يمكن اعتبار عام 2014 الأكثر دموية في مسار العنف الذي استخدمه النظام ضد الثورة والشعب في سورية. وعلى الرغم من أن الأعوام التي سبقت لم تكن أقل هولاً، وخصوصاً 2013 الذي شهد إقدام النظام على استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في غوطتي دمشق، فإن العام المنصرم كان الأكثر جنوناً وتوحشاً وبربرية بحق المدنيين العزّل، حيث وصل عدد غارات القتل والترويع البرميلية، في بعض الأيام، إلى أكثر من عشرين غارة على مناطق متفرقة، تمتد من دير الزور، مروراً بالرقة وحلب وحماه وريف دمشق، وصولاً إلى ريف درعا. وتجاوز عدد الضحايا من المدنيين في بعض الأيام 200 قتيل.
اتّسم العام الذي انصرف بأن النظام السوري تصرف من دون رادع، في ظل صمت دولي وتغطية إيرانية روسية. ولذا، أطلق لنفسه العنان، فأبان عن بربرية ليست معهودة، ولا مثيل لها في الحروب التي شهدها القرنان الحالي والذي سبقه، وأهم مزايا هذه البربرية، أولاً تقتيل المدنيين. وتشير وقائع الغارات البرميلية على ريف حلب خصوصاً، أنها تتعمّد استهداف التجمعات البشرية ذات الكثافة العالية، من أجل إلحاق أكبر أذى بالسكان، الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، الأسواق والمساجد وأفران الخبز والمستشفيات، أي كل ما هو محرّم في أخلاقيات الحروب بين الأعداء. والمظهر الثاني للبربرية هو حصار التجويع ومنع دخول الغذاء والدواء، بما في ذلك قطع الماء والكهرباء والوقود عن بلدات بكاملها، مثل داريا والمعظمية في ريف دمشق، بالإضافة إلى الإعدامات الجماعية والسجون والاعتقالات وحالات الاغتصاب التي تعرّضت لها نساء سوريات، وهناك منظمات، مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وثّقت حالات لا شبيه لها في النزاعات الأهلية، حتى تلك التي حصلت بين القبائل البدائية من آكلي لحوم البشر في مجاهل أفريقيا.
أما الوجه الثالث للبربرية فهو التهديم. وبالإضافة إلى نزعة القتل المتأصلة في الذين يقفون وراء قرارات الاستهداف المنهجي للمدنيين، هناك نزعة تدمير العمران، وهي لا تفرّق بين مسجد وفرن خبز وسوق ومستشفى ومدرسة ومواقع تراثية، الأمر الذي يكشف عن خلفية همجية، لا تحترم قيمةً، ولا تقف عند رادع، وقد صار واضحاً أن النظام يتجاوز تنفيذ تهديد أطلقه، في الأيام الأولى للثورة، بأنه سيحوّل سورية إلى تراب، وهذا ما حصل، حتى الآن، في بعض المدن التي تم تدمير معظمها، مثل دير الزور وحلب وحمص وريف دمشق.
يستحق العام 2014 أن يوصف، على الصعيد السوري، بعام عودة الوحوش من الغابات. مأساة السوريين لا يمكن توصيفها لأنها تفوق الكلام، وتستعصي على الخيال، وليس من الإنصاف الاكتفاء بقوانين العدالة من أجل محاسبة هؤلاء القتلة في المستقبل، بل يجب أن يوضعوا في أقفاص، ويعرضوا في حدائق الحيوان، كنماذج لافتراسيين جدد، لم تعرف سلالة الوحوش مثيلاً لهم. وعلى العموم، لا يمكن تفسير استهتار النظام بأرواح السوريين وتاريخهم الحضاري العمراني وممتلكاتهم، إلا من منطلق الاحتقار الذي مارسه بحقهم، طوال أربعة عقود من حكمه، وهو نتيجة تراكم موروث من الانحطاط والعنف، تربّت عليه أجيال النظام منذ مجازر حماه وحلب في مطلع ثمانينات القرن الماضي. يومها تمت تسوية أحياء سكانية كاملة فوق رؤوس ساكنيها في حماه. ومنذ ذلك الحين، صارت تربية أجهزة النظام قائمة على هذا الأساس، وآخر ما تفكر به هو حياة الناس. ومهما كانت مآلات النزاع، ستصبح هذه السلوكيات مجالاً خصباً للدراسات الاجتماعية والسلوكية. وبالتأكيد، لن تقف الدراسات عند الأساليب المتبعة في علوم النفسية المَرَضيّة، بل سوف تستدعي استنباط أساليب وطرائق جديدة، تذهب حتى ظروف انتقال هذه الحثالة من الغابات إلى المدن.
نحن ندخل على عام يحمل معه ملفات الحروب الإقليمية، وتبقى القضية السورية هي قلب الأزمات التي تضخ الخطر إلى بقية المناطق. السبب ليس في النزاع بين الطرفين السوريين، الحكومة والمعارضة، بل لأنه صراع بين دول الشرق الأوسط. فإن نجح الإيرانيون في الإبقاء على النظام برئيسه بشار الأسد، سيكونون قد حققوا عمليا الاستيلاء على العراق وسوريا ولبنان. سوريا هي مفتاح أمن العراق. وتبعا لذلك، تكون إيران قد نجحت في فرض وجودها على منطقة الخليج، ومن الطبيعي أن تعترف الولايات المتحدة بالواقع الإقليمي الجديد، الذي يكون قد غير ميزان القوى القديم، الذي دام لعقود في المنطقة.
والمثير أن انتصار الإيرانيين لن يتم من خلال المعارك العسكرية على الأرض، بل عبر المناورات السياسية. أما ميدانيا، فإن حليفهم، الأسد، لا يزال منذ سنتين محاصرا في العاصمة دمشق، ولا يبسط سلطته إلا على ثلث سوريا، وفي العراق وضع السلطة المركزية ضعيف، ومحكوم بدعم داخلي وخارجي.
أما كيف يمكن لإيران أن تفلح سياسيا فيما فشلت فيه عسكريا، فإنه يعود إلى مشروع دبلوماسي من مناورتين؛ الأولى: إقناع الغرب بأنها تستطيع أن تواجه الجماعات المتمردة، مثل «داعش» في سوريا والعراق، وها هي إيران تشارك لأول مرة في تاريخ الجمهورية في القتال جنبا إلى جنب مع القوات الأميركية، في قصف مواقع «داعش»، وتقاتل بقوات وخبراء عسكريين على الأرض أيضا في سوريا والعراق. وهذا التطور الإيراني يحدث نتيجة التلكؤ الخليجي والغياب المصري.
والثانية: إقناع العرب البعيدين عن النزاع السوري، مثل مصر، بحلول سياسية، في واقعها تدفع الخليجيين للاعتراف بهزيمتهم في مواجهة النظام الإيراني في سوريا، الذي لا يزال يمثله الأسد منذ تسلمه الحكم بعد أبيه في عام 2001؛ مصر، لأنها انشغلت بثورتها بقيت بعيدة عن النزاع، وتبنت منذ البداية موقفا سلبيا من أحداث سوريا، في فترتي حكم «الإخوان» برئاسة محمد مرسي، وكذلك تحت إدارة حكومة عبد الفتاح السيسي الحالية. وقد حاول النظام السوري مغازلة المصريين لسنوات، مخترعا رواية أن هناك مؤامرة على الجيوش العربية، محاولا دغدغة الاعتزاز المصري بقواته المسلحة، وكلنا نعرف أن هناك فارقا شاسعا بين المؤسستين العسكرية المصرية والسورية؛ فالثانية تمثل طائفة صغيرة، وتستخدم الأمن والجيش لهذا الغرض. وقد أكمل الروس الدور بمحاولة تسويق المشروع الإيراني تشكيل حكومة تضم معارضين، وتبقى تحت رئاسة الأسد. عمليا، مجرد ديكور للنظام كما كان، وكما هو الآن!
وبالنسبة للمصريين، فلا يرون الخطر الإيراني يهددهم مباشرة، إلا من خلال منظور توازن النفوذ والمصالح الإقليمية. وأنا واثق، لو أن نظام مبارك قائم اليوم، لكانت مصر أكثر تشددا في إقصاء الأسد، ودعم الثورة السورية، لأنه كان رأس الحربة الإيراني الذي صارع مصر في غزة والضفة الغربية، ودعم «الإخوان». الحكومة المصرية الحالية إما أنها لا تبالي كثيرا بالعالم كيف يتشكل خارج حدودها، وإما أنها لا تفهمه، أو تختصر في ردود فعلها فقط على معاركها المؤقتة، مثل خلافها مع تركيا.
من وجهة نظري، يبقى الانجرار وراء مشروع المصالحة السورية المبني على إبقاء النظام دون تنازلات حقيقية، خطأ كبيرا، سيمكن الإيرانيين من العراق فورا، ومن الخليج لاحقا. وهو أمر ستقبل به الولايات المتحدة، لأنه يصب في مفهوم رؤيتها الجديدة، بالتعامل مع أي واقع جديد سيتشكل في منطقة الشرق الأوسط، والتحلل من التزاماتها الإقليمية السابقة. أما الروس فإنهم يلعبون الدور المساند لإيران وسوريا، كما كانوا، وسيدعمون الفوضى في المنطقة، لأنها في معظمها منطقة مصالح لأوروبا الغربية والولايات المتحدة. وفي رأيي، أيضا، سوريا لن تستقر بحل سياسي لا يحسم عسكريا الوضع على الأرض، وسيطول نتيجة إصرار إيران على دعم الأسد، من جهة، ومن جهة أخرى بسبب دعم الأتراك جماعات مسلحة سيئة، مثل «جبهة النصرة»، خارج مشروع المعارضة المدني الذي يمثله الائتلاف، بطوائف وأعراق السوريين كلهم. والأرجح أن الأتراك سيغيرون موقفهم بعد أن يكون الوقت قد فات، وهم بدعمهم الجماعات المتطرفة يعززون وضع الأسد دوليا، ويلمعون صفحة النظام الإيراني.
يطرح مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، مبادرة تجميد تدريجي للقتال في مناطق مختلفة من سورية، بدءاً بمدينة حلب، في مسعى يستهدف نشر الأمن في أكبر عدد من مدن سورية، وتطبيع أوضاعها وإمدادها بما تحتاج إليه من طعام وشراب ودواء، وأخذها نحو خطوة تالية، تتصل بالتفاوض على حل سياسي.
بدورهم، يطرح الروس مبادرة في زمن ليست المسألة السورية فيه أولوية أميركية، تركز واشنطن فيه على العراق ومحاربة الإرهاب، و"تدفش" القضية السورية إلى وقتٍ لا يعرف اليوم أحد متى يأتي، إن كان سيأتي أصلاً. يأمل الروس أن تمكنهم حركتهم من بلوغ حل ما، في زمن يظنون أن دور أميركا السوري يتراجع فيه، لأسباب بينها ما يعطونه من أولوية للحرب ضد الإرهاب، ولدورهم في العراق، والتحسن النسبي في أوضاع النظام العسكرية، وحاجة أوباما إلى تفاهم استراتيجي جديد مع إيران التي تضغط على إدارته، وتستغل خوفها من التورط في نزاع معقد وطويل في المنطقة عموماً، وسورية والعراق خصوصاً. ويعتقد الروس أن انشغالات أميركا تتيح لهم حرية حركة طليقة نسبياً، تخدم مخرجاتها مصالحهم بالدرجة الأولى، وأن هناك فرصة لنجاحهم في استدراج حضور معارض كثيف إلى موسكو، مع تفادي التخلص من بشار الأسد مدخلاً إلى الحل السياسي، أو شرطاً له، مع ما يمكن أن يفضي إليه ذلك في ظل أوضاع، هم الذين سيرسمون معالمها، بما يعنيه ذلك من أرجحية ينالونها على الصعيدين، السوري والإقليمي، بينما يتورط الأميركيون في حربٍ لا يعرفون متى تنتهي، وما إذا كانت ستنتهي حقاً.
إذا كان ما يقدمه دي ميستورا أقل من مبادرة، ويركز، في محاكاة للرؤية الروسية، على السوريين ودورهم المباشر في الحل، فإن الروس يكررون، اليوم، ما سبق لهم قوله منذ بدأ الصراع، وهو أن الحل يجب أن ينجزه السوريون فيما بينهم، وأنه لا يحق لأحد فرضه عليهم أو التدخل فيه، وأنهم لا يطلبون، لهذا السبب، تنحي بشار الأسد، لأن طلباً كهذا يعد تدخلاً أجنبياً يقرر الحل قبل التفاوض، وكلاهما ممنوع، فتنحي الأسد مسألة سورية وليس دولية، من صلاحيات المعارضة وحدها إقناعه به، إذا ما بقيت مصرة عليه، على أن لا يملي موقفها استقواءها بتطبيق اتفاق أو قرار دولي كجنيف واحد، على سبيل المثال، لأنه يقرر هو، أيضاً، نتيجة الحل قبل التفاوض، ويعتبر تدخلاً في الشؤون السورية!.
" الروس يكررون، اليوم، ما سبق لهم قوله منذ بدأ الصراع، وهو أن الحل يجب أن ينجزه السوريون فيما بينهم "
في منطق الروس، هناك ممنوعات ثلاثة، لا يجوز الاقتراب منها، هي: تحديد نتائج التفاوض بصورة مسبقة وخارج اتفاق الطرفين. تحديد أدوات الحل، كالقول بضرورة وجود "الهيئة الحاكمة الانتقالية" أداة تعمل لبلوغه. وجود مرجعية دولية سابقة للحل تعمل على تحقيقه، أو فرضه، في حال فشل الطرفان السوريان في التوصل إليه.
يجد الروس هذه الممنوعات الثلاثة في وثيقة جنيف واحد. لذلك يقولون بتجاوزها والامتناع عن جعلها إطارا للتفاوض، كما كان الأمر في جنيف 2، مع التأكيد، في المقابل، على أن بلوغ نتائج مطابقة لجنيف، عبر تفاوض سوري مباشر، وبدون شروط مسبقة، يعتبر أمراً مقبولاً في نظرهم. بكلام آخر: يقول الروس: اذهبوا وانخرطوا في تفاوض مع النظام، ليس هدفه محدداً مسبقاً، وليس فيه تحديد، أيضاً، للأداة التي ستوصلكم إليه، ولآلية بلوغ مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، وهي توافقكم مع أهل النظام على مشاركتهم برضاهم في الهيئة الحاكمة الانتقالية، كما يقول نص وثيقة جنيف.
على ماذا سيتفاوض المعارضون مع النظام، إن كان شرط دخولهم إلى قاعة المفاوضات تخليهم المسبق عن الانتقال الديمقراطي هدفاً يتم التفاوض في إطاره وقبوله المسبق، برضا الطرفين، وعن الهيئة الحاكمة الانتقالية كاملة الصلاحيات أداة ترسم الخطوات الضرورية لبلوغه وتنفذها، وعن قبول الطرف الآخر بالتعاون مع المعارضة كآلية تفاوضية؟ وعلى ماذا سيتفاوضون، إذا كان الروس يسقطون مرجعية التفاوض الدولية، على الرغم من أن موافقتهم على قرار مجلس الأمن رقم 2118، تلزمهم بالتطبيق الحتمي لجنيف واحد؟ وماذا يعني إسقاط المرجعية الدولية وإحلال مرجعية روسية محلها، غير الإبقاء على النظام وإفشال الحل السياسي الدولي الذي كانوا قد قبلوه هم والنظام، ويعلنون، الآن، تخليهم عنه، لصالح تفاوض مباشر، هدفه، كما قال ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي والممثل الخاص للرئيس بوتين، "إصلاح النظام"، أي التحاق المعارضة بالأسد، والتنكر لآلام الشعب وللثورة ولحرية الشعب السوري الواحد؟
سيكتشف الذاهبون إلى موسكو أنهم يقبضون على سراب، وأن القصد من لقائهم مع النظام ليس حرية شعبهم وأمنه، بل شقهم والتلاعب بهم، واحتواء بعضهم (أرجو أن لا يكون هؤلاء كثراً)، وان هذا هو الهدف الحقيقي المضمر للتفاوض، فضلا عن "حرقهم" وطنياً، وتحويلهم إلى أعداء لوطنهم، يضعون يدهم في يد الأسد، ويؤخرون سقوطه. عندئذ، سيندم من لن يفيدهم ندم، وسيكتشفون أنهم خُدعوا، لأنهم كانوا راغبين في أن يُخدعوا.
بدأ العام 2014 بتفاؤل سوري كبير بإمكانية التوصل إلى حل سياسي ينهي الأزمة في البلاد، ويوقف حمام الدم، وكان انعقاد مؤتمر "جنيف 2" عنوان هذا التفاؤل. لكن، سرعان ما تبيّن أن الواقع السوري أعقد بكثير ممّا توقع الفاعلون الدوليون.
انهار "جنيف 2" مع إصرار النظام على اختزال الأزمة السورية إلى مكافحة الإرهاب، وكان من نتيجة ذلك ارتفاع وتيرة العنف إلى مستوى لم تعرفه البلاد منذ بدء الأزمة، وقد أدت ضربات النظام الفصائل السورية المعتدلة، وتراجع الغرب عن تأمين المساعدة لها، إلى تراجع تأثير هذه القوى على الأرض، لينحسر المشهد الميداني بين ثلاثة قوى، ليس لها مصلحة بقيام دولة ديمقراطية: داعش والنصرة والنظام.
أدى التغيّر الميداني الذي أحدثه داعش، بعد تمدده في الشمال والشرق، إلى تغيير التحالفات الداخلية، فصائل إسلامية وعشائر يعلنون الولاء للتنظيم، وآخرون يهادنون، فيما تؤجل قوى
" أدى التغيّر الميداني الذي أحدثه داعش، بعد تمدده في الشمال والشرق، إلى تغيير التحالفات الداخلية، فصائل إسلامية وعشائر يعلنون الولاء للتنظيم، وآخرون يهادنون، فيما تؤجل قوى أخرى المواجهة إلى حين. "
أخرى المواجهة إلى حين.
ترافق ذلك مع حشد دولي لمحاربة التنظيم، تحت اسم التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة التي وجدت أن محاربة التنظيم تتطلب تفاهمات ميدانية مع حلفاء النظام، لا سيما إيران.
أما جبهة النصرة التي تعرضت لضربات موجعة، بداية العام، فقد استطاعت الحفاظ على وجودها جنوبي البلاد، فيما استعادت عافيتها أخيراً في الشمال، بتحقيق نجاحات ميدانية متميّزة، أبرزها السيطرة على معسكري وادي الضيف، شرقي مدينة معرة النعمان، والحامدية، جنوبي المدينة، في ريف إدلب الجنوبي. غير أن ما يلفت الانتباه هو مهاجمة النصرة قوى معتدلة، وتمددها في المناطق الخاضعة لها، بعد تصفيتها جبهة ثوار سورية. وإذا ما استمرت المعارك على هذا النحو، فإن النصرة وداعش سيهيمنان على كامل المشهد الميداني في الشمال والشرق إلى جانب قوات النظام.
حقق النظام، بدوره، إنجازات مهمة، أبرزها في حمص وحماة وغوطة دمشق، فضلاً عن القلمون التي كانت تشكل القاعدة الخلفية وخزان الإمداد الرئيسي (البشري والعتادي) لدمشق وريفها وللمنطقة الوسطى في سورية (حمص وريفها)، ولمناطق في البادية شرقاً.
دفع هذا الواقع فصائل عسكرية سورية إلى إعادة ترتيب تحالفاتها، فتم، في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تشكيل مجلس عسكري موحد، باسم مجلس قيادة الثورة السورية، ضم فصائل في الجبهة الإسلامية والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، وفصائل من الجيش الحر، مثل جيش المجاهدين وجبهة حق وحركة حزم، والفرقة 13 وغيرهم.
وفي حلب وريفها، أعلنت كبرى فصائل المعارضة، أخيراً، تشكيل قيادة موحدة عرفت باسم الجبهة الشامية، وتضم حركة نور الدين زنكي وجيش المجاهدين وتجمّع "استقم كما أُمرت" والجبهة الإسلامية في حلب وجبهة الأصالة والتنمية وحركة النور.
وترافقت التطورات الميدانية بتطور سياسي، تمثل بإجراء النظام انتخابات رئاسية أحادية الجانب، كان هدفها تثبيت الوضع السياسي في البلاد، واستثمار هذا الاستحقاق في أي تسوية مقبلة، وهو ما بدا جلياً في كلام نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، في زيارته، أخيراً، دمشق وبيروت، أن الانتخابات السورية شرعية والأسد رئيس شرعي.
وكما بدأ العام 2014 بتفاؤل سياسي، فقد انتهى أيضاً بتفاؤل سياسي، من خلال مبادرتين، الأولى، مبادرة المبعوث الدولي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، تجميد الصراع في حلب، والثانية الحراك الروسي لإطلاق مفاوضات سياسية بين النظام والمعارضة.
وعلى الرغم ممّا يكتنف التحرك الروسي من غموض، لجهة الأهداف والتوقيت، فإن الخطوة استطاعت تحريك المياه السياسية الراكدة في سورية: المعارضة في الداخل والخارج تعملان على تشكيل موقف موحد، وهو أمر كان مفقوداً في "جنيف 2"، وإشارات سياسية من حلفاء النظام عن مرحلة انتقالية، ترضي طرفي الأزمة، فيما يظل مصير الأسد غامضاً في المبادرة الروسية، كما كان في "جنيف 2".
انعكست التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الأزمة السورية خلال عام 2014 سلباً على الوضع الإنساني، حيث ارتفع عدد القتلى إلى مئتي ألف قتيل مسجل فقط، والإصابات إلى مئات الآلاف، ناهيك عن عشرات أو مئات آلاف المعتقلين، ترافق ذلك مع صعوبة إيصال المساعدات الإنسانية للمحتاجين في مناطق النزاع، بسبب اشتداد المعارك وبيروقراطية الحكومة السورية.
كما شهد عام 2014 أكبر نسبة نزوح للاجئين السوريين حول العالم، بسبب وطأة الحرب في البلاد، حيث أكد بيان منظمة العفو الدولية أن لاجئي الأزمة السورية في الأردن ولبنان والعراق وتركيا ومصر وصلوا إلى 3.8 ملايين لاجئ، فيما يتوزع أقل من مليونين على بقية دول العالم.
محطتان على طريق الحوار السوري - السوري. الأولى في الاسبوع الثاني من هذا الشهر في القاهرة حيث يُفترض جمع كل أطراف المعارضة أو معظمها للتداول في تشكيل «وفد موحّد» أو «مشترك». وهذه خطوة كانت آخر محاولة لتحقيقها بُذلت برعاية الجامعة العربية مطلع تموز (يوليو) 2012، غداة صدور بيان جنيف الأول في 30 حزيران (يونيو)، ونتجت منها «وثيقة العهد الوطني» التي تضمنت خلاصة توافقات مبدئية بين معارضتي الخارج والداخل بشأن مستقبل الحكم في سورية، من دون معالجة نقاط الخلاف التي تمثّلت آنذاك بالموقف من «الجيش السوري الحرّ» ودوره المتصاعد، فضلاً عن الموقف من النظام «إسقاطاً» له بالقوة أو تفاوضاً معه على حكم انتقالي بوجوده أو من دونه.
المحطة الثانية متوقعة في الاسبوع الأخير من هذا الشهر في موسكو، حيث يُفترض أن يبدأ «الوفد الموحّد» نقاشاً حول جدول أعمال الحوار ثم ينضم وفد يمثّل النظام الى ما بات يسمّى «مؤتمراً تشاورياً»، بمعنى أنه مفتوح وغير ملزم، لكن اذا وجد كل طرف أن الاطروحات مناسبة يمكن عندئذ تحديد بداية للحوار. ليس معروفاً اذا كان الراعي أو المضيف الروسي، أو أي من الطرفين، سيطلب وضع سقف زمني. وليس معروفاً أيضاً اذا كان الشروع في الحوار سيتزامن مع هدنة ميدانية أو نوع من وقف اطلاق النار، فهذا يتطلّب أن تكون الفصائل العسكرية مشاركة وأن يكون هناك التزامٌ فعلي على الأرض.
من الطبيعي تصوّر أن الجانب الروسي سيحاول القيام بدور الوسيط لتدوير الزوايا وتقريب وجهات النظر، مستعيناً بالاتصالات والتنسيقات التي يجريها (مع مصر وتركيا من خلال زيارتي فلاديمير بوتين) وتلك التي اجراها مع ايران. ويجدر التذكير بدوافع هذه الدول، فروسيا شعرت بأن «التحالف الدولي ضد الارهاب» أدّى الى تهميشها فيما هي منهمكة بالأزمة الاوكرانية، لكن اشكالات هذه الحرب في سورية فتحت لها ثغرة للعودة الى المشهد عبر تنشيط «الحل السياسي»، وعلى رغم الخلافات منحها الاميركيون والاوروبيون تأييداً أولياً، أي مشروطاً. لم تتردد ايران في دعم تحرّك روسيا لعلمها أنها لم تبدّل أياً من مواقفها المعلنة طوال الأزمة السورية، لكنها تتنكّر الآن بدور الوسيط، ثم إن الدولتين خشيتا من تعفّن الصراع وتهديده مصالحهما، ولذا تراهنان على حل سياسي لا يمانعه أحد لكنهما تحرصان على ترتيبه بما يناسبهما.
ولما كانت تركيا تواجه مشاكل مع الولايات المتحدة في ما يتعلّق بقضايا تركية داخلية وبـ «الحرب على داعش» ومخرجاتها السورية، فقد آثرت أنقرة أن تدفّئ التقارب مع موسكو، ولعلها سمعت من بوتين ما شجعها على مساندة صامتة للمسعى الروسي. ومعلومٌ أن «إسقاط نظام بشار الأسد» هو أحد الشروط التي أعلنها رجب طيب اردوغان لمشاركة تركية نشطة في التحالف ضد الارهاب. أما مصر التي تطمح الى استعادة دور عربي فسرّبت مصادر مختلفة مراراً عزمها على طرح مبادرة من أجل سورية، لكنها أدركت الحاجة الى دفع دولي ولم تلمس استعداداً لدى الولايات المتحدة، لذا واظبت على الاتصال والتشاور بغية إنضاج الأفكار والمواقف المتوافرة. وعندما أبدت روسيا نيتها تحريك الجمود في الملف السوري، وجدت مصر أنها تستطيع توظيف علاقاتها المعقولة مع المعارضة السورية وعلاقاتها السويّة مع النظام لتفعيل حل ينسجم مع ثوابت سياستها التي هجست دائماً بالمحافظة على وحدة سورية وبقائها في/ أو عودتها الى الكنف العربي، ما يتناسب مبدئياً مع أهداف السعودية.
تستند روسيا، وفقاً لما يردّده مسؤولوها ومنهم المبعوث ميخائيل بوغدانوف، الى أن النظام والمعارضة بلغا نهاية الطريق في الأزمة. وعموماً بات الجميع، وبالأخص ستافان دي ميستورا صاحب خطة «تجميد الصراع بدءاً من حلب»، يرددون أن النظام ليس قادراً على استعادة الحكم والسيطرة على كامل سورية وأن المعارضة بالكاد تستطيع الحفاظ على مناطق سيطرتها أمام هجمات النظام وغزوات «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش». لا شك في أن هذا مبرر قوي للضغط على الطرفين للبدء بالتنازل وصولاً الى حل سياسي. وبناء على حصيلة المشاورات الروسية، يتبيّن أن موسكو تركز حالياً على الشكل وترحّل أي بحث في مضمون الحوار نفسه، بل تفضّل الإبقاء على الغموض بالنسبة الى المحاور الجوهرية التي يتوقف عليها الحل، وإنْ تذكّرت من حين الى آخر «بيان جنيف». واذا صحّت المعلومات عن لقاء بوغدانوف مع الأمين العام لـ «حزب الله»، وتأكيد الأخير أن «الأسد خط أحمر»، فقد يعني ذلك أن المبعوث الروسي دخل في التفاصيل، وطالما أن المكانة الايرانية لنصرالله زادت تميّزاً بفعل مشاركة حزبه في القتال، فلا بدّ من أنه يعبّر عن رأي المرشدية التي تولي موقفه من الحل في سورية أهمية خاصة.
لا تختلف روسيا مع ايران بالنسبة الى «الأسد خط أحمر»، فكلتاهما لا تنظر بارتياح الى «معارضة الخارج» وسقفها السياسي العالي وعلاقاتها الاقليمية، وتتوجس تحديداً من مطالبها المسبقة في ما يخص «رأس النظام». لا تنسى الدولتان أنهما ربطتا مصالحهما في سورية بوجود الأسد في السلطة، لكن الأزمة بلغت في بعدها «الداعشي» حدّاً يستدعي براغماتيتهما. فهما لا تجهلان أن «رأس الأسد» هو بالضرورة محور أي حل سياسي، وأن اصرارهما على بقائه بحجة «الحفاظ على الدولة والمؤسسات» لم يعد ذريعة قابلة للترويج لأنهما تعانيان من الاهتراء الذي انتابه ونظامه. أما الذريعة التالية أو بالأحرى خيارهما البديل فقد صيغ كالآتي: «الحفاظ على النظام من دون الأسد للحفاظ على الدولة والمؤسسات»، لكن مع افتراض توافق الروس والايرانيين، فإنهم لن يُقدِموا على إبدال الأسد بشخص آخر ما لم يفتح البازار أمامهم ليعرفوا مع مَن سيساومون وبأي ثمن وأي شروط.
في ضوء المعطيات الأولية، يبدو التحرك الروسي لمصلحة نظام الأسد، وهو لم يعلن موافقته على المشاركة في المؤتمر التشاوري إلا بعدما تعرّف الى مختلف التفاصيل. ولا تخفي الأطراف الثلاثة، روسيا وإيران والنظام، أنها تعوّل بشكل رئيس على معارضة الداخل وقابليتها للانخراط في حوار مع النظام واستعدادها للموافقة على حلٍّ يأخذ شكلياً بالخطوط العريضة التي تطرحها، لكنه حل يهدف خصوصاً الى تجديد «شرعية» النظام، وقد يتخذ شكل «حكومة مختلطة» يمكن أن تتولّى رئاستها شخصية معارضة لا تمانع وجود الأسد في الرئاسة، وأن يُعهد ببعض الوزارات الى معارضين آخرين. وقد يقال إن هذه حكومة «انتقالية»، في انتظار الدستور وقانون الانتخاب والأحزاب ثم الانتخابات نفسها فضلاً عن انتخاب رئيس («جديد»؟). في السياق، يُراد تهميش «الائتلاف» المعارض باجتذاب بعض وجـوهـه والحـؤول دون ترؤسه «الوفد الموحّد» للمعارضة وقيادته المفاوضات كما في جولتي جنيف أوائل 2014. ولأن مسار التفاوض سيكون طويلاً، فإن أعضاء «الائتلاف» المشاركين سيشعرون بأنه جرى توريطهم، فإذا واصلوا يحترقون سياسياً وإذا انسحبوا يُتهمون بالعرقلة والتعطيل، لكن الآخرين سيتابعون التفاوض... وصولاً الى «الحل».
ثمة أفكار متداولة في سياق التحضيرات، ومنها أن يجرى احترام تمثيل كل الفئات وضمان مشاركتها في كل المؤسسات. ولدى شرح هذه الفكرة يقال اختصاراً إنها قد تقتبس المعايير (الطائفية) التي صيغ بها «اتفاق الطائف» اللبناني. لكن، في كل الأحوال، هناك شروط أساسية لأي حل، كي يقترب من أن يكون حقيقياً، وأولها ألا يجرى تفصيله على مقاس الرغبات الروسية - الايرانية، وأن لا بدّ من أن يرسم خريطة خروج الأسد، طريقاً وبوابةً، بدءاً من إقرار إخضاع المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية للسلطة السياسية، أي للحكومة الانتقالية، بغية اعادة هيكلتهما وإبعادهما من التدخل في الحياة السياسية.
العدائية: هي ممارسة القوة أو الإكراه ضد النفس أو الغير عن قصد، وعادة ما تؤدي القوة إلى التدمير أو إلحاق الأذى أو الضرر المادي وغير المادي بالنفس أو الغير، وغالباً مايكون السلوك العنيف نواة للإجرام فالتصرف العدائي قد يلجأ إليه الإنسان حتى يتمكن من الحفاظ على بقائه ونوعه من ناحية، وإشباع حاجات الذات وتحقيق الفعالية والوجود من ناحية أخرى، فلما تكون المقاصد الكامنة وراء السلوك العدائي منطوية على إلحاق الهلاك بالحرث والنسل تكون مؤشرات على تطور العدائية.
إن حالات الإحباط الشديد تؤدي إلى ظهور قدر معين من العدوانية التى تعتمد على كمية المشاعر السلبية الناجمة عن حالة الإحباط أو الفشل، ولما كان الإحباط مفتاحاً للغضب، والغضب بدوره يؤدي إلى العدوان، والعدوان يعتبر بمثابة (الدينامو) الذي يقوم بتوليد العنف، فإن العنف يتحول في هذة المنظومة السيكودينامية إلى سلوكيات مضطربة ومسالك دامية تتبلور فى نهاية المطاف لتصل إلى الانتقام.
فتكون بذلك العدائية شكلاً من أشكال السلوك التعويضي عن الإحباط المستمر، وهو نشاط هدام يقوم به الفرد لإلحاق الأذى بالآخرين، سواء عن طريق الاستهزاء الكلامي أو الألم الجسدي ويمكن ان يفضي في حالات متطورة إلى إيذاء الذات. فالنزاع حول ملكية شيء ما، أو الأحقية في مكان ما، أبرز ما يستثير العدائية في السلوك، إذ يرى كلا الطرفين المتنازعين أن له الأحقية في التملك.
لكن هل يفضي بنا ذلك إلى تفسير العدائية المفرطة التي تعامل بها نظام الأسد في مواجهة المتظاهرين السلميين والمدنيين العزل؟ ألم يكن ممكناً أن يتلافاها النظام بشكل من أشكال الحوار أو استيعاب الطرف الآخر وتحقيق بعض مطالبه؟ ولكننا نرى أن النظام وقع في فخ العدائية، إذ أن خوفه من فقدان مايعتبره مملكته الخاصة، وغريزته الغوغائية التي لاتجد بداً من القضاء على أعدائه في سبيل البقاء، حذت به إلى استخدام العدائية المرعبة حيال الأشخاص، والأماكن، وحتى الممتلكات العامة. فنرى منذ بداية الثورة شبيحة النظام يرددون هتافات توحي بالعدائية "الأسد أو نحرق البلد"، كيف ذلك؟ ومن غير المنطقي بل ومن المرفوض عقلاً إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين الذين لايحملون سلاحاً.
وهذا أيضاً ما نراه جلياً في سلوك المدعو رستم غزالة حين قام بإحراق قصره في درعا لكي لا يدخله الثوار، إنها العدائية الموجهة والتي تتعدى إلحاق الأذى بطائفة معينة، إلى إلحاق الأذى بالممتلكات، وتحويل المدن إلى ركام، وجعل الآثار قاعا صفصفاً. وهي ترجمة واضحة لما يحسه النظام وأفراده من إحاطة الخطر بهم فيعمدون إلى ما يسمى سياسة "الأرض المحروقة". إضافة إلى ذلك أبشع أشكال العدائية متجسدة في الأساليب المستحدثة في التنكيل بالمعتقلين وسومهم أشد أنواع التعذيب والانتهاكات الجسدية، والإهانات المعنوية والعمد إلى استخدام كل صنوف التعذيب التي لا مبرر لها، من كهرباء، واغتصاب، وتجويع إلى حد الموت.
فنرى من يخرج من المعتقلات أو يموت فيها على جسده آثار من العذاب يستحيل لإنسان سوي أن يرتكبها في حق بشر، وللإستدلال على أن العقدة المرضية تسيطر على هؤلاء الأشخاص، أننا نراهم يوثقون جرائمهم بالصور ويتفاخرون بها مما يدل على حالة الإحباط والفشل التي أدت إلى توليد العنف المؤذي، فلا يمكن لشخص سوي أن يمارس العنف أو يستعرض قوته البدنية على شخص مكبل معصوب العينين، لأن الأشخاص الأسوياء يؤمنون بضرورة تكافؤ الفرص حتى يشعر المنتصر بنشوة الانتصار، أما الانتصار على شخص لايمتلك أيا من أدواتك فهو لا يعدو كونه فشلاً ذريعاً وضعفاً واضحاً.
وترتفع حدة العدائية عند البعض حتى تصل إلى حد الجريمة البشعة، إذ غذت الميول الطائفية عقدة العدائية، فصار شبيحة النظام وموالوه خاصة من الشيعة الذين يتعبدون بقتل السنة، يعمدون إلى ارتكاب مذابح جماعية طالت حتى الاطفال.
يفسّر اختصاصيو علم النفس العدائية على أنها: خط حماية متفجّر قوامه الخوف من تكرار معاناة القمع، فالعدائي يبادر إلى الهجوم لحماية موقعه الدفاعي، مما يفسر حرب البقاء التي اختلقها النظام ومؤيدوه على اعتبارهم أقلية يدافعون عن وجودهم ازاء من ارتأوا أنه من الممكن أن يهدده في حال لم يكونوا في السلطة، إلا أن السحر انقلب على الساحر فبات الأسد يلقي بأبناء طائفته إلى التهلكة بحرب مفتعلة يدفع ثمنها الكل حتى من لا ناقة له فيها ولا جمل.
احتلت ظاهرة "المقاتلين الأجانب" خلال العام حيّزا هاما من الانشغال الدولي بها، ومخاطر تفاقم هذه الظاهرة وانعكاساتها المستقبلية على المستوى الإقليمي والدولي، ولأوّل مرة يتم حشد قرارات دولية لمواجهتها.
فالحملة الدولية التي تشنّ منذ عدّة أشهر ضد تنظيم الدولة "داعش" بقيادة الولايات المتّحدة بشكل أساسي تستند من الناحية القانونية إلى قرار مجلس الأمن رقم 2170 المتخذ في الجلسة 7242 بتاريخ 15 أغسطس/آب 2014، وقرار مجلس الأمن رقم 2178 في الجلسة 7272 بتاريخ 24 سبتمبر/أيلول 2014. وقد صدر القراران تحت الفصل السابق من ميثاق الأمم المتحدة والذي يتضمن جواز استخدام القوّة ضد الأطراف التي صدر القرار بحقها وفق المادة 42 من الفصل السابع.
القرار 2170 طويل وفيه الكثير من التفاصيل، لكن المدقق فيه سيلاحظ أنّه خصص صفة "المقاتل الأجنبي"، لأولئك الذين انضموا من الخارج إلى ثلاثة أطراف فقط هي: تنظيم الدولة "داعش"، الذي كان معروفا آنذاك باسم تنظيم الدولة في العراق والشام، وجبهة النصرة، وتنظيم القاعدة، بالإضافة إلى أي جماعة ترتبط بشكل مطلق بتنظيم القاعدة.
ويعتبر أن تدفق مقاتلين أجانب إلى هذه التنظيمات أجج النزاع وساهم في إشاعة التطرف العنيف، ومطالبا هذه الكيانات الثلاثة بالكف فورا عن كل أشكال العنف وأعمال الإرهاب ونزع سلاحها وتسريح قواتها فورا، بالإضافة إلى مطالبته جميع الإرهابيين الأجانب المرتبطين بهذه الكيانات بالانسحاب فورا.
أمّا القرار 2178 فإنه يسمي أيضا بالاسم التنظيمات الثلاثة السابقة الذكر، لكنه في المقابل يتضمن تعريفا واضحاً لماهية "المقاتل الأجنبي"، إذ يقول عن المقاتلين الأجانب، "أي الأفراد الذين يسافرون إلى دولة غير التي يقيمون فيها أو يحملون جنسيتها بغرض ارتكاب أعمال إرهابية أو تدبيرها أو الإعداد لها أو المشاركة فيها، أو توفير تدريب على الأعمال الإرهابية، أو تلقي ذلك التدريب، بما في ذلك في سياق النزاعات المسلحة". كما يطالب القرار المقاتلين الإرهابيين الأجانب بنزع أسلحتهم والتوقف عن جميع الأعمال الإرهابية والمشاركة في القتال في أي نزاع مسلح.
هذان القراران يتجاهلان ثلاثة عناصر أساسية تتعلق بالإرهاب في سوريا والعراق:
العنصر الأول: أنّ هذا الإرهاب هو نتيجة لاستخدام العنف من قبل أنظمة استخدمت الإرهاب ضد المواطنين العزّل، وبالتالي فإن هكذا قرارات تتعامل مع النتيجة وليس مع السبب.
"القرار 2170 خصص صفة "المقاتل الأجنبي" لأولئك الذين انضموا من الخارج إلى ثلاثة أطراف فقط هي: تنظيم الدولة "داعش" الذي كان معروفا آنذاك باسم تنظيم الدولة في العراق والشام، وجبهة النصرة، وتنظيم القاعدة، بالإضافة إلى أي جماعة ترتبط بشكل مطلق بتنظيم القاعدة"
العنصر الثاني: أن التطرف والتحول في شكل الصراع جاء نتيجةً لتدخل المقاتلين الأجانب الشيعة، وقد حذرت العديد من التقارير لا سيما في بداية اندلاع الثورة السورية وفي العام 2012 من أن تدخل عناصر شيعية تابعة لإيران مباشرة أو لأذرعها في المنطقة كحزب الله وكتائب أبي الفضل العباس سيخلق حربا طائفية، ويحول شكل الصراع ويغذي التطرف.
العنصر الثالث: أنّ التعريف الذي أطلقه قرار مجلس الأمن 2178 على مصطلح "المقاتلون الأجانب" يتجاوز التنظيمات الثلاثة المذكورة في القرار، وينطبق تماما على التنظيمات الشيعية.
الاستنتاج الذي من الممكن أن نخرج به من هكذا قراءة يفيد بأنّ هذه القرارات مفصّلة على مقاس جماعة معيّنة، وبالتالي لا تهدف إلى معالجة المشكلة الحقيقية، فضلا عن موضوع تدفق المقاتلين الأجانب. ومن الواضح أنّ هذه القرارات شكّلت أساس الخطاب السياسي للمسؤولين الأمميين وحتى السياسيين في الدول المعنيّة بالملفين السوري والعراقي، لأنك عندما تجلس مع هؤلاء المسؤولين تلمس أن فهمهم عن "المقاتلين الأجانب" يكاد ينحصر تماما بهذه الكيانات الثلاثة، وأنّ مكافحة الإرهاب بالنسبة لهم هي مكافحة هذه التنظيمات فقط.
إن مثل هذا التعامل الانتقائي و"الأعور" إن صح التعبير ينسف مفهوم الحل من أساسه، ويعقد المشكلة بل ويزيدها. على سبيل المثال كان المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب قد أصدر خلال اجتماع عقد بين وزير خارجية الولايات المتحدة ووزير خارجية جمهورية تركيا في سبتمبر/أيلول الماضي، ولأول مرة، على الإطلاق (لائحة "الممارسات الحسنة" لرد أكثر فعالية على ظاهرة المقاتلين الإرهابيين الأجانب) وتتضمن 19 ممارسة حسنة تتوزع على محاور: كشف التطرف العنيف والتدخل ضده، منع وكشف والتدخل ضد التجنيد، كشف السفر، الكشف والاعتراض عند العودة.
ووفقا لهذه اللائحة فقد ورد في البند رقم 5 أنه "يجب أن تتحاشى برامج مكافحة التطرف العنيف وأن تسعى للحيلولة دون ربط المقاتلين الإرهابيين الأجانب أو التطرف العنيف بأي دين أو ثقافة أو جماعة إثنية أو جنسية أو عرق. وفي سياق المقاتلين الإرهابيين الأجانب، هناك احتمالية قوية بشكل خاص لحدوث مثل ذلك الربط فيما يتعلق بالدين. إن مثل تلك الأساليب المتحيزة في التعامل مع التطرف العنيف ستقيد وجهات نظر أولئك المسؤولين عن وضع مبادرات مكافحة التطرف العنيف، ويمكن أن تسبب النفور لأفراد المجتمع المحلي الذين تعتبر تعاونهم هاما في إنجاح مثل هذه الجهود، كما يمكن استخدامها من قبل المجموعات الإرهابية المتطرفة كدعاية لتقويض هذه الجهود".
الفقرة الأخيرة غاية في الأهمية وتجسد لب الموضوع ولا يبدو أنّ المسؤولين الدوليين في صدد فهمها، ويدعم ذلك ما نُشر مؤخرا على سبيل المثال حول المبعوث الأممي دي مستورا، حيث اعتبر الأخير خلال لقائه مع عدد من المسؤولين رفيعي المستوى بأنّ "المليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا ليسوا مقاتلين أجانب على اعتبار أنّ النظام طلبهم"!، وهو ما يعطي انطباعا لدى المستمع بأنّ معيار تصنيف "المقاتل الأجنبي" يرتبط بطلب السلطات له أو عدم طلبها له، علما أنه وحتى في حال افترضنا جدلا صحّة هذا المعيار، فإنه لا يصح في حالة الأسد الذي لا يسيطر إلا على جزء بسيط من البلاد (حوالي الثلث وفق آخر التقديرات) لكونه نظاما غير شرعي ومتورطا في مقتل مئات الآلاف من المدنيين.
ولا يسري هذا الفهم المجتزأ لمصطلح "المقاتلين الأجانب" على هذه الشريحة الرسمية فقط، بل هناك على ما يبدو من يحاول أن يكرّس هذا الفهم الخاطئ في المجال العام، والمفاجأة أنّ هذه الجهود تأتي من قبل الجانب الأميركي مؤخرا. فعلى سبيل المثال انتشرت في الآونة الأخيرة مجموعة من الرسوم المعلوماتية (إنفوغراف) عن المقاتلين الأجانب، ربما أشهرها على الإطلاق تلك التي تتضمن رسما للكرة الأرضية وعليها خطوط من البلدان التي يأتي منها مقاتلون أجانب للذهاب إلى سوريا مع أعداد مرتبطة بكل بلد.
لاقت هذه الرسومات رواجا كبيرا في وسائل التواصل الاجتماعي ونشرت أيضا في عدد من الصحف الأجنبية المعروفة كالواشنطن بوست. لقد لفت انتباهي أنّ البلدان والأعداد تتحدث على ما يبدو فقط عن المقاتلين من مذهب معيّن. فعلى سبيل المثال، لا يوجد في الخارطة إشارة على الإطلاق لأي مقاتلين أجانب من إيران، أما العراق فالرقم هو 247 وأما لبنان فالرقم مثلا هو 890.
وقد أثار هذا الأمر فضولي على اعتبار أنّه من المعروف والموثق وجود مليشيات إيرانية في سوريا، وأنّ عدد المليشيات العراقية التابعة لإيران أيضا يفوق بكثير هذا الرقم، وأنّ أعداد عناصر حزب الله التي دخلت من لبنان إلى سوريا بالآلاف، فكيف ولماذا يتجاهل الرسم ذلك؟ بحثت عن المصدر الأساسي للصورة، فوجدت أن مصدرها هو "مجموعة صوفان" الأميركية، وعند البحث عن مديرها وجدت أن اسمه "علي صوفان" الذي عمل مع المخابرات المركزية الأميركية، وهو من أصل لبناني.
"العصابات الإرهابيّة التابعة للمحور الإيراني تكاد لا تعد ولا تحصى، حتى أن فيليب سميث المتخصص بالحركات الشيعية سمّاهم في مقال نشر في الفورين بوليسي "كل رجال آية الله" وعدهم بما يفوق خمسين تنظيما، وهؤلاء ارتكبوا فظائع قبل وبعد ظهور تنظيم "داعش" ولا تقل عنه بشاعة "
في مقابل كل ما ذكرناه، يتم تجاهل حقيقة وجود مقاتلين أجانب تابعين لإيران في سوريا والعراق كانوا ومازالوا السبب الأساسي والرئيسي لصناعة بيئة مثالية لإنتاج الإرهابيين، وتوليد رد الفعل الإرهابي واجتذاب المقاتلين من الخارج.
في سوريا وحدها، يحصي تقرير هام جدا صدر قبل عدّة أشهر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان 13 مليشيا شيعيّة عراقيّة تقاتل في سوريا، لعل أبرزها كتائب حزب الله ولواء أبو الفضل العباس ولواء كفيل زينب، وكتائب سيد الشهداء وفيلق الوعد الصادق ولواء الإمام الحسين، وغيرهم ممن يبلغ تعداد مقاتليهم بالآلاف، علما أنّ العدد 13 لم يشمل كل المليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تقارير أخرى أوردت أسماء بعض المجموعات الشيعية المقاتلة، التي لم ترد في تقرير الشبكة السورية. هؤلاء مسؤولون عن جرائم ومجازر ارتكبت بحق الشعب السوري وتمّ توثيقها بالصور والأسماء والفيديو.
هذه الجماعات ومقاتلوها لا يخفون أنفسهم بل يفتخرون بما يقومون به. من يجنّدهم معروف ومن يموّلهم معروف ومن يسلحهم ويدرّبهم ويرسلهم للقيام بمهام إرهابية معروف، وبالرغم من خرقهم للوائح طويلة من العقوبات المفروضة على سوريا، وبالرغم من أنّ عددا كبيرا منهم أيضا تابع للحرس الثوري الإيراني، الذي تطاله وقياداته سلسلة عقوبات دولية، إلا أنّ هناك تجاهلا دوليا لهم، وكأنهم غير موجودين أصلا، علما أنّ فتاوى المراجع الشيعية العليا الإيرانية والعراقيّة العلنية سلاح هام في دفع الأتباع الشيعة للذهاب إلى سوريا للقتال.
ويعتبر آية الله علي خامنئي والدائرة المحيطة به من رجال الدين من أهم الذين حثّوا على القتال. أمّا في الجانب العراقي، فيعتبر آية الله قاسم الطائي من أبرز رجال الدين العراقيين الذين دعوا إلى تجنيد المقاتلين في صفوف المليشيات الشيعية للقتال في سوريا. بالإضافة إلى محمد اليعقوبي وصادق الحسيني الشيرازي، حتى أنّ بعضهم لم يخف علنا أنّ الموضوع لا يتعلق بحماية الأضرحة والمزارات، داعيا الشيعة إلى مقاتلة الكفّار (يقصد السنّة) كالمرجع كاظم الحسيني الحائري المقيم في قم الذي أكّد ذلك في فتواه.
وقد وردت أسماء أخرى عديدة لأشهر المراجع والمشايخ الشيعة الذين كانوا يدعون إلى القتال في سوريا ويحشدون المتطوعين الشيعة وينظمون المقاتلين للقتال إلى جانب النظام السوري، ومنهم: قيس الخزعلي وعلاء الكعبي والشيخ إبراهيم داوية والشيخ محمود العداي والشيخ عادل الجبوري وأبو علاء النجفي، وغيرهم الكثير.
أما في العراق، فالعصابات الإرهابيّة التابعة للمحور الإيراني تكاد لا تعد ولا تحصى، حتى أن فيليب سميث المتخصص بالحركات الشيعية سمّاهم في مقال نشر في الفورين بوليسي "كل رجال آية الله" وعدهم بخمسين تنظيما، وهؤلاء ارتكبوا فظائع قبل وبعد ظهور تنظيم "داعش" ولا تقل عنه بشاعة أيضا بما في ذلك الاغتصاب وقطع الرؤوس والحناجر وحرق المعتقلين والجثث، وتفجير منازل المواطنين بعد نهبها وإهانة الرموز والشخصيات التاريخية للمسلمين، واختطاف وقتل المختطفين من السنّة رغم دفع الفدية التي يطالبون بها وقتل الأطفال.
"لا نريد أن نتحدث عن 50 ألف جندي وهمي اعترف رئيس الوزراء العراقي بأنهم غير موجودين فعليا، وغالبا ما كانوا يمثلون مثل هذه المليشيات حيث تدفع الرواتب وتعطى الأسلحة لهم ويقاتلون في مكان آخر"
وقد تحدّث تقرير مفصّل لمنظمة العفو الدولية نشر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن جرائم المليشيات العراقية، ولعل أكثرهم وحشية كتائب حزب الله-العراق، الذي تأسس بمساعدة حزب الله اللبناني عام 2007، وعصائب أهل الحق وكتائب بدر وجيش المهدي والحشد الشعبي وغيرهم، وبعضهم كحركة النجباء نشر مؤخرا صورا عن تسييرهم لطائرات بدون طيار في العراق، مليشيات تسير طائرات بدون طيار في دولة لها جيش وحكومة على ما تقول.
ولا نريد أن نتحدث عن خمسين ألف جندي وهمي اعترف رئيس الوزراء العراقي بأنهم غير موجودين فعليا، وغالبا ما كانوا يمثلون مثل هذه المليشيات حيث تدفع الرواتب وتعطى الأسلحة لهم ويقاتلون في مكان آخر.
الغريب أنّه لم يتم تجاهل مثل هذه الجماعات الإرهابية من قبل المجتمع الدولي فقط، بل إنّ الولايات المتّحدة تعمل معهم اليوم في العراق ضد تنظيم الدولة "داعش". وبالرغم من الإنكار العلني للإدارة الأميركية، إلا أنّ الوقائع أثبتت ذلك، كما حصل في معركة أمرلي في العراق مثلا.
كما أنّ عددا كبيرا من الخبراء الأميركيين يدركون ذلك، ومنهم من أدلى بشهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي مؤكدا أن الولايات المتحدة أصبحت عمليا تعمل مثل هذه الجماعات الإرهابية، وبعضها مدرج على لائحة الإرهاب الأميركية نفسها.
باختصار، ما يجري الآن سيؤدي إلى نتائج كارثية فيما بعد، ولن تنحصر تداعيات ذلك بالتأكيد في المحيط الإقليمي بل قد تتعداه على الأرجح إلى ما هو أبعد، إذ لطالما كانت سياسة الكيل بمكاييل متعددة سببا في تعميق الأزمات التي تواجه المنطقة منذ عقود، بالنسبة لرسالة الغرب فإن الرسالة التي قد يفهمها كثيرون في المنطقة هي أنّ هناك إرهابا سيئا وإرهابا جيدا في سوريا والعراق.
أربعة أعوام مرت على استشهاد البوعزيري الذي أشعل النار في جسده، فأشعل ثورة امتدت من تونس إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية. فقد تلقفت الشعوب الصرخة التي أُطلقت في وجه القهر والظلم والتمييز، ورددت نداء الحرية الذي طال انتظاره. غير أن الثورات التي انطلقت لم تبلغ أهدافها ما أثار ردود فعل سلبية وارتكاسات سياسية ونفسية بلغت لدى البعض حد الندم على التعاطف مع طلاب الحرية والكرامة وتمني العودة إلى ما قبل الحدث التاريخي والمعركة الكبرى التي فجرها الشباب الغاضب والمتطلع نحو الخلاص وتحقيق الحرية والكرامة لكل المواطنين.
فهل كانت الثورة خطأ يستدعي الندم والاعتذار، أم خطوة على طريق التغيير؟
لا شك في أن ثورات الربيع العربي لم تتقدم بسلاسة وتحقق أهدافها المجيدة، لكن ذلك لا يجعلها نافلة أو عاراً، فالذي حصل خطوة على طريق طويل، لأن التغيير لا يتم لأننا أردناه فقط بل لا بد من توافر مستلزمات تحققه ونجاحه. لذا، تستدعي الحصافة دراسة التجربة خلال صعودها وانكسارها، وإجراء التقويم الجاد والموضوعي، وبعقل بارد، استعداداً للموجة التالية فلا يعقل أن تنهض شعوب وتدفع أثماناً باهظة من حياة أبنائها ومواردها الوطنية والخاصة ثم تعود إلى المربع الأول، وكأن شيئاً لم يكن. فالذي حصل ليس هباء أو قبض الريح، بل خبرة حياتية وتجربة غنية بالدروس والعبر.
وأول ما تمكن ملاحظته في هذه التجربة العظيمة أنها ثورات شعبية غالبية قواها شبابية ومن نمط ثوري جديد، ما جعلها حالة خاصة تتأرجح بين الانفعالية والفعل الواعي، بين العفوية والفعل المنظم، تفتقر إلى النظرة الشاملة والخطة المبرمجة والقيادة الموحدة لاعتبارات ذاتية أساسها حرمان المجتمع من حرية التفكير والحركة طوال عقود، يحكمها الأمل والتطلع إلى الخلاص.
الأمر الثاني رفض سلطات الاستبداد المطلق تطلعات المواطنين وتمسكها بمواقعها وعدم توقفها أمام المآلات الخطيرة التي ستترتب على خيارها الرافض التغيير وذهابها إلى النهايات القصوى من دون ترك خط مفتوح للرجعة.
والثالث أنها حدثت في شروط غير مواتية، فلا المجال الإقليمي ولا الدولي كان جاهزاً لاستقبال حدث من هذا الوزن والقبول به وبنتائجه المحتملة، لذا كان انخراط القوى المحلية والإقليمية والدولية في الصراع من مواقع جد متباينة ومصالح شديدة التناقض، فلكل طرف تصور ومصالح ونهاية خاصة، وهي تصورات ومصالح ونهايات لا تتسق ولا تنسجم مع الثورة وأهدافها، بل إن بعضها يتعارض معها إلى حد التناقض، وبعضها يتقاطع معها في نقاط هامشية ولا يريد لها أن تبلغ أهدافها، بل أن تحقق أهدافه هو، وبعضها يريدها محرقة عبثية بلا نهايات محددة. وهذا أقام العقبات والعُقد وكرس توازن قوى محلي غير حاسم، لارتباطه بتوازنات قوى إقليمية ودولية، وحدّ من فرص نجاح الثورات وتحقيق التغيير الشامل على رغم الثمن الباهظ الذي دُفع مادياً وبشرياً، فطريق ثورات الربيع العربي لم يكن سالكاً كما كانت الحال مع الثورات الديموقراطية ضد الاستبداد الشيوعي في أوروبا الشرقية.
وما زاد الأمور تعقيداً وإرباكاً أن ضعف إمكانات الثوار المادية قادهم إلى الوقوع في براثن قوى متطرفة، ومن خارج سياق الثورة وتوجهها السياسي، وتحت هيمنة دول إقليمية ودولية سعت إلى تحويلهم إلى أداة لخدمة استراتيجياتها الخاصة في صراعها مع خصومها وأعدائها، وهذا أدخل الثورة في سياقات ومسارات خطيرة بما أضافه من أبعاد قومية وإثنية ودينية ومذهبية أعادت تشكيل معادلة الصراع ومسرح العمليات بحيث توارى وجه الثورة الأصيل تحت ركام التشققات الاجتماعية والمذهبية والقومية.
لكن، مع كل الاصطفافات والتحزبات والتمزقات السياسية والتشققات الاجتماعية والخسائر المادية والبشرية الكبيرة، فإن ما حصل قد حفر مجرى جديداً للحياة السياسية والاجتماعية، الفكرية والثقافية، فالتجربة عكست التغير الذي شهدته الشعوب العربية بعد قرون من الركود السياسي والاجتماعي والجفاف الفكري والثقافي الذي حاولت أنظمة الاستبداد تأبيده كي تبقى على عروشها من دون حسيب أو رقيب.
فالثورة الراهنة خطوة متقدمة بالنسبة لانتفاضتي مصر في 1978 وتونس في 1984 اللتين استنتج منهما الدكتور عصمت سيف الدولة ما اعتبره قانون الثورة في المجتمعات العربية آنذاك وهو: فورة قصيرة وعنيفة. فقد تميزت عنهما في ثلاث نقاط جوهرية في عمليات التغير الاجتماعي، الأولى في كثافة المشاركة الشعبية، بخاصة الشباب، والثانية في الفترة الزمنية التي دامتها، فترة طويلة على رغم المصاعب والنتائج غير المشجعة، والثالثة في حجم التضحيات التي جاد بها المواطنون، وظاهرة التضحية وتقبّل بذل النفس وتكيف الأهل مع الخسائر، البشرية خاصة، جديدة على المجتمعات العربية. فقد أشارت وثيقة إسرائيلية كتبت في الخمسينات، تناولت الركائز التي تستند إليها إسرائيل في حربها مع العرب، إلى ركيزة رئيسية وهي عدم تحمّل العرب تبعات الحروب والخسائر البشرية نتيجة عدم ممارستهم الحرب والتكيف مع مآسيها وويلاتها لاعتمادهم على الترك والكرد والمماليك في حروبهم طوال القرون الأخيرة.
فالثورات الراهنة، والتي سميت «الربيع العربي» عن جدارة، ليست النهاية بل هي معركة ضمن صراع طويل هدفه الحرية والكرامة التي ينشدها المواطنون، يمكن اعتبارها الموجة الأولى وستليها موجات حتى تتحقق أهداف المواطنين بالحرية والكرامة في ظل أنظمة تختارها الشعوب تقوم على سيادة القانون والعدالة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الجنس، واحترام الحريات العامة والخاصة في دولة ديموقراطية تفصل بين السلطات وتفتح الفضاء السياسي أمام المواطنين لتشكيل أطر سياسية ونقابية ومنظمات مدنية وجمعيات حقوقية وهياكل إدارية تسمح بنمو المواطنين وتطورهم وإبداعهم، وللبلاد بالاستقرار والازدهار في ظل تنمية إنسانية مستدامة.
في استعراض سريع أو متأنٍ لأهم الأحداث السياسية التي شهدها عام 2014، أجمعت وسائل الإعلام العالمية والإقليمية، التقليدية والحديثة، على أن الإعلان عن ولادة "دولة داعش" كان الحدث الأبرز في العام الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
تنظيم "داعش" بدولته التي صدمت العالم، كشف عن حقائق كارثية وضعت القوى الكبرى، والتحالفات الإقليمية أمام استحقاقات، بل تهديدات غير مسبوقة، أجبرت هذه القوى على إعادة النظر في اصطفافاتها وتحالفاتها وأولوياتها. أجبر "داعش" الولايات المتحدة وحلفاءها على تأجيل ملفات رئيسية، وقد تفرغوا جميعا لحشد تحالف دولي هدفه الأساسي القضاء على "دولة داعش" واستئصال شوكة التنظيم الإرهابي الذي يتهدد العالم، إما بشكل مباشر بما يشكله من خطر داهم على الشرق الأوسط وكياناته السياسية والاجتماعية، أو بشكل غير مباشر بما يشكله من مغذٍ لتنامي تيارات التطرف في المجتمعات الغربية.
ولادة "الدولة الإسلامية" وضعت العالم أمام تحدٍ جديد أبرز ملامحه أن الحروب المقبلة لن تقتصر على مواجهات كلاسيكية بين جيوش نظامية تقليدية، يمكن التنبؤ بخططها وأنماط قتالها أو حتى أنواع أسلحتها، بل هي مواجهة مع تنظيمات تتمدد مثل بقع الزيت في مياه المحيط، وتتكاثر مثل نبات الفطر في الطبيعة، والأهم أن "أمراءها" لا يديرون العمليات القتالية من غرف قيادة مركزية مكيفة، ولا يعتمدون على تكتيكات يمكن رصدها أو تحليلها.
الأمر الأخطر أن "دولة داعش" صدمت العالم وهي تحاربه بأسلحته من طراز "تويتر" و"فيسبوك" سعيا منها إلى كسب عقول وقلوب المتعاطفين والأنصار في كل أصقاع العالم. حتى أن خبراء الاعلام والدعاية شهدوا لـ "داعش" ببراعة توظيفه الإعلام الاجتماعي وسيلةً للدعاية والتأثير على الرأي العام المؤيد أو المعادي. وإن كانت ولادة "داعش" الحدث الأبرز والأخطر على رزنامة العام المنصرم، فإنها بلا شك، لن تغيب عن رزنامة العام الجديد، خاصة وأن التحالف العالمي الذي تجند لأجل القضاء على هذا التنظيم، لا يزال يتخبط باستراتيجية غامضة ومرتجفة، تتنازعها أجندات ضيقة، وحسابات متناقضة ومتعارضة، حتى بات هذا التحالف الدولي وكأنه عونٌ لدولة "داعش".
يتلقى اللبنانيون رسائل تطمئنهم إلى أن «داعش» (و «النصرة») لن يخترق الحدود اللبنانية، وأن الملابسات في جرود بلدة عرسال وتعقيد قضية الجنود المخطوفين مجرد لعبة شد حبال، تجد ترجمتها في صراع القوى السياسية اللبنانية أكثر مما تشكّل تهديداً للكيان حدوداً ومجتمعاً.
ولا يحتاج الأردنيون إلى من يطمئنهم إلى سلامة وطنهم، الذي تضطلع حكوماته بأدوار معقّدة لكنها لا تقطع الاتصال أبداً بالقوى الدولية والإقليمية كلها، بما فيها النظام السوري أحياناً.
طمأنينة لبنان والأردن تعود إلى عوامل، من بينها التكوين الخاص للدولة الموثوق بها في الإقليم والعالم، وكونها متفاعلة وغير منقطعة عن شعبها. وفي هذه المرحلة تتعزز حاجة القوى السورية المتصارعة للمتنفّس اللبناني، كما حاجة مثيلاتها في العراق للمتنفّس الأردني.
هذا الوضع تفتقده الدولتان السورية والعراقية، إذا صح إطلاق صفة الدولة على سلطتي البعث في دمشق وبغداد، المتناحرتين والقائمتين على ديكتاتورية ذات ذراع عسكرية، والبعيدتين من الشعب على رغم نطقهما باسمه في الأعياد الرسمية.
وإذا كان الإرهاب «الداعشي» غزا البلدين، فكأنما استُدعي ولم يكن مجرد غازٍ، ذلك أن تداعي الدولة العراقية بعد «جنون» صدام حسين في سنوات حكمه الأخيرة التي أعقبها الاحتلال الأميركي بسياساته الإلغائية، وتباعد المسافة بين النظام والشعب في سورية، الظاهر في توتر الحاكم ولجوئه إلى العنف الأعمى منذ التظاهرات السلمية الأولى. ذلك كله يعني أن الفراغ في العراق وسورية هو ما ملأه الإرهاب، ولن يستطيع أهل الحكم في بغداد ودمشق دحره، لأنهم لا يملكون سبيلاً إلى جذب مناطق اجتاحها «داعش»، على رغم استبداد التنظيم ضد من بقي من سكان أشبه بالعبيد. لا يملك حزب «الدعوة» العراقي ولا بشار الأسد جاذبية تستعيد وحدة الأرض والشعب وتقيم الدولة من جديد، فالفارق بينهما وبين «داعش» الذي يصب في مصلحتهما، هو فارق في الدرجة لا في النوع. وليس من أفق للمعارضة في البلدين أو لداعمي هذه المعارضة لتقديم نموذج حكم مدني ديموقراطي جاذب، حتى لو أقيم على أرض محدودة خارج سلطتي «داعش» والنظام.
إنها مأساة الشعبين السوري والعراقي وسنواتهما الضائعة، ولن تنتهي إلا بأيدي قوى إقليمية ودولية كبرى تتفق، إذا أرادت، على خريطة سلام في البلدين، تتضمن على الأرجح إعادات نظر في الحدود والتكوينات السياسية والاجتماعية والدولتية. ثمة احتمال حقيقي لسايكس بيكو جديد بتوقيعات متعددة، فالوضع في المشرق العربي هذه الأيام أكثر سوءاً وتعقيداً مما كان عليه عند انهيار السلطنة العثمانية.
سنوات أضاعها العراقيون والسوريون، وقد أدركوا ذلك بعد فوات الأوان، ولن يستعيدوا ما فقدوا على رغم زيارات حيدر العبادي الودية إلى الدول المجاورة وانتهاجه سياسة مضادة لسياسة سلفه نوري المالكي المتعصبة والقصيرة النظر، وعلى رغم تسريبات المعارضة السورية ورقة مشتركة بين «هيئة التنسيق» و «الائتلاف» تمهد لحوار مع النظام ينقذ سورية على قاعدة دولة مدنية ديموقراطية.
الأقاليم العراقية الثلاثة أصبحت أمراً واقعاً، و «داعش» صار واقعاً سورياً سيندرج في مسار عرفته منظمات قامت على العنف الصافي ثم تخلت عنه تدريجاً، بفعل
بالتوازي مع الإعلان عن مبادرة تبناها المبعوث الأممي لسوريا ستيفان دي ميستورا تعتمد على تجميد القتال محليا كبداية لحل للأزمة السورية، ومبادرة أخرى أطلقها الروس تعتمد على حوار بين المعارضات السورية تتبعها مفاوضات غير مشروطة مع النظام، شهدت القاهرة تحركات دبلوماسية حثيثة تتعلق بالأزمة السورية، تجاوبت معها غالبية أطراف المعارضة السورية.
التحرك المصري الجديد يدل على وجود عدة مواقف وخطط جديدة تتعلق بالأزمة السورية، أولها أن المعارضة السورية أيقنت أن عليها البدء بالحوار لبلورة رؤية موحدة للحل في بلدها، وثانيها أن هناك توافقا عربيا على ضرورة التحرك لإبقاء بعض أزرار التحكم باليد العربية، وثالثها أن السعودية بدأت تتحدى روسيا على أكثر من صعيد وتحاول تقديم بدائل عن المبادرات الروسية التي تقف دائما إلى جانب النظام، ورابعها أن القاهرة باتت مقتنعة بأنه آن أوان تحركها على المستوى الإقليمي ليكون لها موطئ قدم بين الدول المؤثرة في الشأن السوري.
في الوقت الذي كانت موسكو تأمل فيه أن تأتي المعارضة السورية إليها للاجتماع والبحث في برنامج موحد تليه مفاوضات مع ممثلي النظام، توجّهت المعارضة السورية إلى القاهرة، ممثلة ليس فقط بائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية صاحب الموقف الأكثر تشددا من موسكو، وإنما أيضا بقوى المعارضة الداخلية صديقة روسيا وصاحبة سقف المطالب المنخفض، كهيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة، وأعلنت المعارضات السورية أنها تُفضّل الاجتماع والحوار في القاهرة لا في موسكو، الأمر الذي أربك السياسة الروسية ودفعها إلى الإسراع في إعلان موعد لاجتماع المعارضة أواخر يناير المقبل في موسكو لقطع الطريق أمام أي اجتماعات مقترحة لتوحيد المعارضة السورية في القاهرة.
المملكة السعودية، وبعد أن قامت بخطوة اقتصادية سبّاقة بعدم تخفيض إنتاج النفط وتسببت في خسائر فادحة لروسيا وإيران، لم تكن بعيدة عن اجتماع القاهرة ويبدو أنها قررت القيام بخطوة سياسية لقطع الطريق على المبادرة الروسية، بل وعلى الموقف الروسي من الأزمة السورية الذي لم تستطع تغييره بالطرق الدبلوماسية، وساعدها في ذلك التوافق الأخير بينها وبين قطر، والعلاقة المتينة التي تربطها بالقيادة المصرية.
بالتشاور مع الرياض، تحركت القيادة المصرية لدعوة المعارضة السورية إلى الحوار في القاهرة وليس في موسكو، وهو أمر تسعى إليه القاهرة التي لم تعد تمانع من أن يكون لها دور في حل الأزمة السورية باعتبارها واحدة من أهم العواصم العربية ذات النفوذ خلال التاريخ المعاصر، وتسعى لاسترجاع بعض من هذا الدور بعد أن استقرت الأحوال المصرية الداخلية.
اجتمعت قوى سورية معارضة في القاهرة، هيئة التنسيق التي وافقت على إجراء مفاوضات غير مشروطة مع النظام خلافا لكل مواقف المعارضات السورية السياسية والعسكرية والشعبية، وكذلك تيار بناء الدولة المعارض الذي لا يريد إلا الحل السياسي التفاوضي مع النظام والذي لا يُعرف من يتخذ القرار فيه بعد أن اعتقل النظام السوري مؤسسه ورئيسه مؤخرا، وكذلك الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير التي يرأسها رجل موسكو وأحد مسؤولي الأسد السابقين قدري جميل، بالإضافة إلى قوى كردية معارضة، بعضها لا يُخفي أولوياته القومية.
وعلى غير المتوقع، وافق ائتلاف قوى الثورة على أن يحضر لقاءات القاهرة بين المعارضة السورية، وهو مؤشر إضافي على تأثير السعودية على هذا الائتلاف، ودارت النقاشات حول إمكانية بلورة موقف موحد لكل المعارضة السورية في ما يتعلق بالمفاوضات مع النظام، وتوافقت هذه المعارضات على الأسس العامة والأولويات.
ولأن روسيا ليست ساذجة كما يعتقد بعض المعارضين السوريين، فقد أدركت اللعبة سريعا، ولهذا أعلنت، على عجل، عن تحديد موعد للقاء المعارضة السورية ببعضها البعض وموعد بعده بيومين للقاء المعارضة بالنظام السوري، وطلبت من النظام السوري أن يقوم بتسمية رئيس وفده، كما طالبت بعض المعارضين المقربين منها من الهيئة والجبهة دعم خيار الحوار “الموسكوفي” وليس “القاهري”، لكنها، ولدرايتها باحتمال رفض المعارضة السورية مثل هذا اللقاء، دعت معارضين كشخصيات وليس كممثلين عن قوى، لتفادي الانتكاسة المحتملة.
تتسابق كل من روسيا وإيران من جهة، والسعودية ومصر من جهة ثانية، لكسب سبق لم شمل المعارضة السورية، وللسعودية فرص أقوى، على اعتبار أنها دولة عربية أولا، وتحظى بثقة النسبة الكبرى من المعارضة السورية ثانيا، ومصر دولة وسطية معتدلة مقبولة من كل الأطراف بما فيها النظام ثالثا، وأخيرا السعودية هي الأقدر من موسكو على التنسيق مع الولايات المتحدة.
يبدو للوهلة الأولى أن التحرك الدبلوماسي الروسي الأخير قد يكون بداية طريق لحل الأزمة السورية، لكن جملة من المؤشرات تؤكد على أنه ليس إلا لعبا في الوقت الضائع من قبل موسكو، ولن يوصل إلى أي نتيجة ذات معنى، ومن أهم هذه المؤشرات أنه لا يوجد للولايات المتحدة أي أثر أو صوت في هذه المبادرة، ولن تستطيع أي دولة الوصول إلى أي صيغة دون الأميركان الذين لازالوا غير مكترثين بالوصول إلى نهاية المطاف في الأزمة السورية.
ومن المؤشرات الأخرى أن اجتماعات المعارضة وفق الرؤى الروسية ستتبعها مفاوضات مع النظام، وهي فكرة عبثية، جربها الطرفان في مؤتمر جنيف وفشلا فشلا ذريعا، فالنظام عطل كل شيء علنا على مرأى المجتمع الدولي مجتمِعا، ومن الواضح أن ليس في نيّته القبول بمفاوضات لحل سياسي يمكن أن يهدد وجوده، وهو قرر قبل أربع سنوات أن يتبع الحل العسكري الحربي ولن يحيد عنه كما يبدو، ويريد إعادة الجميع إلى بيت الطاعة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن قوى المعارضة، الداخلية والخارجية، لا سلطة لها عمليا على من يقاتل على الأرض، ولا تستطيع فرض رأيها على أي فصيل مسلح، والتيار الذي يقبل بحل لا يوافق المعارضة المسلحة، لن يجد له من يدعم قراره على الأرض.
إن ملامح الحراك السياسي الروسي والمصري تبدو في بداياتها، والنظام سائر في طريقه لا يهتم ظاهريا بهذا الحراك أو بأحد، ويبدو أن المعارضة واهمة بأنها قادرة على تغيير سلوكه أو إقناعه بأن يقبل بحل وسط، ولا تتخذ أي موقف صارم بل توافق بدورها على تضييع الوقت، مع أنها مُدركة أن كل ما يُطرح من مبادرات واقتراحات حتى الآن هو طرح “خلّبي”، وأن الطريق مازالت مسدودة بانتظار حل من أصحاب الحل، ومع هذه اللامبالاة من النظام ومنها، قد يطول انتظار السوريين كثيرا.
قتادة شاب عشريني من أحياء دمشق , عمل منذ بداية الثورة على تنظيم المظاهرات السلمية , تمّ اعتقاله في السنة الثانية من بدء الثورة .
في اجتماعاته السريّة مع أصدقائه كان هناك اتفاق , بأن من يعتقل منهم لا يشي بأصدقائه إلا بعد أن يصل بهم التعذيب إلى قلع الأظافر , يقول بابتسامه ساخرة " لم أكن أنوي إعطائهم المعلومات من الظفر الأول , لكنهم مع إصراري وصمتي , رفع المحقق عن عينيّ العصابة وقال لي : اليوم إن لم تتحدث سأرسلك إلى جميل حسن ... لقد جعلوني أعيد حساباتي .
في مرحلة الثورة كان فرع الجويّة بقيادة "جميل حسن"هو الأكثر دمويّة , الداخل إليه هو غالبا مشروع شهيد , جميل هو أحد أعمدة النظام الدمويّة التي بني عليها النظام الأسدي منذ الثمانينات و وفقا لقراءة الطيار عبد الناصر العايد لممارسات هذا الفرع فهو يرى أنّ
"جميل حسن مستقل كثيرا بقراراته عن بشار الأسد وهو من يدير سياسة الدولة بالمجمل.
والجدير بالذكر أنه تجاوز المدة القانونية بأربع سنوات حتى الآن وفقا للقانون السوري كان يجب أن يحال على التقاعد منذ خمس سنوات لكنه لم يُتقاعد بعد".
تأسّست شعبة المخابرات الجوية عام ألف وتسع مئة وثلاث وستين , لهذه الشعبة مهام أساسيّة أولها الدفاع عن رئيس الدولة وتأمين الحماية له , وهي كذلك مسؤولة عن أمن مطار دمشق الدّولي , و تأمين الحماية والسريّة لضباط الطيران والحفاظ عليهم من القوى الجاسوسية .
لكن حقيقة الجهاز لم تكن كذلك وفقا للطيار المنشق عبد الناصر العايد
"هو جهاز أنشأه حافظ الأسد كونه ضابط في القوى الجوية وعندما ترقى لوزير دفاع كان لديه أداة تنفيذية أمنية تسمى المخابرات الجوية وهي جهاز صغير أنشأه في نهاية الستينات , عندما قام بالانقلاب ,و أوكل مهمة هذه الشعبة إلى ضابط يدعى (محمد الخولي) برتبة ملازم أول ,أعطاه حافظ الأسد صلاحيات واسعة جدا وفي عهدته تضخم الجهاز كثيرا وأصبح لديه فروع كثيرة داخل دمشق وخارجها ,كان يعتمد على هذا الفرع بكل المهمات الأمنية ذات الحساسية العالية جدا,التي يوكله بها حافظ الأسد مباشرة,أيضا يتولى هذا الفرع حماية حافظ الأسد في المواكب الخارجية والداخلية ,وخلال الخمسة عشر عاما الماضية وأكثر, كان هو الرقيب على أجهزة الأمن الأخرى."
كلنا يعلم بالقصة الشهيرة , عندما طلب "جميل حسن"من بشار الأسد أن يطلق يديّه بمليون قتيل وينهي الاحتجاج من بدايته , و أضاف أنه مستعد لمواجهة محكمة الجنايات الدولية بنفسه .
عمليا فرع المخابرات الجويّة هو القوة الأمنية الأبرز في مواجهة الثوار و قمع الانتفاضة و الأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان , لديهم مطلق الصلاحيات كما يرتؤون .
قلة من الشبان تخرج من أفرع المخابرات الجوية على قيد الحياة , ومن يخرج يسارع بالحديث عن فظائع شهدها هناك , يزن وعلاء نماذج قليلة كتبت لها حياة جديدة بخروجها , يزن جرجي عوض , اعتقل من قبل المخابرات الجوية , مع أربعة من أصدقائه ,اثنين منهم تمّ تحويلهم إلى صيدنايا ولا يعلم عنهم حتى اللحظة ايّ شيء , كان اعتقالهم بشكل عشوائي من الشارع
"غرف الدراسات عبارة عن غرفتين صغيرتين تستخدم في ساعات الازدحام ,عندما أدخلوني إليها , كان فيها مئة وستين معتقل وهي لا تتسع لأكثر من أربعين أو خمسين معتقل في يوم من الأيام تعطل شفاط الهواء لمدة ساعتين ووقع أكثر من عشر شبان بغيبوبة ,اثنان منهم لم يعودوا لا أعلم إن كانوا توفوا أم لا".
حاليا وفقا لمعتقلين مفرج عنهم حديثا أعداد المعتقلين وصلت في القاعات خمس مئة وأربعين معتقلا , أغلب المعتقلين فيها , أقدامهم متقيحة من شدّة التعذيب , بشكل يومي يستشهد هناك أكثر من ثلاثة أشخاص .
يضيف يزن "من يذهب لمبنى التحقيق القديم يصبح مشروع شهيد , التعذيب شديد جدا هناك , الجلادون وحوش حقيقية لا تشبه البشر ".
"فكرت بالانتحار وحاولت عندما نقلوني من القاعة إلى الزنزانة وكان رقمها إحدى عشر كانت تتسع لأربعة أشخاص وضعوا فيها 24 شخص معاناة لا تحتمل , , كان هناك رجل في الزنزانة بقدم مبتورة وكانت تنزف دماً باستمرار, أسندها الرجل على خصري".
خرج يزن من معتقلات الموت بعد خمسة أشهر ونصف , بعد أن ثبتت براءته , يتساءل حتى اليوم لماذا تمّ اعتقاله وبأي ذنب عذّب .
لكن مع تواجد عشرات الآلاف من المعتقلين في سجون الأسد، ومع ظهور عشرات المقاطع المصورة لعمليات تعذيب في الفروع الأمنية، فضلاً عن غياب الكثير من المعتقلين واختفائهم , بدأ الأهالي يبحثون عن أي وسيلة لإنقاذ أبنائهم من الموت المحتم ,وهنا جاء دور أزلام النظام ليجنوا أموالاً ضخمة من ابتزاز أهالي المعتقلين .
"علاء" شاب فتيّ من درعا , نموذج عن شباب تمّ بيعهم من المعتقلات , تمّ اقتياده من قطعته العسكرية ، دون أي تهمة موجهة إليه، وبعد شهر من اختفائه، علم والده مكان وجوده ، وبدأ والده من خلال وسطاء التفاوض مع الضابط الذي اعتقلوه لإخراجه
"تعرضت خلال فترة اعتقالي لكل أنواع التعذيب , وضعوني في الممر وكل من يمر من جانبي يقوم بركلي وضربي وشتمي ...... لم أخرج بعفو , والدي تواصل مع سلسلة من الضباط اتفق معهم على خمسة مئة ألف ليرة سورية, مقابل إخراجي من السجن بعد خروجي تمّ تسليم المبلغ للوسيط .
أمضيت ثلاثة أشهر بعد خروجي من المعتقل أعالج جروحي ,كان جهازي المناعي بحالة انهيار.
خلال مدّة التفاوض والاعتقال تعرض علاء لأشد أنواع التعذيب والتجويع والإساءة النفسية دون توجيه تهم محددة له , لمجرد كونه من درعا مهد الثورة هو ذنب يستحق التعذيب حسب قوله .
"رموني بالمنفردة ثلاثة أيام دون ماء أو طعام هي مكان صغير جدا لا تستطيع فيه الحراك , وفي اليوم الرابع أعطوني زجاجة ماء ورغيف خبز واحد, كان التعذيب يومي لمدة ساعتين ليلا , يمنع علينا النوم ,كنا نتعرض لإرهاق نفسي وجسدي .
"لم أستطيع التوقف لمدة شهرين ونصف ,بسبب الجروح والتقرحات في قدمي ,كنت أحبو للحمامات كالأطفال ,هم يدفعون بالمعتقل لينهار نفسيا , أمضيت في المعتقل أسوء أيام حياتي".
يعمد وسطاء النظام ومبتزوا الأهالي إلى تعظيم التهم للمعتقل، للإيحاء بأن ابنهم أو ابنتهم لا يمكن أن يكتب لها الخروج من المعتقل إلا بدفع المبالغ الكبيرة.
وتكمن المصيبة لدى أهالي المعتقلين، بعد اجتهادهم في جمع المبلغ المطلوب لقاء الإفراج عن أبنائهم أو مجرد معرفة مصيرهم، ليتفاجؤوا فيما بعد بنبأ استشهادهم تحت التعذيب.
أضف إلى ذلك الآلاف من الحالات التي يتمّ بها تسليم أوراق المعتقل ورقم قبره , وبعد مدّة يخرج من المعتقل من يطمئن أهله بأن ابنهم حيّ يرزق .
فاطمة سعد رئيسة رابطة الدفاع عن المعتقلات تخبرنا عن سبب هذه الممارسات
بسبب عدد الوفيات الكبير وبسبب الأعداد الهائلة من المعتقلين لدى النظام , يتم توثيق المعتقل على انه توفي و يقومون بتسليم أوراقه , ثمّ يتم الاكتشاف أنّ هذه الأوراق لا تخص صاحب الجثّة , وقد حدثت أكثر من حالة من هذا النوع .
هناك عشرات الحالات التي وثقت وفقا لمركز الإحصاء , يتعمد فيها النظام سياسة التضليل , حيث يقدم أوراق وفاة لأهل المعتقل , ليتوقفوا عن البحث عنه والمطالبة به .
عندما خرج الناس في درعا , كانوا ينادون بالحرية , والكرامة , وحملوا شعارا لهم , واحد ... واحد .....واحد , الشعب السوري واحد .
ترى بعد كلّ هذا العنف داخل المعتقلات , هل سيخرج علاء ويزن و آلاف الشبان , لينادوا بوحدة الشعب السوري .
أيّ حقد وغضب يحملونه في ضلوعهم .