... وفي نهاية السنة الرابعة، أبدى العالم مؤشرات العجز عن إغاثة اللاجئين السوريين، وواصل نظام دمشق إظهار لا مبالاته الكاملة. أبدى المانحون سأماً من حروب غزة واستعجلوا ضوءاً في آخر النفق، فيما يتحدّث الاسرائيليون عن احتمال حرب قريبة. وأي حرب تطول يصبح التمويل المخصص للإيواء والإطعام والتدفئة أشبه بتمويل للحرب نفسها. في الشهر الأخير، برز خطر العجز الإغاثي في لبنان خصوصاً، شعرت المنظمات بجزع بالغ سُمعَت أصداؤه في نداءات استغاثة أطلقتها. وفي المؤتمر الأخير في برلين، اتضح أن الحاجة الى المال باتت أكبر بكثير من عروض التبرعات لمنطقة لا تنتهي صراعاتها. فخريطة الإغاثات المطلوبة تشمل أيضاً بلداً نفطياً مثل العراق، وهي ماضية في الاتساع: سورية، غزة، اقليم كردستان العراق، لبنان، الاردن، تركيا... بشرٌ كثرٌ دمّرت بيوتهم وأرزاقهم وسُوّيت أحياؤهم وحاراتهم بالحضيض، أو اقتُلعوا من مناطقهم وأرضهم وأُجبروا على التشرّد من قلب غزّة لأنهم يزعجون قوة الاحتلال، من الموصل والأنبار لأنهم مسيحيون أو أيزيديون أو سنّة، ومن معظم مدن سورية وبلداتها لأن نظامهم يعتبرهم مواطنين زائدين، ووجبت مساعدتهم على البقاء. بل إن منظمات الاغاثة تواجه الآن واقعاً جديداً، فعليها أن تساعد أيضاً لبنانيين وأردنيين وأكراداً تأثرت أوضاعهم بوجود اللاجئين على أرضهم.
«نفد لدينا الكلام»، قالت فاليري آموس منسّقة الإغاثة في الأمم المتحدة، «لنصف كامل الوحشية والعنف والاستهانة بحياة البشر» في سورية التي أصبحت من «أكثر الأماكن خطورة على الأطفال في العالم»، فأكثر من خمسة ملايين طفل فيها يحتاجون الى مساعدة فورية لأنهم «يتعرّضون للقتل والتعذيب وللعنف الجنسي من جميع أطراف الصراع، وفي الشهور الأخيرة زادت التقارير عن قتل الأطفال وإعدامهم علناً وصلبهم وقطع رؤوسهم ورجمهم حتى الموت، وأصيب ملايين منهم بصدمات عنيفة من هول ما اضطروا لأن يروه». وهذه خلاصتها قبل أن تغادر مهمتها: «أصبح المجتمع الدولي متبلّداً ازاء الأرقام الجامدة والمأزق السياسي»... لم تعد قادرة على التمييز بين النظام السوري و «داعش» وفصائل اخرى، وإذ تقاربت الأحوال زالت الفوارق أيضاً بين «الدواعش» والاسرائيليين، وبينهم وبين «نظام المالكي» وميليشيات ايران. منطقة موبوءة بإجرام أشد فتكاً من «الايدز» و «ايبولا».
بالفعل لم يعد أحد يحصي الضحايا. تجمّد الرقم المتداول عند حدّ المئتي ألف انسان قتيل في سورية، كما لو أنه أقصى ما يتقبله الضمير في مقتلة تدور أمام الأنظار، كما لو أن العالم يعتبره «معقولاً»، «مقبولاً»، شرط أن يتوقف، لكنه لا يتوقف، بل إنه فاق المئتي ألف قبل زمن طويل من اعتماد هذا الرقم المروّع معياراً للفظاعة التي قتلت أي ارادة دولية لمواجهتها. الفظاعة نفسها سبق أن ابتُلعت مراراً في غزة، وفي العراق، من دون أن تحرّك المجتمع الدولي. ماذا عن مئات آلاف المفقودين وما هو مصيرهم؟ وماذا عن اللاجئين في المخيمات، هل يعتقد أحد أنهم يعيشون أم يموتون بشكل آخر؟
كالعادة أفلتت اسرائيل العنان لغرائزها هذه السنة فشنّت حربها الثالثة (خلال ستة أعوام) على غزة، وكرر العالم تركه مجرمي الحرب يفلتون من العقاب، حتى أن هؤلاء لا يترددون في التنبيه الى الأخلاقيات: بنيامين نتانياهو يقول إن اوروبا اذ تعترف بالدولة الفلسطينية لم تتعلّم من دروس «الهولوكوست»، لكن هل تعلّم هو شيئاً؟.. هذا «النموذج» الاسرائيلي فعل فعله طوال العقود الستة الماضية في شيطنة الأنظمة العربية، فغدت سلطات احتلال لبلدانها وشعوبها وصار حكامها، تحديداً في سورية والعراق، نسخاً مقلَّدة من شارون ونتانياهو. يعيب الاسرائيليون على الآخرين نسيان «المحرقة» فيما هم يعيدون انتاجها، وعاب بشار الاسد ونوري المالكي وسيدهما الايراني على عرب وغير عرب دعمهم لـ «الارهاب» فيما كانت الأنظمة الثلاثة تتفنن في تصنيع الوحش «الداعشي» حتى صار لفترة حليفها الرابع في تقتيل السوريين والعراقيين (من كل المذاهب)، ثم راحت تنسب نشأته وصعوده الى مصادر شتى، تارة الى تركيا وطوراً الى اميركا وإسرائيل، ما يؤكد المؤكّد وهو أن الجميع شركاء في ذلك التقتيل، وأن «داعش» صنيعتهم مثلما هو الآن عدوّهم الأول.
الأخطر أن الجميع يبحثون حالياً عن أفضل السبل لاستثمار وحشية «داعش» في خدمة مصالحهم، وعلى رغم أن صناعة السلاح تعيش أكثر مراحلها ازهاراً بعد سبعة أعوام من التراجع (أرقام السنة تقترب من 90 بليون دولار)، إلا أنهم يتلكأون في تقديم الطعام والرعاية الصحية الى اللاجئين (8 ملايين نازح سوري و12 مليوناً في الخارج يحتاجون الى المساعدة، وكذلك نحو مليوني عراقي، عدا أكثر من مئتي ألف غزّي بلا مأوى، وفقاً لآخر تقديرات للأمم المتحدة). وفي غمرة المواجهة مع «داعش»، ينسى الجميع الظروف التي ساهمت في ظهوره، والأسباب التي يقولون إنهم يريدون تبديدها. لكن مجريات الحرب تبدو، على العكس، حافزاً لاستيلاد جيل آخر من الارهاب: «التحالف» ونظام الاسد يضربان معاً في الرقّة، الأول يستهدف «داعش» والآخر معارضيه من المدنيين. ويغير «التحالف» الذي تقوده اميركا على مواقع في العراق ثم يتقدّم الايرانيون وميليشياتهم لغزوها واحتلالها. خلال ذلك، وفي السياق نفسه، كانت حرب اسرائيل (بتأييد اميركي) على غزّة، ثم «الفيتو» الاميركي على أي مشروع فلسطيني في مجلس الأمن» وكأن واشنطن تقول للفلسطينيين إن قبول الاحتلال الاسرائيلي هو أفضل الخيارات المتاحة لهم طالما أن أي مقاومة حتى السلمية مرفوضة وأن المفاوضات أضحت حلقة مفرغة.
مع دخول «داعش» المعادلة، صارت الأولوية لتقتيل أكبر عدد من قادته ومقاتليه، فلا خيار معه سوى إلغائه دوراً ووجوداً، فهو لا يعرض التفاوض ولا أحد يرغب في التفاوض معه. ولعل المواجهة أظهرت «فائدة» وحيدة لهذا التنظيم، اذ إنه وسيلة الكثير من الأطراف لتحقيق مكاسب، فظهوره أتاح للأميركيين عودة غير مستَحَقَّة كـ «منقذين»، وسوّغ للإيرانيين تدخلاً أكثر سفوراً وفجوراً كـ «محاربين ضد الارهاب»، وفتح للأتراك بازاراً يساومون فيه على مكانتهم ودورهم كـ «قادة الاسلاميين» في الاقليم، فيما كرّس غياب العرب أكثر فأكثر، حتى أن «الحرب على داعش» باتت مدخلاً لتحديد مستقبل سورية كبلد موحّد أو مفكك، وكذلك مستقبل العراق. كما لو أن كل كلمة في اسم هذا التنظيم تلغي ما قبل وما بعد، فلا هو «دولة» ولا هو «اسلامي» ولا هو «العراق» أو «الشام». أما إضعافه والقضاء عليه فقد يكونان ارهاصاً لإنشاء كيانات عدة بمثابة «مكافآت» للدول النافذة في الاقليم، طالما أن دستور عراق ما بعد الاحتلال الاميركي يمنح الحق في «الفدرلة» كترجمة عربية خاطئة لـ «الانفصال»، وطالما أن خطة ستيفان دي ميستورا تلحظ امكان انشاء كيانات لا مركزية غير مرتبطة بأي مركز. أما اسرائيل فقد تكون مكافأتها بالمساعدة في تصفية قضية شعب فلسطين وأرضها.
ما الهدف من الحرب الراهنة، أهو القضاء على «داعش»، ثم ماذا بعد؟ لا شك في أن عدم الوضوح بالنسبة الى «ما بعد» يلقي بظلال قاتمة على «وحدة» الهدف. فما نعتقد أن اميركا وايران تحاربان من أجله قد لا يكون واقعياً، فكلاهما تحارب خارج أرضها، وفي اتفاقهما أو اختلافهما إشكالات تتعلق بالشعب والأرض اللذين تريدان طرد «داعش» منهما. وبالنظر الى ما هو جارٍ، فإن الحرب، من رؤية سياسية للعراق وسورية وكذلك لفلسطين، تبدو منذ الآن وصفة لخطرين مستقبليين: أولهما ان المعاناة الانسانية للاجئين والمهجّرين لن تنتهي قريباً، بل ستتفاقم وتؤدي الى مآسٍ أكبر، والآخر أن هذه المآسي معطوفة على «انتصار» تسجّله ايران ستعني ترسيخاً وتجديداً للإرهاب أياً تكن تسمياته...
المجتمع السُّوري مجتمعٌ فسيفسائيٌّ، سوريا تركيبةٌ فسيفسائيَّةٌ، التَّركيبة الفسيفسائية السُّورية... تعابير كثر تكرارها بمبالغة غير مسوغة أحياناً مع انطلاقة الثَّورة السُّورية. كان التَّكرار محليًّا ثُمَّ صارت تلوكه كلُّ الألسن واللغات ووسائل الإعلام والتَّصريحات السِّياسية والإعلاميَّة حَتَّىٰ بتنا نظنُّ أنَّ الفسيفساء السُّورية هٰذه غزو فضائيّ أو نيزك سيخبط الأرض بذيله أو نفسه.
كلا أيها السَّادة. المجتمع السوري ليس مجتمعاً فسيفسائيًّا. وهٰذه أكبر خدعة ضُحِك بها علىٰ السوريين الذين تقبلوها بسذاجة من دون أدن يدروا أبعادها.
الفسيفساء السُّورية هٰذه عبارةٌ غير جديدةٍ في حقيقة الأمر. لقد كان السُّوريون علىٰ هبل يكررونها فرحين بها، ويتغنون فرحين طربين بأنَّ سوريا مجتمع فسيفسائي وكأنهم يفرحون بفوزهم بكأس العالم!!!
لم نجد أبداً في أدبيَّات ما قبل البعث مثل هٰذا الوصف لسوريا، وإن مرَّ فمرَّ عرضاً أو شعراً غير مقصود. منذ استلم البعث السلطة في سوريا، وأنا لا أدين البعث بذاته أو بكونه حزباً، بدأ ترويج هٰذه البضاعة بطريقة ذكيَّة حَتَّىٰ صارت أنشودة يتغنى بها السُّوريون ويفخرون بها.
لا شك في أنَّ من يروج مثل ذۤلكَ بمثل هٰذا الذكاء يهدف هدفاً كبيراً. الهدف الكبير قد يكون خيراً وقد يكون لا يكون خيراً. وما وصلت إليه سوريا اليوم يبدي حقيقة تسويق هٰذا التوصيف. التَّاريخ لا تصنعه مصادفةٌ، وهٰذا عنوان كتاب باتريك سيل عن حافظ الأسد.
مع انطلاقة الثَّورة السُّورية بدأت التَّجليَّات الحقيقيَّة لهذه العبارة فصرنا نسمع عن التشكيل الفسيفسائي في سورية وخطورة هٰذه الفسيفسائية، وخصوصية هٰذه الفسيفسائية، وضرورة مراعاة هٰذه الفسيفسائية...
لقد بدا التصوير وكأنَّ سوريا استثناء تاريخيٌّ لا نظير له في العالم. وكأنَّ سوريا هي الوحيدة في هٰذا التشكيل الفسيفسائي.
والحقيقة أنَّ هٰذا التَّصوير ذاته هو الوهم التاريخي الأكبر الذي ساهم في صوغه فكر لئيم قذر. سوريا لا تختلف عن أيِّ بلدٍ في العالم علىٰ الإطلاق، بل إنَّ سوريا تكاد تكون هي الأقل تنوعاً في العالم إذا ما قورنت بالدُّول الأُخْرَىٰ. فلماذا سوريا دون خلق الله توصف بالفسيفسائية؟
لننظر في التَّركيبة السُّكَّانية السُّورية وما يدور من دندنة علىٰ وتر التَّركيبة الفسيفسائية السُّورية لنعرف حقيقة هٰذه العبارة المخربة والمدمرة. التَّركيبة السُّكَّانية لأيِّ دولة في العالم ينظر إليها من إحدىٰ زاويتين منفصلتين لا علاقة لأيٍّ منهما بالأُخْرَىٰ. هاتان الزاويتان هما العرقية أو الدينية/ الطائفيَّة. وأكرر سلفاً أنَّهُ لا يجوز الجمع بينهما لأنَّهُ لا يوجد بينهما أيُّ رابط يسمح بجمعهما معاً، فإمَّا أن نبحث في التَّركيبة علىٰ الأساس العرقي أو علىٰ الأساس الديني والطائفي. يشبه ذۤلكَ تماماً تصنيف أفراد مجتمع ما علىٰ أساس العائلات أو علىٰ أساس العمل. ففي كلِّ عائلةٍ يوجد من يعمل مختلف الأعمال. فكيف يمكن التَّصنيف علىٰ هٰذين الأساسين المتفارقين معاً؟
من النَّاحية العرقيَّة نحن أمام تصنيفين. التَّصنيف الأكثر اشتهاراً وتداولاً هو الذي يقول إن السُّوريين يتوزعون عرقيًّا علىٰ النَّحو التالي:
ـ العرب 93%
ـ الكورد 5 %
ـ آخرون([1]) 2 %
التصنيف الثاني علىٰ أساس ما كان يؤكده الأكراد قبل الثَّورة السُّورية، فهم كانوا يقولون إن نسبة الأكراد هي 8%، وكان التصنيف الرائج علىٰ هٰذا الأساس هو:
ـ العرب 91%
ـ الكورد 8 %
ـ آخرون 1 %
ولٰكنَّ الأكراد بعد الثَّورة، وخاصة عند إثارة الكلام في نسب التَّركيبة السُّكَّانيَّة السُّوريَّة صاروا يقولون إنهم 15%، وثَمَّة من يقول منهم إنهم يمثلون 20%، ورُبَّما تكون نسبتهم بعد فترة أكثر من نصف سوريا. الكلام سهل جدًّا.
السُّؤال الآن: أين الفسيفسائية العرقيَّة في سوريا؟ أيعقل أن تكون مثل هٰذه التَّركيبة فسيفسائيَّة؟
إذا قارنا هٰذه النِّسب مع معظم دول العالم، ولن نقول كلها، وجدنا أنَّ سوريا من أقلِّ دول العالم تنوعاً عرقيًّا علىٰ الإطلاق، انظروا إلىٰ أي دولةٍ أوروبيَّة والتنوع العرقي فيها، أليست سوريا هي الأقل؟ انظروا إلىٰ كثيرٍ من الدُّول الآسيويَّة والعربيَّة ومعظم دول القارتين الأمريكيتين ولا أتحدث عن كندا والولايات المتحدة فالتنوع فيها منقطع النَّظير... أليست سوريا هي الأقل تنوعاً عرقيًّا؟
أيُّ دولة من كلِّ هٰذه الدول تراعي حقوق الأقليات بالطريقة التي يريدون فرضها علىٰ سوريا والدول العربية؟؟
أي دولة هي التي يثار فيها حديث عن الأقليات بالطريقة التي تثار فيها عن سوريا، وكذۤلكَ الدُّول العربيَّة؟
لماذا سوريا فقط علىٰ رأسها ريشة، وفيها فقط تثار هٰذه الأحاديث؟
المجتمع الدولي لئيم لا يريد الخير لنا. هٰذا صحيح. ولٰكن لماذا يكون أبناء مجتمعاتنا أداة غبية لهذا اللؤم ويسيرون مع تفتيت المجتمع والدولة؟
قد يقول قائل هنا إنَّ المشكلة هي في التَّنوع الطَّائفي والديني وليس العرقي.
حسناً. سنذهب معهم فيما يريدون، ما الذي يوجد تحت باب التَّنوع الطَّائفي؟
إذا نظرناً إلىٰ المجتمع السُّوري من النَّاحية الطَّائفيَّة وجدنا أنَّ التَّشكيلة الطَّائفيَّة السُّوريَّة لا تختلف أبداً عن أي تشكيلةٍ طائفيَّة في معظم دول العالم. لا تختلف بالمطلق والعام، ولٰكن إذا نظرنا إليها من ناحية النِّسب سنجد أنَّها من أقل دول العالم تنوُّعاً طائفيًّا يدعو إلىٰ الخلاف أو الاختلاف أو الدُّخول في أيِّ سجالٍ حقوقيٍّ.
نحن أمام أكثر من إحصاءٍ أو تقديرٍ إحصائيٍّ. للتَّوزع السُّكَّاني علىٰ أساسٍ دينيٍّ في سوريا. علىٰ أساس دينيٍّ لا طائفي لأنَّهُ يفترض منطقيًّا أن طوائف الدِّين الواحد لا تحتسب تنوُّعاً دينيًّا. ومع ذۤلكَ نحن سنعد الطَّائفة ديناً لإرضاء طموح الفسيفسائيين.
التَّصنيف الأول وهو التَّصنيف الرَّسمي للدولة السُّورية، وهو تصنيفٌ مسيسٌ فيما يخص العلويين لأنَّ السلطة تريد رفع نسبتهم قدر المستطاع لعدم ظهور مدىٰ أقليتهم بالنسبة للتركيبة السُّكَّانية. ففي حين أنَّ النِّسبة في كلِّ التقديرات لا تزيد عن 8% فقد جعلها تصنيف الدولة 11.5%، وكذۤلكَ رفع في نسبة الدُّروز وكلَّ الأقليَّات الأُخْرَىٰ فوق الحقيقة، فجاء التصنيف علىٰ النَّحو التَّالي:
مسلمون (سنة) 76.1 %.
علويون 11.5 %.
مسيحيون 4.5 %.
دروز 3 %.
إسماعيليون 1 %.
شيعة اثني عشرية 0.4 %.
المجموع وفق هٰذا التصنيف 96.5%، يبدو أن الأقليات الدينية الأُخْرَىٰ افتراضاً هي 3.5%.
التَّصنيف الثاني هو التَّصنيف الأمريكي الذي صدر بعد فترةٍ من التَّصنيف الرَّسمي السُّوري، ولا يختلف عنه كثيراً في المبدأ. فحافظ تقريباً علىٰ نسبة العلويين، ورفع نسبة المسيحيين إلىٰ 8% الأمر الذي لم يكن في تاريخ سوريا منذ ما بعد الفتح الإسلامي إلىٰ اليوم. وكان التوزيع علىٰ النحو التالي:
مسلمون (السنة) 77 %.
علويون 10 %.
مسيحيون 8 %.
دروز وإسماعيليون وشيعة 3 %.
آخرون 2 %.
التَّصنيف أو التَّوزيع الثَّالث هو الذي قدمه عبد الحليم خدام وزير الخارجيَّة ونائب رئيس الجمهورية طيلة حكم حافظ الأسد وسنوات بشار الأولىٰ، ولديه المعلومات الفاصلة في ذۤلكَ فيما يفترض، وهٰذا التَّوزيع الذي قدَّمه علىٰ النَّحو التالي:
مسلمون (السنة) 80 %.
علويون 9 %.
مسيحيون 5 %.
آخرون 6 %.
من مقاطعة جميع التَّقديرات الإحصائيَّة، وكلها تقريباً تبالغ في نسب الأديان كلها فيما تقلل من نسبة المسلمين (السنة) نجد أنَّ التَّركيبة السُّكَّانية هي تركيبة إسلاميَّة خالصة، ونسبتهم الحقيقة نحو 85%، وأكثر أقلية دينية هي العلويون الذين لا تزيد نسبتهم بحال من الأحوال عن 8%، وبعدهم فوراً المسيحيون الذين لا تزيد نسبتهم حسب تقديرات المسيحيين السُّوريين عن 3%، ومع ذۤلكَ ففي أكبر التقديرات لا تزيد نسبتهم عن 5%. ومع ذۤلكَ سنقبل جدلاً وافتراضاً نسبة ال 80% للمسلمين، وعشرين بالمئة للآخرين بينهم 13% للعلويين والمسيحيين.
فبماذا تختلف هٰذه التَّركيبة في المبدأ عن تركيبة معظم دول العالم في الغرب والشرق والشمال والجنوب؟؟؟ بماذا تختلف سوريا عن دول أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا من ناحية التَّركيب الديني؟ فلماذا تعد التَّركيبة السُّورية فسيفسائيَّة ولا تعدُّ الأمريكية كذۤلكَ أو الفرنسيَّة أو الهنديَّة وكلها تفوق التَّركيبة السُّورية فسيفسائيَّة؟؟؟
رُبَّما هناك دول أقل من سوريا في هٰذا التنوع، ولٰكنَّ سوريا هي أقل من معظم دول العالم في هٰذا التَّنوع، وخاصَّة من الجانب الذي يستدعي الإرباك أو الاختلاف في تحديد هويَّة الدولة. فأي دولة فيها 80 بالمئة من السُّكَّان من طبيعة واحدة مثل سوريا؟
أستثني القليل من الدول، ولٰكن بالتأكيد سوريا من أقلِّ دول العالم تنوُّعاً يستدعي الخلاف في تحديد الهوية من الناحية الدينية/الطائفية، وهٰذه دول العالم أمامناً وتركيباتها أمامنا.
فلما يجب علىٰ سوريا أن تمزق هويتها إرضاء للغرب أو الشَّرق أو الأغبياء؟
لماذا سوريا فسيفساء وليست إيران ولا الباكستان ولا أمريكا ولا كندا ولا فرنسا ولا الهند...؟؟؟؟
سؤالٌ سنظلُّ نكرِّره: الآخرون يريدون لنا نتمزق فلماذا نساهم في تمزيق وطننا؟
هنا قد يوجد من يتفذلك ويقول: أنت نظرت إلىٰ الأمر من زاويتين العرقيَّة مستقلة عن الطائفية والطائفية مستقلة عن العرقيَّة. ماذا لو دمجنا الأمرين معاً ألن يكون هناك تنوعٌ كبيرٌ وخطيرٌ؟
هنا أيضاً وهمٌ جديدٌ وتضليلٌ خطير انطلت لعبته في العراق عندما قسم هٰذا التقسيم المزدوج فقيل الشيعة 40%، المسلمون (السنة) 30%، الأكراد 30%!!! لاحظوا هٰذا الخلط فالشيعة عرب يشتركون مع المسلمين (السنة) بالعرق، والأكراد مسلمون (سنة) يشتركون مع العرب المسلمين (السنة) بهٰذا. فكيف اتَّسق هٰذا التوزيع؟ اتَّسق لغاية التقسيم والتَّفتيت الذي أرضى الشِّيعة والأكراد. إنَّهُ تقسيمٌ يشبه تقسيم أفراد مجتمع علىٰ أساس الطول، ثمَّ علىٰ أساس العائلة، ثمَّ جمع التقسيمين!!
وعلىٰ رغم ذۤلكَ وإرضاء لمطامع الفسيفسائيين سنذهب معهم في هٰذا التقسيم. فماذا سيكون؟
إذا قسمنا سوريا بهٰذا الاعتبار السريالي أي عربي مسلم، عربي علوي، عربي مسيحي، عربي شيعي، عربي درزي، عربي إسماعيلي، كردي مسلم، أرمني مسيحي، شركسي مسلم، آشوري مسيحي... إلىٰ آخر هٰذه الهستريا، فسنجد أنَّ العرب المسلمين (السنة) هم أكثر من 70%، ثمَّ الأكراد والعلويون بنسبة 8% لكلٍّ منهما، وواحد وأقل من واحد بالمئة لكل الأصناف الأُخْرَىٰ، علىٰ النحو التالي:
حَتَّىٰ بهٰذا التَّوزيع السِّريالي الهستيري تبقى هويَّة المجتمع السُّوري هي ذاتها، وأكثر الأقليَّات وجودهاً هي أقل من أن يحقَّ لها المجادلة في هويَّة المجتمع والدَّولة. وما خلاها من أقليَّات الأصناف الأُخْرَىٰ أقل من نصف واحد بالمئة لكل منها علىٰ الأكثر. وهي كلها نسب موجودة في كل دول العالم ولا تثار حولها أي نقاشات أو جدالات تحت أي مسمى.
مهما أثير من اعتراضات فإنها لا تغير الحقيقة، وتتهاوى أمام الواقع الصَّريح هو الهويَّة الصَّريحة للمجتمع السُّوري التي لا تختلف، في أسوأ تقدير، عن معظم دول العالم من الناحيتين العرقية والطائفية أو الدينية. ومع ذۤلكَ لا يوجد أي تشريعات أو محاصصات طائفية ولا عرقية في هٰذه الدول كلها. توجد دولة مواطنة، دولة قانون. نحن لا نريد أي محاصصة في دولتنا، ولن نقبل بأي محاصصة. نحن نريد دولة المواطنة والقانون.
إذا كان صحيحاً أن إيران أرسلت قوات عسكرية «نظامية» إلى سوريا للقتال في دير الزور بحجة مواجهة تنظيم «داعش» فإن هذا يعتبر تطوراً في غاية الخطورة إذْ أنها بهذه الحجة ستقوم بإحتلال دولة عربية رئيسية وأساسية وإذْ أن هذا سيشكل تهديداً لكل الدول المجاورة بما فيها تركيا التي بقيت على مدى الأربعة أعوام الماضية تتحاش تردي خلافاتها مع طهران ولأسباب كثيرة ومتعددة أهمها المصالح الإقتصادية التي قفزت في السنوات الأخيرة إلى أرقام فلكية.
والمعروف أن التدخل الإيراني في سوريا كان منذ اليوم الأول الذي إنطلقت فيه شرارة الثورة السورية في عام 2011 ولكن هذا كان قد تم من خلال الميليشيات المذهبية التي تم إستيرادها حتى من أفغانستان وحتى من باكستان وبالطبع من إيران نفسها ومن العراق وذلك بالإضافة إلى كبار الجنرالات من حراس الثورة الإيرانية وفي مقدمتهم النجم الساطع قاسم سليماني وبالإضافة إلى ميليشيات حزب الله (اللبناني) ‼.
إنه تطور خطير جداً وهذا يؤكد كل ما قيل عن أن إيران ومعها هذا النظام السوري قد ساهمت في إختراع «داعش» والهدف هو إلصاق تهمة الإرهاب بالمعارضة السورية وهو إظهار أن نظام بشار الأسد مثله مثل كل الدول المنضوية في إطار التحالف الدولي لديه الرغبة والقدرة للمشاركة في هذه الحرب الكونية التي تشن على هذا التنظيم الذي لم يطلق ولا طلقة واحدة ضد القوات الحكومية السورية والذي لم يتفوه ولا بكلمة واحدة ضد نظام الولي الفقيه رغم كل ما يفعله في العراق وفي «القطر العربي السوري» وفي لبنان واليمن وفي المنطقة كلها.
والغريب والمستغرب هنا هو أن الولايات المتحدة تصمت صمت أهل القبور إزاء هذا التطور الخطير جداً الذي يستهدف أمن هذه المنطقة كلها وإن اسرائيل تفعل الشيء نفسه وهذا يعني أن وراء الأكمة ما وراءها وأن هذا التردد الأميركي بالنسبة للأزمة السورية المتفجرة ليس لا مجرد خطئ في الحسابات والتقديرات ولا مجرد مناورات لإسقاط نظام بشار الأسد بدون إغراق الشرق الأوسط بحروب مدمرة قد لا تنتهي لعقود مقبلة عديدة.
إعتقد كثيرون أن هدف زيارة رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لارجاني الأخيرة إلى سوريا ،التي شملت العراق ولبنان أيضاً، هو إقناع بشار الأسد بالحل الذي لا يزال غامضاً لإنهاء الأزمة السورية لكن إتضح من خلال تصريحات هذا المسؤول المقرب جداً من مرشد الثورة علي خامنئي أن المعلومات التي تتحدث عن وصول قوات إيرانية إلى دير الزور فيها الكثير من الصحة فإيران لا يمكن أن تفرط بهذا النظام الذي يشكل نقطة الإرتكاز لمشروعها التمددي في هذه المنطقة والذي كان له الدور المؤثر خلال حرب الثمانية أعوام العراقية–الإيرانية ولهذا فإن إيران لن تسمح بإزاحة نظام دمشق حتى وإن هي إضطرت لإرسال كل ما تملكه من ميليشيات وقوات عسكرية إلى الأراضي السورية.
إن إيران هي المسؤولة ،ومعها روسيا بالطبع، عن كل هذا الدمار المروع الذي حلًّ بسوريا وعن نزوح الملايين من السوريين من بلدهم وعن قتل مئات الألوف من هؤلاء وإن إيران عندما ترسل قوات إلى دير الزور بحجة مواجهة تنظيم «داعش» ،الذي بإمكانها مواجهته في العراق، فإنها في حقيقة الأمر تستهدف تركيا وأنها تستهدف المنطقة كلها والغريب أن الولايات المتحدة لا تحرك ساكناً إزاء هذا التطور وإن إسرائيل تكتفي بمتابعة هذه الأخبار وكأنها ليست مستهدفة وكأنها ليست في هذه المنطقة فهل أن هناك مؤامرة ستكشف حقيقتها الأيام المقبلة وهل أن هناك لعبة دولية جديدة يا ترى!!
لم تعد الشعارات خبزاً يومياً للشعب السوري، كذلك الأحلام والطموحات لم تعد متعته الروحية السورية. عندما تغيب ملامح الحياة، ويصبح العيش نضالاً لحظياً في وجه الموت الذي نبتت له آلاف الأذرع، ونُفخت فيه مثلها من النيات، لا يعود من المجدي الوقوف في وجه الأسئلة الكبرى، فمساحات الوعي المترف تضيق حتى تكاد تنعدم، بل إن الأهداف تتواضع، وتنحشر في زاوية المثالية المؤجلة التي لا مكان لها في واقع يفرض، مع شروق كل صباح، ذرائعيته النهمة.
لم يعد البركان يحرق المناطق المشتعلة، فحممه وصل لهيبها إلى الشواطئ المغمورة بالماء، ولم يعد للماء قدرته على إطفاء حرائق الجوع، وانعدام الأمن والأمان وانغلاق سبل العيش. وطن منكوب من أقصاه إلى أقصاه، يلوب أبناؤه خلف قطرة أمل ترطب أرواحهم اليابسة، ولا أمل. لماذا مطلوب من الآباء أن يقدموا أبناءهم وقوداً لحرب لا ترتوي، ولا تريد أن ترتوي؟ وفي المقابل، من بقي على حدود الموت يحاصره الهلاك بأنياب مدماة، فلا الجوع يرحم، ولا البرد، ولا المرض، ولا شيء في هذه الحياة التي لا تشبه الحياة، في هذا الواقع البائس البارع في سورياليته؟
صارت أحلام غالبية السوريين هي الفرار، الهروب، الخلاص من طاحونة الموت، ومن إعجاز السؤال: لماذا كل هذا الموت ومن يدعمه؟ فنراهم لاجئين في دول الجوار، وفي مناطق أبعد وأكثر بعداً، حاملين معهم خيباتهم، وذاكرة تنمو وتتفاعل في أعماقهم بأشكال شتى.
إن كان هناك بقية من حلم بوطن سوري واحد، قادر على العيش مستقبلاً، فلا بد من الالتفات إلى مشكلات متنوعة وعديدة، تتمكن من السوريين، ليست المشكلات هي التي يواجهها الداخل السوري، على جسامتها، فحسب، بل مشكلات السوريين في الخارج، أولئك الذين هجّرتهم الحرب الرهيبة من بيوتهم، فطفروا في بقاع الأرض.
ينشغل العالم بمشكلات اللاجئين، خصوصاً المقيمين في دول الجوار وفي المخيمات، الذين يتعرضون لأبشع أنواع العذاب اليومي والجوع والفقر والبرد، أطفال بلا مدارس، ولا رعاية صحية، ولا أحلام حتى، يكبرون وتكبر الأسئلة في مداركهم، من دون أن يلاقوا أجوبة عليها.
السوريون اللاجئون إلى الدول الأوروبية، منهم من ركب المخاطر، وجازف بحياته، وفقد من فقد في رحلة الوصول إلى بلد أوروبي، طمعاً بما تقدمه حكومات هذه البلدان للاجئ من مسكن وضمان صحي، وراتب يخوله العيش مع أولاده، لهم مشكلاتهم الاجتماعية والإنسانية، كما لأمثالهم من لاجئي المخيمات، يجب الالتفات إليها وضبطها واحتواؤها، قبل أن تتفاقم وتصبح عقداً مستعصية، أو قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في لحظة ما، ما سيؤدي إلى نتائج سيئة ترتدّ إليهم.
للحروب طبائعها ونتائجها وإمعانها في هتك الشعوب والمجتمعات، والتاريخ حافل بهذه "المحافل" التي تدلّ على أنها الوضع الطبيعي للبشرية، قياساً بفترات السلام التي عمت العالم منذ القدم، وكانت قصيرة، بحيث يمكن نسيانها. هناك شعوب استفادت من تجاربها الكارثية، فنهضت وبنت دولاً وأوطاناً، وشعوب أخرى تشبهنا لا زالت تجتر الماضي، وتبتلعه، وتعتبره المثال والنموذج، وإكسير حياتها. ولقد برهنت الحرب الدائرة في سورية أننا شعب مغيّب الوعي، وقاصر عن إدارة حياته، والانتباه إلى مشكلاته وحلّها، وهذا ما كانت ملاحه جلية في بعض جوانبها في السنوات الماضية. كانت برامج التثقيف الصحي وفعالياتها تُواجه بمصاعب وتحديات كثيرة، على علاقة بمستوى الوعي والتعلق بالموروث الشعبي والمقولات التي هي بمثابة قوانين غير منظورة، تدير حياة المواطنين في مناطق سورية عديدة، فمفهوم تنظيم الأسرة والرعاية الصحية الأولية كان أمراً مرفوضاً بالنسبة لهؤلاء الناس، يعتبرونه تعدياً على منظومتهم الحياتية، وانتهاكاً لمعارفهم وعلومهم التي اكتسبوها بالتوارث، مدعومة بالفتاوى الدينية والعشائرية، أو بما يدعم تماسك القبيلة ويعزز بداوتها، فكانوا يهرّبون أطفالهم أمام فرق التلقيح الجوالة، ويستهزئون ببرامج التوعية وتوصياتها حول تحديد النسل والفواصل الزمنية اللازمة بين حمل وآخر، مراعاة لصحة الأم، ولإفساح المجال للطفل، لكي يأخذ حصته من الاهتمام والرعاية. كيف لا، ولا زال نمط التفكير الزراعي، أو البدوي، يتمسك في العقل الجمعي للناس؟ الحاجة إلى الأبناء للاستفادة من قوتهم الإنتاجية في الأرض، وزيادة أعداد القبيلة ورجالها تحديداً، على الرغم من دخول المدنية إلى الحياة، إلاّ أن كثرة الإنجاب وتعدد الأولاد بقي هدفاً بحد ذاته، هدف مرتبط بشبكة من الضروريات والحوامل المعرفية، ومسندة إلى موروث شعبي، تحمله الأمثال والحكايات "فالولد يأتي ويأتي رزقه معه"، ربما دفعت المرأة ضريبتها على كل الأصعدة، وبعدها الأبناء المحرومون من حقوق الطفل بداية، والإنسان البالغ فيما بعد.
" تقول إحصائية إنه في تركيا وحدها وُلد أكثر من سبعة وستين ألف مولود لدى اللاجئين السوريين، في أثناء الأزمة "
في مخيمات اللجوء، لم يختلف الوضع، على الرغم من الحياة البائسة التي يعيشها السوريون، والذي يتابع أمر الزواج والتكاثر هناك يصاب بالذهول، جوع وفقر وبرد ومستنقعات وأمطار وثلوج وطين وأوحال وأطفال عراة ومساكن لا تحمي من برد أو حر، ومع هذا يستمر الإنجاب. تقول إحصائية إنه في تركيا وحدها وُلد أكثر من سبعة وستين ألف مولود لدى اللاجئين السوريين، في أثناء الأزمة. وفي البلدان الأوروبية، لا يختلف الأمر كثيراً، تدمي بعض القصص القلب، وتدفع إلى الذهول، سيدة لا يتجاوز عمرها 22 عاماً تضع وليدها الخامس في مدينة ألمانية، وقد حصل الحمل في أثناء رحلة الهجرة غير الشرعية التي استمرت ستة أشهر.
سوريون يعيشون على ما فطروا عليه، في مجتمعات يمكن أن تقدم نموذجاً للحياة البديلة التي هي أكثر ما يحتاجون إليها، لكنهم، في غالبيتهم، منغلقون على ذواتهم، غير مكترثين بالانفتاح على المجتمعات المضيفة، وغير طامحين بتعلم لغتها التي هي مفتاح الدخول إلى تلك المجتمعات، والاستفادة من خبرتها التي منحتها إياه التجارب. كذلك في المخيمات وأماكن اللجوء الأخرى التي يعيش فيها السوريون، تحت رحمة ظروف شديدة الشراسة، لا تليق بإنسانيتهم، هم يحتاجون إلى التوعية. يركز معظم المشتغلين في قضايا اللاجئين على الحالة الإغاثية والمعيشية، بالدرجة الأولى. لكن، من المجدي العمل على رفع مستوى الوعي، من المفيد تنبيه اللاجئين إلى تبعات التكاثر السريع والإنجاب المتعدد، في ظروف من هذا النوع. من المجدي، أيضاً، العمل على تشجيع السوريين، في الدول الأخرى، على محاولة الاندماج مع المجتمع المضيف، ومساعدتهم على إدارة حياتهم بشكل يضمن لهم الاستفادة القصوى من المعطيات المتاحة أمامهم.
“سابقة” مرعبة لامريكا واسرائيل معا.. واحراج كبير لسلطات عمّان.
لم يكن متوقعا ان تنجح دفاعات “الدولة الاسلامية” في اسقاط طائرة حربية من طائرات “التحالف الستيني” الذي يقصف مواقعها ليل نهار، لان الطائرات المستخدمة في هذا القصف “اف 16″ حديثة ومتطورة اولا، ولان الانطباع السائد عدم وجود صواريخ مضادة لدى اي من الاطراف العربية قادرة على اسقاط هذا النوع من الطائرات.
نشرح اكثر ونقول ان طائرات “اف 16″ هذه، والاسرائيلية والامريكية منها على وجه الخصوص، اغارت مئات المرات على سورية والعراق، وما زالت، وكنا نتلهف على اسقاط ولو واحدة منها، لوضع حد لعربدتها ولكن دون جدوى، وكأن قدر العرب والمسلمين انتظار “طيور ابابيل” للقيام بهذه المهمة التي ظلت مستحيلة حتى اليوم.
دفاعات “الدولة الاسلامية” نحجت في كسر هذه القاعدة، وسجلت سابقة مهمة في هذا المضمار، ولكن للأسف ضد طائرة اردنية من الطراز نفسه “اف 16″ اسقطتها واسرت طيارها الشاب، ومن المفارقة انها حصلت على هذه الصواريخ الامريكية الحديثة من المعارضة السورية “المعتدلة” وحصلت عليها لاسقاط طائرات حربية سورية، وسبحان مغير الاحوال.
هناك اسئلة كثيرة تفرض نفسها في هذا الصدد، ابرزها هو عما اذا كانت الطائرات الحربية التي تبيعها امريكا الى حلفائها العرب من النوع “المنزوع الدسم العسكري” اي اقل كفاءة، وتحرم عليها انظمة متقدمة تحول دون اسقاطها، واذا كان هذا الافتراض غير صحيح، فهل كفاءة الطيارين الحربيين العرب اقل بكثير من نظرائهم الامريكيين والاوروبيين، ولماذا؟ ومن المسؤول؟
لا نستطيع تقديم اجابة على هذين السؤالين، لاننا لسنا خبراء عسكريين اولا مثل اولئك الذين يظهرون على شاشات الفضائيات يحللون لساعات، لنكتشف بعد ذلك ان معظم تحليلاتهم تنتمي الى مدرسة قديمة تجاوزتها التكنولوجيا والنظريات الحديثة، ولان الحكومات العربية تتكتم على المعلومات المتعلقة بأسلحتها، وطائراتها، باعتبارها سرا مقدسا، على طريقة “كمساري” الحافلة المصرية العامة الذي يعلن للركاب عن محطة المطار العسكري “السري” القادمة حتى يتحضروا للنزول مبكرا بسبب الزحام الشديد ثانيا.
***
دخول الاردن في التحالف الدولي المضاد لـ”الدولة الاسلامية” وارساله طائرات وقوات خاصة لقتالها وقواتها في العراق وسورية كان وما زال موضع اعتراض قطاعات شعبية اردنية واسعة، لان الاردن دولة صغيرة، بامكانات محدودة، وكان يفترض ان يترك هذه المهمة للدول الاكثر تعرضا للتهديد من قبل هذه الدولة، والاضخم تسلحيا وماليا مثل المملكة العربية السعودية ودول الخليج.
يستطيع المسؤولون الاردنيون ان يبرروا اي رفض للمشاركة في هذا التحالف الدولي بالمعارضة الشعبية، وانتقاداتها المتصاعدة لسياسات التدخل العسكري الخارجي في دول عربية التي تتبناها الحكومة، مثل ارسال قوات خاصة للقتال في ليبيا والبحرين والسعودية، واخيرا في سورية والعراق، وتساؤل هذه المعارضة، والاسلامية منها على وجه الخصوص، عن عدم ارسال هذه الطائرات لقتال اسرائيل التي خنقت مدينة القدس المحتلة بمستوطناتها ومستوطنيها، وتغض حكومتها النظر عن الاقتحامات المستمرة للمسجد الاقصى وباحته، والاعتداء كل عامين على قطاع غزة، وتصر على اجبار العرب على اعترافهم بها كدولة يهودية عنصرية.
المشكلة ان معظم هذه التضحيات والخدمات العسكرية التي يقدمها الاردن للولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين تبدو “شبه مجانية”، بدليل ان ديون الاردن تتناسخ بحيث وصلت اكثر من عشرين مليار دينار في اعوام محدودة، بينما تشتكي الميزانية الاردنية عجزا سنويا اكثر من مليار دينار، رغم رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء وزيادة معاناة المواطن الفقير المسحوق بالتالي.
مشاركة الطائرات الحربية الاردنية بـ”حماسة” تحسد عليها في قصف قواعد “الدولة الاسلامية” وتجمعات قواتها، خطوة خطيرة غير محمودة العواقب، وثمنها ربما يكون باهظا، داخليا وخارجيا، واسقاط طائرة الملازم الاول معاذ الكساسبة، هو اول هذه الاثمان وربما لن يكون آخرها، فـ”الدولة الاسلامية” لها امتدادات في الاردن، وتحظى بتعاطف ملموس في بعض الاوساط الدينية المتشددة، ولا يجب ان ننسى ان ابو مصعب الزرقاوي كان من ابرز مؤسسيها بصفة مباشرة او غير مباشرة، ويعتبره الكثير من الشباب الاردني المحبط من الاهانات الامريكية والاسرائيلية “بطلا” وقدوة حسنة.
ارسال طائرات حربية اردنية مقاتلة للمشاركة في الحرب على “الدولة الاسلامية” طابعه “رمزي”، وسواء شاركت هذه الطائرات في الحرب او لم تشارك، فانها لن تغير موازين القوى على الارض، فالاردن ليس دولة عظمى، ولا يملك مئات او آلاف الطائرات الحديثة المتطورة، وكان يفضل ان يظل بعيدا عن المغامرات الامريكية العسكرية التي تنتهي دائما بكوارث للدول المتدخلة فيها مثل العراق وسورية واليمن وليبيا.
القوات الامريكية “هربت” من العراق بسبب المقاومة البطولية وتعاظم الخسائر المادية والبشرية، ولكن الاردن لا يستطيع ان يهرب من المنطقة، او من الجماعات العنيفة والارهابية المتواجدة فيها بكثرة هذه الايام وتزداد قوة وصلابة وتمددا، واستقراره الامني هو رصيده ورأسماله وثروته الحقيقية.
نشعر بالحزن والالم لاسر هذا الطيار الاردني الشاب، خاصة بعد ان شاهدنا بالصوت والصورة الطريقة التي اسر بها، ولكن هناك من يشعر بالفرح والانتصار على الجانب الآخر، لانه يتطلع للانتقام والثأر، ويجادل بأن هذا الطيار كان يقصف عربا ومسلمين، سواء كانوا يقاتلون في صفوف “الدولة الاسلامية” او من المدنيين الابرياءالذين اندس جنود الدولة في صفوفهم او نصبوا مدافعهم وصواريخهم واستحكموا بسياراتهم بالقرب منهم ومنازلهم.
السلطات الاردنية ستجد نفسها في حرج شديد، وبعد اسر هذا الطيار الشاب امام اهله في الجنوب “الكرك” الذي يضم احد اكبر مخازن التعاطف مع “الدولة الاسلامية” والفصائل الجهادية الاخرى في الاردن قاطبة، مثلما تجد نفسها في حرج اكبر امام برلمانها الذي اعترض عدد لا بأس به من نوابه على المشاركة في الضربات الجوية في سورية والعراق بزعامة امريكا المكروهة في نظر الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين، وعلى رأسهم الشعب الاردني.
امن الاردن واستقراره يعتبر اكثر اهمية من امن امريكا واوروبا ومن امن النفط العربي وامداداته، الذي يحاول التحالف الدولي الستيني الجديد تحقيقه في نظر الغالبية العظمى من الاردنيين من شتى الاصول والمنابت، خاصة ان “الدولة الاسلامية” ليست بعيدة عن حدوده، ووصلت قبل ثلاثة اشهر الى معبر طريبيل مع العراق واحتلته، وانسحبت منه بعد ان اوصلت رسالتها واضحة المعاني الى السلطات الاردنية.
***
الحكومة الاردنية ستجد نفسها مضطرة، وفي ما هو قادم من ايام، للدخول في مفاوضات مؤلمة، مباشرة او غير مباشرة، مع “الدولة الاسلامية” للافراج عن طيارها الشاب، وتقديم تنازلات كبيرة في هذا الصدد، من بينها الافراج عن عشرات وربما مئات المعتقلين من الاسلاميين في سجونها، وربما يكون على رأسهم الشيخ ابو محمد المقدسي، والسيدة ساجدة الريشاوي التي فشل حزامها الناسف في تفجير احد فنادق العاصمة الاردنية، وتنتمي الى حركة “التوحيد والجهاد” التي يتزعمها ابو مصعب الزرقاوي لخطأ ما في التجهيز والاعداد.
عملية الاسر هذه جعلت من ايام الاردن الحالية صعبة ومؤلمة، وستكون اكثر صعوبة وايلاما اذا ما اقدمت “الدولة الاسلامية” على اعدام هذا الطيار الشاب، او تمكنت من اسر طيارين آخرين او اعضاء في قوات خاصة اردنية تقاتل الآن بشكل سري ضمن وحدات امنية استخبارية امريكية وبريطانية وفرنسية في العراق وسورية مثلما تؤكد بعض التقارير الغربية رغم النفي الرسمي الاردني.
نتمنى ان لا تعدم “الدولة الاسلامية” هذا الطيار الاردني الاسير، وان تتعاطى معه بكل الرحمة والتسامح، وان تستخدمه كورقة قوية في عملية تبادل، وهو اولا واخيرا ضحية سياسات يراها الكثيرون في الاردن خاطئة بل كارثية.
في سوريا صارت الحرب المسلحة هي "كل شيء"، فتراجع الحراك الشعبي الذي وسمها منذ البدء، وتهمّشت المظاهرات، وتقريباً اختفى النشاط المدني لمصلحة الصراع المسلح.
لست هنا في وارد البحث في من سبّب ذلك، فقد أشرت إليه مراراً، حيث فرضت وحشية السلطة الانتقال إلى العمل المسلح، رغم أن قوى في المعارضة حاولت أن تستغله، ودفعته إلى متاهات أضرته.
لهذا يُطرح السؤال حول طبيعة الصراع في سوريا؟ هل ما زال ثورة شعبية؟ هل هو حرب أهلية أم صراع طائفي؟
التحديد المتداول يعطي ما يجري صفة "حرب أهلية". ومعنى الحرب الأهلية المتداول هو "الاقتتال الأهلي"، كما حدث في لبنان حسب الذين يطلقون هذا التوصيف. ورغم أن ماركس كان يعطي الصراع الطبقي صفة حرب أهلية (مثلاً كتابه "الحرب الأهلية في فرنسا" الذي يتناول كومونة باريس وثورة البروليتاريا)، حيث إن الطبقات هي "أهلية"، أي من المجتمع، لكن هنا يجري الصراع عبر الدولة، حيث تكون سلطة الطبقة المسيطرة التي تخوض الصراع الدموي ضد تمرّد الشعب، كما حدث في ثورات 1848 وضد كومونة باريس عام 1871.
بالتالي فإن الصراع طبقي والحرب أهلية بهذا المعنى، لكن المعنى المتداول يتجاوز ذلك، بالضبط لأنه يرى الحرب الأهلية كصراع بين فئات المجتمع، كتقاتل مجتمعي، بعيداً عن الدولة. لهذا يُعطى صفة طائفية كما في لبنان، أو قبلية أو مناطقية. رغم أن كل هذه الصراعات تجد جذراً طبقياً، وإنْ كانت تستخدم "ترابطات" سواء كانت "أيدولوجية" أو مناطقية، أو تعصبية إثنية.
فقد عمدت البرجوازية المسيحية اللبنانية إلى تكتيل المسيحيين خلفها انطلاقاً من "المسيحية" ذاتها، التي كان الاستعمار قد قدّم لتلك البرجوازية امتيازات باسمها، من أجل مواجهة الصراع الطبقي الذي تفجّر، فكان في طرف من الحرب الأحزاب المسيحية تجرّ قطاعات مسيحية خلفها، وفي الطرف الآخر الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، وكانت الدولة "خارج" الصراع، أو وسيطاً بين أطرافه، فهي دولة المحاصصة الطائفية أصلاً.
لكن الصراع أنمى قوًى أرادت تعديل المحاصصة الطائفية، وهذا ما حكم الصراع بعد وقف الحرب الأهلية الأولى (1975-1976)، وأفضى إلى اتفاق الطائف الذي عدّل من التوازن الطائفي في السيطرة على السلطة بعد أن قُسمت الأمور مناصفة، لكنه حسّن خصوصاً من وضع البرجوازية الشيعية التي حصلت على مواقع متساوية مع البرجوازيات الأخرى.
ربما هذا هو ما أُطلق عليه الحرب الأهلية، حيث كان واضحاً الصراع بين فئات من الشعب، لكل منها أحزابه، وجرى الشغل على أن يتخذ مظهر صراع طائفي. لكن ماذا يمكن أن تسمي ما يجري في سوريا؟
"النظام يوصّف بأنه طائفي، وتلك التنظيمات الجهادية تقوم على الصراع الطائفي، لأن أولويتها -كما كانت تُطرح في العراق- هي قتال الروافض والمارقين والكفرة، وليس في أجندتها قتال على أساس سياسي"
فقد تفجّر الصراع بين الشعب والسلطة، وعمدت السلطة منذ البدء إلى استخدام العنف لكي لا يكون ممكناً استقرار الحشود الكبيرة في الساحات. مع ذلك ظلت المظاهرات أساس الصراع على مدى سنة بعد انطلاق الثورة، رغم بدء دخول العمل المسلح كرديف بعد ستة أشهر منها. ومن ثم توازى العمل العسكري والحراك الشعبي لفترة قليلة، قبل أن تبدأ هجرات المناطق والقرى جرّاء القصف الوحشي، ويتصاعد عدد اللاجئين، وبالتالي تتراجع أكثر إمكانية استمرار المظاهرات.
لكن الأمر اختلف بعد ذلك، حيث أصبح العمل العسكري هو الشكل الرئيسي في الصراع، وبات جزءاً كبيراً من المتظاهرين، مسلحين كانوا أو لاجئين أو معنيين باللاجئين. ومن ثم نشأت الكتائب المسلحة في معظم مناطق سوريا، وباتت تسيطر على جزء كبير منها بعد انسحاب قوات السلطة من كثير منها، حيث انتهى النشاط الشعبي فيها كذلك.
لكن -أيضاً- ظهرت مجموعات سلفية تابعة لتنظيم القاعدة (جبهة النصرة وداعش التي انفصلت فيما بعد وباتت بديلاً عنه)، ومجموعات سلفية أخرى تريد إقامة "الدولة الإسلامية" مثل أحرار الشام وجيش الإسلام وصقور الشام، وعديد من الأسماء التابعة لهذه المجموعات أو المستقلة عنها، حيث بات يظهر أن الصراع بين قوى أصولية وسلطة "علوية". وهذا ما كان يغذي الميل إلى تأكيد طائفية السلطة وتبرير طائفية تلك المجموعات، أو حتى دعمها أو الانخراط فيها. وبهذا فقد بات السؤال هو: هل ما يجري هو حرب أهلية أو طائفية؟
فالنظام يوصّف بأنه طائفي، وتلك التنظيمات "الجهادية" تقوم على الصراع الطائفي، لأن أولويتها -كما كانت تُطرح في العراق- هي قتال الروافض والمارقين والكفرة، وليس في أجندتها قتال على أساس سياسي.
طبعاً الصراع الطائفي هو حرب أهلية كما جرى توصيف الحالة اللبنانية، أي حرب أهلية تتخذ شكلاً طائفياً. الآن ما طبيعة الصراع في سوريا: حرب أهلية أم صراع طائفي؟
سنلاحظ أولاً أن السلطة كسلطة (رغم أن قواها التي تستخدمها باتت من حزب الله وإيران والعراق وبلدان أخرى) هي التي تخوض الصراع ضد كل المناطق التي خرجت عن سيطرتها، وهي التي تعتقل وتقتل في مناطق سيطرتها.
طبعاً هناك منظور طائفي يحكم القوى التي تدعمها، وهذا واضح في الخطاب الإيراني الذي يدافع عن السلطة ويرسل هؤلاء المقاتلين، اعتماداً على "العصبية الشيعية" (رغم أن العلويين ليسوا شيعة). وهناك ميل طائفي لدى العصابات التي شكلتها السلطة، والتي أعطتها فيما بعد اسم الجيش الوطني. هذا الميل يشمل بعض الفئات العلوية المنخرطة فيه، لأنه يضم من مختلف الطوائف.
كما أن السلطة قامت بمجازر طائفية بهدف دفع الثورة إلى أن تأخذ منحى رد الفعل الطائفي، ولا شك في أن ذلك أسهم في "أسلمة" بعض الفئات السنية، وميلها إلى التعصب. لكن في كل ذلك تظهر السلطة كأساس في الصراع ضد الشعب، بمعنى أن السلطة تدافع عن مواقعها، وإيران تريد بقاء السلطة حماية لمصالحها، كذلك روسيا.
"ربما ما تحقق هو استعصاء الصراع، وبالتالي العجز عن الحسم، حيث إن قوى متعددة تقاتل الشعب، والقوى التي تدافع عنه ومنه ما زالت مشتتة ودون خبرة كافية.. إنها حرب الكل ضد الشعب"
في الثورة، انتقل كثير من الشباب من التظاهر إلى العمل المسلح لتحقيق الهدف ذاته، أي إسقاط النظام. لكننا اليوم في وضع من التشتت والتفكك والفوضى كبير، فقد أدخِلت الأسلمة إلى الكتائب المسلحة تحت ضغط المال، ثم أدخل "الجهاديون"، خصوصاً بعدما أطلقت السلطة كل هؤلاء الذين كانوا في سجونها أشهراً بعد الثورة.
لهذا وجدنا أن العمل المسلح بات يتوزع بين الدفاع عن المناطق، أو "تحرير" مناطق مجاورة، أو السيطرة على مناطق انسحبت السلطة منها. وإذا كانت جبهة النصرة قد "تحرشت" بالدروز، وحاولت أن تمارس صراعاً طائفياً في عديد من المناطق، كذلك داعش، وحتى جيش الإسلام، فإن المنطق العام الذي يحكم داعش هو أن الأولوية في الصراع هي ضد "المرتدين"، أي كل من تعتبره هي قد خرج عن الإسلام، لهذا تسعى لفرض سلطتها عليه، حيث "الإسلام" (أي ذاك الذي تعتقده هي) أو القتل. كل ذلك وهي تسعى لفرض "الخلافة" (أو الدولة الإسلامية).
بالتالي فإن أولوية صراعها هي مع الشعب الذي خاض الثورة، في المناطق التي انسحبت السلطة منها. هذه أولويتها رغم أنه يظهر أنها تشتبك مع قوات السلطة هنا وهناك أحياناً (رغم تزايد ذلك بعد الغارات الأميركية). معركتها إذن هي مع الشعب تحت مسمى الحرب ضد المرتدين.
أيضاً جبهة النصرة فعلت مثل ذلك، ورغم أنه يبدو عليها أولوية الصراع ضد السلطة، فإن حروبها تطال الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطة، وتسعى لفرض سلطتها و"خلافتها"، ومواجهة المرتدين والكفار. وربما أحرار الشام لم تفعل ذلك، لكن جيش الإسلام يخضع لتكتيك "خارجي"، لكنه يفرض سلطة أصولية في المناطق التي يسيطر عليها.
بمعنى أن كل تلك الممارسات هي ضد الشعب، الشعب الذي بات يواجه السلطة بكل وحشيتها، ويواجه "الجهاديين" بعدد تنظيماتهم. لقد دفعت السلطة لأن تتحوّل الثورة إلى صراع أهلي، ساعدها في ذلك دول إقليمية ودولية، هل تحقق ذلك؟ ربما ما تحقق هو استعصاء الصراع، وبالتالي العجز عن الحسم، حيث إن قوى متعددة تقاتل الشعب، والقوى التي تدافع عنه ومنه ما زالت مشتتة ودون خبرة كافية.. إنها حرب الكل ضد الشعب، هكذا باختصار.
خـرج مناف طلاس من ســوريــا في ٥ تموز عام ٢٠١٢ بمساعدة من المخـــابــرات الفرنسيــة واستــقر في باريس، ومنذ ذلك الحيـــن لم يقــم بأي تحــرّك ضد النظام السوري، والبعض قال إنــه "حصان طروادة" الذي تعمّد صديقه بشار الأسد إنزاله وراء خطوط المعارضة كخلية نائمة في انتظار الوقت المناسب.
هذا يرسم معالم سؤال ضروري:
لماذا سكت مناف سنتين ونصف سنة عن القتل والمذابح المروعة والكيميائي وعن الدمار وهدم بلدته الرستن وهو سكوت يساوي دهراً، ليستيقظ فجأة ويعطي حديثاً لصحيفة "الوول ستريت جورنال"، يسوق فيه جملة من الإتهامات الى بشار الاسد، ومنها أنه أصر على المذابح ضد المتظاهرين وباع سوريا الى ايران، وهذا ليس خافياً على أحد؟
سكوت مناف، وهو ابن وزير الدفاع مصطفى طلاس أحد أبرز اعمدة النظام والذي غادر دمشق أيضاً، كل هذا الوقت ليس مهماً، المهم لماذا اختار مناف وقد كان أحد أبرز أصدقاء الأسد، ان يخرج الآن فجأة من الظل ويدلي بهذا الحديث بعدما رفض سابقاً التصريح والمقابلات الصحافية؟
قبل اسبوعين سرّب مناف معلومات عن انه يرفض أي حل يروّج له ستيفان دو ميستورا وراء الجدران، لكن حديثه الآن أثار شياطين الأسئلة عند المراقبين، وخصوصاً بعد ربطه بما تردد قبل عشرة أيام من ان دو ميستورا يعمل لجعل الإتفاق على تحييد حلب مدخلاً متدحرجاً، للتوصل الى تنفيذ اتفاق غير مكتوب (لا ورقة) تم التوصل اليه بين موسكو وايران ولا تعارضه واشنطن وهو ينص على ما يأتي:
إبقاء الأسد مدة سنتين بعد جمع فصائل المعارضة والنظام في خندق واحد لمحاربة الارهابيين، على ان يكون علي حبيب نائباً له، وتشكيل حكومة برئاسة رياض حجاب يكون مناف طلاس وزيراً للدفاع فيها، بينما يتولى معاذ الخطيب الذي زار موسكو اكثر من مرة رئاساة هيئة المصالحة الوطنية.
الكلام العالي ضد الاسد وايران لا يعني شيئاً في الحساب السياسي اذا صحت نظرية الحل الذي يسعى دو ميستورا وراءه، بل على العكس هذا كلام مطلوب ليكون طلاس مقبولاً عند المعارضة التي تعتبره ظلاً لبشار الاسد.
بالعودة الى اتهام مناف النظام بأنه هو الذي فجّر مبنى الأمن القومي فقتل آصف شوكت وداود راجحة وهشام بختيار وحسن تركماني، فهذا ليس جديداً، الجديد كشفه ان الاسد حاول اغتياله بست عبوات ناسفة، ولكن هذا يطرح سؤالاً آخر: اذا كان خلافه مع الأسد انفجر في ١١ أيار ٢٠١١، فكيف بقي في دمشق رغم محاولة اغتياله الى ٥ تموز من عام ٢٠١٢ ليغادر سوريا؟
أم انه يسوّق نفسه تمهيداً للصعود الى قطار دو ميستورا؟
أكثر من سنوات ثلاث، ولا يزال المجتمع الدولي فاقدا القدرة على لجم ارتكاب المجازر البشعة في سوريا، وعلى الرغم من عمليات التوثيق الواسعة، المتسمة بالدقة والمصداقية، فإن المنظمات الدولية المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان، لم تستطع إقناع مجلس الأمن بضرورة اتخاذ موقف ملزم للنظام السوري، بوقف تلك الجرائم الدموية المستمر في ارتكابها.
ولعل القرار الصادر مؤخراً عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، بإدانة انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، يوضح مبلغ التهاون الدولي في قضية إنسانية كبرى، من مهامه الحيلولة دون وقوعها. وهو في الواقع مجرد قرار غير ملزم، ولا يتضمن أي آليات من شأنها حماية الحقوق والحريات، وإحالة ملف انتهاكات النظام السوري إلى مجلس الأمن، ومن ثم إلى محكمة الجنايات الدولية، أو إنشاء محكمة دولية خاصة بسوريا، نظير الجرائم والمذابح المرتكبة منذ مارس 2011، بصورة ممنهجة.
الإشكالية الأساسية تكمن في أن آليات اتخاذ القرار في مؤسسات المجتمع الدولي (الأمم المتحدة) تعتمد بدرجة كبيرة على مبدأ التوافق، خشية اصطدام أي مشروع قرار بحق النقض، ما يجعل من اتخاذ أي قرار بمعاقبة نظام بشار الأسد أو محاسبته، أمرا مرتهنا بتطورات الأزمة والصراع في سوريا، وبالتوافق الدولي، خاصة أن روسيا والصين لن تتأخرا في استخدام الفيتو دعما لنظام الأسد وحماية له.
يضاف إلى ذلك، ضعف المعارضة السورية، وعدم قدرتها، حتى اليوم، على حشد رأي عام دولي، حقوقي بالدرجة الأولى، مساند ومتبنٍّ لفكرة حماية السوريين من انتهاك الحقوق والحريات، وداعم لمسألة المحاسبة عبر المحاكم الدولية.
يكاد لا يمر يوم، منذ قرابة أربعة أعوام، دون أن تكون هناك مجزرة جديدة، والضحايا في غالبيتهم مدنيين. هذه هي الصورة الأشد قتامة في المشهد السوري الذي عمّدته دماء وأرواح ربع مليون إنسان، شكلت ذروة لا متناهية في مدى الإجرام الذي وصلت إليه عصابات الأسد، التي خيّرت السوريين ما بين حرق البلد.. أو الرضوخ لبشار الأسد.
لم تكن تلك العبارة نسج خيال، أو نتاجا لتفاعلات الصدام الذي تطور نحو التسلح، بين طلاب الحرية، ومنظومة الدكتاتورية التي تجذرت أظلافها في الجسد الوطني. لكن عبارة “الأسد أو نحرق البلد”، كانت بمثابة إطلاق لإستراتيجية المواجهة والحل الأمني، الذي التزم به النظام مدعوما من إيران وروسيا. فأعمل في حرق البلد بشكل ممنهج وفعّال، بوسائل مختلفة، من الرصاص الحيّ في البدايات، حتى استخدام الكيمياوي، مرورا بالذبح بالسكين، قبل أن تقوم بذلك “داعش” وأخواتها، بسنتين على الأقل، في البيضا وبانياس والحولة.
كانت المجازر منهجية متكاملة الأبعاد، ليس لبث الرعب، بل لمعاقبة السوريين، لخروجهم مطالبين بالحرية والكرامة، لم يكن هدفهم البحث عن رغيف الخبز، الذي صار داميا فيما بعد بأكثر من مجزرة. ولكنها أيضا أنجع وسيلة للخراب، والأهم إفراغ البلد من القدرات البشرية المهولة التي يقوم عليها عبء استنهاض سوريا وإنمائها، لما بعد الحقبة الأسدية. واليوم قرابة 40 بالمئة من السكان، هم لاجئون ونازحون مهجرون. لعبت المجازر دورا بارزا في ذلك. وهي حلقة جديدة استخدمها النظام طوال 45 عاما، في سياسة التغيير الديمغرافي للمجتمع السوري، وخاصة التجمعات المدنية الكبرى، مثل مراكز المدن السورية؛ دمشق وحمص وحلب.
في كل يوم مجزرة: تم توثيق 33 مجزرة في شهر نوفمبر الماضي، توزعت على كامل الأراضي السورية، إلى حدّ ما، كان للرقة النصيب الأكبر من حيث الوحشية الدامية وعدد المجازر وحصيلتها من الضحايا. ارتكب نظام الأسد فقط واحد وثلاثون مجزرة، فيما ارتكبت كل من “داعش” وأخواتها مجزرتين اثنتين، في الشمال السوري. وطوال سنوات المحنة السورية، اتسمت تلك المجازر بأنها موجّهة بصورة خاصة لاستهداف المدنيين، والتجمعات السكنية والأسواق الأكثر كثافة، وفي ساعات الذروة، وهو الأسلوب الذي يتماثل مع أسلوب القاعدة ومشتقاتها، مع الفارق بأن النظام يستخدم الطيران، والقاعدة (داعش والنصرة) تستخدم السيارات المفخخة. الرؤية أو العقلية الإجرامية متطابقة، ما يؤكد العلاقة مابين الطرفين، في الخبرة والهدف.
استخدم نظام الأسد، مبكرا، أسلوب مداهمة القرى والبلدات، وارتكاب المجازر بوسائل باردة غالبا: الذبح بالسكين والساطور، في صورة مشابهة لما حدث في صبرا وشاتيلا. ثم تطورت وسائله عبر الطيران، فاستخدم القذف الصاروخي، وصواريخ سكود، ثم ابتدع البراميل المتفجّرة، التي تعدّ اليوم أكثر الوسائل منخفضة التكاليف، وشديدة التأثير والتدمير. ولم يتوقف الأمر عند استخدام الأسلحة الكيمياوية، ولكنه تعداها إلى الأسلحة الفراغية. والهدف هو المدنيين في كل مرّة.
مجازر أخرى، أشد بشاعة، تتمثل في عمليات التصفية الفردية والجماعية، للمعتقلين السياسيين في سوريا. ليست هناك أرقام دقيقة، ولكنها تجاوزت الـ15 ألفا. يلجأ النظام إلى قتل النشطاء السلميين بصورة منتظمة، من ذوي الكفاءات والمتميزين، تحت التعذيب، وفي عمليات تصفية جماعية، داخل المعتقلات المتوزعة على نطاق واسع داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام، بما فيها المعتقلات المستحدثة. يستخدم النظام داخل السجون أساليب التعذيب المبتكرة الأكثر وحشية مثل التجويع، والحرمان من المداواة، وهي غالبا ما تأخذ شكل جرائم يومية، لا يحاسب عليها أحد. ثمة شبه كبير أيضا هنا، مع جرائم نظام معمر القذافي ضد المدنيين، والمعارضين وعائلاتهم. وتعيد إلينا جرائم الأسد، فداحة الإجرام التي مورست بحق سجناء أبي سليم في صيف 1996 بفظاعتها التي تجاوزت كل تصور إنساني.
تبدو جرائم الأسد المتواصلة بحق السوريين، دون أي رادع دولي أو إقليمي، يضع حدّا للجزار الذي يستغل صمت المجتمع الدولي وتواطؤه المشين، ليرتكب المزيد، دون أن يعير اهتماما بالقانون الدولي. وجميع المجازر دون استثناء، تندرج تحت بندي؛ جرائم الحرب ضد المدنيين، وجرائم الإبادة البشرية.. لكن العدالة الدولية، تبدو غير ممكنة في ظل إفلات المستبدين القتلة من العدالة.. ولكن إلى حين.
من دون الدخول في جدل حول تعريف المثقف وأدواره وأصنافه وعلاقته بالسياسة والسلطة، ومن دون وضع هذه المفردة بين قوسين، يمكن القول إن ظاهرة المثقف والسلطة السورية تحديداً، خلال نصف قرن، تحتاج إلى دراسة خاصة ومعمقة. لكننا نحاول هنا الإشارة إلى مواقف المثقفين من السلطة خلال السنوات الأربع الماضية، وهي مواقف متنوعة تبعاً لأنماطهم الفكرية وعلاقاتهم السابقة بالسلطة، ونمط العلاقات الزبائنية التي خلقتها. بعض المثقفين هم صناعة السلطة أو مندرجون أصلاً في سياساتها منذ زمن بعيد، وهؤلاء لا يستحقون أن نتعب أنفسنا بنقدهم، أو بالأحرى هم دون مستوى النقد بمراحل.
أما المثقفون المحسوبون على معارضة السلطة، فإنهم يحتاجون إلى النقد، فبعضهم كان واضحاً في موقفه من السلطة خلال فترة ما بعد الثورة، فيما بعضهم الآخر تراجع خطوة أو خطوات إلى الوراء، أو وقف على الحياد منتظراً ما ستؤول إليه الأمور، تبعاً لرؤى أو تحليلات خاصة، أو وفقاً لمصالح ذاتية ظهرت إلى العلن بعد أن كانت مخفية. لكن النقطة الرئيسة التي أود تسليط الضوء عليها هي موقف ذلك المثقف المعارض، والعارف بطبيعة السلطة، الذي اتخذ موقفاً حيادياً أو دور «المعارض الناعم» أو حتى المناصر ضمنياً للسلطة القائمة في وجه الثورة، بعد سنوات طويلة من معارضته لها.
يستند هذا المثقف في مواقفه تلك، وفق ما يقول ويكرر، إن افترضنا صدقيته وعدم وجود علاقة وثيقة بين مواقفه ومصالحه الشخصية، إلى معرفته ببنية السلطة المعقدة، وقدراتها وعلاقاتها الإقليمية والدولية ووسائلها وآليات عملها، الأمر الذي يسمح لها بمجالات واسعة من المناورة والبقاء، منكراً بالتالي هذه المعرفة على الآخرين الذين اتخذوا منها موقفاً صريحاً وواضحاً. في الحقيقة، كثيرون من الذين أبدوا مواقف واضحة وصريحة إزاء السلطة، كانوا يعرفون أكثر من ذلك، ولم يستغربوا سلوكها خلال السنوات الأربع الماضية، ومع ذلك عُرفوا بمواقفهم الواضحة والصريحة ضدها.
في 1993 نشر سعدالله ونوس، مسرحيته «منمنمات تاريخية» التي تناول فيها المواجهة التي حدثت عام 1400 بين تيمورلنك وابن خلدون، القاضي والمؤرِّخ والعالم الاجتماعي المعروف. وقد حاول ونوس في مسرحيته أن يستكشف ماذا يمكن أن يكون قد ترتب من انعكاسات في العصر الحالي بسبب قرار ابن خلدون ألَّا يُدينَ الجنرال التتري وعشقه للسلطة.
تيمورلنك يشقُّ طريقه نحو دمشق، ابن خلدون ينتظر في منزل رئيس قضاة دمشق، شيوخ دمشق يناقشون في المسجد الأموي موقفهم من الغزو التتري، حيث اختلفوا في ما إذا كان تجب محاربة الطاغية أم مراضاته، وانتهوا إلى إصدار فتوى بوجوب الجهاد ضد تيمورلنك. وقعت المعركة، ومات كثيرون.
أما ابن خلدون الذي شعر بالاحتقار، خصوصاً إزاء أولئك الذين ليسوا من النخبة، فرأى أنه لا جدوى من الجهاد ضد قوىً جارفة مثل تيمورلنك، فهذا وقت الهزيمة لا ريب، ولا شيء يمكن فعله لإيقافها. ولذلك، بعد أن يلتقي ابن خلدون بتيمورلنك، ينصح وجوه دمشق بالاستسلام من دون قتال. على ما يبدو، يفصل ابن خلدون بين الموقف/الفعل والمعرفة، لأن المعرفة أقوى وتدوم أطول.
يتساءل ونوس عن نوع المعرفة التي كان ابن خلدون يُنتجها. بعد ستمئة عامٍ من الاحترام، يجلب ونوس ابن خلدون ليوبِّخه على تحفظه الأحمق على فعل أي شيء، وانتهازيته السياسية، ورفضه لتحدي تيمورلنك بحجة معرفته بنتائج المعركة وإدراكه لأطوار حياة الدول، ويسأل الجمهور عن النتائج التي كان يمكن أن تحدث لو قرَّر ابن خلدون أن يتدخل. ربما كان ليغير وجه التاريخ، لكنه لم يكن مهتماً بالتغيير، أو التطور، وإنما كان مهتماً بنجاته ونظرياته التي توصل إليها حول حياة الدول.
تطرح «منمنات تاريخية» على المشاهدين تساؤلاً: كيف يجب أن تكون ردة فعل المثقف على الظلم؟ هل يجب أن يرفضه ويقاومه أم عليه أن يحسب نتائج رفضه ومقاومته، ويحدد موقفه في ضوئها؟ ينتقد ونوس هنا عدّة أمور: الطاغية، المثقف الخائف، والاستجابة الانتحارية وغير المدروسة للظلم. هل أخطأ ابن خلدون عندما حافظ على حياته وأعطى تيمورلنك ما طلبه منه؟ لقد عاشت توصيفاته الحيادية وتحليلاته أكثر من الأفعال العاطفية التي قام بها المجاهدون لإيقاف التقدم التتري المميت. وقد أثبت التاريخ صحة ما فعله ابن خلدون عندما قال لطالبه: «التاريخ سيتذكر المعرفة التي أنتجتها والكتب التي كتبتها فحسب». كيف نرى ما فعله ابن خلدون بعد ستمئة عام، كيف نتقبَّل صحة ما فعله؟ نعم لقد نسي التاريخ أولئك الذين قاتلوا وماتوا، واعتُبِرَ «الخائنُ» بطلاً. كيف نستطيع أن نوازن الالتزامات السياسية مع أساسيات البقاء؟
على المسرح يترك ونوس الخيار للمشاهدين ليقرِّروا بأنفسهم إن كانت هذه الشخصية التاريخية قد اتخذت القرار الصحيح أم لا، لكنه لم يدع مجالًا للشك في مناسبات عدة ليقول لنا «إن المعرفة تقتضي مسؤوليةً على من يحملها... يجب على المثقفين أن يتدخَّلوا في الشؤون العامة، ويقاوموا المعتدين والحكَّام الطغاة...». فالكتابة عند ونوس سياسية بطبيعتها، ومن يقف جانباً يُعين الطاغي على طغيانه. بمعنى آخر، ليس هناك حيادٌ في الثقافة، ولا يستطيع المثقف أن يكون على الحياد، وينبغي أن يكون هناك تناسقٌ وتكافؤٌ بين الكلمات ومعناها.
إن إدانة ونوس لتهرب ابن خلدون من مسؤوليته السياسية تتحدى الجميع. قد يبدو في كثير من الأحيان أنه لا جدوى من الاحتجاج، أو قول الحقيقة في مواجهة نظام متسلط، لكن سعدالله يخبرنا بأن المثقفين يستطيعون أن يصنعوا فرقاً، وأن إذعانهم للاستبداد أو حياديتهم أو انتهازيتهم ستؤدي إلى الدمار. كان يوسف العظمة وصحبه يعلمون أنهم سيخسرون في ميسلون، لكنهم آثروا أن يقاوموا ويصنعوا فرقاً، وقد فعلوا.
منذ نهاية عام 2010، وعلى مدى أكثر من سنتين، شكلت مفاجأة الثورات والانتفاضات الشعبية التي اجتاحت تونس ومصر وليبيا واليمن، وأخيرا سورية، الشغل الشاغل للعرب وللعالم. انتفاضات أطاحت أهم الأنظمة وأعتاها قمعاً واستبداداً، منذ بداية السبعينيات، من معمر القذافي إلى حسني مبارك، ومن بشار الأسد إلى علي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي. فرحة عارمة وتفاؤل بالمستقبل عمّا المنطقة، بعد نحو نصف قرن من الظلم والاستغلال وكمّ الأفواه باسم التحرر والاستقلال ومحاربة الاستعمار والامبريالية، وغيرها من شعارات برّاقة، وظّفت، بديماغوجية وشعبوية، كالوحدة والاشتراكية والقومية والعروبة، استغلالاً لقضية شعب فلسطين المقهور. حتى إنه لم تكن هناك من فسحة، ولو بسيطة، للحق في التعبير التزاماً بمقولة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، والمعركة هي مع العدو الصهيوني إسرائيل المغتصب الأرض والشعب الفلسطيني. وها قد مضى على هذا الشعار أكثر من نصف قرن، وما زال الشعب الفلسطيني يرزح تحت نير الاحتلال الاسرائيلي.
أقل من شهر من الحراك الشعبي كان كافياً لهروب بن علي (23 عاماً في السلطة)، وأقل من ثلاثة أسابيع أجبرت مبارك (30 عاماً) على الاستقالة، تبعها ثمانية أشهر من المواجهات الدموية المسلحة أنهت حكم القذافي المطلق (42 عاماً)، ثم سنة من الصمود الشعبي العنيد في شوارع صنعاء اضطرت صالح (34 سنة) إلى مغادرة السلطة، فيما دخلت انتفاضة الشعب السوري على نظام الأسد الأب والابن (44 سنة) في نفق دموي مظلم، لا يزال الخروج منه مجهولاً. انتفاضات شعبية عفوية، بعضها خاطف وبعضها متوسط المدى، تمكنت من دكّ أعتى الديكتاتوريات القومية والعسكرية في القرن العشرين.
" لشدة اهتمام "داعش" بالسلطة، لا يوجد، على سبيل المثال، أي أثر لفلسطين وإسرائيل في خطابه السياسي "
ولكن، بقدر ما كان انهيار هذه الأنظمة سريعاً، بقدر ما كان سريعاً أيضا ضياع، إن لم نقل فشل، بعض هذه الثورات، وانزلاقها إلى أتون تدميري قاتل لجذوة التمرد، وللأمل بسلوك طريق التغيير. صحيح أن التغيير لا يحصل بشحطة قلم، وصحيح أن الثورات عملية تراكمية تدوم عشرات السنين (الثورة الفرنسية)، ولكن أسباب التيه في الانتفاضات الليبية واليمنية والسورية كثيرة ومتشعبة ومتداخلة، لا مجال للخوض فيها هنا، إلا أن ما يعنينا هو الضياع والفراغ الذي حدث لمساراتها، ودفع بالمتضررين (وبقانون الطبيعة) إلى "ملء الفراغ"، وتحديداً في سورية والعراق. وسارع ما سمي "محور الممانعة" إلى حشد ما يملك من طاقات وتأثير سياسي ومذهبي وعسكري وجغرافي ولوجستي وتعبوي ونفسي، وإلى استعمال كل الأساليب المتوفرة بهدف إيجاد بدائل على الأرض، من أجل إجهاض الثورات وتأليب الناس عليها.
وكان الظهور "المفاجىء" لـ"داعش" من الساحة السورية، إثر إطلاق بشار الأسد سراح إسلاميين من سجونه، وزجهم في مواجهة الانتفاضة الشعبية السلمية. وأثبت هذا التنظيم عملياً أن لا علاقة له بـ"القاعدة"، لا يشاركها لا رؤيتها ولا أهدافها، ولا حتى أساليبها. أشهر خطاباً دينياً أصولياً متزمتاً، وبدأ على الفور عنفياً، دموياً، همجياً ومتوحشأً، يقطع رؤوساً لكي يفرض وجوده وسطوته على الأرض. وراح يجند مناصرين في مناطق سيطرة المعارضة على اعتبار أنه فصيل منها، وأخذ يتقدم شمالاً باتجاه الحدود التركية والعراقية، ولم يقاتل يوماً جيش النظام. سيطر على محافظة الرقة السورية وأقام فيها إمارته الاسلامية. ومع الوقت، توسع وتمدد في شمال العراق، وفي المحافظات السنّية تحديداً، رافعاً رايات الجهاد، ومعلناً "دولة الخلافة"، ومنصباً البغدادي "أميراً للمؤمنين".
لم يقاتل "داعش" صانعه النظام السوري، لكنه قاتل في العراق سلطة نوري المالكي، الإيراني الولاء. كبر وتوسع واشتد ساعده، مستفيداً أولاً من المناخ الثوري الذي ولدته الانتفاضات، بما فيها التي قامت بوجه المالكي في الأنبار. واستفاد ثانياً من عوامل ومعطيات ومصالح إقليمية ودولية، متداخلة ومتضاربة ومعقدة، أميركية كانت أم تركية أم خليجية، رأت فيه، على الأرجح، عنصراً من عناصر مواجهة مشروع "محور الممانعة" الإيراني-العراقي-السوري-الحزبللاوي وروسيا من ورائه، بعد أن تقاعست عن تقديم دعم فعلي للمعارضة السورية.
قاتل "داعش" وتوسع، وأصبح مشروعاً قائماً بذاته، عنوانه ووسائله و"عدة شغله" دينية إسلامية متطرفة. وهو يسعى، كما هو ظاهر، إلى ترسيخ وجوده، وتعزيز سلطته في المناطق التي يسيطر عليها، وخصوصاً في العراق. فهو تمركز في الأنبار، ولم يعد يتطلع إلى بغداد، ولم يعد مكترثاً على ما يبدو لمزيد من التوسع، وإنما مهتم بتنظيم وإدارة شؤون الناس في "أراضي دولة الخلافة". وهو يمارس العنف من أجل إرهاب الناس، وإحكام قبضته في مناطق نفوذه، أي يستعمل الإرهاب وسيلة للسلطة، ويستعمله بشكل استعراضي، ويسّوقه إعلامياً، بكثير من الاثارة والضوضاء. ولشدة اهتمامه بالسلطة، لا يوجد، على سبيل المثال، أي أثر لفلسطين وإسرائيل في خطابه السياسي.
بهذا المعنى، ليس "داعش" تنظيماً إرهابياً بالمعنى التقليدي، أو الحرفي، للكلمة، ولا يمارس إرهابا على طريقة "القاعدة"، وإرهابه ليس "مجانياً". هو بات يملك جيشاً فعلياً، تقدره دوائر غربية بعشرات الألوف، ويملك أسلحة وآليات ومعدات ثقيلة، وتمتد سلطته على رقعة جغرافية موزعة بين أراضي دولتين. ويؤكد باراك أوباما، معززاً برأي قائد الجيوش الأميركية، مارتن ديمبسي، أن هزيمة "داعش" تتطلب ثلاث سنوات على الأقل. هذا إذا سلمنا جدلاً أن الغارات الجوية بمفردها كفيلة بالقضاء على هذا التنظيم.
الناس في الموصل كما في المدن والبلدات الأخرى التي سيطر عليها مقاتلو «داعش» حائرون بين ماض غير مريح كان سائدا في ظل سيطرة القوات الحكومية، وحاضر مرعب ومستقبل غامض ومجهول بيد هؤلاء المقاتلين. يقول بعض الفارين من سكان هذه المدن والبلدات التي يسيطر عليها «داعش»، ان سلطات «داعش» تمنع المواطنين من مغادرة مدنهم، وعملت على إقفال منافذ الاتصال بالعالم الخارجي، وقد أوقفت في الأسابيع الماضية شبكات الاتصال للهواتف الخليوية، وصارت تراقب مجهزي خدمات الانترنت في المدن التي تسيطر عليها. ويقول الفارون من «الدولة الاسلامية» هكذا يسمونها، لانه ممنوع عليهم قول كلمة «داعش»، ويوضح أحد المواطنين الذين فروا من الموصل مؤخرا، يمنع على المواطنين إطلاق اسم «داعش» على المسلحين، ومن يخالف التوجيهات ويلفظ اسم «داعش» ستفرض عليه عقوبات تصل الى الجلد. وتنتشر اللوحات الإعلانية في أرجاء المدينة للتشديد على أهمية الجهاد والشريعة وعفة النساء، إلى جانب مواضيع أخرى من التقوى المتزمتة. ان حضور المقاتلين الاجانب طاغ، سواء كانوا من جنسيات عربية أم غربية أم آسيوية أم شيشانية أم سواها، هذا كان في بادئ الامر. أما في ما بعد فقل عدد المقاتلين الاجانب وحل محلهم شباب من سكان الموصل بعضهم فتيان تقل اعمارهم عن 16 سنة، تطوعوا حديثا، لأن مقاتلي «داعش» الاساسيين انتقلوا الى بؤر المواجهات والقتال مع القوات الحكومية
ويركز تنظيم «داعش» على تعليم الأطفال طريقته في التفكير، واسلوبه واستراتيجيته، ليكونوا على اتم الاستعداد، للانضمام إليه عند وصولهم إلى السن المناسب، بالإضافة إلى موافقته على مشاركة النساء في القتال، وتدريبهن وتعليمهــــن فنون القــــتال، وكيفية استخدام السلاح. ولكن حســـب احد الفــارين من الموصل «لم نعرف او نسمع ان احدى الموصليات اصبحت مقاتلة في صفوف «داعش»، معظم النساء المقاتلات في صفوفه هن من جنسيات غير عربية».
ولكن الامراء والمقاتلين كانوا يبدون اهتماما بالاطفال وعلمنا انهم استخدموا طرقًا مختلفة لضم الأطفال لمعسكراتهم القتالية واستعانوا برغبة البعض أو بخطف الأطفال من ذويهم أو مقابل المال كتعويض عن الطفل في قرى الموصل الفقيرة، وكنا نرى بعض الاطفال يرتدون قمصانا وقد كتب عليها أشبال دولة الخلافة، بعضهم ليس من الموصل ربما يكونون سوريين، وحسب الروايات التي نسمعها أن الأطفال دون سن الـ16 يتم تدريبهم على استخدام الكلاشينكوف والآر بي جي والقنابل وإعداد المتفجرات، ثم يتم تقسيمهم لقسم المقاتلين وقسم الانتحاريين وقسم مصنعي القنابل».
في مدينة الموصل ينتشر مسلحون بتصنيفات عديدة بعضهم شرطة وآخرون شرطة مرور اسلامية، وهناك قوات تشبه جنود القوات الحكومية السابقة، فيما هناك شرطة اقتصادية، وهناك رجال مسلحون بمسدسات يراقبون الشوارع ويتجولون في الاسواق يسمون انفسهم «جماعة الحسبة».
التعليم في مراحله الاولية قبل الجامعية مستمر، اما الجامعة فمتوقفة. وفي بداية العام الدراسي منع المدرسون من الذهاب للمدرسة حتى إتمام الدورة الشرعية وتم إلغاء كامل لمواد التربية الفنية والموسيقية والوطنية والتاريخ والفيزياء، والمناهج الاخرى تم تغييرها أكثر من مرة ولم تستقر الأمور على حال.
وكما هو معلوم تعرضت بعض النصب والتماثيل المهمة في المدينة الى التدمير، مثل نصب أبي تمام والموسيقار المتصوف عثمان الموصلي، كما تم هدم قبر المؤرخ إبن الاثير، وأزيل تمثال السيدة مريم في كنيسة «مريم العذراء» الموجودة في مركز المدينة. وفي الوقت الذي حرمت فيه الدولة الاسلامية بالنسبة للرجال لبس الجينز والـ»تي شيرت»، فإنها وجهت معمل ألبسة الموصل (الحكومي الذي كان يتبع وزارة الصناعة) الذي توقف أياماً بعد سيطرة قوات الدولة الاسلامية ليعود للعمل مجدداً وينتج الزي القندهاري، الذي يمثل «الزي الرسمي» للدولة الاسلامية، الذي يتكون من قميص طويل يصل إلى الركبة وسروال ، كما بدأ خياطو الموصل بصناعة الزي بحرّفية بحسب الطلبات التي تردهم، لكنهم أدخلوا عليه بعض إضافات الموضة الحديثة، بناء على طلبات الشباب الموصلي الذي اعتبروه موضة الزمن الجديد. فيما ترتدي النساء الجلباب وفوقه عباءة سوداء تغطي الجسد، اما الحجاب فهو مفروض على جميع النسوة، بمن في ذلك الفتيات الصغيرات في عمر ست او سبع سنين.
وفيما تم تحريم التدخين والاريجيلة والخمر والمخدرات وبيع سيديهات الافلام والاغاني والالعاب الالكترونية ، فإنه تم ايضا منع لعب «الطاولي» والدمينو وكذلك ورق اللعب في المقاهي، كما تمت مراقبة الالعاب الالكترونية، كما ان الدولة الاسلامية قننت بعض التعاملات بين الناس، فعلى سبيل المثال فرضت تسعيرة لايجارات المساكن والمكاتب، بحيث تم خفضها على نحو وصل الى 80 او 90 بالمئة عن الاسعار التي كانت سائدة، وهكذا فعلت بخصوص بعض الخدمات مثل تقليل اجرة الكشف عند الاطباء واطباء الاسنان، وغيــــرها من الخدمات. الاعمال في المدينة شبه متوقفة، الكهرباء مقطوعة، تجهيز الكهرباء عبر المولدات مكلف، وصلت كلفته ليلا للامبير الواحد نحو 17 الف دينار (اي ما يعادل 15 دولارا) .. البنزين أسعاره بارتفاع مستمر، وصل سعر اللتر الواحد قبل اسابيع الى 1700 دينار والان وصل سعره الى 3000 دينار، بينما سعر ليتر البنزين في بغداد 450 دينارا، غاز الطبخ بلغ سعر القنينة قبل الاسابيع 40 الف دينار في الاسبوع الماضي ارتفع سعرها الى 75 الف دينار، الاجهزة التي تعمل بالنفط الابيض حلت محل طباخات الغاز او الكهرباء بعض العوائل صارت تحطب وتقطع الاشجار لتستخدم خشب الاشجار في التدفئة والطبخ. الخضروات والمواد الغذائية التي تجلب من سوريا ارتفعت اسعارها، وحده لحم الخروف العراقي انخفض سعره الى النصف ليبلغ 7 الاف دينار للكيلو.
محلات الحلاقة النسائية والرجالية اصبحت ممنوعة في الموصل. عدد قليل من المطاعم التي تبيع الكباب والمشويات مفتوحة ومعظمها يرتادها المسلحون، أما ابناء المدينة من الاهالي فقلما يفعلون ذلك، ووقت الصلاة يمنع على اي محل ان يبقى مفتوحا.
الناس خانفون من الايام المقبلة، فهم يعرفون ان قوات الجيش والبيشمركة تستعد لتحرير الموصل، ورغم ان معظم المتبقين من الموصليين يريدون الخلاص من «داعش» ، الا انهم يخشون ان تستمر حرب تحرير الموصل شهورا وتتخذ «داعش» من الاهالي دروعا بشرية لها ولمقاتليها.
من واجب المعارضة السياسية الراشدة أن تكون قادرة على تتبع تفاصيل المشهد السوري . ولاسيما ما يصدر منها عن جهات مؤثرة أو فاعلة والسبق إلى تحديد موقف إعلامي منها ، ووضع الخطط والآليات العملية للتعامل معها بتعزيز الإيجابي وإماتة ونفي السلبي .
كل الطروحات تبدأ جنينية ، وأحيانا وجهات نظر فردية ، وإذا لم تجد الموقف الذي تستحق ، ربما نما السلبي منها في ظل الصمت والظلمة وتحول إلى مقترحات ومن مقترحات إلى خطط مما يجعل من الصعب التعامل معها والتصدي لانعكاساتها ...
وهذا الجهد في الرصد والتتبع وتحديد الموقف ومن ثم وضع الخطط والآليات العملية للتصرف الراشد هو ما يطلق عليه في العادة ( الحضور) ، الحضور الفاعل المنفعل المتجاوب مع أي وخزة دبوس ولو في طرف إبهام الرجل . وعكس الحضور هو الغياب والغياب هو شكل من أشكال الموت . الأموات يغيبون ، والأموات لا يسمعون ما يقال ، ولا يرون ما يدور حولهم ؛ وبالتالي فالأموات لا يستجيبون ..(( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ))
في الحديث عن حل سياسي في سورية ظلّ الإعلان عن التمسك بوحدة سورية أرضا وشعبا لازمة تأكيدية يتطوع بها الجميع ويتمسك بها الجميع وهي رغم تكرارها لم تكن مملة بل ظلت دائما ضرورية . ويبدو أن التأكيدات المعلنة المتكررة كانت استباقا تطمينيا ، وربما وقتيا ، لنفي ما يدور في الخلفيات الذهنية والنفسية للمتحدثين ، وربما كان الإصرار على ترك الجرح السوري نازفا ، لجعل ما لا يُقبل الحديث عنه ابتداء مقبولا في ظروف القرار الصعبة انتهاء ..
لقد كان خطيرا ، وهو مرفوض ومستنكر ومدان ، من كل السوريين الأحرار الشرفاء على اختلاف الهويات الفرعية ؛ ما أعلنه أو اقترحه بالأمس الجمعة / 19 / 12 / 2014 السيد أندرس فوغ راسموسن الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي ( أن يكون الحل في سورية على الطريقة البوسنية ) !!
ففي ندوة تحت عنوان / السلام في الشرق الأوسط - اللاعبون – المشاكل – وسبل الحل ../ التي نظمتها جامعة حسن قليونجي في مدينة غازي عينتاب التركية قال راسموسن : ( في سورية ينبغي تقاسم البلاد في إطار التوزعات الإثنية والدينية عبر إقناع الأسد بمغادرة السلطة .مؤكدا أن هذه الصيغة ليست هي الحل الأمثل إذ بعد الخلافات الدينية والإثنية في سورية أعمق من البلقان ...)
وهذا الكلام على خطورته ، وتداعياته الكارثية على مستقبل سورية الدولة والأرض والإنسان ، وتناقضه مع كل ما استقر عليه الأمر من وحدة الأرض والشعب في سورية يستحق من جميع قوى المعارضة الراشدة رفضا واستنكارا من جهة وخططا وآليات عملية تميت بوارح مثل هذه الأفكار السود في مهدها ...
وهذا الكلام من جهة أخرى كلام متهافت موضوعيا وعلميا ، فلا سورية في خارطتها الديمغرافية العددية هي البلقان ، ولا القطيعة بين أبناء المجتمع السوري الموحد على اختلاف الانتماءات بلغت عشر معشار ما كان عليه الأمر في البلقان .
إن الذي يجب أن يقال للسيد راسموسن إن التناقض الأول والأساسي في سورية هو تناقض بين طغمة مستبدة فاسدة وبين شعب بكل مكوناته يتوق إلى العدل والحرية والتعايش بحب ووفاء وخلا هذا التناقض فإن إرادة البقاء معا ، والعيش المشترك هي قاعدة أساسية يجتمع كل السوريين عليها .
بل يجب التأكيد أنه حتى هذه المجاميع من السوريين التي لا تقف في صف الثورة والثوار ليست رافضة في الحقيقة لمشروع الثورة ولا لتطلعات الثوار ، وإنما هي تستثقل الكلفة المبهظة من الدماء والدمار من واقع معرفتها بقسوة وبشاعة هذه الطغمة الفاسدة المفسدة . ..
ومما يجب التنويه إليه في هذا المقام هو أن المجتمع الدولي ، والسيد راسموسن بخلفيته أحد كبار ممثليه ، الذي يتمسك بالقيم الكونية التي تمضي بعيدا في إزواء الهويات الكبرى لحساب قيم العولمة التي يصفها بالإنسانية ؛ يحاول اليوم في مجتمعاتنا المتطلعة إلى العدالة والكرامة إعادة استنبات الهويات الفرعية والنفخ فيها ، وتعظيم استحقاقاتها .
وإن هذه القوى الدولية المنحازة في أصل أمرها ضد قضايا الشعوب وتطلعاتها ،والتي ارتضت على مدى ستة عقود أن يستقر هرم المجتمع والدولة في سورية على رأسه ، ولم تجد في ذلك أي ضير أو غضاضة وهي تتابع بصمت على مدى العقود الستة المجازر المادية والمعنوية ؛ نراها اليوم تفزع إلى مثل اقتراحات السيد راسموسن الصفراء القاتلة بديلا عن عودة سورية إلى وضعها الطبيعي باستقرار هرمها الديمغرافي على قاعدة مجتمع مدني موحد تكون فيه المواطنة المجردة من كل اعتبار إضافي مناط الحقوق والواجبات ..
ولن نغادر المقام قبل أن ننهي إلى السيد راسموسن وإلى الذين ربما يصغون لقوله أنه لا عبرة ولا ثقل في ميزان الثورة السورية والثوار السوريين لكل هذه القوى المصنوعة و الظرفية التي تطرح طروحاتها الذرائعية الفجة لتعطي المسوغ لحديث مثل حديث السيد راسموسن ولاقتراح مثل اقتراحه ..
إن الثوار السوريين والمعارضة السورية الراشدة الماضية بكل قوة على طريق النصر تتمسك بالقوة نفسها وبالتصميم نفسه بوحدة الأرض السورية ووحدة المجتمع السوري ، ووحدة الدولة السورية وأي تفكير أو اقتراح ينال من هذه الحقائق سيبقى مستنكرا ومدانا ومرفوضا ومقاوما بكل ما أوتي السوريون كل السوريين الأحرار من قوة وعزيمة ..
لندن : 29 / صفر / 1436