مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢١ ديسمبر ٢٠١٤
منعطفات الأزمة السورية بعد وادي الضيف

تتحول منظومة الأسد -يوما بعد آخر- إلى جزر منعزلة تفتقد التواصل فيما بينها، حيث تخوض في بعض المناطق حربا انتحارية دون أمل في الفوز بها. وعلى وقع تلك التطورات، تتشكل خريطة سوريا المستقبلية عبر ترسخ خطوط القتال والمواجهة بين الأطراف، وعلى طول الجغرافيا تتشكل لوحة منحازة بدرجة كبيرة إلى هذا التطور واحتمالاته الممكنة.

تكشف معارك ريف إدلب الجنوبي، وهروب كتائب بشار الأسد من هذه المنطقة، عن مؤشرات مهمة على التشكل الجديد لمسرح المعركة القادمة في سوريا، ذلك أن انتقال هذه المنطقة من سيطرة النظام بالمعنى العسكري تعني إعادة تعريف الحرب الجارية هناك.

فهذه المنطقة كانت تمثل عقدة وصل لوجستية مهمة تجتمع فيها خطوط إمداد النظام على أكثر من اتجاه، بين الجنوب والشمال، والوسط والشرق والغرب، بمعنى أنها كانت من الناحية الرمزية تعزز مقولة سيطرة النظام على مفاصل سوريا وتدعم توجهاته في استعادة ما خسره على مختلف الجبهات.

    "تكشف معارك ريف إدلب الجنوبي وهروب كتائب الأسد من هذه المنطقة عن مؤشرات مهمة على التشكل الجديد لمسرح المعركة القادمة في سوريا، ذلك أن انتقال هذه المنطقة من سيطرة النظام بالمعنى العسكري يعني إعادة تعريف الحرب الجارية هناك"

في المقاربة المباشرة للميدان، يمكن تصنيف الإنجازات التي حققتها الفصائل المسلحة للمعارضة ضمن الإنجاز الإستراتيجي لكونها تحقق حتى اللحظة تموضعا في مساحة واسعة يسمح أولا بوجود منطقة انطلاق للثوار ومنطقة حركة، ومن ثم إمكانية المناورة بالقوى والوسائط وإمكانية الاختباء وإمكانية الإمداد.

وحاليا، طرق الإمداد من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب وبعمق عدة كيلومترات، متواصلة بشكل كامل. وقد حققت الفصائل المسلحة هذا الإنجاز الإستراتيجي في ظل ظروف عسكرية معقدة نتيجة قيام قوات النظام بتركيز نقاط دفاع أساسية وعلى أكثر من نسق وجرى تشبيكها مع مواقع النظام غربي حماة، وربطها بإحكام مع الساحل الذي يعتبر الخزان البشري لقوات النظام، إذ طالما كان يجري تجهيز حملات الغزو على مناطق وسط سوريا من تلك المناطق، وتحديدا مصياف وسقيلبية.

وقد أفاد النظام من شبكة التضاريس المعقدة ما بين سهل وجبل في تعزيز وجوده في هذه المناطق، إلى جانب لجوئه إلى تكتيك تقطيع الأوصال في الريفين الجنوبي والشمالي لإدلب، في محاولة لعزل الثوار وجعل تواصلهم صعبا، وخاصة مع ريف حماة الشمالي.

إذن.. كيف ولماذا حصل هذا الانهيار المفاجئ لتشكيلات النظام في هذه المنطقة، رغم أن الكثير من المراقبين كانوا يتحدثون عن قرب استعادة النظام لزمام المبادرة في حلب، وعن تدخل إيراني مكثف لإعادة تنظيم مسرح المعركة، وتولي العقيد سهيل الحسن الذي يعتبره أنصاره "القائد الإستراتيجي الخارق"؟

ثمة سياق عام فرض هذه النتيجة الحاصلة، ذلك أن الحرب المديدة غيرت كثيرا من شكل الصراع بعد أن تم تدمير البنية التي وفرت قدرات السيطرة لنظام الأسد، من قبيل المواقع الإستراتيجية، والعدد الكبير من عناصر الجيش، واحتكار الكثافة النيرانية. هذه المعطيات تبدلت كلية ولم يعد بالإمكان إعادة إنتاجها على الأرض، على الأقل في الأمد المنظور، فالنظام خسر البنية التحتية التي تساعده في إنجاز عملية السيطرة أو الاحتفاظ بمواقعه، وخسر رؤوس التلال والجبال التي كان يسيطر عليها في أغلب المناطق، وخسر غالبية طرق مواصلاته وإمداده، وخسر عددا كبيرا من جنوده وقادته المحترفين، وصار يزج بالمعركة بعناصر لا خبرة لديها.

بالإضافة إلى ذلك، استخدم الثوار حزمة كبيرة من التكتيكات التي أربكت قوات النظام ولم تجد لها حلولا من خلال بنيتها الكلاسيكية، فقد أبدع الثوار في صناعة الكمائن والهجمات السريعة وقنص طرق الإمداد، واستعملوا أسلوب الحصار والإنهاك لتشكيلاته البعيدة نسبيا عن المراكز، كما شتتوا جهوده من خلال عمليات صغيرة ومتفرقة، وقد أثر ذلك بشكل تراكمي مع طول فترة الحرب.

    "يفيد مشهد الجبهات المتداعية في الجنوب وفي الوسط والشمال والشرق إلى تراجع قوة التحالف المؤيد لنظام الأسد في الميدان، وتحوله إلى موقف دفاعي صرف"

هل وصلت جهود داعمي النظام إلى حدها الأقصى جراء تراكم حالة الاستنزاف التي أصابتهم، وبالتالي ضعفت قدرتهم على ضخ التغذية في شرايين النظام الأسدي، أم اهترأت شرايين النظام نفسه، وبالتالي لم يعد قادرا على استيعاب المساعدات ضمن هيكليته التي باتت أقرب إلى التمزق؟

يفيد مشهد الجبهات المتداعية في الجنوب "درعا والقنيطرة" وفي الوسط "القلمون والبادية وأرياف حمص وحماة وإدلب" وفي الشمال "حلب وريفها"، وفي الشرق "دير الزور"، بحقيقة مهمة وهي تراجع قوة التحالف المؤيد لنظام الأسد في الميدان، وتحوله إلى موقف دفاعي صرف، وهذا يتناسب بدرجة كبيرة مع تراجع قدرات النظام على مدى سنوات الحرب الأربع، وحصول تطورات دراماتيكية غيرت تماما من أهداف تلك الأطراف، بما فيها النظام نفسه.

يبدو المشروع الإيراني واقعا في ورطة توسع الانتشار من اليمن إلى لبنان وما يترتب على ذلك من تكاليف لا طاقة لطهران بتحملها، والأغلب أنها ستقبل بواقع تقاسم النفوذ في سوريا، وربما في العراق أيضا، مع كل من دول الخليج وتركيا وأميركا، مع قناعتها بالحصول على الحصة الوازنة إستراتيجيا، كأن تسيطر على مناطق النفط في العراق والساحل في سوريا.

أما روسيا -ونتيجة للتعقيدات السياسية والاقتصادية التي باتت تواجهها- فتتجه إلى القبول بحصة من النفوذ والسيطرة عبر إنقاذها جزءا من نظام الأسد وتأهيل جزء من معارضة الداخل لحكم سوريا المستقبلي. وبالتزامن مع ذلك، ينكفئ حزب الله إلى الداخل اللبناني، أو يتراجع إلى مناطق حدودية للتقليل من حجم خسائره الكبيرة على الجبهات، وانسجاما مع حجم التمويل المتناقص الذي بات يتلقاه من إيران جراء التراجع الكبير في أسعار النفط.

وبالعودة إلى مسرح المعارك في سوريا، ينطوي المشهد اليوم على تعقيدات هائلة تصعب من أي إمكانية لوضع تقدير حقيقي لسير الأمور واستشراف مستقبل التطورات، ذلك أن جميع المؤشرات تؤكد استغراق هذا المشهد بحالة فوضى عارمة على كل الصعد والمستويات، بحيث تشمل هذه الفوضى كل البنى والجبهات المتقابلة. فجبهة الثوار باتت تضم ما يفوق الألف فصيل وتشكيل، أغلبها له أهداف متناقضة ويفتقر إلى وجود تنسيق فعلي وقيادات مشتركة وغرف عمليات موحدة، حتى على مستوى المناطق التي تعمل فيها هذه التشكيلات.

ولا تنجو الجبهة المقابلة من حالة الفوضى تلك، فبالإضافة إلى القوات الرسمية التقليدية، هناك تشكيلات موازية تحت مسمى "الدفاع الوطني" و"وحدات الحماية الشعبية"، وتشكيلات ذات طبيعة مناطقية وأخرى محلية أضيق، وهناك تشكيلات جهوية وطائفية "مسيحية ودرزية وشيعية"، فضلا عن الهيكلية العسكرية التي أنشأتها إيران في كثير من المناطق السورية. وكل فصيل ضمن هذه التشكيلات له ارتباطات محددة وأهداف مختلفة وتمويل مختلف المصادر، بعضها أصبح تمويله ذاتيا عن طريق فرض إتاوات وبيع المواد الغذائية للمناطق التي يحاصرونها وبيع السلاح للمعارضة، وبالتالي فإن تبعيتها لنظام الأسد وإمكانية ضبطها من قبل الأخير تبدو شكلية إلى حد بعيد.

    "ذهبت بعض تفسيرات السقوط السريع لمعسكرات وادي الضيف والحامدية إلى أن الأسد أراد الاحتفاظ بمقاتليه، لأنه يرى أن الاحتفاظ بالسيطرة على كامل سوريا لم يعد هدفا واقعيا، وأن الأولوية الآن ستكون للدفاع عن دولته الخاصة"

ما سبق بات بمثابة حقائق قارة على الأرض السورية، لا يملك أي من الأطراف الداخلية والخارجية القدرة على تعديلها ضمن الصيغ المطروحة حاليا للمواجهة. ولا شك أن منظومة الأسد وحلفاءه جزء من تلك الأطراف التي تقع في خانة العجز عن تغيير هذه الوقائع، وتاليا فإن حلم استعادة السيطرة على سوريا صار مستحيل التحقق، مما يحتم على نظام الأسد في المرحلة المقبلة تعديل أهدافه والسير صوب أهداف أضيق، ولكنها أكثر فائدة وجدوى، وذلك عبر واحدة من صيغتين يصعب أن تكون لهما ثالثة:

- استمرار القتال ضمن صيغة التقطيع و"الجزأرة" على الأرض السورية، بمعنى بقاء جزر للنظام في دير الزور وحلب وإدلب ودرعا والقنيطرة. ولذلك فوائد إستراتيجية، منها إشغال معارضته وتفتيت جهودها في مساحة أكبر، وعدم السماح بملاحقته إلى مناطق نفوذه التقليدية، إضافة إلى ضمانه لعدم تحقيق تواصل بين معارضيه في أغلب المناطق.

ولذلك أيضا فوائد سياسية تتمثل في استمرار سيطرته الرمزية وظهوره بمظهر النظام الشرعي في سوريا، وذلك بهدف استثمار هذه الميزة والتفاوض المستقبلي عليها، رغم أن هذه الصيغة مكلفة وستضعه على خط انتكاسات مؤلمة ومتوقعة بشكل دائم، ورغم أن ذلك يعرضه لانتقادات حادة من بيئته التي باتت ترفض قتل أبنائها في ساحات لم يعد يهمها أمرها.

- ذهاب النظام باكرا إلى حماية "دولته الخاصة" من ريف حماة شرقا إلى ساحل المتوسط غربا، مع الاحتفاظ بحمص وطريق مواصلات إلى جزيرته في دمشق. وعبر هذا الاحتمال يستطيع النظام تجميع ما تبقى من قواته للدفاع عن دولته. وقد ذهبت بعض تفسيرات السقوط السريع لمعسكرات وادي الضيف والحامدية إلى أن الأسد أراد الاحتفاظ بمقاتليه، لأنه يرى أن الاحتفاظ بالسيطرة على كامل سوريا لم يعد هدفا واقعيا، وأن الأولوية الآن ستكون للدفاع عن "دولته الخاصة".

اقرأ المزيد
٢١ ديسمبر ٢٠١٤
العالم ليس «سوني»

تحدث الرئيس الأميركي، رئيس القوة العظمى الوحيدة، لما يزيد على الساعة والنصف في مؤتمره الصحافي الخاص بنهاية العام دون أن يقول شيئا مفيدا بالقضايا السياسية، ودون أن يسأل سؤالا مهما! أفرط الرئيس أوباما في الحديث عن اختراق النظام الإلكتروني لشركة سوني الأميركية الشهيرة في هوليوود من قبل نظام كوريا الشمالية التي اتهمتها واشنطن رسميا بالوقوف خلف تلك العملية، لكنه، أي أوباما، لم يتحدث عن مفاوضات بلاده مع إيران، ولم يتحدث عن سوريا، ولا العراق، ولا روسيا! ولم يتحدث أوباما عن الصراع العربي الإسرائيلي، وخصوصا عندما بدأ بتلقي أسئلة الصحافيين، ومن المعلوم أن الأسئلة لا تطرح بشكل عشوائي بالبيت الأبيض، بل بترتيب، وآلية محددة، والدليل أن جميع من سمح لهم بطرح أسئلة على الرئيس كانوا من الصحافيات النساء!
صحيح أن قضية اختراق شركة سوني، وتعطيل بث فيلم «المقابلة» من قبل كوريا الشمالية هو الحدث يوم مؤتمر الرئيس، لكن العالم ليس «سوني»! وحدث عام 2014 ليس تعطيل بث فيلم كوميدي، بل هو حول تراجيديا إنسانية حقيقية بالعراق، وسوريا، وغيرهما.. هناك أرواح تزهق، ودول مهددة، وأمن دولي أمام مخاطر حقيقية، وعندما يقول الرئيس أوباما في مؤتمره الصحافي إن بلاده أكدت زعامتها بالعالم، فكان من المفترض أن نسمع أسئلة حول أبرز قضايا أميركا والعالم، ورؤية رئيس الدولة العظمى الوحيدة حولها، فلماذا تعثرت المفاوضات مع إيران، مثلا؟
كان يجب أن نسمع من الرئيس شرحا عن لماذا استقال أو أقيل وزير دفاعه؟ وما هي رؤيته للتعامل مع «داعش»؟ وكيف يرى مستقبل العراق؟ ولماذا عاد وقرر إرسال جنود للعراق، وأبقى قوات بأفغانستان؟ وكيف يمكن التصدي لجرائم الأسد؟ وموقفه مما حدث بأستراليا، وباكستان؟ ولماذا هاتف الرئيس المصري، فهل أدرك أوباما خطأه حيال مصر؟ وكان يفترض أن نستمع لأسئلة تطرح على الرئيس، أو على الأقل شرح منه، لعمق الأزمة مع روسيا، وتبرير للعقوبات الجديدة التي وقعها مع تجميدها، وما هو المطلوب من بوتين، وخصوصا بعد مؤتمره الصحافي الأخير؟.
وعليه فإن العالم كان ينتظر من الرئيس الأميركي الكثير بمؤتمره الصحافي، فهناك حليف يريد سماع تطمينات، وعدو يريد التأكد ما إذا كانت الإدارة الأميركية تعني فعلا ما تقوله على لسان مسؤوليها، فالعالم ليس شركة سوني وحدها، كما أن المجتمعات المقموعة بالعنف والأعمال الدموية الإجرامية، مثل ما يحدث بسوريا والعراق واليمن، وليبيا، وفلسطين، وغيرها، غير معنيين بأزمة فيلم سينمائي، فذلك ترف لا يمتلكونه، وقضية لا تهمهم، خصوصا أن الرئيس أوباما لم يوضح ماهية الرد المحتمل على كوريا الشمالية، ولم يسأل سؤالا جادا مثل: ماذا لو هاجمت كوريا الشمالية، إلكترونيا، النظام البنكي، أو الملاحة الجوية؟ أو: ماذا لو حذت إيران حذو كوريا الشمالية، إلكترونيا؟
ولذا، فإن على من يعتقدون ببابا نويل أن يتعشموا بحظ أفضل مما جاء به الرئيس أوباما للمجتمع الدولي في مؤتمر نهاية العام هذا!

اقرأ المزيد
٢١ ديسمبر ٢٠١٤
ما يجري على الأرض قضى على خطة دي ميستورا

لم يكن طرح دي ميستورا بريئا بأي شكل من الأشكال أو مقياس من المقاييس، في حال أخذنا في الاعتبار ردود فعل السوريين العاديين الذين يعرفون ماذا يريدون. والهدف الذين يطمحون إليه.

يعرف السوري العادي بكلّ بساطة أنّ ثلاث سنوات وتسعة أشهر من التضحيات لا يمكن أن تنتهي ببقاء بشّار الأسد في السلطة. هذا غير مقبول من السوريين أوّلا ومن الذين يقاتلون النظام ثانيا وأخيرا. بات الذين يقاتلون النظام والذين يدعمونه على علم تام بنقاط ضعفه وبالوسائل التي يستخدمها من أجل مزيد من المراوغة.

لعلّ أكثر من يعرف ذلك الجانب الروسي الذي ينسّق حاليا مع دي ميستورا الذي يحظى بدوره بدعم اللوبي السوري في الولايات المتحدة. وهذا اللوبي ليس بعيدا عن الأوساط الإسرائيلية التي لا تمانع في استمرار الحرب التي يشنّها النظام على شعبه إلى ما لا نهاية وذلك بغية التأكّد من أنّه لن تقوم لسوريا قيامة في يوم من الأيّام.

يعتبر سقوط المعسكرين اللذين كانا يعتبران من بين الأكثر تحصينا في سوريا حدثا في غاية الأهمّية. وادي الضيف نفسه كان يوصف بأنّه أقرب إلى أسطورة وقد فشلت محاولات عدة لإسقاطه في السنوات الثلاث الماضية، خصوصا أنّه كان في محاذاته من كان يتظاهر بأنّه يقاتل النظام، في حين أنّه كان في واقع الحال من العاملين لديه والداعمين له بكلّ الوسائل.

كان سقوط وادي الضيف والحامدية بحجم سقوط مطار الطبقة العسكري ومعسكر الفرقة 17 قرب دير الزور. كانت الفرقة التي تضمّ عددا كبيرا من الضباط والعناصر العلوية تعتبر من أهمّ الفرق التابعة للنظام ومن أفضلها تسليحا.

بعد الآن سيجد النظام والذين يدعمونه صعوبة في إيصال إمدادات إلى القوات التابعة له والتي تسعى إلى استعادة السيطرة على كلّ حلب، أو أقلّه على جزء أساسي منها.

في كلّ الأحوال، انكشف المبعوث الجديد للأمم المتحدة باكرا. لم تعد البضاعة التي يعرضها قابلة للتسويق، خصوصا أن الوضع على الجبهة الجنوبية، أي في درعا والغوطة ومحيط القنيطرة يتطوّر لمصلحة الثوّار، مع فارق أن حضور “الجيش الحرّ” على طول هذه الجبهة أفضل بكثير من حضوره في مناطق الشمال. ففي الشمال، هناك الوجود القوي لـ”جبهة النصرة” التي تعتبر جزءا لا يتجزّأ من الحركات المتطرّفة، علما أن سلوكها على الأرض ليس بسوء سلوك “داعش”.

باختصار شديد، لا تحتاج سوريا في الوقت الراهن إلى خطط من نوع تلك التي طرحها دي ميستورا لحلب. كلّ ما تحتاجه هو إلى وضوح في الرؤية من منطلق أن النظام السوري انتهى وذلك بغض النظر عن كلّ المساعدات التي تؤمّنها له كلّ من روسيا وإيران ومن يلوذ بهما. انتهى النظام السوري في اليوم الذي لم يجد فيه ما يواجه به المراهقين في درعا غير القمع. انتهى في اليوم الذي ثارت درعا ودمشق وحمص وحماة وحلب ودير الزور وحتّى اللاذقية.

انتهى النظام عمليا في اليوم الذي لم يعد سرّا أنّه نظام طائفي ومذهبي أوّلا وأخيرا وأنّه لولا تدخّل “حزب الله” والميليشيات الشيعية العراقية لمصلحته بطلب إيراني مباشر، ومن منطلق مذهبي بحت، لكانت العاصمة تحرّرت من سطوته منذ فترة طويلة.

هناك حرب مذهبية في سوريا، وإذا كان المطلوب تسمية الأشياء بأسمائها، لا يمكن للعلويين الانتصار في هذه الحرب، ما دامت الأكثرية الساحقة من السنّة ترفض استمرار هيمنتهم، كما ترفض استمرار هيمنة آل الأسد وأقربائهم على مقدرات البلاد. هناك بكلّ بساطة رفض شعبي سوري لبقاء البلد سجنا كبيرا ومزرعة لدى عائلة من العائلات والمحيطين بها من المنتمين إلى مذهب معيّن.

كشفت الثورة السورية حقيقة كلّ الشعارات، من نوع “الممانعة” و”المقاومة” التي استخدمها النظام من أجل تبرير وجوده طوال ما يزيد على أربعة وأربعين عاما. صار كلّ شيء ظاهرا للعيان في سوريا. لم يعد سوى سؤال واحد: من يريد إطالة عمر النظام الذي لا يمتلك ما يتحاور به مع شعبه غير البراميل المتفجّرة؟

الجواب الصريح أنّ لا قرار كبيرا، أقلّه إلى الآن، بتحرير دمشق. الدليل على ذلك ردّ فعل الرئيس باراك أوباما الذي تجاهل فجأة الخطوط الحمر التي وضعها عندما استخدم النظام السلاح الكيميائي في محيط دمشق صيف العام 2013.

في حال كانت الحاجة إلى صراحة أكثر، يمكن القول إنّه لا قرار أميركيا يسمح بتوجيه ضربة قاضية للنظام. هذا ما لا يدركه، أو ما يدركه تماما، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، مثلما أنّه يتظاهر بعدم إدراك أن التطورات على الأرض تجاوزت طرحه.

الأخطر من ذلك، أنه كلّما بقي النظام في دمشق، كلّما قويت “النصرة” و”داعش” وكلّ القوى المتطرفة التي يعتقد النظام أنّها تخدم مصلحته نظرا إلى أنّها تظهره في مظهر من يشارك فعلا في الحرب الدولية على الإرهاب.

يقول الواقع عكس ذلك تماما. يقول الواقع إنّ أي اطالة للمأساة السورية عبر الامتناع عن وضع خطة واضحة قابلة للتنفيذ تفضي إلى الانتهاء من النظام ومن على رأسه، هو أفضل خدمة للتطرّف والمتطرفين الذين سيزداد عديدهم بعد نجاح “النصرة” في إسقاط معسكر وادي الضيف، في وقت تولت مجموعات أخرى على رأسها “حركة أحرار الشام” أمر معسكر الحامدية. كلّما تحققت انتصارات من هذا النوع، زاد عدد السوريين المنضمّين إلى التنظيمات المتطرفة. هل جاء دي ميستورا إلى سوريا لتنفيذ هذا المخطط الذي لا تبدو الإدارة الأميركية بعيدة عنه؟ بكلام آخر، هل جاء من أجل إطالة الحرب في سوريا، بما يكفل تفتيتها نهائيا؟ لعلّ هذا أسوأ ما في الموضوع السوري هذه الأيّام…

اقرأ المزيد
٢١ ديسمبر ٢٠١٤
المجلس العسكري لتنظيم "الدولة الإسلامية”

لم تعد قدرة وكفاءة وفعالية المجلس العسكري التابع لتنظيم الدولة الإسلامية موضع شك وجدل، فقد برهن للجميع أنه يمتلك خبرة نظرية وعملية واسعة ويتوافر على رؤية استراتيجية صلبة. ولم تكن نجاحات التنظيم العسكرية وليدة المصادفات البحتة، كما لم تكن نتيجة المؤامرات المحضة، فقد عمد المجلس العسكري منذ تأسيسه على وضع جملة من الخطط والاستراتيجيات المحكمة، كما أن عملية السيطرة على الموصل وعدد من المحافظات السنية في العراق جاءت تتويجا لجهوده المتواصلة.

فقد أعلن المجلس في يوليو/ تموز 2012 عن بدء خطة باسم "هدم الأسوار"، تتضمن عددا محددا من "العمليات العسكرية / الغزوات"، وبعد مرور عام على الإعلان عن الخطة، تمكن المجلس العسكري في 21 تموز/ يوليو 2013 من تحرير قرابة ستمائة معتقل من قادة التنظيم من خلال شن هجوم مزدوج على سجني "أبو غريب"، الذي يقع غرب بغداد، وسجن التاجي في شمالها.

مع الإعلان عن انتهاء خطة "هدم الأسوار"، وضع المجلس العسكري للتنظيم خطة جديدة تهدف إلى السيطرة المكانية على المحافظات السنيّة في العراق، والتمدد والسيطرة على المحافظات السورية، وقد أطلق على الخطة الجديدة اسم "حصاد الأجناد"، في 29 تموز/ يوليو 2013، نفذ خلالها جملة من العمليات انتهت بعملية مركبة ومعقدة أسفرت عن سيطرته على مدينة الموصل في حزيران/ يونيو 2014، وانهارت أمام مقاتليه أربع فرق عسكرية عراقية بسهولة فائقة في عدة مدن ومحافظات عراقية، وقد تكرر ذات السيناريو في سوريا عندما انهارت قوات النظام السوري في محافظة الرقة كما حدث مع الفرقة 17، ومطار الطبقة العسكري، والأمر نفسه حدث مع انهيار قوات البيشمركة الكردية أمام تقدم جنود تنظيم الدولة، قبل أن تتدخل القوات الجوية الأمريكية لصد واحتواء تقدم التنظيم في العراق في الثامن من آب/ أغسطس، ثم بناء تحالف دولي واسع لمنع تقدم التنظيم في سوريا بدءا من 22 أيلول/ سبتمبر الماضي.

تدرك الولايات المتحدة قوة وصلابة التنظيم ونواته الصلبة في المجلس العسكري وصعوبة تفكيكه وهزيمته، ولذلك لم تعد تحتفي كثيرا بمقتل زعمائه وقادته كما كانت تفعل مع اصطياد رؤوس قادة تنظيم القاعدة، فعندما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية في 18 كانون أول/ ديسمبر الماضي مقتل عدد من قادة تنظيم الدولة الإسلامية في شمال العراق في ضربات جوية نفذها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة منذ منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر، لم تحتفل كعادتها وجاء بيانها متواضعا، حيث قال الأميرال جون كيربي المتحدث باسم وزارة الدفاع: "أستطيع أن أؤكد أنه منذ منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر، نجحت ضربات هادفة نفذها التحالف في قتل عدد من كبار قادة ومسؤولين من مستوى أدنى في جماعة الدولة الإسلامية"، ولم يحدد البيان هويات القتلى أو مواقع الضربات، وفي وقت سابق، قال مسؤول أميركي إن القتلى سقطوا نتيجة "سلسلة من الضربات الجوية التي نفذت خلال هذا الشهر على عدة أيام"، وقال: "أستطيع أن أؤكد أنه منذ منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر أتاحت الضربات الهادفة للتحالف قتل حاجي معتز وعبد الباسط وهما من كبار قادة الدولة الإسلامية".

 حاجي معتز المعروف باسم أبو مسلم التركماني، هو قائد المجلس العسكري ومنسق الهجوم على الموصل، وهو الرجل الثاني في التنظيم بعد أبو بكر البغدادي، ومع ذلك لم تصدر عن الولايات المتحدة أي نظرة متفائلة بتأثير مقتله على التنظيم، الأمر الذي تعاملت معه جماعة الدولة الإسلامية ببساطة شديدة، والتزمت بسياستها القائمة على التكتم منذ بدء ضربات التحالف.

يعتبر المجلس العسكري المكوّن الأهم داخل تنظيم الدولة الإسلامية، نظرا لطبيعة التنظيم العسكرية، ولا يوجد عدد محدد لأعضائه بحسب قوته وتوسعه وقوته وضعفه ومساحة نفوذه وسيطرته، ويتكون تاريخيا من 9 أعضاء إلى 13 عضوا، وقد بدأ استخدام تسمية الجهاز بالمجلس العسكري عقب مقتل نعمان منصور الزيدي، المعروف بأبي سليمان الناصر لدين الله، الذي شغل منصب وزير الحرب في مايو/ آيار 2011.

يشغل قائد المجلس العسكري منصب نائب البغدادي، وكان الزرقاوي يحتفظ بالمنصبين، ثم تولى منصب القائد العسكري أبو حمزة المهاجر كوزير للحرب في حقبة دولة العراق الإسلامية وإمارة أبي عمر البغدادي، وفي ولاية الأمير الحالي أبو بكر البغدادي تولى منصب القائد العسكري حجي بكر، وهو سمير عبد محمد الخليفاوي، ثم شغل المنصب بعد مقتله في سوريا في كانون ثاني/ يناير 2014 أبوعبدالرحمن البيلاوي، وهو عدنان إسماعيل البيلاوي، الذي قتل في 4 حزيران/ يونيو 2014، حيث تولى رئاسة المجلس العسكري أبومسلم التركماني، وهو فاضل أحمد عبد الله الحيالي، المعروف باسم "أبو معتز"، و"أبو مسلم التركماني العفري"، الذي كان في ولاية نينوى. ويتكون المجلس العسكري من قادة القواطع، وكل قاطع يتكون من ثلاث كتائب، وكل كتيبة تضم  300 -350 مقاتل، وتنقسم الكتيبة إلى عدد من السرايا تضم كل سرية 50 - 60 مقاتل.

ينقسم المجلس العسكري إلى هيئة الأركان وقوات الاقتحام، والاستشهاديين، وقوات الدعم اللوجستي، وقوات القنص، وقوات التفخيخ، ومن قيادات المجلس العسكري أبو أحمد العلواني: وليد جاسم، وعدنان لطيف حميد السويداوي، المعروف بــ"أبي مهند السويداوي"، أو "أبي عبد السلام"، ومن المرجح تعيين أبو أحمد العلواني خلفا لأبي مسلم التركماني في منصب قيادة المجلس العسكري، وقد تم ضم القائد العسكري عمر الشيشاني إلى عضوية المجلس، ويقوم المجلس بكافة الوظائف والمهمات العسكرية، كالتخطيط الاستراتيجي، وإدارة المعارك، وتجهيز الغزوات، وعمليات الإشراف والمراقبة والتقويم لعمل الأمراء العسكريين، بالإضافة إلى تولي وإدارة شؤون التسليح والغنائم العسكرية.

ويعمل المجلس العسكري إلى جانب المجلس الأمن وهو أحد أهم المجالس في تنظيم الدولة الإسلامية وأخطرها، إذ يقوم بوظيفة الأمن والاستخبارات، ويتولى رئاسته أبو علي الأنباري، وهو ضابط استخبارات سابق في الجيش العراقي، ولديه مجموعة من النواب والمساعدين، ويتولى المجلس الشؤون الأمنية للتنظيم، وكل ما يتعلق بالأمن الشخصي لـ"الخليفة"، وتأمين أماكن إقامة البغدادي ومواعيده وتنقلاته، ومتابعة القرارات التي يقرها البغدادي ومدى جدية الولاة في تنفيذها، ويقوم بمراقبة عمل الأمراء الأمنيين في الولايات والقواطع والمدن، كما يشرف على تنفيذ أحكام القضاء وإقامة الحدود، واختراق التنظيمات المعادية، وحماية التنظيم من الاختراق، كما يقوم بالإشراف على الوحدات الخاصة كوحدة الاستشهاديين والانغماسيين بالتنسيق مع المجلس العسكري. ويشرف المجلس على صيانة التنظيم من الاختراق، ولديه مفارز في كل ولاية تقوم بنقل البريد وتنسيق التواصل بين مفاصل التنظيم في جميع قواطع الولاية، كما أن لديه مفارز خاصة للاغتيالات السياسية النوعية والخطف وجمع الأموال.

تبرز أهمية المجلس العسكري من طبيعة تركيبة تنظيم الدولة المسلحة، إذ يقسم مناطق نفوذه إلى وحداتٍ إدارية يطلق عليها اسم "ولايات"، وهي التسمية الإسلامية التاريخية للجغرافيا السكانية، ويتولى مسؤولية "الولايات" مجموعة من الأمراء، وهي التسمية المتداولة للحكام في التراث السياسي الإسلامي التاريخي، ويبلغ عدد الولايات التي تقع ضمن دائرة سيطرة التنظيم أو نفوذه 16 ولاية، نصفها في العراق، وهي: ولاية ديالى، ولاية الجنوب، ولاية صلاح الدين، ولاية الأنبار، ولاية كركوك، ولاية نينوى، ولاية شمال بغداد، ولاية بغداد، ونصفها الآخر في سوريا، وهي: ولاية حمص، ولاية حلب، ولاية الخير (دير الزور)، ولاية البركة (الحسكة)، ولاية البادية، ولاية الرقة، ولاية حماة وولاية دمشق، وتقسّم "الولايات" إلى "قواطع".

خلاصة الأمر أن تنظيم الدولة الإسلامية من أكثر الحركات الجهادية العالمية تطورا على المستوى الهيكلي التنظيمي والفعالية الإدارية، ويعتبر المجلس العسكري الأهم نطرا لطبيعة التنظيم المسلحة، فقد تطورت أبنية الدولة التنظيمية بالاستناد إلى المزاوجة بين الأشكال التنظيمية الإسلامية التقليدية، التي تكونت مع مؤسسة الخلافة، وتنظيرات الفقه السلطاني الذي يؤسس لمفهوم الدولة السلطانية، إذ يقوم على مبدأ الغلبة والشوكة والإمارة، إلى جانب الأشكال التنظيمية الحداثية لمفهوم الدولة الذي يستند إلى جهاز عسكري أمني وآخر إيديولوجي بيروقراطي، ومنذ السيطرة على الموصل تضاعف عدد أعضائه ليصل إلى أكثر من (100) ألف مقاتل، من العراقيين والسوريين، ويضم في صفوفه أكثر من (9) آلاف مقاتل عربي ومسلم أجنبي، إلا أن البنية الأساسية لقوات النخبة تصل إلى حدود (15) مقاتل، ولذلك لم تعد سياسة قطع الرؤوس التي تتبعها الولايات المتحدة كافية في زعزعة تماسك تنظيم الدولة الإسلامية.

اقرأ المزيد
٢١ ديسمبر ٢٠١٤
الشعب يريد دوام الاستبداد

اعتادت الأنظمةُ السياسية الشمولية على التمسح بالـ شعب. كل كلمتين يقولهما فريقُ الخطباء الذين يمثلون هذه الأنظمة ثالثتهما: شعب.
إذا كان ذهنك مشغولاً بعملٍ ما، وبجوارك راديو يبث خطاباً لأحدهم، تستطيع أن تلاحظ وجود إيقاع (رتم) للخطاب، هو كلمة (شعب)، تأتي في موضع محدد من كل جملة يقولها الخطيب.  
كان حافظ الأسد من ألدّ أعداء الشعب السوري، إلا أنه لم يكن يتوقف عن التغني بالـ شعب! ولئن كانت دول العالم تسمي المجالسَ التشريعية برلماناً، أو مجلساً نيابياً، أو مجلساً للعموم، فإن البرلمان السوري قد سمي، بإيعاز من حافظ الأسد: مجلس الشعب.
فلان كاتب الشعب، وعلان فنان الشعب، وأما حافظ الأسد فهو، بحسب ما غنى جورج وسوف في سنة 1992، حبيب الشعب، وأمل الملايين.
بشار الأسد الذي أصبح رئيساً للجمهورية العربية السورية رغماً عن أنف الشعب، تحدث في خطاب القَسَم، مطولاً، عن الشعب، وحينما انطلقت الثورة ضده، من درعا، وأعطى لجنوده صلاحيات مطلقة في قتل أبناء الشعب، واعتقالهم، وسحلهم في الشوارع، وإذاقتهم أقسى صنوف العذاب؛ لم تطاوعه نفسه أن يخاطب الشعب بحديث متلفز، بل ذهب إلى مجلس الشعب الذي يُعرف باسم "مجلس التصفيق والدبكة"، فوجد الدبكة، بالفعل، معقودة أمامه، وأعضاء المجلس يعترضون طريقه بالهتاف والتصفيق، وترداد عبارة (الله، سورية، بشار وبس).. وفي أثناء الخطاب، راح هو يشوبر بيديه ويضحك (مثل الهبلان)، وراح أولئك الإمَّعاتُ يقاطعونه بعبارة (الله، سورية، بشار وبس)، ووقتها جادت قريحته فارتجل عبارة:
- أنتم تقولون الله، سورية، بشار وبس، وأما أنا فأقول: الله، سورية، (شعبي) وبس.     
كان عدد الشهداء في اليوم الثلاثين من مارس/آذار 2011، حينما ألقى بشار الأسد ذلك الخطاب، في حدود الألفين، وكان الشعب السوري حزيناً جداً، ومرعوباً من احتمالات المستقبل، ينتظر من هذا الشخص الذي فُرض عليه بالقوة أن يقول شيئاً يؤدي إلى خلاصٍ ما، وبطريقة ما.. فلما رآه يتوقف عن الكلام كل خمس دقائق ويضحك (ويتكركر)، نزل إلى الشارع، بمئات الألوف، بل وبالملايين، واضعاً دمه على كفه، مؤمناً، أكثر من قبل بكثير، بأن الوقت حان للتخلص من هذه السلالة الكريهة، مهما بلغت التضحيات.
استبسل نظام الأسد، في تلك الفترة، من أجل إظهار أن (الشعب) معه، فكان يأمر مخابراته وحواشيه ومؤيديه بالنزول إلى الشوارع، وحمل الصور واللافتات التي تقول إن (الشعب) مستعد أن يتخلى عن حياته وروحه، في سبيل أن يبقى هو جاثماً على صدر الشعب.
كنا، نحن المعارضين، نظهر على الفضائيات، وتوجه إلينا الأسئلة حول ما يجري في سورية، فنقول إنها ثورة (شعب).. وتظهر في عمق الشاشة صور لمئات الألوف من أبناء الشعب السوري، وهم يرددون الهتافات التي تدعو إلى رحيل بشار الأسد، ولا ينسون والده، مؤسس جمهورية الرعب، حافظ الأسد، من لعناتهم.
وكان مؤيدو الديكتاتورية السوريون، إضافة إلى مؤيديه اللبنانيين، يظهرون على الفضائيات، ويشيرون إلى مسيرات التأييد، ويقولون: الشعب مع بشار، أنظروا، ها هو (الشعب)، حتى إن النائب اللبناني الأسبق ذي الوجه البسام، وئام وهاب، ظهر مرة على قناة (ANB)، وقال إنه مستغرب مما يقال بأن هناك في الشام ثورة، وأضاف: أنا الآن أتيت من الشام، ما فيها ثورة ولا ما يحزنون.
الخلاصة: لا شك في أن الحديث عن إرادة الشعب تدخل في باب الإنشاء الخطابي. والحقيقة أنني لم أسمع ناطقاً باسم النظام، أو باسم المعارضة، يقول الحقيقة، وهي: أن قسماً من الشعب يثور على نظام الأسد، وقسماً آخر يؤيده، وقسماً ثالثاً لا يريد أن يبقى النظام، ولكنه، في الوقت نفسه، لا يريد أن تحكمه المنظمات الجهادية التي تطرح نفسها بديلاً لهذا النظام.

اقرأ المزيد
٢٠ ديسمبر ٢٠١٤
التسوية البعيدة للحرب السورية

تشير تقارير صدرت مؤخراً أن عدد ضحايا الحرب السورية قد تجاوز المئتي ألف قتيل، وأن الجرحى أكثر من ثلاثة أضعاف عدد القتلى، فيما وصل عدد المهجرين من بيوتهم، داخل سورية وخارجها، إلى حوالى عشرة ملايين مواطن، مما يعني أننا أمام مأساة إنسانية لم يعرفها العالم الحديث إلا في الحربين العالميتين. على رغم الحديث المتواتر عن ضرورة الوصول إلى تسوية تضع حداً لمعاناة الشعب السوري، إلا أن ما يدور في أروقة الدبلوماسية، والصراع المسلح الدائر على الأرض لا يشي، حتى الآن، بوجود بوادر تسوية، مما يعني أن الشعب السوري ستظل رقبته تحت المقصلة، وأن شلال الدم لن يتوقف.

لا يبدو أن أياً من القوى المعنية بالصراع مستعجلة في الوصول إلى تسوية. فالأرض السورية اليوم ملعب للقوى المتصارعة الداخلية منها والخارجية، ومكان لخوض حروب بديلة بين القوى الدولية والإقليمية. وطالما ان هذه القوى لا تدفع خسائر بشرية من مواطنيها، فلا مانع لديها من استخدام الشعب السوري وقوداً لتواصل حربها. في نظرة على لوحة الداخل والخارج، يمكن لنا أن نرى بوضوح استحالة توقف المجازر والدخول في سلام.

لا يبدو أن المندوب الأممي قادر على تقديم حلول ملموسة لوقف النار وإيجاد ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية. بعد أشهر من تكليفه، ها هو يراوح مكانه، بل يستنسخ سلفيه كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي. يشكك النظام في مسعاه على رغم أن بعض اقتراحاته تصب في النهاية في خدمته، كما تتساءل قوى المعارضة عن جدوى اقتراحاته التي ترى فيها تسليماً لمناطق معينة إلى النظام.

يمارس الأميركيون ألعاباً متناقضة تجاه الحرب السورية والموقف من النظام. كانت هناك شكوك ولا تزال حول التصريحات والمواقف الأميركية، فمن جهة نسمع كلاماً عن فقدان شرعية الأسد وضرورة رحيله، ثم نسمع كلاماً آخر عن الحاجة إليه لمنع تقسيم سورية، ولدور يمكن أن يلعبه في المعركة ضد «داعش» وأخواتها. تدير الولايات المتحدة حربها في سورية وفق منظومة سياسية وعسكرية ترى بموجبها أن هذه الحرب مفيدة جداً في إضعاف النفوذ الإيراني واستنزافه مالياً وبشرياً، وكذلك في تغطيس الروس في الأوحال السورية وتكبيدهم خسائر اقتصادية.

ترى إيران في الحرب السورية والتدخل المباشر العسكري والمالي فرصة ذهبية لتقوية نفوذها الإقليمي والامتداد نحو المياه الحارة في المتوسط. ولأنه بات لها اليد الطولى في الهيمنة على النظام السوري، فان إيران تعتبر أن حساب الخسائر والأرباح في الحرب السورية لا يزال يرجح الأرباح لموقعها ولموقع حليفها حزب الله اللبناني. إضافة إلى النفوذ الإقليمي، ترى إيران أن الموقع السوري بات داخلاً في حساب المقايضات في الملف النووي الذي تأجل البت فيه سبعة أشهر إضافية، مما يعني انتظار هذه الفترة الزمنية قبل أن تتم الصفقة.

تصر روسيا على موقف ثابت داعم للنظام، وعلى غرار إيران، ترى في الحرب موقع نفوذ تسعى من خلاله إلى المساومة مع الغرب على ملفات ذات اهتمام لروسيا، كما ترى أن هذه الحرب تعطيها موقعاً في المتوسط. تملك سلاح الديبلوماسية في تعطيل أي قرار أممي غير متوافق مع مصلحة النظام. أما تركيا، التي يمكن وصف موقفها بأنه «جعجعة من دون طحين»، حيث دأبت منذ بداية الحرب السورية على حرب كلامية عن عدم سماحها بحصول مجزرة حلب مجدداً، في وقت باتت هذه المجزرة لعبة أطفال أمام المجازر الضخمة التي ارتكبها النظام. ينتظر النظام التركي اهتراء كاملاً للقوى الداخلية، ويعمل على تشجيع وصول المتطرفين إلى الأرض السورية، ويحلم في المقابل في قطاف تؤول فيه السيطرة لتركيا على قسم من سورية، أو إعادة إلحاق أراض ترى أنها سلبت منها في القرن الماضي.

أما قوى الداخل من نظام ومعارضة، فتبدو القوى الأضعف في المعادلة. فالنظام مصر على استكمال تدمير البشر والحجر، ولا يدخل في منطقه إمكان تسوية سياسية، يعرف أنها قد تكون على حسابه في نهاية المطاف. وها هو يدخل في غزل صريح مع الإدارة الأميركية تحت عنوان مشاركته في الحرب على الإرهاب، فيما يستحيل الانتصار على هذا الإرهاب من دون إزالة هذا النظام الذي رعى وشجع انتشار «داعش» وأخواتها. أما المعارضة، فلم يعد في الإمكان معرفة طبيعتها وقواها، بعد أن باتت معارضات متعددة ترتبط كل واحدة منها بقوى إقليمية معينة. وإذا ما حصلت تسوية في يوم من الأيام، فإن النظام والمعارضة سيكونان أقل القوى تأثيراً في هذه التسوية، بل ستفرض عليهما من الخارج. لا تشير هذه اللوحة إلى فرج قريب في سورية، ولا تقدم الحرب الدائرة على الإرهاب أملاً سريعاً في الخلاص، فالمضمون والمستمر هو درب الآلام الذي على الشعب السوري أن يسير على مساميره إلى أمد غير منظور.

اقرأ المزيد
٢٠ ديسمبر ٢٠١٤
كم مرة تلدغ الثورة السورية من جحر واحد؟

تجاوزت الثورة السورية كل الثورات في قدرتها على التضحية والتحدي، وتحقيق انتصارات مذهلة في مواجهة تحالف قوى كبرى مع النظام توهمت كسر إرادة الشعب السوري باعتماد الإبادة وانتهاك الحرمات والتهجير والتدمير. ومع فشلهم وخيبة حيلهم ولكسب الوقت لجأوا إلى مبادرات لم يوفروا غطاء لتطبيقها بسبب تعطيل مجلس الأمن، وعدم التزامه بمسؤولياته القانونية والأخلاقية.
دي ميستورا المبعوث الدولي الخامس يريد وقف القتال في حلب، قلعة الشمال، فيها أكبر التشكيلات العسكرية تماسكا والتزاما ولا يمكن إسقاطها، وهي متصلة مع تركيا التي فتحت قلبها ومرافقها للسوريين وأحاطتهم بحدب واحترام ما عرفوه في وطنهم الأم منذ أكثر من 40 عاما، وحجة المبعوث الدولي البدء من الأسفل بعد أن فشل المجتمع الدولي (أو لم يرد) المعالجة من الأعلى (تغيير النظام) يريد وقف القتال في حلب تمهيدا لوقفه في أماكن أخرى، وإقامة مناطق تدار لا مركزيا لم يفصح عنها، ومن ثم الحوار مع النظام، وبعدها تقاتل المعارضة وجيش النظام معا «داعش» الخطر الوحيد، أما جرائم النظام فهي قتل من نظام طائفي يتلحف بالعلمانية والتقدمية مسموح به.
الغوطة محاصرة وعصية منذ أكثر من عامين ودرعا وإدلب يتقدم رجالها، لا بأس أن يتفرغ النظام لتدميرها تمهيدا لوقف القتال فيها، وخوفا من أن يتصل أبطال الغوطة الذين يخترقون حصارهم من الداخل بثوار درعا وثوار القلمون وينهار النظام المفكك الذي يعيش أسوأ أيامه داخليا وهو يسوق شباب الطائفة إلى الموت دفاعا عنه، وخارجيا وقد رأى الحلفاء عمق مأزقهم معه، وبقية المناطق تترك للقصف والاعتقال كل يوم.
دي ميستورا الذي يتمثل وضوح مشروعه في إبهامه، ولم يتطرق لرأس النظام والجيش والأمن، يجب أن يسأل ما هو مشروعه السياسي للتغيير، وأفقه الزمني، ماذا عن مقررات جنيف 1 التي أقرها مجلس الأمن، ووافقت عليها مجموعة أصدقاء الشعب السوري، ولماذا لم يعاقب من دفن جنيف 2 بدل تقديم مبادرات جديدة تكافئه لأنه ثبت على إجرامه؟
بوغدانوف على التوازي يصرح من لبنان الذي يحج إليه دوريا بأن المطلوب الآن حوار سوري - سوري غير رسمي دون شروط مسبقة (على الطريقة الإسرائيلية). يقولون روسيا غيرت موقفها وبوغدانوف يكذب ذلك علنا.
النظام أفشل مهمة 4 مبعوثين دوليين وعرب حتى الآن بحوارات خادعة.
فاروق الشرع ممثل النظام قال عن المفاوضات بداية الثورة مع ما يسمى بمعارضة الداخل إن نجاحها 5 في المائة تجاوزا. النظام لا يعرف المفاوضات إلا لتمرير مرحلة وهو لا عهد له ولا ذمة وهذه عقيدته السياسية المخادعة التي رسخها مؤسس النظام الطاغية الأب.
بعد الدابي ومود وأنان والإبراهيمي ألا يجب أن نسال أنفسنا كم مرة يجب أن تلدغ الثورة السورية من جحر واحد.
هناك مجموعة من الحقائق لا يمكن القفز فوقها؛ أولاها أن الثورة السورية التي قدمت حتى الآن نصف مليون شهيد وأكثر منهم من المصابين والمفقودين والمعتقلين وأكثر من 14 مليون من المهجرين ووطنا دمر أكثر من نصفه لا يمكن أن تتوقف قبل تحرير سوريا من النظام المجرم ورغم محاولات الحصار والتفتيت، ولن يستطيع العالم كله أن يهزم الثورة السورية. وثانيها أن القبول بمشاريع جزئية والحوار مع النظام جعلا البعض من أنصار الثورة يعيدون حساباتهم، وثالثها ليس هناك عاقل في المعارضة يعتقد أن إدارة أوباما بخلاف رأي كبار مسؤوليها ورجالات الحزب الجمهوري وبالتناغم مع روسيا ستبادر بعمل جدي لإنهاء معاناة السوريين وتحقيق حريتهم ما لم تفرض الثورة واقعا يلزمهم بذلك. ورابعها أن القضاء على الإرهاب دون تغيير النظام سوف يخلق إرهابا أعتى لنظام أتقن استخدام هذه التنظيمات والكل يذكر «فتح الإسلام» وصاحبه شاكر العبسي في لبنان، وأن أي حلول تقفز فوق أهداف الثورة وتتجاهل ذوي الشهداء والجرحى والمغتصبات محكوم عليها بالزوال مع أصحابها.
إن البديل الموضوعي والملح يتمثل بدعم الثوار على الأرض وتوحيد التشكيلات المقاتلة لمحاربة النظام و«داعش»، وليس لأي هدف آخر، والتمسك بالمنطقة العازلة والآمنة التي تصر عليها تركيا، والتنسيق مع الدول الشقيقة والصديقة التي تقف مع الثورة منذ انطلاقتها لفرضها وهي مطلب الثورة منذ 3 سنوات، وإحياء فكرة عقد مؤتمر وطني نادت به شخصيات معارضة قبل جنيف 2، وأن يتولى الائتلاف الدعوة لعقد المؤتمر بمشاركة كافة مكونات المعارضة المدنية والعسكرية للاتفاق على مشروع وبرنامج واحد يتمسك به الجميع ويوحد المواقف التي ستفرض احترام العالم المفقود في مرحلة هي الأخطر حتى الآن.
لنتذكر دوما أن حلفاء النظام لم يسمحوا له بالتراجع خطوة واحدة عن مواقفه وجرائمه في ظل انتصارات الثورة التي هددت مواقعه على امتداد الأرض السورية فكيف له أن يوافق على الرحيل بعد توقيف القتال معه ومحاورته كشريك في ظل رعاية دولية، من يضمن من؟!

اقرأ المزيد
٢٠ ديسمبر ٢٠١٤
أنت ثائر إذاً أنت إرهابي!

كلنا يعرف أن الطواغيت العرب تاجروا بالإرهاب أكثر مما تاجرت به أمريكا. ما حدا أحسن من حدا. فقد لاحظنا على مدى السنوات الماضية أن تهمة الإرهاب راحت تحل شيئاً فشيئاً محل تهمة الخيانة والعمالة المفضلة لدى الديكتاتوريات العربية.
كيف لا وأن كل من يدّعي مكافحة الإرهاب، حتى لو كان أحقر وأبشع ممارسي العنف في العالم، يحظى فوراً بتأييد دولي لسحق خصومه، لا بل يمكن أن يحصل على مساعدة دولية، طالما أنه يدّعي مواجهة الإرهابيين. وقد لاحظنا أخيراً كيف أن العالم نسي كل ما فعله طاغية الشام بسوريا، وراح ينّسق معه ضد الإرهاب، وكأن قصف الأطفال بالكيماوي وتهجير ملايين الناس وتدمير ثلاثة أرباع البلد عمل وطني مشروع وشريف، بينما ذبح صحافي عمل إرهابي خطير. هل هناك إرهاب حلال، وإرهاب حرام؟ ألا يستوي إرهاب الذبح مع إرهاب التدمير والتجويع والتهجير واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً؟
من الواضح أن الإرهاب أصبح كلمة السر لدى أعداء الشعوب في الداخل والخارج لإجهاض أية مطالب شعبية والقضاء على أية ثورة. فكما كانوا في الماضي يطلقون صفة «إرهابي» على كل من كان يقاوم الاحتلال ويدافع عن وطنه، ها هم الآن يشهرون سيف الإرهاب في وجه الشعوب الثائرة لإعادتها إلى زريبة الطاعة. والقذر في الأمر أن الجنرالات العرب الإرهابيين يتلقون دعماً من ضباع العالم الكبار الذين يباركون إرهاب الدولة المنظم في وجه كل من يطالب بأبسط حقوقه. ولو نظرنا إلى التاريخ الحديث لوجدنا أن الطواغيت العرب وأسيادهم في الخارج بدأوا يستخدمون بعبع الإرهاب منذ عقود، وليس فقط الآن لإجهاض الثورات وإعادة الشعوب إلى حظيرة الاستبداد. ويتساءل عبد الفتاح ماضي في هذا السياق: «أليست هذه المرة الثالثة على الأقل، في العقود الأربعة الأخيرة، لإعلان الحرب على الإرهاب في أعقاب ظهور مطالب شعبية لإحداث تغيير حقيقي في نمط السلطة في حكومات المنطقة التي لا تعرف إلا الاستبداد والفساد وتكميم الأفواه؟ ألم تكن المرة الأولى بعد أن انتهى دور من عُرفوا بالمجاهدين في أفغانستان؟ ألم يكن هناك حراك سياسي مناد بالإصلاح السياسي في أكثر من دولة عربية رئيسية وقتها، لكن بعض الأنظمة استغلت عودة من عُرفوا بالمجاهدين العرب إلى بلادهم لبدء المعركة ضد الإرهاب، فانتهى الحديث عن الإصلاح؟»
ثم لمّا عاد الحديث من جديد عن الإصلاح السياسي، في مطلع الألفية الجديدة، جاءت أحداث 11 ايلول/سبتمبر 2001 لتقوم الحكومات الغربية والعربية بشن حربها على الإرهاب….ثم الآن وبعد ثورات الربيع العربي، لاحظوا كيف راحوا يصورون الثورات والنضال من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية على أنه نوع من الإرهاب. ويتساءل البعض هنا: لماذا تدخل حكومات المنطقة في تحالف جديد للحرب على الإرهاب بدل تصالحها مع شعوبها وإجرائها عمليات إصلاح حقيقية تقوم على حكم القانون ودولة المؤسسات والمواطنة التامة والتداول السلمي على السلطة والفصل بين المال العام والمال الخاص؟
ألم يصبح شعار مكافحة الإرهاب الحل السحري لمشاكل الديكتاتوريات العربية؟ فكل طاغية يواجه ثورة شعبية يصرخ فوراً: إرهاب، إرهاب، مع العلم أنه يكون هو نفسه صانعاً للإرهاب. فمع انطلاق الثورة السورية مثلاً «استخدم النظام ورقته التي طالما أتقنها، وأفرج عن المعتقلين ذوي الخلفيات الجهادية من سجون صيدنايا وتدمر، واعتقل الأطباء والاعلاميين وأصحاب الرأي، وابتدع جماعات إرهابية خاصة، في محاولة لتصيد التناقضات العالمية ووأد ثورة الحرية، وتجديد عقده لاحتلال سوريا بوصفه متصدياً للإرهاب».
لقد حاول النظام السوري وحلفاؤه إظهار الثورة السورية منذ أيامها الأولى بأنها مجرد عمليات إرهابية. وقد لجأوا إلى كل الحيل والفبركات والأكاذيب كي يجعلوا الثورة تبدو بأن من قام بها إرهابيون. وبعد أربعة أعوام يبدو أن العالم قد صدّقهم، وراح يتعامل مع الحدث السوري على أنه مجرد إرهاب بعد أن نجح النظام وأعوانه في تحويل الأرض السورية إلى ساحة فوضى ودم ودمار.
ليس هناك شك أبداً في أن ضباع العالم الكبار يعرفون الحقيقة كاملة بأن بشار الأسد وغيره من جنرالات الإجرام هم سبب الإرهاب وصانعوه، لكن لا بأس في المتاجرة معهم بسلعة الإرهاب طالما أنها تجهض الثورات، وتقضي على أحلام الشعوب في التحرر من الطغيان، ليبقى الطواغيت في خدمة مشغليهم في موسكو وواشنطن وتل أبيب. القوى الكبرى ترصد دبيب النمل، وتعرف من خلال أقمارها الصناعية كل شاردة وواردة، وتعرف الحقيقة، لكنها تناصر ما يناسب مصالحها. لا يهمها الدم والدمار والفوضى، طالما أن الطغاة العرب يحققون لها مرادها في الهيمنة والنهب باسم مكافحة الإرهاب.
لقد راح ضباع العالم وأذنابهم في بلادنا منذ عقود يصورون كل من قال: «الله أكبر» على أنه إرهابي محتمل، فهل يصبح من الآن فصاعداً كل من ينادي بالحرية والكرامة ولقمة الخبز إرهابياً حتى لو كان اسمه «عبد الشيطان»؟

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٤
هل بدأت مرحلة عض الأصابع؟

عندما انطلقت الثورة كان النظام يملك كامل  قوته التي بناها على مدى خمسين عاما من أسلحة، وجيش، وأجهزة أمنية، ومؤيدين، ومعنوية عالية، وثقة لامتناهية بالنفس، بينما لم يكن لدى الثوار سوى العزيمة التي دبت في قلوبهم بعد سقوط الرعب الذي زرعه النظام في نفوسهم، ولم يكونوا يسيطرون حتى على مناطقهم.
بعد أربع سنوات انعكس الوضع، إذ فقد النظام معظم ما كان يملكه من عناصر القوة، بينما استطاع الثوار أن يكسبوا الكثير منها إضافة إلى التصميم على الاستمرار، لكنهم لم يتمكنوا من ترجمة ذلك سياسيا لعدم قيام جسم يمثلهم، إذ احتل بعض معارضي الماضي التقليدي الساحة السياسية بالتحاصص فيما بينهم، وجاؤوا بشخصيات كاريكاتورية بدعوى تمثيل الثوار والأقليات، في حين أنهم قاموا عمليا (ولازالوا) بأقصاء الثوار الفاعلين وغيرهم من العسكريين والخبراء، فأنتجوا أجساما عاجزة عن التأثير في الداخل والخارج، ولم يتمكنوا من تحقيق مكاسب سياسية للثورة، بل حتى أنهم أضاعوا الزخم والتأييد الخارجي الذي كسبته الثورة في بدايتها.
والآن، وفي هذا الوضع المتدهور للنظام بدأ من يدعمه بالتحرك لإنقاذ ما يمكن انقاذه من بقايا النظام، ولكن بما لا يذكر من " التنازلات "، وكأن النظام لازال يتمتع بكامل قوته. ويساند هذا التحرك من ليس له مصلحة بإسقاط النظام، ويسعى إلى المشاركة فيه بعض اللاهثين وراء السلطة، والمخدوعين بوهم حنكتهم وشعبيتهم الفيسبوكية، وإمكانية قبول النظام بتسليمهم السلطة أو حتى القليل منها.
ومع أن جميع القوى الدولية تسعى لحل سياسي يتفادى سقوط الدولة ومؤسساتها مع سقوط النظام كما حدث في العراق وليبيا، وأن الحل السياسي مطلوب شريطة أن يحقق ما قامت من أجله الثورة - وليس وهما لذلك - إلا أن هذا لا يتأتى إلا من خلال القدرة على التفاوض المهني الصحيح ومن موقع القوة، وليس من موقف ضعف وقبول شروط الطرف الآخر حتى قبل أن تبدأ المفاوضات كما يفعل بعضهم، فبالرغم من الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي دفعها السوريون – بل من أجلها – يجب ألا يتم التفريط بأهداف الثورة، بل بـ "صبر ساعة" فإنهم " يألمون كما تألمون" بل ربما أصبحوا الآن يألمون أكثر.

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٤
أوباما وكوبا... وفلسطين و «داعش»

يسعى الرئيس باراك أوباما، في المدة المتبقية من ولايته الثانية التي تنتهي بداية 2016، إلى تحقيق بعض الوعود التي أطلقها في خطابه الانتخابي قبل بدء ولايته الأولى عام 2008، بعد أن خذل الكثيرين على مدى السنوات الست الماضية.

وبالأمس، قال في تبرير اندفاعته لتطبيع العلاقات مع كوبا، أنه لا يعتقد أن «الاستمرار بالقيام بالشيء نفسه طول خمسة عقود، سيفضي إلى نتائج مختلفة»، في إشارته إلى أن سياسة واشنطن إزاء كوبا باتت عتيقة وغير مفيدة. وهو قرر، بعد 6 سنوات من رئاسته أن يعدّل سلوك بلاده على مدى أكثر من 50 سنة حيال كوبا، على رغم أن إنهاء القطيعة كان متوقعاً في السنة الأولى من دخوله البيت الأبيض.

ألا يفترض أن ينطبق ما قاله عن استنفار سلوك واشنطن حيال كوبا، على القضية الفلسطينية؟ فالولايات المتحدة تقوم بالشيء نفسه من دون نتائج مختلفة، على مدى 7 عقود في دعمها الأعمى لسعي إسرائيل إلى إلغاء حقوق الشعب الفلسطيني بالدولة المستقلة، على رغم أن أوباما كان وعد عند انتخابه بوقف الاستيطان الإسرائيلي وإقامة الدولتين.

إلا أن لائحة الوعود التي ينوي تحقيق بعضها في المدة المتبقية، والتي يقول المعلقون الذين ينتظرون أفعالاً منه، تقتصر على قضايا متعلقة بالمهاجرين وتحديات تغيّر المناخ ومسائل داخلية. ووفق هؤلاء لا يبدو الشرق الأوسط من ضمن هذه الأولويات، بدليل الضغط الذي مارسه عبر الدول الأوروبية على السلطة الفلسطينية، مع التهديد باستخدام الفيتو حيال مشروع القرار المعروض على مجلس الأمن بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية خلال مهلة أقصاها سنتان، هذا على رغم تقدم فرنسا بمشروع ملطف للمشروع الفلسطيني.

وما اعتبره معلقون «تجرؤ» أوباما في حالة كوبا، في وجه غلاة الجمهوريين، ليس وارداً في الشرق الأوسط حيث ستبقى قاعدة «القيام بالشيء نفسه»، تحصد «النتائج نفسها»: المزيد من توالد أشكال الإرهاب طالما لم يحصل الفلسطينيون على حقوقهم، وما دامت واشنطن تمالئ التطرف الإسرائيلي المتنامي. فالناشطون الإسرائيليون الساعون إلى السلام يعتبرون أن المشكلة كانت في كل مرة تلوح فيها إمكانية لمفاوضات فلسطينية - إسرائيلية، إحجام واشنطن عن الضغط على القيادة الإسرائيلية، فتفشل بذلك هذه الإمكانية.

وحتى أولوية التطبيع مع إيران في سياسة أوباما الشرق أوسطية، تأخذ في الاعتبار مصالح إسرائيل ومطالبها قبل أن تلتفت إلى هواجس الدول العربية التي تعتبرها واشنطن حليفة. فما تأمله من هذا التطبيع هو أن يشمل أي اتفاق حول الدور الإقليمي، تخلي ايران عن ورقة الاستثمار في القضية الفلسطينية التي لعبتها طهران طوال العقود الثلاثة الماضية. أما ورقة الاستثمار الإيراني في المسرح العربي، عبر تمددها في غير دولة، فإنها تترك لدول الخليج التعاطي معها. وهنا أيضاً تساهم واشنطن بالتسبب في نمو أشكال الإرهاب الممزوج بجذور العداء لسياساتها مع النقمة على أنظمة الاستبداد، إضافة إلى استعار التناحر المذهبي.

أما أولوية محاربة «داعش» والإرهاب، فإن جل ما طمحت إليه إدارة أوباما، هو اعتماد سياسة شراء الوقت، عبر قرارها استخدام الضربات الجوية لـ «داعش» لـ «احتواء» تمدده تاركة «القضاء عليه» لخطط بعيدة المدى تمتد لسنوات، لا دليل على إمكان بلورتها في المرحلة المنظورة، لعل الإدارة اللاحقة تتولى أمرها. وتصور خطة واشنطن ينسحب حكماً على سبل التعاطي مع الأزمة السورية، المتروكة لمحاولات يلفها الغموض بحثاً عن حل سياسي تبذل موسكو جهوداً من أجله ومعها المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا، لا يحظى بالتوافق العربي عليه وسط الخلاف على الأولويات بين دول تريد محاربة الإرهاب وتسوية تقود إلى تغيير رأس النظام في سورية، ودول تفضّل مواجهة «داعش»، وتأجيل البت بمصير بشار الأسد.

ويبدو أن إدارة أوباما اكتفت بالأخذ بنصيحة بعض أركان فريقه من الديموقراطيين بأن يستخدم الأزمة السورية للضغط على روسيا كي لا تتوغل أكثر مما فعلت في أوكرانيا، ولدفعها إلى تقديم بعض التنازلات في اتجاه التفاوض مع القيادة الأوكرانية، بموازاة الضغوط التي تمارسها ادارة اوباما مع أوروبا عبر العقوبات. وفي أحسن الأحوال فإن التوتر الروسي - الأميركي في شأن أوكرانيا يقود إلى إبطاء جهود الحلول في سورية، مع ما تتطلبه من تعديلات في الميدان.

من فلسطين إلى «داعش» (في العراق وسورية) لا يمكن توقع أي «تجرؤ» أميركي شبيه بذلك الذي مارسه أوباما حيال المسألة الكوبية. والمنطقة ستترك لصراعات قواها الإقليمية، ضمن ضوابط، مقياسها الأمن الإسرائيلي.

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٤
«داعش» وحده يملك استراتيجية

من بين كل القوى المتصارعة في سورية وعليها، وحده تنظيم «داعش» يمتلك استراتيجية واضحة ومحدّدة حيال الحاضر والمستقبل. يتطلع إليهما كما هما، ويعمل على جعلهما كما يجب ان يكونا. يظهر ذلك من خلال أداء مقاتليه في العراق وسورية بالمقارنة مع أداء أعدائه الكثيرين.

ذاك أن النظام العراقي لم يفعل شيئاً خلال السنوات التي تبوأ فيها نوري المالكي رئاسة الحكومة إلا تعبيد الطريق أمام أكبر حالة إلتفاف سنّي وراء تنظيم «القاعدة»، الذي صار لاحقاً تنظيم «داعش». أتى ذلك بعد حرب ضروس بين الصحوات والمجاهدين انتهت بتسليم الأخيرين مفاتيح مناطق لا يستهان بها من العراق. اللااستراتيجية العراقية، إذاً، تسببت بتحول تنظيم القاعدة إلى تنظيم «داعش» الذي باتت وحشيته المطلقة تستدعي، للمفارقة الساخرة، الترحم على سماحة سلفه!

في سورية، وعلى رغم أن بعض الوقائع الطافية على سطح مسرحها الحربي قد تشي بأن نظامها اتّبع استراتيجية متسقة منذ بداية الأزمة، فالتدقيق قليلاً في العمق سيظهر خلاف ذلك. فإذا كانت غاية النظام منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية استمرار إمساكه بمقاليد الحكم، فإن ما قام به حتى الآن أدى إلى عكس هذه النتيجة تماماً. لقائل ان يقول: لكنه ما زال الحاكم الأوحد، وهذا صحيح، إلا أنه الحاكم لكيان مختلف كثيراً وأصغر بأشواط ومستقبله غير مضمون بالمرة، مقارنة مع ما كان عليه الأمر قبيل آذار (مارس) 2011. فلا الحل الأمني أعاد الناس إلى بيوتهم. ولا إخلاء السجون من قياديي السلفية الجهادية أقنع العالم بعقد حلف معه في مواجهة إرهاب هؤلاء المتفاقم. هذا ولم يساهم إدخال الميليشيات الإيرانية الحرب سوى بتسليم رقبة النظام لمرشدها الأعلى.

أمّا إيران، وبصرف النظر عمّا تروجه بعض المنابر الإعلامية لبطولات قائد حرسها الثوري قاسم سليماني في ميادين العراق وسورية، فإزاحة نوري المالكي من الموقع التنفيذي الأول في العراق، فضلاً عن خسارة نظام الأسد حكم سورية الحديدي، يثبتان ان ما قيل عن إستراتيجية «حائك السجاد» ما هي إلا تعبير عن افتقار خصوم إيران الى إستراتيجية في مواجهتها. بكلمات أخرى، الفراغ الإستراتيجي، الإقليمي والدولي، في مواجهة إيران، أتاح لها الظهور بمظهر مالك الإستراتيجية. ولا أدل على ذلك إلا ردود فعلها الجنونية حيال بلوغ أسعار النفط القعر الذي بلغته، ما بدّد الإيجابيات المالية الناجمة عن رفع بعض العقوبات عنها.

كذا الأمر بالنسبة إلى ميليشياتها المقاتلة، لا سيما حزب الله. إذ مع كل يوم قتالي جديد في سورية، تزداد خسائر الحزب الإستراتيجية، على رغم مساعيه الدؤوبة لتضخيم بعض نجاحاته التكتيكية، التي ستجني إيران لاحقاً غنمها، ولن يكون نصيب الحزب منها إلا الغرم.

الأمر نفسه ينطبق على الأدوار العربية في سورية. ذاك أن الأخيرة وبتجلياتها كافة لم تنجح خلال سنوات الحرب الأربع في بناء موقع عربي راسخ قد يكون له دور تقريري في مستقبل سورية. على العكس، أسهمت الأدوار العربية في بناء مواقع متصارعة على لوحة تتداعى قطعها، الواحدة تلو الأخرى.

تقييم الدورين الأميركي والروسي لا يختلف منهجياً عن نقاش الأدوار السالفة الذكر. إذ، على رغم كونهما الدولتين العظميين الفاعلتين في سورية، فأداؤهما يكاد يقارب أداء الدول الصغرى فيها. أميركا، تارة تتحدث عن «القيادة من الخلف»، وطوراً تعود إلى الحديث عن «القيادة من الأمام»، وقد استقرت أخيراً عند «القيادة من الجو»! أمّا روسيا، فما كادت تظن أنها تربح في سورية حتى جاءتها الخسارة من أوكرانيا، حديقتها الخلفية. كما أنها، إلى جانب حليفتها إيران، من أكبر المتضررين من تراجع أسعار النفط العالمية. فبحسب وزير ماليتها انطون سلوانوف تخسر روسيا نحو 40 مليار دولار سنوياً من العقوبات، ومن 90 الى 100 مليار أخرى بسبب تدني اسعار النفط.

بالإنتقال إلى لبنان، وهو متلقٍ سلبي لنتائج السياسات الإقليمية والدولية أكثر ممّا هو فاعل فيها، يظهر ان دولته تقف أمام هول الأحداث بلا حول ولا قوّة. فلا هي قادرة على رسم سياسات فاعلة لاحتواء تداعيات اللجوء السوري، ولا هي قادرة على احتواء التداعيات الأمنية لتلاقي حمم حربه مع حروب الآخرين. جيشها يتخبط بين ضغط حزب الله عليه لخوض حربه في لبنان، وضغط تيار المستقبل عليه لعدم الانخراط في حرب ضد السنّة. وقصارى القول إن العجز اللبناني تعبير عن اللااستراتيجية في مواجهة كل شيء.

في كتابه الصادر بعد 11 أيلول (على الإنترنت)، «إدارة التوحش، أخطر مرحلة ستمر بها الأمة»، يقسم المنظّر القاعدي أبو بكر ناجي التاريخ كما يراه المجاهدون إلى ثلاث مراحل: مرحلة شوكة النكاية والإنهاك، مرحلة إدارة التوحش، ثم مرحلة شوكة التمكين وإقامة الدولة.

وحـــــســـب هـــذه التـــرسيمة الإستراتيجية، والتفاصيل الواردة في الكتاب، يظهر أننا نعيش اليوم مرحلة «إدارة التوحش» تحت قيادة «داعش». فكل ما نعيشه لا يعدو كونه ردّاً على محاولة التنظيم الانتقال من هذه المرحلة إلى مرحلة «شوكة التمكين»، أي إقامة الدولة، التي ربّما يكون الخليفة أبو بكر البغدادي قد تسرّع في إعلانها، كمحاولة لقطف ثمار بلوغ المظلومية السنية أعلى ذراها.

إستراتيجية «داعش» في تحقيق ذلك واضحة: قطع رؤوس الكفار والمتعاونين معهم. وهو لا يخفي ذلك، تعبيراً وتنفيذاً. وما الرؤوس المتطايرة في كل مكان، إلا التعبير الأمضى عن نجاح استراتيجية التنظيم حتى اللحظة. والحال أن الفراغ الإستراتيجي في مواجهة الأخير، لا يمكن سدّه إلا بإستراتيجية شعبية لإبقاء الرؤوس حيث يجب ان تكون. وهذه، لا تزال، مجرّد احتمال، تحوم فوقه شكوك كثيرة.

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٤
'فانتازيا' الاستراتيجية الأميركية في سوريا

رغم مرور نحو ثلاثة أشهر على بدء الهجمات الجوية للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، لم يتضح حتى الآن ما هي الأهداف التي حققها هذا التحالف ولا حجم الخسائر التي مُني بها تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الجماعات الإسلامية المتشددة التي تُقاتل في سوريا، بل حتى أن لا أحد يعرف ما هي الخطوة التالية بعد الضربات الجوية.

أعلنت قوات التحالف عن شنها لأكثر من ألف غارة جوية، استهدفت مراكز قيادة تنظيم الدولة ومراكز تدريب تابعة له ومستودعات أسلحة ومصافي نفط صغيرة تستخرج النفط لصالحه، كما استهدفت مقاتلي التنظيم الذين حاصروا عين العرب (كوباني) شمال سوريا، وقال التحالف إن الحملة الجوية بدأت تحقق أهدافها.

التنظيم الذي يعتبره السوريون أحد أكبر المخاطر على ثورتهم، ويواجه في سوريا خليطا غير متجانس من مقاتلي المعارضة السورية ومقاتلي البيشمركة الكردية ومقاتلين من عشائر سنّية، ويتلقى في نفس الوقت ضربات جوية مستمرة من أقوى دول العالم، لم يتراجع كثيرا على الأرض، ولم يخسر مناطق مهمة.

وكل ما في الأمر أن تمدده قد توقف في بعض المحاور، بل وعلى ما يبدو يكسب بطريقة أخرى، فقد أعلن أنه كسب تأييد السكان المحليين واجتذب مقاتلين جدد، وكل ذلك برأي الكثيرين بسبب عدم وجود حلفاء على الأرض يدعمون القصف الجوي للتحالف.

حاول النظام السوري ويحاول أن يُسوّق نفسه كشريك على الأرض للتحالف، وهو ما لم ولن يحصل، فيما تؤكد المعارضة على أن أهداف التحالف لن تتحقق ما لم يقض على أصل المشكلة، وهو النظام، ودعا -دون فائدة- للاستفادة من طاقات الجيش الحر الذي من المفترض أنه الشريك الطبيعي للتحالف والقوة المطلوبة لملء الفراغ بعد هزيمة الدولة الإسلامية. النظام والمعارضة يريدان مشاركة التحالف، على الرغم من أن لا أحد يعرف بالضبط ما هي أهداف التحالف قريبة المدى ولا الأهداف النهائية.

يبدو للمراقب أن هناك تضاربا في الاستراتيجية الأميركية في سوريا والعراق، فهي في العراق تريد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية بالتعاون مع الحكومة العراقية، بينما تريد في سوريا “عزل التنظيم” وتشكيل معارضة لتحارب الإرهاب ثم تتفاوض مع النظام، وهناك أيضا خلط في الأولويات لدى الإدارة الأميركية، فلا هي تريد إشراك مقاتليها للقضاء على تنظيم الدولة، ولا تريد القضاء على النظام السوري، ولا تريد دعم الجيش الحر كشريك للتحالف على الأرض، فيما ظهر أن المستفيد الوحيد من هذه (الفوضى الاستراتيجية) الأميركية هو النظام السوري الذي التفت لتصعيد هجماته على المعارضة السورية وكثّف هجماته عليها، وترك لقوات التحالف مهمة الانشغال بتنظيم الدولة. لاشك أن هناك “فانتازيا” في الاستراتيجية الأميركية في سوريا، وفي خضم غموض أهداف التحالف الدولي وتناقض مواقف الولايات المتحدة، ضاع السوريون، ومن قبلهم المحللون، فقوات التحالف لن تحقق أهدافها بالقصف الجوي وحده، ولن تحرر أرضا، والولايات المتحدة لن تستطيع رفع رايات النصر المؤزر على القاعدة دون شريك أرضي، ولا يوجد خطة تالية لما بعد القصف الجوي، ولا يعرف أحد من سيملأ الفراغ.

لم يبق لـ “قارئ فنجان” الاستراتيجية الأميركية إلا أن يرى طريقين أو احتمالين قد تنتهجهما الولايات المتحدة، عاجلا أو آجلا، الطريق الأول يعتمد على البدء بتفكيك العلاقة بين سوريا وإيران، وتُجفف منابع الإرهاب بدءا من صانعيه، إيران والنظام السوري والقاعدة معا، وتضرب بقوة وقسوة، عندها ستضمن نهاية لأزمة المنطقة وتوقف توليد العنف والإرهاب، وستُفتح بعدها أبواب الحلول لمشاكل المنطقة. أما الطريق الثاني، فهو التدخل العسكري على الأرض، فدون ذلك تعرف الولايات المتحدة أن الفوضى ستستمر إلى ما لا نهاية حتى لو قُضي على الدولة الإسلامية، وسيشهد الشرق الأوسط مسارات عديدة متشعبة، وستُفرّخ الدولة الإسلامية دويلات، وستبدأ سلسلة من الحروب الأهلية والطائفية والقومية، لن يفيد معها أية مبادرات سياسية.

رغم أن الفكرة الثانية مستبعدة أميركيا ومرفوضة بشكل علني، إلا أن السياسة عادة ما يُخطط لها وراء الكواليس، ولا يُعلن منها إلا رأس جبل الثلج، والقرار الحاسم يُعلن عادة أيضا في اللحظات الأخيرة، بالإضافة إلى أنه لابد من لفت الانتباه إلى أن هذه الفكرة ـ المستبعدة أميركيا حاليا ستجعل الولايات المتحدة منتصرا دون شريك، وهو ما يناسب الأميركي دائما.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان