مع اقترابه من عامه الرابع، يختلف النزاع السوري الدائر عن الأزمات الإقليمية التقليدية، ويتميز بخاصية نادرة، كونه أول صراع دولي متعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين. وتبدو درجة الاستعصاء فيه عالية إلى حد افتراض ربط الحل العتيد والنهائي ببلورة وتوقيع “معاهدة وستفاليا” جديدة، أو اتفاق يالطا جديد، في نطاق الشرق الأوسط الواسع ما بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي وموافقة القوى الإقليمية البارزة. بانتظار ذلك، تبقى سوريا وجوارها نقطة ارتكاز لنزاعات طويلة مهددة للمنطقة والعالم.
منذ تأكد عسكرة النزاع صيف 2011، بدا أن الأزمة السورية باتت رهينة لعبة معقدة تشبه اللعبة الكبرى في القرن التاسع عشر. والآن نشهد “اللعبة الكبرى الجديدة” في المشرق ونواتها سوريا معقل النفوذ الروسي المتجدد بعد سبات لمدة عقدين، والتي تشكل أيضا مستقراً وممراً لنفوذ إيران الحالمة بعودة عصر الامبراطوريات. من جهتها، انخرطت الولايات المتحدة في اللعبة بشكل حذر ليس لمراعاة مصالح إسرائيل فحسب، بل تطبيقا لنهج استبعاد التدخل المباشر في استخلاص لدروس حربي أفغانستان والعراق. وهكذا وجدت فرنسا وبريطانيا اللتان رسمتا الحدود في المشرق، حسب “اتفاقية سايكس – بيكو” في موقع الشاهد على أفول نفوذ يذكر بمرحلة ما بعد حرب السويس في 1956 وانعكاسها على الحضور الأوروبي. وإضافة إلى ذلك نلاحظ اضطرار القوى الإقليمية الداعمة لمناهضي النظام، وتحديدا تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر، للتقيد برزنامة العمل الأميركية.
كما في صراع القرن التاسع عشر، ليس هناك احتمال لأي صدام مباشر بين اللاعبين الكبيرين، وكان احتواء التصعيد حيال الأسلحة الكيميائية، في سبتمبر 2013، خير دليل على ذلك مع وضوح دعم موسكو للنظام من دون تردد وتفضيل واشنطن لنهج مزدوج: قيام تعاون سياسي مقنن مع الروس، إلى جانب خوض حروب استنزاف بالنيابة على الساحة السورية تستهدف موسكو ومحور طهران وقوى الجهاد العالمي في آن.
في ظل هكذا ميزان قوى، أصبح الحسم العسكري لأي من الطرفين غير ممكن وغير مقبول. وفي نفس الوقت تعطل الحل السياسي نظراً لحجم المصالح المتضاربة ولأن وظيفة هذا النزاع الجيوسياسية في ترتيب الإقليم أو إعادة تركيبه لم تنفذ بعد. وكان من اللافت أن هذا النزاع استهلك جهود كبار أساطين الدبلوماسية الدولية أمثال كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي.
برز المأزق في تفسير وثيقة جنيف1 (سبتمبر 2012) لجهة “الغموض غير البناء”، وخاصة فيما يتصل بمستقبل الرئيس السوري وكيفية تأليف هيئة الحكم الانتقالي.
مع إطالة أمد الصراع والتدخل الدولي والإقليمي لمصلحته (الترسانة الروسية وانخراط المحور الإيراني إلى جانبه سياسيا واقتصاديا وعسكريا) تمكن نظام الأسد من تحويل المسار إلى السيناريو الذي روجت له دعايته منذ البداية عن الزلزال الإقليمي والإرهاب. ولعل ما ساعده على ذلك بعض من وقفوا في المعسكر الآخر عبر تسهيلات قدمت للجناحين الجهادي والإسلامي على حساب الجيش السوري الحر أو من خلال اعتماد إدارة أوباما لرؤية ماكيافيلية قضت بترك الصراع يحتدم بين “الأعداء وعناصر محور الشر” دون أن يتأذى الجهد الأوبامي للرهان على “الصفقة مع إيران” عبر عدم العمل الجدي ضد نظام حليفها الدمشقي. وهكذا أصبحت الحرب المفتوحة خيارا غير معلن وتفاقمت بعد فشل مؤتمر جنيف2 (يناير 2014)، واحتدام النزاع الأوكراني في مارس 2014 (محطة ثانية لحرب باردة جديدة) وسطوع نجم “داعش” في صيف العام المنصرم.
في النصف الأول من هذا العام تزدحم الملفات الساخنة: النزاع الأوكراني، مصير المفاوضات مع إيران، الحروب من ليبيا واليمن، إلى العراق وسوريا وربما أكثر، وتداعيات حرب أسعار النفط. ولذلك ورغم نفي اللاعبين الأساسيين تترابط هذه الملفات ويمكن أن تصبح أوراقا للمساومة والمقايضة. وهنا يكمن استعجال موسكو في الدعوة لحوار سوري – سوري أواخر هذا الشهر تحت مسمى “موسكو1″ (وليس جنيف 3 الذي يتوجب أن يكون تحت رعاية أممية). وكم كان لافتا صدور إشارات تدل على هذا الاتجاه خلال الأسبوع الحالي وأبرزها تحذير وزارة الخارجية الروسية من “أن توسيع نطاق العقوبات الأميركية على موسكو يمكن أن يعرقل التعاون الثنائي في قضايا مثل الأزمة السورية والبرنامج النووي الإيراني”. ومن جهته لمح الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى دور لبلاده في تقلب أسعار النفط مما يزيد من أزمة موسكو الاقتصادية بسبب استراتيجية العقوبات المفروضة على روسيا.
خلافا لروسيا المندفعة في 2014، سيصعب على بوتين القيام بمبادرات هجومية في 2015، ولذا يسعى الثنائي لافروف – بوغدانوف إلى انتزاع إنجاز في سوريا في الوقت الضائع. لكن قراءة في جدول أعمال حوار موسكو وفي التسريبات حول لائحة المدعوين من المعارضين، لا تؤشر إلى إمكانية إحداث هذا الاختراق.
أمام عدم رغبة موسكو حاليا في ممارسة ضغوط مؤثرة على نظام الأسد واستمرار تشدد إيران، يستمر الدوران في الحلقة المفرغة لأن هدف موسكو الحقيقي حسب دبلوماسي أوروبي هو “جلب قسم مما يسمى المعارضة إلى بيت الطاعة الأسدي” تحت يافطة التفاوض دون شروط مسبقة والعمل سويا ضد الإرهاب، وربما يهدف ذلك لتمهيد الطريق أمام واشنطن لقبول إعادة تأهيل النظام، أو فتح أبواب دمشق من جديد لبعض الراغبين والخجولين من أوروبيين وعرب.
تجد موسكو أنها فرصتها الذهبية، لأن الحل العسكري فشل بما لا يقبل الشك وأن الكارثة تسهل الحل السياسي. لكن الأصداء تبدو سلبية لجهة عدم وضوح الغاية المنشودة. وفي بيان له منذ يومين قال أحمد معاذ الخطيب الرئيس السابق للائتلاف الوطنيٍ إنه “لن يجتمعَ شملُ سوريا ثانيةً أرضاً وشعباً بوجودِ النظامِ ورأسه، لذا فلا حل دونِ رحيلِ رأس النظام والمجموعة التي ساقت سوريا إلى المصير البائس الذي وصلته اليوم”. واعتبر أن بيان جنيف يشكّل أرضيةَ لكل عمليةٍ سياسيةٍ تؤدي إلى وضع انتقالي لإنقاذ سوريا. هكذا تبدو الدروب شائكة ولن تشرق شمس الحل السوري من موسكو فلاديمير بوتين.
ليست العبودية حالة نفسية، بل منظومة علاقات اجتماعية، لكن القمع وحده لا يكفي للحفاظ على ديمومتها. لأنه لا يمكن أن يكون كلياً وشاملاً ومطلقاً، فهو لا يكون كذلك إلا كموت. وحتى في أعتى حالات الاستبداد، تبقى ثغرات زمنية ومكانية تقطع استمرارية القمع. ولا بد أن تتوفّر آليات سيكولوجية ثقافية تحافظ على علاقة الخضوع، مثل الخوف والتسليم بالمصير والتقسيم "الطبيعي" للدنيا بين أسياد وعبيد، وغيرها من الآليات التي تكبت النزوع إلى الحرية لدى العبد، ويحتاجها السيد، أيضاً، لكي يحافظ على توازنه وتماسكه في أثناء التعامل مع بشر آخرين كأنهم بهائم. لقد بُحثِت هذه العناصر بتوسّعٍ يُغني عن أيّ إضافة ممكنة في مقالة قصيرة.
ونرغب، هنا، فقط بلفت النظر إلى إحدى هذه الآليات السيكولوجية الفاعلة في إدامة العبودية، والتي تستخدم في تكريس الاستبداد، بتسخيف بدائله الممكنة، بوسائل مختلفة، مثل السخرية والاستخفاف وغيرها. هذه الآلية مركّبة من آليات فرعية، أهمها:1. مساواة الاحترام بالخضوع للقوة. 2. التعامل مع القوة كأنها تساوي القدرة على ممارسة القمع. 3. اعتبار الخضوع للقمع مساوياً لاحترام القوي. 4. احتقار الضعيف، 5. مساواة التواضع بالضعف. 6. تحول الاستخفاف بالضعيف بسهولة إلى احتقار للشخص المتواضع.
تتلخّص الآلية هذه، إذاً، باحترام القوي، أي ذلك الذي يستحوذ على القوة التعسفية التي يصعب التنبؤ بخطواتها القمعية من جهة؛ واحتقار المتواضع الذي يُعتبَر ضعيفاً، والذي يُمكن توقّع تسامحه مع النقد والتجريح، من جهة أخرى.
يعتمد الاستبداد، بدرجة كبيرة، على اعتبار جزء من الناس السلطة تسلّطاً، والقوةَ تعسّفاً. هكذا تصبح السلطة، في نظرهم، هي السلطوية بحكم تعريفها. ويُعتبر البديل المنتخب ديمقراطياً، أي غير المفروض بالقوة، شخصاً ضعيفاً، ولا سيما إذا حاول أن يعرض نموذجاً مختلفاً يشمل تقبّل النقد والامتناع عن الرد عليه باستخدام القوة. فهو بذلك يجعل نفسه نقيض السلطة بحكم تعريفها من منظورهم. فيبدو الحاكم الذي يتعامل مع الناس باحترام كأنه هو ذاته لا يستحق الاحترام، وذلك، بالذات، لأنه يتعامل مع المحكومين باحترام.
نجد، هنا، أيضاً، مصادر التناقض المثير للأسى في أن بعض من يطالبون بالديمقراطية، حتى من بين المثقفين، قد ينجرون إلى التعامل باستخفاف مع شخصية ديمقراطيةٍ، وصلت إلى الحكم ولو كان مثقفاً من بين صفوفهم، ويميلون إلى احترام الحاكم السلطوي، ولو كان عديم الثقافة، أو مجرد ضابط من الجيش لا يعرفون شيئاً عما يخفيه زيُّه العسكري.
تأبى هذه النفسية أن تنسب لشخص صفة الحاكم، إذا كان متواضعاً يسهل الوصول إليه والتواصل معه. فهو، في هذه الحالة، يصبح عرضة للسخرية والقذع، لتفريغ بعض ما تراكم في ذات المصاب بنفسية العبد من التعرض للاحتقار والإذلال من الحكّام. وهو يخرج الذل المتراكم في داخله على شكل عدم احترام ورفض فكرة اجتماع الندية والاحترام، فضلاً عن رفض طاعة القانون ومصلحة العموم، إذا لم يلزمه بها الخوف من التلويح بالقوة، كما ينفّس عنه على شكل سخرية ممن يعتبره ضعيفا. وتتجاوز السخرية النقد إلى الإسفاف، وحتى التشهير.
“ قد يحب العبد سيّدَه، وتدمع عيناه وهو يصف مدى حبه له، بعد أن يتحوّل الخائف المرعوب إلى محب معذّب "
تحتفظ الثقافة المؤسسة على هذه النفسية بالخوف كاحترام المقموع لقامعه. وفي حالات كثيرة، تتحول الرهبة والخوف إلى انسحاق ومحبّة، كما في آليات دينية وثنيّة الطابع. فقد يحب العبد سيّدَه، وتدمع عيناه وهو يصف مدى حبه له، بعد أن يتحوّل الخائف المرعوب إلى محب معذّب.
ولا تقتصر هذه الآلية، في فعلها، على الحكام وحدهم. فبعض الناس يتناول بالنقد من يساوي نفسه بهم، ويتعامل معهم كند، فيتهجّمون عليه، لأن ندّيته تسوّغ لهم جعله موضوعاً للغيرة والحسد والنقمة وغيرها، أما من يترفع عليهم، ولا يعاملهم كأنداد له، فيسلم من ألسنتهم.
تتضمّن هذه النزعة احتقاراً للذات. فصاحب نفسية العبد لا يقبل أن يتفوّق من يشبهه في أي مجال كان، لسبب بسيط أنه يذكّره بنفسه. وهو لا يصدق أن شخصاً يشبهه يمكن أن يتفوّق في أي مجال، سواء أكان علمياً أم أدبياً أم سياسياً. فيصبح بذلك إما موضوعاً للنقمة (لماذا هو؟) أو للغيرة (لماذا ليس أنا؟).
في هذه المرحلة الانتقالية التي يعيشها الوطن العربي، وما زالت فيها سيكولوجية العبيد حية ترزق عند بعضهم، لا يمكن للمرء ألا يلاحظ كيف يتعامل هؤلاء باستخفاف بسياسي لأنه ديمقراطي وغير قمعي، وكيف يتوقون إلى الحاكم القمعي الذي يستحق أن يكون حاكماً. وإذا تساءلنا، باستغراب ينم عن غضب وسذاجة، عن السبب؟ يجيبنا المصاب بهذه النفسية قائلاً: "لأن شعباً كهذا لا ينفع معه إلا من يدوس عليه"، وهو، في الحقيقة، يقصد نفسه، ويسقط هذه السيكولوجية على الشعب كله.
يتعامل المواطن الحر الذي تقوم عليه الديمقراطية باحترام مع من يحترم عقله وعاطفته، وباحتقارٍ مع من يفرض نفسه بالقوة وإذلال الآخر.
قبل أيام، قام رئيس مجلس الشورى الإيراني، علي لاريجاني، بزيارة خاطفة إلى لبنان، قادماً إليه، كعادته من دمشق عبر الحدود، بعد أن التقى رئيس النظام السوري، بشار الأسد. وفي ساعات النهار القصيرة، جال لاريجاني على قيادات القوى (الشيعية) "الممانعة"، بدءا بنظيره ورئيس حركة أمل، نبيه بري، وانتهاء بزعيم حزب الله، حسن نصر الله. وبين اللقاءين، استدعى لاريجاني مسؤولي الفصائل الفلسطينية والإسلامية الملحقة بمحور "الممانعة"، إلى أفخم فنادق العاصمة اللبنانية، فينيسيا، ليملي عليهم خطة "الولي الفقيه". ثم زار في لقاء رفع العتب رئيس الحكومة، تمام سلام.
تنقل رئيس برلمان إيران، البلد الديمقراطي بامتياز، في وسط بيروت بين مقر إقامة رئيس المجلس ورئاسة الحكومة، ثم توجه إلى الجامعة اللبنانية (الرسمية)، في الضاحية الجنوبية من العاصمة معقل حزب الله، حيث ألقى على طلاب العلوم السياسية محاضرة بمثابة دروس في "الوطنية والمقاومة والحرب على التكفيريين".
وقد أدت تنقلاته هذه إلى حبس اللبنانيين في سياراتهم على الطرقات، ساعات وساعات، تحت الأمطار الغزيرة، بسبب الإجراءات الأمنية المشددة، وتحويل خطوط السير من أجل تسهيل حركة الضيف، وتوفير الأمن والحماية له. وقد ذكّر تصرف لاريجاني اللبنانيين بصلف سلفه اللواء السوري، غازي كنعان، يوم كان الحاكم المنتدب على لبنان، في زمن الوصاية السورية، وحين كان يجول على القيادات السياسية والمسؤولين الرسميين مصدراً تعليمات رئيسه الأسد.
لم يجد المسؤول الإيراني المحافظ والمتشدد أي حرج في القول للبنانيين إن هناك تيارات تبدو فاعلة أكثر من الدول، مثل حزب الله. أي إنه أراد أن يقول لهم إن حزب الله، صنيعة إيران، هو أقوى و"أفعل" من دولتهم، والدليل، مثالاً لا حصراً، قيامه منذ سبعة أشهر بشل الدولة ومؤسساتها، بالتضامن والتكافل مع حليفه "التيار الوطني الحر" الذي يتزعمه الجنرال السابق، ميشال عون، بمنع انتخاب رئيس للجمهورية، خلفاً للرئيس ميشال سليمان الذي انتهت ولايته في 25 مايو/أيار الماضي.
" ذكّر تصرف لاريجاني اللبنانيين بصلف سلفه اللواء السوري، غازي كنعان، حين كان يجول على القيادات السياسية والمسؤولين الرسميين مصدراً تعليمات رئيسه الأسد "
فعن أي "فاعلية" يتكلم لاريجاني؟ هل عندما ذهب حزب الله ليقاتل في سورية، دفاعاً عن نظام الأسد في وجه الشعب السوري المنتفض، فيما الدولة اللبنانية غير قادرة على أن تحمي حدودها من لهيب النار السورية، بسبب مشاركة حزب الله نفسه في استباحة هذه الحدود. وهل لأن هذا الحزب قادر على تحرير أسراه عبر التفاوض مع من يحاربهم في العلن، على أساس أنهم تكفيريون وإرهابيون، بينما ظل "يمانع"، ويرفض فترة طويلة، هو وحليفه العوني، من داخل الحكومة، ومن خارجها، أي عملية تفاوض أو مقايضة مع هؤلاء التكفيريين والإرهابيين أنفسهم، من أجل تحرير العسكريين الأسرى لدى هذه التنظيمات.
وهل هو الدور "الفاعل" الذي يقوم به حزب الله منذ نحو عشر سنوات، مباشرة بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، عندما انسحب من الحكومة غداة اغتيال النائب والصحافي، جبران تويني، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2005، احتجاجا على قرار الحكومة الطلب إلى الأمم المتحدة تشكيل محكمة خاصة بلبنان للتحقيق ومحاكمة مرتكبي جريمة اغتيال الحريري. وهل استكمل هذا الدور "الفاعل"، عندما احتل وسط بيروت، وحاصر السراي الحكومي، في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2006، أي بعد أسبوع على اغتيال الوزير والنائب، بيار الجميل. وبقي ناصباً خيمه مع حلفائه "الممانعين" (عون وبري) ستة أشهر في ساحات وسط بيروت، ما أدى إلى شلل الحياة الاقتصادية، وتسبب بإغلاق مؤسسات ومحال تجارية كثيرة وإفلاسها. وقد ترافقت عملية الاحتلال تلك مع تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس الأسبق، إميل لحود (أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2007)، في تكرار للسيناريو الذي نشهده اليوم، من المعطلين أنفسهم، أي "التيار العوني" و"حزب الله". وذلك كله، في الأمس كما اليوم، بهدف فرض ميشال عون رئيسا للجمهورية، إلا أن محاولة الفرض هذه لم تحصل؟
يبدو أن لاريجاني غير ملم بهذه الوقائع، أو يتجاهلها عن قصد، بدليل أنه، أيضاً، وفي زيارته الخاطفة، حمّل المسيحيين مسؤولية عدم انتخاب الرئيس (المسيحي)، وطالبهم بـ "بذل الجهود وأن يتضافروا فيما بينهم"(!). وكان الأجدر به أن يطلب من حزب الله، بكل بساطة، أن يكف عن مقاطعة جلسات انتخاب الرئيس التي يدعو لها حليفهم بري، رئيس مجلس النواب، ويشارك في انتخاب الرئيس الذي يريد.
وهذا غيض من فيض، وإذا أراد الضيف الإيراني شواهد أخرى على نوع آخر من "فعالية" الحزب في شل الدولة ومؤسساتها، ففي الوسع إيراد وقائع تؤكد الأدوار التي يقوم بها بعض كوادر هذا الحزب وقيادييه، من إهدار للمال العام ونهبه، ومن عمليات فساد وإفساد لحياة اللبنانيين. فقبل سنة ونصف السنة، ضبطت وزارة الصحة مصنعاً يملكه شقيق نائب ووزير حالي في حزب الله، لتزوير الأدوية الفاسدة أو المنتهية صلاحيتها وبيعها، ويومها كان وزير الصحة حليفاً له من حركة أمل.
ولاحقاً، تم ضبط معمل في البقاع، يشرف عليه شقيق أحد نواب الحزب، لتصنيع حبوب "كابتاغون" المخدرة بكميات ضخمة، يتم تسويقها وتصديرها إلى الخارج. كما اكتشفت، أخيراً، شبكة يقف على رأسها شقيق آخر للنائب "الحزبللاوي" نفسه، لسرقة السيارات وتفكيكها وإعادة تركيبها لتهريبها والاتجار بها.
وقبل هذه وتلك، وغداة اندلاع الثورة في سورية، ضبط نجل أحد المسؤولين الكبار (وهو عالم دين معمم) يهرب كميات من السلاح الذي يمتلكه الحزب ويبيعه لـ"الجيش السوري الحر". وأخيراً، وليس آخراً، اعتراف حزب الله نفسه، وعلى لسان أمينه العام، باكتشاف شبكات تجسس، بين عامي 2011 و2012 مؤلفة من كوادر في الحزب لصالح إسرائيل والمخابرات الأميركية.
هل هذه هي "الفاعلية" التي يتكلم عنها لاريجاني؟ إلا إذا كانت "الفاعلية"، هنا، تعني "ممانعة" قيام الدولة التي يقيم حزب الله بداخلها، وبموازاتها، دولته وجيشه ومؤسساته ومصالحه وحساباته. الفاعلية الحقيقية تعني أن يضع حزب الله إمكاناته بتصرف الدولة، وفي مقدمها تسليم ترسانة السلاح الذي بحوزته إلى قوى الدولة الشرعية.
قبل موسكو، حليفة النظام الحاكم في دمشق، عملت طهران، الحليفة الأخرى له، على تنظيم ما سمته حواراً سورياً بين أطراف حكومية و"معارضة"، وكانت لقاءات هزيلة في الشكل والمضمون، أثارت حتى سخرية بعض المشاركين الحكوميين.
الآن، تستعد موسكو لتنظيم احتفال مماثل، تطلق عليه اسم حوار سوري سوري. بغرض البرهنة على أنها مثل طهران هي من تخوض الحرب ضد الشعب السوري، بأسلحتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية والدعائية، وهي، أيضاً، من تصنع السلم على هواها، وبما يلبي مصالحها ومطامحها، ولو أدى ذلك إلى قتل المزيد من حقوق السوريين، الأساسية والطبيعية، في تقرير مصيرهم ومستقبل بلادهم، أسوة بسائر شعوب الأرض.
"الطيف الواسع والمتنوع والمتضارب من ممثلي المعارضة يقود إلى حرمان المعارضة من صوت جماعي موحد"
وابتداءً، فإن اجتماع موسكو يلتئم من أجل إسدال الستار على جنيف وجنيف 2، والانطلاق من نقطة الصفر، لرسم مستقبل سورية والسوريين، وفق سيناريو معد مسبقاً، وليس حسب ما يرتئيه السوريون. ويبدأ إسدال الستار على جنيف بإقصاء الأمم المتحدة والأطراف الإقليمية والدولية عن مساعي مساعدة السوريين لإنقاذ شعبهم ووطنهم، وانفراد طرف واحد، هو الطرف الروسي، ليس فقط بالتنظيم والرعاية، بل كذلك بوضع حلول تجري تسميتها نقطة انطلاق، فيما يتم إقصاء مضمون مؤتمر جنيف، والقفز عنه وكأنه لم يكن، وكأن إرادة السوريين والأطراف الإقليمية والدولية، بما فيها الأمم المتحدة لم تتفق عليه. ويستغل المنظمون الروس خطة المبعوت الأممي، ستيفان دي ميستورا، بشأن تجميد القتال في حلب، للقول إن اجتماع موسكو المزمع يقيم صلة وصل مع الإرادة الدولية وقراراتها، علماً أن مهمة المبعوث الدولي لم تكن تجاوز مؤتمر جنيف، القاضي بتشكيل هيئة حكومية انتقالية كاملة الصلاحيات. وبنظرة سريعة على منحى الاستعداد لعقد اجتماع موسكو، يتبين ما يلي.
أولاً: تتم دعوة المدعوين من المعارضة، وعددهم حتى تاريخه ثلاثون، بصفاتهم الفردية، بقصد الإيحاء أنه لا توجد أي تنظيمات أو كيانات سياسية أو حزبية سورية ذات شأن أو اعتبار. وتكون المعارضة، في هذه الحالة، مجرد بضع عشرات من الأشخاص فقط لا غير.
ثانياً: تتم دعوة ثلاث شخصيات من الائتلاف، بصفاتهم الشخصية، من جملة ثلاثين مدعواً، بقصد إسدال الستار على الائتلاف، وسحب البساط من تحت أقدامه بصفته ممثلاً للثورة والمعارضة، وعلى الرغم من الاعتراف الواسع بتمثيله، وذلك بموافقة ضمنية من الشخصيات الثلاثة المدعوة.
ثالثاً: الطيف الواسع والمتنوع والمتضارب من ممثلي المعارضة يقود إلى حرمان المعارضة من صوت جماعي موحد، وإلى نشوب خلافات علنية وشبه علنية ما بينها. بما ينقل إلى العالم صورة مفادها أنه ليس هناك معارضة حقيقية، أو جسم واحد لها، فلا يبقى أمام الجهة الراعية سوى أن تصوغ صيغة الحد الأدنى لما هو متفق عليه بين شخصيات المعارضة، وأن تحمل المدعوين على الاتفاق على الصيغة من أجل إثبات الجدية والترفع عن شخصنة الأمور!.
رابعاً: الصيغة المزمعة جرى إعدادها مسبقاً في موسكو، وتم تسريبها إلى وسائل الإعلام، وتدور حول مرحلة انتقالية وليس حول حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات. والمرحلة الانتقالية، حسب موسكو وباتفاق مرجح مسبق مع النظام في دمشق، تستمر بين سنتين وسنتين ونصف السنة، وتتضمن إجراء انتخابات نيابية وتشكيل هيئة تأسيسية، ودعم الجيش السوري لمحاربة الإرهاب، على أن تنتهي المرحلة بانتخابات رئاسية "من دون فيتو على أي شخص".
خامساً: لا توفر الصيغة الروسية أي انتقال للسلطة، أو وقف إطلاق النار أو تأمين عودة عشرة ملايين نازح، أو الافراج عن مئات آلاف المعتقلين.
سادساً: في اليوم الذي نشرت فيه وسائل الإعلام الملامح الرئيسية للصيغة الروسية، فقد تم، الأربعاء 31 ديسمبر/كانون الأول 2014، نشر إعلان (تصريح) للخارجية الروسية، يفيد بأن توسيع نطاق العقوبات الأميركية على موسكو الذي تقرر، الأسبوع الجاري، يمكن أن يعرقل التعاون الثنائي في قضايا، مثل الأزمة السورية والبرنامج النووي الإيراني. وفي واقع الأمر، إن عقد مؤتمر موسكو، بالطريقة التي تتم بها الاستعدادات لعقده، بحد ذاته عرقلة للتعاون الثنائي مع واشنطن، ومع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة السورية.
سابعاً: تم الربط بين الملف النووي الإيراني والعقوبات على روسيا والوضع في سورية في حزمة واحدة. وهكذا، فعلى الأطراف الدولية الخمسة أن تتفاوض مع موسكو إضافة إلى طهران، بشأن الملف النووي للأخيرة. وكذلك على أصدقاء سورية في كل مكان في العالم أن يتفاوضوا مع موسكو بشأن مستقبل سورية والسوريين. التذكير بحق الشعوب، ومنها الشعب السوري، بتقرير مصيرها، أو الالتزام بالمعايير الدولية، بما يخص الملفات النووية، أو الاحتكام للقرارات الدولية وأحكام القانون الدولي، هي مجرد ثرثرة وكلام بلا طائل بالنسبة للخارجية الروسية، فالمصالح الروسية فوق كل اعتبار.
ثامناً: بادرت الخارجية الروسية إلى دعوة طهران لاجتماع موسكو، علماً أن أمين عام الأمم المتحدة كان قد سحب دعوته إلى طهران لحضور اجتماع جنيف 2، بسبب رفض القيادة الإيرانية الالتزام بمرجعية المؤتمر المتمثلة بجنيف 1 (الحكومة الانتقالية كاملة الصلاحيات). وما زالت طهران على رفضها هذه المرجعية. مع ذلك، لا تتردد الخارجية الروسية بدعوتها إلى المؤتمر، ما يكشف، من دون أي لبس، الهدف الحقيقي لمؤتمر موسكو، وهو الالتفاف على هذه المرجعية والقفز عنها، خدمة للنظام القائم في دمشق ولدواعي استمراره، وليس من أجل تنظيم حوار سوري سوري، كما يزعمون.
تاسعاً: ثمة نقطة أخيرة، جرى تلويح موسكو بها، فمع استشعار الدبلوماسية الروسية أن مؤتمرها قد بات، وقبل أن يعقد، مكشوف الأهداف، وهي أهداف لا تمت بأدنى صلة لمصالح الشعب السوري، وحقوقه بالحرية والكرامة، فقد خرجت تصريحات من موسكو تفيد بأن انعقاد مؤتمر موسكو قد يسهل استئناف مؤتمر جنيف، وعقد جنيف 3. وللمرء أن يصدّق ذلك، ويأخذه على محمل الجد. فمؤتمر موسكو يهدف إلى تغيير مرجعية جنيف، واستبدال هدف حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات بما يسمى إنشاء هيئة تأسيسية، هي، في الأغلب، هيئة استشارية شبه تشريعية، لا سلطة لها على الأرض، وتتعرض لكل أنواع الضغوط المباشرة وغير المباشرة التي يتعرض لها عموم الشعب من نظامه.
هكذا، اذن، وبعد تغيير المرجعية (أو السقف)، ومع نزع الصفة التمثيلية عن الائتلاف، ممثلاً شرعياً للشعب السوري، فإن الطريق تصبح ممهدة إلى جنيف 3، لا صلة له بجنيف 1 و2. بذلك، يضمن سيرغي لافروف، ناظر الخارجية الروسية، حرمان الشعب السوري من أية نقطة ضوء في نهاية النفق الطويل المظلم.
الأرقام ليست لغة كافية لمن لديه شكوك بوجود خطة سياسية لتصفية الوجود الفلسطيني في سوريا، ثمة وقائع وحيثيات لم تظهر نتائجها الكلية بعد، ويتعذر إحصاؤها في بيانات وتقارير صحافية وإعلامية، لكنها تفيض بكل ما يسوغ القول، إن حصاد الفلسطينيين من حرب النظام غير الممانع والمُمعن في إبادة شعبه، هو تهجير أكثر ما يمكن من أسرهم وعوائلهم وتجمعاتهم، بالقدر الذي يقوض أي إمكانية لبقائهم عقبة كأداء في وجه الحلول والتسويات المرسومة لفلسطين وجوارها.
لم يكن تدمير مخيمات اللاجئين وحصارها وتجويع مخيم اليرموك، الأكبر بينها، إلا وصولاً لهدف أساسي، يتمثل في إزاحتهم إلى أقصى بقاع الأرض، كي تستريح المخيلة الإسرائيلية، من خطر هذه الكتلة المتمترسة خلف حقها بالعودة، ومن ذاكرتها المزمنة بالشهادات الحية الموروثة جيلاً بعد جيل. وما كان محضُ صدفة، أن يتولى نظام الأسد ترتيب مسرح العمليات كي تمحو النكبة الثانية على يديه كافة شواهد وآثار النكبة الأولى، وهو ما يحدث فعلياً في متواليات الاستهداف اليومي المدروس، لمن تبقى من اللاجئين الفلسطينيين داخل مخيماتهم، وبخطوات مكثفة يُراد منها إغلاق كل أفق ممكن أمام هؤلاء ودفعهم قسراً للهجرة، طالما أن زمن الاستبداد الأسدي وسياسات التطفيش العروبي، يتكاتفان كي يؤديا المهمة بكل عسف وفجور.
تتضاءل ثقة الجماعة البشرية بقدرة المكان على تأمين شروط البقاء، حين تستحوذ فكرة الهلاك على حياة أفرادها، وفي مثل تحديات كالتي واجهت الفلسطينيين في سوريا، تزاحمت مسببات الهلاك، والأعتى من ذلك أنهم خلال مجريات الكارثة السورية، استفاقوا على انكشافات صارخة، من بؤس الهوية المُستضعفة، وخواء الوطنية الفلسطينية في حقبة الابتذال والعهر السياسي، إلى ما يفعله التنكر والخذلان من نكوص الفكرة والقضية. هنا انصهر الشقاء الفلسطيني بالعذاب السوري، على وقع الفواجع والمصائب التي لم تميز بينهما، بقدر ما أكدت خصوصية اللجوء الفلسطيني، تجليات اليُتم السوري بأقسى صوره المأساوية.
لم تحجُبْ هذه العلاقة المضمخة بالدم بين ضحايا التنكيل الأسدي – السؤال الفلسطيني الخاص- حول جدوى اللجوء وجحيم العيش تحت كنفه، بعد أن أحالته النكبة الثانية إلى شهادات نعي على جدران المخيمات المدمرة… لا جواب يهدئ من هواجس المنكوبين، سوى توغل آلة الإجرام في استباحة واغتيال كل ممكنات البقاء، والعقاب الفاشي لمن يعاند قدر السفاح.
هكذا اكتملت الرسالة البليغة، بدون ضجيج التصريحات العلنية، وفحواها تصفية الوجود الفلسطيني في سوريا، وحث الخطى لإنهاء المهمة قبل أي حل سياسي يحدد مصير البلد، وهو ما انجلى في وقائع متتالية، منها تصعيد النظام في الآونة الأخيرة ضد المحاصرين في مخيم اليرموك، ووضعهم في دوامة جحيم يومئ بتنوع بين الحصار والتجويع والاغتيال والقصف بمختلف أشكاله، وتصميمه على منع عودة نازحي مخيمي الحسينية والسبينة إلى ما تبقى من بيوتهم، بعد أن استعاد النظام سيطرته عليهما منذ أشهر طويلة، مصحوباً ذلك بتدمير براميله المتفجرة لمخيم حندرات الفارغ من سكانه منذ عامين، وتحويل مخيم درعا إلى بقايا أطلال وسواتر علّها تقي الصامدين فيه من مسلسل القنص اليومي. علاوةً على ذلك لجأ النظام إلى أساليب متعددة تصب في الاتجاه ذاته، كإغماض عينيه عن رحلات تهريب اللاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي التركية، وبث إشاعات بداعي التخويف، تعتبر كل فلسطيني غادر البلد بحكم المطلوب للجهات الأمنية، كي لا يفكر أحد بالعودة إلى زنازين الموت، بالتزامن مع ارتفاع حالات تصفية المعتقلين الفلسطينيين في أقبية النظام خلال الأشهر الأخيرة، بل أن نظام المتاجرة، لم يتوانَ حتى عن منع الفلسطينيين من إبرامهم لعقود إيجار في عدة أحياء دمشقية يسيطر عليها أمنياً ما يُعرف (بفرع الأربعين). في ضوء ذلك وغيره، لعلَ البعض لا يجد مبرراً لتخصيص النظام استهداف الفلسطينيين، طالما أنه لا يميز في أشكال ونوعية الاستهداف بين السوريين والفلسطينيين على حدٍ سواء. بيدَ أن التناظر في مقاربة المأساة لا يكفي، طالما أن النظام يسعى لما هو أشد من التنكيل الثأري بالفلسطينيين بسبب انحيازهم للشعب السوري المظلوم، عبر توظيفه نكبتهم الثانية في سياق التصفية السياسية، ودفعهم إلى تهجير جماعي يؤدي إلى تغيير في هويتهم السياسية والقانونية، كي يتحولوا من صفة لاجئين، إلى أشتات مهاجرين في دول تضعهم تحت خانة «بلا وطن» توطئةً لإدماجهم في مجتمعاتها. بدلالة سيناريو حاشد بتفاصيل الهروب عبر مسالك خطرة ومميتة، يتوج سردية اللجوء الفلسطيني كفضيحة صارخة، في ظل صمت وتواطئ لا سابق لهما.
مفارقات مصيرية تدعونا اليوم لاستحضار أزمنة الأجيال الفلسطينية، التي واجهت النكبة الأولى، وتناوبت طيلة محطاتها المريرة، على التشبث بالحياة والتمسك بحلم العودة، في مخيمات أوقدوا فيها قناديل الثورة، وقدموا أغلى ما لديهم كي لا تخبو شعلة الأمل. فيما تواصل نكبتهم الثانية تخليع ما زرعته تلك الأزمنة والمحطات، من ثوابت ويقينيات، ومن حيوات لم تعد تحتمل مزيداً من الصفع والخيانات وخيبات الأمل، ولا يجد فلسطينيو سوريا اليوم من خيار يُوقف مسلسل تهجيرهم الأخير، سوى استعجال الخلاص السوري قبل أن يُفرّغ سيناريو التصفية، من تبقى منهم داخل أسوار القهر.
ومن نكد الدنيا على السوريين أن روسيا التي دعمت النظام السوري بكل أنواع السلاح والمال كي يقتل الشعب، ويشرده، ويدمر البلاد، ويقمع الثورة ليبقى حاكماً ولو على حطام الوطن، هي من تتنطع الآن لإيجاد حل للأزمة السورية. إنه العهر السياسي في أحقر أشكاله. لم ينس السوريون، ولن ينسوا السفير الروسي في مجلس الأمن الدولي وهو يستخدم الفيتو المرة تلو الأخرى ضد أي تحرك دولي لوضع حد للمأساة السورية. لن ينسوا ذلك الفيتو الذي، وإن كان بالتواطؤ مع أمريكا، إلا أنه كان دائماً يحقن النظام المتهالك بجرعة جديدة من الوحشية ليستمر في صلفه وعناده وهمجيته التي أدت إلى تهجير أكثر من نصف الشعب السوري وتدمير وطن كان اسمه سوريا بدعم روسي لا تخطئه عين. لن ينسى السوريون أن روسيا، وعندما وجدت أن النظام قد يتضرر من عقاب دولي بعد استخدامه الفاشي للسلاح الكيماوي، عملت كل ما بوسعها لتسليم السلاح الاستراتيجي السوري لأمريكا لتنقذ رقبة الأسد، وتعطيه مزيداً من الوقت كي يمعن في تدمير سوريا وتشريد شعبها.
والآن وبعد أن وجدت روسيا أن خطتها لفرض النظام على السوريين بالقوة الغاشمة قد فشلت، راحت تحاول إيجاد حل لا يحقق مطالب الشعب السوري، بقدر ما يحاول الحفاظ على ما تبقى من النظام، بعد أن وجدت أن جيش الأسد قد تلاشى، وأن وضعها الاقتصادي والسياسي في العالم لم يعد يساعدها كثيراً في الحفاظ على آخر مستعمرة لها في الشرق الأوسط.
لا أحد يمكن أن يعارض حلاً مقبولاً للكارثة السورية، لكن لا يمكن لسوري يمتلك قليلاً من العقل أن يثق بالنوايا الروسية الجديدة لحل الأزمة، لأن موسكو تعلم علم اليقين أن ذهاب بشار الأسد سيجعلها تفقد أغلى ما تملك في المنطقة، خاصة وأنه منحها عقود نهب الثروات السورية من غاز ونفط لربع عقد قادم مقابل دعمه بالحديد والنار كي يبقى في الحكم حتى لو خلت سوريا من شعبها، ولم يبق فيها سوى النظام وعصابته. وبالمناسبة كل عمليات تدمير المدن في سوريا كانت على الطريقة الشيشانية. فلو قارنا عملية تدمير مدينة حمص لوجدناها نسخة طبق الأصل عن الطريقة التي استخدمها الرئيس الروسي بوتين لتدمير عاصمة الشيشان غروزني. ومن يضع الخطط التدميرية لنظام الأسد لا يمكن أن تتوقع منه حلاً يرضي السوريين. واللعبة الروسية الجديدة لا تحاول وضع حد للمحنة السورية بقدر ما تحاول أن تضحك على بعض المعارصين السوريين، وتغريهم ببعض المكاسب الحقيرة كي تمعن في إجهاض الثورة، وكي تستعدي العالم على كل من يحاول لاحقاً معارضة النظام، ولو بالكلام. وإذا أردنا أن نلخص الطريقة التي تتعامل من خلالها روسيا مع المعارضة السورية المزعومة، يمكن أن نسردها في النكتة التالية:
يُحكى أن شخصاً التقى بفتاة في الشارع، فأعجب بها، ثم سألها إذا كان ممكناً أن يواعدها، فغضبت الفتاة غضباً شديداً، وبصقت عليه، لكنه سرعان ما عرض عليها ألف دولار كمقدمة، فرفضت رفضاً قاطعاً، ثم عرض عليها خمسة آلاف دولار، فأيضاً رفضت، ثم عرض عشرة آلاف دولار، فرفضت، فقال لها: «ما رأيك بخمسين ألف دولار»، فصمتت الفتاة قليلاً، ثم قالت: «لا بأس». عندها قال لها الشاب: «حسناً، فلنجلس ونتفاوض»، فجلست الفتاة، فقال لها الشاب: «عليك أن تعترفي الآن أولاً أنك قابلة للبيع والشراء، كي لا نقول شيئاً آخر. وبالتالي سأتعامل معك على هذا الأساس. إنسي السعر الأخير، وتعالي نحكي بزنس بشكل واقعي». وهكذا يتعامل الروس ويضحكون على بعض المعارضات السورية. وعدوا بعض المعارضين وعوداً كبيرة كالتخلي عن الأسد وغير ذلك، وعندما وافق بعض المعارضين على التفاوض، قال لهم الروس ما قاله الشاب لتلك الفتاة في الشارع: يعني بما أنكم قابلون بالتفاوض: تعالوا نتفق على السعر، وانسوا الوعود الكبيرة. التي أغريناكم بها كي تقعوا في شباكنا.
هذه هي قصة الوساطة الروسية لحل الأزمة السورية. يريدون الضحك على بعض المعارضين وتصويرهم على أنهم يمثلون الشعب السوري، بينما هم لا يمثلون سوى أنفسهم، ولا يمونون على أحد على الأرض، وقوتهم عسكرياً تكاد تكون صفراً. ثم تذهب روسيا إلى الأمم المتحدة لتقول للعالم: لقد وافقت المعارضة السورية على الحل، وبالتالي فإن كل من يعارض النظام، أو يتصدى له على الأرض من الآن فصاعداً هو إرهابي خارج عن طاعة الموالاة والمعارضة، ولا بد من تجريمه وتجريم كل من يدعمه بقرارات دولية تحت البند السابع.
إن الوساطة الروسية بين النظام السوري والمعارضين السوريين تشبه تماماً الوساطة الأمريكية بين إسرائيل والفلسطينيين. هل كانت أمريكا في يوم من الأيام نزيهة في وساطتها بين ربيبتها إسرائيل والفلسطينيين؟ بالطبع لا، فهي الخصم والحكم بالنسبة للفلسطينيين. وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا والنظام، فالعلاقة بين موسكو والأسد كالعلاقة العضوية بين إسرائيل وأمريكا. وبالتالي على السوريين أن يسألوا أنفسهم: ماذا جنى الفلسطينيون من وراء قبولهم بالوساطة الأمريكية بينهم وبين إسرائيل على مدى عقود؟ لا شيء غير الضحك على الذقون. وكذلك السوريون، فإنهم إذا وثقوا بالوساطة الروسية بينهم وبين النظام السوري، فلن يحصدوا سوى الخيبة التي حصدها الفلسطينيون من أمريكا.
ما من حدث يمكنه أن يفوق في أهميته على إعلان دولة الخلافة، في حزيران 2014، إذا فكرنا بجردة لأحداث العام الذي نودعه. ليس بالنسبة إلى منطقتنا المضطربة فقط، بل على مستوى العالم. ولا تقتصر عالمية تداعيات ظهور هذه «الدولة الإسلامية» على قيام تحالف دولي ضم أكثر من ستين دولة بقيادة الولايات المتحدة لمحاربتها بهدف تحجيمها والقضاء عليها، بل تتجاوز ذلك إلى مصير خرائط راسخة أخذت تتداعى، ومجتمعات أخذت تتفكك، وأفكار وقيم وبداهات سقطت في اختبارات الواقع.
على المستوى السوري، كاد ظهور داعش واستيلاؤه على مساحات واسعة، في الشمال والشمال الشرقي، أن يقضي على آخر آثار ثورة الحرية والكرامة التي اندلعت في وجه نظام دمشق الكيماوي ربيع العام 2011، لولا الحرب المستمرة على المدنيين التي يشنها النظام المذكور بثبات ومبدئية، فتذكرنا بأصل المشكلة في سوريا.
وأدى التنافس على الشرعية الإسلامية بين تنظيم داعش والمنظمات الجهادية الأخرى، وأبرزها جبهة النصرة – الفرع السوري لمنظمة القاعدة، إلى تمدد الأخيرة في بعض المناطق على حساب بقايا الفصائل المسلحة المحسوبة على الجيش الحر، كما إلى تطبيقها لرؤيتها للشريعة الإسلامية على السكان في تلك المناطق، أسوةً بداعش، بعدما كانت تتجنب ذلك مرحلياً.
ودخلت فصائل الجيش الحر في مأزق خوض الحرب على جبهتين معاً ضد عدوين قويين هما النظام من جهة، وداعش وأخواتها من جهة ثانية في الشمال، وضد النظام وجبهة النصرة في الجنوب. الأمر الذي أضعفها وقلص إلى حد كبير المساحات التي تسيطر عليها.
وعلى مستوى الدول المتدخلة في الحرب السورية، تضاربت الأولويات وتغيرت التحالفات. قبل كل شيء حل التحالف الدولي ضد «الدولة الإسلامية» عملياً محل مجموعة «أصدقاء الشعب السوري» فسقط هدف إسقاط النظام السوري، في أجنداتها، ليحل محله هدف القضاء على داعش أولاً بعد «تحجيمه» الذي قد يستمر سنوات وعقوداً وفقاً للرؤية الأمريكية القائدة للتحالف. وتم احتواء الخلاف القطري – السعودي لمصلحة المنظور السعودي الغالب في المجموعة الخليجية التي ترى في الإسلام السياسي الخطر الأكبر على أمنها القومي. فيما بقيت تركيا أردوغان تغرد وحدها خارج سرب التحالف الدولي، وتقاوم ضغوط حليفها الأمريكي.
وفي العراق، أدى اجتياح قوات داعش السريع للموصل وإعلان دولته الإسلامية إلى إسقاط حكومة المالكي وقيام تحالف جديد بين بغداد وأربيل، بعدما كان بارزاني مضى بعيداً في طريق الاستقلال بإقليم كردستان عن السلطة المركزية. ومن جهة أخرى، ابتعدت قيادة الإقليم عن أنقرة بمقدار اقترابها من طهران، لينعكس ذلك بصورة مباشرة في الاتفاق النفطي بين بغداد وأربيل، إضافةً إلى التعاون الحربي بينهما ضد «الدولة الإسلامية».
لكن تداعي أحلام الاستقلال عن بغداد لدى بارزاني، قابله صعود لافت لحزب العمال الكردستاني من خلال فرعه السوري (PYD) بمناسبة معركة كوباني التي لم تنته بعد. فقد شكل تقاطع الأجندات بين هذا الفصيل الكردي والولايات المتحدة إزاء خطر مشترك هو «داعش» فرصةً للتيار العام لحزب العمال الكردستاني العابر لحدود الدول القائمة ليكون في صف الأقوياء. وهناك دول غربية أخذت تطرح بجدية رفع اسم الحزب الكردستاني من قوائم المنظمات الإرهابية.
وهكذا تدفقت مساعدات الدول الغربية من السلاح والعتاد، بسبب داعش، على كل من إقليم كردستان وكوباني معاً. كما أن التنافس التقليدي بين التيارين البارزاني والأوجلاني تراجع لمصلحة التعاون بينهما، سواء في معركة شنكال العراق أو معركة كوباني سوريا. وكان ذا قيمة رمزية كبيرة وصول تعزيزات من بيشمركة بارزاني إلى كوباني لمؤازرة قوات «الحماية الشعبية» ذات المرجعية الأوجلانية، عبر الأراضي التركية. وقد تم هذا العبور على رغم القيادة التركية التي كانت تتمنى سقوط كوباني بيد داعش، لا حباً بهذا التنظيم الإرهابي، بل لأن من شأن نتيجة مماثلة أن تضعف حزب العمال الكردستاني الذي تخوض حكومة العدالة والتنمية معه «معركة» السلام.
بعيداً عن هذه التداعيات السياسية الكبيرة لإعلان دولة الخلافة، أدى سلوك هذه وطريقة تعاطيها مع السكان حيثما حكمتهم، إلى انطلاق نقاش اجتماعي واسع حول الإسلام ودوره في دنيا الناس. نقاش لا يشبه الجدل العقيم السابق بين العلمانية والإسلام والصراع الوجودي بين أنصارهما الإيديولوجيين. فللمرة الأولى، في العصر الحديث، يخوض دين الإسلام اختباراً عملياً بهذه الجدية ويلاقي ردود فعل اجتماعية قوية وواسعة النطاق من داخل الاجتماع الإسلامي، وليس من خارجه كما حدث بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001. من المحتمل أن يشكل هذا الاختبار منطلقاً لإعادة نظر جذرية في المفاهيم السائدة لدى التيارات الإسلامية وعنها.
الحدث الكبير الثاني، في العام الذي نودعه، هو التدهور الدراماتيكي في أسعار النفط الذي يتوقع له الخبراء أن يستمر لفترة طويلة. من المحتمل أن كلاً من إيران وروسيا سيزداد وضعهما الاقتصادي والسياسي ضعفاً وهشاشةً في العام الجديد. إيران في مفاوضاتها النووية مع الستة الكبار، وفي صراعها الإقليمي مع جوارها العربي (العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين). وروسيا في نزاعها مع الغرب حول المشكلة الأوكرانية.
تشهد الحالة السورية حراكا محموما بين أطراف المعارضة، على محوريْ موسكو والقاهرة، منذ الزيارة التي قام بها ميخائيل بوغدانوف إلى المنطقة، تقاطعاً مع تسويق خطة ستافان دي ميستورا لتجميد القتال في حلب. يترافق ذلك مع حوارات داخلية تكاد تصل إلى ذروتها، بين مجموعات وتيارات الحراك السياسي وتنظيماته، يشير إلى إمكانية بلورة أفكار مشتركة، حول مختلف المسائل، وبصورة خاصة الخلافية منها، بشأن الثورة السورية، والتفاوض مع النظام السوري، وقد بدأت تتسرب بعضاً من مشاريع التوافق، إلى الإعلام، ما يدعم القول أن الجميع – بدرجة ما – سيذهبون إلى موسكو، مثنّى وفرادى، اليوم أو غداً.
تشير المشاورات الجارية اليوم إلى مسألتين، هما مبلغ القلق الذي تعيشه المعارضة السورية، نتيجة للعطالة التي وصلت إليها جميع الأطراف، وكذلك انسداد الأفق في ما يتصل بالحالة السورية، في ضوء التطورات الدولية والإقليمية التي جعلت من الأزمة السورية، في دائرة الأوراق الضاغطة في تسويات المصالح. يضاف إلى ذلك سبب رئيس يتمحور حول فاعلية ومكانة الأطراف الداعمة للنظام، إثر الانهيار الحاد في أسواق النفط، وبالتالي الوصول إلى عتبة أزمة اقتصادية لدى روسيا الاتحادية بشكل خاص.
يمكن النظر إلى ما يجري على أنه حراك من أجل الحوار الداخلي، وهو أمر لطالما أجهضته عوامل ذاتية وخارجية، فظلت المعارضة السورية تفتقده، وتسعى إليه، لكن الخلافات المتصلة برؤية كل طرف إلى المسار الثوري، كانت تحيل إلى عدم اتفاق مبيت فيما بينها. لا تشكل قضية تفهم الآخر والاعتراف به إشكاليته الأساسية، ولكن جميع الأطراف تنطلق من مبادئ مسبقة لنتائج الحوار التي تريد الوصول إليها، دون الذهاب إلى منتصف الطريق، والاجتماع على المشترك فيما بينها.
ظل النظام السوري، طوال السنوات الأربع، رافضا لمبدأ الحوار مع المعارضة المسماة خارجية، فيما يشدد على الحوار مع معارضة الداخل، ونجح النظام في بناء جدار بينهما، ما كان ليستطيع ذلك لولا قابلية الإقصاء التي تمتعت بها أطراف المعارضة جميعها، وسعيها لتصدر المشهد الثوري على حساب النهوض بالانتفاضة الشعبية وتصويب مساراتها باتجاه الأهداف الأساسية، المتمثلة في إسقاط الديكتاتورية في سوريا. وقد لعبت القوى الإقليمية والدولية دوراً فعالاً في تكريس الانقسامات داخل المعارضة التي انساقت وراء إملاءات الخارج في شأن العلاقة بين تياراتها الأساسية.
وتمكنت روسيا مؤخرا من الدخول على خط المعارضة، سعيا وراء تنظيم خلخلة الائتلاف الوطني، الذي مني بفشل جديد لإعادة توحيد صفوفه في اجتماعات دورته الأخيرة. وتعمل موسكو مع حلفائها في دمشق، في ظل صمت أوروبي ومراقبة أميركية، على إذابة الجليد بين أهم مكونين في المعارضة، هما الائتلاف وهيئة التنسيق، لاستيعابهما وإعادة إنتاج رؤية مشتركة بينهما، بشأن إطلاق عملية تفاوضية جديدة يقبل النظام التعاطي معها، وتأخذ فيها هيئة التنسيق والمستقلون داخل الائتلاف، دورا محوريا في ذلك، مستفيدين في ذلك من الضعف والهشاشة، وافتقاد الشخصيات القيادية الموثوق فيها داخل قوى المعارضة، وتراجع الدعم السياسي والمالي والعسكري لها في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ جدا.
نقطة الخلاف، تكمن في النظرة إلى دور ومصير بشار الأسد. ففي الوقت الذي تتفق فيه جميع الأطراف على مرجعية جنيف 1 لأي تفاوض أو تسوية، فإن تفسير بنوده لا تزال عرضة لأهواء التيارات والقوى في المعارضة تحديدا. حيث يقترب فهم تيار بناء الدولة وهيئة التنسيق وجبهة التغيير مع تفسير النظام: الأسد خط أحمر. فيما تشدد قوى الائتلاف على رحيل النظام بكل رموزه وفي المقدمة بشار الأسد، شرطا للانخراط في أي تسوية، وهو موقف المجموعات المسلحة، والقوى العاملة على الأرض في الداخل السوري.
والواقع أن مواقف القوى الإقليمية والدولية، توضح بجلاء لا لبس فيه اليوم، أنها ميّالة لإعادة تأهيل النظام، في ظل انخراط المجتمع الدولي في محاربة الإرهاب، الذي جعلت منه أولوية، على إسقاط الأسد الذي لم يكن – في الحقيقة – سوى في أجندة وذهن جزء من المعارضة السورية.
رؤية المجتمع الدولي تتوافق مع الرؤية الروسية – الإيرانية، وبالطبع نظام الأسد، وقد أشير إلى ذلك في قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وفي مواقف الدول المعلنة في افتتاح جنيف 2، وقبل ذلك جهود المبعوثين الأممين، وهي تقوم على ثلاثة بنود أساسية، ليس فيها إزاحة لأي طرف على الإطلاق، وهي:
- حوار وطني بمشاركة جميع الأطراف دون استثناء.
- تشكيل حكومة انتقالية أو حكومة وطنية.
- إجراء تعديلات دستورية وانتخابات تشريعية تفضي إلى دولة جديدة.
بموجب ما يتم تداوله اليوم من تفاهمات في صفوف المعارضة سواء بين المؤسسات: الائتلاف وهيئة التنسيق، أو بين المكونات: اتحاد الديمقراطيين وهيئة التنسيق وغيرها من حوارات سوف تكلل لاحقاً بلقاء القاهرة التشاوري، الذي من شأنه أن يضع النقاط على الحروف، خاصة بعد بروز تطورين لافتين، الأول ذهاب هيئة التنسيق إلى فكرة حكومة تقودها المعارضة بصلاحيات كاملة، مع بقاء الأسد لفترة انتقالية دون صلاحيات، والثاني إقرار الائتلاف الوطني بضرورة التفاوض مع النظام، وصولاً إلى وقف المجازر والانخراط في التسوية السياسية برعاية دولية، بموافقة ضمنية على إبقاء الأسد في الفترة الانتقالية.
ما يجري اليوم بين أطراف المعارضة، هو حوار من أجل الخروج من عنق الزجاجة لكن محور الأسد – موسكو- إيران، يعمل بجدية على احتواء المعارضة، وأن يسوقها بفعل معطيات الواقع وتجذير تفسخها، إلى التفاوض، على الرغم من هشاشة النظام التامة.
لكن ذلك مرهون بما ستتمخض عنه مناقشات الهيئتين السياسية والعامة للائتلاف، التي لا تقبل أي مبادرة لا تنص صراحة على رحيل نظام الأسد وتفكيك أجهزته الأمنية، وهو نفس الموقف الذي ستواجهه أي مبادرة، من القوى المسلحة في الداخل، خاصة في غياب مظلة حقيقية مرجعية تلتزم بها قوى المعارضة، التي تفتقد قرارها الوطني، شأنها في ذلك النظام الذي يواصل القتل، وهو منقادٌ بكليته لموسكو وطهران.
بدأ الشهر الأول من عام النظام السوري، 2014، بواقعة وحدث؛ كلاهما على صلة مباشرة بالموقف الصهيوني، القياسي، وكذلك الموقف الإسرائيلي، الحكومي، من آل الأسد. أما الواقعة فهي مقالة كتبها الأمريكي الصهيوني دانييل بايبس، الذي قد يكون الناطق الأبلغ بتفاصيل الوئام بين «الحركة التصحيحة»، أي الأسد الأب والابن معاً، من جهة؛ وإسرائيل، مؤسسات وشخصيات وقوى، داخل الكيان وخارجه، من جهة ثانية. كذلك يظلّ بايبس في عداد قلّة من المعلّقين الصهاينة يعلنون (على خلاف كثرة تشترك بالقناعة ذاتها، ولكن تبقيها طيّ الكتمان) تفضيل بقاء الأسد في السلطة (بوصفه «الشيطان الذي نعرف»)، لأنّ أيّ بديل آخر لن يكون في صالح إسرائيل، إذا لم يشكّل خطراً عليها.
مقالته تلك بدأت باعتراف شخصي يتقنع تحت ستار النقد الذاتي الخفيف: عنوان «ساندوا الأسد»، الذي حملته مقالة نيسان، 2013، كان «غير دقيق بعض الشيء، وتوجّب أن يكون: ساندوا أيّ طرف يخسر في الحرب الأهلية السورية»؛ كتب بايبس. ولكي يشرح ما آلت إليه تأملاته حول كيفية ترجمة هذا المطلب، تابع يقول: «يشقّ عليّ هذا، ولكني أصادق على دعم الجبهة الإسلامية. هنا أيضاً، ليس لكي تفوز، بل لكي تخوض يوماً إضافياً في المعركة ضدّ النظام الأسدي البغيض، ومناصريه الإيرانيين وحزب الله». لافت، إلى هذا، أنّ المقالة نُشرت قبل بدء الصدامات العسكرية المباشرة بين «داعش» والكتائب الإسلامية الأخرى، في ريف حلب والشمال عموماً؛ الأمر الذي ساق بايبس إلى تبيان «المنطق» وراء أحدث تطورات تفكيره: 1) «ليس علينا أن ندعم أيّ طرف على أمل انه سيفوز، بل فقط لكي يمنع الطرف الثاني من الفوز»؛ و2) لأنّ «مساعدة الجهاديين السنّة في سوريا ضدّ النظام يخدم التوازن»، في ملفّ البرنامج النووي الإيراني.
في نيسان (أبريل) 2013، خلال حوار على واحدة من اشهر أقنية التلفزة الأمريكية، لم يجد بايبس أيّ حرج في مطالبة الغرب بضرورة التدخل عسكرياً لصالح الأسد: «موقفي ليس نابعاً من أي تعاطف مع نظام الأسد أو إعجاب به، فهو نظام فظيع جدير بالازدراء. ولكني إذْ أنظر إلى الموقف ككلّ، نظام الأسد البغيض، والمتمردين الذين يزدادون فظاعة، أعتقد أنّ الأفضل لنا هو أن يواصلوا الاقتتال فيما بينهم. لا أريد منتصراً في هذه المعركة يتولى قيادة سورية، ويصبح جاهزاً لقتال جيرانها. ونحن في حال ستراتيجية افضل إذا ركّزوا على بعضهم البعض، وهذه نقطة ستراتيجية وليست إنسانية».
هي كذلك، بالتأكيد، ستراتيجية وليست إنسانية؛ ولكنها، أيضاً، تكتيكية على الأمدية القريبة، بل القصيرة الوشيكة، لأنّ حكمة التفكير هذه تُختصر في الفرضيات التبسيطية التالية: الأسد دكتاتور وفاسد وقاتل أطفال، ولا خلاف على هذا؛ وهو ليس حليف إيران بقدر ما أصبح تابعاً لها ورهينة، بدليل قتال «حزب الله» إلى جانبه… ولكن، ما هَمّ الغرب في هذا كله، ما دام النظام قدّم، وقد يقدّم في أية لحظة، خدمات مباشرة لمصالح الغرب في المنطقة؟ وما هَمّ، إذا كان جيشه لم يطلق طلقة واحدة في الجولان منذ 1973، وصواريخه تسقط على حلب دون أن يكون صاروخ واحد منها قد اخترق أجواء إسرائيل؟ وما هَمّ، إذا كان لا «يمانع» و»يقاوم» إلا على مستوى اللفظ فقط؟
وأمّا الحدث، بعد الواقعة، فقد كان إعلان وفاة أرييل شارون؛ حين صارت متاحة، أكثر من ذي قبل، فرصة إماطة اللثام عن حقائق الدعم الهائل، وغير العادي في الواقع، الذي حظي به نظام «الحركة التصحيحية» من جانب شارون، شخصياً. وكان الأمريكي دانييل فريدمان ـ المحرر البارز في مجلة «فوربز»، لسان حال شرائح نخبوية من رجال المال والأعمال، وراعية التنظير الدائب للأمن الاقتصادي والاستثماري الخاصّ بالشركات الكونية العملاقة ـ في طليعة القلائل الذين تولوا كشف حقائق الدعم الشاروني لآل الأسد. لم تكن مصادفة محضة، في المقابل، أنّ فريدمان كان من طينة بايبس: أحد أبرز المطالبين، علناً، بالإبقاء على نظام آل الأسد في سوريا، بوصفه نظام «الشيطان الذي نعرفه»، أفضل من أيّ «شيطان قادم» لا نعرفه.
كتب فريدمان: «بسبب الخوف من سيطرة الإخوان المسلمين قام رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون بتحذير الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، في سنة 2005، من مغبة إسقاط الأسد. حجته كانت التالية: الشيطان الذي تعرفه خير لك. وذلك بالرغم من تحالفه مع إيران وحزب الله». ولكي يوضح الحجة أكثر، من جانبه هو هذه المرّة، أضاف فريدمان: «كذلك رفعت من رصيد الأسد عند الإسرائيليين أنّ سوريا ضبطت حدودها مع إسرائيل بشكل صارم جداً. والاستثناء الوحيد كان في أيار (مايو) [2011]، حين سُمح لبعض المقاتلين الفلسطينيين بمهاجمة الجانب الإسرائيلي من الحدود ـ على سبيل التذكير بما ينطوي عليه الأمر من رهانات».
ومن موقعه كرئيس وزراء، وكذلك بصفته السياسية كزعيم لحزب «كاديما»، طالب شارون بعدم تشديد الضغوط الأمريكية (ومثلها الفرنسية، أيام الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك) بحيث تهدّد بانهيار النظام. ولتذهبْ إلى الجحيم، طبقاً لمنظومة تفكير شارون، أوهام «شرق أوسط جديد» ديمقراطي، يبدّل سوريا إلى أية حال، حتى الديمقراطية منها، ويمكن أن يُلحق الأذى بإسرائيل. وما نفع سوريا جديدة، تقوم على أنقاض القديمة، إذا كانت ستعيد فتح ملفات الجولان المحتلّ، أو تنشّط الجبهة السورية، شعباً وجيشاً ودولة ومؤسسات، بما يكفل استيلاد أخطار جدّية غير مسبوقة على أمن إسرائيل؟ الدلائل كانت تشير إلى تجسّد مواقف شارون، هذه، في مواقف خلفه بنيامين نتنياهو، ومعه غالبية ساحقة من ساسة إسرائيل وجنرالاتها.
والحال أنّ شارون، لو استطاع إبصار المشهد السوري من داخل غيبوبته، طيلة أشهر الانتفاضة الشعبية السورية، كان سيقرّ عيناً إزاء ثمار خياراته في مساندة آل الأسد: أسلحة الجيش السوري كافة، المدفعية والصاروخية، والدبابة مثل المروحية والقاذفة، وصواريخ «سكود» مثل الأسلحة الكيمياوية… استُخدمت ضدّ قرى وبلدات ومدن سورية، لا كما استُخدم 1٪ منها ضدّ إسرائيل. وهذا الجيش، الذي ظلّ المواطن السوري يقتطع من لقمته اليومية ليسلّحه طيلة عقود، استدار نحو الشعب السوري لا كما واجه أية وحدة عسكرية إسرائيلية، في أيّ يوم؛ فضلاً عن أنه فقد صفته كـ»جيش وطني»، وصار أقرب إلى ميليشيات ومرتزقة ومفارز ذات تكون طائفي رثّ وهشّ.
وخواتيم السنة، مثل بداياتها، لم تبخل في تقديم البراهين على طبائع، ومباهج، هذا الدلال الذي تنعّم به آل الأسد من جانب إسرائيل؛ ولا يغيّر من الحال، بل لعلّه يوطدها أكثر، أنّ يأتي البرهان من… إيران، دون سواها! ففي تصريح، جسور والحقّ يُقال، أعلن حسين أمير عبد اللهيان، مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون العربية والأفريقية، أنه «إذا أراد التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش تغيير النظام السوري، فإن أمن إسرائيل سينتهي»، حسب وكالة فارس الإيرانية؛ و: «إيران حذرت أمريكا وسائر الدول المتحالفة معها من أنّ السعي لإسقاط نظام بشار الأسد، خلال المواجهة القائمة مع داعش، سيعرض أمن إسرائيل للخطر».
وبهذا فإنّ العام 2015 قد يبرهن أنه الأسوأ على آل الأسد، ما خلا في ملفّ واحد: أنّ الدلال الإسرائيلي مستمرّ، دون كلل او ملل، وباستمتاع وابتهاج!
شهدت سورية في عام 2014 أحداثاً جساماً على الأصعدة السياسيّة والعسكريّة والإنسانيّة كافة، من دون أن تكسر الجمود، وتنهي الاستعصاء القائم لجهة استمرار الحرب، وعجز أيّ من طرفي الصراع عن حسم المعركة لصالحه.
بدأ هذا العام بعنوانين بارزين، مرتبطين ومتشابكين، أولهما عسكريّ، تمثل بالمواجهة الكبرى في 3 يناير/ كانون الثاني، بين فصائل المعارضة المسلحة وتنظيم الدولة الإسلامية، (داعش)، إثر تجهّز الأخير لاقتحام مدينة الأتارب ومعبر باب الهوى، شريان الإمداد الرئيس لقوات المعارضة في الشمال. ما ميّز المواجهة هو اشتراك غالبية الفصائل فيها، ونجاحها في دحر التنظيم من مناطق عدة، وعزله في جزر جغرافية غير مترابطة (الرقة وريف حلب الشرقي).
وبمقدار ما عكست هذه المواجهة رغبة الكتائب مجتمعة في دحر داعش، وإنهاء انتهاكاته، فإنها عبّرت عن رغبة وتوجه عربي وإقليمي بهزيمة التنظيم، وإنهاء أو تقليص نفوذه في سورية قبل عقد مؤتمر جنيف 2، لقطع الطريق أمام محاولات النظام وحلفائه استثمار تمدد التنظيم، لحرف المؤتمر عن هدفه الرئيس. أما العنوان الثاني فكان سياسياً بامتياز؛ إذ نجحت القوى الدولية الراعية في الضغط على طرفي الصراع، وحثهم على التفاوض المباشر لأول مرة. وعقد جنيف 2 على جولتين تفاوضيتين بين 22 يناير و14 فبراير/ شباط، من دون تحقيق أي اختراق. فشل جنيف 2 في تحقيق أهدافه إطلاق عملية سياسية بين السوريين، تفضي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، لكن الأطراف الراعية لم ترغب بإعلان فشله، لعدم وجود سياسات بديلة.
حاول النظام الاستفادة من الواقع السابق ما أمكن، لتعزيز موقعه العسكري الميداني، وتحقيق مسعاه بعزل المعارضة المسلحة في الأرياف، وإبعادها عن المدن، والمراكز الحيوية والطرق الدولية. على هذا الأساس، وحرصاً على تأمين التواصل الجغرافي بين دمشق والمنطقة الوسطى والساحل، كانت معركة يبرود ومحيطها خاتمة جولاته في القلمون. كما أطبق الحصار على الغوطة الشرقية بعد سقوط المليحة (14 أغسطس/ آب 2014).
من جهة أخرى، حقق شعار "الجوع أو الركوع"، الذي تبناه النظام في حصار مناطق حيوية تسيطر عليها المعارضة، أهدافه بإنتاج هدن ومصالحات، كما جرى في مخيم اليرموك وببيلا والحجر الأسود والمعضمية، والقدم والعسالي، وفي حمص القديمة، بعد اتفاق رعته إيران بين الجبهة الإسلامية والنظام، تمخص عنه خروج المقاتلين المحاصرين (700 يوم حصار)، بأسلحتهم الفردية، وتسليم المدينة للنظام (7 مايو/ أيار).
" كان تجحيم نفوذ داعش وعزله ضمن مدينة الرقة وريف حلب الشرقيّ أبرز إنجازات المعارضة المسلحة في النصف الأول من عام 2014. "
في ظل المعطيات السابقة، جرت الانتخابات الرئاسية (3 يونيو/ حزيران). وكمثيلاتها في النظم الاستبدادية، فاز الأسد بعد حصوله على نحو 90% من الأصوات. لم تغيّر نتائج الانتخابات في المواقف الدولية، لكنها قضت على ما تبقى من فرص للحل السياسي، ودفعت المبعوث الدولي، الأخضر الابراهيمي، إلى الاستقالة (31 مايو)، ليخلفه ستيفان دي مستورا (11 يوليو/ تموز). أما المعارضة السوريّة، فقد واجه شقها العسكري، في النصف الأول من عام 2014، سلسلة انتكاسات عسكرية، ولم تكسب إلا جولات معدودة في خان شيخون ودرعا، وفي بعض أحياء مدينة حلب الغربية. وتحول الائتلاف الوطني إلى عبء على الثورة، بسبب خلافاته المستمرة وصراعات القوى داخله، ابتداءً من قرار رئيسه السابق، أحمد الجربا، حضور جنيف 2 من دون تحقيق إجماع داخلي، ما أدى إلى انسحاب 40 عضواً، ثم عودتهم، لاحقاً، بعد تسويات انتخابية بين الجربا ومصطفى الصباغ، تمخص عنها انتخاب هادي البحرة (9 يونيو/ حزيران) رئيساً للائتلاف، وصولاً إلى حل هيئة الأركان وتعيين هيئة بديلة، وانتهاءً بأزمة الصلاحيات بين الحكومة والائتلاف، وما نتج عنها من سحب الثقة من حكومة أحمد طعمة، وإجراء انتخابات جديدة، فاز فيها طعمة نفسه (15 أكتوبر/ تشرين الأول).
كان تجحيم نفوذ داعش وعزله ضمن مدينة الرقة وريف حلب الشرقيّ، أبرز إنجازات المعارضة المسلحة في النصف الأول من عام 2014. آنذاك، رجحت مؤشرات عدة انهيار التنظيم في سورية، أو افتقاده مقومات البقاء على المدى الطويل. لكن أسباباً عدة داخلية: اختلاف حسابات الفصائل وتوجهاتها، غياب الدعم الدولي، انشغال المعارضة بقتال النظام، وخارجية: انتفاضة العشائر المسلحة في العراق، وسقوط الموصل (10 يونيو)، قلبت التوقعات رأساً على عقب. فقد وظّف داعش الزخم العسكريّ والمعنوي الذي تحصّل عليه عراقياً في معركته داخل سورية، فحاصر دير الزور وأريافها، وسيطر (15 يوليو) على معظم مساحتها، بعد طرد الفصائل المنضوية في مجلس شورى المجاهدين، وأمّن، للمرة الأولى، تواصلاً جغرافياً بين مناطق سيطرته في كل من العراق وسورية، فأزال الحدود، وأعلن الناطق باسمه، أبو محمد العدناني (29 يوليو)، عن إقامة الخلافة الإسلامية، وتعيين أبو بكر البغددي خليفة للمسلمين.
غير أن صعود تنظيم الدولة وتوسّع نفوذه، بدّل حسابات الولايات المتحدة واستراتيجيتها، واضطرّها للعودة للتدخل العسكري، بعد تشكيل تحالف ضم دولاً عربية وغربية (مؤتمر باريس) لمحاربة تنظيم الدولة وحرمانه من الملاذ الآمن في سورية. لكن غارات التحالف في سورية (بدأت في 23 سبتمبر)، لم تستهدف داعش فحسب، بل قصفت مواقع لجبهة النصرة، وحركة أحرار الشام، وجبهة أنصار الدين، ما أثار تساؤلات عدة عن خطط التحالف وأهدافه والطرف المستفيد.
وعلى الرغم من أثرها البليغ، لم تنجح غارات التحالف، وبعد ثلاثة أشهر، في الحد من توسّع تنظيم الدولة في العراق وسورية، وحقق التنظيم اختراقات مهمة أمام قوات المعارضة السورية، في ريف حلب الشمالي والغربي، وأمام ميليشيات وحدات الحماية الكردية في عين العرب (كوباني)، وأمام قوات النظام بسيطرته على الفرقة 17 (25 يوليو)، واللواء 93 في الرقة (8 أغسطس)، ومطار الطبقة (27 أغسطس)، وصولاً إلى حصاره مطار دير الزور، مطلع ديسمبر.
خلال عام 2014 وقعت الثورة السورية ضحية بين فكي كماشة؛ النظام وداعش، وكشف عن لامبالاة دوليّة بأسوا كارثة إنسانية يشهدها القرن الواحد والعشرون، ترجمت سياسياً من خلال مبادرة المبعوث الدولي الجديد، دي مستورا، وطروحاته عن "تجميد القتال"، و"تخفيض مستوى العنف". لكن ثوار سورية لم يركنوا أو يستسلموا للواقع المر، ونجحوا، لا سيما في الربع الأخير من عام 2014، في تحقيق انتصارات عسكريّة مهمة ومتتالية في المنطقة الجنوبية (سجن غرز، صوامع الحبوب، حواجز اللواء 112، تل الحارة، تل أحمر، تل الجابية، الشيخ مسكين، ..إلخ). وفي ريف إدلب، كان جديدها السيطرة على معسكري وادي الضيف والحامدية بشكل عوّض قوات المعارضة خسارة بلدة مورك الاستراتيجيّة. يبقى أن العام شهد، إلى جانب صعود داعش، توسع نفوذ جبهة النصرة، لا سيما بعد المواجهة الأخيرة مع جبهة ثوار سورية في ريف إدلب.
يمكن اعتبار عام 2014 الأكثر دموية في مسار العنف الذي استخدمه النظام ضد الثورة والشعب في سورية. وعلى الرغم من أن الأعوام التي سبقت لم تكن أقل هولاً، وخصوصاً 2013 الذي شهد إقدام النظام على استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في غوطتي دمشق، فإن العام المنصرم كان الأكثر جنوناً وتوحشاً وبربرية بحق المدنيين العزّل، حيث وصل عدد غارات القتل والترويع البرميلية، في بعض الأيام، إلى أكثر من عشرين غارة على مناطق متفرقة، تمتد من دير الزور، مروراً بالرقة وحلب وحماه وريف دمشق، وصولاً إلى ريف درعا. وتجاوز عدد الضحايا من المدنيين في بعض الأيام 200 قتيل.
اتّسم العام الذي انصرف بأن النظام السوري تصرف من دون رادع، في ظل صمت دولي وتغطية إيرانية روسية. ولذا، أطلق لنفسه العنان، فأبان عن بربرية ليست معهودة، ولا مثيل لها في الحروب التي شهدها القرنان الحالي والذي سبقه، وأهم مزايا هذه البربرية، أولاً تقتيل المدنيين. وتشير وقائع الغارات البرميلية على ريف حلب خصوصاً، أنها تتعمّد استهداف التجمعات البشرية ذات الكثافة العالية، من أجل إلحاق أكبر أذى بالسكان، الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، الأسواق والمساجد وأفران الخبز والمستشفيات، أي كل ما هو محرّم في أخلاقيات الحروب بين الأعداء. والمظهر الثاني للبربرية هو حصار التجويع ومنع دخول الغذاء والدواء، بما في ذلك قطع الماء والكهرباء والوقود عن بلدات بكاملها، مثل داريا والمعظمية في ريف دمشق، بالإضافة إلى الإعدامات الجماعية والسجون والاعتقالات وحالات الاغتصاب التي تعرّضت لها نساء سوريات، وهناك منظمات، مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وثّقت حالات لا شبيه لها في النزاعات الأهلية، حتى تلك التي حصلت بين القبائل البدائية من آكلي لحوم البشر في مجاهل أفريقيا.
أما الوجه الثالث للبربرية فهو التهديم. وبالإضافة إلى نزعة القتل المتأصلة في الذين يقفون وراء قرارات الاستهداف المنهجي للمدنيين، هناك نزعة تدمير العمران، وهي لا تفرّق بين مسجد وفرن خبز وسوق ومستشفى ومدرسة ومواقع تراثية، الأمر الذي يكشف عن خلفية همجية، لا تحترم قيمةً، ولا تقف عند رادع، وقد صار واضحاً أن النظام يتجاوز تنفيذ تهديد أطلقه، في الأيام الأولى للثورة، بأنه سيحوّل سورية إلى تراب، وهذا ما حصل، حتى الآن، في بعض المدن التي تم تدمير معظمها، مثل دير الزور وحلب وحمص وريف دمشق.
يستحق العام 2014 أن يوصف، على الصعيد السوري، بعام عودة الوحوش من الغابات. مأساة السوريين لا يمكن توصيفها لأنها تفوق الكلام، وتستعصي على الخيال، وليس من الإنصاف الاكتفاء بقوانين العدالة من أجل محاسبة هؤلاء القتلة في المستقبل، بل يجب أن يوضعوا في أقفاص، ويعرضوا في حدائق الحيوان، كنماذج لافتراسيين جدد، لم تعرف سلالة الوحوش مثيلاً لهم. وعلى العموم، لا يمكن تفسير استهتار النظام بأرواح السوريين وتاريخهم الحضاري العمراني وممتلكاتهم، إلا من منطلق الاحتقار الذي مارسه بحقهم، طوال أربعة عقود من حكمه، وهو نتيجة تراكم موروث من الانحطاط والعنف، تربّت عليه أجيال النظام منذ مجازر حماه وحلب في مطلع ثمانينات القرن الماضي. يومها تمت تسوية أحياء سكانية كاملة فوق رؤوس ساكنيها في حماه. ومنذ ذلك الحين، صارت تربية أجهزة النظام قائمة على هذا الأساس، وآخر ما تفكر به هو حياة الناس. ومهما كانت مآلات النزاع، ستصبح هذه السلوكيات مجالاً خصباً للدراسات الاجتماعية والسلوكية. وبالتأكيد، لن تقف الدراسات عند الأساليب المتبعة في علوم النفسية المَرَضيّة، بل سوف تستدعي استنباط أساليب وطرائق جديدة، تذهب حتى ظروف انتقال هذه الحثالة من الغابات إلى المدن.
نحن ندخل على عام يحمل معه ملفات الحروب الإقليمية، وتبقى القضية السورية هي قلب الأزمات التي تضخ الخطر إلى بقية المناطق. السبب ليس في النزاع بين الطرفين السوريين، الحكومة والمعارضة، بل لأنه صراع بين دول الشرق الأوسط. فإن نجح الإيرانيون في الإبقاء على النظام برئيسه بشار الأسد، سيكونون قد حققوا عمليا الاستيلاء على العراق وسوريا ولبنان. سوريا هي مفتاح أمن العراق. وتبعا لذلك، تكون إيران قد نجحت في فرض وجودها على منطقة الخليج، ومن الطبيعي أن تعترف الولايات المتحدة بالواقع الإقليمي الجديد، الذي يكون قد غير ميزان القوى القديم، الذي دام لعقود في المنطقة.
والمثير أن انتصار الإيرانيين لن يتم من خلال المعارك العسكرية على الأرض، بل عبر المناورات السياسية. أما ميدانيا، فإن حليفهم، الأسد، لا يزال منذ سنتين محاصرا في العاصمة دمشق، ولا يبسط سلطته إلا على ثلث سوريا، وفي العراق وضع السلطة المركزية ضعيف، ومحكوم بدعم داخلي وخارجي.
أما كيف يمكن لإيران أن تفلح سياسيا فيما فشلت فيه عسكريا، فإنه يعود إلى مشروع دبلوماسي من مناورتين؛ الأولى: إقناع الغرب بأنها تستطيع أن تواجه الجماعات المتمردة، مثل «داعش» في سوريا والعراق، وها هي إيران تشارك لأول مرة في تاريخ الجمهورية في القتال جنبا إلى جنب مع القوات الأميركية، في قصف مواقع «داعش»، وتقاتل بقوات وخبراء عسكريين على الأرض أيضا في سوريا والعراق. وهذا التطور الإيراني يحدث نتيجة التلكؤ الخليجي والغياب المصري.
والثانية: إقناع العرب البعيدين عن النزاع السوري، مثل مصر، بحلول سياسية، في واقعها تدفع الخليجيين للاعتراف بهزيمتهم في مواجهة النظام الإيراني في سوريا، الذي لا يزال يمثله الأسد منذ تسلمه الحكم بعد أبيه في عام 2001؛ مصر، لأنها انشغلت بثورتها بقيت بعيدة عن النزاع، وتبنت منذ البداية موقفا سلبيا من أحداث سوريا، في فترتي حكم «الإخوان» برئاسة محمد مرسي، وكذلك تحت إدارة حكومة عبد الفتاح السيسي الحالية. وقد حاول النظام السوري مغازلة المصريين لسنوات، مخترعا رواية أن هناك مؤامرة على الجيوش العربية، محاولا دغدغة الاعتزاز المصري بقواته المسلحة، وكلنا نعرف أن هناك فارقا شاسعا بين المؤسستين العسكرية المصرية والسورية؛ فالثانية تمثل طائفة صغيرة، وتستخدم الأمن والجيش لهذا الغرض. وقد أكمل الروس الدور بمحاولة تسويق المشروع الإيراني تشكيل حكومة تضم معارضين، وتبقى تحت رئاسة الأسد. عمليا، مجرد ديكور للنظام كما كان، وكما هو الآن!
وبالنسبة للمصريين، فلا يرون الخطر الإيراني يهددهم مباشرة، إلا من خلال منظور توازن النفوذ والمصالح الإقليمية. وأنا واثق، لو أن نظام مبارك قائم اليوم، لكانت مصر أكثر تشددا في إقصاء الأسد، ودعم الثورة السورية، لأنه كان رأس الحربة الإيراني الذي صارع مصر في غزة والضفة الغربية، ودعم «الإخوان». الحكومة المصرية الحالية إما أنها لا تبالي كثيرا بالعالم كيف يتشكل خارج حدودها، وإما أنها لا تفهمه، أو تختصر في ردود فعلها فقط على معاركها المؤقتة، مثل خلافها مع تركيا.
من وجهة نظري، يبقى الانجرار وراء مشروع المصالحة السورية المبني على إبقاء النظام دون تنازلات حقيقية، خطأ كبيرا، سيمكن الإيرانيين من العراق فورا، ومن الخليج لاحقا. وهو أمر ستقبل به الولايات المتحدة، لأنه يصب في مفهوم رؤيتها الجديدة، بالتعامل مع أي واقع جديد سيتشكل في منطقة الشرق الأوسط، والتحلل من التزاماتها الإقليمية السابقة. أما الروس فإنهم يلعبون الدور المساند لإيران وسوريا، كما كانوا، وسيدعمون الفوضى في المنطقة، لأنها في معظمها منطقة مصالح لأوروبا الغربية والولايات المتحدة. وفي رأيي، أيضا، سوريا لن تستقر بحل سياسي لا يحسم عسكريا الوضع على الأرض، وسيطول نتيجة إصرار إيران على دعم الأسد، من جهة، ومن جهة أخرى بسبب دعم الأتراك جماعات مسلحة سيئة، مثل «جبهة النصرة»، خارج مشروع المعارضة المدني الذي يمثله الائتلاف، بطوائف وأعراق السوريين كلهم. والأرجح أن الأتراك سيغيرون موقفهم بعد أن يكون الوقت قد فات، وهم بدعمهم الجماعات المتطرفة يعززون وضع الأسد دوليا، ويلمعون صفحة النظام الإيراني.