مهما يكن من أمر الغارات التي شنها سلاح الجو الإسرائيلي، ضد أهداف داخل الأراضي السورية، فإن التقديرات في إسرائيل تفيد أن سورية وحزب الله غير معنيين، على الأقل حاليّاً، في ظل ما يجري من حرب أهلية، بتفرعاتها وتداعياتها الإقليمية والدولية في سورية، بالتصعيد مع الإسرائيليين، ما ينطبق، أيضاً، على إسرائيل نفسها. في وقت ما زالت الأخيرة تعمل على تفادي ردود فعل غير متوقعة من حزب الله، ردّاً على غارات الطيران الإسرائيلي بين حين وآخر داخل الأراضي السورية، والقليل منها داخل الأراضي اللبنانية.
ومهما تكن "سياسة النعامة" التي تحاول إسرائيل اتباعها، إزاء استهدافها من الجو مجموعة أهداف حيوية، من قبيل السلاح الكيماوي السوري، أو الأسلحة الإيرانية والروسية التي يجري شحنها إلى حزب الله داخل الأراضي اللبنانية، فإن عدم التأكيد الرسمي الإسرائيلي المسؤولية عن الغارات لا ينفي، بالطبع، تلك المسؤولية المباشرة عن الفعل، وعن السياسة التي تحاول الاختباء وراء غلالة شفافة من الغموض.
وليست هذه السياسة بنت ساعتها، فقد اعتادت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، على الفعل، وترك الداخل، لا سيما الإعلامي منه، ينشغل، وإن بارتباك، بقراءة توقعات وتقديرات، معروفة ومكشوفة للمستويين السياسي والعسكري، وليست خافية، أيضاً، على صعيد الخارج. على الرغم من ذلك، ومن الصمت الرسمي حيال الغارات الأخيرة، كان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، قد ألمح إلى مسؤولية سلاح الجو الإسرائيلي عن شن الغارات، حين قال في جلسة للحكومة، الأسبوع الماضي: "سنعالج كل التهديدات، بالمسؤولية نفسها التي عالجناها بها لغاية الآن. نحن نتابع ما يحدث في الشرق الأوسط باهتمام كبير، نصغي السمع، ونتابع بعيون مفتوحة ما يحدث. أمور كثيرة تحدث، وسنبقى طوال الوقت على أهبة الاستعداد، وسنعالج هذه التهديدات والتحديات التي لا تتوقف".
إلا أن تصريح وزير الأمن، موشيه يعالون، كان أوضح ما صدر عن القيادة العسكرية الإسرائيلية، حين قال إن "على من يحاول تسليح أعدائنا أن يعرف أننا سنصل إلى أي مكان، وفي أي وقت، وبكل طريقة من أجل إحباط مخططاته. ولن نساوم في ذلك، ولن نسمح بتجاوز خطوط حمراء، تشكل خطراً على أمن إسرائيل. ولن نساوم على أمن مواطني إسرائيل".
أما لجهة الحظر الذي تفرضه الرقابة العسكرية الإسرائيلية على موضوع الغارات، فقد ظهر في كلام معلق الشؤون العسكرية في القناة الثانية، روني دانييل، الذي ألمح، أيضاً، إلى إمكان رد حزب الله على الغارة. وقال "من الممكن جدّاً أن يكون سلاح الجو قد عمل في سورية، لكننا ممنوعون من أن نصرح عن أمور دقيقة. ولكن، من غير الصحيح الافتراض أن مثل هذا الهجوم، ولفترة طويلة، لن يرد عليه بإطلاق نار من حزب الله". لهذا، ما كان من صحيفة هآرتس إلا أن لفتت الانتباه، مرة أخرى، إلى أن الغارات الجوية على الأراضي السورية هي استمرار لسياسة إسرائيل الأمنية، فيما يتعلق بالأزمة السورية، وإن "رد حزب الله يصعب التنبؤ به، لكن الحزب يظهر ثقة كبيرة بالنفس عند استفزازه إسرائيل"، ولاحظت أن الضربات تزامنت مع إعلان نتنياهو أنه سيذهب إلى الانتخابات، وتثير هذه المصادفة مزيداً من التساؤلات عن الدوافع السياسية للضربات الجوية.
ولئن لم تؤكد، أو تنفي، إسرائيل مسؤوليتها، فإن الغارات، في حد ذاتها، مؤشر على وجود خط أحمر، ينبغي أن تقف عنده عملية تسليح حزب الله من أسلحة في الأراضي السورية، وعدم نقلها إلى الأراضي اللبنانية، وإلا فإن التعرض للأسلحة في مخازنها استعداداً لنقلها، أو القيام بعمليات استباقية ضد قوافل تتحرك، استعداداً لعبور الحدود، سيكون الدافع والمحفز الرئيس للقيام بغارات، كلما استدعت الحاجة، ولن يكون هناك ما يردع إسرائيل عن القيام بعمليات كهذه، والذريعة دائماً وجود تهديدات أمنية.
وبحسب المراسل العسكري للقناة العاشرة الإسرائيلية، أور هيلر، فإنه "منذ اندلاع الحرب الأهلية في سورية، وضعت إسرائيل خطوطاً حمراء تقضي بمنع نقل أسلحة استراتيجية ونوعية من سورية إلى حزب الله، مثل صواريخ "سكود ب"، وسلاح حديث مضاد للطائرات مثل "إس 300" أو صواريخ بر بحر متطورة من طراز "ياخونت".
" هذه هي المرة الأولى التي تعمل فيها إسرائيل في سورية، منذ إعلان نتنياهو نيته الذهاب إلى الانتخابات "
ورجحت القناة الإسرائيلية الثانية أن يكون الهجوم محاولة لإحباط تهريب شحنة صواريخ متطورة من سورية إلى حزب الله عبر جبال القلمون. وقال معلق الشؤون العربية، إيهود يعري، "إن الغارة الثانية استهدفت منطقة تقع على الطريق الرئيسي القديم من دمشق إلى بيروت. ومن هذا، يبدو أننا، هذه المرة، نتحدث عن محاولة تهريب شحنة صواريخ متطورة من سورية إلى حزب الله، عبر جبال القلمون، وهو أمر عملت إسرائيل من قبل على إحباطه". ولقد لاحظ عاموس هارئيل في "هآرتس" أن ما جرى، أخيراً، جاء بعد أن بذل حزب الله جهوداً لتحديد قوانين لعب جديدة أمام إسرائيل في الساحة الشمالية، وهو يتم بعد أن قام المجتمع الدولي بتغيير أولوياته، فيما يتعلق بالحرب في سورية (في البداية إسقاط الأسد وبعد ذلك هزيمة أعدائه، وهم حاليّاً داعش)، وهذه هي المرة الأولى التي تعمل فيها إسرائيل في سورية، منذ إعلان نتنياهو نيته الذهاب إلى الانتخابات.
وبحسب وسائل الإعلام الأجنبية، قصفت إسرائيل من الجو بين خمس إلى عشر مرات في عامين. وردت سورية وحزب الله بالتهديد والتحذير، لكنهما لم يفعلا بشكل مباشر. وقد تغير ميزان الردع في فبراير/شباط. وحسب تلك التقارير، حاولت إسرائيل إصابة قافلة سلاح قرب الحدود السورية اللبنانية، لكنها فعلت ذلك، أول مرة، في الأراضي اللبنانية، وليس في سورية. وبعد الهجوم، وضع حزب الله ثمناً خاصاً به: أي عمل إسرائيلي في الأراضي اللبنانية سيأتي بعده الرد. ووقف حزب الله وراء مجموعة عمليات من العبوات وإطلاق الصواريخ في هار دوف وهضبة الجولان، ووصفت بأنها انتقام للقصف في جنتا، وعلى حادثين قتل فيهما ناشطون لحزب الله.
إلى هنا، من الواضح أن حدود القوة الإسرائيلية، وحدود التهديدات التي يطلقها النظام السوري، كما أن حدود رد حزب الله، باتت واضحة، بل أكثر من واضحة، وهي حدود لا تذهب بعيداً، إذا ما كان الأمر يتعلق بقصف أهداف داخل الأراضي السورية. وفي حال تعلق الأمر بقصف طائرات إسرائيلية أهدافاً داخل الأراضي اللبنانية، فإن الأمر قد يختلف؛ لكنه، في كل الأحوال، لن يتجاوز ردود فعله التي باتت محدودة ومحصورة بما يعكسه دوره ومفاعيله وتداعياته داخل الأراضي السورية، من انشغالاتٍ أضحت تمتد وتطاول دوره المقيد داخل الأراضي اللبنانية، في ظل تحدياتٍ بات يثيرها انتقال الصراع السوري إلى الداخل اللبناني، المنهك بالأزمات الداخلية، وما تثيره الأزمات الإقليمية، خصوصاً السورية، من تأثيرات مباشرة وغير مباشرة؛ حزب الله أول من يتأثر بها، الأمر الذي حدّ، ويحدّ، من فاعليته وقدرته على التعاطي بحيوية مع الوضع العسكري ضد المستوطنات والقطعات العسكرية الإسرائيلية في الشمال الفلسطيني، انطلاقاً من الجنوب اللبناني. وذلك على الرغم من ردود متناثرة هنا أو هناك، لم تعد تبلغ "سوية الردع" الذي كان يتمتع به الحزب قبل نشوب الأزمة السورية.
بحسب صحيفة السفير المقربة من حزب الله، فإن بشار الأسد سيزور موسكو خلال الأسابيع المقبلة من أجل دراسة مبادرة من نقاط عدة وضعتها طهران وموسكو لحل الأزمة السورية.
وبحسب مصادر "السفير" -وهي بالضرورة إيرانية أو من تلك التابعة لإيران وتحظى بالثقة، لأن إيران هي من تحكم دمشق عمليا وليس بشار الأسد- فإن المبادرة تتضمن "الإعلان عن أن الأسد مستعد للتنازل عن بعض صلاحياته، والموافقة على الحوار في موسكو أولا ثم في دمشق".
لم يخلُ الخبر من تفاصيل، إذ قالت "السفير" إن "الأسماء المطروحة للحوار والمقبولة بالنسبة للنظام السوري للمشاركة في الحوار هي: معاذ الخطيب، وحسن عبد العظيم ومجموعته، إلى جانب قدري جميل (كان وزيرا في الحكومة السابقة)، و12 حزبا كرديا، بالإضافة إلى بعض القوى الإسلامية على الأرض، والتي لا علاقة لها بداعش"، ولا حتى جبهة النصرة.
"ما يجري يشكل اعترافا من قبل النظام باستحالة الحسم العسكري، دون أن يعني ذلك اعترافا من الأطراف التي تقاتله بذلك، أقله في المدى المتوسط، لأن تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وربما أحرار الشام وفصائل أخرى لا تقول ذلك"
وزادت أن المبادرة "تطرح تشكيل حكومة في أبريل/نيسان المقبل، يرأسها معاذ الخطيب، وتكون غالبيتها من المعارضة، منوط بها تعديل الدستور، والتحضير لانتخابات برلمانية جديدة، على أن يحتفظ الأسد بوزارة الدفاع، وهو ما تصر عليه روسيا"، فضلا عن احتفاظه "بثلاثة أجهزة أمنية، وهي الجوية والأمن العسكري وأمن الدولة، ولا مانع من وزير داخلية من المعارضة".
من جهة أخرى، ما زالت خطة المبعوث الدولي دي ميستورا مطروحة للتداول، وهي التي تنص على تجميد القتال في حلب، دون الحديث عن حل سياسي، مما يشير إلى إمكانية إيجاد شكل من التزامن بين مساعي البحث في الخطتين اللتين تصبان عمليا في صالح النظام ومسار إعادة تأهيله الذي يبدو أنه حظي بدفعة كبيرة من خلال التأييد المصري الضمني الذي لا يتجاوز ذلك كثيرا خشية إغضاب السعوديين.
من الواضح أن ما يجري يشكل اعترافا من قبل النظام (من إيران التي تقود القتال على الأرض بالضرورة) باستحالة الحسم العسكري، من دون أن يعني ذلك اعترافا من الأطراف التي تقاتله بذلك، أقله في المدى المتوسط، لأن تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وربما أحرار الشام وفصائل أخرى لا تقول ذلك، وإن بدا أن قناعة كهذه ربما شملت فعاليات ما يُعرف بالائتلاف الوطني السوري، أو أكثرها في أقل تقدير.
وحتى لو قلنا إن القناعة مشتركة، فإن الفارق كبير بين جماعات لم يعد لديها من خيار غير استمرار القتال، وليس لديها ما تخسره، وبين نظام منهك، ودولة تقف وراءه وينهكها النزيف الاقتصادي بدفعها لكلفة الحرب كاملة (أعني إيران)، فضلا عن الكلفة البشرية من مؤيديها، إن كانوا من الخارج، بمن فيهم حزب الله، أم من الداخل، من الكتلة العلوية.
والنتيجة أن النظام وداعميه هم الأكثر حاجة للحل السياسي من الثورة، بل حتى من الأطراف الداعمة لها عربيا وإقليميا (تركيا تحديدا). وحتى لو كانت الأخيرة في حاجة فعلية للحل، فإن عدم تحقيقه أفضل بكثير من حل بائس كالذي تبشر به إيران وروسيا. وعموما، فإن جميع أعداء إيران لا يرون أنها في وضع قوي، حتى بعد دخولها اليمن، بل يرونها في حالة استنزاف بشعة، خاصة بعد التدهور الأخير في أسعار النفط، وهم غير معنيين هنا بإيجاد تفاهم محدود معها في سوريا، وإذا كان ولا بد، فليكن تفاهما شاملا يتضمن جميع الملفات، وهو ما لا تبدو إيران (المحافظين تحديدا) مستعدة له بشكل معقول إلى الآن.
"الحل السياسي ليس مرفوضا من حيث المبدأ، لكن المطروح حاليا، ومهما أجري عليه من تعديلات، لن يلبي شروط الغالبية السورية بعد التضحيات والمعاناة الرهيبة، ولذلك سيبقى حبرا على ورق أو مجرد مساع سياسية لا تقدم ولا تؤخر"
في ضوء ذلك كله لا يبدو أن أيا من المبادرتين (خطة دي ميستورا والمبادرة الروسية) في وارد كسب النجاح، بخاصة الثانية التي تتحدث عن معارضين ليسوا معارضين من الناحية العملية، لأن من يملك الفعل المسلح هو صاحب الرأي الأول والأخير، وليس الآخر، بخاصة حين لا يأتي بحل يحظى برضا الغالبية من الناس.
حتى الأميركيين (وربما عموم الغربيين) الذين لا يريدون القضاء على بشار لأن نتنياهو لا يريد ذلك، ويفضل استمرار الصراع لاستنزاف جميع الأعداء.. حتى هؤلاء، سيكون من الصعب عليهم تمرير إخراج إيران من مأزقها، وهي لما تقبل بعد بالشروط الغربية لإنجاز اتفاق النووي، وهم يدركون أن استمرار نزيفها هو ما سيجعلها أكثر قابلية لتمرير الاتفاق، والشروط التالية من بعده على الصعيد السياسي، فضلا عن أن منح موسكو إنجازا في هذه المرحلة لا يبدو مناسبا في ظل استمرار الصراع معها على أوكرانيا وملفات دولية أخرى.
يبقى القول إن الحل السياسي ليس مرفوضا من حيث المبدأ، لكن المطروح حاليا، ومهما أجري عليه من تعديلات لن يلبي شروط الغالبية السورية بعد التضحيات والمعاناة الرهيبة، ولذلك سيبقى حبرا على ورق أو مجرد مساع سياسية لا تقدم ولا تؤخر، بينما يتواصل الاستنزاف على الأرض.
ولكن إلى متى؟ إلى الوقت الذي تقبل فيه إيران تجرع كأس السم والتفاهم مع تركيا والجوار العربي على حل شامل لكل الملفات المشتعلة، وقواسم مشتركة بعيدا عن روحية التغول والهيمنة واستثمار المذهب وأتباعه في كل مكان من أجل تحقيق مكاسب سياسية على صعيد القوة والنفوذ.
الانقلاب العسكري يفقد الشرعية، لاعتماده القوة في الاستيلاء على السلطة. الانقلاب يلغي السياسة، ويعتمد الفاشية الأمنية، وهو لا يستخدم العنف لإرهاب خصومه وأعدائه، وإنما أيضا لتصفية الخلاف بين قادته. والانقلاب على الانقلاب سهل، لأن قائد الانقلاب لا يملك شرعية النظام الديمقراطي، ولم يأتِ عبر سلطة شعبية منتخبة تدعم شرعيته.
أشرت في حديث الثلاثاء السابق إلى رواية صديقي الراحل نذير فنصة، مدير مكتب المشير حسني الزعيم، قائد أول انقلاب كلاسيكي في سوريا، كان اللواء سامي الحناوي، رئيس الأركان وقائد الانقلاب الثاني، يرقص لتسلية وطمأنة قائد الانقلاب الأول، ثم غدر به. جيء بحسني الزعيم ورئيس حكومته محسن البرازي بالبيجاما حافيين إلى ساحة الإعدام. شاهد فنصة المأساة. أطلق ثلاثة ضباط شباب (سني، علوي، درزي) الرصاص على الرجلين دون محاكمة.
كان استقلال سوريا ولبنان (1946) إنجليزيا! ماطل الرئيس ديغول بالانسحاب فهدده الإنجليز بالزحف إلى البلدين. وكان الانقلاب الأول «أميركيا»، وكان انقلاب سامي الحناوي «إنجليزيا» يستلهم العون من عراق غير مستقل! وكان الانقلاب الثالث «أميركيا» بقيادة أديب الشيشكلي. 3 انقلابات في سنة واحدة (1949)، ثم قتل القادة الـ3، قتل سامي الحناوي في بيروت برصاص شاب من أسرة البرازي، انتقاما لمقتل محسن البرازي، وقتل أديب الشيشكلي في منفاه بالأرجنتين، برصاص شاب درزي، انتقاما لاجتياح الشيشكلي جبل الدروز بالدبابات.
الديمقراطية نبتة رقيقة تفقد براءتها بمجرد الشبهة. كان الرئيس شكري القوتلي ديمقراطيا، ناضل بشجاعة من أجل الاستقلال، حكم (1943)، ولم يكن يملك الثقافة السياسية لمتابعة التحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة، ظل معتمدا على زعماء الأحياء القديمة كقاعدة شعبية له، بينما تشكلت أحزاب سياسية جديدة استقطبت الشباب والطلبة قاعدة سياسية لها.
داوى القوتلي نظامه بالتي كانت هي الداء، سمح لتجار طبقته البورجوازية والأرستقراطية الدمشقية باستثناءات تجارية واقتصادية، وبمس عذرية الانتخابات الرئاسية والتشريعية (1947)، فمهد الفساد للانقلابات الكلاسيكية.
حكم حسني الزعيم 137 يوما، وحكم أديب الشيشكلي 5 سنوات، فكان هو الذي أرسى الانقلاب قاعدة للحكم، وأجهزة المخابرات أدوات للهيمنة بالعنف والقوة. أخرج عبد الناصر ضباط السياسة من الجيش السوري، فقاد الانقلاب عليه ضباط الطبقة التجارية الوسطى الدمشقية (1961). عاد ضباط الآيديولوجيا البعثية والناصرية. وقلبوا انقلاب دمشق (1963). صفى البعثيون الناصريين، فدشن ضباط البعث الطائفي (العلوي) حكم الأب والابن منذ 44 سنة، فأنتجوا جيلا سوريا متأسلما يريد فرض دولة دينية، على مجتمع يضم 18 دينا، وطائفة، ومذهبا!
بعد الفشل في سوريا، وخيبة الأمل بالشيشكلي والزعيم، توجه ضباط المخابرات «العروبيون» إلى مصر، فأبدوا إعجابهم بجمال عبد الناصر وذكائه، وتعاطفوا مع مشروعه القومي، ورأوا فيه «بطلهم» الجاد لتوحيد العرب، وللتنسيق مع أميركا في مكافحة الشيوعية، ولتبديد سوء التفاهم مع رؤسائها، وإدارتها، وطبقتها السياسية.
أترك هنا المؤرخ والباحث هيو ويلفورد، ليروي تفاصيل علاقة عبد الناصر بالضباط «العروبيين»، وذلك من خلال الوثائق الرسمية الأميركية، وكتب ومؤلفات هؤلاء، لأطرح سؤالا ما زال يثير مواقف أنصار القومية العربية وخصومها من عبد الناصر ومشروعه القومي الوحدوي: هل كان الرجل عميلا للمخابرات الأميركية؟
السؤال مؤلم لإنسان عربي لم يعمل في السياسة، لكن ارتبطت حياته بأمل الوحدة، كخلاص للعرب من الانقسام، والضعف، والهزائم المريرة، وتسييس الدين الذي انتهى بالانتفاضات إلى هذا الاقتتال بأبشع صوره الدامية. نعم السؤال مؤلم لي كشاهد على عصر بدا فيه عبد الناصر مكرسا حياته ونظامه لخدمة مصر والمشروع القومي، وبالتالي ليس هناك من داع للتشكيك بالرجل.
لكن رواية ويلفورد المحايدة لتفاصيل العلاقة المخابراتية مع الناصرية، من خلال الوثائق الأميركية وحدها، لا تكفي للحسم، وهي تترك المجال واسعا للتشكيك، وللاتهام، وللنفي. والمؤسف أن ويلفورد لم يطلع على الوثائق البريطانية والفرنسية التي تتناول العلاقة الغربية بالناصرية، في مرحلة الأربعينات والخمسينات، مع غياب تام للوثائق العربية، لعدم الجرأة الرسمية على نشرها، وندرة المذكرات الصريحة للعسكر والساسة العرب.
من هنا، أحاول الإجابة عن السؤال من خلال مراجعة ودراسة التفاصيل الطويلة التي قدمها ويلفورد، فأقول إن عبد الناصر امتلك من الجرأة ما يكفي للظهور، على الأقل، أمام ضباط مجلس قيادة الثورة، مع هؤلاء «العروبيين»، وفي مقدمتهم كبيرهم كيرمت روزفلت، ومعاونه مايلز كوبلاند.. من دون أن يشعر بأي حرج، ولم يبدِ ضباطه أي اعتراض على هذه الصداقة، لإيمانهم العميق بإخلاص عبد الناصر لوطنه وأمته، ورأوها تتجاوب مع رغبتهم هم أنفسهم بإقامة علاقة مع أميركا، لعصرنة مصر، وتنمية اقتصادها، وتبديد سوء التفاهم مع إدارتها الناشئ عن دعاية الصهيونية اليهودية ضد مصر، والعرب، وناصر.
بل كان أعوان عبد الناصر، وفي مقدمتهم محمد حسنين هيكل، يشجعون ضباط المخابرات الأميركية على إرضائه والتجاوب مع «لذائذه» الرأسمالية المتواضعة. كحبه للثقافة الشعبية الأميركية، وبالذات الأفلام، وشطائر الـ«هوت دوغ». مع نصيحة كيم لصديقه المصري، بأن يبتسم قليلا أمام الصحافيين.
غير أن الصدام بين عبد الناصر وإدارة الرئيس آيزنهاور بالذات يسقط كل الشكوك بعلاقته بالمخابرات الأميركية: معارضته لحلف بغداد الإنجليزي (تركيا، العراق، إيران). إصرار عبد الناصر على تسليح مصر بالسلاح الروسي، بعد غارات شارون على الحاميات المصرية في غزة وسيناء، وتحليق الطيران الإسرائيلي في سماء القاهرة، ثم إسقاط ناصر لمحمد نجيب الراغب في التعاون مع «الإخوان المسلمين» الذين غدوا في عصر الرئيس أوباما أعزاء على قلب أميركا.
تتابعت الاستفزازات المتبادلة: سحبُ البنك الدولي العرض الجزئي لتمويل السد العالي (200 مليون دولار). تأميمُ عبد الناصر للشركة الأنغلو - فرنسية التي تدير قناة السويس. رفضُ عبد الناصر مواصلة المحادثات السرية غير المباشرة مع إسرائيل بعد كشفه عملاء الموساد من يهود مصر الذين خربوا بعض المصالح الغربية.
كل ذلك يبرئ عبد الناصر من علاقة الصداقة المرتبكة مع ضباط المخابرات الأميركية، لكن هل كان حقا هؤلاء الضباط صادقين في النيات تجاه مصر، وعبد الناصر، ومشروعه القومي الوحدوي؟ شخصيا أميل إلى الأخذ بحكاية التعاطف، مشيرا إلى نجاح كيم روزفلت، في وساطته السرية، لعقد معاهدة إنهاء الاحتلال البريطاني لمصر (1954). ثم بجهده المتفاني في مكافحة الصهيونية الأميركية، وإنشاء جمعيات خيرية، وثقافية، وسياسية، مولتها المخابرات الأميركية ضد اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، وتقديمه مساعدة اقتصادية وتنموية لمصر، مع «رشوة» لعبد الناصر بـ3 ملايين دولار. أغضبت الرشوة عبد الناصر، فأمر بصرف المبلغ على بناء برج على ضفة النيل.
حكمت الحيرة والذبذة إدارة آيزنهاور/ جون فوستر دالس. الجنون فنون. جُنَّ رئيس حكومة بريطانيا العظمى أنطوني إيدن بعد تأميم قناة السويس، فدبر مؤامرة الحرب الثلاثية مع فرنسا، الجمهورية الرابعة، وإسرائيل. فشلت الحرب في إسقاط ناصر. جن آيزنهاور لإخفاء مؤامرة الحرب عن أميركا (سيدة القرن الـ20)، فأجبر الدول الـ3 على الانسحاب. جن جون فوستر دالس بعدما أصبح ناصر أحد زعماء العالم الثالث بعد حضوره مؤتمر عدم الانحياز في باندونغ الإندونيسية، واعترافه بالصين الشيوعية، فأمر بالقطيعة المخابراتية والسياسية مع مصر.
على أنغام موشح صباح فخري، لم تكن المخابرات الأميركية بعيدة عن «بعض الجنون»، فقد طوى الضباط «العروبيون» أحزان الصداقة مع عبد الناصر، وانصاعوا لأوامر الوزير جون فوستر دالس، بإدارة عمليات ضد شعبية ناصر ومشروعه القومي، بالتعاون مع المخابرات البريطانية في العراق، ولبنان، وسوريا، فسبقهم انقلاب قاسم/ عارف في العراق (1958). هنا تقول وثائق المؤرخ ويلفورد إن محاولة صدام حسين الفاشلة لاغتيال قاسم كانت بتدبير مخابراتي أميركي.
في لبنان، عانى كميل شمعون من مخاض علاقته البريطانية، فقامت ثورة ناصرية صغيرة على محاولته تمديد ولايته، فنزلت قوات أميركية لحمايته من «جنونه»، ومن يومها (1958)، دخل لبنان تحت المظلة الأميركية، إلى أن اقتلعها جنون المخابرات الإيرانية التي صفت عملاء المخابرات الغربية، بالتعاون مع المخابرات السورية في الثمانينات.
أما في سوريا، فقد تورط «العروبي» آرتشي (ابن عم كيم روزفلت) مع «تاجر» انقلابات يمينية، فسلفه نصف مليون ليرة سورية للتحضير لانقلاب يعيد أديب الشيشكلي رئيسا.
قبض السياسي الإقطاعي ميخائيل ليان المبلغ، واختفى من سوريا. زميل آرتشي، هوارد ستون، وقع ضحية ضابط دبابات سوري عميل لعبد الحميد السراج، مدير المخابرات العسكرية، فطرد وسط جلجلة دعائية ضد أميركا، في لحظة بدت دمشق مستعدة لاستقبال عبد الناصر رئيسا لجمهورية الوحدة المصرية/ السورية.
ماذا حدث لأميركا؟ أصيب آيزنهاور بنوبة قلبية، فأعلن هدنة مؤقتة في حرب أميركا مع عبد الناصر. استقال جون فوستر دالس احتجاجا على السرطان الذي فتك به بعد شهر من الاستقالة. استقال الضباط «العروبيون» من الـ«سي آي إيه» احتجاجا على أخطاء دالس العربية. عملوا سماسرة لدى الشركات النفطية والمتعددة الجنسية في العالم العربي، كسبوا مالا لكن ماتوا غما، بمن فيهم مايلز كوبلاند الذي حافظ على صداقته مع عبد الناصر. أما آرتشي روزفلت فقد تقبل سخرية حلاقه منه في «وول ستريت»، فقد سماه «مستر روكفلر».
قبل قمة الدوحة وبعدها، والكلام على «أطماع» إيرانية في الخليج من مألوف اللغة السياسية. وثمة مراقبون ذكروا مُحقين أن شاه إيران كان صاحب أطماع مبكرة حملته على توهم الحلول محل بريطانيا في الخليج، ثم دفعته إلى احتلال الجزر الثلاث. لكن علاقة الشاه بالولايات المتحدة كانت تضبط أطماعه الإمبراطورية وتحد منها، بحيث ظهر من يقول آنذاك إن التمدد الشاهنشاهي استراتيجي محض لا تخالطه أبعاد ثقافية أو اقتصادية أو أي محاولة لتحويل السكان. كما ظهر بين نقاد أميركا وكارهيها من يسمي إيران الشاهنشاهية «إمبريالية فرعية» تقوم بما تقوم به لصالح واشنطن.
وهذا كله، كائنة ما كانت درجة صحته، لا ينطبق على النظام الخميني الذي يمتد نفوذه من اليمن إلى لبنان، مروراً بسورية والعراق، مع إبقاء لسان له في غزة. وهو يتقدم مشبعاً بأيديولوجية موجهة إلى الأرض والسماء معاً، لا يساورها الشك بيقينها المعروض على طلاب الخلاص.
وخمينيو إيران اختاروا مبكراً النهج هذا، فتخلصوا من وجوه في ثورتهم كبازركان ويزدي وقطب زاده وبني صدر. هؤلاء، كلٌّ بطريقته، أدركوا أن الطموح الإمبراطوري المشوب بالملحمية لم يعد يلائم المعاصرة في عالمنا. فالإمبراطوريات، منذ انكسارها المبكر مع الحرب العالمية الأولى، صارت مطالَبة بترشيق جسدها للدخول في بوتقة العالم الحديث والانحلال فيه على هيئة دول– أمم. وإذا صح أن الروس أكثر من كابروا على تلك الحقيقة، فأعادوا إنتاج الإمبراطورية القيصرية بقالب شيوعي، صح أيضاً أنهم لا زالوا يحاولون بعد انقضاء الشيوعية، وبشروط أسوأ كثيراً، نطحَ الصخر ومعاندة الوجهة الغالبة للعالم.
والحال أن من أسباب نجاح المكابرة الإيرانية، الشيعية، وهي ناجحة بدليل الحوار الصاعد بينها وبين الولايات المتحدة، ظهورُ «داعش» بوصفه التعبير عن مكابرة أخرى، عربية وسنية. فهنا استُحضرت «الخلافة» التي سبق أن ألغاها أتاتورك قبل قرن ونيف. وهنا صادمت «داعش» معظم القوى السنية التقليدية، وترفعت عن القضايا الوطنية أو الموضعية، أكانت فلسطين التي شغلت طويلاً الرأي العام العربي، لا سيما السني، أو الثورة السورية. ولربما أمكن تعيين واحد من أصول «داعش» في الفشل الذي حصده صدام حسين حين تمدد إمبراطورياً باتجاه الكويت، ناطحاً الواقع العربي التقليدي، ومطيحاً خرائطه، فضلاً عن تهديده المصالح الغربية وتوهمه الحلول محل اتحاد سوفياتي كان يحتضر لحظتذاك، وباحتضاره تحتضر حرب باردة في انتظار أن يتوهم استئنافَها ساخنةً أسمر عربي. فكما خلفت القيصريةُ الستالينيةَ والبوتينيةَ، والشاهنشاهيةُ الخمينيةَ، خلفت الصداميةُ «داعش»، إلا أن الكثافة الهيمنية للأولى تراجعت فيما تعاظمت الكثافة ذاتها للثانية الشيعية والثالثة السنية.
واليوم، من البديهي أن إيران، ذات الدولة المركزية، تملك حظوظاً أفضل بلا قياس من حظوظ «داعش»، وتقايض العالم بأوراق فعلية مقابل الورقة السلبية التي يملكها تنظيم البغدادي (إرث 11 أيلول/ سبتمبر، قطع الرؤوس، إبادة الأقليات... إلخ)، فالأولى يحاورها العالم إياه الذي يقاتل الثانية. لكن هذا لا يغير في حقيقة اشتراك الطرفين في المكابرة على الوجهة السائدة لعالمنا منذ الحرب العالمية الأولى. وغني عن القول إن الاحتقان والشعور بالتعاسة في هذا العالم، واللذين يولدان المكابرة عند أصحابها، أكانوا إيرانيين شيعة أم عرباً سنة، لا يُعدمان الفصاحة الظافرة، فالمكابر يستطيع دائماً أن ينهل من رطانة أيديولوجية سابقة عليه، فيها ما فيها من مظلومية ومجد وحق و «أصالة». وتواريخنا، التي لم تكن قليلة المكابرة، كثيراً ما تمد من يستلهمها بالمعنى وبالاستعداد للمضي قدماً إلى العدم على شكل قاع صفصف.
بينما يسعى المبعوث الدولي إلى سوريا "ستفان دي ميستورا" للحصول على موافقة محلية ودولية على خطته القاضية بتجميد الوضع في حلب أولاً، يركز النظام عملياته العسكرية لمحاصرة المدينة، ويهمل نقاطاً كانت تُعدّ إستراتيجية إلى وقت قريب، مثل معسكري الحامدية ووادي الضيف في محافظة إدلب. في اللغة السائدة، سيكون من حق النظام تحسين شروطه على الأرض قبل التجميد، فيما لو تم الأخير. وفي المزاج الدولي السائد، لا يوجد اكتراث حقيقي إزاء مصير المدينة، والإدارة الأميركية وحلفاؤها المقرّبون في الحلف ضد داعش سبق لهم تجاهل التحذيرات الفرنسية والتركية في ما خصّ هجوم قوات النظام والميليشيات المتحالفة معها على المدينة.
لكن الأهم، بحسب ما تسير عليه خطة دي ميستورا، أن مفاوضات التجميد أيضاً ستستغرق وقتاً، تقدّم فيه كل الأطراف المنخرطة في الصراع "داخلياً وخارجياً" تحفظاتها على الخطة، ومن ثم يُصار إلى تعديلها لإرضاء كافة الأطراف، الأمر الذي يبدو عسيراً جداً، إن لم يكن مستحيلاً. من هذه الناحية، وعلى فرض سير الخطة بعد تعثّر في العديد من المحطات، ستكون هناك معارك ضارية في أكثر من موقع سوري بغية اكتساب ما يمكن اكتسابه قبل تنفيذ الخطة هناك، لأن خطة "حلب أولاً" في أحسن حالاتها لا تطمح إلى وقف عام متزامن لإطلاق النار، بل تحلم أن تصبح حلب نموذجاً مشجعاً في ما بعد للمناطق الأخرى، من خلال حوافز دولية تُقدّم للنظام والمعارضة معاً.
المبعوث الدولي، بموجب حديث أدلى به لجريدة الحياة اللندنية، يراهن أيضاً على قرار "بسيط" من مجلس الأمن يدعم خطته. تفسير كلمة "بسيط" هنا لا يحتاج إلى نباهة، فالمطلوب هو قرار لا يحمل صفة الإلزام، ولا ينطوي على عقوبات رادعة، وبالتأكيد لن يكون تحت الفصل السابع. وإذا استعرضنا العتبة المتدنية من التوافق الدولي حول سوريا، فلعلّ أعلى ما يمكن أن يتمخض عنه مجلس الأمن هو بيان رئاسي يدعم خطة دي ميستورا، وليس مستبعداً أن تصر روسيا على تضمينه عبارة تدعم جهودها "الخاصة" للحل في سوريا، وليست مستبعدة في المقابل تلبية الغرب الطلبَ الروسي، طالما أن الغرب غير معني بتلك الجهود، وطالما أنه مقتنع بفشلها.
يروّج دي ميستورا لخطته بأنها تسير من تحت إلى فوق، بعد فشل سلفه الإبراهيمي في جنيف2 القاضي بالحل من فوق، غير أن الأقرب إلى الواقع هو أنه لا يسير عكس سلفه، بل يستلهم "غزة وأريحا أولاً"، رغم إصراره على عدم وجود نوايا تقسيمية في الخطة. لننحِّ جانباً الإطار السياسي لاتفاقية أوسلو، فـ"حلب أولاً" تتقاطع مع البنود التنفيذية للاتفاقية من جوانب عديدة، أولها إيلاء أهمية قصوى للواقع الاقتصادي، وعزله مؤقتاً عن المعضلة السياسية الكبرى، ومن ثم انتظار أن يؤدّي الانتعاش الاقتصادي المأمول على الجانبين إلى نتائج سياسية. بالطبع هذا لا يعني تجاهلاً لقضية الأمن والأمان التي باتت أولوية قصوى لدى شريحة متزايدة من السوريين، لكن البدء بحلب وانتظار ما ستسفر عنه التجربة، في حال تطبيقها، يعني مرة أخرى عدم الاكتراث بمعاناة ملايين السوريين الذين سيبقون حتى إشعار آخر تحت قصف قوات النظام، وتحت حصارها المعنون بـ"الجوع أو الركوع".
إننا، بدقة أكبر، أمام "عملية تجميد". الفارق بين التجميد وعملية التجميد هو كالفارق بين عملية سلام واتفاقية سلام. وكما كانت اتفاقية أوسلو مجرد بروتوكول تمهيدي لعملية شاقة، لم تنتهِ خلال عقدين ولا يُعرف متى تنتهي، كذلك هي عملية التجميد المعرّضة للتعثّر أو التعنت أو التراجع عند أي تفصيل، ما دامت الخطة المسرّبة لا تضع إطاراً زمنياً حاسماً للمناطق السورية كلها، وما دام الإطار الزمني الذي يخص حلب ذاتها قيد النقاش، القابل بدوره للتسويف والنسف في أية لحظة. يُذكر هنا أيضاً أن إسرائيل أفرغت عملية أوسلو من محتواها الوطني العام عندما تمكنت من فرض بروتوكولات خاصة ببعض المناطق، الخليل مثالاً، الأمر الذي ليس بمستبعد في سوريا أيضاً، حيث قد يطالب النظام بالأخذ بخصوصية كل منطقة على حدة. وإذا كان المبعوث الدولي ينفي النوايا التقسيمية عن خطته فإن تحويلها إلى مجموعة من الحالات المتمايزة قد يقضي على البعد الوطني العام.
يحتاج السوريون حلاً جذرياً سريعاً، ذلك ما لا تتوفر النية من أجله لدى المجتمع الدولي الذي يمثّله دي ميستورا، وربما كان انطلاقاً من هذا يسعى إلى "تجميد سوريا" في انتظار لحظة الحل. غير أن المنطق الذي ينصّ على كون الحرب أداة سياسية يعني عدم القدرة على إحلال السلام ما لم يكن هناك اتفاق مبدئي بين الأطراف المنخرطة في الصراع، إلا إذا جرى التوافق على التجميد كنوع من استراحة للمحاربين ليس إلا، وما لم تُؤيّد خطته بقرار قوي، لا بسيط، من مجلس الأمن فإن الاحتمال الأخير هو الأقوى.
أطرف ما يقوله المبعوث الدولي هو أن تفسير جنيف متروك للسوريين، ما يعيد إلى الأذهان العرض الذي قدمه وفد النظام في جنيف2، ورفضه التام لأي بحث في المرحلة الانتقالية. على أية حال، وفق منطوق دي ميستورا الحذر، يجوز لنا التمسك بتشاؤم العقل، ما دام هو نفسه لا يمتلك تفاؤل الإرادة، وما دام يبدو سورياً أكثر مما يجب بقوله "لا أحد يقدّم ضمانات سوى الله، وأنا مؤمن بالله"!
هل هناك فرصة للحل السياسي للحرب السورية المشتعلة منذ أربع سنوات؟ وهل أصبح النظام السوري جاهزاً لذلك؟ وما الذي دفع موسكو إلى التحرك الدبلوماسي، اليوم، بموازاة تحرك دي ميستورا الذي يكشف العجز الكامل للأمم المتحدة عن القيام بأي دور؟
في نظري، وحسب ما تسرب، حتى الآن، من معطيات، هناك بالفعل إرهاصات لبدء مفاوضات حول الأزمة السورية. لكن، ليس من أجل إيجاد حل للأزمة، يلبي الحد الأدنى من مطالب السوريين الذين أصبحوا ضحية صافية للمصالح الإيرانية والروسية والدولية، وإنما لتكريس المكتسبات التي حققها فرسان الحرب الحقيقيون، إيران وروسيا، وشرعنتها، وإنقاذ الجلاوزة الأشرار من حلفائهم "السوريين" الذين لم يترددوا في استخدام الغاز الكيماوي، لقتل أبناء وطنهم وأطفاله. وهم يسعون، في ذلك، إلى استباق المرحلة المقبلة التي يمكن أن لا تكون بعيدة جدا، والتي قد يضطرون فيها، مع انهيار حصان ركوبهم أو انكساره، إلى التفاوض على تفكيك نظام الاحتلال الذي فرضوه على السوريين.
لو كانت لدى الروس والإيرانيين إرادة حقيقية في إنهاء الحرب السورية، لما تطلب الأمر كل هذه المناورات والتحضيرات الجديدة، والتصريحات المواربة والمتناقضة، ولا الاجتهاد في انتقاء المعارضين، وفرزهم، حسب الطلب. فماذا كان بإمكان طهران وموسكو أن تطلبا من المعارضة أكثر من أن تتخلى عن هدفها الأول في إسقاط النظام، وأن تقبل الدخول في حكومة انتقالية، مناصفة مع نظام القتلة نفسه، وقد قبلته؟ وماذا كان في وسع المعارضة أن تقدمه للنظام، أكثر من التصالح مع نظام قاتل، بعد مئات آلاف الشهداء وملايين المشردين، وتدمير المدن وتسليمها للمتطرفين من كل الآفاق؟ وما المشكلة في العودة إلى مثل هذا الحل الذي اتفقت عليه الدول ومجلس الأمن، وقبلت به كل أطياف المعارضة، إنقاذاً لما تبقى من البشر والحجر؟
الجواب أن المشكلة في الحل الذي رفضته هذه القوى الثلاث في جنيف، القائم على مبدأ الانتقال السياسي الذي اتفق عليه الجميع، باستثناء إيران والنظام، أنه يخاطر بأن يقود إلى وضع حد للاحتلال الإيراني والوصاية الروسية على سورية ومنظومة القتل والإرهاب التي يستخدمها للحفاظ على نفسه، حتى لو كان ذلك على مدى متوسط. المطلوب، بالعكس، من أجل تكريس الاحتلال والوصاية الإبقاء على منظومة القمع والإرهاب التي يمثلها ما يسمى النظام السوري الذي أصبح مرتكزا وحيدا لهما. ليس هناك أي تفسير آخر للتخلي عن إطار مفاوضات جنيف لصالح حلول بهلوانية ضعيفة، إن لم يكن الهدف تشليح المعارضة أوراقاً وتنازلات أكثر، وتحويلها، في النهاية، إلى خاتم في إصبع نظام الاحتلال المثلث، والتغطية على دناءة الأهداف، ولا أخلاقية المصالح التي تكمن وراءها.
ليس لهذا الطرح أي علاقة، كما تدعي موسكو، بالحفاظ على مؤسسات الدولة. فلا يضمن بقاء الدولة ومؤسساتها في كل مستويات الإدارة المدنية والاقتصادية والاجتماعية، والتي ليس لأي سوري مصلحة في تفكيكها أو التخلي عنها، سوى السلام القائم على التفاهم الحقيقي بين أبناء الشعب السوري، وتوصلهم إلى تسوية تنهي عهد الاحتلال والوصاية والقتل المنظم. ما يطالب به الروس والإيرانيون المحركون للأسد ومنظومته هو الحفاظ على أدوات الاحتلال الطويل: الجيش الذي تحول إلى ميليشيا فاشية، ومنظمات المرتزقة الأجنبية الممولة على أسس طائفية، وأجهزة الأمن العسكري والسياسي التي تشكل النواة الصلبة للسلطة المافيوية. فليس هناك أي أمل في استمرار النظام المشترك، الإيراني الروسي المافيوي، من دون حماية هذه الأجهزة من أي تغيير، والإبقاء عليها في يد الأسد، أو من يحل محله، ويقوم تماما بدوره، من الطغمة القاتلة نفسها.
وبينما يعد الروس المقصلة لقطع رأس الثورة، ربما بمساعدة بعض أبنائها الذين أعمى أبصارهم البحث عن دور، أو شوشت حساباتهم العاطفة الأبوية الفائضة، تتطوع الأمم المتحدة، عبر مبعوثها، ستيفان دي ميستورا، بحمل المنشفة لمسح الدماء المسفوكة، ومواساة أيتام الثورة بقطرة من الماء وكسرة الخبز التي حولها حصار الجوع إلى سم زعاف.
لم يطلق الروس والإيرانيون، بعد أن أعدموا مؤتمر السلام في جنيف بشكل متعمد، وبقسوة لا حدود لها، مناورتهم البائسة الجديدة، رفقاً بالسوريين، أو تحننا عليهم. فعلوا ذلك، لأنهم أدركوا أنهم وصلوا، في استخدامهم القوة وتوسعهم وسيطرتهم، إلى أقصى ما يمكن لهم فعله، ولم يبق أمامهم، بعد ذلك، إلا الانحدار. وفكروا أن من مصلحتهم أن يستخدموا التطلع الشعبي والعالمي للسلام من أجل تكريس مكاسبهم، وفرض شروطهم على المعارضة. وما يقترحونه حلاً، كما تسرب من معلومات حتى الآن، هو تطبيع/تجميد الأوضاع والتوازنات والمصالح القائمة، لجماعات النظام وأمراء الحرب، وإخراجها بعد مفاوضات قرقوشية، في صورة حل سياسي يكرس، بالطرق السياسية والحيل والمناورات، ما لم يعد بإمكانهم الحفاظ عليه بالوسائل العسكرية، كما يدق إسفيناً عميقاً في جسد المعارضة الهش والضعيف والمقسم أصلاً.
" من العار على الأمم المتحدة وجميع الدول والقوى السياسية المعارضة وغير المعارضة أن تقبل القتلة وفرسان السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة شركاء في إعادة إعمار ما هدموه "
فقد خسر النظام، في سنوات المواجهة الطويلة الماضية، الكثير من قدراته العسكرية، وإلى حد كبير، السيطرة على الآلة الميليشيوية التي استخدمها، حتى الآن، ضد الشعب والمعارضة، واستنفد طاقاته، وأصبح من الصعب عليه أن يجددها بسهولة. ولم يعد أمامه إلا مواجهة المرحلة المقبلة التي ستشهد فيها هذه القوى نفسها حركة الارتداد عليه، وعلى نفسها، أمام انعدام أي أمل، بعد اليوم، للحسم العسكري التي وعدت به. وهو، منذ الآن، يعتمد على شراء خدمات المرتزقة المحترفين من أفغانستان وغيرها، لسد الثغرات العديدة في جبهاته.
فطهران، الممولة والمخططة للحرب والمستفيدة الرئيسية منها، تواجه، بعد فشل نظامها في التوقيع السريع على الاتفاق النووي مع الغرب، تقلص مورادها المتزايد مع الانخفاض المتواصل في أسعار النفط، واستمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ سنوات طويلة. ولن يكون في وسعها مواجهة أعباء حرب الاستنزاف التي أطبقت عليها كالفخ، وليس من المؤكد أن الإيرانيين قادرون على تحملها إلى فترة طويلة.
أما روسيا التي وصلت إلى طريق مسدود في أوكرانيا، فقد يئست من إمكانية تحقيق حسم عسكري ساحق، على مثال الحل الذي حققته هي في غروزني عاصمة الشيشان، أي الاستسلام الكامل للمعارضة. وهي تعتقد أن بإمكانها الاستفادة من معطيات الحرب الدولية ضد الإرهاب من أجل تعويم نفسها دبلوماسيا، وفتح تجارة جديدة رابحة مع واشنطن التي تفتقر لأي خطة في سورية، والمراهنة على انقسام المعارضة، لتهميشها وتقليص مطالبها وتدجينها. وليس هناك ما يمنع من تجريب طرائق أخرى، مع تراجع قدرة الطرائق العسكرية على الحسم، وتفاقم كلفها المالية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، من أجل تحقيق الهدف في هزيمة الثورة السورية، وتأكيد شرعية النظم، مهما كانت السياسات .
بالنسبة لنا، نحن السوريين، أي حل، مهما كانت مظاهره الآنية، لن يكون مقبولاً، ولا مفيداً، ولن يشكل مرحلة على طريق إنهاء المحنة الإنسانية والسياسية السورية، ما لم يتضمن: 1. تفكيك نظام الاحتلال الذي دمر حياة الشعب السوري في السنوات الأربع الماضية بأركانه الثلاثة: الميليشيات المرتزقة المرتبطة بطهران والممولة منها والفيتو الروسي الذي يجسد الوصاية على البلاد، ومنظومة القتل المنظم والإبادة الجماعية المافيوية للأسد 2. الإقرار الصريح والواضح بحق الشعب السوري الكامل في تقرير مصيره، تحت إشراف الأمم المتحدة، وليس أي دولة أخرى، وبضمانة رسمية وعلنية منها. 3: محاسبة المسؤولين عن الجرائم الوحشية وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت، ولا تزال، في السنوات الأربع الأخيرة. وسيكون من العار على الامم المتحدة وجميع الدول والقوى السياسية المعارضة وغير المعارضة أن تقبل القتلة وفرسان السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة شركاء في إعادة إعمار ما هدموه، بدم بارد وعن وعي وسابق تصميم، وأن يعيد توحيد الشعب من استخدم كل الوسائل الدنيئة لتقسيمه وتمزيقه، وأن يؤهل الدولة، من حولها، إلى آلة للحرب والقتل والدمار، وأن يبني الامة من سلمها للاحتلال. من مثل هذه الشراكة الخبيثة لا يمكن أن يولد شعب، ولا أن تنتعش سياسة، ولا أن تنهض أمة، أو تقوم دولة أو ينشأ اقتصاد. إنها وصفة الحرب الأهلية الدائمة، والتعطيل الكامل لفرص استعادة سيادة الدولة وحكم القانون وعمل المؤسسات، ومن وراء ذلك تكريس نظام الاحتلال الداخلي والخارجي، على ما يأملون أن يكون حطام ثورة الفقراء والمعذبين والمشردين من أبناء سورية الشهيدة. لكنهم واهمون.
أي إنسان حرّ وعاقل يكره أن يخوض في غمار تسميات وأوصاف طائفية أو مذهبية أو عرقية، فقد تعودنا في أيام الزمن الجميل على الانفتاح والتسامح والتعايش بين مكوّنات عالمنا العربي وآمنّا بأننا إخوة ننتمي إلى أوطان متعددة وأمة واحدة لا فرق بين عربي وآخر إلا بمقدار وطنيته وإنسانيته ونبذه الغلوّ.
هكذا عاشت الأمة منذ مئات القرون، وهكذا نشأنا وترعرعنا وعرفنا سعادة الأخوّة ومزايا المشاركة وفوائد التضامن والتعاون، ولم نعرف أي نوع من أنواع التفرقة أو نشعر بأحاسيس خاصة تجاه أي مكوّن من مكونات الشعوب والأمة. كما لم نسأل يوماً أي صديق أو جار عن دينه أو طائفته وانتمائه، وأكبر مثال على ذلك هذه الصروح من المقدّسات والمقامات التي بقيت صامدة سليمة محمية منذ أكثر من ١٤ قرناً، وهذا التنوع والتجاور والتآخي بين أبناء أديان وطوائف ومذاهب وأعراق مختلفة... إلى أن جاءت «داعش» وأخواتها لتمارس أعمالها المستنكرة والمدانة ضد الجميع، بل قتلت واضطهدت من أهل السنّة أكثر من أي مكوّن آخر.
كل شيء في ديارنا كان يسير بانسيابية في الاتجاه الصحيح إلى أن بدأت المؤامرة المتعددة الرؤوس في إشاعة أجواء التفرقة وإثارة النعرات، واتخذت لها سبيلاً خارجياً وعوناً داخلياً من بعض ضعاف النفوس الذين رضوا أن يكونوا أدوات هدم عن علم وعمالة أو عن جهل وتعصب. وهكذا بدأت الفتن تطل برأسها على العرب، دولة بعد دولة وشعباً بعد شعب، وطائفة بعد طائفة، إلى أن وصلنا إلى هذه المرحلة السوداء.
وحتى نكون موضوعيين ومنصفين لا بد أن نضع إصبعنا على الجرح ونوجه إصبعنا الآخر نحو المتهمين بالمشاركة في هذه «المذبحة الشاملة» والممتدة من المحيط إلى الخليج. وحتى نكون صادقين وصريحين لا بد من البدء بأنفسنا أولاً، ثم نعترف بأنه ما من أحد بريء من دم الأبرياء وما من طرف إلا وشارك في شكل أو آخر في إيصال السكاكين إلى الأعناق.
ومن لم يشارك يعرف أنه كان شاهد زور على مجريات الأمور إن لم يتحول الى شيطان آخر يسكت عن الحق ويساير الباطل ويسير في ركاب أصحابه هاتفاً ومبجلاً.
ولو استعرضنا ما جرى في المنطقة خلال نصف قرن وتبلورت أخطاره وظهرت مساوئه أكثر في السنوات الأربع المنصرمة، لوجدنا مئات الجروح والمضاعفات والتعقيدات والأزمات والظواهر المدمرة التي تحتاج الى مجلدات لتفنيدها وشرح أبعادها وسبر أغوارها ومحاولة رسم خريطة طريق لمعالجتها والخروج من أنفاقها المظلمة.
ولعل أبرز قضية أو واقع يتقاطع مع كل هذه المضاعفات هو أوضاع مكونات الأمة من الطوائف والمذاهب والأعراق، وبالذات وضع المسلمين السنّة، أو «أهل السنة» بحسب التسمية المتداولة، ووقوفهم من حيث لم يدروا بين فكّي كماشة تحاول تفتيتهم أو تحجيم دورهم والإساءة إلى سمعتهم وإلصاق أسوأ أشكال التهم بهم، مع أنهم كانوا ولا يزالون، في غالبيتهم، يمثلون قمة الاعتدال والانفتاح والتعايش مع الأمم والأديان والطوائف الأخرى عبر العصور. بل يمكن الجزم بأنهم كانوا أول من بدأ بالحوار مع الآخر والمجادلة بالتي هي أحسن منذ ظهور الإسلام، دين الوسطية، (وجعلناكم أمة وسطاً)، مروراً بعلماء وقادة وصولاً الى الدعوات المتكررة والخطوات العملية التي اتخذها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ورعايته «المركز العالمي للحوار» وإصراره على حوار آخر بين المذاهب.
ومن يدقق في تداعيات الأحداث المتعاقبة يدرك جيداً صحة هذا الواقع الذي أدى الى وقوع المسلمين السنّة بين «فكي كمّاشة» عرضت مصيرهم للخطر أو بين سندان التطرّف والإرهاب، المنسوب إليهم زوراً وبهتاناً، ومطرقة العداء المستشري الذي اتخذ أشكالاً متعددة، مثل «الإسلاموفوبيا» وتعميم الصورة النمطية المزورة التي تربط كل عمل إرهابي بالإسلام والمسلمين.
والمقصود بهذه التهمة الظالمة المسلمون السنّة بالذات، من دون الأخذ في الاعتبار أنهم يمثلون أكثر من بليون إنسان مؤمن أو من دون الاعتراف بأن مئة أو مئتين أو ألفاً أو ألفين أو حتى مليوناً أو مليونين اختاروا سبيل التطرّف والإرهاب لا يمثلون سوى أقل من واحد في المئة من تعداد المسلمين المنتشرين حول العالم.
فعلى الصعيد الدولي، كان واضحاً ان المقصود بمزاعم صراع الحضارات والإسلاموفوبيا ومزاعم خطر الإسلام على حضارة الغرب هم في أكثرهم من المسلمين السنّة، ولهذا انطلقت الأبواق المغرضة تعلن النفير وبداية الحرب لتضرب خبط عشواء من دون تمييز بين مسالم وإرهابي وبين معتدل ومتطرف. ودأبت الصهيونية العالمية على صب الزيت على النار.
لكن نيران الأحقاد لم تتأجج إلا بعدما أقدم بعض المسلمين على تنفيذ عمليات مسيئة أعطت الحجج والذرائع للأعداء، ومنحت كل حاقد المبرر لممارسة كراهيته الدفينة. فقد تبنت «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن عمليات التفجير في نيويورك وواشنطن التي وصفت بالزلزال لتلصق بعدها تهمة الإرهاب بكل مسلم وتؤدي الى احتلال العراق وأفغانستان وتصعيد إسرائيل لعربدتها ضد الشعب الفلسطيني، مع أن القاصي والداني يعرف جيداً من «اخترع الوحش» ومن غذاه ثم أفلته ليمارس خطاياه، إن لم يكن قد أفلت لوحده بعدما تخلى عنه أربابه عندما أدى مهمته في تدمير الاتحاد السوفياتي انطلاقاً من أفغانستان.
وما يجري حالياً من أعمال عنف وإرهاب ومذابح يندى لها الجبين وعمليات خطف وذبح وصلب وسبي للنساء... ما هو إلا فصل من فصول هذه المؤامرة التي دفعت القريب والبعيد والعدو والصديق إلى وضع كل المسلمين في ميزان واحد يشمل الجميع في الإدانة والاستنكار والعداء، مع أن كل الدلائل تؤكد أن هؤلاء أقلية منحرفة، بينما غالبية المسلمين براء منهم، بل إنهم كانوا أول من تصدى للإرهابيين، فيما كان العالم يغض الطرف عنهم أو يحاورهم ويدافع عنهم بزعم الدفاع عن حقوق الإنسان.
لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بحدوث بعض التقصير في المواجهة أو التأخر في حسمها، أو السكوت على واقع كان يبدو للبعض عادياً ومضبوطاً ضمن سياسة الإنكار.
ولا نكشف سراً إذا قلنا إن المقصود بهذا التعميم هم «أهل السنّة»، فإسرائيل تعتبرهم الخطر المستقبلي على وجودها، والولايات المتحدة تنظر إليهم كتهديد أول لمصالحها، وروسيا تتعامل معهم كصاعق تفجير إضافي لكيانها ولهيمنتها على الجمهوريات الإسلامية الآسيوية، والشيشان بالذات، ولهذا تتخذ كل هذه الدول «داعش» و «جبهة النصرة» والتنظيمات المتطرفة الأخرى ذريعة لتبرير مخاوفها، بل إن الغرب يحاول دقّ إسفين في العلاقات بين المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة... وغيرهم من المنضوين تحت راية الإسلام، كما يعمل على إذكاء نار الفتن والترويج لفكرة أن الثورة في إيران تخدم أهدافه، لأنها ستؤدي في النهاية الى شق صفوف المسلمين وإشعال نار فتنة مذهبية على المدى البعيد، بل إن هناك من يدعو الى استغلال هذه التباينات للوصول الى الغايات الخبيثة، كما جرى عند اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية.
وبكل أسف، فإن علامات الفتنة السنية- الشيعية قائمة ويجري الحديث عنها بين حين وآخر وتتركز نيرانها في العراق قبل الغزو الأميركي، وبعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين وخطايا النظام الجديد حيث جرى ما نعرفه جميعاً، وأدى إلى الدخول المشبوه لـ «داعش» على الخط، والباقي معروف. وفي لبنان، اشتدت المخاوف من الفتنة نتيجة الخلافات المستشرية التي تفجرت في 7 أيار (مايو) 2008... ووصلت الى ذروتها بعد إعلان «حزب الله» القتال في سورية.
ومن هنا، كشّر الفك الآخر للكمّاشة عن أنيابه بإثارة حساسيات وإطلاق مشاريع مشبوهة وتزايد الأحاديث عن تقسيم وتفتيت ودول طائفية، وإعادة النظر في الحسابات وموازين القوى، ومن بينها كلام كثير عن الدعوة إلى إقامة ما يسمى بتحالف الأقليات، أي بين الشيعة والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين، بمختلف طوائفهم، لتأمين قدر من التوازن العددي والمادي مع المسلمين السنّة الذين يمثلون الأكثرية في العالمين العربي والإسلامي. وعلى خط موازٍ، هناك تركيز إعلامي وسياسي على ارتكابات المنظمات المتطرفة والزعم بأنها جزء من نهج كل المناطق السنية لتأجيج العداء ضدها، مع الرهان على حروب وصراعات سنّية- سنّية بين المتطرفين والمعتدلين وإضعاف أي دولة أو قائد حزب أو اتجاه يمثل الاعتدال بوصفه القلعة الحصينة لمنع الفتن وإظهار الوجه الحضاري والإنساني الذي يمثل الغالبية. وهذا ما تبنته إسرائيل التي شنت حروباً ومؤامرات ضد المعتدلين، من «فتح» وغيرها بقيادة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، ومن بعده عمدت الى تحجيم دور الرئيس محمود عباس لأنها تدرك جيداً أخطار الاعتدال على كيانها.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات والأخطار لا بد من التنبيه والحذر لمقاومة هذه المشاريع المشبوهة لأن نهايتها وخيمة على الجميع بلا استثناء، بين سنّي وشيعي وأي مكون آخر من مكونات أوطاننا وشعوبنا. ومهما كانت المبررات، فإنه لن يكون فيها منتصر ولا مهزوم، بل خاسر وخاسر، ورابح واحد هو إسرائيل.
ولمواجهة مثل هذه الأخطار، لا بد من الحوار البنّاء وإعادة اللحمة إلى كل أطياف الأوطان وإزالة أسباب الخلاف أو التمييز وإشاعة أجواء المحبة والتعايش والوحدة وتوجيه كل الجهود إلى نزع صواعق التفجير وإيجاد حلول سياسية للأزمات المتفاقمة والالتفات إلى البناء وإعادة الإعمار وتأمين الحياة الكريمة للمواطنين.
والأهم من كل ذلك وضع حد لأي تدخل خارجي ونبذ العنف وتوحيد الطاقات لمحاربة التطرّف والإرهاب بكل أشكاله، والقضاء على الأسباب والدوافع التي أدت الى انتشاره. وبهذا العزم والتصميم، ينجح العرب في كسر فكّي الكماشة قبل أن تسحق كل مكونات الأوطان العربية.
في جلسة استماع خصصت للحديث عن الحرب على داعش، وعن سوريا، استغرب بعض أعضاء الكونغرس من برنامج الحكومة الأميركية تدريب المعارضة السورية على السلاح، لأنه يبدأ في ربيع العام المقبل، وينتهي في ربيع 2016! ما الذي علينا أن نفعله حتى ذلك الحين، تقذفون بالقنابل في مناطق هامشية وتدربون لزمن بعيد؟ تساءلوا مستنكرين!
وبرنامج التدريب الموعود بذاته لا يستحق الاهتمام به إلا من الجانب السياسي، لأنه يعبر عن موقف أميركي مؤيد للمعارضة ومع مشروع إسقاط نظام الأسد. موقف سياسي فقط لا يجب أن يحمل أكثر مما يحتمل، ويمكن نقضه بتصريحات في الملخص الصباحي للبيت الأبيض.
عدد الموعود تدريبهم من الجيش الحر من الضآلة أنه لا يتجاوز رُبع عدد جيش تنظيم داعش الإرهابي، ولا يبلغ ثُمن عدد قوات الأسد. 5 آلاف مقاتل من الجيش الحر يفترض أن يمضوا عاما في معسكرات التدريب الأميركية، والأرجح أن عامين سيمضيان قبل أن يتمكن أحدهم من إطلاق النار في ساحة الحرب، بسبب البيروقراطية وعدم استعجال ترتيب المهمة الموعودة. وحتى عندما يتخرجون جنودا مدربين ما الذي سيفعلونه أمام الطائرات التي تقذف بالبراميل المتفجرة، أو المدافع التي تقصفهم من بعيد؟ لا شيء لأنهم محرومون من الأسلحة الدفاعية.
مع هذا فإن السوريين سيستمرون في القتال، سواء دربوا أم لا، سواء سلحوا أم لا، لأن الحرب ليست خيارا اليوم، ولا يمكن وقفها في انتظار الحل السياسي، أو حتى إنهاء التدريبات العسكرية. هناك 9 ملايين إنسان مشردون في الداخل والخارج، لا يمكنهم القبول بخدمة البطانيات، والخبز، والنوم في العراء كل شتاء، لهذا الحرب لم تتوقف ولن تتوقف. الكثير من السوريين يقاتل بأسلحة بسيطة، وبثياب رثة، وحتى من مل أو تعب منهم، لا حل أمامه للعودة إلى بيته إلا بالقوة، هذا أمله الوحيد. وربما يمضي العامان المقبلان والنظام باق في دمشق، متكلا على دعم حليفه الإيراني، إلا أن الحرب لن تتوقف من دون نهاية للنظام حلا أم حربا.
وكلنا يعرف أنه لو كان بحوزة المعارضة المعتدلة السلاح النوعي، لما عاش النظام، وكانت خسائر حلفائه أكبر من قدرتهم على الاستمرار في حمام الدم إلى اليوم، لأنه ليس هناك نقص في عدد المتطوعين للقتال، بل يبلغ عددهم في الجنوب وحده أكثر من 30 ألف مقاتل وإن كان تأهيلهم بسيطا وأسلحتهم محدودة. ليست الولايات المتحدة، ولا حتى الدول الأوروبية المؤيدة للجيش الحر، هي من تدرب المعارضة التي تقاتل على الأرض، بل معظمهم منح تدريبا سريعا في الدول العربية التي تؤيدهم، وتدعمهم، وكذلك تركيا.
ولهذا نقول للوسطاء الدوليين، ومبعوثي الدول الغربية، إن عليهم أن يفهموا الواقع الجديد، الذي لا ينسجم مع الحلول النظرية التي يعيدون طرحها بلغة مختلفة كل مرة. السر يكمن في الـ9 ملايين لاجئ، ومعظمهم داخل سوريا نفسها. بسببهم ستستمر الحرب، لأن نظام الأسد يعتبرهم خصومه، ولن يسمح لهم بالعودة إلى مدنهم وأحيائهم، خشية أن يسلموها للمعارضة، إن لم يحاربوا أيضا معها. وفي نفس الوقت لا يمكن أن نتوقع منهم البقاء على الحياد وهم مطرودون من منازلهم، لهذا السبب تحديدا الحرب ستستمر حتى حدوث التغيير. الذي لا نستطيع أن نعرفه في المستقبل القريب، هو كيف ستتشكل القوى والأوضاع بين اللاجئين، هل سينضم المزيد من الشباب السوري التائه إلى تنظيمات متطرفة مثل «داعش» و«جبهة النصرة» أم مع «الجيش الحر» المعتدل. من الصعب أن نخمن عن بعد ما الذي يحدث داخل مجتمع المهجرين والمشردين، سوى القول: إنهم خزان بشري هائل، وغاضب.
تتواتر الأنباء عن ضربة إيرانية لمواقع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ولا يبدو الأمر غريباً، فالعراق منتهك السيادة، وهو ساحة معركة إقليمية ودولية. لذلك، تحوم الطائرات الغربية والإيرانية في سمائه، ولا تجد استنكاراً من الساسة العراقيين الذين تعوّدوا على الحكم تحت سقف التوازنات الإقليمية والدولية، وبدون سيادة (مع التذكير أن وصولهم إلى الحكم جاء من خلال الاحتلال الأميركي)، ولا استنكاراً عربياً حقيقياً في ظل الفوضى التي يعيشها العرب على كل المستويات.
بغض النظر عن تأكيد صحة هذه الأنباء من عدمها، فإن إيران تخوض حرباً ضد تنظيم الدولة، سواءً ضربت مواقعه مباشرة أم لا، فعلى الرغم من أن إيران لم تدخل في إطار التحالف الدولي ضد التنظيم، إلا أنها تعتبر هذا التنظيم خطراً حقيقياً عليها وعلى مصالحها في الإقليم، وهي تعمل بكل قوة، وبالتعاون مع حلفائها، لضربه وإنهاء خطره، وبالذات في العراق، حيث النفوذ الإيراني والمكاسب التي تم تحصيلها منذ عام 2003، مهددة بوجود هذا التنظيم، وتحديه حلفاء إيران في العراق.
استفادت إيران من الاحتلال الأميركي للعراق، وحولت الخطر الذي مثّله عليها إلى فرصة لإيلام الأميركيين، وفي الوقت نفسه، لبسط نفوذها في العراق. عندما أسقط الأميركيون نظام صدام حسين، العدو اللدود للإيرانيين الذين شعروا بأنهم ربحوا بالخلاص من نظام صدام حسين، لكنهم ظلوا يشعرون أنهم مستهدفون من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وبدأ التفكير الإيراني الجدي في استراتيجية لمواجهة الأميركيين في العراق، وتلخّصت الاستراتيجية الإيرانية في أمرين: العمل على عدم استقرار القوات الأميركية في العراق، بدعم فصائل مقاوِمة، والسيطرة على النظام السياسي الجديد في العراق، لكي لا يكون أداة بيد الأميركيين.
لعبت الأحزاب الشيعية الطائفية دوراً رئيساً في الاستراتيجية الإيرانية داخل العراق، إذ إنها كانت فرس الرهان سياسياً بالنسبة للإيرانيين، وقد كانت إيران تتمتع بعلاقات متفاوتة مع هذه الأحزاب، فعلاقتها وطيدة جداً بالمجلس الأعلى الإسلامي العراقي (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق سابقاً)، بزعامة آل الحكيم، حيث نشأ المجلس في أحضان الإيرانيين، لكن علاقتها أقل مع حزب الدعوة والتيار الصدري. ما حصل بعد عام 2003 عزز علاقة حزب الدعوة والصدريين مع إيران، إذ إن التقسيم الطائفي الذي جاء به الأميركيون، وارتضته النخبة السياسية العراقية، مكّن الإيرانيين من نسج علاقة وطيدة مع "الكتلة الشيعية" في العملية السياسية، باعتبارها راعية إقليمية للساسة الشيعة في العراق، في مقابل الرعاة الإقليميين للقوى السنية، وعلى الرغم من التوحّد، في البداية، بين المكونات الشيعية ضمن ائتلافٍ موحد، فقد نشبت الخلافات والصراعات بين أطراف هذا الائتلاف، وبقيت إيران تضبط الإيقاع، وتحاول حل الخلافات وإيجاد توافقات بين أقطاب الكتلة الشيعية، مثلما فعلت، بإقناعها مقتدى الصدر باختيار نوري المالكي لولاية ثانية، حين حصل الصراع الإقليمي والدولي على شخصية رئيس الحكومة العراقية، بعد انتخابات عام 2010.
" الإيرانيون وحلفاؤهم لم يتنبّهوا إلى ضرر سياسات نوري المالكي على الوضع العراقي، وعلى نفوذهم "
مع الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011، وهيمنة حلفاء إيران على الحكم هناك، ساد الاعتقاد بأن إيران سيطرت تماماً على الوضع في العراق، لكن الإيرانيين وحلفاءهم لم يتنبّهوا إلى ضرر سياسات نوري المالكي على الوضع العراقي، وعلى نفوذهم، فالمالكي اتخذ خيارات صِدَامية مع ممثلي السنّة في العملية السياسية، وأضاف هذا مزيداً من الشعور بالغبن عند السنّة، ما جعل داعش تعزز وجودها داخل الوسط السني، ضمن صراع هوية واضح المعالم، أسهمت فيه بقوة السياسات الطائفية لحكومة نوري المالكي.
تمددت داعش، واستولت على الموصل، ومعظم المناطق التي يسكنها السنّة، وأصبح الإيرانيون أمام تحدٍ جديد يهدد حلفاءهم الرئيسيين في العراق، ونفوذهم وهيمنتهم هناك، ليس فقط لأن داعش تتمدد، بل، أيضاً، لأن الأميركيين يعودون بقوة لينافسوا الإيرانيين على النفوذ السياسي. وهكذا، فإن ما يحصل الآن يعبّر عن تنافس إيراني ـ أميركي في العراق على توجه الحكومة الجديدة، برئاسة حيدر العبادي، كما يعبّر عن استنفار إيراني في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، بغرض منعه من تحقيق تمدّد كامل في العراق، وضرب المصالح الإيرانية.
مشكلة الإيرانيين أنهم يتصرفون بعقلية إدارة الأزمة، وهم لا يملكون استراتيجية للحل السياسي في العراق، أو تغيير السلوك الطائفي لحلفائهم الذي تسبّب بهذه الأزمة، فهم مهتمون بمواجهة داعش عسكرياً، غير أنهم لا يدركون أن مشاركتهم، بخبراتهم العسكرية، في إعادة ترتيب الميليشيات الشيعية لمقاتلة داعش، وبصور قاسم سليماني من قلب المعارك، تعزز وجود داعش، عبر تعزيز نفور السنة العراقيين من الساسة الشيعة الذين يسلّمون أنفسهم والبلاد إلى إيران. صور سليماني، التي تُظهر تحدياً وتنافساً إيرانياً مع الأميركيين والغرب، تُفهَم عند السنّة تحدياً لهم، وانعداماً لاستقلالية القوى الشيعية العراقية.
من دون عزل داعش عن حواضنها الشعبية، عبر مصالحات وتوافقات وطنية واسعة، يعززها رفض الهيمنة الإيرانية والغربية، وإيجاد حالة عراقية وطنية مستقلة، لا يمكن تصور نهاية ظاهرة "داعش"، فالتنظيم سينبعث مجدداً تحت أي مسمى، حتى لو هُزِم عسكرياً، طالما صراع الهويات في العراق قائمٌ ومستمر، والمعالجات السياسية غائبة، والثقة بين العراقيين مفقودة.
في ندوة متخصصة عقدت مؤخرا في عمان، نقلت وسائل الإعلام عن مسؤول ملف اللاجئين في وزارة الداخلية قوله أن اللاجئين في الأردن، من مختلف الجنسيات، يشكلون 45 % من السكان. اكتفى المسؤول بالنسبة الإجمالية، ولم يعرض أرقاما تفصيلية. لكن نصف هؤلاء تقريبا هم من السوريين، والنصف الثاني يتوزع على الجنسيات الفلسطينية والعراقية والليبية واليمنية. ولا نعلم إن كان المسؤول شمل في حسابه العمالة الوافدة، المصرية منها على وجه التحديد؛ ففي هذه الحالة يصبح الرقم منطقيا، وربما صادما للكثيرين.
تظهر دراسات سكانية أن الأردن من بين أكثر البلدان في العالم قدرة على دمج اللاجئين في بنيته الاجتماعية. فعلى مدار العقود الماضية، استقبل الأردن عدة موجات من اللاجئين، ومن مختلف الجنسيات العربية وغير العربية. وانخرطوا جميعا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، من دون صعوبات كبيرة. بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة انتفاء أشكال التمييز، كما الحال في مجتمعات معاصرة وأكثر تحضرا من المجتمع الأردني.
لكن الحاصل في الوقت الراهن أن موجات اللجوء أكبر من مثيلاتها في التاريخ الأردني؛ من حيث الأعداد، وفترات اللجوء القياسية. لقد زاد عدد سكان الأردن بنحو 20 % في غضون سنتين تقريبا، وهي نسبة أكبر من طاقة المجتمع والدولة على هضمها.
ولهذا، يخشى باحثون وسياسيون أن تقوض الهزات الديمغرافية المفاجئة استقرار المجتمع، المسكون أصلا بالخوف من تبعات اللجوء، والفوضى في دول الجوار.
ومن بين التحديات التي تواجه السلطات وقادة المجتمعات المحلية في هذه المرحلة، تعزيز قيم التعايش بين السكان واللاجئين في البلدات الصغيرة والأحياء داخل المدن الكبيرة وفي الضواحي، التي تشهد حضورا لافتا للاجئين يفوق في بعض الأحيان أعداد السكان الأصليين في تلك المواقع.
الخبر الجيد بهذا الخصوص أنه لم تقع، لغاية الآن، صدامات أهلية واسعة النطاق بين المجموعتين السكانيتين. لكن في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وشح الموارد والوظائف، فمن غير المستبعد أن تبرز نزعات عدوانية تجاه اللاجئين، وتأخذ أشكالا خطيرة.
وعادة ما يواجه اللاجئون صعوبات في التأقلم خلال المرحلة الانتقالية. لكن مع مرور الوقت، تتلاشى الفروقات، وينخرط "الغرباء" في البنية المحلية للمجتمعات.
لقد مر المجتمع الأردني بمراحل انتقالية مشابهة في تاريخه. وحاليا يمر بفترة انتقالية عاصفة، بسبب حجم اللجوء هذه المرة، وسيحتاج لبعض سنوات قبل أن يتجاوزها.
وأعتقد أنه مع بداية العقد المقبل، ستبدأ ملامح المجتمع الجديد بالتشكل. العراقيون الذين قدموا إلى الأردن في عقد التسعينيات على سبيل المثال، واستقروا بشكل نهائي، هم الأقرب إلى الاندماج الكامل في المجتمع حاليا، واكتسبوا شروط المواطنة باستثناء الجنسية والحقوق السياسية، مع أن العديدين منهم نالوا الجنسية.
هناك بلا شك قوى وأصوات تقاوم مثل هذا الاندماج، لاعتبارات تتعلق بالهوية. لكن، وكما حصل في الماضي، فإن تلك الأصوات ستخبو مع الزمن، وستفرض الوقائع نفسها على الجميع.
تشير تجارب اللجوء في العالم كله إلى أن نصف اللاجئين تقريبا لا يعودون إلى ديارهم بعد استقرار الأحوال. وكلما طال أمد الأزمات، تتراجع الآمال بالعودة، وتتغلب الرغبة في الاستقرار على حنين العودة للأوطان. هذا ما سيحصل مع معظم اللاجئين السوريين والعراقيين.
لم تشهد أي إدارة أميركية تخبّطاً وتشوّشاً مثل الذي تشهده إدارة باراك أوباما، اليوم، حيال الملف السوري، حيث الارتباك والضعف وغياب الرؤية. وقد تعاملت الإدارة المذكورة مع الأزمة السورية منذ بدايتها بحذر ورويّة كثيرين، معتمدة على مبدأين: العمل الجماعي مع المنظومة الدولية وإعطائها دوراً دولياً أكبر، وممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية من بعيد. لكن، مع تعقّد الأزمة، بدأت الإدارة الأميركية تتبع سلوكاً سياسياً متشابكاً، يعكس هذه الطبيعة المعقدة للأزمة، ويعكس، أيضاً، مخاوف الولايات المتحدة ذاتها وحلفائها في المنطقة، فضلاً عن مخاوف النظام السوري التي أصبحت حاضرة في السلوك السياسي الأميركي.
وقد دفع التغيير المستمر في السلوك الأميركي وغياب رؤية محددة شخصيات مرموقة إلى توجيه نقد لاذع لسياسة أوباما، وهذا غير مألوف في تاريخ الولايات المتحدة: المبعوثان الخاصان لأوباما للأزمة السورية، فريد هوف وروبرت فورد، وسبقهما إلى ذلك وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، ووزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلنتون، وأخيراً وزير الدفاع المستقيل تشاك هاغل. وقد مر الموقف الأميركي بأربع تحولات خلال أعوام الأزمة السورية:
ارتباك في التعامل مع الأحداث المتسارعة مع مراقبتها أولاً، ثم دعم المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، في مقابل فرض عقوبات اقتصادية على النظام ثانياً، ثم تراجع الدعم العسكري للمعارضة المسلحة، وتغيير التحالفات الميدانية مع الاستمرار في استنزاف النظام وحلفائه ثالثاً. وأخيراً، الميل إلى إمكانية التفاهم مع حلفاء النظام في محاربة الإرهاب، وتهيئة الأرضية لإيجاد حل سياسي يلائم الواقع السوري.
والصيغة الأخيرة هي التي يحاول أوباما تكريسها في المرحلة المتبقية من ولايته، إذ تعمد إدارته إلى تعريف الأزمة السورية على أنها صراع بين متساوين، أي حرب أهلية، وهذا ما يفسّر توقف واشنطن عن دعم اللجنة الخاصة بالتحقيق في جرائم الحرب في سورية. وبموجب هذه الصيغة، لن يكون مصير بشار الأسد شرطاً مسبقاً في أي عملية تفاوض، لكن هذا لا يعني، في المقابل، بقاء الأسد في السلطة، ضمن أية تسوية. وتقوم المقاربة الأميركية على الفصل الحاد بين الميدان والسياسة، بين نتائج المعارك العسكرية ونتائج مفاوضات السلام، فهدف استمرار المعارك يتجاوز مسألة بقاء الأسد، أو خروجه من السلطة. والنتائج العسكرية لا يمكن أن تحدد النتائج السياسية، لأن نتائج العمليات العسكرية تتجاوز مسألة بقاء النظام أو عدمه، وفق رؤية أوباما. وبالتالي، لا يمكن أن تختزل الأزمة السورية وتداعياتها الإقليمية والدولية بانتصار عسكري لهذا الجانب أو ذاك.
“ مخاوف النظام السوري أصبحت حاضرة في السلوك السياسي الأميركي "
المهم للولايات المتحدة، في هذه المرحلة، بقاء النظام على حاله، من أجل بقاء الدولة وعدم صوملة سورية، وإقناع الأطراف المعارضة بجعل مصير الأسد نتاجاً للعملية السياسية وليس مقدمة لها، وهذه هي المهمة السياسية الموكلة إلى روسيا خفية، من المجتمع الدولي، بالسماح لموسكو بتتبّع مسار دبلوماسي للأزمة، إثر علاقاتها مع النظام السوري، ومحاولتها تشكيل تكتل سياسي جديد، وليس مصادفة أن تعلن واشنطن، قبل نحو شهرين، عدم اعترافها بالائتلاف الوطني، ممثلاً وحيداً للشعب السوري.
كان أوباما صريحاً للغاية، حين قال في قمة العشرين في أستراليا، الشهر الماضي، إن واشنطن ترغب بحل سياسي في سورية، يرضي جميع الأطراف الداخلية والخارجية، وسيضطر الشعب السوري للقيام بتفاهمات سياسية مع تركيا وإيران وكذلك الأسد. لكن، تتطلّب هذه المعادلة، أولاً، تغييراً، أو تعديلاً، للواقع الميداني في سورية، ولا سيما محاولة القضاء على داعش، وهي معادلة بدأت ترتسم ملامحها أخيراً على الأرض، بالسماح لقوات إيرانية وحزب الله، وأخرى عراقية، مقاتلة داعش وبعض الفصائل في شمالي سورية من جهة، وبوادر اتفاق أميركي ـ تركي على إقامة منطقة عازلة شمالي سورية من جهة ثانية، على الرغم من إعلان الخارجية الأميركية عدم حسمها خيار المنطقة العازلة.
يقوم جوهر السياسة الأميركية على إيجاد حل للأزمة السورية على الطريقة اليمنية، بعد "تبيئتها" لتتلاءم مع الواقع السوري، وبالتالي، العمل العسكري المتاح هو لمحاربة الإرهاب، وليس لإسقاط النظام السوري، فتكاليف إسقاطه عسكرياً تتجاوز بكثير تكاليف تغييره سياسياً، طالما أن الأزمة السورية لا تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي، وفق تعريف أوباما الأزمات الدولية.
يتسم عمل توثيق انتهاك حقوق الإنسان في سوريا بصعوبات مركبة ومتداخلة فيما بينها بدءاً من تصحر الوطن السوري من كل نشاط مجتمعي مدني حقيقي من قبيل الدفاع عن حقوق الإنسان خلال العقود الطويلة من تسيد نظام الاستبداد والدولة الأمنية المافيوية في كل مفاصل حياة المواطن السوري، وصولاً إلى مأساة التغييب القسري سواءً بالقتل أو الاعتقال للعديد من الناشطين الحقوقيين الذين تمكنوا، وخلال فترة وجيزة من عمر الثورة السورية، من الإمساك بالمفاتيح الأساسية للعمل في ميدان حقوق الإنسان وتقديمه في صيغة صحيحة وصادقة، على الرغم من أنها في معظم الأحيان ظلت تتراوح في حيز التوثيق الأولي الخام الذي يحتاج دائماً إلى التدقيق والتنقية لزيادة قدرته التأثيرية عند المتلقي له، ومروراً بالصعوبات المهولة التي تقارب المستحيل لتحرك الناشطين الحقوقيين في سوريا وقدرتهم على العمل المشترك فيما بينهم في الداخل السوري ومع رفاقهم الموجودين خارج حدود الوطن.
وما ساهم بشكل مؤلم في تشويش عمل ونتاج وتعقيد مهمة الناشطين الحقوقيين في سورية ظهور مؤسسة تزعم اهتمامها بالعمل في ميدان حقوق الإنسان وهي في واقع الأمر شخص واحد ليس لكيان المؤسسة التي يتحرك باسمها أي كيان اعتباري أو قانوني أو جسم تنظيمي عياني مشخص سواء في سورية أو في المهجر. وهو الذي قام دائباً بتحويل ضآلة العمل مجال حقوق الإنسان في سورية من توثيق لكل الانتهاكات التي تندرج تحت الأبواب الأساسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى عمل إخباري مسطح يتناول التطورات الميدانية في واقع المأساة السورية من اشتباكات ومواجهات وتفجيرات وحوادث قتل على أساس طائفي أو ثأري دون التحقق الموضوعي من أنها في الواقع الحقيقي كذلك.
ولأن معظم المؤسسات الإعلامية الغربية محكومة بمعادلة القرد الذي إن خيرته بين أنواع الطعام فلن يختار إلا الموز من كل ما لذ وطاب لأن ذائقة القرد وتكوينه البنيوي والوظيفي تفرض ذلك، فهي، أي تلك المؤسسات الغربية، ظلت تستمرئ كل الرسائل الإخبارية التي تصور الثورة السورية على أنها حرب أهلية على أساس طائفي ومنذ الأشهر الأولى لعمر الثورة السورية، وأنها لم تقم أساساً كثورة شعبية تطمح للتحرر من الاستبداد وتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية.
ولذلك ظلت الوسائل الإعلامية الغربية الكبرى تدمن اختزال انتهاكات حقوق الإنسان في سورية بما تقدمه لها تلك المؤسسة/ الفرد من صور شوهاء عن الثورة السورية دون البحث أو التمحيص في مدى صدقية وتوثيق المعلومات المقدمة لها كتفاصيل لتلك الصورة الشوهاء، وخاصة إن كانت من قبيل أكل قاتل همجي لقلب قتيله دون تحليل وشرح الظروف الموضوعية التي أدت إلى ذلك التحول الوحشي وفق مبدأ العنف الذي لا يولد إلا العنف في السياق المكاني والزماني لتلك الحادثة الشاذة، وأن التعميم من حالة استثنائية هو خطأ ما لم يتم التحقق علمياً وإحصائياً من أن ذلك المثال الخاص تشخيص صحيح لحالة عامة وسائدة.
وما ساهم في مفاقمة صعوبة مهمة توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وإيصالها إلى الإعلام الغربي هو تنطع تلك المؤسسة/ الفرد لتقديم أرقام تحصي أعداد القتلى من أفراد الجيش والجهات الأمنية السورية دون تقديم أي قوائم قابلة للتحقق من صحتها وواقعيتها، واستخدام تلك الطريقة المخاتلة وسيلة للتشكيك في مصداقية الهيئات الحقوقية الأخرى التي لا تستطيع أن تقوم بأي توثيق ملموس لأعداد القتلى من الجيش النظامي والجهات الأمنية الموالية لنظام الأسد لعدم وجود أي ارتباط بينها وبين الجهات الرسمية السورية المعنية بإحصاء أعداد القتلى من أفراد جيش النظام الأسدي وأجهزته الأمنية، وخاصة في ضوء التضييق المهول على ناشطيها وملاحقة معظمهم من قبل الأجهزة الأمنية السورية.
يضاف إلى ذلك وقوع كل الكيانات السورية الأخرى المعنية بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية على اختلاف مشاربها في أسر المطلب الجوهري والثابت بضرورة الحفاظ على الاستقلالية المطلقة لكل أنواع العمل في ميدان توثيق انتهاكات حقوق الإنسان عن ارتهانات التمويل الخارجي المباشر وغير المباشر، والحفاظ على أن يكون العمل دائماً وفق مبدأ يقيني ينطلق من أن العمل في مجال حقوق الإنسان وخاصة في مثل الحالة السورية يجب أن يكون عملاً تطوعياً وممولاً بشكل ذاتي من مساهمات المنخرطين فيه فقط، وهو ما أصبح مطلباً مركباً ومعقداً خاصاً في ضوء النكبة الشاملة عمقاً وسطحاً لكل تكوينات المجتمع السوري المنتفض، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى اضطرار العديد من الناشطين الحقوقيين الذين لم يعودوا قادرين على القبض على جمرة الاستقلالية المادية إلى قبول عروض العمل هنا وهناك مع مؤسسات إعلامية وحقوقية غربية وعربية وهجران العمل في ميدان توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية بشكل موضوعي ومنهج.
وذلك كله كان قد وسع الفسحة لما أتينا على ذكره آنفاً للإدلاء بنتاجه غير الموثق على أنه توثيق لانتهاكات حقوق الإنسان في الإعلام الغربي خاصة وبعض الإعلام العربي المتكاسل أيضاً الذي لم يكلف نفسه عناء البحث عن الحقيقة الموضوعية بما يجرى في سورية إنْ لم يكن في الواقع منغمساً في معادلة تفارق المقول عن الفعل!