الناس في الموصل كما في المدن والبلدات الأخرى التي سيطر عليها مقاتلو «داعش» حائرون بين ماض غير مريح كان سائدا في ظل سيطرة القوات الحكومية، وحاضر مرعب ومستقبل غامض ومجهول بيد هؤلاء المقاتلين. يقول بعض الفارين من سكان هذه المدن والبلدات التي يسيطر عليها «داعش»، ان سلطات «داعش» تمنع المواطنين من مغادرة مدنهم، وعملت على إقفال منافذ الاتصال بالعالم الخارجي، وقد أوقفت في الأسابيع الماضية شبكات الاتصال للهواتف الخليوية، وصارت تراقب مجهزي خدمات الانترنت في المدن التي تسيطر عليها. ويقول الفارون من «الدولة الاسلامية» هكذا يسمونها، لانه ممنوع عليهم قول كلمة «داعش»، ويوضح أحد المواطنين الذين فروا من الموصل مؤخرا، يمنع على المواطنين إطلاق اسم «داعش» على المسلحين، ومن يخالف التوجيهات ويلفظ اسم «داعش» ستفرض عليه عقوبات تصل الى الجلد. وتنتشر اللوحات الإعلانية في أرجاء المدينة للتشديد على أهمية الجهاد والشريعة وعفة النساء، إلى جانب مواضيع أخرى من التقوى المتزمتة. ان حضور المقاتلين الاجانب طاغ، سواء كانوا من جنسيات عربية أم غربية أم آسيوية أم شيشانية أم سواها، هذا كان في بادئ الامر. أما في ما بعد فقل عدد المقاتلين الاجانب وحل محلهم شباب من سكان الموصل بعضهم فتيان تقل اعمارهم عن 16 سنة، تطوعوا حديثا، لأن مقاتلي «داعش» الاساسيين انتقلوا الى بؤر المواجهات والقتال مع القوات الحكومية
ويركز تنظيم «داعش» على تعليم الأطفال طريقته في التفكير، واسلوبه واستراتيجيته، ليكونوا على اتم الاستعداد، للانضمام إليه عند وصولهم إلى السن المناسب، بالإضافة إلى موافقته على مشاركة النساء في القتال، وتدريبهن وتعليمهــــن فنون القــــتال، وكيفية استخدام السلاح. ولكن حســـب احد الفــارين من الموصل «لم نعرف او نسمع ان احدى الموصليات اصبحت مقاتلة في صفوف «داعش»، معظم النساء المقاتلات في صفوفه هن من جنسيات غير عربية».
ولكن الامراء والمقاتلين كانوا يبدون اهتماما بالاطفال وعلمنا انهم استخدموا طرقًا مختلفة لضم الأطفال لمعسكراتهم القتالية واستعانوا برغبة البعض أو بخطف الأطفال من ذويهم أو مقابل المال كتعويض عن الطفل في قرى الموصل الفقيرة، وكنا نرى بعض الاطفال يرتدون قمصانا وقد كتب عليها أشبال دولة الخلافة، بعضهم ليس من الموصل ربما يكونون سوريين، وحسب الروايات التي نسمعها أن الأطفال دون سن الـ16 يتم تدريبهم على استخدام الكلاشينكوف والآر بي جي والقنابل وإعداد المتفجرات، ثم يتم تقسيمهم لقسم المقاتلين وقسم الانتحاريين وقسم مصنعي القنابل».
في مدينة الموصل ينتشر مسلحون بتصنيفات عديدة بعضهم شرطة وآخرون شرطة مرور اسلامية، وهناك قوات تشبه جنود القوات الحكومية السابقة، فيما هناك شرطة اقتصادية، وهناك رجال مسلحون بمسدسات يراقبون الشوارع ويتجولون في الاسواق يسمون انفسهم «جماعة الحسبة».
التعليم في مراحله الاولية قبل الجامعية مستمر، اما الجامعة فمتوقفة. وفي بداية العام الدراسي منع المدرسون من الذهاب للمدرسة حتى إتمام الدورة الشرعية وتم إلغاء كامل لمواد التربية الفنية والموسيقية والوطنية والتاريخ والفيزياء، والمناهج الاخرى تم تغييرها أكثر من مرة ولم تستقر الأمور على حال.
وكما هو معلوم تعرضت بعض النصب والتماثيل المهمة في المدينة الى التدمير، مثل نصب أبي تمام والموسيقار المتصوف عثمان الموصلي، كما تم هدم قبر المؤرخ إبن الاثير، وأزيل تمثال السيدة مريم في كنيسة «مريم العذراء» الموجودة في مركز المدينة. وفي الوقت الذي حرمت فيه الدولة الاسلامية بالنسبة للرجال لبس الجينز والـ»تي شيرت»، فإنها وجهت معمل ألبسة الموصل (الحكومي الذي كان يتبع وزارة الصناعة) الذي توقف أياماً بعد سيطرة قوات الدولة الاسلامية ليعود للعمل مجدداً وينتج الزي القندهاري، الذي يمثل «الزي الرسمي» للدولة الاسلامية، الذي يتكون من قميص طويل يصل إلى الركبة وسروال ، كما بدأ خياطو الموصل بصناعة الزي بحرّفية بحسب الطلبات التي تردهم، لكنهم أدخلوا عليه بعض إضافات الموضة الحديثة، بناء على طلبات الشباب الموصلي الذي اعتبروه موضة الزمن الجديد. فيما ترتدي النساء الجلباب وفوقه عباءة سوداء تغطي الجسد، اما الحجاب فهو مفروض على جميع النسوة، بمن في ذلك الفتيات الصغيرات في عمر ست او سبع سنين.
وفيما تم تحريم التدخين والاريجيلة والخمر والمخدرات وبيع سيديهات الافلام والاغاني والالعاب الالكترونية ، فإنه تم ايضا منع لعب «الطاولي» والدمينو وكذلك ورق اللعب في المقاهي، كما تمت مراقبة الالعاب الالكترونية، كما ان الدولة الاسلامية قننت بعض التعاملات بين الناس، فعلى سبيل المثال فرضت تسعيرة لايجارات المساكن والمكاتب، بحيث تم خفضها على نحو وصل الى 80 او 90 بالمئة عن الاسعار التي كانت سائدة، وهكذا فعلت بخصوص بعض الخدمات مثل تقليل اجرة الكشف عند الاطباء واطباء الاسنان، وغيــــرها من الخدمات. الاعمال في المدينة شبه متوقفة، الكهرباء مقطوعة، تجهيز الكهرباء عبر المولدات مكلف، وصلت كلفته ليلا للامبير الواحد نحو 17 الف دينار (اي ما يعادل 15 دولارا) .. البنزين أسعاره بارتفاع مستمر، وصل سعر اللتر الواحد قبل اسابيع الى 1700 دينار والان وصل سعره الى 3000 دينار، بينما سعر ليتر البنزين في بغداد 450 دينارا، غاز الطبخ بلغ سعر القنينة قبل الاسابيع 40 الف دينار في الاسبوع الماضي ارتفع سعرها الى 75 الف دينار، الاجهزة التي تعمل بالنفط الابيض حلت محل طباخات الغاز او الكهرباء بعض العوائل صارت تحطب وتقطع الاشجار لتستخدم خشب الاشجار في التدفئة والطبخ. الخضروات والمواد الغذائية التي تجلب من سوريا ارتفعت اسعارها، وحده لحم الخروف العراقي انخفض سعره الى النصف ليبلغ 7 الاف دينار للكيلو.
محلات الحلاقة النسائية والرجالية اصبحت ممنوعة في الموصل. عدد قليل من المطاعم التي تبيع الكباب والمشويات مفتوحة ومعظمها يرتادها المسلحون، أما ابناء المدينة من الاهالي فقلما يفعلون ذلك، ووقت الصلاة يمنع على اي محل ان يبقى مفتوحا.
الناس خانفون من الايام المقبلة، فهم يعرفون ان قوات الجيش والبيشمركة تستعد لتحرير الموصل، ورغم ان معظم المتبقين من الموصليين يريدون الخلاص من «داعش» ، الا انهم يخشون ان تستمر حرب تحرير الموصل شهورا وتتخذ «داعش» من الاهالي دروعا بشرية لها ولمقاتليها.
من واجب المعارضة السياسية الراشدة أن تكون قادرة على تتبع تفاصيل المشهد السوري . ولاسيما ما يصدر منها عن جهات مؤثرة أو فاعلة والسبق إلى تحديد موقف إعلامي منها ، ووضع الخطط والآليات العملية للتعامل معها بتعزيز الإيجابي وإماتة ونفي السلبي .
كل الطروحات تبدأ جنينية ، وأحيانا وجهات نظر فردية ، وإذا لم تجد الموقف الذي تستحق ، ربما نما السلبي منها في ظل الصمت والظلمة وتحول إلى مقترحات ومن مقترحات إلى خطط مما يجعل من الصعب التعامل معها والتصدي لانعكاساتها ...
وهذا الجهد في الرصد والتتبع وتحديد الموقف ومن ثم وضع الخطط والآليات العملية للتصرف الراشد هو ما يطلق عليه في العادة ( الحضور) ، الحضور الفاعل المنفعل المتجاوب مع أي وخزة دبوس ولو في طرف إبهام الرجل . وعكس الحضور هو الغياب والغياب هو شكل من أشكال الموت . الأموات يغيبون ، والأموات لا يسمعون ما يقال ، ولا يرون ما يدور حولهم ؛ وبالتالي فالأموات لا يستجيبون ..(( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ))
في الحديث عن حل سياسي في سورية ظلّ الإعلان عن التمسك بوحدة سورية أرضا وشعبا لازمة تأكيدية يتطوع بها الجميع ويتمسك بها الجميع وهي رغم تكرارها لم تكن مملة بل ظلت دائما ضرورية . ويبدو أن التأكيدات المعلنة المتكررة كانت استباقا تطمينيا ، وربما وقتيا ، لنفي ما يدور في الخلفيات الذهنية والنفسية للمتحدثين ، وربما كان الإصرار على ترك الجرح السوري نازفا ، لجعل ما لا يُقبل الحديث عنه ابتداء مقبولا في ظروف القرار الصعبة انتهاء ..
لقد كان خطيرا ، وهو مرفوض ومستنكر ومدان ، من كل السوريين الأحرار الشرفاء على اختلاف الهويات الفرعية ؛ ما أعلنه أو اقترحه بالأمس الجمعة / 19 / 12 / 2014 السيد أندرس فوغ راسموسن الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي ( أن يكون الحل في سورية على الطريقة البوسنية ) !!
ففي ندوة تحت عنوان / السلام في الشرق الأوسط - اللاعبون – المشاكل – وسبل الحل ../ التي نظمتها جامعة حسن قليونجي في مدينة غازي عينتاب التركية قال راسموسن : ( في سورية ينبغي تقاسم البلاد في إطار التوزعات الإثنية والدينية عبر إقناع الأسد بمغادرة السلطة .مؤكدا أن هذه الصيغة ليست هي الحل الأمثل إذ بعد الخلافات الدينية والإثنية في سورية أعمق من البلقان ...)
وهذا الكلام على خطورته ، وتداعياته الكارثية على مستقبل سورية الدولة والأرض والإنسان ، وتناقضه مع كل ما استقر عليه الأمر من وحدة الأرض والشعب في سورية يستحق من جميع قوى المعارضة الراشدة رفضا واستنكارا من جهة وخططا وآليات عملية تميت بوارح مثل هذه الأفكار السود في مهدها ...
وهذا الكلام من جهة أخرى كلام متهافت موضوعيا وعلميا ، فلا سورية في خارطتها الديمغرافية العددية هي البلقان ، ولا القطيعة بين أبناء المجتمع السوري الموحد على اختلاف الانتماءات بلغت عشر معشار ما كان عليه الأمر في البلقان .
إن الذي يجب أن يقال للسيد راسموسن إن التناقض الأول والأساسي في سورية هو تناقض بين طغمة مستبدة فاسدة وبين شعب بكل مكوناته يتوق إلى العدل والحرية والتعايش بحب ووفاء وخلا هذا التناقض فإن إرادة البقاء معا ، والعيش المشترك هي قاعدة أساسية يجتمع كل السوريين عليها .
بل يجب التأكيد أنه حتى هذه المجاميع من السوريين التي لا تقف في صف الثورة والثوار ليست رافضة في الحقيقة لمشروع الثورة ولا لتطلعات الثوار ، وإنما هي تستثقل الكلفة المبهظة من الدماء والدمار من واقع معرفتها بقسوة وبشاعة هذه الطغمة الفاسدة المفسدة . ..
ومما يجب التنويه إليه في هذا المقام هو أن المجتمع الدولي ، والسيد راسموسن بخلفيته أحد كبار ممثليه ، الذي يتمسك بالقيم الكونية التي تمضي بعيدا في إزواء الهويات الكبرى لحساب قيم العولمة التي يصفها بالإنسانية ؛ يحاول اليوم في مجتمعاتنا المتطلعة إلى العدالة والكرامة إعادة استنبات الهويات الفرعية والنفخ فيها ، وتعظيم استحقاقاتها .
وإن هذه القوى الدولية المنحازة في أصل أمرها ضد قضايا الشعوب وتطلعاتها ،والتي ارتضت على مدى ستة عقود أن يستقر هرم المجتمع والدولة في سورية على رأسه ، ولم تجد في ذلك أي ضير أو غضاضة وهي تتابع بصمت على مدى العقود الستة المجازر المادية والمعنوية ؛ نراها اليوم تفزع إلى مثل اقتراحات السيد راسموسن الصفراء القاتلة بديلا عن عودة سورية إلى وضعها الطبيعي باستقرار هرمها الديمغرافي على قاعدة مجتمع مدني موحد تكون فيه المواطنة المجردة من كل اعتبار إضافي مناط الحقوق والواجبات ..
ولن نغادر المقام قبل أن ننهي إلى السيد راسموسن وإلى الذين ربما يصغون لقوله أنه لا عبرة ولا ثقل في ميزان الثورة السورية والثوار السوريين لكل هذه القوى المصنوعة و الظرفية التي تطرح طروحاتها الذرائعية الفجة لتعطي المسوغ لحديث مثل حديث السيد راسموسن ولاقتراح مثل اقتراحه ..
إن الثوار السوريين والمعارضة السورية الراشدة الماضية بكل قوة على طريق النصر تتمسك بالقوة نفسها وبالتصميم نفسه بوحدة الأرض السورية ووحدة المجتمع السوري ، ووحدة الدولة السورية وأي تفكير أو اقتراح ينال من هذه الحقائق سيبقى مستنكرا ومدانا ومرفوضا ومقاوما بكل ما أوتي السوريون كل السوريين الأحرار من قوة وعزيمة ..
لندن : 29 / صفر / 1436
التهب سعر الخبز في إيران مؤخرا فارتفع بنسبة 40 بالمئة، ولتفادي موجة احتجاجات شعبيّة، خطّطت حكومة حسن روحاني لرفع أسعار الخبز في المحافظة تلو الأخرى، وذلك لسهولة قمع المحافظات المحتجة على هذا القرار.
جاء ذلك إثر خفض أسعار النفط في الأشهر الستة الأخيرة، لتصل إلى أدنى مستوياتها منذ خمس سنوات، حتى أصبحت إيران تصدّر نفط الأحواز المحتلة بقيمة 50 دولارا للبرميل الواحد. ووفقا لآخر تقارير منظمة أوبك، بلغت خسائر إيران من صادرات النفط فقط، أكثر من 8 مليار دولار خلال ستة أشهر فقط.
ويتنبأ مراقبون بأن إيران مقبلة على ثورة الخبز والجياع في المستقبل المنظور، إذا ما تواصلت الانهيارات في أسعار النفط، خاصة أن اقتصادها المتعطش على الذهب الأسود، يعتمد على تصدير مشتقات النفط بنسبة تفوق الـ60 بالمئة.
ورغم هذه المؤشرات التي تنذر بانهيار اقتصاد إيران، إلا أن النظام الذي أغرته أوهام القوّة ومرونة الموقف الأميركي الصهيوني بل شجعته، بات يفكّر بما هو أكبر بكثير من حجمه، فأعلن مستشار خامنئي للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي أن نفوذ بلاده يمتد من اليمن إلى لبنان!
وكان مستشار خامنئي للشؤون العسكرية والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني، يحيى رحيم صفوي، قد بيّن أن حدود إيران الدفاعية لا تتوقف عند العراق فحسب بل تصل حتى جنوب لبنان، وأكد أن لسوريا أهميّة خاصّة، كونها جسرا للتواصل بين دول شمال أفريقيا وآسيا، وقال “للمرة الثالثة في تاريخ الإمبراطورية الإيرانية يمتد النفوذ الإيراني حتى البحر المتوسط!”.
وفي حين كان الملك الأردني عبدالله الثاني، أوّل من حذّر العام 2004 من الهلال الشيعي، إلا أنّ الطموحات الفارسيّة تتجاوز حدود الهلال المزعوم وتتسع هذه الطموحات لتصل حتى الهيمنة على أجزاء طريقي الحرير الشمالي الصيفي والجنوبي الشتوي والتي تمرّ من منطقة الشرق الأوسط وسواحل أفريقيا.
ومعلوم أن طريق الحرير الشمالي منه، يمرّ من الموصل في العراق وحلب في سوريا، لذلك نلاحظ أن الحرب على أشدها تدور في هذه المناطق وأن قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، يشرف مباشرة على هذه الحرب، والتي ترى إيران أنها ستحدّد مستقبل استراتيجيتها في المنطقة.وإذا كان ظهور تنظيم داعش قد ساعد على كثافة التواجد الإيراني في كل من الموصل وحلب، فالكثير من الاتهامات كانت ولا زالت موجّهة إلى إيران ونظام بشار وروسيا في صناعة هذا التنظيم المُريب. وفي حال صحّة هذه الاتهامات، فإنّ داعش يعد جزءا من الخطة الإيرانيّة لتوسيع نفوذها في بغداد ودمشق على حد سواء، وبالتالي الثأر من العرب المسلمين الذين أطاحوا بالإمبراطورية الفارسية.
وما إعلان مصر والسعودية والمغرب والبحرين والكويت واليمن والإمارات عن كشفها خلايا تجسس تعمل لمصلحة إيران، إلا دليل آخر على نيّتها في توسيع نفوذها، خاصة أن قادة إيران الذين خرجوا من التقيّة إلى العلنيّة في تصريحاتهم، لا يتردّدون في الإعلان عن أن صنعاء تعد رابع عاصمة عربيّة تصبح تحت هيمنة بلادهم بعد بيروت ودمشق وبغداد، رغم أنها في الواقع خامس عاصمة عربية باحتساب الأحواز العربيّة.
وبعد احتلالها كامل الساحل الشرقي للخليج العربي حيث الجزر الإماراتية وبعض الجزر العُمانيّة وخاصة تلك الواقعة في مضيق باب السلام (هرمز)، سيطرت إيران على أهم ممرّات طريق الحرير البحريّة، حيث احتلت ميناء عصب اليمني المطلّ على البحر الأحمر واستأجرت جزيرتي فاطمة ونهلقة الأرتيريتين لتوسع نفوذها في مضيق باب المندب.
ورغم أن طريق الحرير قد بدأ بتجارة الحرير منذ 3 آلاف سنة قبل الميلاد، إلا أن الدولة الفارسية تبحث عن الهيمنة على أهم ممراته للسيطرة على التجارة وخاصة تجارة المخدرّات التي اشتهرت بها ولنشر الصفوية القائمة على الفتنة.
وإذا كان يحق للدول البحث عن مصالحها، فإن ذلك لا ينفي كون جميع الإمبراطوريات الغابرة في التاريخ قد اندثرت إلى الأبد، بما في ذلك الإمبراطورية البريطانية التي “لا تغيب عنها الشمس”، ورغم ذلك، لم تعد بريطانيا تفكّر بإعادتها.
ويبقى النظام الفارسي وحيدا في تطلعاته نحو العودة إلى إمبراطورية الأكاسرة والساسانيين، ومرد هذه التطلعات هي أوهام القوّة، فالدولة العاجزة عن إطعام شعبها، هي أقل بكثير من أن تمد قدماها أكثر من غطاها، وهذا ما لا ينطبق على إيران التي أصبح اقتصادها يعتمد بنسبة أكثر من 40 بالمئة على التهريب.
كتب كثيرون من الزملاء تعليقاتٍ في وسائل التواصل الاجتماعي على فرحة معارضين سوريّين مدنيّين بسقوط أكبر قاعدتين لنظام الأسد في وادي الضيف والحمدانية في ريف إدلب في قبضة «جبهة النصرة» و «حركة أحرار الشام». وتفاوتت المواقف بين الترحيب بفرحة المعارضين المعنيّين أو تفهّم أسبابها، واستنكارها أو التحذير من مؤدّيات استبدال استبدادٍ بآخر، نظراً الى تجارب سابقة في محافظة الرقّة حيث انتهت السيطرة بعد انكفاء النظام الى «النصرة» ثم «داعش»، أو حتى في بعض المناطق الإدلبية المحرّرة نفسها حيث سعت «النصرة» الى إلغاء سواها من قوى عسكرية وسياسية.
وتشير الفرحة «المدنيّة» المذكورة، وتأييدها كما إدانتها أو التحذير منها، الى جوانب عدّة ممّا يمكن تسميته اليوم بالتراجيديا السورية. فمنذ عامين تقريباً، تعاظم نفوذ الجماعات الإسلامية المقاتلةِ النظامَ بالترافق مع ما أصاب الجيش الحرّ من وهنٍ سبّبه التمنّع الغربي عن تسليحه نوعياً وتعزيزه، وضعف قياداته وغياب التنسيق في ما بينها. وتحوّلت الجماعات الإسلامية منذ أواخر العام الفائت، مدعومة مادّياً من حكومات إقليمية وشبكات إسلامية غير حكومية، الى القوّة العسكرية الأولى على الأرض، ولو أنها لم تتوحّد جميعها في بوتقة واحدة. تزامن الأمر مع تدفّق الجهاديّين الى سورية، ثم إعلان العراقي أبي بكر البغدادي تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (في نيسان/أبريل 2013)، وبدء قتاله وحدات الجيش الحرّ وبعض الجماعات الإسلامية السورية بهدف السيطرة على مناطق متاخمة للعراق تُيسّر حركة المقاتلين بين البلدين وتُوسّع نفوذه (تحضيراً لإعلانه الخلافة). كل ذلك في لحظةٍ تنامى فيها الخطاب المذهبي وتحوّل الى واحد من أبرز أسلحة الاستقطابِ وجذبِ المقاتلين الى سورية، بخاصة مع تعاظم الأدوار العسكرية لـ «حزب الله» والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية المقاتلة الى جانب الأسد.
هكذا تحوّلت «الجبهة الإسلامية» (بفصيليها الرئيسين، «أحرار الشام» و «جيش الإسلام») ثم «جبهة النصرة» ثم مجموعات متوسّطة الأحجام ذات مرجعيات إسلامية («جيش المجاهدين» و «حركة الزنكي» و «أجناد الشام») وكتائب صغيرة في شمال سورية وشرقها ووسطها وحول العاصمة دمشق، الى القوى ذات التأثير العسكري الأبرز في المعركة مع النظام من جهة، ومع «داعش» من جهة ثانية. أما القوى غير الإسلامية، فتراجع نفوذها في الشمال والوسط، واصطدم بعضها بـ «النصرة»، كما في الريف الإدلبي، لتنحصر رقعة انتشارها الجغرافي هناك، ويبقى حضورها الوازن متركّزاً في الجنوب.
بذلك، صار كل تقدّم عسكري في وجه النظام، يعني تقدّم القوى الإسلامية المُشار إليها (وفي حالة مطار الطبقة أو في ما قد يجري في مطار دير الزور، يعني الأمر تقدّماً لـ «داعش»)، في حين أن كلّ تقدّم للنظام على أي جبهة يعني تراجعاً للثورة السورية وللمعارضة، وليس للمقاتلين الإسلاميّين وحدهم.
والمفارقة العسكرية المذكورة تراجيدية، لأنها تبدو إلزامية ولأن المعركة لا تسمح لغيرها بالبروز. والمدنيّون السوريّون المقيمون في مناطق حدوثها يبدون شديدي الإدراك بمعطياتها. لذلك، لا يمكن استغراب ابتهاج أهالي ريف إدلب مثلاً بدحر قوّات النظام من معسكرَي وادي الضيف والحمدانية ومن الحواجز المحيطة بهما، حتى لو كانت على رأس الداحِرين «جبهة النصرة» إيّاها التي تظاهر بعضهم ضد ممارساتها الاستبدادية قبل ذلك بأيام، وحتى لو كانوا يعرفون أن الأمر سيقوّيها ويجعل التصدّي لممارساتها المشكو منها أصعب. لكن كيف لا يبتهجون وقد طُرد النظام من مواقع صبّت حمم مدفعيّتها عليهم وقتلت وجرحت وشرّدت منهم على مدى ثلاث سنوات عشرات الآلاف؟ وكيف يُحايدون وهم يدركون أن انتصار النظام الموضعي، ولَو على طرفٍ يخشونه ويُعانون من تسلّطه، كان ليعني انتصاره عليهم أيضاً؟ والمفارقة ذاتها نجدها، في مداها التراجيدي، في غوطتَي دمشق. إذ لا يمكن تخيّل أحدٍ من المطالبين بحرّية رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمّادي، أبرز وجوه الثورة السورية المدنية والمعارضين الجذريّين لنظام الأسد منذ سنوات طويلة (سرق الاعتقال بعضها في حالة سميرة الخليل)، يتردّد في الانحياز الى صمود جوبر ودوما في وجه هجمات قوات النظام وحلفائها، على رغم معرفته بارتباط الكثيرين من المقاتلين في جوبر ودوما بالفصيل المسؤول مباشرة أو تواطؤاً عن خطف رزان وسميرة ووائل وناظم...
كلّ هذا يُشير الى جوانب مأسوية من المعضلة السورية اليوم. ففي ظلّ استبعاد الحلّ السياسي في الأمد المنظور نتيجة استمرار روسيا وإيران بدعم الأسد، يبقى ما يجري على جبهات القتال (على رغم استحالة الحسم النهائي) الأكثر تأثيراً في المعادلة الراهنة، حيث كل إضعاف للأسد وإنهاك لحلفائه يفيد سياسياً، على رغم ما يحمله من أخطار تعزيز نفوذ بعض القوى التي تقاتله.
التراجيديا السورية إذاً كامنة في هذه المفارقة وما يبدو تلازماً بين جانبَيها. وانعدامُ الخيارات البديلة لم يعد مسؤوليةً سوريةً بمقدار ما صار، منذ عامين، مسؤوليةً دولية نتيجة محدودية الاكتراث الأميركي والعجز الأوروبي والحسابات الإقليمية الضيقة. ووسط كلّ ذلك، يظلّ نظام الأسد المسؤول الأوّل بلا منازع عمّا أصاب سورية وسيصيبها من ويلات. وكلّ تقدّم له أو تمديد لوجوده يعني المزيد من المصائب والمزيد من الأثمان التي ستُدفع لاحقاً، ولسنوات، بعد التخلّص منه...
غريب أمر الإدارة الأميركية التي على رأسها باراك أوباما. يريد الرجل دخول التاريخ. سيدخل التاريخ حتما بصفة كونه أوّل رئيس أسود للولايات المتحدة. هل يدخل التاريخ بفضل إنجاز تحقق في عهده في المجال السياسي؟ الواضح أنه يبحث عن إنجاز. فالسنة 2014 تنتهي والإدارة الأميركية تتطلع في ثلاثة اتجاهات، في حين يبدو مطلوبا التركيز أيضا على اتجاه رابع، وآخر خامس.
يساعد الاتجاهان الرابع والخامس في معالجة ما يمكن تسميته الاستثناء الفلسطيني والظلم اللاحق بالشعب السوري وبسوريا عموما.
في الموضوعين الفلسطيني والسوري، تستطيع الإدارة إثبات جدّيتها بدل الاكتفاء بانتصارات أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها سهلة. في الواقع، تكشف مواقف الإدارة من فلسطين وسوريا تهرّبا من تحمّل مسؤولياتها التاريخية تجاه شعبين مظلومين. الفلسطينيون يعانون من الاحتلال، والسوريون يعانون من نظام مصمّم على جعلهم عبيدا لديه من جهة، وعلى وضعهم تحت الاحتلال الإيراني من جهة أخرى.
بالنسبة إلى باراك أوباما، لا يزال الملف النووي الإيراني يختزل كلّ أزمات الشرق الأوسط.
بالنسبة إليه، هناك مكان وحيد يمكن فيه تحقيق اختراق في الشرق الأوسط. هذا المكان هو إيران. إيران بلد مهم. لا يختلف اثنان في هذا الشأن. ولكن ما لا يسأله الرئيس الأميركي الباحث عن إنجاز يجعل التاريخ يتذكّره، كيف يمكن شنّ حرب ناجحة على “داعش”، بدل الشكوى من “داعش”؟
هل ذلك ممكن من دون السعي إلى معالجة ما تتسبب فيه السياسة الإيرانية في المنطقة من كوارث؟ هل هذا ممكن من دون الاعتراف، أوّلا، بأن الحرب الأميركية على العراق أمّنت لإيران موطئ قدم في هذا البلد الذي كان إلى ما قبل فترة قصيرة أحد أعمدة التوازن الإقليمي؟
يرفض أوباما أن يسأل نفسه، أيضا، كيف يمكن الاكتفاء بالتركيز على “داعش” السنّية، وتجاهل الدواعش الشيعية التي هي في أساس انتعاش “داعش” وتمدّدها؟ لا يجوز، في أيّ شكل، تجاهل المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة، في حال كان مطلوبا القضاء على الإرهاب الذي بات مرتبطا أساسا بإثارة الغرائز المذهبية التي هي في صلب المشروع الإيراني في الشرق الأوسط. يبدأ المشروع بأفغانستان، وصولا إلى اليمن والسودان ودول الخليج العربي وشمال أفريقيا، مرورا بالعراق والبحرين وسوريا ولبنان طبعا.
لا يمكن إلا استغراب هذا التوجه الأميركي إلى إيران، على الرغم من أنّه لا يمكن في أيّ لحظة تجاهل أهمّية هذا البلد ذي الحضارة العريقة. ولكن يبقى السؤال ما الذي لدى إيران، بنظامها الحالي، ما تقدمه للمنطقة في مجال المحافظة على الاستقرار فيها وتكريسه بدل العمل على تفكيك البلدان العربية، كلّ بلد تلو الآخر من منطلق مذهبي؟ هل تعتبر إيران في الوقت الحاضر أنه آن أوان قبض ثمن مشاركتها في الحرب الأميركية على العراق؟ في النهاية ليس لدى إيران ما تقدّمه سوى الاستثمار في المذهبية بدل السعي إلى نشر الأفكار التي تدعو إلى التسامح والاعتراف بالآخر والانفتاح على العالم المتحضّر.
في غياب مردود سريع لعملية استرضاء إيران، اتجه باراك أوباما نحو كوبا. ما أعلن عنه الرئيس الأميركي قبل أيّام كان خطوة تاريخية تعكس، أول ما تعكس، الانتهاء من مقاطعة استمرت ما يزيد على نصف قرن للجزيرة التي حكمها فيديل كاسترو طويلا. كان كاسترو يظنّ أنه سيكون شريكا في تغيير العالم. كل ما في الأمر أن كوبا تغيّرت، واكتشفت أن ليس في استطاعتها الاستمرار من دون العودة إلى الفلك الأميركي.
المضحك – المبكي في الموضوع أنّ كوبا المفلسة وجدت نفسها مضطرّة، في غياب الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة، إلى الاعتماد على بلد يسير نحو الإفلاس هو فنزويلا. كانت فنزويلا بين أكثر الدول تأثّرا بانهيار أسعار النفط. انكشفت فنزويلا التي اعتمدت في عهد الراحل هوغو شافيز سياسة لم تجلب لها سوى الخراب. كانت النتيجة أن انتصرت عليها الولايات المتحدة بالنقاط. ما حصل أن أوباما الذي هرب إلى كوبا، إنّما قطف الثمرة بعد نضوجها وبعدما لم يعد أمام هافانا خيارات أخرى.
هناك مكان ثالث يسعى باراك أوباما إلى إظهار وجوده فيه. إنّه أوكرانيا. نعم، تعاني روسيا من العقوبات التي فرضت عليها بسبب سياستها الهجومية في أوكرانيا. لكنّ العامل الحاسم في المواجهة مع الرئيس فلاديمير بوتين كان هبوط أسعار النفط التي جعلت الاقتصاد الروسي في الحضيض. من وراء هبوط أسعار النفط؟ وحده الوقت سيكشف من وراء هذا التطور التاريخي الذي فضح دولا مثل فنزويلا وروسيا وإيران…
لماذا لا يمتلك أوباما الشجاعة نفسها في مواجهة إسرائيل والانتهاء من الاحتلال؟ هل كثير الطلب من الرئيس الأميركي ذلك؟ لماذا هذا التراجع أمام إسرائيل، في حين أنّ كل المطلوب هو إنهاء الاحتلال استنادا إلى قرارات واضحة لمجلس الأمن؟ هذه القرارات تمثّل الشرعية الدولية التي تعتبر الولايات المتحدة نفسها حريصة عليها، أقلّه نظريا.
لكنّ الفضيحة الأميركية الأكبر تظل الموقف من النظام السوري. هناك رعب أميركي من إسرائيل ومن بنيامين نتانياهو الذي يعترض على أي عمل يمكن أن يسيء إلى النظام السوري. كذلك، هناك مسايرة إلى أبعد حدود لإيران في مجال التعاطي مع النظام السوري.
هل هذا ما يبرّر كلّ هذا التخاذل حيال سوريا، حيث يوجد شعب عانى ما يزيد على نصف قرن من تخلّف حزب البعث، فإذا به يبحث منذ نحو أربع سنوات عن أبسط حقوقه؟
فشل أوباما في إيجاد سياسة واضحة أميركية في الشرق الأوسط. هناك جهل حتّى في البديهيات. في الإمكان تحقيق اختراق مع إيران، وفي الإمكان التوصل إلى مصالحة تاريخية مع كوبا. كذلك، في الإمكان تركيع روسيا بفضل أسعار النفط. ولكن حيث كان في استطاعة الإدارة الأميركية لعب دور بناء يخدم شعبين يبحثان عن شيء من كرامتهما، لا مجال لتحقيق أي تقدم.
هل إلى هذا الحد تخشى إدارة باراك أوباما إسرائيل التي لا هدف لديها، إلى إشعار آخر، سوى تفتيت سوريا، والقضاء على أي أمل بقيام دولة فلسطينية مستقلة؟ يبدو أن الإدارة التي تضع مسايرة إيران في طليعة أولوياتها، مستعدة لكلّ شيء باستثناء المواجهة مع إسرائيل.
في ظلّ هذه المعطيات، يصحّ السؤال من أي باب سيدخل باراك أوباما التاريخ؟
حدّثني دبلوماسي غربي، بعد فترة وجيزة من خروج بن علي من السلطة في تونس، وقال متأسفاً "من معضلات الثورات العربية أنها اندلعت في ظرف تواجه فيه أوروبا، والغرب عموماً، أزمة مالية واقتصادية هيكلية، ومرشحة لكي تطول". وقد يعكس هذا الرأي نوعاً من الوصاية المتوارثة، لكنه يحمل درجة عالية من الحقيقة. فالأزمة التي أشار إليها الدبلوماسي، واندلعت شرارتها الأولى في الولايات المتحدة، لا تزال تفعل فعلها في معظم بقاع المعمورة، وانهيار اليونان والمخاطر التي تهدد البرتغال وإسبانيا، والمؤشرات السلبية الخطيرة التي تواجهها بلجيكا وفرنسا وإيطاليا، أمثلة من سلسلة حالات لدول غربية مأزومة، توحد بينها اقتصادات هشة، لم تغادر بعد عنق الزجاجة.
ما لم يدركه كثيرون أن الغرب، عموماً، تراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والأمنية، مقارنة بأوضاعه في مراحل سابقة. وهو ما لاحظه غسان سلامة، عندما تحدث عمّا وصفها بأقلمة السياسة، ويقصد الدور المتزايد للدول الإقليمية، على حساب الدول الكبرى التي انحسر دورها أخيراً. فيتسع، حاليّاً، الحضور الإيراني والتركي في المشرق العربي، لملء الفراغ نتيجة انهيار نظام صدام حسين، وتراجع نظام الأسد، والتغييرات في السياسة الخارجية الأميركية في مرحلة حكم أوباما، وانكماش سياسات الاتحاد الأوروبي.
في هذا المنحدر الصعب، تصاعدت حركات الاحتجاج العربي، وأطاحت خمسة حكام مستبدين، ما خلخل النظام الإقليمي السابق، وكشف عن رغبة شعبية في تغيير الأوضاع والسياسات والوجوه والأهداف. لكن، بدا، منذ اللحظات الأولى، أن القوى المحلية التي كانت في المعارضة، أو كانت مهمشة، ليست قادرة على ملء الفراغ، والاعتماد على نفسها للعب دور المنقذ والبديل. فعمدت هذه النخب، منذ البداية، إلى التوجه نحو أوروبا وأميركا لطلب المساعدة، من أجل إعادة ترتيب البيت الداخلي. كان خطاب الدول الغربية براقاً وجميلاً، وقدمت وعوداً عريضة، بعنوان دعم الربيع العربي، واعتبرت أن الفرصة توفرت لبناء شراكة فعلية وحقيقية مع هذه الدول. وتكفي الإشارة إلى مشروع "دوفيل" الذي وضع على عجل، وتضمن أشكالاً متعددة من الدعم. لكن، سرعان ما تراجعت النيات والحسابات، لتجد الدول التي يفترض أن تكون المستفيدة تستمر في التخبط في مشكلاتها المحلية، من دون سند حقيقي خارجي.
هنا، عدلت النخب الجديدة في مسعاها للبحث عن دعم من خارج المحاور الغربية، من دون أن تتخلى عنها، فاتجهت إلى العواصم الإقليمية، لكنها سرعان ما اكتشفت أن هذه العواصم ليست صيدليات مفتوحة لتوزيع الأدوية مجاناً، وإنما لها أولوياتها ومصالحها وارتباطاتها وشروطها. كما أن لهذه العواصم تقييماتها المختلفة للمتغيرات المفاجئة التي هزت المنطقة. فهي ليست مع الثورات التي أفقدتها حلفاء قدامى موثوق في ولاءاتهم، وقذفت على السطح بقوى جديدة، تتحدث لغة مختلفة، وتريد أن تغير من قواعد اللعبة، وإنْ ينقصها القدرة والخبرة والذكاء السياسي والوضوح الاستراتيجي. وهكذا، بدل أن تكون هذه الأطراف الإقليمية قوة مساعدة على تحصين فرصة تحقيق تحول ديمقراطي سليم وفعال، تحولت إلى أطراف لاعبة داخل المربعات الوطنية، ما زاد من التحديات، وضاعف تعقيدات الأوضاع المحلية، وفتح المجال أمام سيناريوهات تهدف إلى العمل على إيقاف ساعة الزمن، وإرجاعها إلى الخلف.
هذه أحد مآزق تواجهها الثورات العربية، وجدت نفسها غير قادرة على الفصل بين العامليْن، الداخلي والخارجي، بحكم ضعفها البنيوي. ولأن للخارج منطقه الخاص، وآلياته التي يستند عليها لتحقيق الاختراق والولاء وتغيير الأوضاع لصالحه، فإنه، في غياب تحصين الداخل، باعتباره الفضاء الحيوي والاستراتيجي، يصبح الانفتاح على الخارج، وهو ضروري في ظل الإمكانات الفعلية لهذه الدول، قادراً على أن يتحول إلى تهديد جدي للأوطان، ويصبح شيطاناً في وجه ملاك، يبيع السموم في شكل دواء نافع وعاجل، وهو ما تتقنه جيداً خطابات المناورات الدبلوماسية.
ليس مصادفة ذهاب إيران إلى التأكيد على تنسيقها مع أنظمة العراق وسورية، وإمكانية مأسسة العلاقات معهما، في وقت كانت دول الخليج تعلن من الدوحة عن رفع سقف درجات التعاون والتنسيق بين أعضائها، بما قد يشمل قضايا عسكرية وأمنية، فما حصل على ضفتي الخليج لم يكن سوى ترتيبات حان وقتها، وستظهر نتائجها العملانية بالتتابع، في إطار نسق يمكن تسميته بإعادة تشكيل قواعد اللعبة في المنطقة.
ليس سراً أن دول الخليج، في المدرك الإيراني، وضمن تقديراتها وتصوراتها الاستراتيجية، تشكّل المكّون الوحيد، ضمن المنظومة العربية، التي لا تزال لديها القدرة والمحفّز على مواجهة سياسات إيران في المنطقة، فهي، بالإضافة إلى العراق وسورية والأردن، تشكّل القلب العربي، كما أنها الجهة الوحيدة التي قد تشكّل النواة لإمكانية إعادة بناء النظام العربي من جديد، وتفعيل أهدافه ومقوماته. وبالتالي، أرادت إيران استباق أي إمكانية تطور في هذا الاتجاه، عبر إيصال الرسائل إلى قمة الدوحة بأن الوقت فات، وأن أي إجراءات قد تتخذها دول الخليج لم تعد ذات فائدة، فقطار إيران استقر في المحطات العراقية والسورية، وأن دول الخليج باتت في حالة من الانكشاف الاستراتيجي، بعد أن انتزعت طهران منها كل أحزمة الأمان وساحات الحركة وفضاءات المناورة، براً وبحراً، من الشام إلى اليمن، ومن شواطئ البصرة إلى مضيق باب المندب.
وليس سراً، في المقابل، أن دول الخليج باتت مدركة أنها تقع على خط حزمة من المتغيّرات الإقليمية والدولية، والتي تنذر كلها بالخطر، ولم يعد هناك فائض من الوقت لتركها تتشكل. وبالتالي، لا بد من إعادة ترتيب المخاطر، وتحديد مصادرها والعمل الجدي على مواجهتها. وليس خافياً أن ما صنعته إيران في المنطقة يأتي على رأس قائمة المخاطر. كل التحضيرات والترتيبات التي سبقت انعقاد مؤتمر الدوحة كانت تصب في هذا الاتجاه، حتى الأطراف التي كانت تراهن على عدم انعقاد القمة، ثم الفشل في اتخاذ قراراتها، كانت مدفوعة بهاجس الخوف من تحويل الفعل الخليجي إلى عمل استراتيجي مثمر.
أرادت إيران التدليس على دول الخليج، بداية من اسم المؤتمر الذي عقدته، ولم يحضره غير وكلائها، "العالم في مواجهة التطرف والإرهاب"، إلى رمزية مكان لقاء وزراء خارجية إيران وسورية والعراق، "مكتب الدراسات السياسية والدولية في وزارة الخارجية الإيرانية". وفي ذلك كله، أرادت الإيحاء بأنها وكيلة عن العالم في محاربة الإرهاب، وأنها حصلت على هذا الدور، نتيجة المفاوضات التي تجريها مع الغرب على ملفها النووي، وأن العالم صار مقتنعاً بوجهة نظرها في هذا الموضوع، على ما حاول رئيسها، حسن روحاني، الإيحاء به.
" باتت دول الخليج في حالة من الانكشاف الاستراتيجي، بعد أن انتزعت طهران منها كل أحزمة الأمان وساحات الحركة وفضاءات المناورة، براً وبحراً "
لا شك أنّ إيران على دراية تامة بالتوجهات الخليجية الجديدة، وخصوصاً ما يتعلق منها بإعادة تجديد قواعد الاشتباك، وأن ذلك سيطال حكماً ساحات نفوذ إيران، بما يعنيه ذلك من اصطدام حتمي قادم مع البنى والهياكل التي أسستها، وإمكانية تأسيس بدائل لها. وتتحسس إيران من الشرعية التي تملكها دول الخليج في الفضاء العربي، والمستندة إلى مكونات الهوية والتاريخ المشترك والرغبة الشعبية، وهو ما لا تمتلكه طهران، كما أنّ دول الخليج صارت على دراية، نتيجة مراقبتها تداعيات الأحداث في المنطقة، وطبيعة المساومات الجارية، أنّها ما لم تشكّل إطاراً قوياً ومركز ثقل وتصوغ استجابات متماسكة، فإنّه لا توجد ضمانات كافية لعدم وصول التداعيات إليها وتعرضها للمخاطر.
تحاول إيران استباق هجوم خليجي مضاد، وهي تدرك أن مشروعها فقد زخمه، وما لم تسعَ إلى تثبيته باعتراف دولي، فإن من الصعب المحافظة عليه ضمن الإمكانات المتاحة لها حالياً، وخصوصاً بعد انتشارها الواسع الذي يفوق طاقتها. وبالتالي، هي تدرك أن توجه الخليج نحو بلورة موارده، وتفعيل طاقاته، ضمن مشروع مضاد، سيعني تحطيماً أكيداً لمشروعها الذي استنفد كل طاقاتها. وإذا كانت إيران صرخت على جبهة واحدة "تخفيض أسعار النفط"، فإنها، بلا شك، لن تصمد أمام تداعي الجبهات عليها.
تسعى إيران على عجل إلى تلفيق حالة سياسية في العراق، وهي تدرك أن الوضع يتغيّر بسرعة لغير صالحها، لن يسعفها الوقت في منع تشكل بنية سنية عربية في العراق، ولن يعود بإمكانها تسخير موارد العراق لدعم تشكيلاتها في المنطقة، فخزائن العراق باتت فارغة، والمشاركة السنية في السلطة ستستدعي التركيز على الشفافية في الميزانيات، ما لم تخضع المسألة برمتها لرقابة دولية، بغرض ترشيد الإنفاق. وفي سورية، يتكشّف أن طهران كانت، بطريقة أو أخرى، وراء مبادرة "تثبيت الأوضاع" في محاولة لتثبيت ما تبقى من نظام الأسد وإنقاذه، فالتطورات على الأرض والتقديرات العسكرية توضح أن الوضع في سورية لن يكون في صالحها بعد فترة.
إيران، وفي الوقت الضائع، ترفع في وجه التحرك الخليجي الجديد، آخر البنى العربية الفاعلة، بطاقة "مأسسة العلاقات" مع ما تعتبره محمياتها في سورية والعراق، وهو في الواقع "إعلان ضم" أكثر منه مأسسة لعلاقات غير متكافئة أصلاً، ورسالتها أن أي تصعيد للمواجهة سيعني إعلان هيكلية جديدة للعلاقة بين إيران وتوابعها، تعيد تقسيم الإقليم على أسس وهويات جديدة، وإخراج البلدين من المنظومة العربية نهائياً.
لا أعرف لماذا تهوى ذاكرتي العودة إلى البدايات. بداية الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، واستحضار أحداث لم أعطها أهميتها وقتها، وإذ بي أجدها تداهمني، وتفرض نفسها علي، وتأمرني أن أكشف النقاب عنها، ولأني أؤمن أن النهايات تحددها البدايات، فقد طاوعت ضميري، لأكتب عن تلك الحوادث التي تبدو مُضحكة وأشبه بالنكتة، لكنها ذات دلالات خطيرة.
منذ بداية الثورة السورية، وكنت لا أزال موظفة (طبيبة عيون) في المشفى الوطني في اللاذقية، وكنا كالعادة، أطباء وممرضات، نخربش توقيعنا الصباحي على دفتر الدوام، ومعظمنا كان يفرّ من المشفى، بعد التوقيع، ويذهب إلى عيادته الخاصة. في تلك الفترة، أي في شهر مارس/آذار من عام 2011، تم توزيع عدة أوراق إلى كل العاملين في المشفى الوطني، أوراق أعطوها لكل موظف، بعد أن خربش توقيعه على دفتر الدوام تشرح لنا خطة الأمير بندر بن سلطان لتدمير سورية! وتحكي بالتفصيل الدقيق مراحل تلك الخطة، وتصاعد العنف والإجرام فيها، واكتشفتُ لاحقاً أن كل مؤسسات الدولة وزعت تلك الأوراق (عن مؤامرة بندر بن سلطان) على العاملين لديها! يومها، قرأت تلك الأوراق بذهول، وتساءلت طالما أن الخطة، أو المؤامرة، مكشوفة إلى هذه الدرجة، فلماذا لا تُتخذ إجراءات لإحباطها؟ والعجيب أن كثيرين من الموظفين صدقوا تلك الخطة، كما لو أن بندر بن سلطان لاعب شطرنج، يحرك الأوضاع في سورية كما يشاء.
في تلك الفترة، غصّت الشوارع في اللاذقية بلافتات من نوع (الجزيرة، والعربية، والفرانس 24) قنوات سفك الدم السوري، ولافتات أخرى، أعترف، بكل خجل، بأنني لا أملك الشجاعة لذكرها. وبعد أيام، فوجئت بمسرحية من الطراز الرفيع، إذ أحضر مسؤولون في المشفى الوطني في اللاذقية كُوَماً من حبوب دوائية، كوّموها مثل هضبة في ساحة المشفى، وقالوا إنها حبوب هلوسة، أرسلتها قناة الجزيرة إلى اللاذقية. ووسط مشهد لا يمكن أن أنساه، تحلق معظم العاملين، من أطباء وممرضات في المشفى الوطني في ساحته، وتفرجوا مذهولين على هضبة حبوب الهلوسة، كيف صبّ عليها المسؤولون البنزين وأحرقوها. كنت أتمنى لو أحصل على حفنة من تلك الحبوب، لأعرف إن كانت سكاكر أم طباشير. وانطلت المحرقة على كثيرين صدقوا أن هضبة الحبوب البيضاء الصغيرة هي حبوب هلوسة، أرسلتها قناة الجزيرة للشعب السوري، تماماً، كحبوب الهلوسة التي تحدّث عنها القذافي. ولمّا سألت زملاء، كيف تأكدوا أن قناة الجزيرة هي من أرسلت حبوب الهلوسة، قالوا إن العنوان كان مكتوباً على الأكياس العملاقة التي تضم حبوب الهلوسة!!
لا أعرف سيناريو أتعس وأفشل من هكذا سيناريو، فلو أرادت جهة ما إرسال سمومٍ، أو حبوب هلوسة، إلى جهة عدوٍّ، هل تكتب عنوانها صراحة؟ المحرقة التي تمت في ساحة المشفى الوطني في اللاذقية تمثيلية مفضوحة إلى حد كبير، لكن أناساً بسطاء مُروعين، طوال عقود من الذل والخوف والذعر، يجدون مبرراً ليصدقوا، ليُخرسوا صوت العقل والمنطق، ويصدقوا أن قناة الجزيرة أرسلت حبوب هلوسة للشعب السوري. لست بصدد الدفاع عن قناة الجزيرة، هنا. لكن، ما يعنيني هو ذلك الاستخفاف والاحتقار للشعب السوري، تلك التمثيليات المفضوحة والمُقززة التي تُقدم له حقائق لا يجرؤ أحد أن يشك بها.
" أعظم مخرجي العالم الموهوبين عاجزون عن ابتكار مسرحية إحراق حبوب الهلوسة التي أرسلتها قناة الجزيرة إلى المشفى الوطني، وقد كتبت عنوانها صريحاً على الأكياس؟ "
جدران المشفى الوطني منذ بداية الثورة عليها لافتة أبدية: خلصت، خلصت، خلصت، مكتوبة بخط كبير ثم متوسط وصغير، والمقصود خلصت المؤامرة على سورية، ولا يجرؤ أحد من العاملين في المشفى أن يقول لهم إن المؤامرة ما خلصت. الخوف يلصق الشفاه بصمغ الخوف والذعر، وحتى حين أصبح المشفى الوطني في اللاذقية يغصّ بالنازحين، من حلب وريف إدلب، لم يجرؤ أحد أن يسأل المنكوبين عن ظروف نزوحهم؟ وكيف تدمرت بيوتهم؟ ومن دمرها؟ الخوف سيد الموقف. الخوف الذي تخمّر في النفوس طوال عقود وعقود. لا أنسى منظر جندي سوري أسعفوه إلى المشفى الوطني، بحالة خطيرة، وكسورٌ عديدة في كل أنحاء جسمه. كان في الثالثة والثلاثين من عمره، ودخلت أمّه في حالة ذهول وهذيان، وهي تردد: في سبيل من عُطب إبني؟
يا لروعة الفعل المبني للمجهول. يومها تمنيت الموت الرحيم لرجل ستكون إعاقته، إن بقي على قيد الحياة، جحيماً لأسرته. يمكنني ذكر مئات القصص المُشابهة من خلال عملي في المشفى الوطني في اللاذقية، ومن خلال إطلاعي الدقيق على قصص وحالات مُروعة، كم من شاب مات في المُعتقل بالسكتة القلبية، كما يقولون للأهل، ولم تُسلم جثثهم لأهلهم، بل بالكاد يعطونهم تقريراً بالوفاة. شباب سورية يتحولون أوراقاً، إما ورقة نعي: الشهيد البطل، أو ورقة بشهادة وفاة إن مات الشاب في المعتقل.
إلى متى سيُعامل الشعب السوري باحتقار واستخفاف وعدم احترام؟ إلى متى سوف تستمر المسرحيات الهزلية تُقدم له حقائق؟ أعظم مخرجي العالم الموهوبين عاجزون عن ابتكار مسرحية إحراق حبوب الهلوسة التي أرسلتها قناة الجزيرة إلى المشفى الوطني، وقد كتبت عنوانها صريحاً على الأكياس؟ وبعد أربع سنوات من الجحيم السوري، حيث نزح أكثر من ثلث الشعب، ويعاني أكثر من 80% من السوريين من الفقر، وبعد الانهيار الاقتصادي وموت مئات الألوف، بعد كل تلك المعطيات، أين هي خطة الأمير بندر بن سلطان التي وزعها المسؤولون في سورية على عامة الشعب؟ لماذا لم تتخذ الإجراءات لمقاومتها؟ من يصدقها الآن؟ ألم يحن الأوان ليحترم النظام والمعارضة ودول العالم كلها الكبرى في الإجرام، ومنظمات حقوق الإنسان الشكلية الوهمية، والفضائيات ببرامجها الندابة النواحة على سورية والشعب السوري، ألم يحن لكل تلك الجهات أن تحترم الشعب السوري، وحقه في حياة حرة كريمة بلا نفاق وتمثيليات وحبوب هلوسة، وعبارات خلصت، خلصت، خلصت، وتوزيع أوراق المؤامرة للأمير بندر بن سلطان. إلى متى سيُعامل السوريون كبهاليل؟
قد تكون ذاكرتي مشوشة من هول ما أشهد وأتألم، كأحبائي السوريين. لكن تلك الأحداث أعتقد أنها بالغة الأهمية، لتعطي صورة كيف يُعامل الشعب السوري، وبأي ضلال واحتقار يتعامل معه المسؤولون والعالم بأسره. إنها ثورة كرامة حقاً، وثورة حرية بلا أدنى شك.
تدفع الكارثة السورية العميقة مزيدا من السوريين للبحث على حلول فردية لخلاصهم من موت، يكاد يكون محققا في الداخل سواء كان ذلك في المناطق التي يسيطر عليها النظام أو تلك الخارجة عن سيطرته، لأن النظام لا يقتل علنا أو بالصدفة فقط في المناطق التي يسيطر عليها، إنما يقتل تحت التعذيب في المعتقلات والسجون، وكل من تحت سيطرته معرض للموت في أي لحظة، والأمر في هذا ممتد حتى في المناطق الخارجة عن سيطرته، والتي تتعرض يوميا، لهجمات قوات النظام البرية والجوية بما في ذلك القصف بالمدفعية والدبابات أو بالبراميل المتفجرة وصولا إلى الضرب بالغازات السامة وغيرها على نحو ما حدث في الغوطة وعشرات الأماكن السورية الأخرى.
غير أن قتل السوريين، لم يعد يقتصر على قوات النظام وأدواته المحلية، والتي تم جلبها للحرب المدمرة إلى جانبه مثل حزب الله والميليشيات العراقية، بل يمتد إلى تشكيلات مسلحة، تسيطر وتوجد في المناطق خارج سيطرة النظام. وإن كان تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» هما الأبرز والأخطر بين هذه التشكيلات، فإن أغلب التشكيلات الأخرى، ليست خارج القائمة، لأن شيوع السلاح وعدم انضباطه، والتناقضات الآيديولوجية والسياسية والتنظيمية بين التشكيلات، تفتح كلها الباب على استخدام السلاح بين الجميع، لا سيما في ظل عمليات إغلاق باب العمل السياسي، والنشاط الشعبي الحر، وعمل منظمات المجتمع المدني والصحافة الحرة، التي ترصد وتراقب وتنتقد تردي الأوضاع في جوانبها المختلفة، وثمة جانب آخر، لا بد من التوقف عنده في موضوع قتل السوريين، وهو نشاط جماعات وعصابات إجرامية، تقوم بعمليات الخطف والقتل لتحقيق أهداف محدودة.
وسط هذه اللوحة المأساوية لما يحيط بالسوريين، يبدو أن من الطبيعي، سعي الكثيرين للبحث عن مصير آمن، عبر الخروج من البلاد سعيا وراء أمن شخصي وبحثا عن خلاص فردي، وهذا التوجه لا يقتصر على المعارضين، إنما موجود في صفوف المؤيدين والصامتين، وهذا ما يفسر عمليات الخروج الواسعة من سوريا إلى بلدان الجوار والأبعد منها، وفي مستقراتهم يسعى كثير منهم للحصول على فيز بقصد اللجوء أو الإقامة في بلدان، تمتد من أستراليا إلى الولايات المتحدة مرورا بأوروبا الغربية وغيرها.
ورغم أن قابلية الدول لإعطاء اللجوء للسوريين، تبدو محدودة جدا مقارنة بما هو عليه عدد السوريين الراغبين في الهجرة أو حتى الإقامة في تلك البلدان، فإن مسار اللجوء الطبيعي إلى هذه البلدان شديد الصعوبة بفعل الضوابط والشروط، التي تضعها تلك البلدان والمدد الزمنية اللازمة لإتمام هذه العمليات، سواء كانت مباشرة عبر سفارات تلك البلدان أو من خلال الأمم المتحدة، التي تنظم عمليات لجوء لمن يطلبها وتوافق عليه.
وبخلاف الطريق الآمن لعمليات اللجوء، التي يسعى إليها السوريون، فإن مسارات أخرى للجوء، تجري في الواقع تحت مسمى الهجرة غير المشروعة، التي تتم من خلال عصابات منظمة ومافيات الاتجار بالأشخاص، وفيها يتم تهريب الأشخاص والعائلات عبر البحار أو الحدود البرية وعبر المطارات، وكلها طرق محفوفة بالمخاطر، بما في ذلك الموت غرقا، وحسب الأرقام فإن عشرات آلاف السوريين ماتوا في رحلات بحرية في الطريق من بلدان شمال أفريقيا وتركيا إلى البلدان الأوروبية، ورغم أنه ليست هناك أرقام لعدد من قتلوا أو سجنوا أو انتهكت كراماتهم وإنسانيتهم في مسارات الهجرة غير الشرعية، فإن أعدادهم وفق التقديرات كبيرة جدا، والذين نجحوا في مساعيهم قليلون جدا.
وبغض النظر عن مسارات اللجوء، شرعية كانت أو غير شرعية، فإن الواصلين إلى بلدان الملجأ، يوضعون في ظروف صعبة في أغلب البلدان التي وصلوا إليها، وأغلبهم يحتاج إلى نحو عام للتحول إلى الإقامة العادية، ثم يمضي عاما آخر أو أكثر، إذا رغب في استكمال مجيء عائلته وأولاده، إن استطاع توفير مثل هذه الفرصة.
خلاصة القول، أنه إذا كان لجوء السوريين، هربا من موت ودمار محقق بسبب سياسات نظام الأسد وتشكيلات مسلحة متطرفة تشبهه أو تماثله، فإن الطريق إلى اللجوء ليس محدودا ومحاطا بالشروط الصعبة وبالوقت الطويل والمعاناة فقط، بل إن معاناته في بلدان الملجأ صعبة، وتحتاج إلى زمن طويل، قد يدمر بعضا من الروح، التي حملها اللاجئ السوري الخارج من بلده، والوضع في هذه الحالة، إنما يطرح على المنظمات والبلدان الراغبة في مساعدة السوريين على تجاوز كارثتهم، وتأمين ملجأ آمن وسهل لهم سواء كان مؤقتا أو دائما، وأن تعيد النظر في سياساتها وممارساتها وطبيعة تعاملها مع الحاجة السورية، التي هي حاجة إنسانية ليس إلا.
اسوأ ما يمكن ان نفعله هو ان نرد على داعش بمنطق داعش، او ان نظل نفكر في «الصندوق» الذي وضعتنا فيه ، نحن عندئذ لن نقع في محظور تسويقها فقط وانما سنخضع لشروطها ونغرق في تفاصيل الخلاف معها ، ونعتبرها قضيتنا الاولى ، وهي بالتأكيد ليست كذلك.
داعش ليست أكثر من «بالون» تعمد البعض النفخ فيه حتى تحول إلى غول كبير ، وجرى استثماره بشكل مدروس فتصورنا انه وحده من يقرر مستقبلنا ، فيما اصبحت قضية التطرف موضوعا اساسيا لنقاشاتنا الخاصة والعامة، لدرجة ان استحضار داعش والتهديد بها تجاوز الدول الى الافراد، وكأننا فرغنا من كل مشكلاتنا ولم يبق يزعجنا سوى هذا الوباء الجديد.
فكرة داعش ولدت في الاصل ميتة ، لانها اعتمدت الموت كخيار ، وبالتالي فهي تتناقض مع فكرة الحياة، ومن المتوقع ان تتلاشى تدريجيا او تأكل نفسها بنفسها، والمقاتلون في التنظيم بعضهم خرج من السجون وبعضهم جذبته غرائز القسوة والرغبة في النكاية والانتقام، لكنهم سرعان ما اكتشفوا ان الهدف الذي اجتمعوا عليه مجرد وهم ، وان السجون التي خرجوا منها - على اختلافها - كانت افضل واكبر من السجن الجديد الذي ذهبوا اليه باقدامهم او ارغموا على الدخول اليه.
داعش مجرد اسم حركي لافكار عدمية وجدت من بعض المجموعات التي وحدتها « محنة» الاحساس بالظلم عنوانا يتحركون من خلاله، وهي بالتالي بدون افق سياسي وبدون مسوغات دينية وحواضنها الاجتماعية طارئة ومؤقتة ولهذا لا مستقبل لها ، ونحن متى اردنا قادرون على طي صفحتها واشهار وفاتها ، لكن البعض للاسف ما زال يعتقد بانها الترس الذي يمكن ان يستخدمه لتخويف الشعوب من خياراتها واقناعها بقيول المصير الذي يراد لها ، ودفعها الى الانتقام من نفسها بذريعة الانتصار على غزاتها ، انها مجرد لعبة لادامة الصراع على السلطة وتقسيم الغنائم وتبادل الادوار والوظائف.
الرد على داعش ضروري لكنه يحتاج الى منطق آخر ، لا بد اولا ان يعتمد على رفض الانجرار الى ساحة الحرب باسم الدين ، هذه الساحة التي قررتها داعش للعراك والنقاش، فالصراع مع التنظيم وافكاره هو صراع ضد التخلف والاستبداد والقتل والارهاب ، وهو بالتالي يخضع لمنطق الدولة وليس منطق الدين، ويجب ان نتعامل معه كقضية سياسية لا دينية، ولا بد ثانيا ان نتحرر من اعتماد داعش كقضية محورية لانها في الحقيقة ليست كذلك ، فهي تعبر عن طفرة وحالة استثنائبة والمنتسبون لها ليسوا اكثر من ضحايا او مرضى ، وبالتالي فان امتداد حواراتنا حولها واجراءاتنا اتجاهها سيجعلها طرفا وندا ، وسيمنحها مشروعية لم تحلم بها.
بدل ان تأخذ داعش شبابنا الى الماضي وجراحاته يفترض ان نذهب معهم الى المستقبل وتحدياته، وبدل ان نرد على الاسئلة التي الزمتنا بها او وجدنا انفسنا مضطرين للرد عليها يفترض ان نصمم لابنائنا اسئلة واجابات تتناسب مع وعيهم وطموحاتهم ، ومع قضايا عصرهم ومستجداته ومع خرائط الانسانية المفتوحة على الحياة لا على الموت ، وعلى الحرية والعدالة لا على القهر والاستعباد.
خذ مثلا ،الرد على رواية «الخلافة» التي اشهرتها داعش في وجوهنا ، اليس من الواجب ان يتجاوز اشكالية الموقف الفقهي ولاحقا الحركي الذي يرى ان « الخلافة» هي الاطار السياسي المشروع والوحيد للدولة , الى رد سياسي معاصر يتعلق بتقديم نموذج «الدولة» العادلة التي تستوعب اشواق ورغبات المواطن - لرؤية الصورة العملية للاسلام الحقيقي كدين وللدولة المدنية المعاصرة كأطار ونظام حكم وادارة.
خذ ايضا، الرد على سؤال «الفراغ» الذي وجدته داعش وحاولت ان تملأه في سوريا والعراق ,الم يكن من الضروري ان نخرج من فوضى التعميم وان نحدد مسارين واضحين للرد واحد ديني فني وهو مسار افتقاد اهل السنة لمرجعية تمثلهم واطار يستوعبهم , ومسار اخر سياسي هو تغول السلطة التي حكمت باسم المذهب والطائفة الذي ادى الى انهيار الدولة في المناطق التي استولت عليها داعش وتمددت فيها , وما ولده من فراغ استغلته لبسط نفوذها ، وبالتالي فان الاجابة على سؤال هذا «الفراغ» تحتاج الى اجراءات حقيقية سواء على صعيد «المرجعية» السنية الغائبة و المفقودة او على صعيد الدولة العربية التي انتهت صلاحيتها و تهدمت بنيتها واختزلت في القبيلة والفرد والطائفة بحيث اصبحت بحاجة الى انتاج جديد وفق رؤية تتناسب مع العصر ومستجداته.
خذ ثالثا، الرد على التربة التي خرجت منها هؤلاء الذين تقمصوا صورة الاسلام ولبسوا عباءة الخلافة ، وعبروا عن « مكبوتات تراكمت في «الذات « العربية المسلمة ولم تجد من يصرفها في قنوات صحيحة وحضارية ، اليس من الاجدى ان نعترف بان هؤلاء مهما اختلفت ( جغرافيا) خروجهم سواء من دولنا التي استثمرت كل طاقاتها في انتاج الظلم و المظلومين، و التطرف و المتطرفين ، او من الدول الاخرى التي تغذت على منطق ( الخوف من الاسلام) واعملت سكاكينها في جسد عالمنا الاسلامي ذبحا و سرقة وعدوانا، هؤلاء خرجوا من دائرة واحدة وهي الانتقام من التاريخ والحاضر ،والاصرار على تدمير الذات والاخر، ولاشيء بيدهم سوى ( القتل) فهو اسهل طريقة ( للتغيير) واسرع وسيلة للرد.
بمثل هذه الردود العملية التي تنتصر لمنطق العقل والعصر والمستقبل يمكن ان نواجه داعش وغيرها من دعاة افكار التطرف وعصابات القتل ، وان نرد على مزاعمها وممارساتها بدل ان تجرنا الى الخندق الذي حفرته لنا وتلزمنا بالجلوس على الطاولة التي صممتها بنفسها، للحوار معها حول الموضوع الذي قررته ووفق شروطها ايضا.
غافل الصبي عامل المقهى وتسلل يجول بين الطاولات. تلفّت قلقاً ينتظر قرار طرده. عينان متوسلتان ويد صغيرة ممدودة. انصاع الى رغبة من أشاروا عليه سريعاً بالابتعاد. علّمته التجربة تفادي الإفراط في الإلحاح. ثمة من أشفق وتجاوب. كنت في زاوية المقهى مع الصحف. سألته إن كان يرغب في فنجان من الشاي فرفض. أغلب الظن انه خاف ان يرجع عامل المقهى، وهذا يعني ببساطة التعنيف والطرد.
سألته وأجاب. اسمه أحمد، وعمره تسعة اعوام. قُتِل والده في غارة. نَزَحت والدته مع أولادها الخمسة من قرية في محافظة حمص الى لبنان في رحلة مضنية. رفض الرد بدقة عن مكان إقامة عائلته.
منذ إطلالة «داعش» صار النازح متهماً أو مشروع متهم. صار مخيفاً وخائفاً. بعض البلديات يمنع «تجوّل الأغراب» بعد السابعة مساء. الشبان يتعرضون في أحيان كثيرة لعمليات دهم، خصوصاً إذا كانوا ملتحين.
يقول أحمد إن والده لم يكن محارباً، وإن النار التهمت بيتهم الصغير، ولم يكن أمامهم غير لبنان. لجأت العائلة الى قرية، ثم طُرِدت منها. لم يكن أمامها غير تكرار النزوح. ولم يكن أمامه غير التسوُّل. وإن شقيقاً له يجول في أماكن اخرى. وإن الأماكن صارت اقل وداً، وتتشدد في رفض المتسوّلين. وإنه وشقيقه يسلّمان امهما مساء حصيلة نهار الشقاء الطويل.
يتابع أحمد جولته وعذاباته. حديث اللاجئين السوريين مفتوح بقوة في لبنان حيث يقترب عددهم من مليون ونصف مليون لاجئ. تسمع ان التجارب تشير الى ان عدداً غير قليل من اللاجئين يميل الى البقاء في بلد اللجوء، اذا أمضى فيه اكثر من ثلاث سنوات. وتسمع ان البلدات والأحياء التي فرّ منها اللاجئون لم تعد موجودة، وأن اعادة اعمار سورية تحتاج مئتي بليون دولار إذا توقفت الحرب اليوم. تسمع ايضاً ان يأس اللاجئين يجعلهم هدفاً سهلاً لقوى التطرف. وثمة من يذهب أبعد فيقول إن بقاء مئات الالآف من السوريين في لبنان يشكل اضافة الى العبء الاقتصادي إخلالاً بالتوازن الديموغرافي، خصوصاً بين السنّة والشيعة إذا أخذت أيضاً في الاعتبار وجود نصف مليون لاجئ فلسطيني. وهناك من يميل إلى تحميل السوريين مسؤولية تزايد الصعوبات المعيشية وعمليات الإخلال بالأمن.
كانت عمّان محطتي الثانية بعد بيروت. وجدت موضوع السوريين ينتظرني هناك. مليون ونصف مليون سوري لجأوا الى الأردن. وجودهم يُربك الدولة القليلة الموارد التي استقبلت من قبل نازحين فلسطينيين وعراقيين. ضاعفت موجة اللجوء السوري الضغط على النظام الصحي والنظام التعليمي فضلاً عن شحّ المياه. ظروف النازحين تثير المخاوف من تفشي التطرّف في صفوفهم. طول إقامتهم ينذر بنزاع يومي على اللقمة مع بعض سكان البلد الأصليين.
يميل بعضهم إلى القول إن الانفجار السوري أشد هولاً من الانفجار اليوغوسلافي، وإن سورية التي كنا نعرفها لم تعد قابلة للترميم. لا حاجة الى التفاصيل. قرأت في صحيفة في عمان ان الشرطة ألقت القبض على خلية لتزويج القاصرات السوريات تديرها سيدة سورية. فاقت عذابات السوريين عذابات الآخرين.
كنتُ سمعت الحديث ذاته في اسطنبول قبل أشهر. عدد السوريين في تركيا يوازي عددهم في لبنان، تداخل وجودهم هناك مع التوتر السنّي - العلوي. هناك من يعتقد بأن إصرار اردوغان على المنطقة الآمنة يرمي الى إعادة توطينهم فيها، وعلى أمل التعجيل في إسقاط النظام.
هجّرت الحرب السورية ستة ملايين في الداخل، وقذفت بخمسة ملايين الى بلدان الجوار. عددهم يوازي عدد سكان دولة. ظروف عيشهم مأسوية. المساعدات الدولية تتراجع والبلدان المضيفة تنوء تحت الأحمال. يضاف الى ذلك ان سورية خسرت بهجرتهم جيلاً كاملاً من الشباب وأعداداً كبيرة من المتعلمين والمعتدلين والعلمانيين. خير دليل على يأس السوريين تلك الجثث الضائعة في البحار في محاولة الوصول الى أوروبا عبر قوارب الموت.
متى يرجع السوري؟ الى اين سيرجع ؟ الى أي سورية؟ ومن يعيد إعمار بلدته وحيّه؟ لسنا في نهايات الحرب. سينتظر اللاجئون طويلاً. سيواصل احمد وأشباهه التسوُّل في لبنان والأردن وتركيا والعراق وغيرها. ستغرق سورية أكثر في دمها. سيغرق اللاجئون والنازحون أكثر في يأسهم. وستلتهم البحار مزيداً من جثث السوريين.
متى يرجع السوري الى سورية؟ ومتى ترجع سورية الى سورية؟ سمعت كلاماً مقلقاً من رجل واقعي. قال:» انسَ سورية القديمة، لقد قُتِلت في الحرب. والدليل ان زائراً حمل الى عاصمة كبرى مشروعاً لسورية الفيديرالية».
تتدافع أطروحات الحلول السياسية بشأن سورية، وتتراكم على طاولة المهتمين المتصلين بالدبلوماسي ستيفان دي ميستورا، مباركةً خطواته وداعمةً له بدراسات وإحصائيات، تؤكد نجاعة طرحه تجميد مناطق الصراع وتثبيت واقع الهدن، انطلاقاً من إدراك تلك الدراسات عمق الانتكاسات الحادة في المستويات الاجتماعية والاقتصادية، والتي جعلت من الصراع الهوياتي في سورية صراعاً يفتح المجال لمستويات عنيفة، تهدّد التجذّر الحضاري والأصيل لهذا البلد، خصوصاً في ظل ما يفرزه الفعل العسكري من تشظٍ للجغرافيا والديمغرافيا السورية وتجاذبات وتحاربات، من شأنها تدمير ما تبقى من الدولة، وتشويه العلاقات البينية بالبنية السورية، لتغدو علاقات مصدرها التعنت والإلغاء والتغييب ونسف الآخر.
وجوهر معظم تلك الحلول يدور حول أمرين، الأول: الهدن، لا سيما مع تحولها من ديناميكية محلية، لجأ إليها أطراف الصراع الداخلي (النظام والمعارضة)، لخدمة مصالحهما الآنية والبعيدة المدى، إلى مقاربة أممية عبّر عنها المبعوث الأممي، استيفان دي مستورا، في خطته المتمحورة حول تجميد القتال في مناطق محددة، وتوقيع اتفاقات هدن بين طرفي الصراع، أملاً بأن يفضي ذلك إلى حل سياسي. الأمر الثاني: أولوية مكافحة الإرهاب، انسجاماً مع استراتيجية الفاعل الأميركي باعتبار ظهور الجماعات العابرة للحدود وتمددها مهدداً أمنياً لدول المنطقة والإقليم، كما أنه مهددٌ لطرفي الصراع، كون مشروعه يتعدى الجغرافيا السورية، ويتعدى النظام وأهداف الثورة السورية.
ومع واقعية مبررات الدراسات الدافعة باتجاه المضيّ تجاه القبول بمبادرة دي ميستورا، إلا أن توظيف نتائج الاستبيانات للهدن في الأروقة السياسية، بشكل يخرج نتائج البحث عن سياقها، ويجتزئ منه المبتغى سياسياً فقط، تجعل عملية البحث العلمي خاضعة لمعايير سياسية غير موضوعية، بالإضافة إلى أن استغلال الملف الإنساني المرافق عمليات الهدن في عمليات التطويع السياسي، وسوقه ليكون مدخلاً لحل سياسي، يفضي إلى حل عادل للقضية المجتمعية السورية، سيكون من شأنه إنتاج مقاربات مغلوطة في رؤية سياسية تميل مع طرف ضد آخر.
وفي هذا الصدد، لا بد من التركيز على حقيقتين، تجاهلهما السياسي عند قراءته مثل هذه الدراسات. تتعلق الأولى بتحليل أثر الخصائص المحلية (البيئة الحاضنة) على المواقف من الهدن على كل من الوضع الاجتماعي والمعيشي الذي أفرزته الهدن، ويؤكد هذا التحليل أن الهدن لم تؤد الدور الذي كان مأمولاً منها، في إعادة العلاقات الاجتماعية للسكان المحليين إلى وضعها الطبيعي، بحكم استمرار التضييق المفروض على مناطق الهدن، بالإضافة إلى قلة حجم المكتسبات التي حققتها اتفاقيات الهدن للسكان المحليين، في قطاع الخدمات، وخصوصاً الطبابة والتعليم، وأنها اقتصرت على ما يمسّ الحياة آنياً. والثانية: عدم ضمان الهدن قيم العدل والحرية والكرامة للإنسان، حيث يؤكد الواقع عدم وجود تغيير ملحوظ في سلوكيات قوات النظام، وما تضم من ميليشيات ذات ولاء عابر للحدود. وهذا ما يبقي عوامل التوتر كامنة، ويشير إلى هشاشة اتفاقيات الهدن، ويضعف الأمل بأنها آلية قادرة على توفير البيئة المواتية لإطلاق عملية سياسية تنهي الصراع.
وخلاصة لواقع مناطق الهدن، يمكن القول إن الهدن لم تكن اتفاق تلاقٍ للمصالح، يوطئ للانفراج والتلاقي السياسي، وإنما كانت اتفاق وقاية شرٍّ، لم يغيّر جوهر علاقة النظام بالمجتمع، تلك العلاقة القائمة على الإكراه من خلال القمع.
وبالتالي، ما يحاول دي ميستورا الدفع به بهذا الخصوص يحتاج مزيداً من الأعمال التمهيدية، تضمن، أممياً ودولياً، تحسين شروط الهدن وتوثيقها واحترامها، ويقترح، هنا، أن تكون تحت الفصل السابع.
ولا شك أن استمرار الصراع السوري، من دون السعي إلى تبني أدوات الحل، هو أكبر مغذٍ وداعم لخطاب تنظيم الدولة الإسلامية الذي لا يزال يعتمد على استراتيجية استغلال المفرزات في شرعنة الطموحات التي تنمو خارج القيم الدينية، وحتى الإنسانية، وصوغها في إطار قائم على خطاب متستر بالدين، ذي أهداف تعبوية، ضد "عدو صفوي وصليبي"، ونصرة لـ"سني مظلوم ومهمّش"، بهدف التأثير على موارده البشرية الحالية أو المستهدفة.
كما أن الاستراتيجية الأميركية لمكافحة الإرهاب تحتوي على تناقضات عدة، لن تسهم، بشكلها الحالي، في تحجيم الإرهاب، ولن تبدد المخاوف الأمنية لدول المنطقة كافةً، إن لم ترتبط هذه العملية بمسار موازٍ قائم على تجفيف المصادر المسببة للإرهاب، والتي تزيد من مظلومية المجتمع السوري، حيث إن هذه الاستراتيجية خاضعة لمعايير أمنية، تفرضها جيوسياسية سورية، وليس وفق معايير متطلبات الحلول السياسية والاجتماعية السورية.
" الهدن لم تكن اتفاق تلاقٍ للمصالح، يوطئ للانفراج والتلاقي السياسي، وإنما كانت اتفاق وقاية شرٍّ، لم يغيّر جوهر علاقة النظام بالمجتمع "
ووفقاً لأعلاه، يفرض السؤال التالي نفسه: كيف غدت مكافحة الإرهاب شرطاً ملزماً لأي مبادرة، خصوصاً عندما يكون هذا الشرط خاضعاً لبوصلة التحالف الضبابية فقط؟ وهنا تفيدنا الإجابات التاريخية في محاربة هذا "العدو" بأنه لن يتم تحجيمه وإلغاء فاعليته، إلا بأدوات مجتمعية وباستقرار اجتماعي، أي إن بداية نهاية التنظيم تبدأ مع تشكيل هيئة حكم انتقالي، تعيد للعجلة السياسية الداخلية حركتها التي ستنسجم مع الآمال المجتمعية، وبدورها سترفض أي مشروع يعيدها إلى حقبة الصراع والاقتتال، وستسهم في الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة.
وتبقى أدوات المبعوثين الأمميين أسيرة سياسات الفاعلين الدوليين، وهو ما يحدّد ويقلّص هوامش المرونة المتّبعة منهم، ويجعل مهامهم السياسية صعبة للغاية، فكوفي أنان بدأ مهمته بنزعة براغماتية، وطرح نقاطه الست التي تضمن انتقالاً سياسياً للسلطة، وفشلت المهمة على الرغم من التأييد الإعلامي لها. وتابع المهمة الأخضر الإبراهيمي بأداء سلبي، وتستر على مماطلة نظام الأسد وروسيا وإيران، وعمل على دفع الأطراف إلى تفاوض مباشر فشل، ولم يثمر شيئاً، على الرغم من حضور المجتمع الدولي في هذا المؤتمر، وها هو دي ميستورا يطرح مبادرته المعللة بالواقعية، والمؤيدة بدعم أوروبي، وهي تثبيت هدنٍ محلية لا أكثر، من دون أن يقدم ضمانات لعدم تلاعب النظام بالهدن، بابتزازه المعونات الإنسانية من غير توثيق يتمتع بشرعية الأمم المتحدة والقوانين الدولية. بالإضافة إلى تجميد مناطق الصراع، ناسفاً بالمعنى الحقيقي جوهر اتفاق جنيف، كإطار للعملية التفاوضية المفضية إلى حلٍ سياسي.
ينبغي ألا يشكل طرحنا أعلاه مدخلاً للإحباط، عبر الاستكانة وعدم السعي إلى امتلاك أدوات سياسية واقعية، تفضي إلى حل سياسي عادل شامل، بقدر ما أنه محفّز موضوعي لتجاوز الأخطاء التاريخية في سيرورة المقترحات الأممية لحل الأزمة في سورية، وتأكيدٌ على أهمية ونجاعة تشكيل هيئة حكم انتقالية مركزية، تحسن وتضمن مناطق الهدن المدارة ذاتياً، وتبدأ بعملية انتقال سياسي.