صرح أمس الثلاثاء وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند في مجلس العموم، بأنه قلق حيال التنسيق بين قوات كردية سورية، مع نظام بشار والقوات الجوية السورية.
بينما ما زال الأميركان في غياب رؤية تام، من خلال التأكيد على براءة الميليشيات الكردية التابعة لصالح مسلم، نسخة حزب العمال الكردي، في تركيا، فقط لأن قوات صالح مسلم، ومعه أخلاط مسيحية وعربية للتطعيم الديمقراطي الذي «يبهج» الغرب والأميركان، تقاتل «داعش»، وفقط.
حينما تقدمت الميليشيات الكردية، التي تنسّق مع الروس والأسد، حسب وزير الخارجية البريطاني، وليس الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، لمواقع حساسة شمال حلب، قاصدة بلدة أعزاز الاستراتيجية للتواصل التركي مع سوريا، تدخلت المدفعية التركية لتصويب الوضع. وقال الأتراك حينها «سنفعل كل شيء لإحباط هذا».
الروس يعرفون ماذا يفعلون، وكذا الأسد، والأتراك يعرفون ماذا يراد بهم، بقي الأميركان يحلقون في العماء.
سالت أحدَ الخبراء بتركيبة بلاد الشام التاريخية عن الصورة النهائية التي يسعى لها الروس، ومعهم إيران والأسد حاليا.
أجابني: يريدون فصل تركيا عن المحيط السني العربي والتركماني في سوريا، من خلال خلق كيان كردي يمتد من أقصى الشمال الشرقي السوري بالحسكة، لأقصى الشمال الغربي بحلب، بما يعنيه ذلك من تهجير سكاني.
صاحبي يصرّ على أن الأميركان يعرفون بالضبط هذا المغزى، وليسوا ضده، وأن هناك جوانب خفية من الاتفاق النووي الإيراني الغربي، تتعلق بالديموغرافيا والجغرافيا في منطقة الشرق الأوسط، لصالح إيران وحلفاء إيران، ضد العرب والسنة.
لست واثقا تماما من إدراك الأميركان لهذه الأبعاد الخطيرة، عطفا على اعترافات متأخرة من قبل نخب أميركية بكارثية التقديرات والسياسات التي انتهجها الرئيس أوباما، حيال التطورات في منطقتنا ضمن الخمس سنوات الأخيرة. ومن هؤلاء المعترفين الكاتب «الأوبامي» الشهير ديفيد إغناتيوس قبل أيام حول سذاجة التقدير الأوبامي حول ما جرى في برّ مصر يناير (كانون الثاني) 2011.
في العقد الأخير، لاحظنا تبلد الغرب وفي مقدمه أميركا تجاه تحذيرات أهل المنطقة من مجرى الأمور، ومن خطورة الوضع، ومآلاته الأمنية، كما حذر الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز من مصيبة التخاذل الدولي في سوريا، بعد إخفاق مجلس الأمن في إخراج قرار يقي سوريا ما حصل لها، ويحصل هذه الأيام.
هل كانوا بلداء، أم كانوا يخططون عن وعي لهذا المصير؟
لك أن تختار ما تشاء من الإجابات، أنا أميل إلى أن الجزء «الغالب» وليس الوحيد في خطأ السياسات الأميركية مؤخرا، هو في السذاجة. وشيء قليل من التذاكي. والله المستعان.
قال مسؤول غربي مخضرم تعليقًا على السياسة الأميركية: «إن من يحفظ (رأسه) من دول الشرق الأوسط هذا العام، من دون التورط في حرب، يُكتب له عمر جديد. المهم أن يمر عام 2016». قد ينطبق هذا التحذير على بلدين بالذات: تركيا ولبنان.
ذكر تقرير أميركي أن «وحدات حماية الشعب» (كردية) تحصل على السلاح من «البنتاغون»، وهي تقاتل أطرافًا من المعارضة السورية تحصل على أسلحة ودعم من وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)!
حول هذا الأمر، يقول الكولونيل ستيف وارن المسؤول عن محاربة «داعش»، ومقره بغداد، إن واشنطن تحاول إقناع كل الأطراف شمال غربي سوريا بأن تركز على العدو الأهم وهو «داعش»، الأخطر على العالم كله. ويضيف أن واشنطن تعرف أن حلب مشكلة معقدة، لكنها تريد من الكل أن يدركوا أنها «مجرد قطعة صغيرة من الأرض بالمقارنة مع التحدي السوري الكبير»!
لكن الوضع خطير جدًا، فالمسألة الكردية في سوريا قد تكون نقطة الاحتكاك التي تشعل شرارة حرب في المنطقة.
الأسبوع الماضي، أمضى الرئيس الأميركي باراك أوباما ما يزيد على الساعة على الهاتف، مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، يطلب منه عدم التصعيد. ويتساءل الأتراك: لماذا لا يضغط الأميركيون على الأكراد؛ فهم طلبوا منهم عدم استغلال الوضع واحتلال المزيد من الأراضي، لكن الأكراد لم يصغوا للأميركيين. ويقول العسكريون الأميركيون إنه لا خيار أمامنا سوى دعم الأكراد.
أيضًا، ومنذ أكثر من شهر والطيران الروسي يساعد المقاتلين الأكراد على إبعاد المقاتلين الإسلاميين عن قاعدة «منغ» الجوية في حلب، التي أصبحت الآن تحت سيطرة الأكراد.
الصورة الغريبة أن الروس الذين يقاتلون إلى جانب الرئيس السوري يرون في علاقتهم بأكراد سوريا نوعًا من «الزواج الملائم» لكن أكراد سوريا مرتبطون بأكراد تركيا (حزب العمال الكردستاني)، ويريدون التحكم بمنطقة على الحدود التركية تمتد ما بين 70 إلى 80 كيلومترًا، وصاروا يتقدمون صوب مواقع «الجيش الحر». تركيا لن تسمح للأكراد بإقامة إدارة كردية على طول حدودها، وباقتطاع المنفذ على الحدود من أعزاز إلى حلب، لهذا جرى الحديث أخيرًا عن حرب برية بحيث يمكن عندها إقامة الملاذ الآمن الصغير الذي تطالب به تركيا منذ أكثر من 4 سنوات. أمام هذا التوتر، أشار جون كيري وزير الخارجية الأميركي، مساء الأحد الماضي، إلى قرب التوصل إلى اتفاق مبدئي لوقف إطلاق النار يبدأ ليل الجمعة - السبت المقبلين. لكن يبقى الأمر أن المسألة الكردية في سوريا قد تؤدي إلى انفجار، ثم إن روسيا وتركيا في حالة صدام مع ما قد يتأتى عن هذا الصدام من تداعيات خطيرة.
نُقل عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد إسقاط تركيا طائرة «السوخوي» أنه سيجعل إردوغان يندم عدة مرات على هذا الفعل. وحسب مصادر روسية مطلعة، فإن هدف الروس هو إغلاق الحدود التركية بمساعدة الأكراد السوريين، عندها تخنق روسيا المعارضة السورية، وتستعيد حلب وإدلب، وتتجه نحو الجنوب صوب الحدود الأردنية، بعدها تبدأ التفكير بقصف «داعش». هذا السيناريو لن تقبل به تركيا بكل تأكيد، ولن تقبل أن يتمدد الأكراد على حدودها مما يهدد أمنها القومي، وقد تتدخل بريًا، ولن يكفي اتصال هاتفي من واشنطن لوقف التدخل. وربما لا تزال واشنطن متمسكة بما وصل إليها خلال الصيف الماضي - قبل التمدد الكردي - وهو أن إردوغان كان يضغط على الجيش التركي كي يدخل إلى سوريا ويقيم ملاذًا آمنًا، لكن الجيش رفض ذلك.
يقول كريستوفر هيل السفير الأميركي السابق لدى العراق، ومهندس «اتفاقية دايتون» في البوسنة، إن الوضع قد يتفاقم على الحدود، وهذا سيكون له تداعيات على أميركا، فتركيا عضو في الحلف الأطلسي الذي سيُطلب منه دعم تركيا.
والكابوس الذي تتخوف منه إدارة أوباما هو أن ترى قوات الأطلسي داخل الحدود السورية تلاحق أكراد سوريا. يقول هيل: «الوضع يتعقد ويستدعي جلوس قوى خارجية حول الطاولة لترسم أي سوريا ستكون في المستقبل، فحتى الآن لم يُبذل أي جهد لفعل هذا».
يقول مصدر روسي إن الوضع خطير، ويجب النظر إلى الصورة الكبرى، قد تحصل مواجهة حقيقية بين القوات الروسية والتركية. وفيما يشبه المبالغة يحذر من أن التصاعد قد يصل إلى البحر الأسود والقوقاز وأرمينيا وربما كاراباخ وأذربيجان. ويلفت إلى أن الوضع الآن يشبه تمامًا حرب 1973 بين العرب وإسرائيل، عندما كادت الحرب تصبح حربًا أميركية - سوفياتية، لذلك يدعو إلى إبعاد أنقرة وموسكو عن المواجهة المباشرة «بأي ثمن».
لكن، إذا تدخل الجيش التركي ليبعد أكراد سوريا عن حدود بلاده، لماذا قد يصل الأمر إلى مواجهة مباشرة مع الروس؟ يجيب: «لن يدخل الجيش التركي من دون غطاء جوي، فماذا يحصل إذا أسقط الروس طائرة تركية؟».
لا يستبعد الأميركيون احتمال حرب روسية - تركية، وفي هذه الحالة سيكون الوضع خطيرًا جدًا، لذلك عليهم أن يدفعوا الأكراد إلى التراجع، لكن، حسب تجربة هيل، من الصعب دفعهم إلى التراجع عندما تتسنى لهم الفرصة.
من ناحيتها، لم تعد تركيا الآن مهتمة ببقاء أو رحيل الأسد.. الأولوية لديها ألا يكون للأكراد أراض متصلة بعضها ببعض على طول حدودها مع سوريا، فهذه برأيها ستتحول إلى ملاذ آمن وربما نقطة انطلاق لمقاتلي «حزب العمال الكردستاني». روسيا تعرف ذلك، وقد تكون هذه وسيلة لفتح الباب أمام تخفيف حدة التصعيد.
المشكلة الراهنة أن الحكي مقطوع بين موسكو وأنقرة، لهذا يتذكر مراقبون سياسيون في لندن دور هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي السابق. يرى هؤلاء أن هناك حاجة لـ«دبلوماسية المكوك»، ويرد اسم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كالمؤهلة للقيام بمهمة بين أنقرة وموسكو عبر الضغط على الطرفين للتخفيف من حدة الوضع المتأزم.
يسترجع المصدر الروسي ما أدت إليه «دبلوماسية المكوك» في هضبة الجولان. لم يتم حل المشكلة بل تجميدها، ولا يزال الوضع هادئًا منذ عام 1973. من جهتهم، يشكو الأوروبيون من أن الأميركيين لم يظهروا قيادة حقيقية، يكتفون بما ردده الرئيس أوباما من أن الروس إما سيغرقون في المستنقع السوري أو أنهم سيدركون أنهم يرتكبون خطأ. إلا أن هذا الخطأ قد يتسبب بحرب تتورط فيها كل أوروبا، وهم - الأوروبيون - يستبعدون أن يصل الأمر بروسيا وتركيا إلى حرب، فالدولتان تحتاج إحداهما للأخرى لأمور أكثر أهمية، اقتصادية وجيو - سياسية داخل آسيا الوسطى والقوقاز. ثم إن موسكو حذرت إسرائيل من محاولة التفكير ببيع الغاز لتركيا، فالسوق التركية للغاز الروسي. لذلك فإن المغامرة مكلفة جدًا «وستكون هناك محاولات لتخفيف التصعيد».
يوم الاثنين الماضي، قال البيت الأبيض إن وقف إطلاق النار الجديد هو خطوة لدفع المفاوضات نحو تغيير سياسي في سوريا، قد يكون هذا هو المطلوب، لأنه يجب أن يتكون إدراك موحد عما سيكون عليه المستقبل في سوريا. هل ستبقى ضمن حدودها المعروفة، هل ستكون دولة فيدرالية؟ أو عدة دول؟
تتوفر الآن فرصة حقيقية لمعالجة الوضع بدل الحديث عن اتفاقات محلية لوقف النار، كما يريد الأسد، أو الحديث عن الانتخابات (حدد موعدها يوم 13 أبريل/ نيسان المقبل، إثبات جديد على أن الأسد يعيش في عالم وهمي). من الأفضل الحديث عن الترتيبات السياسية المستقبلية للدولة السورية، مع الأخذ في الاعتبار أخطار المواجهة التركية - الروسية، قد يكون حان الوقت للحديث عن مستقبل سوريا وعن تحالف دولي لإلحاق الهزيمة النهائية بـ«داعش».
كان مطمئنًا لتركيا ما ورد في الاتفاق الروسي - الأميركي لوقف الأعمال العدائية في سوريا: إحالة سلوك غير الممتثل من قبل أي من الأطراف إلى وزراء المجموعة الدولية لدعم سوريا لتحديد الإجراء المناسب، بما فيه استثناء هذه الأطراف من ترتيبات الهدنة، وما توفره لهم من حماية!
تسود قناعة الآن لدى معظم العرب، على صعيد الدول وعلى صعيد بعض الشعوب، وربما حتى وبعض الدول الأوروبية وأيضًا لدى بعض الأميركيين، أنَّ الولايات المتحدة باتت على وشك التخلي عن اعتبار أن الشرق الأوسط منطقة مصالح حيوية واستراتيجية، وأن اهتمامها الأول والرئيسي يجب أن ينتقل إنْ ليس مرة واحدة فتدريجيًا إلى الشرق الأقصى، حيث الانتعاش الاقتصادي، وحيث أعداد السكان المتزايدة، وحيث الصين الدولة الصاعدة كسهم منطلق من قوس مشدودة الوتر من الممكن أن تستحوذ على كل شيء إذا بقيت أميركا غارقة في إشكالات ومشكلات دول شرق أوسطية متناحرة تنخرط بصراعات عبثية مذهبية ودينية وعرقية، وأيضًا قبلية، يبدو أنه لا نهاية لها في المدى المنظور!
ولهذا فإن أصحاب وجهة النظر هذه يصل اعتقادهم حتى حدود اليقين المؤكد بأن هذا التوجه لا يقتصر على «الديمقراطيين» وحدهم، بل يمتد إلى «الجمهوريين» أيضًا، وعلى الولايات المتحدة بمن سيحكمها إنْ على المدى القريب أو في الفترة الأبعد. وحقيقة، إنَّ من ينظُر إلى الأمور من زاوية السياسات التي اتبعتها واشنطن تجاه قضايا الشرق الأوسط الملتهبة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية خلال الأعوام السبعة الماضية، لا بد أن يقترب من هذا الرأي الآنف الذكر، القائل بأن اهتمام أميركا بهذه المنطقة بدأ بالانحسار التدريجي، وأنه قد ينتقل بثقله الرئيسي إلى الشرق الأقصى وإلى الجزء الجنوبي - الغربي من أفريقيا، بالإضافة إلى أميركا اللاتينية.
وحتى بالنسبة إلى الجمهوريين فإن القائلين بأن الولايات المتحدة باتت مصممة إنْ ليس على «الرحيل» عن هذه المنطقة، ونقل اهتمامها إلى أمكنة أخرى، فعلى تهميش وتخفيف وجودها في هذا الشرق الأوسط الملتهب بأكثر من أزمة طاحنة، يعتبرون أنَّ إدارة بوش الابن من خلال تسليم العراق، الذي احتله الأميركيون بـ«غزو» عام 2003، تسليم اليد إلى إيران التي باتت تحتل بلاد الرافدين احتلالاً كاملاً، سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا، قد أعطت المؤشر الكافي والدليل المُقنع على أنَّ هذا الانكفاء الأميركي بالنسبة لهذه المنطقة الشرق أوسطية وشؤونها وشجونها هو سياسة أميركية مركزية وعامة لا تقتصر لا على الرئيس باراك أوباما وحده ولا على إدارته وسياساتها الخارجية التي لم تكن عاجزة ولا في أي يوم من الأيام كما هي الآن.. في المرحلة الحالية.
وحقيقة، إنَّ ما يعطي وجهة النظر هذه الآنفة الذكر ولو بعض الصحة وبعض المصداقية هو أن تَرْكَ الرئيس بوش الابن، من خلال موفده بول بريمر، كل المجالات لإيران، الحالمة باستعادة ما يسمى «أمجاد فارس» القديمة، لاحتلال العراق وعلى هذا النحو وبهذه الطريقة يعني أن تراجع الاهتمام بالشرق الأوسط، قياسًا بما كان عليه الوضع في عهد الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة وصراع المعسكرات، قد يكون توجهًا أميركيًا كليًا وعامًا وليس توجه باراك أوباما وإدارته فقط، ولا توجه الحزب الديمقراطي الذي أرسل بوزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلينتون إلى حلبة السباق للبقاء في البيت الأبيض مرة ثالثة.. وأيضًا ربما رابعة.
لقد كانت خطوة الانسحاب العسكري من العراق، العاجلة والسريعة والكيفية التي أقدم عليها باراك أوباما دون أي ترتيبات أمنية وسياسية وعسكرية تضع الأمور في هذا البلد، الذي هو بلد عربي، في أيْدي أبنائه وتخرجه من يد إيران التي هي دولة محتلة بكل معنى الاحتلال ومواصفاته؛ هي أول دلالة على عزمه على تقليص اهتمام وانشغال الولايات المتحدة بالشرق الأوسط وبقضاياه وأزماته الملتهبة، وبالتالي الانسحاب تدريجيًا، وعلى أساس خطوة بعد خطوة، وحقيقة أن هذا قد أصبح مؤكدًا وواضحًا كل الوضوح بعد إبرام صفقة القدرات النووية مع الإيرانيين التي ثبت كَمْ أنها كانت صفقة خطيرة ومؤثرة، بالنسبة للعرب تحديدًا، بعد إطلاق يد دولة الولي الفقيه في العراق وفي سوريا وإفساح المجال أمام روسيا «القيصرية» لتحتل هذا البلد العربي احتلالاً كاملاً يشبه أسوأ احتلالات القرن العشرين والقرون التي سبقته بصفقة رخيصة ستكشف الأيام المقبلة كم أنها كانت صفقة تآمرية.
عندما تتخلَّى الولايات المتحدة في أواخر عهد هذا الرئيس، الذي يصفه الأميركيون أنفسهم بأنه أضعف رئيس مرَّ على البيت الأبيض، عن تركيا العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي التي هي الحليف الأهم والأقدر والأقوى للغرب كله في الشرق الأوسط الذي هو المنطقة الاستراتيجية بالنسبة لهذا الغرب التي ستبقى استراتيجية إلى الأبد وتبادر للعب دور الوسيط المتخاذل والمتواطئ بينها وبين روسيا «القيصرية»؛ أفلا يعني هذا أن أميركا قد تخلت عن أصدقائها وحلفائها لمصلحة الذين من المفترض أنهم أعداؤها سابقًا ولاحقًا والآن وفي المستقبل.
ثم وعندما تطْلب الولايات المتحدة، على لسان رئيسها ولسان وزير خارجيتها، من روسيا أن «تضغط» على بشار الأسد لوقف «الأعمال العدائية» في سوريا استجابة وتطبيقًا لقرارات ميونيخ وقرار مجلس الأمن الدولي رقم «2254»، ويطلب باراك أوباما من فلاديمير بوتين «المساعدة» في حل الأزمة السورية.. ألا يعني هذا أنها، أي الولايات المتحدة، تضع نفسها على الحياد بين روسيا، وبين تركيا الدولة المُعتدى عليها والعضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي الذي من المفترض أن أميركا لا تزال هي التي تقوده، وعلى اعتبار أنها هي القوة الرئيسية فيه.
هل يعقل يا ترى أن تقف الولايات المتحدة هذا الموقف المخزي والمتخاذل إزاء تدخل روسيا، المتحالفة مع إيران.. ومع كل هذه الشراذم المذهبية والطائفية المستوردة من دول كثيرة قريبة وبعيدة لسوريا الدولة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط التي كانت ولا تزال، وهي ستبقى استراتيجية إلى الأبد، لولا أنها باتت تفكر في عهد هذه الإدارة الهزيلة بالمغادرة، أو على الأقل بتخفيف وتهميش وجودها في هذه المنطقة، وهي تعرف أن الطبيعة تكره الفراغ، وأن الذي سيحل محلها هو موسكو التي يحلم فلاديمير بوتين باستعادة مكانتها العالمية في العهد القيصري وفي عهد الاتحاد السوفياتي الذي كان منافسًا فعليًا للمعسكر الغربي في كل مكان من الكرة الأرضية.
وهكذا فإن السؤال الذي سيبقى مطروحًا إلى أن تأتي الأيام المقبلة فيما تبقى من أيام من عام معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية بالإجابة عنه هو: هل يا ترى أن الإدارة الديمقراطية المقبلة، هذا إنْ فاز الديمقراطيون بهذه الانتخابات، ستسير على خطى الإدارة الحالية؟ وهل أن الجمهوريين إن هُم فازوا سيسيرون على الطريق الذي سار عليه أسلافهم بالنسبة للشرق الأوسط وأزماته المتفجرة؟!
إن الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر هذه المنطقة منطقة مصالح حيوية واستراتيجية، إنْ بالنسبة إليها أو بالنسبة لغيرها، وأن الأفضل لها أن تنقل اهتمامها إلى الشرق الأقصى وإلى أميركا اللاتينية وإلى أفريقيا، ولذلك فإنها باتت تتصرف مع الأزمة السورية بكل عدم المبالاة هذه وبهذه الطريقة المثيرة لكثير من التساؤلات والأسئلة.
قد يكون من العبثية متابعة الساعة و البدء بعد الساعات المتبقية أمام الهدنة المرسومة من قبل الروس و الامريكان التي ستبدأ بعد ٢٤ ساعة تقريباً ، وسط غموض يخيم على الأجواء سواء من قبل الراسمين أن من قبل المعنيين بها .
رمى نظام الأسد في البركة اول الحجرات التي تنبئ أن ما سيحدث هو قتل علني و منظم ، بشكل لن يحظى بأن رفض أو استنكار من أحد ، و إنما سيتم تلافي مسالب التجربة الروسية طوال الشهور الأربعة الماضية ، و الدخول بحرب الابادة النهائية بقرار من مجلس الأمن يتم التحضير له على عجل و يتوقع صدوره مساء الغد قبل وقت قصير من الهدنة ، يقضي بالزام الجميع بالهدنة وفق مفهومها الروسي الأمريكي ، و كل ما سيحدث في هذه الهدنة المحددة لمدة اسبوعين عبارة تطبيق دقيق للاتفاق ، و كل ما سيتم استهدافه هو "ارهابي" تابع لاحد ما داعش أو نصرة أم مجموعات ارهابية .
يحصد المتابع للمتواجدين على الأرض المحررة في سوريا كم هائل من اليأس ، ما يكفي لأن يغتاله شعور بأنهم مودعون في القريب العاجل ، ويلتمس في بحة صوت الأهل في الداخل أنهم باتوا على لوائح الموت الدولية كمجرمين و متمردين أمام نظام شرعي يجب أن يستعيد كل الأمور و المقاليد ، ولامكان للتخلي عن شبر واحد من الأرض ، خلافاً لألعوبة "التقسيم" التي تم العزف عليها طوال السنين الماضية .
رغم سوداوية المشهد ، و ازدياد قتامته مع ادراج داريا ضمن قائمة الازالة ، لايزال هناك بعض العابثين هنا و هناك يعزفون على وتر التدخل و قلب الطاولة في اللحظة المناسبة و اعادة الأمور لمجراها لتصل لخواتيمها المتمناة ، ولكن هذا الكلام الذي بات من الماضي و عبارة ثغاء لايجدي و لاينفع ، فالجميع ظهر على حقيقته و حجمه الطبيعي ، و بات من يشاركهم ذات الرؤى و يجلس على قارعة الانتظار ، شريك بشكل أو بآخر .
في هذه الليلة التي من المفروض أن تكون الأخير ، تملئ سماء الشمال حالياً أكثر من ١٥ طائرة حربية روسية و مثلها تتجول في حمص و دمشق و درعا ، باحثة عن أي حركة ، و ترصد و تحضر لمابعد بدء الهدنة ، التي تنذر بأنها ستكون "هدمة" لما تبقى من حجر و بشر ، لتسليمها للنظام ليتابع سلطته على ركام و أشلاء شعب بأكمله .
حديث وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، عن تأييده لدعم المعارضة السورية بصواريخ أرض جو أعطى أملاً كبيرًا من أجل تصحيح كفة الحرب التي شهدت انقلابًا سيئًا لصالح نظام دمشق وقوات إيران وروسيا في الآونة الأخيرة. الأمل هو في إنهاء الحظر المفروض على «الجيش الحر»، كمعارضة معتدلة، حتى يتمكن من حماية مناطقه، ومواجهة عمليات القتل والتشريد الواسعة التي تستهدف المدنيين ضمن مشروع واضح يهدف إلى تغيير الخريطة الديموغرافية في سوريا. وثانيًا، دعم المعارضة من أجل إجهاض مشروع فرض حل سياسي في المفاوضات، التي على وشك أن تبدأ، يهدف للإبقاء على بشار الأسد ونظامه رغم الجرائم التي ارتكبها.
ولأنه لن تتدخل قوات تركية، أو عربية، أو دولية لحماية الشعب السوري الأعزل في مواجهة قوات نظام الأسد وإيران، والقوات الروسية المتفوقة عسكريًا، يبقى الحل المعقول هو رفع قدرات مقاتلي المعارضة بالأسلحة النوعية التي طالما حرموا منها لأسباب مختلفة، بعضها بداعي الخوف من أن تتسرب منهم وتقع في أيدي تنظيم إرهابي مثل «داعش»، التي غالبًا سيوجهها بالاتجاه الخاطئ.
ولا أتصور أن الحكومات الموالية للمعارضة ترغب في توسيع دائرة الحرب، ولا الخروج عن قواعد الاشتباك المتعارف عليها مسبقًا، بحيث لا تمتد إلى تركيا، أو تدفع بالروس بشكل تام في صف الإيرانيين وحلفائهم. لهذا تحدث الوزير الجبير عن صواريخ تستهدف الطائرات ثم حدد بأنها تستهدف التي ترمي البراميل المتفجرة، وتقصف الأحياء المدنية بالغازات والمواد الكيماوية المحرمة، المسؤولة بشكل كبير عن إلحاق الدمار الرهيب بالمدن.
إنما الوضع الجديد صار أخطر على أرض المعركة من ذي قبل بما يفرض إعادة النظر في تلك السياسة الحذرة. والمعارضة الوطنية السورية لا تزال قادرة على تغيير كفة الحرب لو مكنت من صواريخ أرض جو، وزودت بالمزيد من الصواريخ ضد الآليات المدرعة، مع المعلومات الاستخباراتية.
ويجب ألا نقلل من حجم الدعم الذي يرد من دول المنطقة، ونادرًا ما يعلن عنه، لدعم المعارضة السورية، لأنه لعب، ويلعب دورًا فاعلاً في بقاء ونجاح المعارضة المعتدلة في وجه قوات النظام، وكذلك في وجه التنظيمات الإرهابية. فمنذ شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي بعد دخول الروس عسكريًا في صف الأسد، والتقارير المستقلة تؤكد نجاح المعارضة السورية في تدمير أعداد أكبر من الآليات السورية المدرعة بأكثر مما حققته في السنوات الماضية، بعد حيازتها المزيد من الصواريخ النوعية. وهذا يفسر التوازن الذي استمر على الأرض على الرغم من نجاح الروس في تدمير مناطق كانت دائمًا أرضًا معتمدة للمعارضة.
ولو أن ما طرحه الوزير الجبير يتحقق بتسليح المعارضة سواء بالصواريخ الصينية، إن لم تتوفر الأميركية، لاستهداف طائرات النظام السوري ومروحياته، وإجبار الطائرات الروسية على طلعات أقل وعلى ارتفاعات أعلى تجنبًا للصواريخ، فإن هذا سيصب في مصلحة التعجيل بالحل السياسي الوسط المقبول لمعظم الأطراف.
فقد كانت من الحجج التي سيقت لرفض تزويد المعارضة بصواريخ أرض جو، هي الخشية من تكرار تجربة صواريخ «ستينغر» الأميركية التي تسربت من أفغانستان بعد مواجهة القوات السوفياتية، واستخدمت لتهديد الدول التي اشترتها وزودت بها المعارضة الأفغانية، مثل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، وتم الإمساك بكثير منها في حوزة تنظيم القاعدة. والشك مبرر في أن المعارضة السورية، بما فيها المعتدلة، قد تكون مخترقة من قبل النظام السوري، أو الجماعات الإرهابية، أو أن يحدث بين صفوفها تمرد على التعليمات المشددة حول طبيعة الأهداف المسموح بضربها عند استخدام هذه الصواريخ. وقد دار نقاش متكرر حول هذه المحاذير، منذ ارتفاع نشاط الحرب في سوريا قبل ثلاث سنوات، وطرح عسكريون في المعارضة المعتدلة فكرة أن يتم ضبط هذا النوع من الأسلحة برقائق إلكترونية تحد من استخدامها في غير أغراضها، وقيل لهم إن هذا غير مضمون وغير كاف. كما طرح اقتراح بأن توضع الصواريخ في عهدة نخبة من المعارضة، تحت إشراف عسكريين من دول لها وجود استخباراتي معهم على الأرض. أيضًا، رفض هذا الاقتراح بحجة أنه غير مقنع.
لكن الحرب تمددت، وصارت أخطر على عموم الشعب السوري، وعلى الدول المجاورة، وبلغت مخاطرها أوروبا. فالروس يمنحون قوات النظام الغطاء الجوي للزحف نحو الحدود التركية، والإيرانيون بدعم الروس جوًا، أيضًا تقدموا جنوبًا واستولوا على بلدة الشيخ مسكين، وما حولها، بما يهدد أمن الأردن. وهنا لا يمكن الاكتفاء بالاتصالات السياسية لوقف دائرة الخطر، ولا بد من تعديل كفة الحرب مرة أخرى حتى تميل لصالح المعارضة المعتدلة، في وقت تجتمع القوى الكبرى، والأخرى المعنية بالصراع في جنيف من أجل إقرار مشروع سياسي، وفق توازنات الوضع الحالي، يقرر مستقبل سوريا. وبين التورط في الحرب في سوريا ضد قوات النظام السوري وإيران وروسيا من جهة، وبين تعزيز وضع المعارضة عسكريًا ومعلوماتيًا، فإن الخيار الثاني يبدو أهون الخطرين وأكثرهما استعجالاً.
يشكل التوافق الروسي - الأميركي على إعادة صياغة مقاربات الأزمة السورية، ميدانياً وديبلوماسياً، دينامية تغيرية تمس عمق مكونات الأزمة الداخلية وترابطاتها الإقليمية والدولية، في محاولة تهدف إلى تغيير مفاعيلها وتأثيراتها، وتستند عدة هذه الصياغة الجديدة على تصورات نظرية وافتراضية في مجملها، من دون مراعاة ثقل وأوزان العناصر التي تشكّل المحركات والحوافز الأساسية للأزمة، والتي أنتجت الديناميات التي تكفّلت باستمرارية اشتغالها على مدار السنوات السابقة وتنذر باستمرارها في الزمن المقبل. تشتمل المقاربة المستجدة، روسياً وأميركياً، على إجراء تحويلات قسرية وسطحية على شكل الصراع وجوهره، تشمل تغيير ديناميات اشتغاله، الظاهرة، أو ما يعتقد الطرفان بأنها بالفعل دينامياته الحقيقية، عبر تقييم نظري يقوم على قراءة الأزمة من زاوية محددة ومن ثم تخريج الوسائل المناسبة لإدارتها والتي تتطابق حتماً مع ذلك التقييم، وتتمثل خلاصات هذا التقييم بالآتي:
- اعتبار الأزمة مشكلة إقليمية بين دول تتصارع على النفوذ وتغذّي أطراف الأزمة، وبالتالي استند تفاهم فيينا، الذي بني عليه قرار مجلس الأمن رقم 2245 على هذا الأساس، عبر محاولة إيجاد توازنات معينة بين هذه الأطراف وأدوارها السياسية والعسكرية، في حين أن واقع المشكلة لم يكن دائماً كذلك، والبعد الإقليمي هو بعد، على رغم تأثيره، يظل طارئاً وبرانياً في كل الأحوال، ولا يلغي جذور الأزمة وأساساتها الداخلية.
- اعتبار الأزمة مشكلة بين نظام ومعارضة، وبالتالي يمكن حلها عبر إعادة توزيع الحصص ضمن إطار النظام نفسه، أو من خلال تعديلات هيكيلية على تركيبة النظام، مع إدخال تغييرات مستقبلية تتعلق بآليات الحكم وصنعة القرار، ولا يتعدى سقف التجربتين العراقية واللبنانية في أفضل الأحوال، وفي ذلك تفريغ للأزمة من بعدها الثوري، وإلغاء كل ما ترتب عنها من ارتكابات وجرائم وإمكانية فتح ملفاتها في المستقبل.
يمكن تعريف هذا الشكل التسووي على أنه نمط من التسوية الفوقية عبر صناعة شبكة ترابطات وقنوات تواصل بين الأطراف الظاهرية للأزمة ودمجها في الحل المنتظر، وهذا نمط ينطوي على إغراء إمكانية حصوله من خلال آليات الضغط التي يمكن ممارستها من قبل روسيا وأميركا على الأطراف التي تشكل واجهة الأزمة وباستخدام المساومات لتشكيل خريطة التوازنات بين هذه الأطراف، ويناسب هذا النمط جميع الأطراف التي تبحث عن حلول سريعة، مثل إدارة الرئيس أوباما التي تعتقد بأنها بتنازلاتها لروسيا تشتري حلاً رخيص الثمن يناسب المقاس الزمني لعمر الإدارة، ويناسب أيضاً الكرملين الباحث عن أي شكل من أشكال النصر لتوظيفه داخلياً في مواجهة جملة من الأزمات المركبة التي بدأت تنتصب في وجه بوتين، كما يناسب إيران وأذرعها في المنطقة كونه يبقي الوضع على ما هو عليه وينطوي على إمكانية تغييره لمصلحتهم في المستقبل. لكن، كل ذلك لن يؤدي إلى حل مستدام وطويل الأمد في سورية، بل سيتحول إلى محرك جديد للأزمة وسيوفر الفرص الملائمة لها لإجراء التعديلات المناسبة في نمط اشتغالها وطبيعة تشابكاتها المحلية والإقليمية، ذلك أن أول تحول سيتمظهر في انفكاك الميدان السوري والجماعات الفاعلة فيه عن داعميه الإقليميين، صحيح أن الخارج يشكل شريان تغذية مهم وبخاصة على مستويات التمويل والتسليح، لكن ذلك لا ينفي حقيقة وجود نظام تغذية متكامل يشكّل الخارج جزءاً منه ولا يشكّله كلّه، وثمة شبكة تغذية داخلية رديفة تقوم على الغنائم وشراء الأسلحة من تجار داخليين ومن الميليشيات والتشكيلات العسكرية المنضوية في إطار جبهة الأسد، كما أن مصادر التمويل يمكن استبدالها بمصادر بعيدة عن سيطرة الحكومات الإقليمية، وبالتالي فإن الثمرة الوحيدة لهذا الانفكاك ستتمثل بخروج تلك الجماعات عن إمكانية السيطرة وصعوبة إخضاعها للتفاوض في أي حل مستقبلي. وهذا التطور، في حال الإصرار على الدفع لإظهاره، سينتج منه تطور موازٍ يتمثل بمنح شرعية للتقسيم الذي يميز بين سورية المفيدة وخارجها، على أساس الأمر الواقع حيث تصبح هذه إطاراً للسلطة المقبولة دولياً والمكوّنات القابلة بالتعايش تحت قوانينها وأنظمتها، كما سيعطي عمليات التطهير الديموغرافي زخماً أكبر طالما توفرت سورية المقابلة لسورية المفيدة وطالما أصبحت هذه الأخيرة تشكل مصلحة دولية للاستقرار وخلاصة التوافق الإقليمي والدولي، بالتزامن مع إطفاء كل الأضواء المسلّطة على الأزمة السورية.
لا يحتاج الوصول إلى هذه السيناريوات وقتاً طويلاً، مجرد الاستمرار في إدارة الأزمة وفق المقاربات الجديدة كفيل بإطلاق الديناميات اللازمة لهذا الفعل وتدعيم أدواته التشغيلية، وطالما ازداد فريق الباحثين عن نصر سريع في سورية، لكن الأزمة الحقيقية ستجد البدائل المناسبة للتعبير عن نفسها دائماً وستعاند كل محاولات التلفيق وتسريع الإنضاج على نار التوافق الروسي - الأميركي.
مع انطلاقة التظاهرات السلمية المطالبة بالإصلاحات في مختلف أنحاء سورية، واجه النظام، بعد عقود من الحكم المخابراتي، احتمالاً قوياً بسقوطه. هكذا بادر إلى اعتماد جملة تدابير، منها الوعود الإصلاحية التضليلية، بخاصة تلك الحزمة التي أعلنتها بثينة شعبان في صورة هستيرية في بداية الثورة، ومنها دفع الثورة نحو العسكرة التي كان من أهدافها تمكين النظام من استخدام القمع بكل أنواع الأسلحة، والحد من التعاطف الإقليمي والدولي مع الشعب السوري ومطالبه المشروعة، وكذلك المحاولات الحثيثة لإبعاد مكونات مجتمعية سورية عدة من الثورة، خصوصاً العلويين والمسيحيين والكرد، لتكوين انطباع خادع بأن ما يجري هو صدام بين القوى الإسلامية المتشدّدة الإرهابية التي تمثّل العرب السنة والنظام «العلماني حامي الأقليات». وقد تنبّهنا إلى هذا الموضوع، وحذرنا منه مراراً وتكراراً، غير أن قوى وقيادات ضمن المعارضة لم تستوعب ذلك كما ينبغي بفعل تأثيرات بقايا الأيديولوجيات القومية والدينية، وحتى الاشتراكية، ولم تبلغ مستوى موجبات المشروع الوطني السوري الذي لم ولن يكون إلا بكل السوريين ومن أجلهم.
وفي ما يخصّ موقف الكرد من الثورة، فإنه توزّع منذ أيامها الأولى بين ثلاثة اتجاهات:
الأول والأهم، هو الذي تجسّد في مواقف وتوجهات التنظيمات الشبابية التي تشكّلت في حضن الثورة، ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات السياسية المستقلة، إلى جانب بعض الأحزاب الكردية. وكان هذا الاتجاه داعماً للثورة، مشاركاً فيها من دون تردد، ولعل صور تظاهرات عامودا وغيرها من المدن الكردية ما زالت في ذاكرة الجميع.
أما الاتجاه الثاني، فتميّز بالتردد والتريّث والتشكيك. وكان هذا الموقف القاسم المشترك بين مجموعة الأحزاب الكردية التي شكّلت لاحقاً المجلس الوطني الكردي السوري، وهي أحزاب كانت تعاني عموماً الانقسام والترهّل، وعدم امتلاك قياداتها الإمكانات التي تؤهلها للتعامل مع تحديات الوضع الجديد، إلى جانب أن قسماً كان يعاني من ضغوطات النظام، فيما اعتمد قسم آخر السياسة الاتكالية، وانتظار ما سيمليه عليه الإخوة في كردستان العراق.
أما الاتجاه الثالث، فهو الذي عبّر عنه حزب الاتحاد الديموقراطي الذي تشكّل بعد إبعاد عبدالله أوجلان من سورية عام 1999، وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، ويتبع مباشرة قيادته العسكرية في قنديل. وقد دخل نشطاء هذا الحزب وقياداته إلى سورية بعد انطلاقة الثورة بموجب اتفاق أمني مع النظام، وبالتنسيق الكامل مع النظام الإيراني، بهدف ضبط الأوضاع ضمن المناطق الكردية، ومنع الكرد من الانخراط بفاعلية في الثورة بوصفه مساهماً فاعلاً في إسقاط النظام، بخاصة أن المناطق الكردية في سورية تمتد على طول الحدود التركية - السورية، كما أن الوجود الكردي الكبير في دمشق (حوالى المليون) وحلب (حوالى نصف مليون) كان من شأنه زعزعة أركان النظام.
واستخدم هذا الحزب في بداية الأمر، لغة العاطفة القومية، واستغلّ تردّد الأحزاب الكردية، وكان يدرك تماماً صعوبات الأحزاب الكردية في كردستان العراق، والضغوط الإيرانية الهائلة عليها، وكان مطلعاً على واقع الأحزاب الكردية السورية، وعلى علم بعدم قدرة قياداتها على التصدي لمهام المرحلة. هكذا بدأ ينظّم قواه ويستفيد من الإمكانات المادية والأسلحة التي حصل عليها من النظام. كما بدأ بتصفية بعض الخصوم فيزيائياً، وعمل في الوقت ذاته على تصفية البعض الآخر معنوياً عبر حملات إعلامية تشبيحية، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بأسلوب غير معهود، بل منبوذ في المجتمع الكردي. ذلك كله لترهيب الكرد، وإرغامهم على السكوت أو الرحيل.
واللافت في أمر هذا الحزب، أنه استخدم استراتيجية الظهور في مظهر الطرف الثالث المحافظ على الخصوصية الكردية، وأمن المناطق الكردية، والمحارب للإرهاب الإسلاموي، في حين أنه لا يطرح فعلياً أي مشروع حقيقي يخص كرد سورية، ولا علاقة له بالثورة السورية في أي شكل من الأشكال. بل إن التنسيق الأمني بينه وبين النظام كان وما زال على أعلى المستويات، بخاصة في القامشلي والحسكة حيث النظام اليوم أقوى فيهما من أي وقت مضى.
ومع تدويل القضية السورية، وجد هذا الحزب نفسه أمام إمكان عقد تفاهمات بخصوص قتال «داعش»، وهي تفاهمات ساهمت العلاقة الأميركية - الإيرانية التناغمية في بلورة معالمها. لكن التحالف الأساسي لهذا الحزب يظل مع الطرف الروسي ضمن إطار حلفه مع النظامين السوري والإيراني.
غير أن الذي يستوقف أكثر من غيره، هو إصرار الإعلام الغربي والروسي، وقسم كبير من الإعلام العربي، على تسويق زعم تضليلي مفاده أن هذا الحزب يمثل الكرد السوريين، وبالتالي فإن أي تصرف أو أي عمل يقوم به يُسوّق على أنه موقف كردي.
فحول مفاوضات جنيف الأخيرة التي أُبعد منها هذا الحزب، قيل إن الكرد قد غُيبوا، مع أنهم شاركوا بفاعلية في مؤتمر الرياض، وفي الوفد التفاوضي للمعارضة. كما أن التنسيق الكامل بين قوات هذا الحزب وقوات النظام وحلفائه والطيران الروسي، كما حصل في ريف حلب ضد قوات المعارضة، نُسب إلى الكرد، على نحو يهدد بتفجير العلاقة العربية - الكردية. وهو هدف عمل، ويعمل، عليه النظام منذ اليوم الأول للثورة، ويبدو أنه بات أكثر إلحاحاً في يومنا الراهن استعداداً لاستحقاقات مقبلة. هذا فيما الجميع يعلم أن هذا الحزب يستغل ورقة كرد سورية، بل يستغل إمكاناتهم المادية، وشبانهم، لتنفيذ مآرب مشروعه الخاص الذي لا يتقاطع أبداً مع المشروع الكردي السوري الوطني، والذي أساسه الاعتراف الدستوري بالوجود القومي الكردي في سورية، والإقرار بالحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي، والقطع مع جميع المشاريع والسياسات التمييزية التي عانى منها الكرد لعقود، ومنها الحزام والإحصاء والتعريب القسري والقوانين الاستثنائية، وذلك كله يتم ضمن إطار المشروع الوطني السوري المتمحور حول نظام مدني ديموقراطي تعددي، لا تمييز فيه.
إن الفصل بين هذا الحزب وكرد سورية ضرورة لا بد منها، تماماً كضرورة الفصل بين العرب السنة و «داعش». فهذا الحزب مجرد أداة تنفيذية لمخطط لا يتوافق أبداً مع المصلحة الكردية تحديداً، ولا مع المصلحة السورية عموماً. ومن اللغط والإجحاف أن يقدّم بوصفه يمثّل الكرد في سورية.
يجب ألا يظن أحد للحظة واحدة أن الربيع العربي كان مجرد مؤامرة. حتى لو أراده البعض مؤامرة، فقد كان هناك ألف سبب وسبب لاندلاع الثورات، بغض النظر عمن حرض عليها، أو استغلها لمآربه الخاصة. ليست المشكلة أبدا في الشعوب التي عانت لعقود وعقود من الديكتاتورية والظلم والطغيان والفساد.
لقد كانت الثورات مشروعة مائة بالمائة. وكما قلنا في مقال سابق، ليست المشكلة في الجوهرة إذا سرقها اللصوص. وكذلك الأمر بالنسبة للثورات، فلا يمكن أن نحمل الشعوب وزر تبعاتها الكارثية، فقط لأن بعض القوى الدولية حرفتها عن مسارها، واستغلتها لتنفيذ مشاريع شيطانية على حساب الشعوب وثوراتها.
ليس هناك أدنى شك بأن الثورات خرجت شعبية، لكن ضباع العالم حولوها، كما نرى الآن، إلى مخططات استعمارية جديدة، تماما كما حدث مع الثورة العربية الكبرى عام 1916، حيث خرج العرب مطالبين بالاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن الهدف لم يكن تحقيق الاستقلال للعرب في دول وطنية حرة مستقلة، بل كانت الغاية منه تقاسم النفوذ بين قوى استعمارية أخرى كالفرنسيين والإنجليز. وفعلاً انتهت الثورة العربية الكبرى إلى تقسيم المنطقة العربية إلى دول ودويلات بموجب اتفاقية سايكس-بيكو سيئة الصيت.
وبما أن الاتفاقية التقسيمية ستنتهي صلاحيتها بعد سنتين تقريباً، بحيث تبلغ مئة عام من العمر، فيبدو أن التاريخ يعيد نفسه. وكل ما يجري الآن في الشرق الأوسط يسير باتجاه رسم خرائط جديدة وإعادة توزيع ديمغرافي لا تخطئه عين، وخاصة في سوريا والعراق واليمن. ولا نعتقد أبداً أن الخطة الجهنمية الاستعمارية الجديدة ستنحصر فقط في سوريا والعراق واليمن وباقي بلدان الربيع العربي، بل على الأرجح أنها ستشمل العديد من بلدان المنطقة التي لم تحصل فيها ثورات.
كل شيء يسير حسب خطة مرسومة على ما يبدو. ويمكننا القول إن خارطة الصراعات الجديدة في المنطقة بين إيران والسعودية مثلاً هي جزء لا يتجزأ من مشروع الشرق الأوسط الجديد. وحدث ولا حرج عن الاحتكاك التركي الروسي، فهو ليس أبداً بسبب إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية، بل إن إسقاط الطائرة هو رأس جبل الجليد، الذي يكون عشره فوق الماء وتسعة أعشاره مخفية تحت الماء. ومع مرور الوقت سنرى بقية أجزاء اللعبة الروسية الأمريكية الغربية مع تركيا تتكشف شيئاً فشيئاً.
صحيح أن إيران قضت على ثورتها الخضراء عام 2009، لكن إيران عادت وتورطت في ثورات الآخرين لتصبح جزءاً منها. في اليمن تدخلت لصالح الحوثيين ضد الشعب اليمني، وفي العراق تناصر الشيعة ضد السنة، وفي سوريا تقاتل إلى جانب النظام ضد غالبية الشعب السوري من السنة.
إن دخول إيران على خط الثورات ليس مجرد رغبة إيرانية لتحقيق إمبراطورية فارس الكبرى الجديدة. وحتى لو كان هدف إيران من خلال تمددها في المنطقة تحقيق الحلم الإمبراطوري الجديد، فإن اللعب الإيراني قد لا يكون سوى جزء من المخطط الأمريكي الأكبر. بعبارة أخرى لا نستبعد أبداً أن تكون إيران، كالسعودية، مجرد ورقة في اللعبة الأمريكية الكبرى لإقامة مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي وعدتنا به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة غوندوليزا رايس. وقد بشرتنا رايس وقتها بالفوضى الخلاقة التي ستعيد تشكيل الشرق الأوسط ليصبح، حسب وصفها، "الشرق الأوسط الجديد".
هل تلعب إيران لحسابها فقط، أم أن أمريكا تستخدمها كمخلب قط، وتورطها من حيث لا تدري لتحقيق المشروع الأمريكي الشرق أوسطي الجديد؟ هناك من يتحدث عن توريط أمريكي لروسيا، وهي أكبر وأهم من إيران. وهناك من يرى في تسهيل الغزو الروسي لسوريا محاولة أمريكية ليس فقط لإجهاض الحلم الروسي الإمبراطوري الجديد، بل للمساعدة في إعادة رسم الشرق الأوسط بدعم روسي.
بعبارة أخرى، فإن التحرش الروسي بتركيا، والدور الروسي في سوريا على صعيد إعادة رسم الخارطة السورية قد يكون جزءاً من المخطط الأمريكي الاستعماري الجديد. مغفل من يعتقد أن أمريكا تركت أهم منطقة استراتيجية في العالم لروسيا وإيران، خاصة وأن المنطقة مازالت المصدر الأول للنفط في العالم، ناهيك عن أنها المنطقة التي تعيش فيها الولاية الأمريكية الواحدة والخمسون، ألا وهي إسرائيل.
واضح تماما أنه قد لا يسلم من المخطط الأمريكي الاستعماري الجديد حتى أقرب حلفاء أمريكا في المنطقة. ألا يمكن أن يكون التدخل السعودي في اليمن ولاحقا في سوريا إلا جزءاً من لعبة التوريط والاستنزاف وإعادة الهيكلة الأمريكية؟ اليوم بدأ الإعلام الأمريكي يتحدث علانية عن تفكيك السعودية، وإعادة تشكيلها.
لاحظوا أيضا أن أمريكا تركت النظام السوري منذ خمس سنوات يفعل ما يشاء في سوريا والمنطقة، لا بل إن ما يحدث في سوريا بدأ يضعضع أوضاع البلدان المجاورة كلها، خاصة تركيا.
هل دفع ملايين اللاجئين السوريين باتجاه تركيا مجرد نتيجة طبيعية للحرب، أم هدف ديمغرافي مدروس؟ هل صعود نجم الأكراد على الحدود التركية أمر عابر؟ ألم يصل الأمر بأردوغان قبل أيام إلى اتهام أمريكا بالتآمر مع الفصائل الإرهابية الكردية ضد تركيا؟ هل التنسيق الكردي السوري مجرد لعبة مخابراتية سورية، أم، على ما يبدو، مطلوب أمريكياً لتنفيذ المخطط الموضوع؟ هل ينشط بشار الأسد لصالح نظامه، أم لصالح المشروع الأمريكي؟ لقد ذهب البعض إلى وصف الرئيس السوري بقائد الفوضى الخلاقة، لأنه نجح حتى الآن بتنفيذ تهديده الشهير بعد ستة أشهر على الثورة بإحداث زلزال في المنطقة... هل كانت أمريكا لتسمح لبشار الأسد بإحداث زلزال في المنطقة، لو لم يكن الزلزال جزءاً من الفوضى الهلاكة ومشروع الشرق الأوسط الكبير؟
ألا يمكن القول إن كل دول الشرق الأوسط القديم، بما فيها تركيا وإيران مجرد أحجار على رقعة الشطرنج الأمريكية، وأن اللعبة تسير على قدم وساق لتنفيذ المشروع الأمريكي؟
صدق اللورد الإنجليزي الشهير كيرزون عام 1923 عندما قال: "العالم رقعة شطرنج كبرى نلعب عليها أجمل الألعاب".
الجائل في تفاصيل وحيثيات القرار الأمريكي – الروسي المبارك والمعمد من الرئيس الروسي ونظيره الأمريكي باراك أوباما، يوقن أن القرار فيه الحسم النهائي بأن لا تهديم لنظام الأسد ولا لأي طرف وقف بجانبه، في حين هناك تحطيم للثورة السورية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وما استثناء "الجماعات الإرهابية" إلا السكين المسنون والجاهز للقضاء على كل رافض أو ممتعض من الضرب الذي سيتلقاه في المستقبل.
البنود السردية والحاسمة اتجاه الثوار بكافة تسمياتهم لا تسمح بأي حركة تحضيرية في حال فشلت الهدنة، فلا سماح بالتسليح ولا التحضير، بل ستكون معرضة للضرب بيد من فولاذ من حيث لا تحتسب، فمصطلح "الجماعات الإرهابية" الذي لم ترى النور قائمته سيكون في السيف المنهي وبشكل تدريجي، وفق دراماتيكية فصيل حتى لا يبقى أحد، بكل ما للكلمة من معنى.
وغياب أي إشارة لجميع المليشيات الطائفية والعرقية والقومية، الذين يزيد عددهم عن خمسين، هو دليل أن كل من وقف إلى جانب الأسد نال نصيبه من الحماية الدولية وبقرارات مباركة من أكبر دولتين.
وعمد نص القرار على تسمية قوات الأسد ونظامه بـ "حكومة الجمهورية العربية السورية" الأمر الذي يعطيها كامل الشرعية، فيما تم الاكتفاء بذكر المعارضة المسلحة بمصطلح يشعرك بأنك تتعامل مع "حفنة" وفق وصف أوباما للثوار الذين هزموا قوات الأسد ومن ثم إيران، ولكنه جزم بخسارتهم أمام ثاني أكبر قوة في العالم ألا وهي روسيا.
ولكن هناك من يقول إن الاتفاق بصيغته الحالية، وهو سيفشل لا محال وفقهم، هو بمثابة نهاية الفرصة التي منحت لروسيا للتحكم بالملف، وما هو إلا دليل ادنة دولي على أن روسيا عجزت عن الحل ولذلك عليها لا تنحي جانباً وترك الملف لمن هو قادر على ذلك، وإن كان هذا الرأي غير دقيق ولكن فيه من الواقعية ما يمنحه صك القبول سيما حجم التنازلات التي قدمها العالم أجمع ورضخ لها.
اليوم مع الإعلان الروسي الأمريكي عن الاتفاق والاستعداد للتنفيذ وتجهيز أسلحة الهجوم على مخالف له، نجد أن بشار الأسد يمارس حياته الطبيعية ويصدر مرسوم بتحديد انتخابات مجلس الشعب في آذار القادم، الشهر الذي ستكون خلاله مفاوضات السلام تدور في أروقة سويسرا، في خطوة ليست بغريبة من نظام فيه من الغباء والخبث، بحيث تثق تماماً أن ما سيتكون في جنيف ما هو إلا عبارة عن لعبة إضاعة الوقت ريثما يتم التحضير للإجهاز على ما تبقى من المعارضة التي سيتم تصفيتها رويداً رويداً بسيف "الجماعات الإرهابية".
ولا شك أن الاختبار الأول سيكون ظهر الجمعة القادم بين من سيعلن تمرده (وهو محق) على الهدنة ليكون على رأس قائمة الإزالة، وبين من سيلتزم (وهو محق أيضاً)، ليكون على القائمة التالية، ولا مناص إلا باتفاق واحد على ما يبدو، و هو الاستمرار في القتال في ظل عالم أجمع على الإنهاء.
«والله شي بيجنن.. صرنا نبارك لبعض عاللجوء.. وصرنا نفرح إذا واحد منا لاقى سقف يآويه هو وعيلتو.. صرنا نفرح إذا ولد قام من تحت الأنقاض ولسه في روح.. ولك صرنا نحلم نشوف جثث ولادنا وندفنها بقبر..».
لخصت الفنانة يارا صبري، في هذه المونودراما، قصة الإنسان السوري اليوم. كانت تمثل في مسرحية «تحت السما»، دور السورية المقاتلة، المتحصنة خلف أكياس الرمل، وذلك على مسرح دبي الاجتماعي، الذي اكتظ بالجمهور، بخلاف ما توقعته، بأن عددًا قليلاً من الناس يرغب في حضور المسرح السياسي، وهو يشاهدها كل ليلة منذ خمس سنوات تلعب على شاشات التلفزيون.
السوريون أهل فن وثقافة، وهي جزء من حياتهم أينما رحلوا وحلوا. بعد الحرب، نقلوا معهم مجتمعهم كتّابًا وممثلين وفنانين ورسامين. كانت المسرحية عملاً مؤثرًا، على خشبة مسرح دبي، وخلال العرض، يمكن أن تسمع شهيق بعض المشاهدات والمشاهدين، حيث نكأت المسرحية جراح الجميع. الجالس بجواري فقد أكثر من 16 من أفراد عائلته، وكذلك خسر معظم الحضور أعزاءً عليهم، تقريبًا كل الشعب السوري شريك في المأساة.
في مسرحية «تحت السما»، التي كتبتها فاديا دلّا وأخرجها ماهر صليبي، لم نرَ «داعش»، ولم نسمع عن حرب طوائف، تقول الجالسة بجواري، هذه كانت سوريا، للجميع قبل أن يمزقها النظام، ويقرر هدمها، وتهجير أهلها. فقد حاول النظام، ونجح في تصوير مواجهته مع غالبية الشعب السوري على أنها حروب إرهاب، وصراع تم تصديره إلى سوريا من الخارج كمشروع ديني. لكن حكاية الثورة السورية، مثل الليبية واليمنية، حكاية شعوب لم تعد تتحمل العيش تحت حكم أنظمة عسكرية أمنية شرسة، حيث تتذكر وتذكرنا الممثلة على المسرح كيف أن الناس تفرح حتى عندما تحصل على الخبز غير المعفن في سوريا ما قبل الثورة، وكيف أشغل النظام الناس بالبحث عن قوتهم كل يوم بيومه، وكيف كان يسومهم العذاب، لهذا انتفض السوريون ليس عن حقد ديني أو آيديولوجي.
هل يعرف الناس حجم المأساة التي ارتكبت بحق ملايين السوريين؟ في النص الموجع والمرح معًا، في كوميديا سوداء التي كتبتها فاديا، تختلط المشاعر. تلتقط تليفونها، تصور نفسها مرات في أوضاع مختلفة تمسك بالبندقية، «بلكي حدا يشوف هالصورة وبيحطللي لايك لايك لاااايك (على الفيسبوك). تعقبها لحظة صمت وهي تتذكر. والنَّاس اللي عم بيغرقوا بالبحر.. كيف بدهن يشوفوا كم لايك عم يحطوا لهم على صورهم؟!».
ولا شك أن حجم التعاطف العربي والعالمي مع السوريين هائل جدًا لكنه لا يترجم على الأرض بسبب المواقف الانتهازية الرسمية للحكومات، وهكذا نرى الفارق بين التعاطف الشعبي واللامبالاة الدولية التي جعلت سوريا أعظم مأساة عرفناها بعد الحرب العالمية الثانية.
ورغم حياة الشتات، وتعدد المنافي، وضخامة عدد اللاجئين، لن يمكن دفن القضية السورية طالما أن هناك رفضًا مستمرًا للوضع الخاطئ القائم، ولهذا السبب فشلت الحرب في فرض الوضع الذي يريده النظام. وكلما نسأل ونقول هل يستطيع السوريون الصمود، نجد أنهم بمثل هذه الروح، وهذا الإصرار قادرون على تجاوز محنتهم، ومهما نجح نظام بشار الأسد في تهجير من تبقى من الشعب السوري فإنه لن ينجح في زرع اليأس في صدورهم.
ليس سهلاً على الرئيس رجب طيب أردوغان تنفيذ تهديداته. رسم خطاً أحمر حول أعزاز. ويخشى أن يكون مصير هذا الخط كمثيله الذي رسمه من قبل الرئيس باراك أوباما للنظام السوري. أو يخشى أن يضيع في طيات تهديدات وتحذيرات كثيرة أطلقها الرئيس التركي نفسه منذ اندلاع الأزمة في سورية. لقد لوح، وأركان حزبه، منذ سنوات بأنه لن يسمح بتكرار مأساة حماة. لكن سورية شهدت ولا تزال تشهد عشرات المآسي. لا تملك أنقرة خيارات مفتوحة. صحيح أنها بإسقاطها الطائرة الروسية أيقظت حقيقة غابت عن ذهن الرئيس فلاديمير بوتين، وهي أنه ليس مطلق اليدين، وأن تدخله ليس بلا ثمن. لكن هذه الحادثة أججت الصراع مع روسيا. وقدمت إليها ذرائع لنهج سياسة تطويق تركيا من البحرين الأسود والمتوسط، ومعاقبتها على استضافة أجزاء من «الدرع الصاروخية» لحلف شمال الأطلسي. ولم يعد أمام أردوغان سوى اللجوء إلى القوة، تنفيذاً لما قاله رئيس حكومته أحمد داود أوغلو عندما حذر برد «حازم للغاية» على الكرملين... وإلا تحول إلى نمر من ورق!
ضاقت الخيارات أمام تركيا لأنها لا ترغب في أن تكون ما كانته باكستان وانخراطها في المستنقع الأفغاني. لا تريد أن تقع في فخ استدراجها إلى الساحة السورية، ما دام أنها لا تملك تصوراً لمآلات هذا التدخل. ولأن عضويتها في حلف شمال الأطلسي لا تسمح لها بالتفرد في مثل هذا القرار. لذلك تضاربت مواقفها من التدخل البري. فهي تدرك أنها تحتاج إلى ضوء أخضر من حلف «الناتو» ومن واشنطن، وكلاهما لا يملك سوى دعوتها وموسكو إلى الحوار. وواضح أن الرئيس باراك أوباما لا يريد مواجهة مع روسيا، مثلما لا يرغب في أي نزاع مع إيران. لا يبقى أمام الرئيس أردوغان المحظور عليه أيضاً مد المعارضة بصواريخ أرض جو وعتاد فعال يمكن أن يعيد شيئاً من التوازن ميدانياً، سوى تصعيد قصفه مناطق «وحدات حماية الشعب» الكردية. والدفع بمزيد من المقاتلين إلى الشمال السوري لوقف اندفاعة الكرد. ومواصلة التلويح بتدخل بري مع حلفائه العرب. والتهديد بإقفال مطار انجرليك أمام طائرات التحالف الدولي. وتسهيل عبور آلاف النازحين إلى أوروبا براً وبحراً لتعميق أزمتها، وتهديد أمنها واستقرارها وأركان وحدتها.
الواقع أن ما يفاقم الاستعصاء في الأزمة أن الرئيسين بوتين وأردوغان يتصارعان في معركة مصيرية. سيد الكرملين اندفع إلى سورية ساحةً لإعادة توكيد دور روسيا قوة دولية نداً لأميركا لا غنى عنها في إدارة شؤون العالم. وبوابةً إلى حضور فاعل في الشرق الأوسط في التسويات السياسية ومشاريع الطاقة. إذ لا يغيب عن ذهنه طموح تركيا واستراتيجيتها لاستقبال أنابيب الغاز والنفط من آسيا الوسطى وإيران والعراق وقطر إلى أوروبا. وفي سعيه إلى فك الحصار الاقتصادي الغربي، توقع أن يثمر تدخله تحت شعار محاربة الإرهاب حواراً مع أوروبا المذعورة من «داعش» وجيش اللاجئين. توقع إبرام صفقة شاملة. راهن على إسقاط العقوبات والسكوت على ضمه القرم. ولكن لا أوروبا ولا الولايات المتحدة أبدت أي استعداد لمثل هذه الصفقة. لذلك ليس أمام موسكو في هذه المرحلة سوى مواصلة خيار الحسم العسكري لكسر الفصائل المعارضة بما يسهل عليها فرض الحل السياسي الذي ترتأيه. ولا أمل في هدنة قريبة قبل أن تضمن إقفال الحدود مع تركيا. وقبل أن تضمن مستقبل «سورية المفيدة» إذا كانت الصفقة الشاملة بعيدة المنال. ولا بأس في أن تترك أمر قتال «الدولة الإسلامية» للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. فالثابت أن سيد الكرملين يدرك تبعات مواصلة الحرب على أوضاعه الاقتصادية وعلى علاقاته بالعالم العربي والإسلامي عموماً. ويدرك أيضاً أن الجيش السوري لا يملك قوات وقدرات تسمح له بالمحافظة على المواقع التي استردها في الفترة الأخيرة بمساعدة حلفائه الخارجيين. لذلك انتقد سفيره إلى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين تصريحات الرئيس بشار الأسد بأنه يريد استعادة السيطرة على الأراضي السورية كاملة.
في المقابل، لا يملك الرئيس أردوغان سوى خيار وحيد هو تأكيد قدرة بلاده على حماية أمنها القومي ومصالحها. لا يمكنه المجازفة بخسارة حضورها في سورية. بذل الكثير في السنوات الماضية ليشرع بوابات حدودها الجنوبية مدخلاً إلى بلاد الشام ودول المنطقة حتى شبه الجزيرة وأبعد منها. جهد لتقديم تركيا إلى أوروبا قوة لا يستهان بها في الشرق الأوسط لعلها تسهل فتح أبوابها أمام انضمامها إلى الاتحاد. ولا يمكنه من جهة أخرى أن يتهاون حيال تقدم الكرد وتوسيع مناطق إدارتهم الذاتية في سورية ورسم حدود «الإقليم الكردي»، معولين على دعم روسي وأميركي. يستحيل عليه القبول بقيام كيان كردي على حدوده الجنوبية وتحويله ساحة صراع إضافية مع حزب العمال الكردستاني. فضلاً عن أن مثل هذا الكيان سيعزز شعور الكرد في ديار بكر بوجوب بناء كيان مماثل لما في العراق وسورية. الأمر الذي يعد تهديداً مصيرياً لوحدة تركيا.
في ضوء هذا الاستعصاء، لا يبدو أن وقف النار أو اعتماد هدنة أمر قريب المنال. فكيف الحديث عن مفاوضات لإرساء تسوية سياسية لا يريدها أحد في المدى المنظور! لن تستكين تركيا في الدفاع عن أمنها ودورها في سورية. وهو ما يشكل مصدر قلق وإزعاج لروسيا وإيران اللتين لا ترغبان في مزيد من المشاركين في رسم صورة بلاد الشام. يبقى أن المهم في هذا الصراع المتصاعد بين موسكو وأنقرة أنه يشغل الجميع عن محاربة «الدولة الإسلامية». فلا روسيا مستعدة للذهاب أبعد من ضمان مصالحها في الساحل السوري. ولا إيران قادرة على خوض معركة حاسمة مع «دولة أبي بكر البغدادي»، لا في العراق ولا في سورية. أما «وحدات حماية الشعب» التي أفادت وتفيد من توسيع مناطق إدارتها الذاتية ورسم حدود «الإقليم الكردي»، معولة على الدعم الروسي والأميركي، فلن تكون أكثر حماسة من «البيشمركة» في خوض قتال مكلف لتحرير أراض «لا تعنيها» بالنيابة عن الآخرين، عرباً وغير عرب. وأنقرة تصب جل اهتمامها على مواجهة هذا التوسع. لم تعد إطاحة الرئيس بشار الأسد في سلم أولوياتها، مرحلياً على الأقل. والمملكة العربية السعودية التي تدرك خطورة خسارة بلاد الشام بعد العراق لمصلحة إيران، تلوح بتدخل بري لمحاربة الإرهاب، ولكن في إطار التحالف الدولي... لعلها تحرج إدارة الرئيس أوباما لتعديل مواقفها من الأحداث.
الخيارات القليلة التي تضيق أمام خصوم النظام السوري لا تقابلها خيارات مفتوحة أمام دمشق وحلفائها في الداخل والخارج. يستحيل على النظام الذي لم يبق منه شيء أن يستعيد حكم البلاد والعباد. القرار في يد روسيا وإيران. وما يهمهما أولاً وأخيراً الحفاظ على مصالحهما أياً كان مصير البلاد ووحدتها. لم يعد صالحاً الحديث عن موقع النظام في خريطة الصراع الدائر في سورية وعليها. حتى القوات النظامية المنتشية بالانتصارات الأخيرة يدرك كبار قادتها أن لا قدرة لهم، بل لا عديد في قواتهم، للإمساك بالمناطق المستعادة. فضلاً عما تعانيه هذه المناطق من أوضاع اقتصادية تزداد سوءاً ليستفحل دور «الشبيحة» والفلتان الأمني. أما رهان موسكو على دفع مزيد من اللاجئين إلى أوروبا لإرغامها على الجلوس إلى الطاولة فسلاح ذو حدين. هو سلاح بيد تركيا أيضاً. إن هجرات جديدة نتيجة الحرب الطاحنة في محيط حلب وإدلب ستهدد بالتأكيد أمن القارة العجوز ووحدتها. فهل تسمح واشنطن بمثل هذه الفوضى التي ستعم الجناح الآخر والأساس في «الناتو»؟ هل ستضمن عدم انتقال عناصر إرهابية إلى دول الاتحاد مع موجات النازحين؟ وهل سيظل الرأي العام يشيح بنظره إذا عادت مراكب الموت تلفظ الفارين من جحيم الحرب على الشواطئ هنا وهناك؟
لا شك في أن تركيا والعرب الآخرين ليسوا وحدهم من يدفع ثمن هذا الانكفاء الأميركي. أوروبا بدأت تدفع مثل هذا الثمن. وقد تتفاقم أزمتها إذا واصلت روسيا اندفاعها نحو الحدود التركية، وأحكمت حصارها لمدينة حلب وما ستخلفه من أزمة إنسانية وهجرة واسعة. لذلك نادت المستشارة الألمانية بقيام منطقة حظر جوي، على غرار ما تطالب به أنقرة. حتى اللعبة السياسية في الداخل الأميركي بات خيار إدارة أوباما الصامت الساكت يقلقها. إذ لا يمكن تحاشي تبعات الأزمة السورية في قلب أوروبا. وإفراغ سورية من أهلها ودفعهم نحو مصير مجهول في البحر أو إلى أحضان العواصم الغربية سيولّدان أزمة أخلاقية وسياسية ضاغطة على خيارات الحكومات الأوروبية وعلى واشنطن أيضاً. لن يكون مثل هذا التطور سلاحاً بيد بوتين. إنه سلاح سيكون له من حديه نصيب... فضلاً عما يعنيه المزيد من التدخل الإقليمي والدولي في سورية، وما يخلفه من عوائق وعقبات أمام سياسة موسكو. جميع اللاعبين سيجدون أن لا مفر من تغيير قواعد اللعبة مجدداً، وإلا بقي الأسد والبغدادي الرابحين الوحيدين! فهل هذا هدف المتصارعين على سورية؟
جزأين قد يكونا معقدين ، مملين نسبياً و لكنهما واجبي الحضور في طرح ما يأتي ، و من الممكن أن تكون رحلة الجزء الثالث تتشابه مع سابقتيها ، و لكني مضطر لولوجها ، فهي الشيء الوحيد من الداخل .
صديقنا الداخل إلى إيران في تسعينيات القرن الماضي ، واصل ظنه أن ايران هي "المسجد" الإسلامي الكبير ، و كيف لا ، و هي تضع كلمة "الله" في وسط علمها ، و لا تذكر اسمها قبل ديباجة "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" .
وفق الصديق فإيران عبارة عن كتلة بشرية و دينية و إيدلوجية في غاية التعقيد ، ففي إيران فرس و أفغان و باكستانيون ، عرب و أتراك و كرد ، أذريون و طاجيك ، قوميات متضاربة تمتلك عمقاً إقليميا مع المحيط ، و لكن في بعضهم الغالب خاضعون للسيطرة "الشيعية" و لـ"ولاية الفقيه" ، الولاية التي يخضع لها وفق إحصائيات إيران أكثر من ٩٠ ٪ من الشعب المتواجد في الأرض الإيرانية ، وما تبقى عبارة عن أقليات هامشية من سنّة و مسيحيين ، يهود و عبّاد نار "ذراتشت" ، و بهائيون و زيديون و الكثير الكثير من المذاهب و الأديان التي لاوجود لها أي صولة أو جولة ، فهم أقليات مندثرة تحت أقدام "الولي الفقيه" ، و كذلك القلة "المزعجة" من عرب و كرد ، و القلة "المقرفة " الأفغان و الترك و الأذريون "، فلا مكان لهم في جيش أو سلطة أو حتى وظيفة فالسقف قد يكونوا معلمين في مدارس نائية ، وفي الغالب ينشطون في رعي المواشي أو فلاحين في البساتين و الأراضي الزراعية التي تغص بها إيران ، و التي يمكن وصفها بأنها بلاد الفصول الأربعة لتموضع أراضيها من بحر قزوين إلى الخليج العربي .
هذه الكتل لم تكن لتحكم لولا النظام الحديدي المسلط على الرقاب ، الأجهزة المتنوعة والمنتشرة في كل مكان ، حرس ثوي ، بسيج ، أمر بالمعروف و نهي عن المنكر ، جيش ، شرطة ، مخابرات بكل الأصناف و فئات الشعب ، فكل شيء تحت الرقابة .
في إيران و في تسعينيات القرن الماضي ، لا يمكن أن تجري مكالمة إلا من خلال مكان يدعى "مخابرات" ، ويعني بالفارسية الاتصالات ، و كل اتصال محدد بثلاث دقائق يقطع و تعاود من جديد إذا ما أردت الاسترسال في حديثك الذي يوجد الكثير من الآذان تتنصت و تفك شيفراته ، و لا يمكن خارج هذا المكان أن تجري مكالمة فأعداء "الإسلام" متربصون بدولة الإسلام التي تدعى "إيران".
تقسم موارد إيران الوافرة من ذهب و نفط و غاز و يورانيوم و ... و.... ، وسجاد عجمي و كافيار و .... ، إلى خمسة أخماس ، أولها لـ"الولي الفقيه" و ثانيها للإمام "رضا" ، ثامن الأئمة في مسيرة الشيعة من ١٢ آخرهم المهدي الغائب والذي له مقام في مدينة "مشهد" ، وخمس آخر للمستضعفين في الأرض جرحى ومعوقي الحرب الإيرانية في الثمانينيات ، و ما تبقى يكون للسبعين مليوناً أو الثمانين كما هو الحال اليوم .
في أواخر التسعينيات بدأت القلاقل تظهر في إيران ، و بدأ الجيل الجديد الذي لم يشاهد الشاه أو يعرفه ، بالتمرد على "الولاية" باطناً ، و على أسلوب الحكم ظاهراً ، و خرجت ما تعرف بثورة جامعات طهران ، التي وئدت بسرعة و بإيغال كبير في الدم ، وبات مطلوبا استنساخ شكل جديد من النظام ، و إطلاق "الإصلاحيين" في مواجهة "المحافظين" فجاء علي خاتمي ، ببشاشته ليهدأ من روع "رفسنجاني" و تسلطه ، ولكن الأمر سيان بالنسبة للطرفين ، وفي النهاية سيجلسون بين يدي "الولي الفقيه" و يحاولون أن يعملوا وفق ما تصدره أنفاسه من أوامر .
فكرة الإصلاحيين و المحافظين ، فكرة كانت جيدة لفترة من الزمن ، لامتصاص فورة جيل الثمانينيات ، الذي تلاه جيل التسعينيات الذي تزود جزء منه بالمعرفة ، و جزء آخر لازال ينهل العلم التقني ، و يلفظ الديني ، هذا اللفظ الذي يخيف إيران عموماً و "الولي الفقيه" على وجه الخصوص.
خميني الذي لم يمض إلا ثمان سنوات في حكم إيران ، و جميعها كانت في حرب مع العراق ، لم يستطع جعل إيران كما يشتهي أو كما خُطط لها ، وكان لابد من بديل متمكن و متفرد في ذلك ، و بالفعل تم إنهاء جميع علماء "مجلس تشخيص مصلحة النظام" ، من خلال تفجير قيل أن "إرهابيا" استهدف اجتماعهم لتحديد البديل عن خميني ، و لم ينج منه إلا "خامنئي" الذي كان مريضاً في المشفى و رفسنجاني الذي كان يعوده ، لتنتهي قصة المراجع الـ ٥٧ الذين قتلوا ، و يخلدون باسم نوع من علب السجائر "بنج و هافت" ، وهي نوع من السجائر الصغيرة إيرانية المنشأ ، رديئة الطعم ، و لكنها رخيصة ، و مخصصة لعامة الشعب ، وقد تكون الغاية منها هي مواصلة زرع الفكر "الفارسي الشيعي" في قالب تأليه "المعمم" حتى في دخان السجائر.
وبالمناسبة "مجلس تشخيص مصلحة النظام " هو الحاكم و الآمر بكل شيء و طبعا تحت إمرة الولي الفقيه ، ويمكن تقريبه لواقعنا بالقيادة القطرية لحزب البعث الحاكمة في سوريا تحت إمرة الأمين العام حافظ الأسد و من بعده بشار الأسد ، و دورها الفعال و الحاسم في كل شيء و ما الحكومة و رئيسها ووزرائها و كافة مفاصل الدولة إلا منفذين لقرارات القطرية ، التي هي بالأساس لا تملك شيئا بدون توجيهات "القائد الملهم" الذي فوّض أجهزته الأمنية بالبت بكل شيء ، وهم بدورهم تابعين لأناس آخرين ضمن "الكهنوت" العلوي.
في طهران العاصمة يوجد كل شيء ماء و جبال ، شوارع واسعة ، ميترو أنفاق ، طرق مخصصة لوسائل النقل ، مدينة ضخمة و مرعبة و الأهم ملوثة بشكل لا يمكن السير دون شيء على أنفك ينظف الهواء الداخل لرئتيك .
في تلك الـ "طهران" يوجد مناطق متنوعة ، جنوبية ملأى باللاجئين الأفغان و العراقيين و موبوءة بالمخدرات ، بشكل أن السائر فيها سيستمع كثيراً لكلمة "دارو ... دارو" ، وتعني الكلمة حرفيا "دواء" و مصطلحياً "المخدرات" ، ففي إيران المخدرات هي الأكثر شيوعاً و انتشاراً ، والأكثر استخداماً و من الجميع وقلما الاستثناء له مكان ، في الجامعات و المدارس و العمل و حتى المنازل .
ففي جنوب طهران يوجد الفقر و الجهل ، و تنتشر "البيكان" ، وهو نوع سيارات تصنعه إيران ، والأهم أن التشدد و المحافظين يملكون اليد الطولى ، فالتشادور ( اللباس الإسلامي وفق المنظور الإيراني – كامل السواد يغطي كامل الجسد و فضفاض لحد اتساعه لعدة نساء) طاغي ، و رائحة العرق تزكم الأنوف ، و الشعر الظاهر على النساء اللاتي يملكن شارب كما الرجال .
وفي شمال طهران حيث مقرات السفارات ، وعُلية القوم من التجار و الأثرياء و كذلك المتنفذين في القرارات و رجالات الدين الشكليين و المافيات الفعلين ، هناك تغيب "البايكان" حتى تظن أن إيران لا تصنعها ، و يغيب معها التشادور لتظهر القمصان القصيرة حتى الركبة و الحجاب المعقود على العنق الظاهر و خصلات الشعر تهرب منه ، دون أن تجد من مالكته حرج أو سعي للإخفاء ، فهو شكل مفروض و غير مرغوب .
و ما يجمع طهران شمالها و جنوبها ، هو "الفجور" ، فشعب يملك من الرغبة بالمتعة الكثير ، ففي صلب مذهبهم زواج المتعة لتيسير العملية ، وقيل أن رفسنجاني لو بقي فترة حكم إضافية ، لجعل مكاتب زواج المتعة كالمكاتب العقارية منتشرة في كل حي و في كل نقطة ، و قد يكون هناك عروض على مرتاديها .
الاختلاف بين الطهرانين ( الشمال و الجنوب) هو الاختلاف الحاصل تماماً في إيران ، بين إيران الثورة ١٩٧٩ و ٢٠١٦ ، فالأوائل محافظون بالشكل مليئ بالفساد و المخدرات ، و التاليين متفلتين من كل شيء ، والأهم يرفضون وجود المحافظين .
هذا الخلاف هو ما يجعل إيران على أبواب صراع تتوقعه هي أكثر من الجميع ، مع انفكاك العقوبات عليها من قبل الغرب بموجب الاتفاق النووي .، وهو ما سيكون موضوع الجزء القادم .
........