إلا أن تولّد الاستعصاء الذي يسبق انفجارات متتالية، وحالة من الفوضى المستعرة والمتدحرجة من دون توقف.
فيما يبدو أن الجميع بات مدركا لتلك الحقيقة اليوم، فمن يريد فك طلاسم الحرب السورية والعراقية عليه ألا يراهن على تغيير في مواقف روسيا وإيران من دون ضغط حقيقي ومؤلم عليهما سواء في سوريا أو العراق، أو على اقتصاد البلدين.
ولا يمكن أن أنظر لتهاوي أسعار النفط إلى هذا المستوى السحيق إلا كجزء من عقاب دولي- إقليمي للحليفين الروسي والإيراني. لقد هبطت أسعار النفط بنحو 40 في المئة عن ذلك السعر التي دخل في الموازنة المالية لكل من روسيا وإيران في العام الماضي. كما أحدثت العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية انكماشا حادا في اقتصادها.
وكانت الآثار واضحة عندما رفضت روسيا، مؤخرا، طلب سوريا لقرض جديد بنحو مليون دولار، إذ باتت الدولة الروسية المنهكة اقتصادية أكثر حساسية في نفقاتها الداخلية والخارجية على السواء. فيما تعاني إيران ويلات العقوبات هي الأخرى، وتكاليف الدعم السخي لحرب النظام السوري على شعبه منذ أربع سنوات.
هكذا يشتد الصراع على المستوى الدولي، ليواكب الضراوة التي يشهدها الصراع على المستوى المحلي. فيما يبدو أننا دخلنا في معركة كسر عظم بين روسيا وإيران من جهة، والغرب وأميركا ودول إقليمية من جهة أخرى. ويبدو سلاح النفط كدعامة أساسية واستثنائية في هذه المعركة. سلاح زجّت فيه دول عربية نفطية، ربما بتوافق مع الغرب وأميركا رغم ما يقال عن تضررها جزئيا كونها المنتج الأول للنفط الصخري.
فروسيا وإيران تدفعان بالمنطقة والعلاقات الدولية من وراءها إلى مزيد من الفوضى والتأزم. لذا، لا يمكن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام من دون تنازل كبير يقدمه الروس والإيرانيين. كما يشكّل التحالف الدولي وزيادة الانخراط العسكري المباشر للولايات المتحدة الأميركيـة في سوريا والعراق الدعامة الثانية في معركة كسر العظم تلك.
وهكذا أيضا، يبدو مفهوما أن تهرع روسيا من أجل تحريك المفاوضات السياسية بين النظام والمعارضة. فأرسلت مبعوثها للأزمة السورية ميخائيل بوغدانوف في جولة مكوكية انتهت بمقابلة الأسد. لكن التسريبات من أطراف في المعارضة تشير إلى عدم وجود تغيير جوهري في موقف موسكو، فهي تدعو لحوار يجمع المعارضة والنظام من دون شروط ومن دون جدول زمني ومن دون أي ضمانات.
بالتأكيد، لا يتوقع من الضغط الدولي الكبير على روسيا، وقد بدأ للتو، أن يحدث تغييرا ملموسا وحادا في مقاربتها للأزمة السورية. لكنه في الوقت نفسه لا يمكن إلا أن يدفعها لإعادة النظر في سياستها السابقة، ومحاولة البحث عن بصيص ضوء لهذا النفق المظلم الذي حشر نظام الأسد السوريين وكل حلفاءه فيه.
تشعر روسيا أن الخناق يشتد على عنق سياستها العنيدة في سوريا والعراق اللذين باتا ميدانا دوليا لإدارة المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية. فهي لم تعد لاعبا دوليا وحيدا في تلك المنطقة، بل إن تحالفا دوليا مكونا من عشرات الدول صار يرسل طائرات حربية وجنودا، وتقوده الولايات المتحدة، في مشهد لا يمكن أن يبعث على الارتياح. لكن روسيا فلاديمير بوتين تبقى حتى اليوم أسيرة مقارباتها السابقة، وأسيرة بنى سلطوية طائفية نابذة للتسويات في كل من سوريا وإيران والعراق.
مَن تأمَّل تصريحات وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم في موسكو سيجد للمرة الأولى أن نبرته متلعثمة وعباراته مرتبكة متخلياً عن ثقته التقليدية، ما يدعم التسريبات عن تبدل موقف روسيا بخصوص النظام وليس مصالحها. بعد أيام نسبت «العربية» إلى مسؤول فرنسي قوله إن طهران لم تعد حريصة على الأسد.
الأسد أتعب حلفاءه قبل خصومه، فهذا النظام الشرس لا عقيدة قتالية لديه إنما قدراته، مثل أشباهه، في القمع الوحشي والتفرد بالمواطنين، وبناء الصورة المرعبة عن إمكاناته التعذيبية، حتى إن أشهر رجال النظام هم سادة التعذيب وقادة السجون، بل إن العلامات الدالة على سورية لم تعد مناطقها التاريخية والسياحية بل هي السجون الشهيرة صانعة الخوف والإرهاب. ناضلت طهران من أجل سيطرة النظام على الأرض، فبعثت ميليشياتها المتعددة وعززتها بدخول صريح وفج لـ«حزب الله»، إلا أنها لم تنجح مجتمعة في ترسيخ وجوده المتناقص يومياً مثل ضوء شمس يمضي إلى الغروب. ناصرته روسيا سياسياً وعسكرياً فلم يجد فعلها شيئاً كأنها تخوض حرباً تستعيد معها تاريخ أفغانستان ومراراته. حتى لبنان الذي كانت خيوطه مربوطة بقصر دمشق ارتفعت نبرته وبدأ يتلذذ بطعم الاستقلال.
ثلاثة أعوام من الدمار لم تثمر سوى خلق بيئة حاضنة لكل جماعة جهادية جعلت سورية مركز التجمع العالمي لها وميدان نشاطها، ثم تقاسمت المناطق بينها فلم يعد لعلم النظام من مكان سوى القصر وحواليه.
استخدم جيش الممانعة والمقاومة الألغام والبراميل المتفجرة والصواريخ والغازات، فلم يجد فيها نفعاً سوى أنه حدد لأهل بلده مكانين لا ثالث لهما: القبر والمهجر. استنزف كل الدعم من دون نتيجة، وأرهق مسانديه الذين تكاثرت عليهم الهموم حتى غدا الأسد أسوأها وأضرها، فأصبحوا يبحثون الخلاص منه بأقل الأضرار قبل أن تطمرهم الخسارة الكاملة وتضيع كل جهودهم.
طهران تئن تحت مشكلات كثيرة، والأسد الذي ظنته ورقة رابحة أصبح نكبتها وبوابة تفشل كل مخططاتها وتقضي على هيمنتها الصورية، فلا حمت دمشق ولا حصّنت العراق ولا أبقت على صورة معقولة لحزبها الأثير، فليس أمامها إلا النجاة بأقل خسارة إن جاءها عرض يبعد الأسد ويضعها في طاولة المفاوضات لتبدو مثل ولي أمر يزوج ابنته رغماً عنه لأنه لا يملك خيار منعها فلا يضيف إلى ذلك تمردها عليه.
ما يحدث في سورية مشهد فانتازي فريد، طائرات التحالف تجوب أراضي الأسد كأنها مساحات دولية، والجهاديون تمكنوا من محافظاته حتى أنهم نسوه في صراعاتهم البينية، فلا تأثير له أو هيمنة، ثم جاءت الطائرات الإسرائيلية لتضرب قرب أسوار قصره ليكون رده المأثور: «سنختار الوقت والطريقة المناسبين للرد»!
هذه التحولات الأخيرة هي الطريقة المثلى لانهيار النظام، لأن المظلة الآمنة وإن لم تسقط بدأت تهتز بفعل الرياح، ما يدفع العناصر الملتفة حول النظام إلى الهرب والبحث عن سبل النجاة، فالخطر وشيك، والبوابات أغلقت، والحصار اقترب.
إن صحت التسريبات فالنهاية لن تتأخر، وربما تتحقق قبل جولة جديدة من المفاوضات، فقد حان وقت الهرب الكبير، وفتحت بوابة الانشقاقات من حراسها والقائمين عليها.
قبل أيام، وفي 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أعلن مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، أنطونيو غوتيريس عن قبول 27 دولة توطين 100 ألف لاجئ سوري على أراضيها. تجيء الخطوة، كما يقول، للتخفيف عن دول الجوار السوري، نتيجة التدفق الذي لا ينقطع للاجئين.
تحفل وسائل الإعلام ومواقع التواصل بأخبار يومية عن اللاجئين السوريين، من أشدها قسوة تلك التي تفد من لبنان، حيث يتم تحميل اللاجئين السوريين (غير المعترف بهم بهذه الصفة) مسؤولية ما ترتكبه "النصرة" بحق جنود لبنانيين، ويتم تجييش طائفي ضدهم منذ بدء تدفقهم إلى جيرانهم، وحرمانهم من أبسط حقوق الإيواء، وممارسة أشكال شتى من العنف العاري ضدهم.
وقد تعرض اللاجئون، منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلى محنة وقف العون الطبي لهم، ثم وقف العون الغذائي، قبل أن يعود الأخير جزئياً، من دون أن يسهم ذلك في وقف حالة شظف العيش التي يعانيها أكثر من ثلاثة ملايين سوري في دول اللجوء التي تتحمل مسؤولية مفاجئة عن أكبر حالة طوارئ إنسانية يشهدها عصرنا، وفق تعبير مفوضية اللاجئين. هذا ناهيك عمن يخاطرون بحياتهم في البر والبحر، ولا يتمكنون من العبور الآمن والدخول الشرعي إلى دول شقيقة.
دول الجوار، وبالذات في لبنان والأردن، تتحدث عن أعباء اللجوء والضغوط التي تمارس على الخدمات الأساسية، وذلك مع ازدياد عدد السكان بنسبة تقارب 10% في الأردن، و20 % في لبنان. وهي، بلا شك، نسبة كبيرة، في بلدين يعانيان من ظاهرة الفقر والبطالة والمديونية، غير أن اللاجئين لا يتحملون مسؤولية هذه الظاهرة، فهم، في جميع الأحوال، ضحايا مقتلعون من ديارهم، والمسؤولية تقع على النظام في بلدهم الذي تعامل، منذ البدء، بحل عسكري مع ظواهر احتجاجية مدنية، قبل أن يتفاقم الوضع، ويتم دفع الانتفاضة المدنية دفعاً نحو العسكرة.
وتكمن محنة اللاجئين، في بعض وجوهها، بافتقاد بيئة حاضنة ومتعاطفة، حيث يسهل على كثيرين في أوساط الجمهور تحميلهم مسؤولية صعوبة الأوضاع الاقتصادية في البلاد التي لجأوا إليها.
نازح سوري لجأ منذ أواخر العام 2012 إلى الاردن تحدث لكاتب هذا المقال، بنبرة تمتزج فيها السخرية بالمرارة، عن أن اللاجئين الفلسطينيين حين نزحوا من ديارهم في العام 1948 كانوا "محظوظين"، فقد تلقوا استقبالاً طيباً من المجتمعات في سورية ولبنان والأردن والعراق ومصر، خلافاً للاجئين السوريين الذين يجري التعامل معهم، في أغلب الحالات، على أنهم غير مرغوب بهم.
في واقع الأمر، الظروف هي التي تغيرت، فعدد السكان، قبل ستين عاماً وأكثر، كان ضئيلاً، وكانت هناك حاجة إلى أيد عاملة في المشاريع الزراعية والصناعية والخدمية، ولم تكن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الغالبة على اهتمامات الرأي العام (رغم وجود تلك المشكلات)، فالغالب كانت الطموحات الوطنية والقومية للتحرر من قبضة الأجنبي الذي كان محتلاً، أو يحتفظ ببعض وجود له.
" الاهتمام الإقليمي والدولي، إما أن يتخذ طابعاً إنسانياً، أياً كانت الملاحظات على أوجه العون والغوث، أو يتم من منظور رفع الأعباء الاقتصادية عن دول اللجوء "
افتقاد الأمان الفردي والجماعي للاجئين السوريين، وخسارتهم الوشائج التي كانت تربطهم ببيئتهم المحلية، وغموض المصير الذي ينتظرهم، هي بعض مما يؤرق القطاعات الأكبر من هؤلاء، غير أن ما يرصده المرء خلال ذلك أن الاهتمام الإقليمي والدولي، إما أن يتخذ طابعاً إنسانياً، أياً كانت الملاحظات على أوجه العون والغوث، أو يتم من منظور رفع الأعباء الاقتصادية عن دول اللجوء. ولا ضير في هذا وذاك، بل إن الاهتمام، حين يسلك هذين الاتجاهين، مطلوب، فثمة حاجات إنسانية عاجلة للإيواء والغذاء والدواء والتعليم، وهناك، في المقابل، الإمكانات المتاحة لدول اللجوء، بعضها يقصر عن تلبية حاجات مواطني هذه الدول، ومن الواجب دعم هذه الدول.
الثغرة الماثلة، والتي تزداد اتساعاً، هي في افتقاد النظرة السياسية لمشكلة اللجوء السوري وسبل معالجتها. فحين يتزايد تدفق اللاجئين، يدور الحديث، فوراً عن إمكانية استيعابهم هنا وهناك، وعن الصعوبات الجمة التي تكتنف ذلك، والتي تصاحبها نداءات تدعو لوقف استقبال المزيد، وردة الفعل هذه يمكن اعتبارها طبيعية، في ظروفٍ لا تبشر بوقف ظاهرة التدفق، غير أن هذا الموقف ينقصه التصريح بأمرٍ جوهري، وهو التساؤل عن سبب استمرار هذه الظاهرة، عن ظروف الطرد التي يتعرض لها النازحون، فيضطرون معها لمغادرة ديارهم، والتخلي عن بيوتهم وموارد رزقهم، تحت طائلة الخطر الماحق على حياتهم.
وبينما يبدي نظام بلادهم لامبالاة تامة إزاء محنة هؤلاء المقتلعين، بعد أن تسبب بها، ويعفي "نفسه" من أية مسؤولية عن رعايتهم في مواطن اللجوء (في واقع الأمر، لا يعترف بهم وهم في عداد الملايين! وقد رفض النظام، ولو لغايات شكلية ودعائية، منح حق المشاركة لهم في ما سميت انتخابات رئاسية العام الماضي). في هذا الوقت، ينظر المجتمع الدولي لمحنة اللجوء نظرة يغلب عليها الطابع الإنساني، كما لو أنهم ضحايا كوارث طبيعية، تهدمت بيوتهم ومدنهم، بفعل زلزال مدمر أو تسونامي جامح. والدليل أن سائر المقاربات والمعالجات لا تشمل بنداً من قبيل: السعي إلى تمكين اللاجئين من العودة إلى ديارهم. مبدأ الحق في العودة، والضرورة الماسّة لها يغيب أكثر فأكثر عن أجندات الرعاية والاستقبال. ولم يعد ينقص، الآن، سوى تشكيل وكالة دائمة لإغاثة وتشغيل اللاجئين السوريين، على غرار ما جرى مع اللاجئين الفلسطينيين مطلع خمسينيات القرن الماضي، وأن يتحرك مجلس الأمن لاستصدار قرار بهذا الاتجاه. علماً أن مفوضية اللاجئين في الأمم التحدة تنشط نحو توطين (أو إعادة توطين) لاجئين سوريين في سائر دول العالم، بينما كانت "أونروا"، وما زالت تنشط في مجال الإغاثة والتشغيل للاجئين الفلسطينيين فقط.
أصدقاء سورية، وأصدقاء السوريين من العرب خصوصاً، مدعوون لمهمة مزدوجة، هي استقبال إخوتهم المقتلعين، وشق الطريق، في الوقت نفسه، نحو تمكينهم من العودة، بدلاً من انتهاج سياسةٍ تفضي عملياً إلى تأبيد اللجوء، ومواجهة النظام الحاكم في بلادهم الذي يرفض عودتهم، ويتعامل معهم باعتبارهم فائضاً بشرياً، وليس شطراً كبيراً من الشعب الذي ما زال يحكمه. ومن الوهم افتراض إمكانات تتيح عودة جزء يسير من اللاجئين، وفق خطة المبعوث الأممي دي ميستورا، فالخطة عرجاء، تفتقد لأي منظور سياسي شامل، ولا تنطوي على ضغط للنظام الذي لا يتورع بعد التنكيل بشعبه، عن طرد هذا الشعب، وقذفه خارج الحدود، وسد الأبواب أمام عودته.
سيطرت جبهة النصرة، خلال الشهر الماضيّ، على مناطق عدة في ريف إدلب وريف حماه، بعد مواجهة مسلحة مع جبهة ثوار سورية وحركة حزم وفصائل أخرى من الجيش الحر. كما اقتحمت النصرة 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 مدينة الرستن في ريف حمص الشمالي، واعتقلت قادة كتائب أهليّة، قبل أن تنسحب، وتنشر حواجزها خارج المدينة. وعلى الرغم من أن اقتحام الرستن هو الأول لجبهة النصرة في محافظة حمص، فإنه يأتي استكمالاً لمسار عسكريّ جديد، بدأته في قرى ريف إدلب على الحدود السورية التركيّة مطلع أغسطس/آب 2014.
يقف هذا المقال عند التطورات الأخيرة في الشمال السوري ودوافع الجبهة لتغير سلوكها وخطابها، ورصد إذا ما كان هذا التغير تكتيكاً مرحليًا، فرضته الظروف الراهنة، ولاسيما بعد تشكل التحالف الدولي، أو نتيجة مراجعات فكرية وتنظيمية.
تبدل الأولويات وتغير القيادة
أشرنا، في مقالات سابقة، إلى أن "النصرة" غداة تأسيسها، تجنبت طرح الشعارات الكبرى، كإقامة الدولة الإسلاميّة وتحكيم الشريعة، وقدمت نفسها للفصائل المسلحة، وللبيئات الاجتماعية الحاضنة تحت عنوان "دفع الصائل"، ومساعدتهم ضد قوات النظام. كما اصطفت، وعلى الرغم من انتمائها للسلفية الجهاديّة، إلى جانبهم، في المواجهة المسلحة مع داعش، مطلع عام 2014، والتي انتهت بطرده من عموم مدن الشمال، باستثناء الشمال الشرقي. لكن انتعاشة داعش العسكريّة، بعد سيطرته على الموصل، وتوسع نفوذه في العراق وسورية، وإعلانه الخلافة الإسلامية، ألقت بتداعياتها على جبهة النصرة، وفرضت تغيرات على مستوى القيادة والأولويات.
لم تكن خسارة "النصرة" أمام داعش عسكريّة فقط، بل نجمت عن انضمام كثير من مقاتليها ومنتسبيها لداعش ومبايعتهم البغدادي. لم تسطع الجبهة، وعلى الرغم من مبايعة الجولاني الصريحة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وتأكيدها المستمر هدفها المستقبلي بإقامة حكومة إسلامية، وتحكيم الشرع مواجهة الخطاب الجهادي المزاود لداعش، والذي يرفع الشعارات الكبرى، ويقدم نفسه تطبيقاً عمليّاً وواقعياً لها. كما أن اتهامات داعش النصرة بالتحالف والتعاون مع من يسميهم "القوميين والعلمانيين والليبراليين"، والفصائل "المتحالفة مع أعداء الأمة" أتت أكلها، وساهمت باستنزاف الجبهة عدديا. فالأخير أضحى بنظر جهاديين كثيرين خلافة إسلاميّة، قائمة في حيز جغرافيّ معين، وأن "أدبياتهم الفكريّة" تفرض عليهم الالتحاق بها، والقتال تحت رايتها.
" انتعاشة داعش العسكريّة، بعد سيطرته على الموصل، ألقت بتداعياتها على جبهة النصرة، وفرضت تغيرات على مستوى القيادة والأولويات "
فرض الواقع السابق خيارين على جبهة النصرة، فإما أن تتخلى عن بعدها الجهادي "الأممي"، وتتكيف مع ظروف محيطها، وتعيد هكيلة بنائها التنظيمي، لتصبح سلفية جهاديّة وطنية، على غرار حركة أحرار الشام، أو تحافظ على بنيتها الفكرية والتنظيمية، من دون تغير وتسد "الذرائع" أمام المنسحبين، برفع حدة خطابها، ورفع سقف أهدافها، والانغلاق على ذاتها كحركة جهاديّة، لها مشروعها الخاص خارج حسابات الثورة السورية وأهدافها. فضلت قيادة "النصرة"، وبحسب مؤشرات عدة، الخيار الثاني، وبدأت أولى خطوات تطبيقه، بعزل الشرعي العام السابق، أبو مارية القحطاني، المعروف بعدائه لتنظيم الدولة، وحرصه على العمل الجماعي مع الفصائل المختلفة، أكان ذلك في الهيئات الشرعية المشتركة، أو في العمليات والغرف العسكريّة، وتعيين الأردني سامي العريدي شرعياً عاماً جديداً للجبهة. يجدر الإشارة إلى أن العريدي، كما توضح مقابلته، بعنوان "منهج وعقيدة جبهة النصرة"، ميال لتقديم مسألة الحكم والتحكيم على هدف "دفع الصائل". وتماشيًا مع التوجه الجديد، سربت منتديات جهاديّة كلمة مسجلة للجولاني، لمقاتلين في تنظيمه، يبشرهم باقتراب قيام "الإمارة الإسلاميّة"، وهو ما أكدته الجبهة، في بيان توضيحي، نافية في الوقت نفسه "اقتراب" إعلانها.
أوضح بيان "النصرة" الصادر في 12 يوليو/تموز 2014 رغبتها منفردة بإقامة دور قضاء لتحكيم الشريعة ومؤسسات لحفظ الأمن، بدلاً من الهيئات الشرعية القائمة في المناطق المحررة. كما تضمن، وللمرة الأولى، تحذيرا للفصائل السورية مما سماها "المشاريع العلمانيّة" و"قطف ثمار الجهاد"، وتهديدًا بقتال "المجموعات المفسدة" في المناطق المحررة. وبمجرد صدوره، انسحبت من الهيئات الشرعية، وشرعت بإقامة محاكمها، وأسست أجهزة أمن خاصة، وأوقفت التعاون ضمن غرف عسكريّة كثيرة. وتحت عنوان مكافحة الفساد والتهريب، دخلت، بداية شهر أغسطس/آب، مواجهة مسلحة مع كتائب تابعة لجبهة ثوار سورية، في حارم وسلقين وجسر الشغور، انتهت بسيطرتها على معظم قرى الشريط الحدودي مع تركيا. ومنذئذ، حدثت اشتباكات ومواجهات عدة بين "النصرة" وكتائب أهليّة، أو فصائل تابعة للجيش الحر، أشدها ما حصل في قرية البارة 27 أكتوبر/تشرين الأول 2014، والتي توسعت، لاحقًا، لتشمل جبل الزاوية وريف معرة النعمان وقرى في ريف حماه.
استباق مخاطر مستقبلية
مع بوادر تشكل تحالف دوليّ لمواجهة "داعش"، حاولت جبهة النصرة، المدرجة على القائمة الأميركية وقائمة مجلس الأمن حركة إرهابيّة، أن تمايز نفسها عنه لتتجنب ضربات التحالف. فعلى سبيل المثال، بادرت 25 أغسطس/آب 2014، وبوساطة قطرية، لإطلاق الصحافيّ الأميركي، بيتر ثيو كورتيس، المحتجز لديها، وذلك بعد أيام ذبح داعش الصحافي الأميركي، جيمس فولي. كما سعت، في مفاوضتها، لإطلاق جنود قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (الإندوف) المحتجزين لديها، لرفع اسمها من لائحة الإرهاب. وعلى الرغم من مساعيها، فإن "النصرة" فشلت في تجنب قصف التحالف، والذي بادر إلى قصف مقراتها، يوم بدء ضرباته 23 سبتمبر/أيلول 2014. واستباقًا لخطر تشكيل قوة عسكريّة من "المعارضة المعتدلة"، تساند التحالف على الأرض، بدأت النصرة التصعيد ضد من تراهم "خصومًا" حاليين ومستقبليين، وفي مقدمتهم جبهة ثوار سورية، وقائدها جمال معروف، المدعوم سعوديًا. لذلك، استغلت النصرة النزاع المسلح الذي جرى بين جمال معروف ومجموعة انشقت عنه، وطلبت مساندتها، للقضاء على معروف، وتحجيم نفوذه في جبل الزاويّة، وريف معرة النعمان. بررت "النصرة" حربها على معروف، بداية بالقضاء على الفساد والسلب والنهب، لكن
التفافها على مبادرات الواسطة والتحكيم، وخرقها اتفاق الفصل بين المتحاربين الذي رعته حركة أحرار الشام، وكذلك الهجوم على مقرات حزم والاستيلاء على أسلحتها الثقيلة والخفيفة، وقد دل ذلك على أن ما رُوّج ليس إلا ذرائع لتحقيق هدف أكبر، يتمثل بالقضاء على الجيش الحر، خشية تحوله مستقبلاً إلى حليف للتحالف ضدها، على الرغم من إدانة كثير من فصائله، استهداف التحالف مقراتها.
" حدثت اشتباكات ومواجهات عدة بين "النصرة" وكتائب أهليّة، أو فصائل تابعة للجيش الحر، أشدها ما حصل في قرية البارة 27 أكتوبر/تشرين الأول 2014 "
توضح المؤشرات السابقة أن "النصرة" تسير على خطى داعش، لجهة استخدام السلاح للتعامل مع الخصوم، بعد شيطنتهم، أو تكفيرهم مع نزوع لفرض سلطتها، إدارياً وعسكرياً، على المناطق المحررة منفردة. لكنها تنحو مدخلاً مختلفاً، وتتبع أسلوباً أكثر ذكاء وأقل فظافة. فبخلاف داعش، تحرص "النصرة" على الاستمرار في قتال قوات النظام والمليشيات المساندة له، ولاسيما في الجبهات الصعبة، كحندرات ونبل والزهراء والقلمون، للحفاظ على سمعتها القتالية، وتخفيف المعارضة الفصائلية والشعبية، لتوسعها وقتالها مع فصائل الجيش الحر. كما أنها، وبحكم خبرتها، تلعب على تناقضات الفصائل وخلافاتها. فعلى سبيل المثال، استغلت الخلافات السابقة بين جبهة ثوار سورية وأحرار الشام، والتنافس على جبل الزاوية بين جمال معروف وأبو عيسى الشيخ، قائد صقور الشام لضمان عدم معارضتهما، أو على الأقل، حيادهما. وفي الوقت نفسه، تستغل وجود مظاهر سلب ونهب، تقوم بها مجموعات مسلحة تحت اسم "الجيش الحر" لاقتحام مدينة، أو منطقة معينة، وهو ما حصل في ريف إدلب على الحدود السورية التركية، وفي الرستن، وبعض قرى ريف حماة.
أيًا تكن مبرراتها، فإن "النصرة" بسلوكها وخطابها الجديد القائم على تكفير المعارضة السورية وفصائل الجيش الحر قد تضع نفسها مستقبلاً، في مواجهة حتميّة مع شرائح مجتمعيّة، ينتمي إليها مقاتلو الفصائل، وشرائح أخرى واسعة، طالتها فتاوى وممارسات استفزازيّة لعناصر ودعاة تحسب عليها. كما أن تحالفها مع جماعة جند الأقصى، وضمها لمنشقين عن داعش يعمق الهوة مع بيئات اجتماعية، ضاقت ذرعا بممارسات سابقة لهؤلاء، وفرض على أبنائها حمل السلاح لطردهم.
لطالما دافع سوريون كثر عن "النصرة"، على الرغم من اختلافهم مع أفكارها وأيديولوجيتها، ومدحوا بأس مقاتليها وضراوتهم، في قتال قوات النظام. لكنهم أملوا بمراجعات فكرية داخلها، لتتخلى عن البعد الجهادي الأممي، المرتبط بالقاعدة، وتميل إلى تبني خيارات وطنية سورية. لكن عقدة البقاء، وتزمّت القيادات، أعاقا توجهاً إصلاحياً كان، إلى ما قبل شهور قليلة، حاضراً في تفكير الجبهة.