تبدل المناخ الذي قامت على أساسه القوتان العظميان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، باقتسام النفوذ في العالم، ولا يوجد مزاج عالمي اليوم يقبل بمثل هذه المعادلة الدولية، فضلاً عن أن المناخ الذي صنع تلك الواقعة تبدل بشكل جذري، وأي عودة إلى الخلف تستلزم هدم شبكات واسعة وبنى عميقة من التفاهمات والإجراءات والصيغ التي أسست لعالم ما بعد الحرب الباردة.
التبسيط المخل الذي رافق فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، والقائم على أساس أن أميركا في عهده سوف تتراجع عن حصصها العالمية لمصلحة قوى أخرى، ومن أبرز المرشحين لذلك روسيا بوتين، ليس سوى نتاج تحليل متعجّل يحاول التخلص من حمولات الأسئلة المتشابكة التي يطرحها واقع السياسة الدولية التي باتت تصعب قراءتها والولوج إلى أعماقها بواسطة المفاتيح القديمة التي تآكلت مسنّناتها بفعل التغيرات المتسارعة جداً في عالم اليوم.
لقد أظهرت الدراسات المعمّقة لظاهرة فوز ترامب وجود خلفية اجتماعية اقتصادية وسياسية عميقة ومتشابكة كانت وراء إفراز هذا المتغير، كما أثبتت تلك الدراسات أن الذين رجحوا فوز هيلاري كلينتون كانوا ينظرون إلى الواقع بشكل مسطح حجب عنهم رؤية التيارات المتحركة تحت ذلك السطح وفي عمق المجتمع الأميركي، وهذه التيارات هي بمثابة القوى والتوجهات الطالعة في أميركا والتي ستصبغ المجالات السياسية والاقتصادية بصبغتها لفترة قادمة، بمعنى أن ترامب سيكون رأس القاطرة وليس عابر سبيل.
تلك التيارات التي تشكل الروافع السياسية للمرحلة القادمة، والتي يمكن القول إنها المنتصرة، ليس بسبب فوز ترامب مرشحها، بل لأن لديها مشروعاً أميركياً واضحاً يقوم على استعادة هيبة أميركا ومكانة الرجل الأبيض واستعادة أدوات الإنتاج الأميركية المهاجرة. هذه التيارات تريد إعادة صياغة العلاقة الأميركية مع العالم على أسس غير تلك التي سادت وكانت موازينها مائلة لمصلحة الخارج، فليس صدفة إذاً أن تختار أميركا صانع صفقات ليقودها.
تكشف السيرة الشخصية لترامب، وكذلك سلوكه أثناء الحملة الانتخابية، أن الرجل لا يملك فكراً شمولياً إستراتيجياً بعيد المدى بمقدار ما يشتغل على تكتيكات مرحلية قصيرة كان لها الدور الأكبر في بروزه ووصوله إلى سدة الرئاسة، وكل تكتيك ينطوي على صفقة، وقد تعامل بهذا الأسلوب منذ ترشحه ضمن دوائر صغيرة في الحزب الجمهوري وصولاً إلى تعامله مع الولايات في كامل الولايات المتحدة.
وفقاً لذلك، فإن المرجح أن ترامب لن يذهب بعيداً في تحالفاته مع بوتين. بالأصل هما يتعارضان في الأسلوب، يطمح بوتين إلى صفقة شاملة مع أميركا تتسع لكل الملفات دفعة واحدة، وقد سعى لأن تكون سورية مفتاح تلك الصفقة، لكن إدارة أوباما قاومت هذا الإغراء لاعتبارات إستراتيجية بعيدة المدى، من ضمنها أنها لم تكن في وضعية خطيرة تجعلها تقبل بخيارات من هذا القبيل، على عكس روسيا المأزومة اقتصادياً وجيوسياسياً والآخذة وضعية دفاعية عن جغرافيتها والمتعجلة للخروج من هذا المأزق الوجودي.
ترامب ليس خارج هذا المشهد، ويدركه تماماً، غير أن الفارق هو في نمط التعاطي، الاتفاق الممكن مع روسيا في أي مكان هو الاتفاق الذي ينتج فوائد إضافية، لا توافقات من دون نتائج، هذه نظرية ترامب. مجال السياسة الدولية قابل للاستثمار والكسب، وترامب الذي لم يتردد في مطالبة حلفاء أميركا بأن يدفعوا مقابل تمتعهم بالحماية، لن يقدم خدمات مجانية لروسيا. الأرجح أنه الآن يضع خريطة مساحية لعقارات النفوذ الأميركي في العالم، ولن يكون بكرم إدارة أوباما، الانسحاب من مساحات كبيرة، كالشرق الأوسط، من دون أثمان.
تفسير سلوك ترامب في حلب يقوم على اعتبار التنازل عنها ضمن صفقة سيطالب بمقابل لها من بوتين. في كلامه أثناء المناظرة الانتخابية الأخيرة، قال إن حلب مدينة ساقطة، ما يعكس طبيعة تقديراته، وهامش المناورة الممكن بالنسبة إلى المدينة، وهو ما أثر على قراره بعقد صفقة حول حلب، لكن المؤكد أن ذلك لا يعني أن ترامب سيسلّم سورية لبوتين بسهولة، فلكل مقام أثمان، وأن يعقد صفقة حول أحياء في مدينة فإن سورية بجغرافيتها وحدودها وموقعها أكبر من أن تستوعبها صفقة سريعة.
ترامب ممثل لأيديولوجية أميركية صاعدة، تريد عودة الهيبة والنفوذ والثروة لأميركا، وهي لا ترى في روسيا حليفاً أو عدواً ولا حتى مجرد ند، وهي نظرة لا تشمل روسيا فحسب، وإنما تندرج على مجمل الأطراف الدولية الأخرى، ومقدار الفائدة المتحصل من تلك الأطراف هو ما يحدد مجال وقوعها في دائرة الأصدقاء أو الأعداء، والمؤكد أن روسيا لا يمكنها التكيّف مع الخيارات التي ستطرحها أميركا ترامب، وليس لديها ما تسيّله في بورصة أرباحها لا قبل حلب ولا بعدها.
كثيرة هي الانطباعات الخاطئة التي تولّدت منذ احتدام المعارك في حلب الشرقية، قبل أربعة أشهر، لكن أكثرها خطأً هو ما يشعر به الناس هذه الأيام، وما تقوله وسائل الإعلام، والكلمات التي تستخدمها لتوصيف استئناف روسيا والنظام السوري القصف على أحياء حلب الشرقية، وكلمة استئناف، بحد ذاتها، هي التعبير الأكثر وضوحاً عن الانطباعات الخاطئة.
بدايةً، تشكّل انطباعٌ بأن روسيا نزلت، بكامل ثقلها العسكري قوة عظمى، لإنهاء معركة حلب، وأن هذا سينتهي خلال أيام، وأنها ستنجز "معركتها" بسرعة، وبغض النظر عن النظام وبعدم التنسيق معه، ثم تبين أن هذا كان انطباعاً خاطئاً، وأن روسيا لم تدخل بكامل ثقلها، أو أن "كامل ثقلها" غير كافٍ لحسم المعركة، فتولّد بالتالي انطباع ثانٍ بأن المعارضة السورية في حلب الشرقية أقوى مما كنا نظن، وأنها سترد العدو وستحسم المعركة لصالحها في حلب. ثم تشكّل انطباع بأن هناك اتفاقاً ما من تحت الطاولة بين الروس والأميركان يتناقض مع إعلان فشل الاتفاق على خروج مسلحي "جيش الفتح" (جبهة النصرة سابقاً) ووقف العمليات العسكرية في شرق حلب. تولدت كل هذه الانطباعات بسبب أن مسار الأحداث كان غير مفهوم بما يكفي لجميع المراقبين، حتى كان يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول، حين أعلنت روسيا، من جانب واحد، وقف القصف الجوي على ريف حلب، ثم أعلن المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، مبادرته التي تقضي بخروج مسلحي "جيش الفتح"، واستعداده لمرافقتهم شخصياً باتجاه إدلب.
الانطباع الحالي هو استئناف روسيا والنظام السوري العملية العكسرية والقصف الجوي والبحري والصاروخي على شرق حلب، والذي يدل على أن الشهر الذي توقفت فيه العمليات كان مجرد تحضير لعملية أكبر، ووصول حاملة الطائرات أميرال كوزنتسوف إلى الساحل السوري وانطلاق الطائرات الحربية منها، وليس من قاعدة حميميم الروسية هو مفاقمة حالة عدم الفهم واضطراب الرؤية التي تزيد من توليد الانطباعات الخاطئة.
في الوقت نفسه، وفيما كانت الطائرات الروسية والسورية تغير على أحياء مساكن هنانو والصاخور، وتلقي البراميل المتفجرة والقنابل المظلية والبوالين الحرارية لتضليل الصواريخ المحمولة في حال وجودها لدى المعارضة، كانت وزارة الدفاع الروسية تعلن أن قواتها لم تستهدف أحياء حلب الشرقية، فيما كان شهود عيان ينقلون، عبر وسائل الإعلام، صور تفجيرات حديثة وسيارات إسعاف تنقل مصابين، كما أن النظام، قبل يومين من بدء العملية، حذّر المدنيين الموجودين في الأحياء المستهدفة من أنه سيبدأ هجوماً استراتيجياً، وسيستخدم فيه أسلحة عالية الدقة، ووضع السكان أمام خياري الخروج من حلب أو تسليم أنفسهم لجيش النظام خلال 24 ساعة.
إذاً، وصول حاملة الطائرات أميرال كوزنتسوف، وكذلك وصول الفرقاطة أميرال غريغوروفيتش ومشاركتها بالعمليات، وإطلاق صواريخ عابرة بعيدة المدة من البحر باتجاه حلب، والحملة النفسية التي قام بها النظام، ويدل ذلك كله على أن فترة توقف العمليات لم تكن هدنةً إنسانية، ولا فرصة لخروج المدنيين، أو خروج مقاتلي "جيش الفتح"، ولا إعطاء فرصة للجهود الدبلوماسية للوصول إلى حلّ ما في حلب، بل كان ذلك كله حاجة روسية لبعض الوقت، لتعزيز قواتها وحشد إمكاناتها، وأن الايام المقبلة ستكون شديدة وقاسية، خصوصاً مع وجود 250 ألف مدني في الأحياء المستهدفة لم يتمكّنوا من الخروج منها، لأسباب متعدّدة، منها نقص الثقة بالتزام النظام بعدم استهدافهم قصفاً أو اعتقالاً، وكذلك إجراءات "جيش الفتح" المشدّدة بمنعهم من الخروج، ووضعها شروطاً صعبة على الراغبين بالخروج.
ويفاقم التوقعات للأيام المقبلة إعلان الأمم المتحدة أن المواد الغذائية المتبقية في شرق حلب ستنفد خلال أيام، لأن هذه المناطق تعيش حصارا مطبقاً منذ أشهر، وآخر مساعدات غذائية دخلت إليها كانت في يوليو/ تموز الماضي.
قد يكون هذا الكلام مجرّد انطباع خاطئ جديد، وأن ما يبدو من جبل الجليد لا يكفي لتكوين صورة واضحة المعالم لما تخطّط له روسيا، أو لما اتفقت عليه مع الأميركان المشغولين بنقل الإدارة من الديموقراطيين إلى الجمهوريين، لا سيما وأن العمليات الروسية شملت كذلك محافظتي حمص وإدلب، وبشكل خاص مناطق معرّة النعمان وسراقب وأريحا وجسر الشغور، والتي يسيطر عليها بالكامل "جيش الفتح" منذ منتصف العام الماضي.
انتشر، منذ أسابيع، خبر عن مرضٍ عضال أصاب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وأن الأخير ينوي التنحي بحلول العام 2017. صدر الخبر عن دوائر شبه رسمية، وتحدثت عنه شخصيات مقربة من النظام الروسي، ما استدعى التأمل والتصديق. ومؤكّد أن للروس، ذوي الأساطيل الحربية الموزعة في أرجاء الشرق والغرب، غاية من نشر الشائعة التي اختفت بعد أيام، من دون أن يكذّبها أي طرف.
الشائعات وسيلة حربية لإشاعة الحيرة والبلبلة والأمل أو القنوط، استُخدمت مع بداية النزاعات التي وثقها التاريخ، وقد انسحب الروس من الحرب العالمية الأولى، بتأثير شائعاتٍ عديدة، بثها الألمان لتقوية الثورة البلشفية في الداخل الروسي. نجحت الثورة ووصلت إلى السلطة في البلاد، وتسببت في توقيع صلح روسي ألماني دُعي صلح "برست ليتوفسك"، انسحب على إثره الروس، وتركوا حلفاءهم الإنكليز والفرنسيين في مواجهة ماكينة الحرب الألمانية.
قبل بلوغ القوات الألمانية حدود بريطانيا، روج الإنكليز شائعةً عن وصول مليون جندي روسي لحماية بريطانيا من الخطر الألماني القادم، وتفنّن الإعلام الإنكليزي في سرد مواقعهم وخططهم. لعبت تلك الشائعة، بالإضافة إلى دخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب إلى جانب الحلفاء، دوراً كبيراً في هزيمة الألمان في الحرب. وربما كان ذلك سبباً دفع هتلر، فيما بعد، إلى تشكيل وزارة متخصصة، دعيت وزارة البروباغندا، ترأسها جوزيف غوبلز، أحدُ أبرز مؤسسي عِلم الشائعات.
روسيا بوتين التي طالما دعمت نظام الأسد أمدته بخططٍ، منها فكرة الاستفادة من الدعايات التي تُشاع عنه، سواء أكانت لصالحه أو ضده، ولطالما تورّط مسؤولون وسفراء روس في ترويج شائعاتٍ تخص الأسد، فتحدثوا عن هروبه ووصوله إلى إحدى الدول لاجئاً، أو حتى مقتله. كان اعتمادهم هنا بشكل رئيس على وسائل "السوشيال ميديا" التي تتيح لناشر الخبر التنصل منه عن طريق "تغريدة" لاحقة.
ومنذ أيام، عرضت قناة روسيا اليوم حادثة اختراق موقع وزارة الإعلام السورية الذي بث خبراً عن تسمم بشار الأسد في أثناء تناوله وجبة طعام. تثير طريقة صياغة خبر التسمم استفساراتٍ كثيرة، إذ لم يحمل الجديّة والرصانة المعهودة لمؤسسةٍ شبه عسكرية، تهتم بمنشوراتها إلى حد الهوس، حتى يستطيع المتابعون ابتلاعه على أنه خبر حقيقي صادر عن مؤسسة رسمية، ولا هو خبر كوميدي ذو طابع ساخر على طريقة المهكّرين الذين تتلخص غايتهم في التأكيد على إمكانيتهم الوصول إلى أي مكان.
تأكد كاتبو الخبر من عدم إغفال الصفة الرسمية للأسد التي تسبق ذكر اسمه، واستخدموا كلماتٍ ذات وقع غريب، من قبيل "العملية الشنيعة"، وقالوا إن التسمم قد تسبب في إصابة الأسد بمرض معدٍ خطير!
بعد خروج أولى المظاهرات ضد نظام الأسد في مارس/آذار 2011، نشب نزاعٌ إعلامي شرس بين طرفي الصراع. بدأ الهجوم معارضاً، وانتشرت شائعاتٌ عن انقلاباتٍ قام بها أفراد من بطانة الأسد ضده، وروجت أخبار عن مقتله أو تصفية أحد أفراد عائلته أو أقربائه. حظيت تلك الشائعات باهتمام واسع لدى السوريين، لكنها، في الواقع، أدت مفعولاً عكسياً، فكان الأسد يظهر بعد كل إشاعةٍ، ويتحدث بثقة تامة تصيب معارضيه بالخيبة. وعلى الرغم من أن فن الشائعات قديم، وأثبت نجاعته منذ أمد طويل، إلا أن الشائعات لم تنل من متانة قبضة النظام على البلاد، بل على العكس قرّر الاستفادة منها لاحقاً، وساعد في انتشارها بطرق عديدة، ريثما يتم دحضها لاحقاً، فتنهار الكذبة وينهار معها جزءٌ من مصداقية إعلام المعارضة الذي كان يعتمد أساساً على ما يتم تناقله عبر صفحات "فيسبوك".
لا تتطلب الشائعة برهاناً أو دليلاً دامغاً، بل يكفي إدراجها في سياق منطقي، ووجود رغبة لدى المتلقي بتصديقها، لكن تكرار إثارة النوع نفسه من الأكاذيب عطل شَرطية تصديقها بشكل كبير، وأصبح العبء كله واقعاً على السلاح والطائرات لعمل تقدّم على الأرض.
لا غرابة أن يفتخر قادة إيرانيون بأنّ أربعة عواصم عربية تقع في دائرة نفوذهم، بإمكانهم اليوم الشعور بالانتصارات العسكرية التي تتحقق، على أيدي حلفائهم وبجهودهم، في كل من العراق وسورية.
دعونا من حسابات الصحّ والخطأ، المساءلات الأخلاقية، فالسياسات لا تعرف غير لغة المصالح والقوة. وضمن هذا المعيار، تمدّ إيران نفوذها وتهيمن على دول عربية، وتستثمر في حالة الضعف أو الفراغ الاستراتيجي العربي الراهن، بل وحتى في التردّد أو المراوغة الاستراتيجية للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي يقدّم، هو الآخر، نفسه نصيراً للمجتمعات السنية العربية التي تئن تحت الطائفية أو الاستبداد.
منذ عام 2003 وانهيار نظام صدام حسين في العراق، انفتح العراق بكله أمام الإيرانيين، واستثمروا جيداً في الورقة الشيعية، لخدمة مصالحهم القومية ومد نفوذهم في المنطقة، ونجح الإيرانيون في توظيف الاحتلال الأميركي لخدمة مصالحهم، والهيمنة على النظام السياسي الجديد هناك.
لكن، مع ثورات الربيع العربي، وتنامي التهديد الذي يتشكل لحلفاء طهران في سورية والعراق، ألقى الإيرانيون بثقلهم كاملاً، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، لخدمة حلفائهم وحمايتهم، ولولا تدخل إيران المباشر والفاعل لسقط نظام بشار الأسد، منذ نهاية عام 2012، فوضعوا حزب الله في خدمته، وفيلق القدس وإمكانات قاسم سليماني، القائد العسكري الإيراني الذي حوّله الإيرانيون إلى "أسطورة" في إعلامهم، وحتى الغربي، على الرغم من أنّه خسر المعارك الحقيقية مع المقاومات السنية السورية والعراقية، لولا تدخل الروس والإميركيين الذي قلب الموازين في هذه الساحات.
وعلى الرغم من موقف الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، المعادي لإيران، فإنّ إمكانية إحداث تغيير حقيقي في المشهد العام في المنطقة أصبح أمراً محدوداً، وكل ما يملكه هو تشديد العقوبات على طهران، من دون تغييرٍ جذري في السياسات الأميركية في العراق وسورية، لأنّ الخيارات البديلة محدودة جداً، وهنالك التحالف الروسي – الإيراني الذي أصبح يمثل اليوم "الرقم الصعب" في موازين القوى في المنطقة.
لماذا انتصرت إيران وفشل العرب والأتراك (من يمثلون المحاور المنافسة أو المتصارعة مع الإيرانيين)؟ لأنّ إيران كانت أكثر وضوحاً وصرامةً وجديةً منهم في تبني مقاربتها الإقليمية، والمضي في تعريف مصالحها الحيوية في المنطقة، التي تعتمد على دعم الحلفاء على أسسٍ طائفية، أو وضع الطائفة في خدمة المصالح القومية، أياً كان الأمر، ودفعت من أجل تحقيق هذه الأهداف كلفةً كبيرة جداً، اقتصادياً وعسكرياً، حتى أن قادةً في الحرس الثوري الإيراني قتلوا هناك، ومئات من عناصرهم وأفراد حزب الله اللبناني قضوا كذلك في حروب إيران في العراق وسورية.
لم تكترث إيران بحجم الكلفة، وعرّفت حماية النظامين، السوري والعراقي، في دائرة الأمن القومي الإيراني، وكانت على استعدادٍ لمواجهة الدول الإقليمية كافة، وحمت الأسد الذي لم يعد يملك اليوم إلا أن يكون حليفاً مطيعاً لها.
تعرف إيران ما تريد في العراق وسورية، وهي واضحة في مشروعها في الهيمنة، وتفاوض نيابةً عن النظامين السوري والعراقي، وتخلق مليشيات طائفية في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن تابعة لها، وتجعل منها القوة الضاربة في المنطقة، من دون أن يرفّ لها جفن، بينما الدول العربية أولاً غير موحدة، وتتبنى أجنداتٍ متضاربة، وتخفي خلافاتها وتتحايل عليها، ولا تريد أن تدفع كلفةً حقيقية لحماية مصالحها في المنطقة.
لم تحدّد الدول العربية موقفها من التحولات التي حدثت لدى الإدارة الأميركية، وهي تحولات استراتيجية تتجاوز الرئيس باراك أوباما إلى قناعاتٍ راسخةٍ لدى مراكز التفكير هناك، ولا تأخذ موقفاً محدّداً من التدخل الروسي، وحتى مع إيران، فهنالك أجندات متباينة ومتضاربة، وغير واضحة، فهل تريد الحوار المتكافئ، أم فقط تنظر إلى إيران من منظور الصراع الوجودي، كما يرى كتّابٌ محسوبون على بعض الدول العربية، أم ماذا؟
المواقف الأردنية والإماراتية والمصرية والسعودية متباينة في الموقف مما يحدث في سورية والعراق، ومن الأتراك ومن المعادلات الداخلية المرتبطة بالإسلاميين. ومع ذلك، يحاولون بتصريحاتٍ ديبلوماسيةٍ سطحيةٍ ساذجةٍ إخفاء هذه الخلافات الواضحة والسافرة، من دون التفكير بالاعتراف بها، وإدارة الاختلاف والتفكير بصورة عقلانية في كيفية التعامل مع التحديات القادمة.
لا يختلف الأتراك، بالمناسبة، كثيراً عن العرب، فالرئيس أردوغان دعم المعارضة المسلحة الإسلامية، لكن من تحت الطاولة، ولم يجرؤ على اتخاذ مواقف واضحة مثل إيران، ويخوض معركة داخلية قاسية مع الجيش ومع خصومه، ويخوض أيضاً معركة إقليمية ودولية، وعلاقاته مع الجميع أصبحت سيئة، فلا هو مع الغرب بخير، ولا مع الروس والإيرانيين، ولا حتى العرب، فاضطر إلى الاستدارة والالتفاف مرات عدة، مع إمساكه بخطابٍ أيديولوجي عاطفي يفارق الواقع.
طالما أنّ العرب يفكّرون ويتصرفون بهذه الطريقة، وكذلك الأتراك، وإن كانوا أحسن حالاً من العرب في الدفاع عن مصالحهم، لن يكتفي المشروع الإيراني بما يحققه حالياً في العراق وسورية، وسيمضي ليتجذّر هناك، عسكرياً وطائفياً وأمنياً، من ثم الامتداد إلى الجوار العربي المحيط.
لا أظن أن السياسة الإيرانية صائبة في نهاية المطاف، فهي تغرق نفسها في محيط صراعات طائفيةٍ ستأكل المنطقة، ولن ينتصر فيها أحد، لكن ضمن معايير القوة والهيمنة والنفوذ، فإنّ إيران أصبحت القوة الإقليمية الأولى في المنطقة.
تعود الأرقام للعب دورها مع السوريين هذه الأيام، مع اقتراب موعد دخول الثورة السورية عامها السادس، ويلعب الرقم 6 دوراً مهما في حياة السوريين في الآونة الأخيرة، فهاهي روسيا تستخدم "الفيتو" للمرة السادسة على التوالي، من اجل منع تمرير طلب مجلس الامن حول هدنة مدتها سبعة أيام في مدينة حلب، ويبدو أن مجلس الأمن لو اختار ستة أيام للهدنة في حلب، لكانت سداسية جيدة ومناسبة، ومبشرة في آن معاً.
في الوقت، الذي تتحتضر به روسيا وأمريكا الاجتماع فجر غد بتوقيت دمشق، لمناقشة انسحاب "قوات المعارضة المسلحة" من شرقي حلب، بالتزامن مع تهديد "وقح" من قبل وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف"، باعتبار كل من يرفض الخروج من حلب "ارهابياً"، الاجتماع الذي من المتوقع أن تكون نتائجه فاشلة، بعد “الفيتو” الروسي ، يوم أمس، رأت فيه الأخيرة طعنة أمريكية أوربية، مخالفة للاتفاقات التي تمت بين “موسكو وواشنطن”، حول الاجتماع المزمع، فمهدت أمريكا أمام فشل الاجتماع بطرح مشروع الهدنة “المؤقتة”، معلنة عدم سماحها لموسكو بخداع مجلس الأمن، التطورات التي لم تنعكس على الاتصالات المكثفة بين موسكو وأنقرة وواشنطن وطهران والفصائل السورية المعارضة، للوصول الى حل حول شرق حلب.
تركيا لم تقف مكتوفة اليدين، فمكالمات هاتفية ولقاءات على غير عادة أو اعلان، فيها نوع من الغزل السياسي، فضلت أن تظهرها بمظهر انساني و اعتبارها تحت بند "عيد الميلاد”، الذي تبقى على قدومه 19 يوماً، حيث التقى رئيس هيئة الأركان التركية "خلوصي أكار" مع نظيره الأمريكي "جوزيف دانفورد"، في قاعدة إنجيرليك العسكرية بولاية أضنة، جنوبي تركيا، والذي اعتبرته "الأركان التريكة" في تصريح لوكالة الأناضول أنه اجتماع لاحتفال تركيا مع القوات الأمريكية العاملة في القاعدة وتهنئتهم بمناسبة "عيد الميلاد”.
عبثية روسيا والصين التي ساندتها بحق الفيتو السادس، رافقها بحث المعارضة السورية عن أي شيء يثبت أنها حاضرة، سواءً ببيانات باتت مستهلكة او بلقاءات هامشية متأخرة، فرحلة رئيس الائتلاف لقوى الثورة والمعارضة "أنس العبدة"، الى كردستان العراق ، ولقائه مع رئيس الاقليم الكردستاني "مسعود بارزاني"، خير دليل على تشتت الاتجاه السياسي للمعارضة، الذي وجد في كردستان المكان المناسب لانتقاد الصمت الدولي ازاء عدوان النظام والروس على مدني حلب، ومن ثم لقائه في اربيل مع رئيس الوطني الكردي "ابراهيم برو"، لتوحيد الصفوف العسكرية بين الجيش الحر والبشميركة، والتي أعتبرها خطة ذكية ولكنها متأخرة أو أنها في توقيت يتوجب الترقب والتركيز السياسي، ولكن العبدة وضع أمام عينيه قاعدة "أن تصل متأخراً خيراً من ألا تصل”.
فيما كانت بيانات الهيئة العليا للمفاوضات، لوقف القصف والجرائم في حلب، تصدر من مكان قد يكون أكثر مناسبة وتعبيراً عن وضع المعارضة السورية، فقد اختاروا العاصمة السعودية الرياض، لاستهجانهم الوضع في حلب .. أنا لم أخطئ في تحديد أماكن التصريحات واصدار البيانات للمعارضة السورية، فالحقيقة أن عمل ممثلي المعارضة السوري، متوزع بين دول العالم للمطالبة بالدعم للشعب السوري، وهذا ليس من باب اللوم ياقوم، بل من باب محاصصة الدول بالمعارضة السورية، فلا تلومن صاحب حق.
بينما الأفاعي تتسلل لقتل السورين في كل مكان اختبأوا فيه، يهدي أمير قطر "تميم بن حمد آل ثاني"، العاهل السعودي الملك "سلمان بن عبد العزيز"، مجموعة من الخيل العربية الأصيلة، على وقع الرقصة الخليجية، ربما ليمتطي كل منهما الخيل الأكثر أصالة ويفوز بالجزء الذي يستحق من الكعكة في حلب.
"دونالد ترامب" مشغول، اتركوه وشأنه فهو بحالة اعادة هيكلية البيت الأبيض والحكومة الجديدة ، التي من المتوقع أنها ستستنزف ما تبقى من سوريا، فلجلخ السكين التي سيستخدم، فهو بحاجة لهدوء هذه الفترة من الزمن، فالحقيقة ان الجميع يصنع تاريخاً ملطخ بدم الشعب سوريا، بدءً من شرق آسيا "ألصين"، وصولا الى أقصى الغرب "أمريكا"، ومرورا بأقصى الشمال الاتحاد السوفيتي "روسيا"، فيما قوى المعارضة تتنقل برحلات الطيران بين أركان هذه المعمورة علها تجد حلاً عند أحدهم، ومن يدري أين ستجد الحل؟
أصدرت السعودية والإمارات وقطر وتركيا بيانًا يطالب بعقد جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة، من أجل إنهاء كارثة حلب، وبخاصة في شرقها. البيان حض مؤسسة الأمم المتحدة على أن «تضطلع بمسؤولياتها المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين، لا سيما في وقت أصبح فيه مجلس الأمن غير قادر على فعل ذلك؛ بسبب عدم وجود إجماع».
وفي آخره استنكر البيان السعودي الإماراتي القطري التركي أن يتم التعامل مع الأزمة السورية «كما لو كان الأمر عاديًا»، موضحًا أن هذه الظروف المروعة تؤكد أن الدعوة لعقد دورة استثنائية طارئة للجمعية العامة لها ما يبررها. الحق أن عجز المؤسسة الدولية عن القيام بما صنعت أصلاً من أجله المؤسسة بُعيد الحرب العالمية الثانية، وهو تحقيق السلام الدولي وإنهاء الحروب وحماية الشعوب، يشير لمدى العطب والنفاق الذي أصابها. كارثة سوريا الممتدة منذ نحو ست سنوات هي مأساة العالم الحالية. بعدد القتلى الذي قارب النصف مليون. وملايين المهجرين والمشردين واللاجئين والمفقودين. بصور صادمة عن الضحايا الأطفال. النساء. العجزة. وعلى مدار الأسبوع. كارثة تكشف هوان العرب والمسلمين عن حماية أوطانهم. أهلهم. سيادتهم. كرامتهم. حاضرهم ومستقبلهم.
كيف يجوز للروسي. الآتي من أصقاع سيبيريا. وللشيعي الأفغاني الآتي من وديان هراة. وللإيراني المتدفق من قم وهمذان والعراقي الميليشياوي الغازي من أهوار الناصرية، وحارات التطرف في بغداد، وكيف يجوز لإرهابيي حسن نصر الله في لبنان، كل هؤلاء، من دول وعصابات، أن يحتلوا أرض وسماء وبحر سوريا. يقتلون الأطفال والنساء. يقصفون اللاجئين أنفسهم. ولا يفعل مجلس الأمن شيئًا!
إنها فضيحة كبرى. عار دائم. لا يمحى أبدًا. ولا يجوز التعايش مع هذا الحال، و«كأنه لا يعنينا» كما ورد في البيان الرباعي الخليجي التركي.
كل يوم نتابع الجهود الأممية لملاحقة «داعش» و«القاعدة». والإجراءات السريعة. وهذا أمر ممتاز. وجهد طيب مبارك مطلوب، لكن لا نرى التواتر نفسه والحماسة والسرعة والتوافق على وأد الإرهاب الإيراني القبيح في ديار العرب. في حلب المنكوبة. لماذا؟! هل الإنسان السوري والعراقي، في الموصل، رخيص لهذه الدرجة؟!
إن إنهاء الغزو الإيراني لسوريا. وإيقاف التدخل الروسي، أمر من صميم الأمن القومي الخليجي والتركي. بل العربي قاطبة. لو كان بعض العرب يعقلون ويفكرون بعيدًا عن النفسية الكيدية و«الموديل» القديم في نظرية الأمن القومي العربي!
العجيب أن الدوليين والأمميين يندهشون ويستنفرون ويذعرون من ازدهار العمل «الداعشي» في العالم. لكنهم هم أنفسهم يساعدون على توفير البيئة المثالية لتخليق الميكروبات «الداعشية» في مستنقع الغضب والثأر والحقد و«النصرة».
إغاثة حلب. كسر حصارها. إنقاذ أهلها من غيلان بشار ونصر الله وخامنئي وهادي العامري وبوتين. ليست مسألة إنسانية أخلاقية. بل مصلحة أمنية سياسية عليا. عليا جدًا.
إذا بقينا نفكر ونتصرف بالعقلية العربية المعهودة فلا أعتقد أننا سنحقق شيئاً، بل سنظل نجتر آلامنا وكوارثنا سنة بعد سنة وعقداً بعد عقد وربما قرناً بعد قرن. لقد اعتاد العرب على دفن أوساخهم دائماً تحت السجادة، فبدل أن يتخلصوا من القذارات، كانوا دائماً يحاولون إخفاءها كي لا ينفضح أمرهم، أو كي لا يعترفوا بواقعهم. ونحن نعلم أن أهم مراحل العلاج هو التشخيص، فلا قيمة لعلاج يتجاوز التشخيص. عندما نضع يدنا على المرض، عندئذ يصبح اختيار العلاج سهلاً جداً. لكننا دائماً اعتدنا على تغطية عيوبنا وأمراضنا. ونحن نعلم إذا كان لديك دمل على يدك، فلا يمكن أن تعالجه بتغطيته بمنديل ورقي، بل يجب أن تعرضه على الطبيب كي يداويه أو يستأصله. أما التستر عليه بالمناديل فلن يحل لك المشكلة.
تعالوا الآن نشخص سبب تدهور الأوضاع في العراق وسوريا واليمن وليبيا بعد الثورات؟ لماذا لم تنتقل شعوب تلك البلدان من حالة الطغيان والحكم الشمولي إلى الديمقراطية، أو على الأقل إلى حال أفضل قليلاً كما فعل الأوروبيون في أوروبا الشرقية حيث انتقلوا من الشيوعية إلى الديمقراطية بسرعة قياسية، بينما ما زلنا نحن في بلاد الثورات نصارع إما الأنظمة القديمة أو نصارع بعضنا البعض كما هو حال الفصائل في سوريا واليمن وليبيا. هل الفصائل التي تقاتل الجيوش في سوريا واليمن وليبيا والعراق تريد فعلاً التخلص من الطواغيت وأنظمتهم الطغيانية، أم أنها تريد فقط أن تحل محلهم؟ هل ثارت الشعوب كي تستبدل طاغية بطغاة أو طاغوت بطواغيت؟ هل ثارت كي تستبدل الفالج بالسرطان؟ هل ثارت كي تستبدل بشار الأسد بأبي بكر البغدادي؟ انظروا إلى ماذا حصل العراقيون بعد أن تخلصوا من صدام حسين. لا شك أن صدام كان ديكتاتوراً، لكنه كان الديكتاتور الوحيد في البلاد. ورغم مساوئ الديكتاتورية الرهيبة، إلا أنها كانت أفضل للعراقيين بعشرات المرات من الديمقراطية الأمريكية التي جاءتهم على ظهور الدبابات. حتى أكبر معارضي النظام العراقي السابق باتوا يترحمون على صدام حسين الديكتاتور.
ويرى رجل الدين الشيعي والسياسي والمؤلف العراقي الشهير إياد جمال الدين أن «زمن الديكتاتورية كان أفضل من الآن بمرات ومرات لأن صدام على الأقل حفظ الأمن والاستقرار في العراق.
وبدل الانتقال إلى ديمقراطية حقيقية، صار كل المعارضين يريدون أن يحلوا محل صدام، فصار لدينا عشرون صداما شيعيا على أربعين صداما سنيا على خمسين صداما كرديا، فبات الناس يترحمون على الديكتاتور الأوحد، بعد أن انتشر التشتت والتفلش، وصار العراق إقطاعيات طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية وعشائر. نعم نحن نريد الحرية، لكن حرية مع أمن، لا حرية وفلتان وقتل ونهب وسلب وميليشيات. لقد كنت من أقوى أنصار الديمقراطية، لكني الآن أتمنى لو يعود الديكتاتور ليحافظ على الأقل على دم الناس. صحيح أن صدام كان يقتل، لكن الآن لدينا عشرة آلاف صدام يقتلون الناس لأتفه الأسباب»، كما يقول جمال الدين.
وقد انتقل السيناريو العراقي إلى ليبيا وسوريا واليمن. كم قذافي هناك الآن في ليبيا؟ كم علي عبدالله صالح في اليمن؟ كم بشار الأسد في سوريا؟ بدل أن تسعى الفصائل الليبية لبناء الدولة ولملمة الجراح بعد سقوط القذافي راحت تتقاتل على المناصب والغنائم، وكأن الشعب الليبي كان يريد أن يستبدل عقيداً بمئات العقداء؟ وحدث ولا حرج عن سوريا المتشظية. كم فصيل لدينا على الأرض يقاتل النظام؟ أحد المعارضين تحدث عن حوالي ألفي فصيل. تصوروا ألفي فصيل لكل واحد منهم أجندته وتوجهاته وإماراته وقادته ومصالحه الخاصة وميزانياته وحدوده. ولو كانت تلك الفصائل على قلب رجل واحد لا بأس، لكنها بدل أن تتحد في مواجهة النظام الفاشي راحت تتقاتل فيما بينها. وعندما ترى حجم الضغائن والأحقاد والانقسامات والتنافس بين تلك الفصائل، لقرأت السلام فوراً على الثورة وعلى البلاد. هل هذه فصائل تريد أن تحقق الأمن والاستقرار والازدهار للشعب السوري، أم تريد أن تتقاسم أشلاء البلاد فيما بينها؟ بأي شرع ستحكم إذا كانت تكفّر بعضها البعض، ولكل واحد منها سياساته ومخططاته ومصالحه الخاصة ومواقعه؟
قلناها مراراً إن دخول هذه الفصائل على خط الانتفاضات الشعبية نزل برداً وسلاماً على الطواغيت، وجعلهم يتنفسون الصعداء. وقد صار بإمكانهم بسهولة أن يقولوا للداخل والخارج: أليس من الأفضل أن يكون هناك طاغية واحد في البلاد، أم إنكم تريدون مئات الطواغيت؟
لا شك أن البعض سيقول إن القوى الكبرى هي التي أغرقت بلادنا بفصائل متناحرة لمنع التغيير أو لتحقيق مشاريعها على حساب دمار أوطاننا وتشريد شعوبها. وحتى لو كانت القوى الشريرة وراء تكاثر أمراء الحرب كتكاثر الفطر في بلادنا، فاللوم يقع أيضاً على من ارتدى لباس الثورة وقبل أن يكون أداة في أيدي المتلاعبين بأوطاننا أو حذاء في أرجلهم.
قد يبدو مستغربا ربط صعود اليمين الغربي إلى السلطة بالقضية السورية، ولهذا الاستغراب ما يبرره، إذا نظرنا إلى القضية السورية باعتبارها مسألة منفصلة عن السياسة الدولية، أو اعتبرناها تفصيلاً صغيرًا في سياسة، تباشرها حكومات تلك البلدان، والتي غالبًا ما انتمت إلى الوسط ويمين الوسط في العقود الأخيرة، وأثبتت في خلالها فشلاً ذريعًا في نتائجها، وكان من أبرز ملامحها تهميش دور الديمقراطيات الغربية الأميركية – الأوروبية في قيادة العالم، لصالح نجاحات حققتها دول وقوى متطرفة في مستوى الأقاليم الرئيسية في العالم مثل روسيا في أوروبا وإيران في الشرق الأوسط وكوريا الشمالية في جنوب شرقي آسيا، وسط تساهل، وأحيانًا تواطؤ غير منظور وغير مباشر من بعض حكومات الدول الغربية، مما أدى إلى تغيير في توازنات إقليمية ودولية، أبرزها ما حدث في منطقتين مهمتين هما الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا، وقد كانتا طوال عقود ماضية مسرحًا في الصراع الدولي، وخاصة في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق والغربي بقيادة الولايات المتحدة.
وللحق فإن النهج المخرب للديمقراطيات الغربية في ميدان السياسة الخارجية وما جره من خسارات عليها ولحلفائها في الأقاليم الرئيسية، هو ذاته النهج الذي سارت عليه في تعاملها مع السياسات الداخلية، ومنها قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية، واندماج المهاجرين، والعنصرية المتصاعدة ومواجهة تصاعد الإرهاب والتطرف.
ووسط لوحة خراب سياسة الديمقراطية الغربية لحكومات الوسط ويمين الوسط، يمكن تجاوز استغراب ربط القضية السورية بصعود اليمين الغربي إلى سدة السلطة في بريطانيا في ضوء تولي تيريزا ماي رئاسة الوزارة البريطانية بدلاً من ديفيد كاميرون خريف العام 2016، رغم انتماء الاثنين إلى حزب المحافظين، ثم في صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية مع مطلع العام 2017، بالتزامن مع صعود نجم مرشح الرئاسة الفرنسية فرنسوا فيون الذي سيحل في قصر الإليزيه في ربيع العام 2017، وسط تقديرات بتحول الرئاسة الألمانية نحو اليمين مع احتمالات مجيء حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني لاحتلال مركز المستشارية الألمانية.
انعكاسات التحول لليمين في العالم الغربي على القضية السورية، ستكون جزءًا من عملية «تصحيح» السياسة الغربية سواء في مساراتها الداخلية أو الخارجية، ولأن القضية السورية جزء من الأخيرة، فإنها ستكون في إطار «التصحيح» الذي يعني في أول ما يعنيه، الخروج من سياسات من سبقهم من زعماء، قادت سياساتهم السورية إلى تكريس الصراع في سوريا، بل إلى إحداث تحولات عميقة فيه، كان الأبرز فيها، تحويل القضية السورية من قضية شعب، ينهض في وجه الاستبداد والديكتاتورية، والمطالبة بالحرية إلى حرب على الإرهاب، ومن العداء لنظام رسخت تلك الدول، حقيقة، أنه من بين خمسة أنظمة في العالم، دأبت على دعم الإرهاب، إلى نظام يحارب الإرهاب بالشراكة مع قرينه نظام الملالي في إيران، وكله ترافق مع دفع تحول ثورة السوريين من ثورة وطنية ديمقراطية إلى نشاط لجماعات إسلاموية.
وسط هذه التحولات، لا يمكن وجود تصور سياسة، يمكن أن تجعل القضية السورية أسوأ مما صارت إليه، وقد غدت بما نجم عنها من نتائج على الصعيد الإنساني بمثابة كارثة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، طالت أكثرية السوريين، وبين تعبيراتها قتل واعتقال واختفاء وتهجير وتشريد أكثر من عشرة ملايين سوري، وتدمير قدراتهم الفردية والاجتماعية، إضافة لما ترتب على دول الجوار والأبعد منها من تداعيات بينها موجات هجرة ولجوء ومساعدات، وخروقات للأمن وتصاعد للإرهاب نتيجة تداعيات الوضع السوري، وكلها مهمات ستكون في أولويات الموجة الجديدة من قادة الدول الغربية، التي وإن أبدى بعضهم موقفًا «منفتحًا» على نظام بشار الأسد في إطار تخوفه من جماعات التطرف والإرهاب، فإن أغلبهم، وضع مؤيدي نظام الأسد وداعميه من الإيرانيين والروس في مقدمة خصوماتهم السياسية المقبلة، وهذا سوف ينزع حماية الإيرانيين والروس لنظام بشار الأسد، ويجعل سقوطه أمرا ممكنًا.
إن التخوفات السائدة من صعود اليمين إلى السلطة في بلدان الديمقراطيات الغربية، تبدو تخوفات غير طبيعية ولا منطقية، بل هي بين الأخطاء في مدرسة التحليل والتفكير السائدة، والتي كان بينها استبعاد وصول ترامب في الولايات المتحدة وفيون في فرنسا إلى سدة السلطة، وقد ثبت بطلان تلك التقديرات، والتي توازي في نتائجها تقديراتهم في أن سياسات قادة اليمين الغربي على القضية السورية وعموم قضايا الشرق الأوسط، ستكون أسوأ من سابقيهم، وللحق، فليس هناك سياسة أسوأ من سياسات سابقيهم في عجزها وتفريطها وتهاونها ومسايرتها لأنظمة مارقة وقاتلة ومستبدة، تجاوزت القوانين الدولية والقيم الإنسانية، وخلفت كارثة إنسانية عميقة، ووضعت الشرق الأوسط والعالم على حافة حرب، لا يمكن تقدير نتائجها إذا اندلعت.
قبل اندلاع الثورة السورية بشهر ونصف، وبالضبط في أول شهر شباط عام 2011 انعقد المؤتمر السنوي لاتحاد الكتاب العرب، في صالة المركز الثقافي في حي المزة بدمشق.
القاعة كانت تغص بالكتاب والمفكرين والشعراء والقصاصين وما أدراكم.. أي أن من كان في القاعة هم نخبة النخبة من المجتمع السوري، أو من المفترض أن يكونوا كذلك.
طبعاً.. المؤتمر شأنه شأن أي مؤتمر آخر في دولة سلطة الأسد، لم يُفضِ إلى شيء، ولكنه تميز بتفجير قنبلة كلامية داخل القاعة فجرها كاتب هذه السطور.
وتفصيل ذلك أن أحدهم، قدم مداخلة كلها، مديح وإطناب بمناقب الأسد، وأسبغ عليه الكثير من الصفات، فهو الرمز، والملهم.. وهو قائد التحديث والتطوير.. وهو باني سورية الحديثة.. وهو.. وهو.. وهو " سيد الوطن ".
والحقيقة أن هذه العبارة الأخيرة التي نطق بها: " سيد الوطن " استُخدمت كثيراً، ومن قِبل المتسلقين منذ عهد " سيد الوطن " الأب، واستمر تكرار هذه " المقولة " من قبل أصحاب النفوس الانتهازية في زمن الابن.. وكنت شخصياً لا أستسيغ هذه العبارة، ولا أطيقها، لأنها عبارة مغلوطة، ولا يصح أن يوصف شخص بها مهما علا شأنه وعظمت مكانته.
بعد أن انتهى صاحب مقولة " سيد الوطن " من مداخلته، طلبت الكلام، وقلت مما قلت: أنا أعترض على عبارة "سيد الوطن" لأن رئيس الجمهورية ليس بسيد الوطن، بل الوطن هو سيد الجميع.. ".
علا الهرْج والمرْج في القاعة، وتلوّنت الوجوه بالاصفرار خوفاً عليّ، أو بالاحمرار المخلوط باللون الأسود غضباً مني، وقد دعا ذلك رئيسَ الاتحاد ومدير الجلسة إلى أن يدعو "سكان " القاعة إلى التزام الهدوء.
طلب الكلام عضوُ القيادة القطرية الذي من " واجب الوجوب " أن يكون هو أو غيره من أعضاء القيادة حاضراً في هكذا مؤتمرات لكي يراقب ما يجري ويشرف ويعاين ويوجه، ومن ثم يقدم عرضاً مفصلاً عما جرى في المؤتمر، لأعضاء القيادة القطرية " للحزب القائد ".
والحق أقول إن عضو القيادة كان مهذباً في ردّه على احتجاجي، وقد حاول رغم اضطرابه والمفاجأة التي وقع فيها، أن يفسر عبارة " سيد الوطن " للتخفيف من " عنجهيتها ومغلوطيّتها "، لكن التعبير خانه ولم يسعفه تمام الإسعاف، فوقع في معنى قول الشاعر: وفسّر الماء بعد الجهد بالماء ".
وقد وقع في معنى قول الشاعر أيضاً أحد الأدباء الحقوقيين، حيث حاول جاهداً أن يُشرْعِنَ هذه العبارة، ويسبغ عليها الصفة القانونية والوطنية، فوقع هو الآخر في وهدة الفشل الذريع.
بعد ذلك طلب الكلام أحدُ الشبيحة الثقافيين، وقد بدأ خطابه الناري بلغة بعثية أصيلة صميمة..!!.. تخرُجُ من مرجل فمه الملتهب غضباً عليّ وعلى أمثالي من المتآمرين على دولة المقاومة والممانعة، ورئيسها القائد الرمز الذي هو ليس سيد الوطن السوري فحسب، وإنما هو سيد الوطن العربي كله من مشرقه إلى مغربه ".. هكذا قال.!!.
وأخيراً نأتي إلى مداخلة المفكر الإسلامي المتنور جودت سعيد.
قال جودت سعيد يومها مباشرة: في زمن الوحدة كنت مجنداً في خدمة العلم، وفي أحد الأيام سمعت بعض الضباط يتهامسون، وبما أنني كنت على علاقة اجتماعية لا بأس بها معهم خارج نطاق المفهوم العسكري الصارم، فقد سألتهم، ما الموضوع..!!؟. فقالوا لي: هناك نيّة للانقلاب على جمال عبد الناصر والانفصال عن مصر.. وعندما علمت أنهم موافقون على ذلك، قلت لهم ناصحاً: أيها السادة.. جمال عبد الناصر إنسان، وغداً سوف يرحل عن هذه الدنيا، ولكن الوطن سوف يبقى، والوطن للجميع.
والمغزى من كلام جودت سعيد واضح، فهو ضد هذا المصطلح القبيح " سيد الوطن "..
بقي عليّ أن أصف لكم مشاعري، وما حدث بعد ذلك.
طوال الوقت كنت منشغلاً بتخيلاتي وتساؤلاتي عن متى، وأين، وكيف، سيتم اعتقالي من قبل عناصر أمن النظام.
وأثناء الاستراحة، قرأت مشاعر زملاء المؤتمر من خلال ملامح وجوههم الراضية أو الغاضبة أو المحايدة.. وقد جعلني أحد الزملاء أبتسم دون رغبة مني حين رفع إصبع يده في غفلة من الحاضرين، وقال بهمس: أحييك يا صديقي.
ومنذ بداية الاستراحة وحتى نهايتها كنت أقول في نفسي ربما بين لحظة وأخرى يأتي عناصر الأمن ويعتقلونني، ولكنهم لم يفعلوا، فقد أظهروا أنهم مؤدبون، حضاريون.!!.. وكأنهم قالوا من غير اللائق أن نفعل ذلك أمام زملائه.!!.
بعد انتهاء المؤتمر خرجت متسللاً من المركز الثقافي، وأنا أتطلع بتوتر وخوف يمنة ويسرة، وأتوثب لقبول أية داهية يمكن أن تقع فوق رأسي.!!. ولكنني لم أر أحداً من عناصر الأمن، ولم أجد منهم مَن يهجم عليّ بشراسة ويقول لي: تفضّل معنا.!!.
وهكذا بقيت أضع الاحتمال بعد الآخر حتى وصلت إلى مسقط رأسي، وبقيت فيها حتى اندلعت الانتفاضة السورية، وعمت المظاهرات في منتصف آذار 2011.
وعندما أصبحت مدينتي القصير عصية على سلطة النظام، حاولوا أن يعيدوها إلى " بيت الطاعة ". فاجتاحها الجيش للمرة الأولى بتاريخ يوم الخميس 11 / 8 / 2011، واعتقلوا المئات، ومن بينهم " حضرتي ".. وبقيت في ضيافتهم العامرة.!!. لمدة مائة يوم ويومين في فرع الأمن العسكري ثم في السجن المركزي بحمص، مع التنويه إلى أن مقام السجن المركزي كان أشبه بفندق خمس نجوم قياساً إلى معتقلات فروع الأمن التي لا تُعدّ ولا تحصى.
هل تصدقون لو قلت إن للسجن جانباً مضيئاً وممتعاً أتحسر على فقده حتى الآن، دون أن أنسى العبارة الشعبية: يِنْذِكر ولا ينعاد ".!!. فالحياة في السجن لها طعم مختلف، فهي تجعل السجين يغوص في تجربة جديدة من العيش، فكم من شاعر وروائي ومفكر عاشوا هذه التجربة، وسجلوا مشاعرهم ومشاهداتهم ومعاناتهم اليومية هناك بأعمال أدبية رائعة.
ولكن المؤلم جداً أنني لم أعد أتمنى دخول المعتقلات.!!. بعد أن اشتدّ الصراع، وأصبح همّ النظام الأول والأخير أن يقضي على ثورة الشعب السوري عبر ممارسات شتى قل نظيرها في تاريخ العالم، ومنها القضاء على عشرات الآلاف من المعتقلين عبر التعذيب والتصفية الجسدية، وقد وثق الكثير منها المصور السوري المعروف باسمه المستعار " قيصر "، والذي نجح في تسريب خمسة وخمسين ألف صورة من سجون الأسد، وتهريبها إلى أوروبا، والتي أظهرت أشنع ما شهدته البشرية من تعذيب حتى الموت لأكثر من أحد عشر ألف معتقل سوري، ونتيجة للجهد الإنساني الذي أنجزه ذلك المصور، فقد منحته لجنة تحكيم جائزة نورنبرغ جائزتها لعام 2017.
ولذلك.. أليس من حقي أن أخاف وأرتعب، وأن لا أتمنى العودة إلى معتقلات الأمن السوري، لمجرد أنني أريد أن أعيش تجربة " ممتعة " أخرى أدون فيها سيرتي الذاتية.!؟. فقد أصبح يخاف من معتقلات سلطة الأسد حتى عزرائيل نفسه شخصياً.
لايمكن التماهي أكثر ، أو مواصلة العمل ونحن مختبئين خلف اصبع واه و ضيّق، و نقول لماذا يحدث بنا ذلك، و لم لم نتداركه قبل تطور الوضع لأكثر من ذلك، فبعد أن هجر النوم أمس أهالي ادلب، على وقع المجازر المتتالية ، كان السؤال الأكبر لم تم الاستهداف و بهذا الشكل و بتلك الوحشية..!؟
لا يمكن وضع اجابة اعتيادية كـ”نظام مجرم” و “لا إرادي القتل” ، ما إلى ذلك من توصيفات حقيقية و واقعية، و لكنها يوجد خلفها من يجعل الأمر أعمق و أشد خبثاً، فلا مجال لابادة شعب بمباركة دولية إلا ضمن مصطلح “الارهاب” أو “الارهاب الأوسع انتشاراً و الاضيق حيزاً” ، فلذا حالياً عملية الموازنة تتم بشكل مدروس جداً، تحتاج لنظرة أكثر واقعية و تفكير أكثر عمقاً، للسعي لتلافيها.
تعتبر “القاعدة” بمختلف أشكالها المتشدد القاسي “داعش” و الناعم “جبهة النصرة” و النسخة المحدثة “فتح الشام”، هي ممن تقع تحت مسمى “الارهاب الأوسع” أو عابر للحدود، وهو خطر عام و يشمل جميع الدول. بينما يعتبر الأسد كواجهة و من خلفه ايران كـ” ارهاب ضيّق”، محصور في حدود أو رقعة جغرافية محددة، لن تتجاوز ، و بالتالي طغيان أي نوع من النوعين السابقين (أقصد دولياً) يعني أن الحرب عليه واجبة و مدعومة، و لو كانت من الطرف الآخر في ذات “الارهاب” العام و لكن بغير الاتساع.
بعبارة أقصر و أبسط، فإن طغى الارهاب الأسدي تم تقوية القاعدة لضبطه، و إعادته إلى الحدود التي لاتؤذي بها العالم المحيط القريب و البعيد، اذا ضعف الارهاب الأسد - الايراني و تعاظم دور “القاعدة”،فإنه من المحتم أن يكون لـ”الأسد - ايران” يد تدعمهم ليقفوا ذلك التمدد “القاعدي” الذي حدث، وهكذا دواليك.
و بالعودة إلى ادلب، التي يجمع الجميع على أنها المحطة المقبلة، بعد حلب، بعد اتمام انهاء المناطق المحيطة بدمشق و كذلك في حمص ، لتكون الثورة عبر ست سنوات داخل مربع “ادلب”، وبالأمس كان التصعيد الهستيري ، على مختلف مناطق ادلب ، و التركيز على منطقتين هما أبعد ما يكونا عن “القاعدة” بشتى صنوفها، ماهي إلا محاولة لربط المناطق الخارجة عن وصف “الارهاب” أياً كان مع “القاعدة” و بالتالي جواز التعميم مستقبلاً لكامل ادلب متاحاً.
اليوم مع الاختلاط “الايدلوجي” في ادلب و الذي لعبت عمليات التهجير باتجاهها دوراً في زيادته، يدفع الأسد (وهو أداة بطبيعة الحال)، لزيادة الضغط على المدنيين و من تبقى من الجيش الحر بأن لا يكونوا رافضين لـ”القاعدة” فكراً و نهجاً، بل على الأقل صامتين عنها و متعاونين كنوع من التشارك في “الخندق” حتى يُرد الموت و حماية العرض، ووجود هكذا صيغة، يعد كافياً لأن يكونوا كما هم شركاء بالاستهداف، متشاركين في وصف “الارهاب الأوسع”، وهنا يحدث ما يرنو إليه المخطط الأكبر “روسيا”، ويعمل بمباركة دولية، مع بعض البهارات الانسانية بين الفينة و الأخرى.
سيناريو حلب الذي تابعنا تفاصيله، اليرم نراه يتكرر ، فالخطط المخابراتية هي ذاتها طالما تحقق نجاحاً، فنجحت في عشرات المناطق، لما لا يستمر العمل بها ، فهل نعي ذلك و نعمل على تلافيه أم نقول “واحد واحد الجهاد الشامي و الحر واحد”
فيما المعركة تدور على حلب التي تقصف بوحشية بالصواريخ والبراميل المتفجرة لفرض الاستسلام على فصائل المعارضة المسلحة، أو تعريض سكانها للقتل والتشريد مع تدمير عمرانها، ثمة محادثات تدور بين ممثلين عن الفصائل العسكرية مع مسؤولين روس برعاية تركية، في أنقرة، وأخرى تجري بين موفدين أميركيين وروس في جنيف، في حين أن كل ذلك لم يمنع الفصائل من التنازع والتقاتل، على رغم الحديث عن توحيد فصائل بما سمي «جيش حلب».
اللافت أن كل الأطراف تتصرّف وكأن مصير الصراع السوري سيتقرّر في حلب، وضمنه مصير ثورة السوريين، فيما يتم التلويح من روسيا باعتماد نموذج «داريا»، أو «غروزني»، في حين أن الواقع يفيد بأن النظام لا يملك من أمره شيئاً تقريباً، لا في حلب ولا في غيرها، وأنه لولا الدعم الروسي السياسي والعسكري (لم يكفه الإيراني ولا ميلشيات حزب الله وأبو الفضل ونجباء وفاطميون) لما بقي له شيء، بغض النظر عن مآلات الثورة السورية، بما لها وما عليها.
ثمة أسئلة عدة تطرح نفسها هنا، ومثلاً، هل كانت الفصائل العسكرية التي طالما تحدثت عن اقتراب إسقاط النظام، وعن ساعة «صفر» في دمشق وفي حلب، وعن «ملحمة» هنا وهناك، تدرك ما تقوله حقاً؟ ألم تكن هذه الفصائل تعي حدود قدراتها التسليحية، ومدى قدرتها على الاحتفاظ بما بات يعرف كـ «مناطق محررة» سيما بعد دخول روسيا كطرف مباشر في الحرب؟ ثم إذا كانت تدرك هذا وذاك فلماذا وقعت في هذا الفخّ؟ ألم يكن الأجدى لها انتهاج استراتيجية عسكرية تتناسب مع قواها وتجنّب أهل حلب هذه المعاناة التي لم تخدم إلا النظام؟ أيضاً، لماذا ذهبت الفصائل العسكرية إلى المفاوضات مع الطرف الروسي ولم تفعل بنفسها ما ينبغي عليها فعله قبل الوصول إلى هذه الحال الكارثية؟ وأين هو «الائتلاف الوطني»، الكيان السياسي للمعارضة من هذه المفاوضات؟ ثم هل كانت الفصائل العسكرية لتسكت عن قيام أي طرف معارض بمفاوضات مع روسيا وهي تقتل وتدمر السوريين؟
ليس الغرض من هذه التساؤلات تسجيل مواقف، أو التقليل من شأن تلك الفصائل، وتضحيات منتسبيها، لكن الغرض منه التوضيح أن هذه المآلات كانت نتيجة لعدم إدراك الواقع، والمبالغة بالقدرات، وتجاهل العالم، وتغليب العواطف، وغياب استراتيجية عسكرية ملائمة وممكنة، وعدم ربط الصراع العسكري بالصراع السياسي، والتوضيح أيضاً أن العامل الخارجي بات هو المتحكّم بالصراع السوري أكثر من النظام وأكثر من المعارضة وفصائلها المسلحة.
الخطأ القاتل الذي يمكن ارتكابه هنا هو تقديس العمل المسلح، أو وضعه خارج النقد، كما في الحالة الفلسطينية، في حين أن الثورات، بخاصة المسلحة منها، تفترض هذا النقد لترشيد أوضاعها، وتقليل الأثمان الناجمة عنها، ولتحقيق الإنجازات بأفضل ما يمكن، ناهيك بأن الثورات تتأسس أصلاً على تحرير العقل وضمنه تحرير السياسة وجعلها ملكاً عاماً للمجتمع.
أيضا، ليس الغرض من التساؤلات الإيحاء بطلب ثورة جاهزة، وفقاً لمواصفات نمطية، على المسطرة، فهذا كلام غير واقعي، إذ تأتي الثورات على شكل انفجارات مفاجئة وعفوية، لا يمكن التحكّم بها ولا هندستها، ومع تداعيات سلبية أو إيجابية لا يمكن توقّعها تماماً.
بيد أن ما ينبغي إدراكه أن الأمر مع الثورات المسلحة مختلف تماماً، إذ هكذا ثورات تطول كثيراً، من الناحية الزمنية (الجزائرية والفلسطينية مثلاً)، لذا فهي تحتاج إلى إمكانيات كبيرة، مالية وتسليحية وتسهيلات لوجستية، ما لا يمكن توفيره ذاتياً في مجتمعات فقيرة ومسيطر عليها، إذ هذا الشكل من الصراع يحتاج إلى دعم خارجي، من دولة أو دول عدة. فوق ذلك فإن هكذا ثورات تحتاج إلى إعمال التفكير والتدبير لتقليل أثمانها، على فرض الوصول إلى الهدف بأقرب وقت وبأفضل شكل ممكن.
على ذلك فإن الكلام عن الحركات المسلحة بوصفها ثورات هو كلام مجازي، سواء كانت من أجل التحرر الوطني (كالفلسطينية والجزائرية مثلا)، أو معارضة تستهدف تغيير النظام كمثل الحالة السورية، ذلك أن هذه الحركات يفترض أنها تتطلب أرقى أشكال التنظيم والوعي والإدارة، كونها تحتاج إلى استعدادات وتأهيلات من نوع خاص، كما ذكرنا.
في الحالة السورية نشأت ظاهرة الفصائل المسلحة، منذ البداية، ليس كنتاج للمعارضة السياسية، ولا بفضل الحراكات الشعبية في المجتمع السوري، ولا على أساس الإمكانات الذاتية، وإنما بفضل التشجيع والدعم الخارجيين، ونحن هنا لا نقصد ظاهرة «الجيش الحر» ولا الجماعات الأهلية التي تسلحت للدفاع عن القرى او بعض أحياء المدن، وإنما عن الفصائل المسلحة، ذات الطابع الأيديولوجي، التي بلغ عددها العشرات، من دون ان يكون لها مرجعية واحدة، ومن دون أي تنسيق في ما بينها، والتي اشتغل معظمها كسلطة في «المناطق المحررة»، وبالمنازعات الجانبية مع الفصائل الأخرى، إلى درجة التقاتل تحت أنظار النظام، وعلى مقربة من جبهاته، وهذا حصل أخيراً في الغوطة الشرقية لدمشق وفي حلب تحت الحصار والقصف.
أيضاً، مع ارتهان الفصائل للدول الداعمة، وضبط حركتها على إيقاع هذه الدول السياسي والتسليحي، والارتباط بأجندتها، على حساب اجندة السوريين، فإنها لم تراع ولا مرة امكانياتها المحدودة، ولم تدرك تماماً الحدود التي يسمح لها النظام الدولي بالوصول إليها، ما أدى بها إلى استنزاف قواها، وتالياً إدخال الثورة، وشعبها، في معارك فوق طاقتها وقدرتها على التحمل، ناهيك أن ذلك سهّل على النظام، تحويل ما اعتبره بيئات حاضنة للثورة إلى حقل رماية لمدفعيته وطائراته، ودفع السوريين إلى التشرد واللجوء.
المشكلة أنه لا توجد للثورة السورية أية مرجعية من التجارب التاريخية، فقادة الفصائل العسكرية يتصرفون في الغالبية بطريقة عنجهية غير مسؤولة، وتغلب عليهم النظرة العاطفية والقدرية، وكل ذلك لا ينفع في الصراعات المسلحة، التي تحتاج إلى إمكانات، وإلى ظروف دولية وإقليمية وعربية مساندة. بل إننا شهدنا بأن هذه الفصائل فعلت كل ما بوسعها لخدمة النظام، بخطاباتها الطائفية والدينية المتعصّبة والمتطرّفة، وبتخلف إدارتها للمناطق المحررة، وبانزياحها عن الأهداف الأساسية للثورة، والمتعلقة بإنهاء الاستبداد وإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين في نظام ديموقراطي.
لم يدرك قادة هذه الفصائل أنه من دون استثمار العمل العسكري في السياسة سيؤدي ذلك إلى تبديد التضحيات، وأن موازين القوى أمر مهم في الصراعات العسكرية وأن هذه لا تحصل بالعواطف والروح القدرية التي لا تستطيع شيئاً أمام البراميل المتفجرة ولا أمام الصواريخ الفراغية والارتجاجية، كما لم يدركوا أن الثورات المسلحة عبر التاريخ لم تنتصر إلا لأن العامل الدولي لعب دوراً كبيراَ في انتصارها، وهذا أكثر ما ينطبق على الثورة السورية.
ينبغي هنا طرح الأسئلة من دون حرج، فكيف تأنّى للثورة السورية تغليب العمل المسلح، من دون استعدادات ذاتية، ومن دون إمكانات، ومن دون تطور في فعاليات الثورة، التي لم تستطع حتى الآن تنظيم عصيان مدني؟ ثم كيف أمكن الاستمرار على ذات الطريق على رغم خسارة منطقة تلو الأخرى، وعلى رغم تشرّد ملايين السوريين، وتبيّن محدودية الدعم الدولي وانكشاف ما يسمى معسكر «أصدقاء سورية» مع تلاعباتهم وتبدّل مواقفهم؟ والمعنى أن الثورات ليست مجالاً للهواة والمغامرين، وليست سياحة ولا حلماً ثورياً، لاسيما أن للثورات العنيفة والمسلحة أثمانها الباهظة وتداعياتها الكارثية والسلبية على المجتمع المعني حتى لو انتصرت.
الثورة السورية النبيلة والمستحيلة واليتيمة والشجاعة هي الأكثر شرعية وصعوبة وتعقيداً بين مجمل ثورات الربيع العربي، بما لها وما عليها، مع ذلك يفترض إدراك أن الثورات قد تنتصر وقد لا تنتصر، وقد تنحرف، أو قد تحقق أهدافها جزئياً، كما قد تدخل في مساومات، لكنها مع كل ذلك تكون فتحت الطريق للتغيير، فالماضي لا يمكن أن يعود، وأثمان الثورات باهظة جداً جداً، لكن التاريخ يعمل على هذا النحو وليس على نحو ما نشتهي.
حسناً إذاً... غداً أو بعد غد سيحتفل بشار الأسد بالانتصار على أهل حلب، مثلما انتصر سابقاً على السوريين في حمص وحماه وفي سائر المدن، وأخرج المحظوظين منهم الى مخيمات اللجوء أو الى المنافي، فيما ذهب الأقل حظاً الى القبور. معادلة الحرب القائمة على تفوّق القوي عسكرياً على الضعيف تحتّم انتصار الأسد وشركائه في جرائم قتل السوريين، فيما خنوع الدول الغربية أمام التدخل الروسي قبل عام، الذي كان حاسماً في قلب موازين القوى، فرض أخيراً على أطراف المعارضة أن تجلس الى طاولة التفاوض مع الروسي في أنقرة، لعلها تحصّل شروطاً أفضل للهزيمة في حلب.
خيار أطراف المعارضة كان: القتال الى النهاية في شرق حلب مع ما يعنيه ذلك من كارثة بشرية على حوالى ربع مليون شخص يقيمون في هذه المناطق، معرّضين للموت تحت القصف أو نتيجة الجوع، أو التفاوض على فتح ممرات لخروج السكان مع ما يرافق ذلك من تسليم مسلحي المعارضة أسلحتهم واحتمال اعتقالهم وقتلهم على أيدي جنود النظام وحلفائهم. لكن، حتى هذا التفاوض أصبح عبثياً في ظل مماطلة الروس وإصرار الإيرانيين على تحقيق انتصار كامل في أحياء شرق حلب.
الأسد ذاهب إذاً الى الانتصار، فيما العالم يتفرج على هذا الحجم الهائل من القتل والدمار، الذي وصفته الخارجية الفرنسية بأنه أكبر مجزرة ترتكب بحق المدنيين منذ الحرب العالمية الثانية. حلب تنضم الآن الى لائحة من المدن التي قضت عليها آلة الحرب الوحشية على مرأى من العالم. هل تذكرون ماذا فعل الصرب، حلفاء الروس، في سريبرينيتسا، وماذا فعل فلاديمير بوتين في غروزني؟ وفي كل مرة كان العالم يتوعد بأن هذه المجزرة ستكون الأخيرة، ثم يتحالف العجز الغربي مع البلطجة الروسية، لتمهيد الطريق لارتكاب مجازر جديدة.
الأسد ذاهب الى الانتصار. انتصار لا فضل فيه سوى للإيرانيين والروس ولمقاتلي «حزب الله» وسائر الميليشيات الشيعية القادمة من العراق وأفغانستان ومن كل مكان يتوافر منه مرتزقة للقتال، الى جانب العصبية المذهبية التي صارت الراية الأبرز التي يحارب تحتها هؤلاء، دفاعاً عن النظام «البعثي العلماني»!
في وضع كهذا، هل يمكن تصوّر طبيعة الدولة والنظام السوريين اللذين سيبقيان بعد هذه الحرب؟ الأسد باق على رأس الدولة فيما الروس والإيرانيون يمسكون بمقدرات الأمور على الأرض، كما تفرض حقوق المنتصرين. وصاية كاملة يمكن توقعها على القرار السوري، تشبه تلك الوصاية التي فرضها السوريون على القرار اللبناني على مدى عقد ونصف عقد من الزمن. وكان التبرير هو الغطاء الدولي والقوة العسكرية، وهو التبرير نفسه الذي سيكون جاهزاً لتمكين موسكو وطهران وحلفائهما من الهيمنة على مقدرات القرار السوري.
يقول روبرت فورد، سفير أميركا السابق في دمشق: سيبقى الأسد في الحكم. والروس والإيرانيون يهيمنون. لكن هؤلاء سيحكمون دولة نصف ميتة. سورية ستبقى جرحاً مفتوحاً أمام أنظار العالم.
بلد نصف شعبه مهجّر بين الداخل ومنافي اللجوء في الخارج. بلد تحولت مدنه الى أطلال وخرائب. أهلها يعتاشون على الأعشاب وفتات الخبز المجبولة بمياه الأمطار. أطفاله مشردون من دون أية فرصة لتحصيل العلم، بعدما أصبح هاجس أهلهم الوحيد إبقاءهم على قيد الحياة. مدارس ومستشفيات ومصانع مدمرة. اقتصاد في الحضيض. هذه هي سورية التي سيخرج بشار الأسد منتصراً من حربه فيها وعليها.
بعد انتصار الأسد على السوريين، وعندما تأتي مرحلة إعادة الإعمار، التي تتجاوز تقديرات تكاليفها 250 بليون دولار، من سيموّل مشروع الإعمار هذا؟ أية دولة غربية ستكون مستعدة لإعادة تأهيل بلد يحكمه بشار الأسد؟ مشروع مارشال كان نتيجة طبيعية لانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. المنتصرون يستثمرون في انتصاراتهم. لكن الدول الأوروبية التي تحمّل نظام الأسد المسؤولية عن قتل شعبه وتدمير بلده لن تكون مستعدة لمساعدته على بناء سورية الجديدة. أما دونالد ترامب، صديق بوتين، فعينه على الداخل الأميركي، ولا وقت لديه للاهتمام حتى بحلفاء أميركا الطبيعيين. فيما الروس والإيرانيون محاصرون بالعقوبات الدولية، ويصعب تصوّر مساهمتهم في مشروع بهذا الحجم وبهذه الكلفة.
ينتصر الأسد. حسناً. لكنه ينتصر على شعبه. وتجارب التاريخ تعلمنا أن انتصاراً كهذا ليس مؤهلاً للبقاء. الشعوب هي التي تبقى، أما الأنظمة الجائرة التي تفتك بشعوبها فمصيرها الزوال مهما بدت آلة الحرب قوية وخادعة.