هل هناك حل سياسي ممكن في سورية؟ السياسة هي فن الممكن، كما يقال. لكنها لا يمكن أن تكون كذلك من دون توافر شروطها ومعطياتها. هناك سؤال آخر: هل يمكن أن يكون هناك حل في سورية من دون حل في العراق؟ هذا مستحيل. فصلُ الحالين كان ممكناً بُعيد الاحتلال الأميركي للعراق ومع بدايات الثورة السورية. أما الآن فقد تداخلت وتعقدت علاقة الارتباط الشرطي بين الحالين. إيران هي اللاعب الرئيسي في العراق وسورية. تقاتل في كلا البلدين بأموالها وأسلحتها واستخباراتها وجنرالاتها. الميليشيات التي تقاتل في العراق، خصوصاً الشيعية منها، هي نفسها التي تقاتل في سورية. هدف إيران في كليهما واحد: الإبقاء على حكومة شيعية في العراق، وعلى بشار الأسد العلوي في سورية. ما يعني أن مصلحة إيران في إيجاد حل سياسي في سورية مرتبطة عضوياً بحل سياسي في العراق، والعكس صحيح.
معطيات المشهد تقول أن العرب وأميركا يحاربون - بالنيابة عن إيران - الميليشيات السُنّية في العراق وسورية، ويلتزمون الصمت إزاء الميليشيات الشيعية المنتظمة في الحرب ذاتها بتوجيه وتمويل إيراني. والمدهش أنها حرب مجانية يخوضها العرب والأميركيون لتخليص إيران من ألد أعدائها في المنطقة، ويفعلون ذلك من دون أي مقابل! يتصرف العرب في المشهد من دون استراتيجية يهتدون بها. مثل باراك أوباما هم في حال ارتباك. ينتظمون في ما يسمونه «حرباً على الإرهاب»، لكنهم يخسرون في هذه الحرب، وحتى لو تحقق لهم تدمير هذه الميليشيا، فإيران هي من يقطف ثمار حربهم هذه.
يقترب المشهد من أن يكون سوريالياً. إيران الفارسية بأيديولوجيا شيعية تستخدم ميليشيات عربية شيعية. والدول العربية «السُنّية» تجد نفسها في حرب مع ميليشيات عربية سُنّية تقاتل إيران، من خلال اشتباكها مع الميليشيات الشيعية في كل من العراق وسورية. تُجمِع الدول العربية، خصوصاً السعودية ومصر والإمارات والأردن، على أن الميليشيات السُنّية هي الخطر المباشر عليها. لكنها تفترق في موضوع خطر إيران والميليشيات الشيعية، وهذه مساحة تستفيد منها إيران.
حكومة عراق ما بعد الاحتلال الأميركي - وهي حكومة عربية - تعتمد في بقائها على ميليشيات شيعية، وعلى التحالف مع إيران. حكومة «البعث العربي الاشتراكي» في سورية اضطرت أمام الثورة إلى كشف هويتها الطائفية، وبات بقاؤها هي الأخرى يعتمد على الميليشيات الشيعية والدعم الإيراني. وتكتمل سوريالية المشهد في أنه لا إيران تستطيع فرض خياراتها، ولا الدول العربية قادرة - لأسباب سياسية - على ملء الفراغ الإقليمي ووضع حد للدور الإيراني الذي يتسبب بكل ما تشهده المنطقة من دمار وزلازل.
هناك إذاً جمود استراتيجي مدمر، وما يزيده أن إدارة أوباما المرتبكة مع إيران ومع حلفائها، تبدو أكثر حاجة إلى اتفاق نووي من إيران التي تعاني من الحصار، لذلك تتغاضى عن سلوكها السياسي المدمر في المنطقة، وتقف موقف المتفرج على دمار سورية، وتحارب «داعش» السُنّية في العراق وسورية، وتغض الطرف عن الميليشيات الشيعية في كليهما. تعتبر الإدارة أن السُنّة هم أعداؤها ومصدر الخطر عليها. تتخذ هذا الموقف، مع أن حلفاءها في المنطقة، بعد إسرائيل، دول «سُنّية»! تفصل في شكل غبي مثير للشك بين الوضعين العراقي والسوري، وتبحث عن حل في الأول من خلال الحرب على «داعش»، وتتجاهل أنه حل غير ممكن من دون حل في الثاني. والأدهى أنها تريد هذا الحل في العراق، من دون حل في سورية. بعبارة أخرى، تتجاهل إدارة أوباما أول متطلبات الحل السياسي وأهمها هنا، وهو عامل التوازنات على الأرض؟ لا أحد يعرف كيف تجتمع هذه المتناقضات في رؤوس أقطاب إدارة أوباما؟
أخيراً بدأت هذه الملاحظة تفرض نفسها في الإعلام الأميركي، فهذا ديفيد باتريوس أبرز جنرال أميركي حالياً وكان قائد القوات الأميركية في العراق بين عامي 2007 و2008، يقول في لقاء مطول مع صحيفة «واشنطن بوست» الجمعة أن «الخطر الأول الذي يهدد استقرار العراق على المدى الطويل، ويهدد التوازنات الإقليمية، يتمثل الآن بالميليشيات الشيعية التي تدعم إيران الكثير منها، وتوجه بعضها الآخر».
أما الكاتب الأميركي توماس فريدمان فيتساءل: «لماذا للمرة الثالثة منذ 2011 نقاتل بالأصالة عن إيران؟ في 2002 دمرنا طالبان، عدو إيران الأول في أفغانستان. وفي 2003 دمرنا صدام حسين، عدو إيران الأول في العراق. الآن ما هي مصلحتنا في محاربة آخر الدفاعات (يقصد «داعش») في وجه هيمنة إيران على العراق؟». والحقيقة أن هذا السؤال يوجه أيضاً إلى الدول العربية التي تشارك أيضاً في هذه الحرب على «داعش».
السؤال الحقيقي إذاً: لماذا تريد إيران، والحال كذلك، حلاً سياسياً في العراق أو سورية؟ الحكومة العراقية تحت هيمنتها، وبشار الأسد بات ورقة تفاوضية في يدها! فما الذي يغري طهران بحل سياسي قبل أوانه؟ حتى الآن لا شيء، بل على العكس، إذ يبدو أن كل شيء يغري طهران بتجنب مثل هذا الحل في الظروف الحالية. الاتفاق النووي لا يزال قيد المفاوضات، والعرب لا يزالون خارج التوازنات الإقليمية، والحروب الأهلية العربية في تزايد. وإلى جانب ذلك، انكفاء أميركي مرتبك يتضافر مع حال انقسام وشلل عربيين غير مسبوقة. غياب أو تعذر حل سياسي في سورية هو مصدر مكتسبات إيران.
مع ذلك إيران في مأزق. مكتسباتها ستبقى موقتة، وهي غير قادرة على أن تجعلها مكتسبات نهائية. هي تمارس لعبتها في فراغ إقليمي تسبب به العجز العربي، واستطاعت بإثارة الحمية الطائفية التسلل إلى الإقليم من خلال هذا الفراغ، لكن ليس أكثر من ذلك. الميليشيات السُنّية تسللت إلى المشهد أيضاً من خلال الفراغ نفسه. هنا تبرز مسؤولية الدول العربية، خصوصاً السعودية ومصر، عن التسلل الإيراني أولاً، وتسلل ميليشيات وإرهاب لا يأتمر بإمرتها ثانياً، بل هو معادٍ لها. المحصلة أن إيران - سياسياً - في مواجهة، خصوصاً مع السعودية ودول مجلس التعاون، عدا عُمان. ومصر تتذرع بظروفها الخاصة وحرصها على وحدة سورية للابتعاد وتعميق حال الفراغ.
عند الحديث عن حل سياسي في هذا الإطار لا بد من أن نتذكر أن السلام مثل الحرب تماماً، محكوم بمبدأ التوازنات. فكما أنه لا يمكنك أن تكسب الحرب وموقفك ضعيف في هذه التوازنات، فلا يمكنك أن تكسب السلام وأنت تعاني من الضعف نفسه. الركون إلى خيار الحل السياسي من منطلق أخلاقي ينطوي على سذاجة سياسية. ومثال الصراع العربي - الإسرائيلي خير شاهد. لماذا يبدو هذا الصراع غير قابل للحل؟ لأن شروط الحل ومعطياته ليست متوافرة. أميركا، راعي الطرف الإسرائيلي وما يسمى بـ «عملية السلام»، ليست جادة في ذلك. إسرائيل لا تريد حلاً قبل أوانه وبشروطها هي. الفلسطينيون عاجزون عن فرض حل، وعجز الفلسطينيين انعكاس أمين للعجز العربي. يتجنب العرب خيار الحرب، ويخشون تبعات ومآلات سلام لا يملكون من أمره الشيء الكثير.
تقول هذه التجربة أنه قبل الحل السياسي لا بد من كسر الجمود الاستراتيجي. إذا لم يكن هذا ممكناً مع إسرائيل، وهي تتمتع بغطاء غربي قوي ومتماسك، فكيف يمكن تفسير هذا الجمود مع دولة دينية طائفية لا تحظى بمثل هذا الدعم الخارجي؟ يشير السؤال إلى أن العلّة الرئيسية وراء هذا الجمود هي علّة عربية قبل أن تكون أميركية. وإلا كيف يمكن كسر الجمود مع إيران، وحرب الإرهاب في العراق وسورية موجهة إلى الميليشيات السُنّية حصراً، وفي سورية يستسلم العرب لإصرار واشنطن على ترك المعارضة السورية مكشوفة أمام طائرات وصواريخ النظام؟ بمثل هذه المعطيات، يذكرنا الحديث عن حل سياسي في سورية بمواعظ العرب للفلسطينيين عن الحل ذاته في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، وإلى ماذا انتهت هذه المواعظ بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة عليها. وقد وصل الأمر برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى أن تنكر أخيراً وعلناً لهذا الحل، وأعلن رفضه فكرة «حل الدولتين» الأميركية.
النظام السوري "يمانع" إسرائيل، والمعارضات السورية "تمانع" نظام الأسد، والمجتمع الدولي "يمانع" المعارضات.
هذه هي ثلاثية ستاتيكو الثورة السورية الذي وقعت في بركة يحرسها "الأخوة الأعداء" هؤلاء، ويضخون المياه في البركة، أو يسحبونها منها، لتبقى الثورة تتخبط في الأوحال.
لم يعكس تداول السلطة في كل من المجلس الوطني السوري، وائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، حالة ديموقراطية، وإن كان الشكل يشير إلى تداول السلطة كل ستة أشهر، أو سنة على الأكثر.
ولم يعكس ذلك أي نوع من الفعالية في مخاطبة الداخل السوري البعيد كل البعد عن اهتمامات هذه الهيئات، ناهيك عن الفشل المزمن في إقناع المجتمع الدولي.
سوريا ليست العراق حتى يقتنع المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، بأحقية انتصار ثورتها على نظام اتفقت معظم دول العالم على ضرورة إسقاطه. كما لم يقتنع المجتمع الدولي بأن لدى المعارضات السورية بضاعة تقايضها مع أمريكا في سبيل تدخل فاعل يعجل في سقوط النظام السوري. بعض الساسة العراقيين استطاع أن يسوِّق بضاعة ما لأمريكا، فدخل الاثنان إلى بغداد على ظهر الدبابات.
ليس لدى المعارضات السورية نفط تهديه إلى أمريكا، وليس بمستطاع هؤلاء تقديم تنازلات في شأن الجولان، والأراضي العربية المحتلة، وليس لديهم الصلاحية العملية للقيام بذلك، حتى ترضى إسرائيل وتقتنع أن ستاتيكو الأسد في الجولان ليس هو أفضل حل لها. المعارضات، على كل حال، لم تقل كلمة ضد إسرائيل، أو معها، من باب التقية السياسية في تعاملها مع الولايات المتحدة.
الأسد الابن، وأبوه قبله، "مانعا" إسرائيل منذ عام 1974، وكان هذا مناسباً لإسرائيل وأمريكا. أما المعارضات فعاجزة اليوم حتى عن ممانعة داعش وجبهة النصرة، وكل ما في الأمر أنها تمانع نظام الأسد، وتريد إسقاطه لفظياً.
لعلهما حالتان متشابهتان، الأسد يمانع إسرائيل وغير قادر على استعادة الجولان، سلماً أو حرباً، والمعارضات تمانع الأسد وغير قادرة على إسقاطه، سلماً أو حرباً.
تكمن آفة المعارضات الأساسية، والمزمنة، في عدم قدرتها على تغيير موقف المجتمع الدولي الممانع تجاهها، وسبب ذلك عدم وجود رأس فاعل لها. وحين تغير هذا الرأس، شكلاً، لانتهاء مدة رئاسته، فإن دواعي التغيير لم تعتمد على نجاحه، أو فشله، في أداء مهامه تجاه من يُفترض أنه يمثلهم، بل على رغبات الداعمين والممولين لهذه المعارضات، في المجلس الوطني والائتلاف. وكان الرأس يأتي دائماً كحالة توافقية أنتجها تقاطع مصالح الداعمين، بالرغم من أن الشكل يشير دائماً إلى أن الحامل للرئيس الجديد هو أصوات المقترعين من أعضاء الائتلاف الـ 120.
لا أحد من السوريين يرغب في رئيس للمعارضات كحالة شعبوية، ففي الأحوال العادية قد يؤدي الرئيس الشعبوي دوره في إدارة الأزمة، لكن الحالة السورية أكثر من طارئة، وتحتاج إلى حلول عاجلة وجذرية، وليس إلى مسكنات تخفف من الألم في انتظار الطبيب المداوي. والأزمة التي وصلت إليها الثورة المستمرة بحاجة إلى رئيس يتمتع بكاريزما يدير فيها شتات الأفكار، وقلة الخبرات، التي بين يديه، فالرئيس الذي لا يستطيع إقناع مرؤوسيه بجدارته لن يقنع الداخل السورية بالحلول التي يمكن أن يقدمها، ومن لا يقنع الداخل السوري لا يستطيع التأثير على الداعمين السياسيين والممولين.
وحتى تكف المعارضات عن التشبه بممانعة النظام ينبغي لها أن تدرك أن خزان نجاحها هو الداخل، وعليها أن تتخلى عن الخطاب اللفظي العقيم الذي أوغر صدور الثوار عليها، بل جعل عدداً غير قليل منهم يرتد في حالة نكوصية وصلت إلى تفضيل ظلم النظام على العدل العاجز لهذه المعارضات.
وإذ دخلت الثورة عامها الخامس بمزيد من الدم، وبانسداد شبه تام لأفق حل سياسي، أو عسكري، فإنها لم تخسر شيئاً من قيمتها الأخلاقية، فجرحها المفتوح لايزال ينز قيحه على شكل ثوار تجار، ومنتفعين، ومتسلقين. وكي يلتئم الجرح ويبرأ لابد أن يتحسس السياسيون في الداخل والخارج آلام الشعب السوري، كل الشعب السوري، ممن انخرط في الثورة قولاً وعملاً، أو ممن دفع الثمن حتى في حياده، إلى من ناصر النظام تحت ذرائع صادقة، أو كاذبة.
يبدو أن لا مناص أمام الثوار في سوريا سوى الانصياع والإقرار بأنهم جميعا عبارة عن "متطرفين"، ويلبسون لباس المنفذين لأجندات وتعليمات وبرامج خارجية بحته، وأن لا هدف أمامهم إلا أن يكونوا عبارة عن أدوات بيد هذا أو ذاك.
فالوسم دائم الحضور والمسيطر على المجريات والتحليلات، ويظهر سريعاً مع أي حركة أو انجاز ليتم تفريغه من محتواه وإلباسه "التطرف".
انضمام صقور الشام لحركة أحرار الشام ، تم التعبير عنه في وسائل الاعلام العالمية أنها عملية اندماج بين طرفين إسلاميين من النوع المتطرف، رغم تأكد الجميع وعلى رأسهم السوريين أن الأحرار والصقور هم من نواة الثوار السوريين قيادة وإدارة وعناصر، تضع هدف واحد هو اسقاط نظام الظلم والاستبداد والقتل، تمهيداً لقيام سوريا العدالة ، التي لم ولن يتدخلوا بطبيعتها إذا ما كانت ذات صبغة إسلامية أم غياب هذه الصيغة أم سيطرة للعلمانية أو أي شيء من هذا القبيل أو ذاك.
ليس دفاعاً عن الأحرار أو الصقور ولكن تاريخ الفصيلين واضح للعيان أنهما فصيلان ثوريان عملا ويعملا وفق رؤية موحدة تتفق مع الرغبات الشعبية السورية بمختلف أطيافها.
ولعل الربط بين هذين الفصيلين وغيرهما من أعمدة الثوار يأتي في إطار الاستراتيجية العامة التي باتت تنتهج بحنكة إعلامية خبيثة ، بغية تعميق "الإسلامفوبيا" وجعل كل ما يقترب من الإسلام هو إرهاب وتطرف، هو تطبيق للعنف والشر، ولا نقصد كل الإسلام بأي حال، وهناك إسلام مرغوب ومطلوب، مما يجعل التعبير الأدق "السنة فوبيا".
مرة بعد أخرى لا يكتفي المجتمع الدولي بعرقلة أي نهاية كما يشتهي و يسعى إليها الشعب ، بل و يمارس الألاعيب لوضع السوريين أمام خيارات في غاية الصعوبة على أمل يتم اختيار الطرق الذي يدعمه و يصر عليه ، فتارة "داعش أو الأسد " و تارة أخرى " ثورة أم الآمن " و الآن "تطرف أو التراجع" ، و يبدو أن لا مناصي القذرة ، فإن كان الاختيار ضرورياً لنختار ما يعاكس اتجاه الضغط ، و إن كان المطلوب أن نخير بين التطرف و الاستكانة و الرضي بالأسد أو بما يشابهه فليكن الخيار "التطرف" ، ففي كل الأحوال الحرب قائمة قائمة و لانهاية يمكن أن يفعلها أي لاعب خارجي طالما الثورة مازالت تنبض في الداخل .
منذ قيامه، قبل نصف قرن، تغطّى النظام السوري بالأيديولوجيا البعثية، وبشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، التي يتشربها تلاميذ المدارس في المرحلة الابتدائية، والتي تملأ الفضاء السوري على الحيطان وأثير موجات الراديو ومحطات التلفاز. فضلا عن ذلك فقد غطى هذا النظام سياساته التسلطية والقمعية بدعوى الانشغال بالأمن القومي والقضية المركزية، أي قضية فلسطين والصراع ضد إسرائيل والمقاومة، وفي غضون كل ذلك لم ينس هذا النظام ادعاء “العلمانية” والتقدم.
وكان تم الترويج إلى كل ذلك بواسطة الدولة، واحتكار أو احتلال، المجال العام، وعبر التلفزيون والإذاعة والصحف، والمدارس والجامعات، وجهاز الموظفين، ومؤسّسة الجيش، والاتحادات الشعبية، ومنظمات الطلائع والشبيبة، وبوسائل التخويف، أيضا، عبر أجهزة المخابرات المنتشرة في المجال المجتمعي، هذا دون التقليل من الدور الذي لعبه العامل الاقتصادي، فمن جهة ثمة الإفقار وتعزيز الاعتمادية على الدولة وفق وصفة القطاع العام، ومن جهة أخرى ثمة طبقة رجال الأعمال التي تدين بوجودها وامتيازاتها للنظام.
بيد أن كل هذه الشعارات والادعاءات كانت لمجرد الاستهلاك والابتزاز وترسيخ الشرعية، وتبرير مصادرة الدولة والهيمنة على المجتمع وتعويق التنمية، إذ تم اختزال الاشتراكية، مثلا، بمصادرة الأراضي، وتأميم الشركات الصناعية الخاصة، وإضعاف البرجوازية الوطنية، وهي إجراءات أدت إلى هيــــمنة الدولة – السلطة على قطاعات الإنتاج، وتعزيز سيطرتها على المجتمع وعلى المجال العمومي، ما نجم عنه تعميم علاقـــات الفساد وتفريخ حيتان جدد، لاسيما من المقربين للعائلة الحاكمة التي باتت تتحكّم بقرابة ثلثي الاقتصاد، بما في ذلك ملكية مساحات واسعة من الأراضي.
أما ادعاء “القومية” فتمثلت في سياساته التدخّلية والإلحاقية التي اتخذت في غالبية الأحيان طابعا عسكريا أو عنفيا في محيطه، لاسيما في لبنان وإزاء الفلسطينيين، وفي العراق الذي عاش على العداء معه، على رغم التقارب الأيديولوجي سابقا بين نظامي هذين البلدين. ويأتي في ذلك اشتغاله في خدمة سياسة إيران في المنطقة، مع الشبهات التي تحيط بها، لاسيما في سياساتها العراقية واللبنانية، وإثارتها النعرة المذهبية في المشرق العربي، إلى حد تمكنها من سوريا ذاتها، كما بتنا نشهد الآن.
وبالنسبة إلى أسطورة كونه نظاما مقاوما، فهي تثير السخرية والمرارة في آن، فهذا النظام مسؤول عن ضياع جزء من سوريا واحتلاله (هضبة الجولان)، وكان بدأ عهده بإدارة الظهر للمقاومة الفلسطينية في الأردن (1970)، ثم أوقف المقاومة نهائيا من جبهة الجولان بعد حرب 1973، وتوّج كل ذلك بشنّه الحرب على المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية 1976، وهي “مقاومة” لم ينجم عنها إطلاق رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل طوال أربعة عقود، ناهيك عن أنه دعم كل الحروب التدميرية ضد مخيمات لبنان، والتي قام بها حلفاؤه.
بقيت أسطورة “العلمانية”، التي تكشفت عن مجرد غطاء يحاول من خلالها النظام التلاعب بما يسميه “أقليات”، وبالتالي حراسة الواقع الطائفي والمذهبي في سوريا، بادعائه حمايتها، في حين أنه يغطي في كل ذلك سياساته القائمة على الحؤول دون تحول المجتمع إلى مجتمع حقا، مع وجود مواطنين متساوين حقا أمام القانون وأمام الدولة، دون أي تمييز ديني أو مذهبي أو إثني أو جنسي، وأيضا الحؤول دون قيام الدولة باعتبارها دولة حقا، أي دولة مؤسسات وقانون، مع فصل بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية.
والحقيقة فإن نهج “فرّق تسد” هي السياسة التي استخدمها النظام لتكريس شرعيته وترسيخ سلطته، وإظهار أي محاولة للخروج على هذا الوضع بمثابة تمرد طائفي أو حرب أهلية، او صراع أقليات وأكثريات، على نحو ما يفعل اليوم.
المشكلة أن كذبة علمانية النظام انطلت على كثيرين، وساهمت في ترويجها، أيضا، تيارات إسلامية، ربما بعضها عن سذاجة وضيق أفق، وبعضها الآخر عمدا لتبرير ذاته في المشهد السوري، وفي الصراع على سوريا. ومعلوم أن نظام الأسد، رغم اضطهاده جماعات الإخوان لأغراض سياسية، فإنه سهّل ورعى نشوء مؤسسات وجماعات وشخصيات إسلامية كثيرة، بما يخدم تكريس مكانته، وإضفاء الشرعية على وجوده. ولا ينبغي أن ننسى دور الأجهزة الاستخباراتية السورية في تفريخ أو رعاية جماعات إسلامية متطرفة مثل “فتح الإسلام”، وجماعات “النصرة” وغيرها في لبنان والعراق ثم في سوريا.
هكذا، نمّى نظام الأسد بديماغوجيته نوعا من الجماعات الإسلامية والإسلاميين، مثلما نمّى جماعات من رجال الأعمال والمثقفين والفنانين والأكاديميين، ومن كل التيارات اليسارية والقومية والعلمانية والليبرالية، من المتصالحين أو المتسامحين مع نظامه، ومعظم هؤلاء لعب دورا كبيرا في عمليات التضليل والتدجين التي انتهجها النظام.
هذا كله يفسّر رواج تلك الأساطير، وصمود صورته المتخيّلة عند كثيرين، لاسيما عند بعض اليساريين والعلمانيين والقوميين والمقاومين، داخل أو خارج سوريا، ممن لم يكابدوا سطوته ولا بطشه، ومن الذين يفتقدون الحد الأدنى من الحساسية الأخلاقية، بحيث لم يعودوا يرون أو يحسون بالفظائع التي يرتكبها هذا النظام، ولا الأهوال التي يكابدها السوريون، منذ أربعة أعوام.
شعر اللاجئون الفلسطينيون في سورية بالاطمئنان، منسوباً إلى أوضاع أشقائهم في لبنان، الذين عانوا الأمرّين، قبل الحرب الأهلية اللبنانية وفي أثنائها وبعدها. فقد كانت حالهم من حال المواطن السوري، صعوداً وهبوطاً، كانوا مندمجين بشكل كامل على المستوى الاقتصادي. ولم تكن أعداد كبيرة منهم تتقاضى رواتب من الفصائل الفلسطينية، حتى في الأوقات التي كان وجود الفصائل في سورية قويّاً بعد خروجها من لبنان عام 1982، وتحولت سورية إلى موقع رئيسي لوجودها، خصوصاً فصائل اليسار، كان عدد المتفرغين في الفصائل محدوداً.
لم يغترب الفلسطينيون في عيشهم في سورية، ولم يشعروا، أيضاً، بأنهم سوريون، كانوا حالة من الاندماج والانفصال معاً، الاندماج إلى حد كبير على المستويين الاجتماعي ـ الاقتصادي، والانفصال على مستوى الحياة السياسية. فلم يتوقف اللاجئون الفلسطينيون عن المساهمة الفعالة في الحياة السياسية الفلسطينية، منذ ولادة العمل السياسي الفلسطيني في منتصف الستينيات.
وشكلت الحياة في سورية نموذجاً إيجابيّاً لحياة المنفى الفلسطيني، ووصلت حالة الاحتضان العالية التضامن، في حالاتٍ كثيرة إلى حالة الاندماج في الحياة السياسية الفلسطينية، فهناك سوريون كثيرون اختاروا الانضمام إلى الفصائل الفلسطينية، وقدموا حياتهم من أجل فلسطين. كذلك هناك فلسطينيون اختاروا الانخراط في الحياة السياسية السورية، وانضموا إلى حزب البعث، وحصلوا على امتيازات في هذا الإطار، وهناك من انتمى لأحزاب المعارضة، ودفع ثمن ذلك سنوات طويلة من عمره في السجن. وفي الحالتين، لم يكن الانتماء الفلسطيني إلى قوى سورية ظاهرة تهدد العمل السياسي الفلسطيني وفعاليته في الأوساط الفلسطينية، ولا كان الانتماء السوري إلى الفصائل الفلسطينية يدفع هذه القوى للتدخل في الشأن السوري، على الرغم من التدخل السوري المستمر في الشأن الفلسطيني.
عانى الفلسطينيون في سورية ما عانى المواطن السوري، على مستوى الحياة والمتاعب الاقتصادية، وعلى مستوى القبضة الأمنية التي حكمت المجتمع السوري، والتي شملت المخيمات بشكل طبيعي. فالمخيمات في سورية لم تكن معازل أمنية، كما المخيمات الفلسطينية في الجنوب اللبناني التي لا تخضع للأمن اللبناني. في سورية الموضوع مختلف، كل شيء تحت القبضة الأمنية، وما يخضع السوريون له من تدقيقات أمنية، يخضع الفلسطينيون له بالقدر نفسه. كان عيش الفلسطيني بشروط السوري يريح الفلسطيني، فلم يكن هناك تمييز ضد الفلسطينيين، لأنهم فلسطينيون، كان القمع يشمل الجميع.
كان الشعور بعدم التهديد السمة البارزة لحياة الفلسطينيين في سورية، وكانوا يعتقدون أن مساراً واحداً يمكن أن يجعلهم يغادرون سورية، وهو مسار العودة إلى فلسطين. فجأة، تبين أن الثابت يمكن أن يهتز، فلا يمكن لوضع اللاجئ أن يبقى ثابتاً، في الوقت الذي يهتز البلد التي يقيم فيه، لم يكن ممكناً أن يبقى الوجود الفلسطيني على حاله، في الوقت الذي تشهد سورية صداماً داميّاً في كل المناطق السورية، بفعل الاحتجاجات التي اجتاحت سورية، والتصدي لها بوحشية من النظام. امتد هذا الصدام من محيط المخيمات والتجمعات الفلسطينية إلى قلبها، في تلك اللحظة التي توحدت فيها التجمعات الفلسطينية مع المحيط السوري، بالتعرض إلى القمع والقصف العنيف من المدافع والطائرات.
في حالة التهديد المباشر والداهم، يكتشف اللاجئ أنه لا ينتمي إلى المكان، أو هناك من يُفهمه ذلك. عند ذلك، يكتشف، مرة أخرى، هشاشة وجوده في المنفى. وهذا ما وصل إليه المسار الفلسطيني في محطته الأخيرة في سورية. فجأة، يتغير كل شيء، المكان العامر بالناس والحركة يتحول إلى مكان مهجور، شيء ما ينكسر بعد ثبات عقود. لاجئون فلسطينيون جاءوا إلى أماكن متعددة في سورية، أغلبهم سكن دمشق وضواحيها، ليبنوا ما تيسر من الأبنية، لتأويهم في مكان ناءٍ، بعيداً عن المدينة.
في مكان بين أشجار الغوطة، بأبنيته المتفرقة والبائسة، أشاد اللاجئون الفلسطينيون مخيماً كان اسمه اليرموك. بنوا حياتهم فيه بجهد وتعب كثيريْن، وحالفهم الحظ، وتمددت مدينة دمشق، ليجدوا أنفسهم يقيمون في وسطها، بعد عقود من العيش على هامشها، ما زاد في ازدهار المخيم، وجعله واحداً من أحياء دمشق المعروفة. لذلك، لم يكن مصادفة أن يطلق بعضهم على مخيم اليرموك وصف عاصمة الشتات الفلسطيني.
لم يكن المخيم ليلقَى هذا الازدهار، لولا التعامل السوري مع الفلسطيني، بإعطائه حقوق العمل، ومن المفارقة أن هذه الحقوق التي منحتها سورية للاجئين الفلسطينيين، وقد تم إقرارها في ظل البرلمان الديمقراطي السوري الذي نتج عن انتخابات عام 1954 الأكثر تمثيلاً في تاريخ سورية الحديث. على الرغم من ذلك، القصة ليست قصة قانون، كلنا نعرف إمكانية التلاعب بالقوانين في العالم العربي. الأهم تجربة احتضان الشارع السوري الفلسطينيين الذين لجأوا إلى سورية، وقد خفف هذا الاحتضان كثيراً من مرارة اللجوء وقسوته.
كل العقود التي عاشها الفلسطيني في سورية لم تشفع له، فجأة يُقصف المخيم بالطائرات، كما تقصف مئات المواقع السورية، وبعد أن تعرض مرات للقصف المدفعي.
فجأة، يشعر اللاجئ الفلسطيني بهشاشة وضعه، حتى في بلد وجد فيه من الاحتضان الكثير، لا يعرف أين يذهب، وترتبك هويته، كما ترتبك حياته. يستعيد كل المآسي التي مرّ بها إخوته من اللاجئين الفلسطينيين، ويحفظها عن ظهر قلب. يعود شريط الذكريات، لينكأ الجراح التي عاشتها التجمعات الفلسطينية في الشتات، التجربة القاسية في الأردن، والأقسى منها التي وصلت إلى المذابح في لبنان، وما زال الإذلال مستمراً، التهجير القسري من الكويت بعد الاحتلال العراقي، الذبح الانتقامي في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي.. كل مخزون الذاكرة من الظلم الذي وقع على الفلسطينيين استحضره لاجئو سورية، في لجوئهم الثاني، الصعب والقاسي. لجوء هز بقوة هوية الفلسطينيين في سورية الذين كانوا يعتقدون أنها أقوى من أن تهتز.
"اللاجئون الفلسطينيون الذين حملوا قليل متاعهم، وغادروا المخيم تحت القصف، تغيروا إلى الأبد، ثمة شيء ما انكسر داخلهم، وفي هويتهم، في رحلة اللجوء الأخيرة"
كان مخيم اليرموك النموذج، شكل جزءاً من تاريخ فلسطين، لأن الوطنية الفلسطينية الحديثة ولدت في مخيمات اللجوء داخل فلسطين وخارجها، وكان لهذا المخيم دوره. كان، بهويته الوطنية الفلسطينية المنفتحة على الجميع والحاضن لمن احتضنه، نوعاً من المزيج الوطني الفلسطيني العروبي، وعلى الرغم من أنه أكبر تجمع فلسطيني في سورية، ويبلغ عدد سكانه الفلسطينيين، حسب تقديرات "أونروا"، حوالي 150 ألف نسمة، فإنه يعيش في وسطٍ أغلبه سوري، حيث قدر عدد سكان مخيم اليرموك، قبل نكبته الراهنة، بحوالي 700 ألف نسمة. لم يشهد هذا التعايش الفلسطيني ـ السوري أي صدام، وكان من الصعب التمييز بين أبناء المخيم من الفلسطينيين أو السوريين. كان المخيم يفخر بحفاظه على الصلة القوية مع فلسطين، ويفخر بمئات الشهداء الذين زفهم على طريق النضال في معركة الوجود الفلسطيني. وبعد أن وجد الشعب الفلسطيني عنوانه السياسي، أخذت التجمعات الفلسطينية تدفع أثماناً غالية، كان نموذجها الأكثر قسوة تجربة اللجوء في لبنان، حيث مورس، وما زال يمارس، عليه التمييز، وتقر ضدهم قوانين عنصرية، نجحت في خفض أعدادهم في لبنان بشكل كبير، واختفوا من العراق، واليوم مهددون في سورية.
وقع الانهيار في مخيم اليرموك، كما في المخيمات الأخرى، وكشف هشاشة وضع اللاجئين، وكشف أيضاً، هشاشة الوطنية الفلسطينية. انهار مخيم اليرموك، وبانهياره ينهار مكان آخر، كان عنواناً لفلسطين، وينهار مكوّن من مكوّنات الوطنية الفلسطينية. اللاجئون الفلسطينيون الذين حملوا قليل متاعهم، وغادروا المخيم تحت القصف، تغيروا إلى الأبد، ثمة شيء ما انكسر داخلهم، وفي هويتهم، في رحلة اللجوء الأخيرة.
من أفسد نيروز الأكراد
باسل العودات
عشية احتفالات أكراد سوريا بعيد (النيروز) وتجمّعهم في إحدى ساحات مدينة الحسكة (الهادئة بالمقاييس السورية)، دوّى انفجار إرهابي مزدوج مزّق أجساد العشرات من الأبرياء وجرح أكثر من مئة شخص، ولاقى العمل استنكارا من السوريين على اختلاف توجهاتهم.
بالنسبة إلى البعض، الحادثة عابرة ولا تستحق الوقوف عندها كثيرا، سوى الترحّم على الضحايا والأسف عليهم وشجب القتل، على اعتبار أن مثل هذا العمل الدموي ليس إلا جزءا بسيطا ممّا يجري في سوريا، من قصف وتدمير وقتل يومي للمئات بالصواريخ والمدافع وحتى بالكيميائي، ولهذا فإن مفخختين إضافيتين ستزيدان من عدد الضحايا الأبرياء ولن تزيدا من سوء الوضع الأمني السوري.
لكن، ولاعتبارات عديدة، من أهمها أن المستهدف هذه المرة هم الأكراد، وبمنطقة آمنة، لا بد من التوقّف عند هذه الحادثة بجدّية، فهي تحمل رسائل غير مباشرة ونصائح يجب إدراكها، قبل أن تصبح هذه العملية حدثا يوميا يتكرر ضد الأكراد.
قبل أن نبحث عن الفاعل، لا بد من الإشارة إلى محطات مرّ بها الأكراد (الضحية هذه المرة) خلال السنة الأخيرة، ستقودنا غالبا للفاعل أو لـ(ابن عمه)، محطات قلبت تاريخ أكراد سوريا وعلاقتهم بمحيطهم، وغيّرت مواقف وأحلام الكثيرين منهم.
قبل نحو عام ونصف، أصيبت علاقة الأكراد مع غالبية أطراف المعارضة السورية ـ السياسية والمسلّحةـ بانتكاسة، سببها القوة الكردية السياسية الأساسية متمثلة في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، الذي فرض بشكل سريع تواجده في شمال سوريا. واستلم بـ(سلاسة) مواقع كان النظام السوري يسيطر عليها، دون أن تراق قطرة دم. وأسس بشكل عاجل قوة عسكرية كردية (وحدات حماية الشعب) وأخرى لحفظ الأمن (الأسايش)، وهيمن على شمال شرق سوريا. واستمرت علاقة ملتبسة وغامضة تربطه مع النظام السوري. واعتبره الكثير من المعارضين حليفا للنظام. كما اتّهمته معظم الأحزاب الكردية السورية الأخرى (11 حزبا كرديا عضوا في الائتلاف) بأنه أقصى كل الأكراد واستفرد بالقرار الكردي السوري ووجهه بشكل لا يتعارض كثيرا مع مصالح النظام.
سرعان ما أقام الحزب إدارة ذاتية للمناطق الكردية شمال سوريا، لها حكومتها وبرلمانها، ورفض إشراك المعارضة السورية فيها إلا بشروطه (القراقوشية)، كما رفض ربطها باتفاق سوري شامل حول شكل الحكم المستقبلي لسوريا والوضع النهائي للأقليات، ورفض التنسيق مع الجيش السوري الحر.
أكّد كثير من المعارضين السوريين أن الحزب استمر بالتعاون مع قوات النظام ومع حزب الله اللبناني، وسهّل لهم مهمات عديدة. ولم يُنكر الحزب هذه الاتهامات إلا بشكل خجول وغير مباشر. كما اتهمه أهالي المنطقة بأنه بدأ بتغيير الديموغرافية السكانية، وأيضا تجاهل هذه الاتهامات على خطورتها وكأنها شيء عابر لا يستحق الوقوف عنده.
هذا الاستفراد بالقرار والحكم، والسيطرة العسكرية على المنطقة، قاطعه تدخّل تنظيم الدولة الإسلامية، الذي كان لفترة هادئا تجاه الأكراد ثم انقلب فجأة ضدهم. ووضع في استراتيجيته احتلال أهم المدن التي يكثر فيها الأكراد، فاحتل عين العرب (كوباني) كـ(عربون)، فأوقع هذا الحزب بأزمة عميقة مصيرية، كما وضعه أمام خيار وحيد بعد أن فشل النظام السوري في ضمان أمنه، فاضطر للتنازل وقَبِل التعاون مع الولايات المتحدة دون موافقة النظام.
اشترطت الولايات المتحدة أن يقبل زعيم الحزب قطع علاقته بالنظام السوري نهائيا كشرط أوّلي ليتلقى دعما أميركيا وموافقة على دخول بعض قوات البيشمركة الكردية العراقية لمساعدته في استرجاع المدينة، فتعهّد الرجل، وأوقف تصريحاته المعادية لأميركا. وأوقف تعاونه العسكري والاستخباراتي مع النظام. وتم بعد ذلك مدّه بالدعم الأميركي الهام لاسترجاع المدينة. وعادت كوباني للأكراد مدمّرة، لكنّه أصبح شريكا للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا. وحقق مكاسب على الأرض لها قيمة في الأسابيع الماضية.
تمدّد الأكراد في منطقتهم من جديد، ولكن هذه المرة ليس بدعم أو غض نظر من قوات النظام، وإنما بدعم أميركي، وهذا أغاظ النظام، الذي ينظر الآن للحزب الكردي على أنه الابن الضال، الطرف الذي يُنكر الجميل من وجهة نظر النظام. والدليل على حجم غيظه أن رأس النظام أشار في آخر مقابلة تلفزيونية إلى السلاح الذي كان النظام يعطيه لهذا الحزب والدّعم الكبير الذي قدّمه له خلال السنتين الأخيرتين.
خلاصة سريعة تعرض نحو سنتين من تجربة كردية غير واضحة الملامح بالنسبة إلى السوريين، لكنها تكشف خيطا قد يؤدي للفاعل، كما يفعل كل المحققين في الجرائم حين يلتقطون طرف خيط ويستنتجون، وعلى الرغم من تعدد الأطراف التي تتربص بالأكراد، إلا أننا هنا لا نجد صعوبة في توجيه أصابع الاتهام لطرفين، هما الأكثر تضررا وغيظا، الأكثر رغبة بالانتقام، ولا رادع عندهما لقتل أبرياء لتصفية الحسابات.
تنظيم الدولة الإسلامية والنظام السوري، طرفان متهمان ومدانان، وعلى عكس ما تفرضه مبادئ القانون، هما متّهمان حتى تثبت براءتهما، فكلاهما صاحب سجل غير مشرّف من العمليات السوداء.
لا شك بأن تنظيم الدولة الإسلامية يريد أن ينتقم من الأكراد نتيجة الضربات الموجعة التي تلقاها من التحالف الدولي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جزءا من هذا التنظيم ـ وفق المعارضةـ هو ذراع من أذرع الاستخبارات الإيرانية والسورية.
أما النظام السوري، فهذه فرصته للانتقام، وتوجيه رسالة غاية في الجدّية للأكراد، بأن خروجهم من بيت طاعته بالضرورة سيتبعه عقاب، والابتعاد عن النظام يليه درس تأديبي، سيفهمه قادة الحزب وحدهم، والأكراد الأصليون، الذين شهدوا ما قام به الحزب ولم يقبلوا لكنهم صمتوا خوفا من النظام ومنه.
ثم هناك أمران ثانويان، يزيدان من الشكوك بالطرف الأخير، الأول أنه بينما كان النظام السوري يمنع الأكراد طوال خمسة عقود من الاحتفال بالنيروز، هذه المرة، وبنفس الساعة التي تم فيها التفجيران، كان التلفزيون الرسمي يحتفي بعيد الأكراد، وتلبس مذيعاته زيا كرديا تقليديا (كاد المريب أن يقول خذوني). والثاني أن أول من نشر تبنّي تنظيم الدولة الإسلامية للعملية هو وسائل الإعلام المقربة من النظام، قبل أن تصل المعلومة لأيّ وسيلة إعلام أخرى، محلية أو دولية.
بكل الأحوال، هي مجرد احتمالات، أو اتهامات، وسيبقى الطرفان متهمان حتى تثبت البراءة، بعكس الدارج، لكن على الأكراد، وخاصة الحزب صاحب الإدارة الذاتية الإشكالية، أن يأخذ هذه الاتهامات محمل الجد، وأن يعي أنه آن الأوان لوقفة جدّية صارمة تجاه النظام وتهديداته، وتجاه قوى المعارضة (الوطنية) السورية الأخرى، وأن يضع نصب عينيه أن مصير الأكراد سيكون نفس مصير كل السوريين، إن نجوا نجا، وإن سقطوا سقط، فليس صعبا أن يصبح نيروز الأكراد نيروزا لكل السوريين.
في فيلم «العراب» الشهير، الذي يصور حياة رجال المافيا، يقول الممثل الشهير آل باتشينو لشقيقته في الفيلم: «والدنا لا يختلف عن أي رجل قوي، ومسؤول عن أناس، وأتباع، مثله مثل الرؤساء، ورجال الكونغرس». فترد عليه: «هل تعرف كم أنت ساذج؟ الرؤساء ورجال الكونغرس لا يقتلون رجالهم». فيرد عليها: «أوه.. من الساذج الآن؟!».
هذا الاقتباس الدرامي يلخص حقيقة ما حدث، ويحدث، في سوريا، وتحديدا ما حدث لأحد أهم رجال المجرم بشار الأسد، وهو اللواء رستم غزالة، رئيس المخابرات السياسية، الذي تلقى ضربا مبرحا من قبل رجال اللواء رفيق شحادة، رئيس فرع المخابرات الحربية، ونقل على أثرها غزالة للمستشفى، وبعد ذلك قام الأسد بعزل الاثنين! وبالطبع ترددت قصص كثيرة حول أسباب الشجار الذي نشب بين الرجلين، وأدى إلى تلقي رجل الأسد الشرير غزالة ضربا مبرحا على يد رجال شحادة، ومنها أن غزالة يرفض التوسع الإيراني بمحاربة الثورة، وقصص أخرى تتحدث عن اختلاف حول النفوذ الشخصي للرجلين، غزالة وشحادة، وأيا كانت الأسباب فإنها تظهر سلوك النظام الأسدي، ورجاله، وهو سلوك عصابات المافيا، وأسوأ من ذلك.
فإذا كان رجال الأسد يتشاجرون الآن لهذا الحد على النفوذ، أو بسبب التوغل الإيراني، فهذا يعني أن النظام يتأكل من الداخل، واستمراره قائم فقط على الدعم الإيراني، من خلال حزب الله، والميليشيات الشيعية، وأن لا هيبة للأسد مطلقا، حتى بين رجاله المقربين، خصوصا أن غزالة، الحاكم الفعلي للبنان من عام 2002 إلى 2005، والمتهم بالمشاركة باغتيال الراحل رفيق الحريري، كان رجل الأسد القوي، ومنذ عام 2000. لكن نظام الأسد الإجرامي لا يعدو أن يكون نظاما بعثيا، قمعيا، وعلى غرار جماعات المافيا، ولا يتردد بتصفية رجاله، وكما حدث بحق محمود الزعبي، رئيس الوزراء السابق، الذي قيل حينها إنه انتحر بعدة رصاصات، وهذا عبث لا ينطلي على عاقل! وبعدها اغتيال غازي كنعان الذي قيل أيضا إنه انتحر، وذلك بعد اغتيال الحريري!
اليوم، يُضرب رجل الأسد الشرير، أي غزالة، ومن قبل رجل مقرب أيضا من الأسد، ويقال إنه بسبب خلاف على النفوذ الإيراني، وهذا لا يمكن تفسيره إلا بأن وجه المافيا القمعي لنظام الأسد بات يطل مجددا لتصفية رجال النظام، خصوصا أن هذا هو سلوك البعث دائما، وعلينا أن نتذكر كيف أعدم صدام حسين زوج ابنته. وعليه، فالواضح اليوم أن نظام الأسد في صراع داخلي، ولا يضمن وجوده إلا الدعم الإيراني، ومهما قيل ويقال، خصوصا أن أطرف تبرير للاعتداء بالضرب على الشرير غزالة مجرم الأسد، وسبب دخوله المستشفى، هو قول أحد المنتسبين لحزب «البعث العربي الاشتراكي» إن غزالة «دعس دعسة ناقصة، وسقط عن الدرج، ودخل المستشفى».
فعلا نظام لا يستحي، مثله مثل أتباعه!
تزداد القضية السورية تشعباً بعد كل مبادرة تطرح بين الأطراف المعارضة بكل تعداداتها، والنظام بكل مايمثله، إذ تفقد الواحدة ما أمكن العمل عليه في السابقة ، وتحفر عميقا في منافذ الخلاف بين قوى المعارضة، حتى لتكاد أن تكون المعارضة أكثر إقصاء لبعضها من النظام المفترض أنهم يقفون في ضفة واحدة بمواجهته .
موسكو والقاهرة، المبادرتان المتناقضتان والمتكاملتان إلى حد ما في ثنائية غريبة، تتقاطعان في هدف واحد حتى الآن وهو: إزاحة ثقل "جنيف واحد" عن كاهل المجتمع الدولي الذي ناء بتحمل مسؤولياته تجاه تنفيذه، واحلال مصطلحات ووثائق قابلة للتأويل والاجتهاد والنقض والنقد، وإحداث مزيد من الجلبة بين المعارضة ومسمياتها، واختلافات سقوفها التي تنخفض وتعلو وفقاً لاجندات مختلفة أيضاً.
موسكو ليست غافلة عن نتائج حوارها العدمي وهي أصلا لم تعقده لينتج حلاً سلميا تعود به سوريا لتداول السلطة واقصاء النظام الحاكم الموغل في قتل شعبه حتى آخر ما يملكه من سلاح بكل أنواعه من السكاكين الى الرصاص والقنابل والمدافع والقذائف والكيماوي الممنوع منه والمسموح لا أخلاقياً .
و"موسكو ٢" بتحضيراتها الجارية التي لم تختلف عن "موسكو ١" الا بما يتم تداوله من أسماء جديدة، لن تدخل كثيراً من التغيير على المشهد العام للحوار غير المنتج، والذي سيخرج ببيان يكتبه الخبير الروسي ويتنصل من الموافقة عليه بعض الحضور لاعتبارات يتفهما الروس أنفسهم .
روسيا ليست طبعاً بالغباء السياسي الذي يجعلها تعقد مؤتمرين وتستضيف من تدعي أنهم معارضة لانتاج لاشيء على الاطلاق . فـ"موسكو١ و٢" يمثلان دخول من باب آخر لتفادي انزياحها من المشهد السوري بعد اعلان ايران وجودها الامبراطوري في دمشق، ولعله ليس أكثر من رسالة رومنسية للطرفين الايراني والأميركي اللذين اقتربا فعليا من توقيع اتفاق حول السلاح الايراني النووي ، وما تبع ذلك من تصريحات كيري بضرورة الحوار مع الأسد ، وروسيا طبعاً لن تسمح بتقاسم الغنيمة اميركيا وايرانياً بعيداً عنها.
أما "القاهرة ١" وبيانه بالنقاط العشر التي اعتمدت واقعية المقدرات الحركية للمجتمعين وتفهمت عودة بعض حضوره إلى دمشق دون مساءلة النظام لهم ، ووعت بذات الوقت رغباتهم بدفع عجلة الحوار من نقاط لا تستثير غضب النظام الذي تراه طرفاً محايداً في أزمة السوريين وطول أمد مأساتهم ، بل و أوعزتها إلى تنازع حاصل بين الأطراف المعارضة والمتشرزمة.
"القاهرة ١" حنكة اعلامية بصياغة مبررات تسوية تاريخية بين النظام السوري والمعارضة المجتمعة بمعظم مكوناتها بما فيها "الائتلاف" الذي يرفض الاعتراف بها اعلامياً، وكان قد تهرب من مسؤولية نقاشها في اجتماع لهيئته العامة سبق انعقاد "القاهرة ١"، ومن ثم في اجتماع تلا اجتماع "القاهرة ١" واعلان بيانه وأسماء لجنته التحضيرية "القاهرة ٢" ومن بينهم أعضاء في "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" .
اليوم يعقد الائتلاف جلسته باسطنبول لمناقشة الملف الذي يهدد وحدانية تمثيله للمعارضة ويجعله طرفاً مساوياً لأي مكونات أخرى كهيئة التنسيق والشخصيات " المستقلة " ولعل بيان جامعة الدول العربية الذي انعقد على المستوى الوزاري في العاشر من هذا الشهر ورحب "بنتائج كل من اجتماعات القاهرة وموسكو ومساعيهما لاحياء مسار الحل السياسي التفاوضي للأزمة السورية" كان بمثابة رسالة انذار تهدد كيان الائتلاف وتلزمه على التطلع إلى المشاركة مع الفعاليات المعارضة التي تجنح للتفاوض والتهادن والتسويات، هذه المشاركة التي يصرح بعض أطياف مكونات الائتلاف برفضها لأنها تمس بمبادئ تأسيس الائتلاف التي اعتمدت في ٢٠١٢، وهي في الوقت عينه مخالفة لأهداف الثورة التي نادت باسقاط النظام وزمرته الأمنية .
ولا ننسى أن "جنيف ٢" كان أيضاً بداية الضرب بالحائط بمبادئ الائتلاف التي تم تعديلها توافقاً مع رغبة المتطلعين إلى التفاوض، وأدت إلى انقسامات حادة داخله، وانسحابات كان من بينالأسماء المنسحبة اعتراضاً على "جنيف ٢" رئيس الائتلاف الحالي خالد خوجة .
الائتلاف وفي جلسة لاتبدو رسمية وفق المعتاد يناقش "القاهرة ١" متأخراً و"القاهرة ٢" على الأبواب وبين التمسك بأهداف الثورة أو الالتحاق بمركب التسويات التاريخية التي ينادي بها مريدو القاهرة ربما يكمن السر العميق في حجب المعونات المالية عن الائتلاف وحكومته ولاحقا عن بقائه على رأس التمثيل للمعارضة السورية .
يبدو الائتلاف الوطني السوري في أسوأ أوضاعه اليوم، والأمر في هذا لا يتعلق بالبيئة العامة التي تحيط بالقضية السورية فقط، وإنما بسبب الأوضاع الخاصة المحيطة بالائتلاف، وبداخل الائتلاف أيضا، وجميعها أوضاع تتصف بالسلبية الشديدة.
القضية السورية عموما في أدنى درجات الاهتمام الإقليمي والدولي، وكأن الجميع من حول سوريا، اعتادوا على ما يحدث من أعمال قتل وتدمير وتهجير يرتكبها نظام الأسد وحلفاؤه ضد السوريين، ولم تعد تلك الأعمال تثير عندهم أي ردود فعل، حتى الهجمة الكيماوية الأخيرة التي قام بها النظام في سرمين القريبة من إدلب، مرت دون أي انعكاسات وردات فعل من جانب الدول أو المنظمات على إجرام نظام الأسد المتكرر.
وإن كان ثمة اهتمام بالقضية السورية، فإن هذا الاهتمام لا يتجاوز إلا في النادر جانبا من أحد جوانبها مثل موضوع جماعات التطرف والإرهاب الحاضرة في سوريا مع تركيز شديد على «داعش»، وفي هذا الجانب، يتم توزيع الاهتمام بين سوريا والعراق، لأن التنظيم حاضر في العراق، كما هو حاضر في سوريا، وأهميته في الأول أكثر، إذا نظرنا إليه من العين الأميركية.
وإذا كانت القضية السورية بعيدة في سلم الاهتمام الدولي، فإن المعارضة والائتلاف الوطني الموصوف في المستوى الدولي بأنه «ممثل الشعب السوري»، هما تقريبا خارج الاهتمام الدولي، وأغلب الدول التي ساهمت في تأسيس الائتلاف أواخر عام 2012، تكاد لا تتواصل مع الائتلاف إلا في أضيق المستويات ومن باب معرفة ماذا يجري على الأغلب، وهذا يعني أنها غير مهتمة بوضع الائتلاف ولا بوضع المؤسسات التابعة له سواء الحكومة السورية المؤقتة التي سجلت انهيارا مدويا في الأيام القليلة الماضية، وكذلك وحدة تنسيق الدعم التي تنتظر إطلاق رصاصة الرحمة، أو المجلس العسكري الأعلى وهيئة الأركان، حيث لا يتجاوز وجودهما الحاصل الصفري.
كل الائتلاف ومؤسساته كانت خارج الاهتمام الدولي والإقليمي سواء من جانب الدول أو المنظمات في الأشهر الثمانية الماضية. لا دعما سياسيا ولا عسكريا، ولا دعما إغاثيا ولا ماليا. ما جاء من مساعدات محدودة للحكومة ووحدة تنسيق الدعم، يبدو أرقاما مخجلة إذا ذكرنا من أين جاءت وحجمها، وليس في الأفق أية أرقام، يمكن أن تقدم للائتلاف أو للحكومة ولا لغيرهما.
وسط ذلك السوء من تردي البيئة المحيطة بالقضية السورية وبالائتلاف، لا يبدو الوضع الداخلي للأخير أحسن حالا. ففي الداخل ثمة انقسام عمودي بين تجاذبين؛ أولهما تجاذب هو الأصلب حول نواته الإخوانية، والثاني قوى متنوعة، فشلت في أن تشكل تجاذبا متجانسا، رغم أنها ربحت معركة الانتخابات الأخيرة في قيادة الائتلاف، وهذا يدفع نحو إعادة خلط الأوراق، وهو في إحدى النتائج سيجدد الصراعات داخل الائتلاف، وهذا ما يحصل بالفعل، بحيث لم يعد من الواضح من هي القوة المؤثرة في قرارات وفي إدارة الائتلاف الوطني من الناحيتين السياسية والتنظيمية، إنها مرحلة ضياع بكل معنى الكلمة.
الأسوأ من الضياع السياسي والتنظيمي القائم في الائتلاف، هو ابتعاد الائتلاف عن الموضوعات الأساسية التي ينبغي أن يتابعها ويعالجها وعلى رأسها الصراع مع نظام الأسد وموضوعاته وعلاقاته وأوضاع السوريين اليوم وكيف يمكن أن تصير في المستقبل. وبخلاف ذلك يغرق الائتلاف في موضوعات تفصيلية وهامشية، وما أكثر التفاصيل السورية اليوم، هذا إذا لم نتوقف عند تفاصيل الائتلاف، وعلى سبيل المثال، فإن جدول أعمال الهيئة العامة للائتلاف التي تعقد هذا الأسبوع، يتضمن بندا لتعديل رؤية الحل السياسي التي أقرها الائتلاف في اجتماع الهيئة العامة الأخير، وبعد نقاشات موسعة، استمرت نحو شهر في الهيئة السياسية «الموسعة»، كما ستكون الهيئة العامة مشغولة في اجتماعها المقبل بتشكيل لجان الائتلاف التي كانت على جدول أعمال الائتلاف منذ عدة أشهر.
الائتلاف اليوم سواء من حيث بيئته العامة أو أوضاعه الخاصة، خارج الحياة. لكن ليس من أحد يمكن أن يعلن وفاته. السبب في ذلك بسيط جدًا وفيه نقطتان؛ النقطة الأولى، أن المجتمع الدولي لا يريد الإعلان أن لا أحد يمثل الشعب السوري، وأن على أحد ما أن يقوم بهذه المهمة، إذا أعلن موت الائتلاف. والنقطة الثانية، أن بعض الائتلافيين من جماعات وأشخاص بمواقفهم وبنظراتهم التفصيلية، يراهنون على كسب الائتلاف حتى لو كان جثة هامدة، طالما كان معترفا به «ممثلا للشعب السوري» ولو شكليًّا.
الوضع في الائتلاف، كما هو الوضع السوري بمجمله في أسوأ أوضاعه من حيث التعامل معه. لم يعد أحد ينظر إلى سوريا باعتبارها قضية ثورة شعب من أجل الحرية والمستقبل، بل يتم النظر إلى بعض التفاصيل هنا وهناك: كسبنا حاجزا هنا، وقتلنا جنديا هناك، وقدمنا سلالا غذائية، إلى آخر القائمة من تفاصيل لا معنى لها في إطار قضية كبرى، تتعلق بمصير شعب وبلد ما زالا يعانيان الأمرين منذ أربع سنوات مضت.
بترتيب ناجح نسبياً لأولوياته، أقنع النظام السوري العالم بأن الإرهاب ينتمي، تكوينياً، إلى المعارضة، وأنه جزء رئيس منها، بل هو طليعتها وقوة الصدام الرئيسة فيها، وأنه يحاربها كي يقضي على تنظيماته التي تضم معظم مقاتليها، وترتكب الجرائم التي تنسب خطأ إليه، كما قال بشار الأسد، أخيراً في لقاء صحافي، زعم فيه أن من كانوا يطلقون النار على المواطنين العزّل من ضباط وجنود جيشه انشقوا عنه، وشكلوا الجيش الحر والتنظيمات الأصولية والجهادية: أي الإرهابية.
هل صدّق العالم أكذوبة الأسد المضحكة؟ أعتقد أن قسماً كبيراً منه صدقها من دون أن يحفل كثيراً بجديتها وقابليتها للتصديق، لأسباب تتصل بأوهامه التاريخية عن الشرق والشرقيين عامة، والإسلام والمسلمين بصورة خاصة، من جهة، وبما حفلت به ذاكرته من أحكام مسبقة ووساوس وهلوسات، تجعل أعداداً كبيرة من مواطني البلدان الغربية يصدقون ما ينسب إلى المسلمين من ميل إلى العنف والتعصب. وبالتالي، إلى ما يسميه قادتهم بلغة مرعبة "الإرهاب"، الذي يعينهم التلويح بمحاربته على التحكم برأيهم العام، ويتيح لهم التعامل من موقع تدخلي في شؤون بلدان كثيرة خارج عالمهم المتقدم، من جهة أخرى.
واليوم، تقف المعارضة السورية أمام معضلة حقيقية، تتصل بعلاقتها مع رأي عام مؤثر، تريد كسبه، يدير ظهره للحقيقة، ويصدق ما لا يمكن تصديقه، وهو أن شعب سورية المسالم، والمطالب بالحرية، إرهابي، ونظامه الذي لطالما أكد قادة البلدان الغربية أنفسهم أنه لم يقلع يوماً عن إنتاج الإرهاب وتصديره إلى مختلف مناطق العالم يحارب الإرهابيين، ويحمي الأمن والنظام الدوليين منهم! وللأسف، ما أن تقول عن أحد ما إنه إسلامي، حتى يرتبط، في مخيلة أغلبية مواطني بلدان متقدمة عديدة، بالعنف والنزعات العدوانية، وبالاستعداد لفعل أي شيء يمكن أن يرغم غيره على قبول ما يؤمن به أو يريده.
إلى هذا، يعتقد عديد من قادة الرأي في هذه البلدان أن مجتمعنا ليس غير طوائف وأقليات متناحرة، تنعدم بينها المشتركات وأسس التعايش السلمي، تبقيها تناقضاتها في حال حرب كامنة قابلة للانفجار في أي وقت، فلا مجال لإبقائها "مسالمة"، وللحؤول دون ما تحمله علاقاتها من تهديد دائم لأمن العالم وسلامه، بغير يد سلطة حديدية، قد تكون مفرطة في عنفها داخل بلدانها، لكنها تحمي العالم خارجها، فمن الضروري تفهّم دورها، وتجاوز طابعها الاستبدادي والقمعي، ما دام إمساكها بخناق مجتمعها ضروري، لمنع مكوناته من الاقتتال، ولحماية الآخرين من شرورها وإرهابها.
بأحكام أغلبية الرأي العام، ومواقف معظم الساسة وصنّاع القرار ووسائل الإعلام، تنقلب الوقائع رأساً على عقب، وتضيع الحقائق، ويصير الشعب المظلوم قاتلاً، والقاتل الذي يدمر مجتمعه، ويمزّق شعبه، عدواً للحرب، ومحافظاً على أمن مواطنيه وسلامهم، بمن في ذلك الذين اقتلعهم من جذورهم وشتتهم في أربع أقطار الأرض، وقوّض وجودهم التاريخي، وطردهم من وطنهم، وقضى على لحمتهم كشعب واحد.
ويبقى السؤال: كيف سمحنا بوصول قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي إلى الاقتناع بأن شعبنا إرهابي، وأن نظامنا المجرم معاد للإرهاب، مع أنه هو الذي فبرك تنظيماته، لكي يضعف معارضيه والجيش الحر، ويفجر المعارك بين مواطنيه، ويشوه واحدة من أعظم ثورات الحرية في التاريخ، ويحرمها من ما تستحقه من دعم دولي وإنساني؟
يتكوّن نظام الأسد من طرفين: جيش السلطة وأمنها وتنظيمات الإرهاب التي تكمل عملهما. هل تقوم، مَن تعي هذه الحقيقة من قوى المعارضة، بما هو ضروري إعلامياً ضدهما، أم تكتفي بتجاهلهما، بينما يحرضان العالم ضد الشعب ويشوهان ثورته؟
يمر الخبر عابراً على وكالات الأنباء وشاشات التلفزة: النظام السوري يقصف المنطقة الفلانية بغاز الكلور، وسقوط عشرات الضحايا. المنطقة، هذه المرة، سرمين، لكنها لم تكن الأولى. هي محطة من محطات الإجرام التي لا يتوقف عندها نظام بشار الأسد، بل يمضي إلى المزيد. كيف لا؟ وهو يرى الأضواء الخضراء تلمع في وجهه من كل جانب. أضواء لمحها منذ الجريمة الكبرى في الغوطة في 2013، يوم أطلق غازاته السامة على الأطفال والناس والشيوخ، ولم يحرك أحد ساكناً. كانت مجرد بعض عبارات التهديد والوعيد، وقرع قليل لطبول الحرب، كان يدرك الجميع أنها لم تقع، قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها، ويواصل النظام السوري مجازره.
سرمين ليست الأخيرة، ولا الغوطة هي الأولى، ما بينهما وقبلهما عشرات المجازر التي ارتكبت بحق المواطنين السوريين، بغاز الكلور وغيره. مع بداية الثورة التي بدأت، قبل أيام، عامها الخامس، كان الجميع يترقب رد الفعل الدولي على قتل عشرات السوريين، وكان الأمل يحدو كثيرين بأن ضغطاً دولياً وإقليمياً، سياسياً أو عسكرياً، سيكون كفيلاً بإزاحة نظام الأسد، أسوة بأنظمة سقطت في المنطقة. مرت الأيام وغرق السوريون في دمائهم، وبقي الموقف الدولي على حاله، بل تطور إلى الأسوأ.
مع بداية سقوط القتلى السوريين، كانت الإدانات الدولية عموماً، والأميركية خصوصاً، تتوالى، حتى تم الاعتياد على أخبار الموت اليومية. تقدمت الإدانة خطوة بعد ذلك، لتصبح التحذير من لجوء النظام إلى الأسلحة غير التقليدية، على اعتبار أن قتل السوريين بأسلحة تقليدية أمر حميد، ولا يستدعي أي رد فعل. ومع ذلك، كانت المجازر بالأسلحة الكيماوية، الأكبر كانت في الغوطة، لكن غاز الكلور لم يوفر قبلها، ولا بعدها، وصولاً إلى سرمين. لم تستدع هذه المجازر أي تحرك دولي، ما عدا الاستنكار والأسف والتهديد الفارغ، والذي ما إن سقط حتى فتح للنظام السوري الباب لمزيد من الإجرام، وصولاً إلى الحال الذي هو عليه.
اليوم، لم تعد الدماء السورية تثير أي امتعاض دولي. لم يعد الضحية السورية يثير الأسف والأسى. لم يعد الوجع السوري يؤلم أحداً غير أصحابه الذين ما عادوا ينتظرون غوثاً، ولا عوناً من أحد، خصوصاً وهم يسمعون وصلات الغزل ورغبات الوصل التي يتلوها المسؤولون الأميركيون، وفي مقدمتهم وزير الخارجية، جون كيري.
وللمفارقة، جاءت مذبحة سرمين مباشرة غداة إعلان كيري نية واشنطن مفاوضة النظام السوري، الذي خرج رئيسه، بشار الأسد، ليطالب واشنطن بأفعال وليس بالأقوال. في المقابل، كانت أفعاله تدور على الأرض السورية من شمالها إلى جنوبها، بلا حسيب ولا رقيب. أفعال ليست سرمين وأطفالها القتلى إلا جزءاً منها، في ظل حال التخلي التي يتعاطى فيها العالم مع المأساة السورية. تخلٍ يذكّر بالشعارات التي كانت ترفع في التظاهرات، حين التقط الناشطون السوريون سوء الموقف الدولي وحال الخذلان الذي يتعامل به مع الأزمة. كان الشعار "يا الله ما إلنا غيرك يا الله" يعبّر عن اليأس من الآخر، من دون أن يعني الاستسلام للواقع.
لم يعد قتل السوريين فعلاً للنظام وحده. بات الجميع مشاركاً في إهدار الدم السوري، سواء بالصمت أو الدعم أم التعتيم. النظام يقتل بترسانته الآتية من روسيا والصين وإيران، والغرب يتفرج، ويتسابق للحديث عن حوارات خرافية لنقل السلطة. وأصبح الإعلام العربي والغربي معتاداً على نزيف الدم السوري، سواء بالأسلحة التقليدية أو الكيماوية. لذا، كانت سرمين مجرد سطر انتهى مع موعد النشر.
"كم كنت وحدك"، عبارة قالها محمود درويش في قصيدته "مديح الظل العالي"، ليصف حال الفلسطينيين بعد اجتياح بيروت. عبارة يمكن إسقاطها على الوضع السوري الذي ما عاد حتى يثير الحسرة في الرأي العام العربي والدولي، الشعبي والرسمي، فالموت السوري بات عادة، والجرح النازف لا يوجع إلا أصحابه، بينما نحن نكتفي بالفرجة.
لم نجد بعد معادلة عملية تنظم علاقات داخلنا السوري مع الخارج، الدولي والإقليمي والعربي، مع أننا صرنا أداة بيد لعبة أمم مختلفة الأحجام والأدوار والمستويات، جعلت من الدم السوري وسيلتها لتصفية حساباتها، وتسوية خلافاتها وتناقضاتها.
في العلاقة بين الداخل والخارج، لا مفر من منح الأولوية للداخل ورؤية الخارج، والعلاقات معه بدلالته، وفي ضوء أحواله ورهاناته، فإن كانت أوضاعه جيدة، وخططه السياسية ضاربة ومتماسكة، وممارساته صحيحة، وترتكز على حقوق البشر، واحترام كرامتهم وتضحياتهم، وكان قادته يضعون أنفسهم في خدمة شعبهم، واستقلاله عن الخارج جدياً، وحريته في التعاطي معه واسعة نسبياً، صار محط اهتمام عالمه الخارجي، وحظي بما يريده من دعمه، وتمكّن من تسويق خياراته لديه، وتفادى بدرجة مقبولة ما قد تتصف به روابطه معه من شد وجذب مدمرين. أما إذا كانت أحواله سيئة ومتردية، وكان الخارج قادراً على التعامل معه بما تمليه عليه خياراته ومصالحه من اهتمام أو تجاهل، فإنه يحوله إلى مجرد أداة في يده، تخدم خططاً وسياسات تجافي مصالح الشعب وتطلعاته، وتضر بفرصه وخياراته، فما بالك إن وضعنا مصيرنا في يده وعولنا عليه من موقع الضعيف والمستضعف، وربطنا أعمالنا بإرادته، وأتبعنا أنفسنا له بمحض إرادتنا في كل كبيرة وصغيرة، ورأينا فيه جهة مقررة، لا مفر من التكيف معها، ترغمنا ظروفنا وأحوالنا على الرضوخ "بوطنية" لمطالبها.
منذ تشكل "تمثيل" سياسي للمعارضة السورية، ساد تنافس حقيقي بين النظام وبينها في كل ما يتصل بأولوية دور الخارج في إيجاد حل داخلي لصراعهما. وتسابق الطرفان على الاستقواء بالخارج، عله يجعلهما جزءاً من أدواته. لذلك، رفض النظام فكرة ومبدأ الحل الداخلي، لاعتقاده أنه سيسقطه، وآثر إضفاء طابع خارجي على صراعه ضد شعبه، بتحويله إلى حرب ضد أصولية مزعومة، لم يكن لها أي دور أو تمثيل في الثورة، ولم تحرك أحداثها وتوجه احتجاجاتها. بدورها، سارعت المعارضة إلى ربط نتائج الصراع الداخلي بأدوار القوى الخارجية، الدولية والإقليمية والعربية، لاعتقادها أن ما حدث في ليبيا سيتكرر في سورية، وإن تدخل الخارج سيغير موازين القوى لصالحها، على غرار ما وقع هناك، فلا حاجة لإضاعة الوقت في التركيز على تعبئة الداخل وتنظيمه، فهو ليس الساحة التي ستتعين نتائج الصراع بأوضاعها، ولا بد من وضع المسألة الداخلية تحت رعاية "أصدقاء الشعب السوري"، وترتيب أمورها بطريقةٍ، تشجع هؤلاء عامة، وأميركا منهم خاصة، على التدخل المفتوح فيها، ما دام انتصار الشعب المطالب بحريته مرتبطاً بتدخله. لا عجب أن وقع يوم تأسيس "المجلس الوطني" حديث صريح عن دبابات وطائرات التدخل التي ستدمر جيش الأسد، وتسقط نظامه، مثلما حدث في ليبيا.
لا بد، هنا، من لفت الأنظار إلى فارق مهم بين رهاني النظام والمعارضة على الخارج، ففي حين سعى النظام إلى حل خارجي، يتعين بقواه الخاصة وقدراته الذاتية والمستعارة، وصرف جل اهتمامه لتنظيم أتباعه حتى آخر فرد، وأقام تنظيمات جديدة مقاتلة وقمعية، واستمات لكسب كتل الشعب المحايدة، الكبيرة العدد، وأقام "حلف مذعورين"، ضم كل من استطاع إيهامه بأن خطر القتل والتصفية يحيق به، وإن نجاته مستحيلة من دون حماية الأجهزة الأمنية والجيش الفئوي، ومشاركته الفردية في مقاتلة بقية شعبه التي تستحق الموت، لأنها" طائفية" ومتخلفة، وتخوض معركة مذهبية، لا علاقة لها بما تدعيه من رغبة في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة. باختصار، وحد النظام داخله السلطوي وحقله السياسي، ومنع أي خروج، مهما كان بسيطاً على الحل الأمني/ العسكري الذي تبنته قيادته، وقتل بلا رحمة كل من حاد عنه، بمن في ذلك بعض كبار قادته.
في مقابل هذا النهج السلطوي، أبقت المعارضة على خلافاتها وتناقضاتها وانقساماتها وأنزلتها إلى الشارع، قبل أن تنقسم إلى فصيلين: واحد يريد الحرية وآخر معاد لها. وأهملت الداخل السوري وحراكه المجتمعي ووحدته، وأحجمت عن تعبئة قواه، على نحو يتمسك معه بمطلبه الرئيس "الحرية لشعب سورية الواحد". وبدل أن تطور خطاً سياسيّاً يقود الشعب الثائر، ويوحده وراء سياسات وبرامج تقدم أجوبة واضحة على أسئلته، سارت وراء عوام المناطق السورية الأكثر جهلاً وتأخراً، وتبنت انفعالاتهم الدينية والمذهبية، وميلهم إلى العنف، ولم تفكر في اتخاذ موقف نقدي، أو تصحيحي، من وعيهم الشقي الذي ما لبث أن ترجم، خلال وقت قصير نسبياً، إلى مواقف متضاربة، سقطت في جميع أنواع الفخاخ التي نصبها النظام لها. لم يغيّر شيئاً من هذه السياسة سقوط وهم التدخل الخارجي، ووقوف الخارج في واد والمعارضة في آخر، وما بيّنته الوقائع من تناقض بين حساباته التي تخلو أولوياتها من مصالح شعب سورية وثورته في سبيل الحرية، وتلاحق مصالح تتعارض معها، تركّز على حسم صراعات دولية وإقليمية، طمست الثورة وحجبتها، ولعبت دوراً لا يستهان به في إطالة عمر النظام، بعد أن حولت سورية إلى ساحة استقدم إليها جميع أنواع المجرمين السياسيين والأصوليين الذين أكد سلوكهم أنهم ليسوا غير أدوات تستخدم في تصفية حسابات دولية وإقليمية وعربية، بدماء ثائرين سوريين، لم يكونوا يوماً طرفاً فيها، لكنهم شرعوا يدفعون ثمنها الباهظ بعد أشهر قليلة من نشوب ثورتهم، من دون أن تقوم الجهات التي تدعي تمثيلهم بأي رد فعل على ما يجري، أو تعيد النظر بالتعويل على خياراتها الخارجية الوهمية التي ربطتها بقوى تقف وراء الموت اليومي لمن يفترض أنها تمثلهم، بدل أن تنفك عنها، وتؤسس أوضاعها الذاتية بطرق ترغمهم على أخذها بالحسبان في سياساتهم.
"لو أخذنا الجيش الحر مثالاً لأفزعنا ما يعيشه من تدهور في مكانته ودوره، وتحوله المضطرد إلى جهة هامشية"
لم تراجع المعارضة حساباتها، بل فعلت العكس: كثفت سيرها في اتجاه رجح، بصور متنوعة ومتعاظمة، وزن الخارج ودوره على وزن ودور الداخل الذي تراجع، حتى غدا أي إجراء يتم فيه مرتبطاً بإرادة خارجية ما، وبلغ الكذب على الذات حداً جعل أتباع هذا النهج المدمر يزعمون أن أي نجاح تحرزه الثورة يعكس فاعلية علاقاتهم الخارجية وقوتها. لم ينتبه هؤلاء إلى الواقع، وهو أن الثورة كانت تتراجع أمام النظام، ومن استقدمهم من غزاة اجتاحوا وطننا، وقضوا على استقلاله، حتى ليمكن القول: إن الجهات التي تمثل الثورة، وتحمل قيمها، وتعبر عن طموحاتها، كانت تتلاشى بسرعة. ولو أخذنا الجيش الحر مثالاً لأفزعنا ما يعيشه من تدهور في مكانته ودوره، وتحوله المضطرد إلى جهة هامشية، تغرق في بحار أصولية تستنزفه بالقتل والمال، بينما يعاني "الائتلاف" من هشاشة علاقاته مع الداخل، ويفقد دوره فيه، ويجد نفسه أمام مآزق يعالجها بالمبالغة في توجهه الخارجي، كأنه يرفض رؤية حقيقته الذاتية، وهي أنه صار مجرد ورقة بين أوراق الخارج، لن تستطيع الابتعاد عنه، من دون الاستناد إلى أرضية داخلية صلبة، مستقلة ومنظمة.
سيكون من المستحيل حسم الصراع السوري بالاعتماد على الخارج. فهل تغيّر المعارضة، أخيراً، أولوياتها، وترى الخارج بدلالة الداخل السوري الذي يتوقف انتصار الثورة على إعطائه أولوية مطلقة في عملها، باعتباره المكان الذي يفضي تنظيمه وسد ثغراته إلى تحقيق هدفيها، إسقاط النظام وإجبار قوى الخارج، المتصارعة بدماء السوريين، على احترام إرادتهم وحقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم.
بعد أعوام ثلاثة مفعمة بالخيبة، وبعد ما بلغه الداخل من ضعف، تكثف المعارضة أخطاءها بتكثيف علاقاتها مع الخارج، والابتعاد عن موضوع يجب أن يحظى باهتمامنا هو: جعل الداخل أولويتنا المطلقة ساحة للصراع ومكاناً للحسم. هل تأخرنا؟ نعم، تأخرنا كثيراً. ولكن، يبقى السؤال مطروحاً، أليس من الأفضل لنا أن نصل متأخرين، وننقذ ما يمكن إنقاذه، من أن لا نصل أبداً، ونخسر كل شيء، اليوم قبل الغد.