ليس خبراً مهماً، مقارنة بغيره من أخبار سورية، منعُ الشبان والرجال السوريين المولودين بين 1972 و1995 من مغادرة البلاد، من دون موافقة من شعبة التجنيد تُبيّن أنهم غير مطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية. قبل ذلك أصدر النظام قرارات عدة، بعضها وضع قيد التنفيذ بلا إعلان، منها مثلاً إلزام الأطباء دون سن الخمسين بالحصول على تصريح من شعبة التجنيد، إذا قرروا السفر، وأيضاً إعداد لوائح بثلاثين ألف مطلوب للخدمة الاحتياطية فقط في القسم الذي يسيطر عليه من حلب. كل القرارات الشبيهة فُسّرت بالنقص العددي الذي يعانيه النظام نتيجة استنزاف قواته في المعارك، وهو تفسير صحيح، لكن الأخطر في مجمل الآثار المستقبلية على الشريحة العمرية الفعالة في سورية.
الفئة المستهدفة، كما هو واضح، هي التي يُفترض بها حمل عبء النشاط الاقتصادي والحراك الاجتماعي. من هذه الفئة تحديداً تشير التقارير إلى مقتل ما يقارب نصف مليون شاب، إما في المعارك أو تحت القصف أو في معتقلات النظام، وعليها أيضاً وقعت نسبة كبيرة من الإعاقات الجسدية والنفسية في السنوات الثلاث الأخيرة، فضلاً عن أنها الفئة التي «بسبب كل ما سبق» هي الأكثر نزوحاً خارج البلاد. وتجدر الإشارة إلى أن قرارات منع السفر تؤدي مفعولاً عكسياً، إذ تسعى الفئة المستهدفة إلى الالتفاف عليها عبر الفساد، وتُفاقم تالياً من نزوحها، هكذا على سبيل المثال بلغ شحّ الأطباء في أماكن سيطرة النظام حداً غير مسبوق، وبلغت نسبة الهاربين من الخدمة الإلزامية حداً غير مسبوق حتى في بيئات تُصنّف مؤيدة ولم تشهد ظاهرة التخلف عن الالتحاق بالجيش من قبل.
النظام بقراراته يضع المستهدفين أمام خيارين، فإما المشاركة في حربه أو مغادرة البلد، ويُذكر أن حزب الاتحاد الديموقراطي فرض نوعاً من التجنيد الإلزامي أيضاً في المناطق الكردية، ما تسبب في نزوح عدد كبير من الشبان المتبقين فيها، وسبق لبعض الفصائل المعارضة في غوطة دمشق، على رأسها جيش الإسلام، إعلان التجنيد الإلزامي في مناطق سيطرتها، القرار الذي لم يدخل التنفيذ الجاد لكن يُحتمل ألا تختلف آثاره إلا بسبب الحصار الخانق الذي يفرضه النظام ويمنع الراغبين من المغادرة.
في كل الأحوال، يتم تغليب مقتضيات الحرب على ما عداها، وفي المقدمة تغليبها على اعتبارات الحرية الشخصية، لكنْ إلى جانب هذا تماماً يُقضى على الحد الأدنى من المقومات الاقتصادية للعيش بسبب الخيارين المذكورين، وهي ضربة تكاد تكون قاصمة ونهائية في ظل المعطيات الحالية، إذ توزّع مستهدفيها بين قتيل محتمل ونازح لن يعود.
الدراسات القليلة عن الخسائر السورية منذ انطلاق الثورة، بما فيها تلك الصادرة عن منظمات دولية، تلجأ إلى تخمينات تحاول مقاربة الواقع، لكن أيّاً منها لا يشير إلى هذا النوع من النزيف البشري والاقتصادي تخصيصاً له من أزمة النزوح والإبادة ككل. إذ من المحتمل جداً، في مجتمع كان يُصنّف شابّاً، أن يخسر ميزته هذه نهائياً مع توقف الحرب، أي في الوقت الذي سيكون في أمسّ الحاجة إليها لإعادة الإعمار. ومن المحتمل جداً، في حال طال أمد الصراع، أن تحتاج سورية إلى ما لا يقل عن مرور جيلين لتعويض النزيف البشري الهائل من شبابها.
الملاحظ على هذا الصعيد أن شحّ الدراسات وأرقامها المتفائلة قياساً إلى الواقع ناجم عن تسييسها. فالمنظمات الدولية بذريعة فقدانها مصادر موثوقة للمعلومات لا تريد الوصول إلى إعلان سورية منطقة منكوبة بما للإعلان من تبعات، ولا تريد التعاطي مع الآثار المستدامة للصراع على «أمل» بقائه حالة طارئة. أما النظام فليس من مصلحته الكشف عن الأرقام التي يملكها أمام مؤيديه، في حين تتراوح هيئات المعارضة بين التقليل من شأن الخسائر لتشجيع الداعمين وبين المبالغة أحياناً من باب التسييس الفاقع.
التقليل من هول الكارثة هو من الآليات المشتركة بين أطراف عدة، وهو يضمر التلميح إلى غنى الموارد البشرية على نحو مبالغ فيه جداً، فضلاً عن حساسيته الأخلاقية المتدنية تجاه القتلى.
من جهة أخرى، يتعاطى أولئك مع قضية النزوح بصفتها حدثاً طارئاً سينتهي مع انقضاء الحرب، بينما تدل تجارب أقل بؤساً على عدم عودة النازحين إلى بلدانهم تلقائياً بعد انتهاء الصراع، ومن المرجح ضمن الفئة العمرية المعنية ألا تعود سوى نسبة ضئيلة جداً بعدما وطنت نفسها في بلدان النزوح. تنبغي الإشارة إلى أن هذه الفئة هي الأقل نسبة ضمن المخيمات لأنها تحظى بفرص خارجها، إما بموجب الكفاءة أو كقوة عمل في مهن لا تتطلب المهارة، وفي الحالتين فعودتها غير متوقعة إلى بلد منهار.
يمكن وصف ما يحدث الآن، وما لم تظهر آثاره الكلية بعد، بعملية تصحّر اقتصادي كبرى حتى في مناطق سيطرة النظام المستقرة نسبياً. فانتزاع قوة العمل الأساسية أدى إلى تدهور كبير على المستويين الصناعي والزراعي في البيئات التي لم تنل منها الحرب مباشرة، والأخطر أن ذلك الانتزاع ترافق مع نمط اقتصادي مليشيوي صنعه النظام بثقافة التشبيح والسلب. بهذا المعنى، فالتدهور لن يكون عارضاً وموقتاً لترافقه مع تدهور قيمي يرى في القوة السبيل الأقصر إلى الثراء، ومعالجة هذا الواقع ستكون عسيرة وطويلة أسوة بعمليات مكافحة التصحر، وستقتضي العمل الشاق على إعادة تأهيل العامل البشري أسوة بتأهيل المصانع أو الأراضي الآخذة بالتصحر بفعل الإهمال وسياسة الأرض المحروقة.
ما يزيد اللوحة سوداوية وضع الأطفال الذين يُفترض بهم لاحقاً سدّ الفراغ. فالجيل الحالي منهم موزّع بين مخيمات اللجوء وأماكن النزوح الداخلي، والنسبة الغالبة منهم لا تتلقى الحد الأدنى من المهارات التعليمية أو الخدمات الضرورية، ويصح الجزم بأن الأطفال في مناطق سيطرة النظام ليسوا في حال جيدة أيضاً من هذه الناحية، أي أننا أمام جيل شاب قادم بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل، إذا كانت عودة قسم كبير منه إلى البلد متاحة. هذه سورية التي لا يكترث العالم بـ «صندوقها الأسود»، ويطالب من نجا فيها من محرقة الأسد بالتطوع لمحاربة الإرهاب.
منـــذ عامين، لـــم تــعد ثورة السوريين هي ذاتها، فقد باتت في مـــجال آخـــر، في موضوعاتها، وخطاباتها، ومشـــكلاتها، وفي مسـار آخر نسبة لأشكال عملها، والقــــوى المؤثرة فيها، إلى درجة يبدو معها إنكار ذلك بمثابة تعمية على الواقع، او ميلاً لاستمراء العيش على الأوهام، وهو ما لا يخدم قضية السوريين.
ثمة عوامل عدة ساهمت في حصول هذه الانزياحات، ضمنها، أو الأساسي فيها، تفلّت النظام من أية قواعد، أو حدود، سياسية أو أخلاقية، في استخدامه القوة العسكرية الغاشمة لفرض سيطرته، في محاولته قتل تطلع السوريين المشروع للحرية والتغيير السياسي. وقد يجدر التذكير هنا أنه منذ تموز (يوليو) 2012، مثلاً، بات عدد ضحايا القصف الجـــوي والمدفعي بين أربعة إلى خمسة آلاف، كمعدل شـــهري (وفي أشهر معينة وصل الى ستة آلاف)، بعد ان كان يتراوح بين الف والفين، علماً ان عددهم كان بين 600 ـ 800 في أول ستة أشهر من اندلاع الثورة، أي الأشهر السلمية، حيث لم يكن وقتها لا سلاح ولا مسلحون، وبالطبع لا «داعش» ولا «نصرة» ولا «علوش».
وقد يجدر لفت الانتباه هنا إلى ان توحّش النظام ترتّب عليــــه، ليس قمع الحراكات الشعبية فحسب، وإنما تحـــويل الثـــورة مـــن حالة صراع على السياسة والسلطة، إلى حالة صراع على الوجود والهوية، وهـــذا هو الأخطر، وهو ما نجح النظام فيه، وأكسبه عنصــر قوة مضافة، وهو ما لم يكن بالإمكان تداركه وتفـــويته، بسبب تدني الوعي بمخاطر هذا التحول، وبحكم الطابع العفوي للثورة، وغياب الاجماعات بين القوى التي حاولت تصدرها، او التعبير عنها.
في المحصلة فإن القوى المعنية لم تنتبه جيداً لاستراتيجية النظام الرامية لحرق الأرض من تحت «أرجل» الثورة، وتصحيرها، وحرمانها من البيئات الشعبية الحاضنة لها او المتعاطفة معها، بل تحويل قطاعات واسعة من السوريين، تُقدر بالملايين، إلى حالة تثقل على الثورة بدل ان تكون حاملاً، او حاضناً لها، وهو ما توج بحرمانها من عمقها الشعبي. هكذا تمت عملية إزاحة غالبية المجتمع السوري من المشهد، إن مع وجود «طوائف» الخائفين والحائرين والقلقين، أو بحكم استهداف البيئات الشعبية الحاضنة للثورة بالحصار والتقتيل والتدمير، كما بسبب تشريد أهالي مدن بأكملها، داخل وخارج سورية.
يأتي ضمن العوامل، التي أخرجت الثورة عن مســـارها، تلكؤ المجتمع الدولي عن تحمل مسؤولياته إزاء تحديد مستوى العنف، ووضع حدود للسيطرة عليه، أو إزاء إيجاد حل سياسي للمسألة السورية. والـواقع فإنه في هذين الأمرين تعرضت ثـــورة السوريين لانتكاسة خطيرة، وربما إلى نوع من «خيانة»، سواء مع وعود التدخل مختلف الاشكال، أو مع تغذية الأوهام بشأن «الخطوط الحمر»، من نوع «حلب خط احمر»، و «الكيماوي خط احمر»، وصولاً إلى الحديث عن اعتبار النظام غير شرعي، وأن على الأسد ان يتنحى، مروراً بوعود الدعم المادي والتسليحي والسياسي، وهي وعود او أوهام ساهمت فيها قوى دولية وإقليمية وعربية معروفة.
المشكلة أنه على هذه الوعود، والأوهام، جرى رفع مستوى وتيرة الصراع في سورية، ليس من حيث مقاصده، وإنما من حيث اشكاله، ووتائره، او الرؤية التي جعلته يسير على النحو الذي سار عليه. أي ان السوريين، من غير ذلك، كان بإمكانهم ان يسيروا على نحو آخر، ربما أكثر تأثيراً، وفاعلية، حتى لو كان اطول زمناً، لكن بأثمان وأكلاف وعذابات أقل، هذا بالقياس إلى الأهوال التي اختبروها طوال الأعوام الأربعة الماضية.
على أية حال ترتبت على وحشية النظام، وسلبية المجتمع الدولي، والمداخلات الخارجية المضرة، من الأعداء و «الأصدقاء»، عدة ظواهر، أولاها، انحسار الثورة السورية، وخروج الوضع من تحت سيطرتها، من دون ان يعني ذلك انتهاءها، بدلالة تراجع مكانة إطاراتها، او تعبيراتها، السياسية والعسكرية والمدنية والإغاثية. وثانيتها، تحول سورية ساحة مفتوحة، للصراعات الدولية والإقليمية والعربية، على المشرق العربي، بمعزل عن مصالح السوريين، وبما يضر الثورة والمجتمع. وثالثتها، تصدر الجماعات المسلحة المتطرفة والتكفيرية، التي تتغطى بالإسلام، والتي يصعب التمييز بين كونها معطى داخلياً، وبين كونها معطى خارجياً، او كنتاج للمداخلات المخابراتية، الدولية والإقليمية والعربية المتضاربة.
طبعاً، ليس ثمة مجال هنا للحديث عن أنه كان بالإمكان أفضل مما كان، لأن القول بذلك مجرد تعبير نظري، إذ إن الواقع، او التاريخ، يشتغل على النحو الذي يتشـــغل عليه، بمعزل عن النوايا، وعن النظريات. والمعـــنى أنه لم يكن متاحاً للسوريين، ولا بأي شكل، ثــورة، أو حراكات شعبية، على المسطرة، او بحسب التنظيرات الكلاسيكية المعروفة، لأن المقدمات التـــي تؤدي إليها لم تكن متوافرة اصلاً، ولا كان من الممكن توفرها في المدى المنظور، فما كان متوافر هو استمرار الاستبداد فقط، واستمرار حال تغييب وامتهان السوريين، ومصادرة حقوقهم كبشر.
هذا لا يلغي ناحيتين، اولاهما، أن القوى، أو الشخصيات، التي تصدرت الثورة السورية لم تثبت ذاتها، حتى بالمعنى النسبي، بخاصة أنها لم تحافظ على مكانتها إزاء المداخلات الخارجية المضرة، ومالت أكثر نحو الارتهان لهذه القوى، على حساب مصلحة السوريين، وسلامة مسار الثورة السورية. وثانيتهما، أن الموازنة بين كلفة الثورة، وضرورتها، في هذه الظروف تبقى مجالاً للتساؤل لا سيما على الصعيد الأخلاقي، ومع كل الأكلاف والعذابات والمعاناة التي كابدها السوريون، والتي بالتأكيد يتحمل النظام المسؤولية الأساسية فيها. ذلك ان مسؤولية اية ثورة تقليل الاكلاف، لا زيادة وطأتها، او التعامل معها من دون مبالاة وكأنها تحصيل حاصل.
ثمة قضايا ومشكلات وتعقيدات كثيرة اعترضت ثورة السوريين، واعاقت طلبهم الحرية والكرامة والتغيير السياسي، وساهمت في كل الخراب والتشقق في أحوالهم، وفي رؤيتهم لذاتهم، ينبغي تداركها، والعمل على ترميمها، لأنه من دون ذلك قد تذهب هذه الثورة من الانحسار إلى الأفول، وربما يصبح الوضع السوري حينها مجرد لعبة للصراعات الدولية والإقليمية.
تقول التجربة إن الحروب الأميركية قد تكون أكبر مصادر الخطر على حلفاء أميركا. هذه حقيقة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. يعرف الكوريون والفيتناميون والأفغان ذلك جيداً. الآن هناك حرب جديدة على تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، مضى عليها أكثر من خمسة أشهر، ولم يتضح شيء في شأنها بعد. لا أحد يعرف شيئاً عن هدفها الاستراتيجي، ولا إن كانت حرباً على «داعش»؟ أم على الإرهاب؟ والمربك في ذلك أنه من الممكن جداً هزيمة هذا التنظيم، خصوصاً أمام تحالف يضم أكثر من 30 دولة بقيادة أميركا. فهذا تنظيم معادٍ للجميع تقريباً: للعرب، وللغرب. ومعادٍ لغالبية المسلمين سنّة وشيعة، وللمسيحيين، والإزيديين، وغيرهم، الأمر الذي يجعل أو يفترض أن يجعل مهمة تقليص وجوده ودوره وصولاً إلى تدميره، كما يقول الرئيس الأميركي أوباما، في متناول اليد. لكن تجربة الحرب على «القاعدة» تؤشر إلى أن الأمر ليس بالسهولة التي قد تبدو عليها. فبعد أكثر من 13 عاماً لا يزال تنظيم «القاعدة» نشطاً في اليمن، والعراق، وسورية، والمغرب العربي. ضعف تنظيماً وإمكانات، لكنه ضعف لم يؤذن بنهاية التنظيم، ونهاية الإرهاب. على العكس، تبيّن الآن أن ضعف «القاعدة» كان إيذاناً بموجة إرهابية جديدة أعتى وأكثر خطورة.
يأتي تنظيم «داعش» على رأس هذه الموجة، وهي موجة دشنت أكبر وأخطر حرب أهلية على أسس مذهبية في التاريخ الحديث للمنطقة العربية. أميركا هي المسؤول الأول عن إطلاق هذه الموجة، لأنها بدأت من العراق تحت الاحتلال الأميركي. آنذاك سلمت واشنطن الحكم ومسؤولية إعادة بناء الدولة ليس للعراقيين كمواطنين، وإنما للقوى الشيعية التي تعاونت معها في الاجتياح كمعارضة للنظام السابق. وبالتوازي مع ذلك سمحت وبشكل لافت بتنامي النفوذ الإيراني داخل مؤسسات الدولة الوليدة. ووصل الأمر إلى أن النفوذ الأميركي يتراجع أحياناً أمام النفوذ الإيراني. واتضح ذلك في حال رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. كانت إدارة أوباما تفضّل إياد علاوي لرئاسة الحكومة بعد فوزه في انتخابات 2010. لكن علاوي بالنسبة إلى طهران خط أحمر، لذلك كان من نوادر التقاليد الأميركية في السياسة الخارجية أن تذعن، وهي الدولة المحتلة، لخيار تولي المالكي رئاسة الحكومة على رغم خسارته الانتخابات، وعلى رغم أنه خيار إيران، الدولة التي ليست لها علاقات ديبلوماسية مع واشنطن، بل هي في حال عداء معها.
هنا تكمن خطورة السياسة الأميركية. وهذا واضح في أن إدارة أوباما الحالية بعد انسحابها من العراق ترهن سياستها في المنطقة، وتحديداً في العراق وسورية والخليج العربي، بالاتفاق النووي مع طهران، وما يمكن أن يفضي إليه من تفاهمات إقليمية معها. في السياق نفسه، يتعامل أوباما مع الحرب على الإرهاب في المنطقة، وعلى «داعش» تحديداً، انطلاقاً من الارتهان نفسه، أي أنه لا يريد أن يلزم نفسه بخطة واضحة الأهداف في هذه الحرب قبل أن تتضح معالم مستقبل علاقته مع إيران. الأكثر من ذلك أن التحالف الدولي ضد «داعش» سمح لإيران بالمشاركة في هذه الحرب، من دون أن تكون عضواً رسمياً في التحالف، لكنها عملياً وبمشاركتها عضو فيه (انظر صحيفة الـ«نيويورك تايمز»، 3 كانون الأول / ديسمبر الجاري). وإذا أخذنا الاختلافات بين أميركا وحلفائها العرب حول العراق وسورية وإيران، أمكن القول بأن التحالف ضد «داعش» يتشكل عملياً من دول لا يجمع بينها إلا أمر واحد، وهو هزيمة «داعش». ما عدا ذلك تبدو صورة الوضع غامضة إلى حد الإرباك. وهنا مكمن الخطر. على خلفية ذلك، لم يعد من الممكن وضع خطة أو استراتيجية واضحة تكون الحرب على «داعش» جزءاً منها، وتكون هزيمة هذا التنظيم أحد أهدافها وليست هدفها الوحيد. لذلك ظلت هذه الحرب وقد مضى عليها أكثر من خمسة أشهر الآن غامضة، وتثير الكثير من الأسئلة التي لا يجد أحد جواباً عليها. مثلاً، ما هو الهدف من هزيمة «داعش»؟ سيقال أن هزيمة «داعش» هزيمة للإرهاب. لكن هذا يختزل الإرهاب في تنظيم واحد. ثم إن مثال تنظيم «القاعدة» وما آلت إليه الحرب عليه يقول عكس ذلك. ضَعُف تنظيم «القاعدة»، ولم ينهزم الإرهاب ولم يضعف، بل تفاقم. الآن إلى جانب «القاعدة» هناك مئات، بل ربما آلاف الميليشيات الإرهابية. السؤال الثاني: ماذا بعد هزيمة «داعش»؟ ما الذي ينبغي فعله بعد ذلك؟ بعبارة أخرى، ما هو الهدف التالي لهزيمة «داعش»؟ لا أحد يعرف إجابة على هذا السؤال. ما هي علاقة «داعش» وظاهرة الإرهاب في العراق تحديداً بالاجتياح الأميركي لهذا البلد، وبالدور الإيراني في هذا الاجتياح، وبالطريقة التي تمت بها عملية إعادة بناء الدولة العراقية بعد تدميرها على يد الاحتلال؟ ثم ما هي علاقة الإرهاب الذي بدأ في العراق بالحرب الأهلية في سورية؟ تفضّل إدارة أوباما الفصل بين الحالين، وهي تعرف أنهما غير قابلتين للفصل. يكفي أن إيران و«داعش» وأخواته، والميليشيات الشيعية عامل مشترك بين ما يجري في العراق، وما يجري في سورية. لكن كيف يمكن تفادي هذا التخبط من دون خطة، ومن دون استراتيجية؟ سؤال ثالث: لماذا يسمح بمشاركة ميليشيات شيعية عراقية وغيرها في الحرب على «داعش»؟ هذا يؤجج الشحن الطائفي، ويزيد أوار حرب طائفية يراد إخمادها. ثم إن السماح بمشاركة هذه الميليشيات يضع شبهة لا حاجة لأحد بها، وهي أن الحرب على «داعش» هي أيضاً حرب على فريق مذهبي بعينه من فرق الإرهاب. وهذا ما تتردد أصداؤه الآن في المنطقة، ويمثل خطورة على الجميع. والسماح بمشاركة ميليشيات هي في الواقع إرهابية يجعل منها عملياً حليفاً لدول تحارب الإرهاب في المنطقة.
بقاء هذه الأسئلة من دون إجابات يؤكد المؤكد، وهو أنه ليست هناك خطة، أو استراتيجية لمحاربة الإرهاب، بما في ذلك «داعش». كما ذكرت هزيمة «داعش» ممكنة جداً، لكنها لن تكون نهاية للمشكلة، بل قد تؤدي إلى استئناف جديد لها. ما لم تكن الحرب على الإرهاب حرباً عليه كمفهوم، وسلوك، وقيم وسياسات، وتنظيمات، فإنها ستكون من الحروب التي تلد إحداها الأخرى. وتاريخ حروب أميركا لا يطمئن كثيراً. نجحت في عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، وفي كوسوفو إلى حد ما. لكنها فشلت في كوريا، وفيتنام، وأفغانستان، والعراق. وأهم ما يميز حروب واشنطن الفاشلة أنها كانت من دون استراتيجية واضحة. وافتقار الحرب على «داعش» لخطة واضحة هو ما سمح لإيران بأن تكون طرفاً مشاركاً فيها، وهي الدولة الطائفية، التي تنشئ وتتبنى ظاهرة الميليشيات الإرهابية كأداة لدورها الإقليمي في المنطقة. تمثل مشاركة إيران أحد العوائق الآن أمام وضع خطط سياسية وفكرية وتربوية ضد الإرهاب كمفهوم، وكظاهرة تهدد الجميع. ولأن الإرهاب في مرحلته الحالية ينطلق من الطائفية، وإيران لا تستطيع محاربة الطائفية لأن نظامها السياسي تأسس عليها، وتعتاش منها في سياستها الإقليمية، فكيف يمكن وضع خطة في هذه الحال؟ المدهش أن الدول العربية المشاركة في التحالف قبلت أولاً بحرب من دون خطة واضحة بمراحلها وأهدافها، وقبلت ثانياً، أو لم تعترض على مشاركة إيران في هذه الحرب وفقاً لأجندتها هي، وليس أجندة أحد آخر. هل يعني هذا ضرورة مقاطعة إيران؟ ليس بالضرورة. لو كانت للتحالف استراتيجية واضحة مشتركة، لكانت مشاركة إيران في إطار هذه الاستراتيجية، وليس خارجها. لكن ليس هذا ما تريده واشنطن الآن. وكثير مما لم ترده واشنطن في حروبها السابقة تسبب في إرباكها، وإرباك حلفائها، وأخيراً تسبب بفشل حروبها السابقة. هل سيكون هذا مآل الحرب الحالية على «داعش»؟ إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، لا ينبغي استبعاد ذلك.
تصدر المشهد السوري في الآونة الأخيرة الحديث عن حلول سياسية ومبادرات لإنهاء الصراع بين المعارضة السورية والنظام، كل جهة تطرح مبادراتها لتسوية الأزمة بين النظام والمعارضة تعتبرها الأمثل، للخروج من دائرة الصراع على السلطة في سوريا.
لو فرضنا أن إحدى هذه التسويات نجحت في حصد موافقة النظام والمعارضة، وتحققت بالفعل، ولو فرضنا جدلاً أن مطالب المعارضة السياسية نفذت واستلمت مقاليد الحكم في سوريا، وأن الأسد لم يعد موجوداً مع الصف الأول والثاني من قياداته، بل والثالث أيضاً ! فهل سيقود هذا إلى إنهاء الصراع في سوريا واستقرارها، وبالتالي عودة الحياة الطبيعية إلى المدن السورية، والبدء بالإعمار؟
من الممكن أن يتحقق هذا حقيقة لو أن الصراع في سوريا إلى اليوم ما زال قائماً بين المعارضة والنظام، ولكن واقع الصراع مختلف، فلم يعد ثنائياً كما كان قبل ظهور تنظيم الدولة، الذي بات طرفاً ثالثاً وحاسماً، في حال أراد المجتمع الدولي العمل جدياً من أجل تحقيق السلام والاستقرار في سوريا، الذي بدوره ينعكس على أمن منطقة الشرق الأوسط كاملة، واستقراراها.
إذاً، ما الذي يدفع كلاً من أمريكا و روسيا وحلفائهم من الدول الراعية والداعمة للحلول السياسية من أجل بذل هذه الجهود كلها، وضخ الدعم المالي والسياسي وتبني شخصيات معارضة، من أجل الوصول إلى تفاهمات بين أطراف النزاع المختلفة؟
وما هي أهدافهم من خلف هذه التحركات، وهم يدركون أن أي حل سياسي لن يحقق الأمن والاستقرار لسوريا، خصوصاً بعد تشعب أطراف الصراع المسلح، وانهيار الدولة، وتضارب أهداف قوى الصراع المسلح، بين معتدل ومعتدل، ومتطرف ومتشدد، ومعتدل ومتطرف ؟
إن تكاتف الجهود الدولية لإيجاد حل سياسي بين المعارضة والنظام، ما هو إلا لخلق آلية جديدة لاستثمار الصراع في سوريا، وتوجيهه لما يخدم طموحاتهم في المنطقة، فاليوم وبعد أربع سنوات من الصراع الدموي بين النظام والثوار، نجد أن التعامل مع المعارضة السياسية يأخذ طابع العمل السياسي الحقيقي، والحوار الجدي بعد سنين عجاف من التجاهل والتلاعب بالمعارضة بمختلف أطيافها والتعاطي معها كمنظمات إغاثية أو مجسمات غير مرئية، على الرغم من الاعتراف بهم ممثلين للثورة وإغراقهم بالمال السياسي، لعقد الندوات والمؤتمرات باهظة التكاليف.
وإذا ما بحثنا في أسباب هذا التغيير، وفي هذا التوقيت، يمكن أن نقرأه من خلال ثلاثة تطورات جديدة في المشهد السوري:
أولاً: على الرغم من أن الأيادي الإيرانية والروسية والإسرائيلية هي التي أمسكت نظام الأسد عن الانهيار طيلة الأربع عمر الثورة، إلا أن معالم الانهيار بدأت تطفو عليه بشكل لم يعد بالإمكان تجنبه.
ثانياً: تمرد ثوار الداخل ومعظم الفصائل العسكرية على سياسات الإقصاء عن صنع القرار السوري، التي ينتهجها المجتمع الدولي في تعاطيه مع المعارضة، وتكتلها في تجمعات انطلقت دعائمها من الداخل؛ كمجلس قيادة الثورة الذي ضم في مجلسه نسبة كبيرة من القوى الثورية الفاعلة على الأرض السورية، والتحالف الوطني لقوى الثورة السورية، والكتلة الوطنية الجامعة، وغيرهم، في خطوة يمكن وصفها بـ"انتفاضة "على واقع سياسي فرض عليهم سابقاً، ومشروع آخر قد يفرض.
ثالثاً: الحاجة الملحة لوجود جسم سياسي بديل عن النظام، وفي الوقت نفسه طيع في يد المجتمع الدولي، هذه الحاجة أتت من خلال نوعية التكتلات السياسية الجديدة، وما تمتلكه من حاضنة شعبية لا يستهان في قدرتها على التأثير والتغيير، في اتجاه أغلب اعتقادنا أنه يثير قلق اللاعبيين الإقليميين والدوليين في المنطقة، في حال خرجت عن سيطرتهم.
إذاً، إن ما يحضر له اليوم من تفاهمات سياسية بين المعارضة والنظام في سوريا، يهدف إلى تشكيل سلطة جديدة، تستوعب الدور المناط بها أداؤه في المرحلة القادمة، والمتفاهم عليه دولياً، بكل تأكيد أي حل سياسي في سوريا اليوم، ما هو إلا تجميد للصراع على السلطة سواء جاء طبق معايير ديمستورا، أو جاء في قوالب روسية أو أمريكية أو إيرانية أو مصرية، مهما يكن القالب فالهدف الحقيقي والمعلن اليوم هو إفراغ ساحة النزاع بين قوتين عسكريتين، هما الجيش الحر وقوات النظام الأسدي، واستثمار القوى والجهود لمحاربة تنظيم الدولة، على اعتبار أن خطره لا يهدد سوريا أو منطقة الشرق الأوسط فقط، وإنما هو تهديد عابر للحدود.
مرّت حادثة اختراق الموساد لحزب الله من خلال الوصول إلى أو وصوله إليهم بالأدق محمد شوربة مسؤول العمليات الخارجية للحزب منذ عام 2008 ومسؤول الحماية الأمنية لزعيم الحزب حسن نصر الله من قبل مرور الكرام على النخب العربية والإسلامية، تماماً كشقيقاتها من حوادث مماثلة أعلن فيها عن اختراق الموساد للحزب، وهنا نسجل الحالات المعلن عنها فقط، التي قد تشكل قمة جبل الجليد من حجم الاختراقات المخفية، فقد سبق أن أقرّ نصر الله عام 2011 بعمالة عنصرين من الحزب للسي آي إيه، وفي عام سبتمبر من العام نفسه أُعلن الكشف عن شبكة موساد داخل الحزب مؤلفة من خمس قيادات عليا دون إعطاء تفاصيل كالعادة، وفي يناير العام الماضي كشف عن خلية موسادية من عشرة أشخاص كان من بينهم المسؤول المالي للحزب..
حرب الأجهزة الأمنية ليست بجديدة في عالم التجسس، لكن الجديد هو تطوع محمد شوربة المتبوئ لهذا المنصب الحساس بنفسه بالاتصال مع الموساد، واستعداده العمل معهم، وقد وفّر له منصبه الحساس القدرة على إحباط خمس عمليات ثأرية رداً على مقتل عماد مغنية بحسب مسؤول أمني لبناني للواشنطن بوست، والأكثر إثارة هو تقلد الجاسوس لأخطر منصب وهو مسؤول الحماية الأمنية لحسن نصر الله، وهذا يعني باختصار أن لا مصلحة للموساد في التخلص من حسن نصر الله كما فعل مع ياسر عرفات.
الحزب كان مشغولاً في قتال من يصفهم بأذناب الصهاينة بحلب ودرعا وإدلب ودمشق وحمص وغيرها، أما جواسيس الصهاينة الذين يسرحون ويمرحون حول زعيم الحزب ويضعون الاستراتيجيات والسياسات الصهيونية من خلال مناصبهم، فهؤلاء من أهل البيت..
على هذا ينبغي تقييم أداء الحزب التاريخي إن كان باقتحام بيروت الغربية في مايو/ أيار 2008 أو من خلال حرب تموز 2006 التي أعلن صراحة زعيم الحزب حسن نصر الله ندمه على فعلها، ومن يدري فقد يُعلن الحزب لاحقاً أن من كان يدير العمليات الخارجية في سوريا عميلٌ للموساد، وبالتالي فكل أعماله ونشاطاته العسكرية الجارية في ذبح أطفال سوريا ووأد ثورتها وتدمير تاريخها من فعل الموساد وعملائهم الحزبلاتيين، فمن تمكن من خرق حزب الله بما يتعلق بالكيان الصهيوني لهو أقدر وأسهل من أن يحقق اختراقاً في جبهات أخرى مثل سوريا..
ترافق هذا الإعلان مع وقف حاتم الموسوي شقيق النائب في «حزب الله» حسين الموسوي بتهمة تزعمه عصابة لسرقة السيارات في لبنان، وهذا هو الشقيق الثاني للموسوي الذي يتورط بقضايا أمنية وعدلية بعد شقيق آخر اتهم بفضيحة حبوب الكبتاغون المخدّرة العام الماضي.
القضية الأهم التي قد تعني الحركات الإسلامية والجهادية التي تتعاون أحياناً أو تنسق مع حزب الله أن تكون على حذر إن لم يكن من ذات الحزب نفسه، فعلى الأقل حذر لغيره، يعني لبدهية اختراق الموساد التي تكررت ووصلت إلى ذورة القيادات التي بنفسها تتطوع وتتبرع للتعامل مع الموساد، وهو الأمر الذي يذكرنا تماماً بما كتبه الباحثون والخبراء من أن الغالبية من جيش لبنان الجنوبي بزعامة أنطوان لحد كانوا من الطائفة الشيعية التي ينتمي لها حسن نصر الله وحزبه، ويأتي احتلال الصهاينة للجنوب ولفترة لا بأس بها ليزيد من الشكوك في أنهم نجحوا بإقامة شبكات تجسس خطيرة ومعقدة يتعذر الكشف عنها.
حين يتحول الشخص أو الحزب أو الدولة إلى ظاهرة صوتية، وتغلب المزايدات والشعارات الطنانة على الحزب أو الدولة فاعلم أن في الأمر انهيار شامل أو حرف للبوصلة على الأقل، فصوت العقلاء حينها لن يُسمع وسيتهمون بالخيانة والجبن، بينما من سُيسمع صوته هم العملاء والخونة وأعداء الوطن والأمة، والمزايدين الذين يهربون في أول إطلاقة رصاص، ومن أراد المزيد ففي كتاب مصارع الاستبداد للكواكبي غنية له كلنا عن معرفة المستبد وأعوانه وأحواله ..
لكن أشد اهتماماً هو غياب النخب الفكرية والسياسية والإعلامية عن سبر أغوار هذا الاختراق وأسبابه وخلفياته وتاريخيته فضلاً عن تداعياته ومستقبله، كل هذا تم تغييبه تماماً كما تم تغييبه في السابق، ولعل المرء يُسرّح خياله ويتساءل فيما إذا كان هذا الاختراق لحركة المقاومة الإسلامية حماس، أو للرئيس المعزول محمد مرسي أو للثورة السورية، كيف ستكون حينها ردّات فعل النخب؟!، يومها لن يكون هناك حجرٌ واحد لن يُقلب ألف مرة لمعرفة تفاصيل التفاصيل والجزيئيات وليس الجزئيات لهذا الاختراق وخلفياته وأبعاده ، فقليلاً من الحياء المهني ليس غير.. أيتها النخب؟!
تراجعت مشاركة الفئات الوسطى في الثورة السورية تدريجيا بالتوازي مع إطلاق النظام العنان لكل أنواع العنف والتنكيل ضد المحتجين السوريين بعد أشهر محدودة على اندلاعها. ومقابل انحسار مشاركتهم، اندفعت الفئات الشعبية المفقرة، وخصوصا الفئات الريفية، لتتقدم واجهة الصراع مع النظام. هكذا، دفعت ضريبة باهظة جدا، ولا تزال تتكبد أفدح الخسائر اليوم، إذ تشكل أحد أهم مصادر تغذية التنظيمات الجهادية المتطرفة في سوريا، وبالتالي مادة الحرب الدولية التي تشن ضد تلك الجماعات.
لكن معاناة تلك الفئات تعود أساسا إلى ما قبل اندلاع الثورة السورية، حيث كانت تعيش تحت حد الكفاف الاقتصادي وتعاني من الفقر والحرمان وسوء الخدمات على جميع المستويات. فخلال عقد من الزمن في سوريا (2000 – 2010) تصاعدت وتيرة السياسات الاقتصادية الليبرالية تحت ستار ما دعي “بالإصلاح الاقتصادي”، وحقيقة الأمر أنه كان خرابا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا معمما طالت آثاره الأغلبية الساحقة من السوريين.
ويشير تقرير حكومي صادر قبل اندلاع الثورة السورية، إلى أن نحو 40 في المئة من الفقراء السوريين عملوا في قطاع الزراعة الذي شهد تدهورا كبيرا في السنوات الأخيرة خصوصا بعد رفع الدعم الحكومي عن المحروقات، فيما يشير تقرير آخر إلى أن الفقر في سوريا لا يزال ظاهرة ريفية إلى حد كبير، وهكذا فقد شهدت مدن المنطقة الجنوبية (حيث اندلعت الثورة) أكبر زيادة في معدلات الفقر منذ عام 2004، حيث أصبحت نسبة الفقر في عام 2007 ضعف نسبة الفقر في عام 2004 تقريبا، وبالتالي فإن هذه المنطقة التي كانت لديها أدنى مستويات الفقر في عام 2004، غدت ثاني أفقر منطقة في عام 2007.
هكذا كان صدام تلك الفئات مع أجهزة النظام عنيفا جدا، مما جعلها تتكبد خسائر فادحة، لكنه أدى، في ظل التفوق الساحق لجيش النظام وطول أمد الصراع أيضا، إلى زيادة التطرف الديني في صفوفها.
بعد تهتك حركات المعارضة السورية، وضعف إمكانيات المعارضة المسلحة وفقدان الثقة في أي قوة خارجية يمكن أن توقف المذبحة السورية، شكلت الفئات الريفية المهمشة عاملا هاما في نمو الحركات الجهادية المتطرفة، ومنها تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم جبهة النصرة.
تتوسع تلك التنظيمات بصورة سريعة اليوم تحت ضغط الحرب واليأس الذي يحيط بالسوريين، وتعمل على تجنيد أعداد كبيرة يوميا. يقول الصحفي الألماني يورغن هورفر الذي سمح له بالدخول إلى معاقل تنظيم داعش إن التنظيم المتطرف يجند نحو 50 مقاتلا يوميا، جل هؤلاء هم من السوريين والعراقيين الفقراء الذين قاتلوا طلية الأعوام الماضية ضد النظامين السوري والعراقي في مجموعات متفرقة تفتقد إلى الإمكانيات وإلى التنظيم المطلوب.
وفي حين يكثف التحالف الدولي حربه ضد الدولة الإسلامية في سوريا والعراق بكل الوسائل التدميرية الممكنة، فإن ذلك سيكون بمثابة مذبحة مفتوحة وعلنية في حال لم تترافق مع جهود كبيرة من أجل تحييد هؤلاء الشباب المفقرين عن تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة.
لقد عملت سياسات دول المنطقة ودول العالم، فضلا عن سياسات النظام السوري وحلفائه، على دفع السوريين إلى مزيد من التطرف. وقد ساهمت بذلك، وبقسط وافر، في نشوء حركات جهادية في سوريا، فيما تركت السوريين فريسة سهلة لتلك الحركات، بحيث باتت تمتص بتطرفها وجنونها اليأس الكبير والظلم الفادح الواقع على هؤلاء المفقرين.
وبعد أن بلغت تلك الجماعات المتطرفة ذروة قوتها التجنيدية للفقراء السوريين والعراقيين، باشر المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة حربه عليها. وهو وإن حاول في العراق اتخاذ بعض السياسات التي تهدف إلى تحييد المجتمعات السنية عن داعش، بل وحشد الدعم المطلوب منها لقتال تنظيم داعش، لم يعمل في سوريا على أي مقاربة سياسية، كان له مقاربة حربية فقط هي القتل العام لجميع المقاتلين في صفوف داعش والنصرة باعتبارهم إرهابيين.
هكذا بينما فتك النظام السوري بالحاضنات الشعبية للثورة على مدار أربعة أعوام ما دفع تلك الحاضنات إلى التطرف وإلى الانضمام إلى داعش والنصرة، جاء التحالف الدولي ليكمل الحرب على تلك الفئات التي تبدو كضحية على امتداد فترات الصراع. إنها ضحية سياسات النظام السوري قبل اندلاع الثورة، حيث زادت تلك السياسات من فقرها وتهميشها. وهي ضحية صدقها في مواجهة النظام حيث تقدمت الصفوف ودفعت أفدح الأثمان، كما أنها اليوم ضحية الحركات الجهادية المتطرفة التي وجدت الفرصة سانحة من أجل تجنيدها وتقديمها كقربان في المواجهة العنيفة مع التحالف الدولي.
إن إصرار التحالف الدولي على القضاء على تنظيمي الدولة الإسلامية وجبهة النصرة دون أي مقاربة سياسية عاجلة للصراع السوري إنما هو إمعان في قتل السوريين، وخصوصا الأكثر فقرا وتهميشا بينهم.
منذ ثلاث سنوات، وإيران وتركيا تتحاربان في سوريا، لكن ذلك لم يحلْ دون أشكال كثيرة من التعاون بينهما، وفي المقدمة التعاون الاقتصادي الذي أفاد تركيا طيلة عقدين، بخاصة منذ مجيء حكومة العدالة والتنمية الأولى العام 2002، فيما ساعد إيران على مواجهة العقوبات القاسية التي فرضها عليها الغرب بسبب المشروع النووي.
اليوم تشن إيران حربا إعلامية غير مسبوقة على تركيا، يشارك فيها سياسيون وعسكريون وأمنيون من مختلف المستويات، ووصل الأمر حد إطلاق التهديدات الصريحة، الأمر الذي يجعل من الصعب القول إن الأمر سيتوقف عند ذلك الحد، إذ يمكن أن تنتقل الحرب من الكلام إلى الفعل، لاسيما أن بوسع إيران أن تفعل الكثير لإحداث القلاقل في تركيا، إن كان عبر تحريض الأكراد على نقض تفاهماتهم مع الحكومة التركية (باستغلال قضية كوباني)، أم عبر أعمال عنف داخلية يمكن لإيران أن تنفذها من خلال اختراقات لها في مجموعات مسلحة من شتى الألوان والأصناف، فضلا عن استخدام أدوات خارجية.
السبب الواضح والصريح لهذه الحرب الإيرانية المحمومة، والتي يمكن أن تتصاعد بمرور الوقت وتتخذ أشكالا متعددة يتمثل في الموقف التركي من القضية السورية، وكذلك القضية العراقية، وإذا قيل إن الموقف التركي من الملفين لم يتغير كي يحدث التحول في العلاقة، فإن الأمر لا يبدو كذلك بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وسيطرته على ثلث العراق، وأجزاء كبيرة من سوريا، وتصاعد صدامه مع النظام كما لم يحدث من قبل خلال العامين الماضيين اللذين تركز جهد التنظيم خلالهما على الصدام مع الجماعات المسلحة الأخرى، بصرف النظر عن المبررات التي تطرح في هذا السياق.
من المؤكد أن التهديدات الإيرانية لتركيا هي تعبير عن حالة نزق غير مسبوقة، فإيران بعد اجتياح الموصل وانشغالها هناك، وتراجع النظام السوري في عدة مواقع لم تعد قادرة على إخفاء نزقها ولا مأزقها، وهي تشعر أن نزيفها يكبر يوما بعد يوم، ويمكن أن يتطور أكثر فأكثر على نحو لا يمكن احتماله.
من المؤكد أن كلا الملفين السوري والعراقي يمثلان بٌعدا حيويا لإيران، وفيما تبدو خسارة العراق مستبعدة في ضوء الظروف الراهنة مهما بلغت قوة تنظيم داعش والمساحة التي يسيطر عليها، فإن وضع سوريا يبدو مختلفا، والسبب أن خسارتها ستفضي إلى خسارة العراق نسبيا، والتأثير على لبنان أيضا، ما يعني نهاية مشروع التمدد الإيراني، وما يعني أيضا خسارة تالية للمحافظين في إيران الذين يخوضون حربا غير معلنة ضد الإصلاحيين، لأن الشعب الإيراني سيحاسب من ورَّطوه في مغامرات بائسة وضعته رهن المعاناة من أجل مشروع تمدد ينتهي إلى لا شيء.
وفيما رأت إيران في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة فرصة ينبغي الاستفادة منها من أجل تغيير الوضع على الأرض لصالح النظام، فهي ترى أن تركيا هي التي تشذ عن القاعدة العامة، وهي وحدها من يتحدث عن تحالف يستهدف بشار وتنظيم داعش في آن، وهي وحدها من طالبت وتطالب بمنطقة عازلة داخل الأراضي السورية، والنتيجة أن سياستها هي التي تهدد النظام عمليا، فضلا عن دعمها للثورة والثوار بشكل عام.
اليوم يجري استغلال قضية كوباني أو عين العرب في سياق التصعيد الداخلي ضد تركيا، ويأمل الإيرانيون في أن يؤدي ذلك إلى إشعال الساحة التركية الداخلية ونقض المسار السلمي مع الأكراد، فيما لا يمكن لتركيا أن تنتصر لتنظيم كردي سوري يعاديها، ويوالي النظام السوري، فضلا عن طموحاته الانفصالية.
تركيا ليست ضعيفة في المقابل، إذ بوسعها أن تثير المتاعب لإيران أيضا، سواءً في سوريا والعراق، أم داخل إيران التي لا تبدو تناقضاتها العرقية والمذهبية أقل من تركيا، إذ لها أكرادها ومطالبهم أيضا، فضلا عن العرب والبلوش وسواهم، وحين يتحدث وزير الأمن الإيراني عن إلقاء القبض على 130 أرهابيا، بينما يُقتل ثلاثة من الشرطة الحدودية في اليوم التالي، فهذا يعني أن التربة الإيرانية جاهزة لاستقبال العنف في ظل حشد طائفي يجتاج المنطقة.
والخلاصة أن التوتر المتصاعد بين تركيا وإيران وفي داخل كل منهما، هو جزء لا يتجزأ من حالة الفوضى في المنطقة، والتي لا يتحكم بخيوطها أحد، وهي فوضى ستكون نتائجها حصيلة تدافع القوى جميعا، لكن إيران التي فتحت على نفسها نزيفا كبيرا (أضافت إليه اليمن الآن) لن تخرج من هذه الفوضى سالمة، ربما أكثر من الآخرين (سيتضرر الجميع بكل تأكيد)، وفي النهاية ستقبل بتسوية إقليمية تعطيها حجمها لا أكثر. متى سيحدث ذلك؟ لا أحد يدري.
إنه غرور القوة الذي يدفع الدول إلى مغامرات بائسة تستنزفها دون جدوى، وقد قلنا منذ البداية إن سوريا لإيران ستكون بمثابة أفغانستان للاتحاد السوفييتي، وربما فيتنام لأمريكا.
امتاز سواد العام 2014، الموشك على الانصراف، باندفاع الصراعات في منطقتنا نحو حدود قصوى، كما تجلّى ذلك بظهور داعش بقوة، واقترافها فظائع مفرطة في وحشيتها، وقيام حملة عسكرية دولية إقليمية جوية ضد مواقع هذا التنظيم في العراق وسورية، وذلك بعد أن برز هذا التنظيم قوة عسكرية منظمة ومحترفة لا يُستهان بها، مع مضيّ النظام الحاكم في دمشق في إبادة شعبه بالبراميل المتفجرة والغازات السامة.
في ليبيا، اندلعت مواجهات طاحنة بين ميليشيات إسلامية وقوات اللواء خليفة حفتر، العائد من التقاعد، وترافق ذلك مع بروز ازدواجية سلطة وتشريع في بلد عمر المختار. مع استمرار أعمال العنف في العراق على أيدي الميليشيات المتطرفة الشيعية (القريبة من الحكم) والسنّية المتطرفة، وبعضها تتبع القاعدة.
في الأراضي المحتلة، استشرت مخاطر تهديد المسجد الأقصى في القدس، مع استمرار التغوّل الاستيطاني في عموم الأرض الفلسطينية المحتلة.
وفي السودان، تواصلت المواجهات بين الحكم القائم في دولة جنوب السودان ومتمردين انشقوا عن الحكم، إضافة إلى مواجهات مع الجيش السوداني، فيما الانغلاق السياسي ظل على حاله في هذا البلد.
في اليمن، اندفعت جماعة الحوثيين، بدعم من إيران، بالاستيلاء على السلطة، مع امتناع القوات المسلحة اليمنية عن الرد، في ظاهرة لا سابق لها في اليمن السعيد.
"أقرب النماذج المرشحة للمزاوجة بين السعي إلى حل سياسي وآخر عسكري هي سورية "
وفي لبنان، ساد التوتر السياسي والأمني الشديد مناطق مختلفة في لبنان، وبالذات في طرابلس في الشمال، وفي شرق بلاد الأرز، فيما اشتدت المواجهات في بلدة عرسال على الحدود اللبنانية ـ السورية، واقتحمت مجموعة من جبهة النصرة، قادمة من الأراضي السورية، هذه البلدة التي تؤوي سكاناً من المسلمين السنّة ونازحين سوريين، وانسحبت القوات المهاجمة، بعد أن اختطفت جنوداً لبنانيين، وما زالت تختطفهم بعد أن أقدمت على قتل أحدهم، على خلفية رفض السلطات اللبنانية الإفراج عن معتقلين سلفيين، بينهم نساء. وقد ترافق ذلك مع توتر سياسي تبدّى في الحؤول دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية، من طرف مجلس النواب المُمدّد له، خلفاً للرئيس السابق، ميشال سليمان، الذي رفض الاستجابة لمطالبات بالتمديد له، ولو لسنة واحدة.
فيما امتاز هذا العام بذلك، وبسواه من مظاهر العنف الدموي العاري، فإنه، ومع اقتراب العام من نهايته، بدأت تلوح بعض مظاهر الانفراج والمصالحة، هنا وهناك. وأبرز المصالحات هي التي تمت في البيت العربي الخليجي، مع عودة سفراء السعودية والإمارات والبحرين إلى الدوحة، والتحسن المطرد في العلاقات السعودية ـ القطرية، وصولاً إلى وضع حد للقطيعة بين القاهرة والدوحة، تمثلت بتوجه موفد قطري، برفقة مسؤول سعودي، إلى القاهرة، واستقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي لهما. أجواء المصالحة أشاعت ارتياحاً كبيراً، نظراً لما يمثله تماسك مجلس التعاون الخليجي من أهمية فائقة على الأمن الجماعي العربي، وذلك لكون المجلس يمثل كتلة اقتصادية عربية كبرى، كما يعتبر هذه المجلس المؤسسة العربية الجماعية الوحيدة التي أثبتت فاعليتها، وقد لوحظ أن بعض اجتماعاتها ضمت مسؤولين من المغرب والأردن، بما يعزز انفتاح هذه المؤسسة على المشرق والمغرب العربيين. وليس من المغالاة القول إن تماسك مجلس التعاون الخليجي وديناميته قد عوّضا، بعض تعويض، انحسار دور جامعة الدول العربية، وما لحق بها من انكفاء ملحوظ في هذا العام الذي شهد إتمام المصالحة الفلسطينية بين حركتي حماس وفتح، وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة رامي الحمد الله، ومواصلة الاستعدادات لاستلام السلطة معبر رفح الدولي. وعلى الرغم من أن الأجواء لم تنقشع كلياً بين الحركتين الكبيرتين، وما زالت العلاقة بينهما تكتنفها الشكوك المتبادلة، وبعض الحوادث، كاستهداف منازل عدة مسؤولين لحركة فتح في غزة في يوم واحد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلا أن المصالحة وضعت حداً للانقسام المؤسساتي، وازدواجية المؤسسة على المستويات العليا، إلا أن الازدواجية ظلت قائمة على مستوى الأجهزة الأمنية التي تقودها حماس في غزة، وفتح في الضفة الغربية.
في لبنان، استؤنف الحوار، في الأسبوع الأخير من هذا العام، بين تيار المستقبل وحزب الله، وهما القوتان السياسيتان المسلمتان، ولكل منهما كتلة نيابية كبيرة. كما استؤنف الحوار ضمن الصف المسيحي بين التيار الوطني الحر، برئاسة ميشال عون، والقوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع. بما يؤذن بعودة أجواء حوارية خلال العام المقبل، تسمح بانتخاب رئيس توافقي.
أفق العام 2015، الذي يهلّ الخميس المقبل، وبالنظر إلى المقدمات التي رست، في الأسابيع الأخيرة، يثير توقعات قوية بأن تتسع موجة الانفراج، ولكن، جنباً إلى جنب، مع استمرار حال التوتر الشديد. وأقرب النماذج المرشحة للمزاوجة بين السعي إلى حل سياسي وآخر عسكري هي سورية، فموسكو حريصة على بلوغ حل سياسي ما، تفادياً لأن تتسع حملة التحالف الدولي، وتشمل مواقع للنظام ومرافق له، ولأسباب أخرى، تتعلق بارتفاع كلفة دعم موسكو للنظام القائم الذي يشهد استنزافاً على غير صعيد كل يوم، والحاجة إلى منح النظام شرعية، وفرصة للبقاء من خلال مفاوضات مع قوى معارضة. والراجح أن المعارضة، ممثلة بالائتلاف والقيادات العسكرية، سوف ترفض رعاية روسية حصرية للمفاوضات، أو أن تجري المفاوضات في موسكو، أو التخلي عن مرجعية جنيف 1 و2، علماً أن المحاذير الروسية تشمل طهران وميليشياتها التي تدرك أنها إزاء حرب استنزاف يومية على الأرض السورية، بما يجعلها تنفتح على حل سياسي، يتم فيه إقصاء بعض وجوه النظام مع الإبقاء على النظام نفسه، تحت عنوان الحرص على بقاء الدولة ومؤسساتها. على أن ذلك لن يوقف دورة العنف، ومن مظاهره الاحتمال الكبير بأن تتحول الرقة، مركز داعش، إلى كوباني أخرى، تتعرض إلى قصف يومي لإخراج التنظيم منها.
وفي العراق، تقترب معركة الموصل، ومن المنتظر أن تندلع في الأسابيع الأولى من العام، لطرد داعش منها، بما يعيد هذا التنظيم إلى مناطق تمركزه الأولى في بلاد الرافدين.
وفي ليبيا، فإن دول الجوار الليبي مرشحة لمزيد من التدخل في الوضع الليبي الذي لا يني يتدهور، فيما تبرز مخاوف من ظهور القاعدة، وحتى داعش بصورة أوضح في هذا البلد، ما يفتح الأبواب أمام فرص تسويات داخلية في النصف الثاني من العام المقبل، وربما مع وساطات لأطراف عربية وإسلامية، ليست من دول الجوار.
وفيما تثور مخاوف من احتكاكات وتعديات يقوم بها ولاة الأمر الواقع الجدد في اليمن، تطاول أراضٍ سعودية، واستخدام هذه التعديات وسيلة ضغط على الرياض، لمساومتها في ملفات إقليمية، أبرزها الملف السوري، وبدرجة أقل الملف اللبناني، غير أن التكاتف الإقليمي والدولي مع الرياض، والمتاعب التي يعانها الحوثيون في الداخل اليمني، نتيجة رفض القبائل سلطتهم غير الشرعية، سوف يحِدّ من جموح هؤلاء للعب أوراق لمصلحة الغير.
أسرت عناصر الدولة الإسلامية (داعش) الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، بعدما أسقطت طائرته، بواسطة صاروخ حراري، أثناء قيامه بطلعة جوية لتوجيه ضربة ضد عناصر التنظيم. مع ذلك، أصيبت الحكومة الأردنية بالدهشة، وكأنها تلقت أمراً غير متوقع، مع أن الأصل يقول بوجود خطة طوارئ يتم اللجوء إليها في الأوقات الحرجة، إلا أن الحكومة لم يصل فعلها إلى مستوى الحدث، ما شكل عنصر تأزيم داخل الدولة الأردنية، وكأن الحكومة، بهذا التصرف، تقول للناس، أنتم أحرار في نشر الإشاعات، وهذا يعني استمرار فشل الدولة في إدارة أزماتها.
منذ اللحظة الأولى، غابت الحكومة عن الحدث، وإن ظهر بعض مسؤوليها، فإن ظهورهم أعمى، لا يعتمد المنهج في إطلالتهم، أو التنسيق. فخبر الأسر وإسقاط الطائرة، جاء من الخارج، وبقي التلفزيون الأردني غائباً كالعادة. هذه الطريقة، عملت وتعمل بلا شك على إطلاق الإشاعات ونشرها، ما يزيد من تأزيم المشهد الداخلي، وهز الجبهة الداخلية، هذا أولاً.
ثانياً، يطالب بعضهم بتحرك القوات المسلحة وسلاح الجو، لشن غارات مكثفة على مواقع تنظيم الدولة الإرهابية "داعش"، رد فعل على أسر الطيار الأردني. ويغلب على نظرة هؤلاء الطابع العاطفي الاستفزازي، ولا تنم عن العقلانية، خصوصاً وأن الهدف الأسمى، ينحصر في تحرير الطيار، لأن حياته أهم من الطلعات الجوية، وأهم من استراتيجية التحالف الدولي. حجة هؤلاء أن الأردن في حرب، وكأن الحرب تعني دوما تحريك الجيوش، واستخدام الأسلحة، من دون اللجوء إلى القنوات التفاوضية، وحتى الدبلوماسية.
بيد أن القول بتحرير الطيار الأردني منوط بسيناريو تحرك جحافل القوات المسلحة الأردنية وأذرعها، مستحيل واقعيّاً، لأنه عمليّاً يعني اختراقاً للأراضي السورية، للوصول إلى مناطق التنظيم، وهذا ما لن يسمح به النظام السوري، بالإضافة إلى أنه لو كان ثمة جدوى من هذا السيناريو، لماذا لم تلجأ إليها فرنسا وبريطانيا وأميركا، لتحرير مواطنيها من أيدي التنظيم، قبل أن تقدم عناصره على قتلهم؟
كذلك القول باستخدام السيناريو القائم على تحريك القوات المسلحة الأردنية، وزيادة وتيرة الضربات الجوية للتنظيم الإرهابي، يعني منح التنظيم ضوءاً أخضر للاستعجال بقتل الطيار، وهذا ما لا نريده أن يحصل.
يمكن القول، إن الحكومة الأردنية لا تملك خيارات كثيرة، لتحرير الملازم الطيار معاذ الكساسبة، لا يتم بأغنيات وطنية، أو من خلال بيانات خاوية من المبنى والمعنى، بل من خلال تفكير عقلاني منهجي مدروس، يدير الأزمة بحرفية عالية.
وتبقى هناك خيارات يمكن أن تحفظ حياة الطيار، وتعيده إلى بلده وأهله، خيارات تعتمد مبادئ تفاوضية كأحد الحلول الحقيقية، ولا ترى مشكلاً في التواصل مع قيادات التنظيم الإرهابي من خلال القنوات المعلنة والسرية.
تضيء الانتخابات الرئاسية التونسية شمعة في النفق المظلم الذي حوصر فيه «الربيع العربي» وثوراته. وبصرف النظر عن طروحات المشككين بالأمل في مسيرة «ثورة الياسمين»، واختيار شباب تونس اعتدال الباجي قائد السبسي وهو في العقد التاسع من عمره، أو التلميح الى تسهيل حركة «النهضة» فوزه رغم نزاهة الاقتراع، تعطي تلك الثورة نموذجاً مشرقاً عن إنقاذ بلد عربي بانتخابات.
يودع التونسيون عام 2014 بفرحة الإنقاذ، ومشهد زعيم «النهضة» راشد الغنوشي وهو يهنئ السبسي بفوزه يضيء ألف شمعة لسيدي بوزيد، فيما سياط المجازر والإرهاب والقتل والفوضى تجلد ما تبقى من ثورة السوريين والكيان الليبي... ويطوي الحوثيون في اليمن صفحات ثورة شبابه.
كانت الجغرافيا والتاريخ إلى جانب التونسيين الذين لم تصل إليهم رياح التمدد الإيراني، فيما عصفت بسورية واليمن. ومهما يقال عن وحدة أهداف تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، يمكن «ثورة الياسمين» أن تكمل في عهد الجمهورية الثانية طريقها إلى الإصلاح الشامل، طالما اختارت القوى السياسية البارزة الاحتكام الى إرادة الناخبين وتداول السلطة التي لن تكون ابدية لأحد. ويمكن الثورة ايضاً أن تخنق رياح الإرهاب، طالما بقيت تلك القوى موحدة في الدفاع عن أولوية استقرار تونس.
قد يقال ان العقل انتصر هناك، فيما مأساة جنون الغرائز والمصالح تعِد بفصول دموية لا متناهية في بقاع أخرى على أرض «الربيع العربي». تقترب الكارثة في سورية من رقم ربع مليون قتيل، لا أحد يستطيع إحصاء قتلى الكر والفر في حروب ليبيا، كما يعجز الجميع عن تلمّس احتمالات نهاية قريبة لجولات الخراب والتدمير، من طرابلس وبنغازي.
أما نموذج «الثورة» الثانية في اليمن، فمأساة من نوع آخر، التهم فيها «الثوار» الحوثيون ربيع شباب صنعاء وتعز وعدن، وقضموا الأرض والدولة، بذريعة استئصال الفساد.
والحال أنهم قدّموا لإيران الجائزة الكبرى، فنالت في مقابل رعايتهم وتسليحهم موطئ قدم على البحر الأحمر، مثلما مكّنتها رعايتها لـ «حزب الله» من ادعاء نفوذ يمتد من مضيق هرمز الى البحر الأبيض المتوسط.
ولأن لكل ثورة خصوصيتها، وللجغرافيا معادلاتها، تكيّفت الاستراتيجية الإيرانية مع أوضاع حلفاء طهران ومواقعهم المتقدمة في الحرب على الثورة السورية، وعلى ثورة شباب اليمن. وهكذا تندرج في معاركهم شعارات الدفاع عن المراقد في سورية والحرب على «الإرهابيين» مع شعار مطاردة «الفساد ورموزه» في شوارع اليمن ودولته. وتصبح وزارة الدفاع في صنعاء ومطار العاصمة وجامعتها تحت وصاية عبدالملك الحوثي الذي يظن أن شباب اليمن سيصدق ذريعة الدفاع عن «الطهارة» والنزاهة في مؤسسات الدولة، مبرراً لضرب وحدة الجيش وإذلاله.
يمكن طهران كذلك ان تدّعي استعادتها حركة «حماس» الى «بيت الطاعة»، في صفوف حلفائها، بعدما «ضلّت» الحركة الطريق، واختلفت مع النظام السوري. لذلك ستعود المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية إلى مربع التشكيك والتخوين، وتعود السلطة إلى مأزق الانقسام.
وإذا كان المرجّح مزيداً من الاهتراء للدولة ومؤسساتها في اليمن، تحت ضربات الحوثيين وهيمنتهم على صنعاء، فاللافت هو إصرار الإيرانيين الآن على العودة إلى مسار إضعاف السلطة الفلسطينية التي تحقق نجاحات باعترافات دولية بمشروع الدولة.
ولم يكن بلا مغزى إعلان رئيس مجلس الشورى (البرلمان) الإيراني علي لاريجاني من على منبر جامعي في لبنان ان «هناك تيارات تعتبر فاعلة أكثر من الدول، مثل حزب الله وحماس، وتؤدي دوراً إيجابياً في المنطقة». وهو إيجابي حتماً في حسابات المصالح الإيرانية، لكن أي قراءة لما أعلنه لاريجاني لا بد من أن تبدأ برضا طهران عن الدور الإقليمي للحركة والحزب، ولعلها تنتهي بوعد مضمر بتكريس سلطتيهما حيث دور الدولة اللبنانية بات «أقل فاعلية»، وكذلك سلطة الرئيس محمود عباس.
وعد مضمر، مؤجل الى عام 2015، لا يوحي إلا برضا طهران عن جوائزها، فيما العرب محاصرون بين القتل والعنف، وجنون الإرهاب ودولة «داعش»، وجيل آخر من الاستبداد.
بيننا وبين تونس مسافات هائلة.
سواء قامت طهران باتفاق مع الغرب وأميركا برعاية روسية أو استمرت في التفاوض وحظيت بتمديد المهلة للتوصل لاتفاق لستة شهورٍ قادمة كما حققت مؤخرا، فهي ونظامها المراوغ إلى انكشاف وستسقط ومعها حزب الله والحوثيون وطائفيو العراق وبشار وكل الطغاة لو توحدت مواقف العرب.
فالعرب اتفقوا سويا بعد طول اختلاف على رد حازم تجاه كل من يقف مع من كان يسمى محور الشر “إيران” والذي لا يزال موجودا لحد الآن، طالما استمرت في سياسة تصدير الثورة وتحريض الإخوة الشيعة العرب على دولهم ودعم الفاشية والمساهمة في إثارة القلاقل في دول الجوار والتحريض على قلب أنظمة الحكم لدول خليجية تتميز باستقرارها وتواءم شعوبها مع نهج قياداتها.
أما حزب الله اللبناني فقد بات آيلا للانهيار بعد انكشاف أيديولوجيته الطائفية وتبعيته العمياء لإيران والتي زجت به في أتون الصراع السوري متغافلا عن “بروبوغاندا المقاومة” التي طالما رفعها كشعار له، فيما بات اندحـاره مرهونـا بزوالهم، وهما وإن طال الوقت إلى زوال، فالباطل وإن طال أمده إلا أن له نهاية.
ورغم ذلك فإنه لا يعني أن نستكين ونسكت، فالمطلوب الآن وأكثر من أي وقتٍ مضى أن نعود كعرب لرشدنا ويكون لنا قوة تقف في وجه كل معتدي، وأن لا نتوقع من الغرب والولايات المتحدة أكثر مما شاهدنا، فمصالحهم فوق صداقتهم معنا، وحربهم المزعومة وضرباتهم التي طالما هددوا بها لن تحدث، فخيارهم هو احتواء طهران أكثر من قصقصة أجنحتها.
سياسة الاحتواء تجاه البرنامج النووي الإيراني التي يمارسها الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو” لا يمكن أن تجدي نفعا مع نظامٍ قام أصلا في الأساس على تصدير الفكر الثوري الطائفي لدول الجوار والعالم الإسلامي، وعمل من خلاله على نفث نار الفتنة وجيّش الأقليات العربية لتنقلب على دولها وشعوبها، وهي التي طالما عاشت معها بوئام دون مشاكل حقيقية تذكر.
في الحقيقة النظام في إيران هو نظام لم يُعرف عنه سوى نكث العهود والمواثيق والابتسام في وجه مقابليه، فيما هو يمارس بسياسة التقية التي يتبناها، الباطل في الخفاء ويعمل على زعزعة استقرار دولهم.
إن صح ما قيل عن نية الولايات المتحدة، كبادرة حسن نية من طرفها، فك التجميد عن أموال إيران لديها، فسنرى في قادم الأيام انتعاشا سريعا وارتفاعا لقيمة العملة الإيرانية المتدهورة، ولن أستبعد إن حدث ذلك أن تقوم حكومة طهران باستخدام تلك الأموال للحصول على التكنولوجيا الأميركية والأوروبية لدعم وإصلاح قطاع الطيران والمواصلات فيها الذي يعاني من القدم ومن التهالك، فضلا عن دعم ميزانيتها التي زاد العجز فيها نتيجة انخفاض أسعار النفط لما دون الستين دولارا.
قد نكون مفرطين في التوجس، لكنه توجس إيجابي، فالمؤمن كيسٌ فطن وعليه أن ينتبه لما يحدث حوله ويتدارك نفسه، قبل أن يتقدم الآخرون ويتفوقون عليه فيما هو منشغل وفي محلك سر.
جاء رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني إلى دمشق، حيث أعلن عن دعم الجمهورية الإسلامية للرئيس السوري والخيارات الديمقراطية للشعب السوري! أما في لبنان فقد أعلن لاريجاني - قبل اجتماعه برئيس وزراء لبنان تمام سلام، أن بعض التنظيمات مثل حماس و«حزب الله» هي أكثر فاعلية من الدول بمؤسساتها. وهو ذاهب إلى العراق، حيث سيعلن من بغداد - فيما أرى - أن معركة العراق هي ضد الإرهاب، وأن «الحشد الشعبي» الشيعي هو الأفعل ولا شك في المعركة الدائرة! وكان أحد نواب المجلس الذي يترأسه لاريجاني قد قال قبل عدة أشهر، وعلى أثر دخول الحوثيين إلى صنعاء ومدن أخرى باليمن، إن «الثورة» (الإيرانية) انتصرت في أربع عواصم عربية هي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء!
في ضوء تصريحات لاريجاني ونوابه فإن «الثورة» المنتصرة على أربع عواصم عربية تعني التنظيمات الشيعية المسلحة التي تدعمها الدولة الإيرانية، ويقودها الجنرال سليماني. أما الحديث في هذا السياق عن الرئيس الأسد وخيارات الشعب السوري (الديمقراطية)؛ فإنها تعني أن السوريين المساكين الذين قتل منهم ربع المليون، وأصيب مليون، وتهجر بالداخل السوري والخارج زهاء العشرة ملايين، هؤلاء جميعا هم الذين اختاروا النظام القاتل ديمقراطيا لكي يفعل بهم وببلادهم ذلك!
إن هذا كله يجري وسط حديث متصاعد من جانب دي ميستورا والأسد وبوغدانوف وإيران عن حل «سياسي» بسوريا يقتضي التوحد في وجه التطرف والإرهاب والتكفير. وبالطبع، وفي هذا السياق أيضا فإن المتطرفين والإرهابيين هم أعداء الأسد وأعداء إيران وروسيا بالتحديد! وهذا يعني أيضا أن «ثورة» الجمهورية الإسلامية هي عدوة فكرة الدولة بالعالم العربي، ما دام نموذجها حماس و«حزب الله» والحوثيين!
لكن ما معنى التطرف والإرهاب في ضوء هذه الرؤية الإيرانية؟ الإيرانيون (وفي مقدمتهم نصيرهم السيد حسن نصر الله) كانوا منذ قرابة العامين قد حددوا للتطرف معنى واحدا هو التكفير. وقد عنوا بالتكفير أولئك الذين كانوا ولا يزالون يقاتلون الأسد في سوريا قبل ظهور «داعش» وبعد ظهوره. وقد اعتبر السيد حسن نصر الله وقتها أنه ذاهب للقصير والقلمون لمقاتلة أولئك التكفيريين الذين يكفرون الشيعة، ويدمرون مزارات ومراقد آل البيت! وبالمناسبة ليس في القصير والقلمون أي من المراقد والمزارات لآل البيت. إنما ما معنى هذا؟ معناه أنهم كانوا ولا يزالون يتحشدون - تبعا لأمر المرشد الأعلى - لهدم الدول وشرذمة المجتمعات العربية، وأنهم من أجل التمكن من إنفاذ أمر المرشد (زعيمهم الديني المعصوم أو وكيل الإمام المعصوم!) فإنهم يحرضون الشيعة العرب بهذه الحجة لهدم بلدانهم وعمرانهم باسم آل البيت الذين يحترمهم المسلمون جميعا ويقدرونهم باعتبارهم ذرية النبي وآله!
وإذا كان الدين والمذهب يستخدمان بهذه الطريقة، فأي معنى يبقى للاعتدال، وماذا صار التطرف يعني؟ التطرف من معانيه رفض الآخر وإحلال دمه من طريق تكفيره، أي الزعم بارتداده عن الإسلام. و«داعش» والمتطرفون الآخرون يفعلون ذلك باسم السنة. والسنة يقاتلونهم (دون أن يكفروهم) ليس منذ ظهور «داعش»، بل منذ ظهور «القاعدة» وهجماتها على العرب والمسلمين والعالم. لكنّ المرشد الإيراني والسيد نصر الله وكثيرين غيرهما يقومون بنفس أفعال «داعش» قولا وعملا. وهذا ليس في سوريا والعراق فقط؛ بل وفي لبنان والبحرين واليمن؛ وفي غير البلدان الخمسة! ماذا نسمي أفعال الميليشيات الإيرانية في سائر البلدان التي توجد فيها؟ إنها لا تكتفي بالقتل من أجل الإخضاع. بل تضيف لذلك، أو تؤسسه على إحلال الدم بالتكفير. ولا يزال هذا الأمر يجري كل يوم منذ عقد ونصف العقد. وكلما قال سياسي عربي أو دولي، إن الإيرانيين سيصغون أخيرا لنداء المصالح والعلاقات الجوارية والتاريخية والدينية، أجابوا على ذلك بأنهم لا يريدون علاقة بغير الولايات المتحدة، أما الآخرون من العرب والمسلمين فليس لهم إلا الخضوع أو القتل باسم التطرف والتكفير أو التآمر مع إسرائيل أو الإرهاب، أو الأمور الأربعة معا! وها هو عبد الملك الحوثي يعرض على أميركا التحالف ضد «القاعدة» أو القتال معها ضدها، لكنه في الوقت نفسه لا يزال يرفع شعار: الموت لأميركا، والموت لإسرائيل!
المفهوم والواضح أن الإيرانيين يريدون تحويل العالم العربي إلى مناطق نفوذ يسيطرون عليها باسم الدين والمذهب: فما علاقة ذلك بالاعتدال، أو لماذا ينبز المتطرفون السنة بالإرهاب، ولا يوصف المتطرفون الشيعة بذلك؟ لذلك قصة تستحق أن تروى. فقد ظهر الثوران الأصولي العنيف لدى السنة والشيعة في سبعينات القرن الماضي. أما الثوران الشيعي فقد استطاع عام 1979 الاستيلاء على الدولة الإيرانية، وتحويلها من خلال ولاية الفقيه إلى دولة دينية، يسود فيها وكيل الإمام المعصوم، الذي يضاهيه في العصمة أو على الأقل في اعتقاد وجوب الطاعة. وقد عارضت مرجعيات شيعية هذا التسييس للمذهب واعتبرته خطرا عليه. لكن الدولة الإيرانية بقدراتها المالية والأمنية أسكتت معظم الأصوات، إن لم يكن جميعها. وحتى السيستاني الذي يعارض امتداد ولاية الفقيه إلى خارج إيران، تظل إمكانياته محدودة وإن لم تكن منعدمة. بدليل أنه استطاع تنحية المالكي المتأيرن، لكنه لم يستطع أن يقول شيئا ضد الميليشيات الشيعية المقودة من إيران، والتي كان هو أول الداعين إليها بعد هجمة «داعش»!
يعني الاعتدال الديني الاتجاه الرئيسي أو الـ«Main Stream» في كل دين، أو في كل مذهب. لكن ماذا إذا استطاع التطرف الاستيلاء على رأس المذهب ومعظم الجمهور؟! ولاية الفقيه الآن هي الاتجاه الرئيسي في المذهب الشيعي، ولها معارضون، لكنها هي السائدة، إنما أين هو الاعتدال الشيعي؟ المنطق يقول إن الاعتدال في هذا السياق يعني عدم القتل وعدم التكفير والقول بالفقه التاريخي المستقر للعيش داخل المسلمين، وبين المسلمين وغيرهم. وكل ذلك يقول به الولي الفقيه ظاهرا، لكنه يخالفه على طول الخط سرا وعلنا، وفي الدين، كما في السياسة. وإلا فما معنى التكفير والقتل باسم الكفر أو الخيانة في كل مكان، وتسليط الناس بعضهم على بعض باسم نصرة مذهب آل البيت؟!
المتطرفون السنة ما استطاعوا الاستيلاء على السلطة في أي دولة عربية أو إسلامية كبرى أو رئيسية، ولذلك انصرفوا للعنف والفتك باسم الدين، والحرب على المسلمين الآخرين وعلى العالم. وهكذا بقي الإسلام السني في تياره الرئيسي معتدلا، وانصرف صونا لدينه ودوله لمصارعة الأصوليات السنية الثائرة! إن هذه الأصوليات السنية العنفية الشيعية والسنية متطرفة وإرهابية، لأنها تهدد الدول والمجتمعات والأديان، وترتكب المذابح باسم الدين وباسم المذهب.