مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٣ يونيو ٢٠١٧
الحرب على «داعش» في الرقة والمحتلون الجدد

(إلى فراس... حارس ذاكرتنا، الباقي وحيداً هناك)

وصفت لجنة تحقيق مستقلة تابعة للأمم المتحدة عدد الضحايا المدنيين في قصف قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، مدينة الرقة، بالمدهش. وقالت اللجنة أن أكثر من 300 سقطوا في هذا القصف خلال أيام، وأن 160 ألفاً تشردوا من منازلهم. مصادر رقاوية قدمت لائحة اسمية بحوالى 600 شهيد قبل أسبوع من تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة. النازحون من المدينة يحجزون من قبل «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) في معسكرات خاصة، وتصادر هوياتهم، وعليهم أن يثبتوا أنهم ليسوا «دواعش». يتشكل العمود الفقري من قوات «قسد» من تنظيم الاتحاد الديموقراطي الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، والمرجع المعتمد أميركياً في «تحرير» المدينة. التخلص من «داعش» يبدو وشيكاً فعلاً، لكن يحصل الأمر بصورة لا تبالي بحياة سكان المدينة وعمرانها من جهة، ويبدو مرشحاً لخلق مشكلة إثنية متفجرة في المنطقة من جهة أخرى.

التنظيم الكردي الذي يشغل مواقع القيادة والتخطيط فيه كرد من تركيا وإيران، يتصرف مع الأكثرية العربية من السكان بصورة يمتزج فيها الاستعلاء بالقسوة و «الرسالة التحضيرية». شكاوى السكان المحليين منذ الاستيلاء على تل أبيض عام 2015 أكثر تواتراً من أن يؤَوّل الأمر كحوادث عارضة، وبعض منها موثّق على كل حال في تقارير لمنظمات حقوقية دولية، مثل أمنستي إنترناشونال وهيومان رايتس ووتش. ومن هذه الوقائع نهب بيوت ومصادرة ملكيات وترويع المدنيين ومنع عودة النازحين إلى قراهم، وممارسات إذلالية متنوعة.

لكن، ما الذي جعل هذا العدوان على حياة السكان المحليين، قصفهم الأحياء السكنية العشوائي بالهاون وبالفوسفور الأبيض، والاعتداء على كرامتهم وملكياتهم، ممكناً؟ أولاً وقبل كل شيء «تدعيش» السكان، اعتبار سكان الرقة حاضنة «داعش». هذا كلام قيل مراراً وتكرراً بحق سكان كانوا مهمشين في غالبيتهم ومفقرين من قبل، وساهم في خفض الحواجز الأخلاقية والقانونية والسياسية التي كان يمكن أن تحمي حياتهم. هذه آلية إبادة معروفة، نصادفها أيضاً في خلفية عمليات الجينوسايد الكبرى في ألمانيا النازية وفي رواندا وكمبوديا وغيرها.

ويندرج اتهام السكان المحليين بـ «الداعشية» في إطار سردية الحرب ضد الإرهاب التي تماهي بين الإرهاب و «داعش» والسلفية الجهادية عموماً، وتماهي من وجه آخر بين محاربي الإرهاب والأميركيين ومن يواليهم ويتبعهم. وهي لذلك بالذات لا ترى أن أول من وقع تحت إرهاب «داعش» هو سكان المدينة، وأن أبرز ثائريها اختطفوا وقتلوا في سياق استيلاء «داعش» عليها (ومنهم أخي فراس وطبيبي إسماعيل الحامض، وأصدقاء آخرون)، وأن سكانها هم من تمّ الاستيلاء على ملكياتهم وتهجير كثيرين منهم.

هذا الإرهاب الأول والأصلي هو بالضبط ما لا يهتم المحررون - المحتلون الجدد بمحاربته. ولم يظهر الأميركيون وأتباعهم، ولو اهتماماً لفظياً، بمصير المخطوفين والمغيبين عند «داعش»، وليس هناك ما يؤشر إلى أدنى عناية بتحريرهم أو معرفة مصيرهم. بمقدار ما يتعلق الأمر بالسكان المحليين، ما يحصل هو أقرب إلى تجديد للاحتلال والإرهاب «الداعشيين»، كان «داعش» نفسه استمراراً للاحتلال والإرهاب الأسديين.

لكن، ما الذي يفسر دور هذا التنظيم الذي وضع القضية الكردية في سورية ضد السكان العرب وليس في مواجهة النظام الأسدي الذي يحكم البلد منذ نحو خمسن عاماً؟ لا يكاد يكون هناك سر وراء ذلك. التنظيم فرع سوري لحزب العمال الكردستاني التركي الذي تشغل تركيا موقع إسرائيله، وهو ما وضعه على علاقة قرب متفاوتة الدفء مع كل من الدولة الأسدية في سورية ودولة الملالي في إيران. الواقعة غير المعروفة على نطاق واسع أن النظام سحب قواته من مناطق الكثافة الكردية في سورية لتركيزها في مواجهة الثورة في وقت دالّ جداً، تموز (يوليو) 2012، أي بالضبط عندما كان الحزب الإيراني يسيطر في دمشق في واقعة رمز لها حينذاك اغتيال عنصر خلية الأزمة (18 تموز 2012). في الوقت ذاته تقريباً، كان الفرع الإيراني لحزب العمال الكردستاني، أي النظير الإيراني لحزب الاتحاد الديموقراطي في سورية، يُجمِّد علمياته ضد دولة الملالي. هكذا، أخذت الساحة الكردية السورية التي كانت حتى ذلك الوقت جزءاً من الثورة السورية له مطالب خاصة، تتحول إلى ورقة بيد حزب العمال الكردستاني في تركيا وحلفائه.

في هذا الوقت بالذات، تموز 2012، كانت التظاهرات السلمية تتوقف في سورية، بفعل استخدام النظام سلاحَ الطيران واستهداف حتى طوابير الخبز على نحو موثق في تقارير منظمات حقوقية دولية معروفة.

وقبل نهاية 2012، كانت تركيا تحرض تشكيلات من الجيش الحر على مهاجمة رأس العين ومقاتلة التنظيم الكردي، وهو مسلك عابث بالقضية السورية وضيّق الأفق سياسياً، ساهم في جعل سورية ساحة إضافية إلى الصراع بين السلطات التركية والتنظيم الأوجلاني. تركيا سهلت أيضاً تدفق جهاديين أجانب عبر حدودها، مُعوّلة على قتالهم التنظيمَ الكردي، وهو ما تحقق فعلاً. لكن «داعش» الذي استقطب معظم هؤلاء الجهاديين العنيفين، لم يقتصر على مقاتلة الكرد، وشملت حربه تشكيلات الجيش الحر ومجموعات إسلامية، واستولى في حركة توسع سريعة عام 2014 على الرقة ومناطق واسعة في دير الزور، وشرق حلب وحماة وحمص، وعلى الموصل في العراق، وحاولت احتلال عين العرب - كوباني، البلدة ذات الغالبية الكردية شمال شرقي حلب. هنا وقع التدخل الأميركي، وتم صد «داعش» عن البلدة التي تدمرت بصورة شبه كلية.

التنظيم الكردي ذو الخبرة القتالية الطيبة والهيكلية المتينة المستمرة طوال ثلاثة عقود، ربط نفسه بعد التدخل الأميركي باستراتيجية الصراع ضد «داعش»، وعمل على الارتباط بالروس أيضاً بعد تدخلهم عام 2015 لمصلحة النظام. لكنه تحول عبر هذه الروابط مع قوى دولية نافذة، وانخراطه في حرب اختيارية وهجومية في مناطق ذات أكثرية عربية، إلى تغليب أجندة حزب العمال الكردستاني في سورية على حساب الأجندة الخاصة بحقوق الكرد السوريين، على ما أظهر تقرير للمجموعة الدولية الخاصة بالأزمات في تقرير لها صدر في 4 أيار (مايو) الماضي («خيار حزب العمال الكردستاني المنذر بالسوء في شمال سورية»).

الارتباط بالحزب الأوجلاني التركي يفسر واقعة مدهشة أخرى يبدو أنها أدهشت الكرد السوريين مثل غيرهم: تلك الرمزيات الحديثة التي تم تعميمها على نطاق عالمي بعد معركة كوباني، مشفوعة بخطاب اجتماعي تحرري (مظهر النساء، تناصف المناصب بين الجنسين، خطاب عن الإدارة الذاتية الديموقراطية...).

هذا يمد جذوره في حياة فكرية وسياسية تركية أنشط بكثير من سورية، ومتوجهة نحو الغرب منذ أجيال، مع وجود جاليات كردية كبيرة من كردستان تركيا في أوروبا. ليس للأمر ذاكرة في سورية، ولا منابر ولا نقاش، ولم تبذل في أي وقت جهود للتواصل مع أي بيئات اجتماعية أو ثقافية أو سياسية سورية، وتبدو محدودة جداً حتى في النطاق الكردي السوري.

والقصد أن التقاء هذه العناصر: حداثة برانية تصلح للتسويق في الغرب، واندراج في مخطط تنظيم غير سوري أقرب للنظام السوري والإيراني، واعتلاء قطار الحرب ضد «داعش»، هو ما جعل قتل مدنيي الرقة وإذلالهم مأمون العواقب.

وليس إلا مطالبة برخصة مفتوحة في القتل اتهام كل من يعترض على منهج الإذلال بأنه «داعشي». هذا منهج النظام وأتباعه في رد الصراع في سورية إلى ثنائية النظام أو الإسلاميين. وهو واقع اجتهد النظام بكل طاقته من أجل صنعه، ولا يزال غير محقق. صناعة كهذه أيضاً يشتغل عليها التنظيم المعتمد عند الأميركيين حين يتوسط لديهم لاستبعاد تشكيل «لواء ثوار الرقة» المكون من مقاتلين محليين من معركة تحرير مدينتهم. اللواء كان مقاتلاً «داعش» طوال الوقت، وهو جزء من «قسد». الجماعة يصنعون الواقع الذي يهوون الشكوى منه.

تبقى نقطتان جديرتان بالذكر. يخطئ معارضون وناشطون عرب حين يتكلمون على تنظيم الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية بأنه انفصالي. فعدا أن هناك حقاً مبدئياً للكرد في دولة مستقلة، ينفصلون فيها عن الدول التي تقاسمت كردستان، وفق السردية القومية الكردية (الانفصال عن سورية وحدها متعذر لعدم التواصل الأرضي بين مناطق الكثافة الكردية، ولقلة المناطق الصافية كردياً)، فالمشكلة في الواقع هي أن التنظيم فرع لحزب آخر، أن الاستراتيجية تصنع في مكان آخر ولغرض آخر، لا تكاد تكون سورية غير ساحة له، ولا يكاد يكون كردها غير ورقة فيه. ما ليس مقبولاً ليس طموح الكرد السوريين للانفصال، بل توجيه هذا الطموح ضد السكان غير الكرد (والكرد المعارضون للتنظيم الأوجلاني)، وممارسة من كانوا مضطهَدين قبل قليل الاضطهاد في مناطق عربية كان سكانها مهمشين من قبل الدولة الأسدية.

النقطة الثانية تتعلق بمستقبل الرقة والجزيرة بعد «داعش». ليس هناك مؤشرات إلى التزام أميركي طويل الأمد في الجزيرة السورية. هذا يترك الباب مفتوحاً لإعادة المنطقة إلى الدولة الأسدية، وحلفائها الإيرانيين والعراقيين. قد نرى ذلك خلال أشهر من اليوم. هل هناك احتمال لعمليات تطهير عرقي يشكل استرخاص حياة مدنيي الرقة تمريناً عليها؟ هذا ربما يحتاج إلى إحياء «داعش» بعد موته، أو إبقائه قادراً على القيام بعمليات إرهابية، تسوغ حملات تأديبية وتطهيرية بحق السكان من وقت إلى آخر. تهجير سكان مناطق متعددة من جانب الدولة الأسدية يمكن أن يكون نموذجاً يحتذى في هذا الشأن. وتحت جناح الحرب، يمكن أن ترتكب جرائم كبيرة، وتغطى جرائم كبيرة.

ما يستمر من الأسدية إلى «داعش» إلى «قسد» هو تجريد السكان من ملكية منطقتهم وتمثيل أنفسهم والعيش بكرامة على أرضهم.

اقرأ المزيد
٢٢ يونيو ٢٠١٧
درعا في معركة الصراع على سورية

يعوّل المجتمع الدولي كثيراً، على ما يظهر، على ذاكرة الأطراف السورية القصيرة في تعامله مع قضاياهم، خصوصا في شأن إشاعته أوهام الحل التفاوضي، بعد كل مجزرةٍ يسقط فيها مئات الضحايا من السوريين المدنيين، وفي تهرّبه من مسؤولياته في وقف المجازر، ومحاسبة المسؤولين عنها، وذلك عبر مواصلة القفز إلى جولاتٍ تفاوضيةٍ جديدة، وتحديد جدول أعمالٍ جديد، ينتهي عادة إلى الفشل، ليعود السوريون إلى واقعهم، وإلى حالهم المأساوية المستمرة منذ قرابة سبعة أعوام.

وتدخل معركة درعا، وتطوراتها، ضمن سلسلة السياسات الدولية نفسها التي اعتادت التغاضي عن محاسبة المسؤولين عن خرق اتفاق ما سمي "مناطق خفض التصعيد"، والذي وقعته روسيا وإيران وتركيا، والمفترض أنها الضامنة لتنفيذه ومراقبته، وهي المشاركة بخرقه (إيران وروسيا)، في الوقت نفسه، بل وبارتكاب مجازر بحق المدنيين السوريين في جنوب البلاد، بغرض إعادة رسم خريطة توزيع النفوذ الدولي على الأراضي السورية، وتعويم النظام، بتمكينه من مد سلطته من معبر نصيب على الحدود مع الأردن، وصولاً من دمشق، مع سعيه إلى السيطرة التامة على أحياء درعا الداخلية، للحؤول دون استفراد المعارضة بها، وتهديد وجود مؤسسات النظام الأمنية والعسكرية فيها.

بيد أن فشل حملة النظام المدعومة بقوات إيرانية وأفغانية وطيران روسي، كما اتضح في الأيام الماضية، اضطر موسكو إلى اللجوء إلى خطةٍ بديلة، تتمثل بتقديم صفقةٍ سياسيةٍ للجانب الأميركي، تمنحه فيها بعض ما طالب به ترامب من "مناطق آمنة" إبّان تسلمه السلطة في بداية العام الجاري. فلم تخف الإدارة الأميركية رفضها مسيرة جولات أستانة التي عقدت في شبه غياب لدورها، والأهم من ذلك بحكم عدم رضاها عن توافقات أستانة التي لم تصمد طويلاً، خصوصا بسبب تلويحها الحاسم برفض أي دور لإيران فيها، في الوقت الذي حاولت فيه روسيا أن تلعب بطريقة مزدوجة، بأن تستفيد من إصرار إيران على دور فاعل داخل سورية، من جهة؛ ومن إصرار المجتمع الدولي على تحجيم الدور الإيراني في المنطقة عموماً، من جهة أخرى. بيد أن هذه اللعبة، أو المحاولة، أعاقت أو اضعفت قدرة موسكو على تمرير اتفاق "مناطق خفض التصعيد" أممياً، ما أبقاه في إطار المسعى المرحب بتنفيذ مضمونه، وهو خفض التوتر، وتقليص عدد الضحايا، في أربع مناطق من سورية، وضمنها درعا. بيد أن المدينة المذكورة شهدت، في الأيام الماضية، واحدةً من أكبر المعارك وأوجعها، ليس فقط بسبب استخدام النظام وإيران (ومليشياتها) مختلف أنواع الأسلحة في القصف براً وجواً، بل باعتبارها، أيضاً، المعركة الوحيدة التي حصدت صمتاً دولياً غير مسبوق، حتى من جهة دول الجوار أو المجتمع الدولي عموماً، وحتى من مسيرة عملية التفاوض في جنيف، والشاهد الحاضر على اتفاق أستانة خلال جولتها الخامسة التي عقدت الشهر الماضي، أي ستيفان دي مستورا، المبعوث الأممي إلى سورية.

الواضح أن صمود مقاتلي المعارضة في درعا، وإحباط محاولات تقدّم النظام وشركائه براً، حال، ولو بشكل جزئي، دون أن يكون مصير هذه المدينة كما كان مصير حلب، على الرغم من أنها تعرّضت لعملية تدمير ممنهجة، الأمر الذي اضطر موسكو إلى اللجوء إلى ما سمته إعلان وقف عمليات النظام على درعا بمثابة "هدنةٍ"، لتعود إلى المطلب الأميركي، وهو إقامة منطقة آمنة في الجنوب، خاليةٍ من الوجود الإيراني، ما يبطن، أيضاً، محاولةً منها لطمأنة إسرائيل، أو الاستجابة لمطالبها الأمنية، والتي تتم بالتوافق والتنسيق بينها وبين كل من أميركا وروسيا.

يستنتج من ذلك أن المعركة على درعا، وهي نفسها المعركة على من يسيطر على الجنوب السوري، باتت من أهم محدّدات الصراع على سورية برمتها، لأسباب متعدّدة ومختلفة، أهمها يمكن تحديده في الآتي:
أولاً، إنها ليست معركةً لتجنيب الدول المجاورة (الأردن وإسرائيل) تبعات (أو تداعيات) الحرب السورية، أو الصراع الدولي والإقليمي على سورية، فقط، على الرغم من اعترافنا بأهمية ذلك كله للأطراف المعنية، وإنما هي، إضافة إلى كل ما تقدّم، تتعلق بمنع إيران وملشياتها مختلفة المضارب من إيجاد منطقة نفوذٍ لها في هذه المنطقة، من شأنها تعزيز موقفها في صياغة مستقبل سورية لاحقاً، وهو ما فتئت الإدارة الأميركية ومسؤوليها يؤكدونه ويكرّرونه في تصريحاتهم.

ثانياً، قد تكون معركة درعا، وهذا يفترض صمود قوات المعارضة فيها، مشجعة للإدارة الأميركية على فرض منطقة آمنة في الجنوب، ظلت توحي بها منذ مجيئها، بما يضاهي المنطقة التي تشتغل عليها في الشرق السوري (التنف)، وفي الشمال الشرقي، حيث تتموضع "قوات سورية الديمقراطية" التي تتمتع بالدعم والحماية الأميركيين. وقد شهدنا ممهدات ذلك، في الأيام الماضية، في القصف الأميركي لجماعاتٍ عسكريةٍ تابعةٍ لإيران قرب التنف، وفي إسقاط طائرةٍ حربيةٍ سوريةٍ من طائرةٍ حربيةٍ أميركية قرب الرقة، وفي نشر الجيش الأميركي راجماتٍ من نوع هرمس في التنف. وربما أن هذا الملف هو ما جرى التباحث فيه بين ممثلين عسكريين أميركيين وروس في عمّان أخيرا؛ علماً أن ذلك كله يتوقف على صمود المعارضة السورية في درعا.

ثالثاً، المعركة في الجنوب، كما تبدو في المنظور الأميركي، هي استمرار للمعركة على الجغرافيا السورية، أي أنها تدخل في الخطة الأميركية الرامية إلى السيطرة على الحدود مع سورية، ليس فقط لوضع حد لنفوذ إيران والقوات التابعة لها (من العراق ولبنان وأفغانستان) وإنما أيضا لإنهاء نفوذ "داعش". وإضافة إلى هذا وذاك، هي جزء من المعركة على تقرير مآلات الصراع السوري الممتد منذ قرابة سبعة أعوام، والذي اتضح أن تحديده لا يتعلق فقط بالرغبات السياسية، وإنما هو يحتاج أيضا إلى قوةٍ ميدانية، وهو ما بات ربما في صلب توجهات الإدارة الأميركية، وما تم تسريبه عن وجود مئات المقاتلين من قوات النخبة الأميركية (وغيرها) في القتال الدائر مع "داعش" في الرقة، إلى جانب قوات "قسد".

رابعاً، تعزّز هذه المعركة الضغوط على روسيا التي اضطرّت، كما ذكرنا سابقا، للذهاب نحو فرض هدنةٍ على أطراف الصراع مباشرة (النظام والمعارضة)، بعد أن عجز النظام عن إحراز مكاسب، أو تغيير المعادلات، بجعله المتحكّم في الجنوب من بوابة السيطرة على مدينة درعا وإنهاء نفوذ المعارضة فيها، كما حصل سابقا في حلب. أي أن الولايات المتحدة تستثمر إخفاق النظام في درعا، لاستدراج روسيا إلى توافقاتٍ تتيح جعل هذه المنطقة خارج سيطرة النظام وحلفائه، وهو استثمارٌ يصب في إضعاف النظام، وربما يعجّل في تسريع عجلة الحل السياسي التفاوضي.
ما يجري في درعا قد يحدّد أو يسرع في تحديد مستقبل سورية...

اقرأ المزيد
٢٢ يونيو ٢٠١٧
من حكايات الحصار والتهجير القسري في سورية

«شعرت بالاختناق وكأن روحي تنتزع مني ما إن وصلت حافلات الترحيل. كنت على يقين بأنه لن يتسنى لي رؤية حي القابون الدمشقي مرة أخرى، حاولت الانشغال بمساعدة الأطفال على صعود الحافلة كي أشيح نظري عما يجري في تلك اللحظة المؤلمة، فأنا لا أريد أن يطغى ذلك المشهد المذل على صور ومحطات عشتها، في المكان ذاته، طيلة سنوات من العنف والحصار.

هنا، قرب المسجد الكبير، دمرت البراميل المتفجرة بيوتاً عدة كان أحدها بيتي، لم تتسنّ لي المساهمة في رفع الأنقاض ورؤية جثماني زوجتي وطفلي قبل دفنهما، كنت أشارك في كسر هجوم شرس حاول اختراق مشارف الحي الغربية... هناك خلف ورشة صيانة السيارات، خسرت ثلاثة من رفاق الطفولة حاولوا التسلل لاستلام بعض الأدوية والمصول الطبية من مسعفي حي حرستا المجاور. هذا بينما تمتد، بالقرب من تلك الحافلات اللعينة، مقبرة الحي الشهيرة، التي لم تكن فقط ساحة لانطلاق التظاهرات وتشييع الشهداء، وإنما أيضاً «سلة غذاء» أعانت أعشابها ونباتاتها العشوائية الوفيرة أهل الحي على مقاومة جوع الحصار الجائر. وخلفها ثمة ما كان يعرف بسوق الخضار الذي صار أثراً بعد عين، بفعل إغراقه بالبراميل المتفجرة بذريعة تحوله إلى مستشفى ميداني. وبينهما يقع منزل حلاق الحي الشجاع الذي صار مركزاً للتواصل مع التنسيقيات المجاورة، وتوزيع المهمات ومواد التموين وصياغة الشعارات وحتى التدريب على استخدام السلاح.

كانت قائمة الحافلة الأولى تضم عشرين مقاتلاً مع من تبقى من أسرهم إضافة إلى أهالي بعض الشهداء. لم يكن ثمة جدوى، بالنسبة إلينا كمجموعة لا تزال أمينة لشعارات الثورة، من رفضنا الاتفاق الذي سمي زوراً «مصالحة» وتحديداً اشتراطه ترحيل المقاتلين إلى مدينة إدلب. لم ينفعنا شحن النفوس بنجاحنا، غير مرة، في هزيمة قوات النظام وميليشياته، وبأخطار توطين موالين لإيران في بيوتنا، فالطاغي إحساس بعبث استمرار الصمود الذي بات يشبه الانتحار بعد ما أحدثه التدخل العسكري الروسي من تبدلات، والأهم بعد تنفيذ اتفاقات مماثلة في برزة والتل والمعضمية وداريا. زاد الطين بلة الترويج «لرؤية» تبارك الاتفاق راودت أمير إحدى الجماعات الاسلاموية، مدعومة بكلمات ديماغوجية للمفتي الشرعي تعتبر ما حصل نصراً مبيناً لجند الله، وهزيمة منكرة لنظام كافر أرغم على قبول خروج المقاتلين بكامل أسلحتهم!

نظرت بازدراء إلى بندقيتي وتذكرت نادماً يوم حملتها أول مرة، قبلها كان ثمة إصرار عام على سلمية الثورة، كنا نسارع لتسليم ما تتركه أجهزة الأمن من بنادق رشاشة في زوايا الطرقات إلى مخفر الشرطة، ساخرين من محاولاتهم إغراءنا، لكن الأمور تطورت بسرعة عندما أطلقت قوات الأمن وفي شكل سافر ومقصود، الرصاص القاتل على تجمع مسالم سقط إثره العشرات من الأبرياء بين قتيل وجريح.

لم لا نحمي أنفسنا؟ بدأ السؤال يطرح بصوت خافت، لكن قوته وجهوريته ازدادتا طرداً مع تصاعد العنف السلطوي واستفزازاته الطائفية، ليلقى الاستحسان والتشجيع. الشروع بتشكيل مجموعات مسلحة تحت عنوان حماية الحشود المدنية والمتظاهرين، ومن هذه الخطوة بدأت سلمية الثورة تتراجع ومظاهر العسكرة تتنامى، ولم يلبث الأمر أن خرج عن السيطرة نحو مناوشات مع رجال الأمن وبعض حواجز النظام، ثم معارك تنازع السيطرة على المناطق والمدن.

هل كان في الإمكان أن نحافظ على سلمية الثورة أمام عنف منفلت للنظام ودموية واستفزاز لم يعرفا حدوداً؟! وأنّى لنا ردع متطرفين جهاديين ديدنهم الإرهاب، أطلقهم النظام مراهناً على نهجهم في قيادة الحراك الشعبي نحو العنف؟ وكيف نواجه كمحتاجين ومعوزين، إغراء المال وقنوات التمويل التي تنطحت لتغطية تكاليف استجرار السلاح وحاجات أسر الشهداء والمقاتلين والجرحى؟

تبدلت أسئلة الماضي ما إن تجاوزت الحافلات العاصمة وبدأت تشق طريقها نحو الشمال، لتتواتر الأسئلة المتعلقة بالمستقبل: كيف سأبقى وفياً لدماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الحرية والكرامة؟ أين سأقف من الصراعات الدموية بين الفصائل؟ هل ثمة فرصة لمناهضة فكر «هيئة فتح الشام» وكيف سيتسنى لي العمل وفق قناعاتي وأنا بين ظهرانيهم؟ هل سأكون هدفاً لممارساتهم القمعية المقززة وربما للاغتيال، وهم الذين لم يوفروا قتلاً أهم رموز العمل الوطني وقادة من الجيش الحر؟

استبعدت من تفكيري خيار السفر خارج البلاد، مثلما استبعدت الالتحاق بقوات سورية الديموقراطية التي لي عليها مآخذ كثيرة. تذكرت كيف تجاوزنا الصعوبات التي اعترضتنا قبل النجاح في تنظيم شؤون حي القابون وتأمين أمنه ومستلزمات حياة الناس، حتى صار مضرب مثل، ليس فقط كآخر حي حمل السلاح وعقد «مصالحة» بل كأحد الأحياء القليلة التي لم يغادره إلا القلة من أبنائه، وقد تمكنت الإدارة المدنية طمأنة قاطنيه وتشجيعهم على البقاء.

وتذكرت إرهاب النظام وأجهزته الأمنية عندما وصلنا الى حاجز «هيئة فتح الشام». ران صمت رهيب على الركاب جميعاً، صمت يفيض بالهلع، بانتظار ما قد تسفر عنه المداولات مع سائقي الحافلات. أراحنا سماع ضحكات خافتة وربما مستهزئة، قبل أن يصعد أحد الملثمين ليدقق في الوجوه.

ساعة كاملة قضيناها على الحاجز قبل أن يسمح لنا بالمرور، ساعة رأينا فيها حياتنا البائسة كشريط يختنق بآمالنا وآلامنا وفشلنا، شريط يختصر ربما كل شيء، كل ما مررّنا به من مرّ وعلقم وحزن وفجيعة وغضب وقهر.

في ساحة معرة النعمان، سمعت صوتاً يناديني تشوبه بحة أعرفها، هو أحد رفاق الحي، أصيب منذ سنة ونقل إلى الشمال للمعالجة، سارع لاحتضاني، ولم أعرف لم اندفعت فوراً للحديث عما مررنا به من حصار وألم ومرض وشقاء. اعترفت بتلقائية الأطفال وصراحتهم بأخطائنا ومثالبنا، بدوت كمن يريد إفراغ كل ما يعتمل في صدره، قبل أن يقاطعني وينبهني لوصولنا إلى حيث سأقيم موقتاً، كي يسارع في العودة لاستقبال مهجرين آخرين».

اقرأ المزيد
٢٢ يونيو ٢٠١٧
الألغام سلاح طهران لإبادة الشعب العربي الأحوازي

يعتمد النظام الإيراني أساليب مختلفة وملتوية للقضاء على هوية الشعب العربي الأحوازي ووجوده وباقي الشعوب غير الفارسية في إيران دون أي مراعاة للقوانين الدولية وحتى القيم الأخلاقية والإنسانية. إن عدم تطهير الأراضي المزروعة بالألغام المتبقية منذ الحرب العراقية - الإيرانية هو أحد تلك الأساليب الخبيثة التي بات واضحاً أن إيران تستخدمها ضد أبناء هذا الشعب ضمن خطة أوسع تهدف إبادتهم بشكل نهائي، بعد أن احتلت أرضهم عام 1925.

ففي الشهر الماضي، جاء في الأنباء أن صبياً أحوازياً يبلغ من العمر 13 عاماً توفي إثر انفجار لغم أرضي في إقليم الأحواز، وهذا الصبي يعد واحداً من آلاف الضحايا الذين قتلتهم أو شوهت أجسادهم مخلفات الحرب وحقول الألغام التي يقدر بأنها تضم ما بين 20 مليون إلى 30 مليون لغم تقع جميعها على طول الشريط المحاذي للحدود مع العراق والذي يمتد من داخل كردستان إيران حتى نهاية إقليم الأحواز، وتعد إيران ثاني أكبر بلد ملوث بألغام الحروب (وفقاً لما ذكرته شيرين عبادي الحائزة جائزة نوبل للسلام ورئيسة منظمة حقوق الإنسان الإيرانية ومديرة جمعية التعاون لإزالة الألغام).

وحسب ما ذكرت وكالة أنباء إيران الرسمية (إيرنا) أن 24 شخصاً سقطوا ضحايا جراء انفجار الألغام في عام 2016، فقتل 6 منهم وأصيب آخرون بجروح أدت إلى تشوهات جسدية، وذكرت منظمة حقوق الإنسان في كردستان إيران أن في عام 2015 قتل وجُرح 48 شخصاً بسبب الألغام ومخلفات الحرب، وكان من بين الضحايا 12 طفلاً وست نساء، وفي عام 2014 قُتل وجُرح 200 شخص، وبلغت نسبة الضحايا 184 في عام 2013، وفي العام الحالي بلغ عدد الضحايا 19 شخصاً كان معظمهم من بين البدو الرُحل والمزارعين في إقليمي عيلام والأحواز، وفقاً لوكالة الطلبة للأنباء الإيرانية، ولربما زيادة نسبة حالات التشوه الناجمة عن الإصابة بالألغام هو السبب في ارتفاع عدد متاجر بيع الأجزاء الصناعية في الأقاليم الحدودية خاصة في كردستان والأحواز.

من جانب آخر، ذكر مدير أمن الحدود ومساعد محافظ «خوزستان» (الأحواز)، عبد الرحيم ناطقي، أنه يوجد أكثر من مليون و380 ألف هكتار من الأراضي الزراعية الملوثة بالألغام في الأهواز وحده، وتشير الإحصائيات الصادرة عن الأمم المتحدة إلى أن معدل الإصابة بالألغام في إيران يبلغ شخصين في اليوم الواحد، ويقدر التقرير عدد هذه الألغام بـ20 مليون لغماً مزروعاً في حوقل منتشرة في المناطق الحدودية، ويضيف التقرير أنه رغم امتلاكه خرائط مناطق انتشار هذه الألغام لم يقم النظام الإيراني بإزالتها.

ولا يبقي هناك مجال للشك إذا قلنا إن النظام الإيراني يتابع من وراء إحجامه عن تطهير الألغام سياسة ممنهجة لإبادة الشعب العربي الأحوازي، وذلك ضمن خطته الأكبر والأوسع الرامية إلى محو وجود هذا الشعب العربي المضطهد، لأنه في الوقت الذي يترك أبناء هذا الشعب طعماً للألغام، يساهم بالمال والخبرات لإزالة الألغام في جنوب لبنان، وذلك عبر مؤسسة غير حكومية تدعى «جيل السلام» أو «بي جي أو دبليو» حسب تقرير نشرته جريدة «ناشيونال نيوز» الإماراتية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2009، حيث أكد مدير هذه المؤسسة، محمود راههال، أن معظم دعم هذه المؤسسة يأتي من مؤسسة إيرانية شريكة، ساهمت بـ70 مليون دولار أميركي وأيضاً في مجالي الإشراف والتدريب لإزالة الألغام.

وفي عام 2007 قدمت أنا شخصياً احتجاجاً من داخل البرلمان السويدي على قرار مجموعة من الدول الإسكندنافية، ومنظمات غير حكومية تقديم 93 مليون دولار للنظام الإيراني لمكافحة الألغام، وذكرت في كلمتي الاحتجاجية أن إيران لن تستخدم تلك الأموال لتطهير الألغام، وإنما ستستفيد منها لإبادة الشعب العربي الأحوازي، وفي السياق نفسه، حضرت في 10 مارس (آذار) من عام 2017 مع الزميلة والصديقة شيرين عبادي مؤتمراً في البرلمان السويسري وقدمنا شرحاً مفصلاً عن مشكلة الألغام واستخدامها للتطهير العرقي في الأحواز، كما أكدت السيدة عبادي أن إيران لم تتعامل مع موضوع تطهير الألغام بجدية، ولا تقدم حلاً لمواطنيها الذين يواجهون مشكلة الألغام في المناطق الحدودية.

إن النظام الإيراني عبر تجاهله لمسألة تطهير حقول الألغام وما تخلفه من ضحايا، يقوم في الحقيقة بتنفيذ خطته التي تمت الموافقة عليها من قبل رؤوس النظام بعد نهاية الحرب مع العراق وأثناء رئاسة رفسنجاني والتي تهدف إلى إحداث تغيير ديموغرافي في إقليم الأحواز وخفض نسبة العرب الحالية التي تبلغ نحو 80 في المائة من السكان، لتصبح هذه النسبة عربي 1 مقابل 3 فرس وغير عرب، وذلك لاعتقاده أن الأحوازيين غير موالين له وقاموا بمساعدة جيش صدام حسين خلال الحرب، ولمتابعة هذه الخطة تم إنشاء منظمة سرية بميزانية وإمكانيات كبيرة برئاسة محسن رضائي، رئيس الحرس الثوري السابق والمعروف بعدائه وعنصريته تجاه العرب.

وبالإضافة إلى ما ذكرنا، عمد النظام الإيراني إلى استخدم طرق أخرى لها علاقة بالحرب للضغط على الشعب الأحوازي ومنها عدم السماح لمشردي الحرب القاطنين في مدن إيران في الشمال والوسط بالعودة لقراهم ومزارعهم بحجة تلوثها بالألغام، وعدم إعادة أعمار المرافق الحيوية التي دمرتها الحرب في مدن الأحواز وعبادان والمحمرة، حيث تبلغ نسبة إعادة الأعمار لتلك المناطق 20 أو 30 في المائة فقط، كما لم يستعد ميناء المحمرة نشاطه الاقتصادي لحد الآن، بسبب رفض النظام تطهير شط العرب والممر البحري من بقايا السفن المدمرة ومخلفات الحرب، كما لم يستطع الفلاحون الأحوازيون إعادة زرع ملايين النخيل التي حصدتها آلة الحرب لعدم حصولهم على تراخيص من الحكومة بهذا الشأن.

في واقع الأمر أن النظام الإيراني يوظف كل ما خلفته الحرب من ويلات ودمار ضمن خطته الكبرى، الرامية إلى إزالة الشعب العربي الأحوازي من أرض آبائه وأجداده فيمارس شتى الأساليب لمحو وجوده ومعالمها في كل المجالات فيطبق النظام مشاريع مختلفة في غاية الخبث ترنو إلى إبادة هذا الشعب واستئصاله من موطنه الأصلي لينفرد النظام بخيراته وثرواته الكثيرة.

اقرأ المزيد
٢٢ يونيو ٢٠١٧
معركة درعا والمشروع الإيراني في الجنوب

في 12 فبراير/شباط 2017 أعلنت غرفة عمليات “البنيان المرصوص” عن بدء معركة باسم “الموت ولا المذلة” تجاه حي المنشية الواقع تحت سيطرة نظام الأسد، لإبعاد النظام مسافة أكبر عن المعبر الحدودي مع الأردن بعد سلسلة من محاولات النظام التقدم باتجاهه، وحي المنشية هو الجزء المتبقي تحت سيطرته من أحياء “درعا البلد” حيث انطلقت شرارة الانتفاضة الشعبية في 18 مايو/آذار 2011، حيث تسيطر المعارضة في مدينة درعا على “درعا البلد” ومخيم درعا (الذي كانت تسكنه غالبية من الفلسطينيين والنازحين من الجولان)، بينما يتمركز النظام في درعا المحطة وهو الجزء التجاري والأحدث من المدينة والموصول عبر الأوتوستراد الدولي إلى العاصمة دمشق، وتعتبر محافظة درعا أول الحواضن الاجتماعية الصلبة للانتفاضة الشعبية والجيش الحر والمعادية لنظام الأسد. يسلط تحليل المعارك الأخيرة ضوءً على تكتيكات الأطراف المقاتلة، وكذلك على استراتيجية إيران في المنطقة الجنوبية وسوريا برمتها.

تتكون “البنيان المرصوص” من غالبية من المقاتلين المحليين من أبناء مدينة درعا والمنتمين لمظلة الجيش الحر مع مشاركة مقاتلين محليين من فصائل إسلامية أو من ريف درعا، وأصبحت مع الوقت تمثل نموذجاً للعمل العسكري المنظم والناجح بالنسبة لباقي التشكيلات في المحافظة، إضافة إلى كسر حالة التنافس الفصائلي والجمود العسكري الذي كان مخيماً على الجنوب.

مرت معركة “الموت ولا المذلة” بعدة مراحل خلال الأشهر الأربعة قبل الحملة الأخيرة، واستطاعت التقدم والسيطرة على كامل حي المنشية –تقريباً- خلال أشهر من معارك المباني العنيفة واستعمال مكثف للأنفاق تحت الأرض والسيارات المفخخة عن بعد وصاروخ عمر (أرض-أرض) المصنع محلياً، دون أن يتمكن النظام –وتغطية الطيران الروسي- من استعادة المناطق التي خسرها وفشل الوحدات المختلفة في الثبات أمام هجمات متمرّدي درعا.

في بداية يونيو/حزيران دخلت إيران وروسيا بقوة على خط المعركة بمخطط اجتياح المدينة، والوصول حتى المعبر الحدودي مع الأردن، وفصل ريف درعا الشرقي عن الغربي، مستغلين هدوء جبهات الشمال السوري الذي وفر لهم عدداً أكبر من المقاتلين، حيث أرسلت إيران عدداً كبيراً من مقاتلي الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات لتدخل في المعركة، بقيادة حزب الله اللبناني، كما أرسل النظام وحدات اقتحام خاصة من الفرقة الرابعة بقيادة العقيد غياث دله سبق أن جربها في معارك الزبداني وداريا، كما بدأ الطيران الحربي للنظام مع الطيران الروسي يكثف القصف الجوي على أحياء المدينة بمختلف الأسلحة ومن ضمنها النابالم الحارق، مع استمرار البراميل المتفجرة والقصف المدفعي، مستخدمين أسلوب الأرض المحروقة كالتي سبق استعمالها في الأحياء الشرقية المحاصرة من حلب قبل خروج قوات المعارضة.

وبسبب تركيز قوات البنيان المرصوص على جبهة المنشية وتحصينها، حاولت الحملة الإيرانية العكسية اختراق مناطق قوات المعارضة من خلال خاصرة مخيم درعا، وشنت عدة حملات اقتحامية عنيفة شهدت مقتل عدد من قيادات الفرقة الرابعة وحزب الله، وعدد من قياديي الجيش الحر في المقابل، دون أن تنجح في تغيير مواقع السيطرة، خاصة بسبب التماسك العشائري والمناطقي للتشكيلات في الجنوب، والتي يقود غالبها ضباط منشقون، وهي حالة مختلفة عن الشمال.

في 17 يونيو/حزيران بدأت هدنة لمدة 48 ساعة باتفاق أردني روسي أمريكي، ثم 24 ساعة لاحقاً، لتعود الحملة بشكل أعنف ومشاركة مكثفة من الطيران الروسي، بعد إسقاط القوات الأمريكية طائرة مقاتلة للنظام قرب الطبقة، ما كان أشبه بردة فعل روسية انتقامية وإعلان نقض للاتفاق، وتجددت الحملة على مخيم درعا وتسللت قوة من النظام إلى كتيبة الدفاع الجوي قرب الطريق الحربي (الواصل بين ريف درعا الشرقي والغربي) ولكن تمكنت البنيان المرصوص من استعادتها سريعاً مع خسائر متراكمة للنظام وحلفائه، وحافظت خريطة السيطرة على ثباتها حتى كتابة المقال.

رغم أن درعا مشمولة ضمن اتفاقية مناطق خفض التصعيد (مايو/أيار 2017)، ورغم التركيز العربي والأمريكي الرسمي على تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، إلا أن ذلك لم يمنع من الحملة الروسية الإيرانية المشتركة على مدينة درعا، بهدف وصول الميليشيات المدعومة إيرانياً إلى الحدود الأردنية ، كما وصلت إلى الحدود السورية العراقية من جهتي الحدود عبر البادية، وكذلك فرضت سيطرتها على القلمون الغربي المحاذي للحدود اللبنانية بعد سلسلة طويلة من المعارك واتفاقيات التهجير، فيما يمكن اعتباره “معركة المعابر” بالنسبة إلى إيران، لقطع الطريق على مشروع المناطق الآمنة الذي كان مطروحاً من قبل إدارة ترامب، ولتأمين خط إمداد ممتد من طهران حتى الضاحية الجنوبية، وتحجيم المشروع الأمريكي أيضاً.

أما بالنسبة إلى درعا، والتي كانت مطروحة ضمن نقاشات المناطق الآمنة أيضاً، فتهدف طهران لفرض وجودها كأمر واقع على الأردن والمشروع الأمريكي في سوريا (إن وجد)، كما تعتبرها فرصة لعزل مناطق درعا والسيطرة التدريجية على أهم المعاقل المتبقية للجيش الحر وأكثرها رمزية، وإعادة الشرعية للأسد، والاقتراب من مرتفعات الجولان.

بالنسبة للأردن، يثير دخول الميليشيات الشيعية على خط المعركة وتحول مستوى القصف مخاوف عديدة، أمنية وسياسية واقتصادية، فقد سبق لعمّان التصريح برفض وجود ميليشيات طائفية على حدوده، في إشارة إلى إيران، كما يتخوف الأردن من موجة نزوح كبيرة باتجاهه، وهو ما دفعه لزيادة الدعم الموجه إلى متمردي درعا، دون تحول نوعي، وإلى الضغط الديبلوماسي لإتمام اتفاقيات الهدنة ووقف الحملة على المدينة، ولكن مع إلغاء إمكانية تدخله البري –على غرار درع الفرات في الشمال- ودون أن يلغي ذلك تخوفه من احتمالية التقدم الإيراني نحو حدوده وخياراته البديلة، والتي قد تتضمن قبول وجود الأسد في معبر درعا أو نصيب الحدودي مقابل ابتعاد إيران، وهو ما سيفقده حلفاءه ومنطقة نفوذه – شبه الوحيدة – في الجنوب السوري إن حدث.

وتطرح معركة درعا تهديداً يُعتبر الأخطر على استمرارية العملية السياسية، بالنسبة لمسار جنيف والأستانة، وعلى الخيارات المستقبلية للمعارضة، بسبب شعور قوى الثورة بعدم جدوى هذه المسارات، ولا مصداقية الاتفاقيات مع روسيا والتي شهدت –منذ مؤتمر الأستانة الأول- خسارة وتهجير العديد من المناطق في ريف دمشق وحمص، مع استمرارية محاولات اقتحام الغوطة الشرقية، والمعركة الكبرى على درعا اليوم، وهي جميعاً تتم بشراكة روسية إيرانية، إضافة إلى التمدد الأخير في البادية ومحاولة قطع الطريق على أي تماس بين قوى الجيش الحر وتنظيم داعش لاحتكار الحرب ضد الإرهاب، ومنع تقدم قوات المعارضة نحو دير الزور، ولذلك يخيم شعور لدى قوى الثورة السياسية والعسكرية وحواضنها الشعبية أنها أصبحت خاسرة على كل الصعد عبر هذه المسارات في مقابل تمدد المشروع الإيراني المستمر، ودون استراتيجية أمريكية وعربية واضحة وجدية لمواجهته، وأن اتفاق خفض التصعيد كان أشبه بتحييد القوى العسكرية في الشمال ريثما تنجز المهمة في الجنوب، إضافة إلى الضغوط الشعبية وتهديد الشرعية الذي يواجهها فيما لو استمرت بالمسار السياسي مع التراجع المستمر على الأرض.

خلاصة القول، إن نتائج معركة درعا الراهنة ستكون نقطة تحول في مسارات القضية السورية وخارطة المنطقة، حيث تهدف إيران إلى فرض وجودها كأمر واقع عبر مثلث سيطرة وخطوط إمداد ما بين الحدود العراقية واللبنانية والأردنية يقوده حزب الله اللبناني، كما تهدف إيران مع روسيا ونظام الأسد إلى السيطرة على أهم معاقل الجيش الحر وأول الحواضن الاجتماعية للثورة السورية وأكثرها رمزية، ما يعتقدون أنه سيفرض رؤيتهم للحلّ في سوريا لصالح النظام، وينهي مشروع المناطق الآمنة، ويحجّم النفوذ الأمريكي، بينما يعتبر ثوار درعا أنهم يواجهون معركة وجود بسبب رمزية مدينتهم الثورية، وبسبب طبيعة المجتمع المحلي الرافضة بعمق لنظام الأسد والوجود الإيراني باعتباره أول حواضن الانتفاضة الشعبية، وهو ما يثير مخاوف لديهم بحصول مجازر وانتهاكات بالجملة في حال دخول الميليشيات الشيعية وقوات النظام، وهذا يمنح المعركة قدرة على تغيير خيارات قوى الثورة وتقبلها للعملية السياسية أو قناعتها بجدية حلفائها الإقليميين والدوليين في دعمها، وهي القناعة التي يهددها التمدد والتقدم المستمر للمشروع الإيراني وحلفاء النظام على الأرض.

اقرأ المزيد
٢١ يونيو ٢٠١٧
سوريا... نيران واشنطن لم تعد صديقة

قرار واشنطن إسقاط طائرة حربية تابعة لنظام الأسد كانت تقوم بمهام قتالية شرق سوريا ضد مواقع تابعة للقوات الكردية التي تعتمد عليها في معركة تحرير الرقة، إشارة واضحة لمن يهمه الأمر في سوريا والمنطقة بأن قواعد الاشتباك السابقة لم تعد ثابتة، وبأن قرار واشنطن التدخل المباشر للدفاع عن حلفائها من الممكن أن يتسبب في المرحلة المقبلة بتغيرات ميدانية وسياسية، قد تطيح أغلب التفاهمات التي جرت منذ قرابة سنتين بينها وبين موسكو، حيث راهنت الأخيرة على أن واشنطن المنشغلة بترتيب مؤسساتها الحاكمة، لن توسع تدخلها المباشر ضد حلفاء موسكو خارج حدود التنف، عندما قامت قوات موالية للأسد وميليشيات إيران بتجاوز الخطوط الحمراء المتفق عليها بين العاصمتين، ما اضطر واشنطن حينها إلى تدميرها تحت ذريعة الدفاع عن النفس، إلا أن الخطوة الأميركية بإسقاط طائرة حربية تابعة للأسد تتجاوز مبدأ الدفاع عن النفس وتمهد لتعامل أميركي جديد في الصراع السوري ليس بالضرورة في المدى المنظور، قائم على معادلة جديدة تفيد بأن النشاط العسكري الأميركي في سوريا لم يعد محصورا في محاربة «داعش» فقط إذا استلزم الأمر، وهي رسالة لم تكن ترغب طهران وموسكو بسماعها، أن الإدارة الجديدة لن تدير ظهرها لحلفائها على الأرض كما فعلت الإدارة السابقة مع فصائل المعارضة المسلحة التي تحارب الأسد والتي أصيبت بانتكاسات ميدانية كبيرة، جراء انخفاض مستوى الدعم السياسي والعسكري لها، ما مهد الطريق أمام موسكو وطهران لقلب موازين القوة لصالحهما، الأمر الذي مكنهما من طرح شروطهما السياسية للحل بعيداً عن كل المقررات الدولية، وذلك استناداً إلى ما تم تحقيقه من انتصارات عسكرية.

شبه اليقظة الأميركية المتأخرة في سوريا دفاعا عن مصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وقرار الإدارة الجديدة المربك في توسيع انخراطها الميداني، بالتزامن مع انطلاق عمليات تحرير الرقة بغطاء جوي من قوات التحالف وبحضور أميركي على الأرض، بدأ يتوسع باتجاهات كثيرة من التنف إلى البادية نحو دير الزور في محاولة أميركية لقلب المعادلة في شرق سوريا بوجه موسكو وطهران المندفعتين بقوة من أجل الالتفاف على واشنطن وعرقلة تقدم حلفائها في الرقة والسيطرة على البادية من أجل قطع طريق دير الزور عليها، مقامرة إيرانية روسية غير محسوبة قد تتسبب بصدام مباشر مع واشنطن، إذا أصرتا على تحدي الإرادة الأميركية العازمة على تحقيق انتصار معنوي في الرقة وجيوسياسي في دير الزور، حيث تراهن واشنطن على أن انتصارها في شرق سوريا سيقلب موازين القوة من جديد ويحولها إلى الطرف الأقوى في المعادلة السورية، ولتحقيق ذلك هي مجبرة الآن على الحفاظ على هدنة طويلة في درعا أو مساندة الجيش الحر بفعالية إذا فشلت الهدنة، في حال قررت أن تكون مناطق جنوب سوريا جزءا من مشروعها الاستراتيجي القادم والذي يهدف إلى تقويض الدور الإيراني والضغط على موسكو من أجل تغيير سلوكها.

وعليه يمكن القول: إن حوارا بالنار جارٍ بقوة فوق الجغرافيا السورية، بدأته موسكو التي أجرت عدة اختبارات مباشرة هدفها قياس ردة الفعل الأميركية تجاه أي تطورات ميدانية تحاول ميليشيات النظام، بمساندة الميليشيات الإيرانية وبغطاء جوي روسي فرضها من جنوب سوريا حتى شرقها، لذلك من الممكن توصيف أغلب ما جرى ميدانيا في الأسابيع الأخيرة بين القوات الأميركية وبين قوات الأسد والميليشيات الإيرانية بالاحتكاك المدروس، ومن غير المستبعد أن تؤسس هذه الاحتكاكات في المستقبل القريب إلى مواجهة مباشرة بين وكلاء الطرفين، خصوصا أنهما أصبحا وجها لوجه في أكثر من جبهة، حيث يحشد الجنرال قاسم سليماني ميليشياته باتجاه درعا ودير الزور ودفعت موسكو ما تبقى من جيش الأسد باتجاه الرقة، فيما المعضلة الأميركية مستمرة في صعوبة تغطية الميدان السوري بسبب اتكالها فقط على الميليشيات الكردية التي أبدى قائدها صالح مسلم استعداده لمواجهة الميليشيات العراقية الإيرانية واللبنانية في كل مكان، وفقا لما سربته مجلة «دير شبيغل» الألمانية، وهو الأمر الذي يفسر دفع موسكو لسلاح الجو الأسدي إلى القيام بضرب أهداف عسكرية كردية، وغمز الدبلوماسية الروسية من قناة الأكراد ومشاريعهم الانفصالية، والدعوة إلى التمسك بوحدة التراب السوري.

بانتظار أن تحسم واشنطن خياراتها المتأرجحة بين الدعوة إلى فك الارتباط مع موسكو، وبين الدعوة إلى تجنبها واعتماد مواجهة شاملة مع طهران وجزئية مع الأسد، تجمع هذه الأطراف على قناعة واحدة بأن نيران واشنطن في سوريا لم تعد صديقة.

اقرأ المزيد
٢١ يونيو ٢٠١٧
المقدس لمواجهة المآزق العقلية القاتلة للهلال الإيراني

ساهم المشروع الإيراني في المنطقة العربية في ضرب الدولة الوطنية من دون أن يقدم بديلا موضوعيا، فمشروع ولاية الفقيه لم يحمل في طياته مشروع تأسيس نموذج لدولة وتعميمها. الطبيعة الأيديولوجية للنظام الإيراني لا تتحملها إلا إيران، ذلك أن المقترح الأيديولوجي الذي يقدمه نظام ولاية الفقيه متناغم مع إيران حصرا، مع البنية السلطانية في هذا البلد، فحتى من الناحية الفقهية الشيعية لم يسبق في تاريخ مدرسة النجف الأشرف العربية أن ولد مشروع الفقيه السلطان.

ذلك أن مشروع ولاية الفقيه يعاني من مآزق عقلية قاتلة “الراد على الولي الفقيه راد على الله”، فالفكر الذي يعجز عن أن يعقلن نفسه يلجأ إلى المقدس، كما لجأت الأيديولوجيا الإيرانية إلى الإمامة لتغطية وتبرير عملية تقويض الدولة الوطنية. ربما هي نجحت في تحويل عقيدة الإمامية الإثني عشرية في وعي العديد من الشيعة إلى مشروع الذود عن سلطة ونظام سياسي مركزه إيران.

لذا فالأيديولوجيا الإيرانية غير معنية بأن تؤسس كيانات سياسية، هي تقود دولة تريد أن يكون لها امتداد إقليمي، حيث أثبتت الوقائع أنّ إيران تعمل على إيجاد بؤر أمنية سياسية ثقافية، يكون لها حضور فاعل فيها وتتميز هذه البؤر بالتبعية التي تعمل على عزلها عن محيطها، من هنا يمكن أن نلاحظ كيف أنّ الهوية الشيعية قد تضخمت في المنطقة العربية منذ الثورة الإيرانية حتى اليوم، بشكل لم يشهده تاريخ المنطقة على هذا النحو من الانفصال الشيعي عن محيطه وفي تبعيته لخارج نظام المصالح الوطني والقومي.

نموذج الحشد الشعبي في العراق يعبّر عن هذه الوجهة التي تبلورت بداية في لبنان عبر حزب الله، فالعراق بتشكيلته المقبلة ينحو نحو المزيد من التشكّل الطائفي بالشروط الإيرانية عبر تشكيل قوة طائفية رديفة هي الحشد الشعبي المرشح مع نهاية سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الجغرافيا العراقية لأن يزداد حضوره ونفوذه على حساب مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية المنافس لها في آن. وليس خافيا أنّ الحشد في بنيته وتشكيلاته يخضع للسيطرة الإيرانية، وهو مرشح اليوم لأن يلعب دور المرمّم لخط الإمداد العراقي السوري اللبناني والذي ينطلق من طهران، وهو دور يأتي ليستثمر الفراغ والتردد الأميركيين حياله، خاصة بعد استفحال الفراغ العربي.

مشروع السيطرة والتحكم في هذا الخط نجح إلى حدَّ ما إيرانيا، ودائمـا على النقيض من فكرة تأسيس كيان وطني مستقل، أي كيـان مستقل له طبيعة اجتمـاعية ضمن حدود تديرها سلطة ضمن دولة معنية بإدارة الشأن العام، كيان يحتكر حق العنف المشروع بحسب تعريف ماكس فيبر للدولة.

النموذج الإيراني في أحسن الأحوال يتبنى في المنطقة العربية دولة تصريف الأعمال، أي الدولة المعلقة، وفشل استكمال مشروع الدولة في البلاد العربية عزز منذ نشأته من شعور التهميش لدى الأقليات في المنطقة العربية، ولدى المكوّن الشيعي في هذه الدول تفاقم الشعور بأنّه غير قادر على أن يكون جزءا عضويا من مفهوم الوطن والولاء للدولة، والمشروع الإيراني نفذ من هذه الثغرة واستفاد من التواجد الجغرافي للشيعة في المنطقة، إذ لم تعد العلاقة بين هذه المكونات الشيعية وإيران علاقة ندّية بل تبعية تجاوزت البعد الديني والثقافي إلى عملية ربط بالأمن والاقتصاد والتكوينات العسكرية. هذا الربط عبر المكونات التقليدية أي المذهب والطائفة في الحالة العربية، رسّخ النفوذ الإيراني.

في المثال اللبناني تحول النفوذ الإيراني إلى نفوذ بنيوي، إذ لا توجد شبكة مصالح شيعية لبنانية قادرة على أن تواجه هذا النفوذ، فحتى حركة أمل الشيعية التي يقودها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري انتقلت من موقع الند لحزب الله والنفوذ الإيراني لدى الشيعة وفي لبنان عموما، إلى حركة قصارى طموحها في أن تكون مدرجة على خانة التابع لإيران. فخلال السنوات العشر الماضية أظهرت حركة أمل التزاما كاملا بالعناوين الكلية للاستراتيجية الإيرانية في لبنان، في مقابل استمرار هذه الحركة كطرف مشارك في السلطة وفي تقاسم الحصة الشيعية في الدولة مع حزب الله مع أرجحية للأخير.

النموذج اللبناني هذا الذي يجري تطبيقه في العراق عبر إيجاد قوة رديفة اسمها الحشد الشعبي يفتقد في سوريا للقدرة على التطبيق بسبب غياب الحاضنة الشيعية، لذا فإن هذا النقص الديموغرافي عوضت عنه إيران في البداية بحشد عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات الإيرانية والباكستانية والعراقية والأفغانية بالإضافة إلى حزب الله لمواجهة الثورة السورية، وها هي اليوم تحاول التعويض عبر التغلغل داخل الدولة السورية، فالنظام السوري الذي يرأسه الرئيس بشار الأسد، سلم بأن فرص بقائه في السلطة هي إيرانية بالدرجة الأولى، وأيّ تراجع للنفوذ الإيراني في سوريا سيؤدي حتما إلى نهايته، ويعرف السوريون أن الأسد انتهى منذ زمن من أن يكون مساويا لإيران في سوريا وفي إدارة المواجهة، بل أيقن حقيقة أنّ علاقته بهذا النفوذ باتت وجودية يبقيان معا أو ينتهيان معا.

بين العراق وسوريا ولبنان، انتقلت إيران من اعتماد عنوان مشروع المقاومة كتعويض عن غياب النموذج القابل للتعميم في بناء علاقة ندية مع الدول العربية، إلى تعزيز البنى الطائفية من أجل حماية الامتداد الاستراتيجي لإيران في المنطقة والمحافظة على وجوده. اللغة تغيّرت، لم تعد قضية تحرير فلسطين هي العنوان، بعدما صارت إسرائيل الثابت الاستراتيجي في المنطقة وفي الحسابات الإيرانية والعربية فضلا عن الروسية والأميركية. يتمّ اليوم إنتاج خطاب جديد أنّ السلاح الذي قاتل داعش هو سلاح مقدس، والذي يقاتل الإرهاب كما سلاح حزب الله الذي قاتل الاحتلال الإسرائيلي هو سلاح مقدس أيضا، والغاية في الحسابات الإيرانية المحافظة على ثنائية السلاح الرسمي والأهلي أو ثنائية السلاح والدولة.

إيران المشغولة بتثبيت الهلال الشيعي اليوم، كشفت عن أن الكيانات الشيعية التي عمدت إلى تشكيلها في المنطقة العربية، كم هي كيانات هامشية فرعية لا حقيقية، وظيفتها الولاء السياسي لإيران وأن تشكل ورقة ابتزاز تستخدمها القيادة الإيرانية في مواجهة خصومها، وهي مكونات تفتقد للقدرة على التبشير بأي مشروع وطني أو قومي أو إسلامي، لذا تستعين بالأيديولوجيا والمقدس لمواجهة غياب المشروع لتسويغ العزلة عن محيطها.

اقرأ المزيد
٢١ يونيو ٢٠١٧
مناطحة أمريكية ـ روسية فوق الجغرافيا السورية

لم يكن ممكناً أبداً للأطفال السوريين من سكان مدينة درعا الجنوبية الذين تحمّسوا نتيجة ما كان يجري عام 2011 في شوارع تونس ومصر وليبيا تخيل حجم الحدث الهائل الذي أطلقوه بأصابعهم الصغيرة وطباشيرهم والذي أشعل ثورة عارمة هائلة، ولكنّه، من ناحية أخرى، أطلق شياطين النظام المرعبة، وجيّش حلفاءه الإقليميين لدفن الثورة الناشبة، واستدعى بالنتيجة ردود فعل أخرى من دول عربيّة وأجنبية وصولاً إلى هذه الملحمة الهائلة التي تحوّل فيها السوريون من فاعلين راغبين بالتغيير إلى جزء من معادلة صراعات عالميّة كبيرة.

منذ ذلك الحين لم يكفّ الحراك السياسي والعسكري والاجتماعي وتداخلت فيه قضايا الجغرافيا السياسية لروسيا، والنفوذ الإقليمي لإيران، مع محاولات الدول العربية للتأثير في المعادلات الجديدة، وضياع القرار الأوروبي تحت ضغوط الهجرة والخوف من الإرهاب والفوضى بالتوازي مع عقوبات باردة ضد النظام (الذي غرق لقدميه في الإبادة الجماعية لشعبه) واتصالات أمنية لم تنقطع معه.

اكتفت الولايات المتحدة الأمريكية في ظل دورتي حكم الرئيس باراك أوباما بمحاولة إدارة الأزمة والحفاظ على شرعيّة النظام السوري ومحاولة تأطير المعارضة السورية ضمن أجندة «مكافحة الإرهاب» فحسب وهو ما سمح، عمليّاً، بإطالة عمر النظام وتسليم ملفّات المنطقة لروسيا وإيران الذي تعزّز بعد اتفاقها النووي مع طهران.

رفع انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب آمال روسيا بقرب تفويضها رسميّاً بإنهاء المعارضة السورية وإعادة تطبيع نظام بشار الأسد مع الغرب، ولكن هذه الآمال ووجهت بالجدل المتصاعد عن دور الكرملين في التدخل في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب، وهو ما كبّل، بالتدريج، علاقة ترامب ودبلوماسييه بموسكو وعزّز قدرة المؤسسة العسكرية الأمريكية على القرار والحركة، والتي أكّدت خلال الشهور الماضية على اتجاه وتسليح واعتماد المجموعات الكردية التابعة لحزب «الاتحاد الديمقراطي» لقتال تنظيم «الدولة الإسلامية».

الروس الذين غرّتهم التصريحات الإيجابية المتكرّرة لترامب ومسؤوليه حول النظام السوري، سمحوا بقرار الرئيس السوري بقصف بلدة خان شيخون بالسلاح الكيميائي، وهو ما أثار فزع العالم وأعاد فجأة عقارب ساعة المقارنات بين تخاذل أوباما عن خطه الأحمر الشهير الذي حطّمه الأسد باستخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه في آب/أغسطس 2013، وسرعة ترامب الذي قرّر قصف مطار الشعيرات الذي انطلقت منه طائرة السلاح الكيميائي السورية في 7 نيسان/إبريل الماضي.

الديناميكيات المتولّدة عن الأوضاع الداخلية الأمريكية لترامب على أرضية شبهة تواطئه مع الروس ونقطة العلام التي خلقها قرار قصف مطار الشعيرات وبعدها التزام الإدارة السياسية الأمريكية باستراتيجيات المؤسسة العسكرية ـ الأمنية في سوريا والعراق، جعلت ميزان العلاقات بين واشنطن ـ موسكو في صعود وهبوط، وحرّكت عجلات النزاع التي لا يمكن تجاوزها إلا على حساب إحدى الجهتين.

أحد العوامل المهمة في تزايد رغبة واشنطن على تأكيد وزنها، على حساب الروس، كان اندفاع حشود إيران وميليشياتها العراقية والأفغانية نحو الحدود السورية، والتوافقات التي تمّت خلال قمم ترامب السعودية الأخيرة.

وإضافة إلى اندفاعاتها الأرضية فإن طهران صعّدت النزاع العالمي ـ الإقليمي إلى ذروة جديدة مع قصفها مدينة دير الزور السورية، ليس بعيداً عن تمركز قوّات أمريكية، بصواريخ باليستية من كرمانشاه وكردستان إيران، وهي إشارة تم التقاطها في تل أبيب التي ردّت محذّرة، بينما سكتت دول الخليج العربي، المشغولة بحصارها لجارتها قطر!

«المباطحة» الأمريكية ـ الروسية، والمفاجأة الصاروخية الإيرانية، وانشغال بلدان الخليج عما يجري بالمحاولة الجنونية لتطويع قطر، مؤشرات ستحدد عمليّاً، مسار الصراع الحالي، ليس على سوريا وحدها، بل على المنطقة العربية أيضاً.

اقرأ المزيد
٢١ يونيو ٢٠١٧
سورية من دولة موحدة إلى دويلات متناحرة

بات من قبيل العبث الحديث عن سورية بوصفها دولة موحدة على غرار ما كانت عليه قبل آذار (مارس)، أي تاريخ اندلاع الانتفاضة. لا يعني نفي الوحدة عنها القول بتغيير الحدود الجغرافية للكيان كما رسا عليه في القرن الماضي، لكن وحدة البلد تقاس هنا بمدى وحدته الداخلية بما هي تآلف وتوافق بين مكوناته المجتمعية والسياسية والعرقية والإثنية، وبمدى وجود سلطة قائمة تمثل السيادة بكل معانيها المختلفة، سواء في علاقاتها الداخلية أو في العلاقات مع الخارج. بهذا المعنى، افتقدت سورية وحدتها، وباتت أشبه بكانتونات متناحرة أو سائرة على طريق التناحر.

بعد حوالى سبع سنوات من الانتفاضة، وتحت وطأة تحولها انتفاضة عسكرية قام بها النظام بشكل أساسي، تبدو سورية اليوم كياناً ممزقة أشلاؤه ونهباً لقوى خارجية تتناحر للهيمنة عليه أو على أجزاء منه. كما تشهد انبعاثاً لقوى طائفية أو إثنية، عانت طويلاً من ديكتاتورية حزب البعث ومن الحرمان الذي كانت تشعر به قياساً على ما تناله مجموعات أخرى، فرأت في الفوضى الراهنة مناسبة لطرح مطالبها الانفصالية على أساس نوع من الاستقلالية الذاتية في أي تركيبة قادمة لسورية.

تخضع سورية اليوم لتقاسم نفوذ داخلي وخارجي، فعلى جبهة النظام الذي يسجل اليوم بعض الانتصارات في الجغرافيا، والذي يطمح لبسط نفوذ جيشه على كامل الأراضي السورية، هذا النظام «القوي» شكلاً هو الأضعف في قرارات السيادة والسلطة، بعد أن بات أسير القوى التي أمّنت له الانتصارات الموقتة. في المقابل، تبدو خريطة النفوذ السياسي والجغرافي والعسكري موزعة بين قوى تجهر بسيطرتها وهيمنتها. فإيران باتت تحتل مناطق أساسية تبدأ من الشمال السوري– العراقي وتمتد إلى العاصمة دمشق، معلنة بصريح العبارة أنها المتحكم الأساسي بسورية، وأنها تحتل العاصمة دمشق، وهو أمر صحيح بمعنى احتلال القرار السياسي والعسكري للنظام. إيران استثمرت في سورية مليارات الدولارات، ودفعت آلاف القتلى من جيشها، وهي ترى سورية بوابة السيطرة على المنطقة العربية، بل تعتبر أن مصير الأمن القومي الإيراني مهدد في حال خروجها من سورية، وأن مشروعها المذهبي قد قطع أشواطا مهمة من خلال تدخلها في سورية، ما يعني أنها ستقاتل حتى الرمق الأخير للحفاظ على مواقعها.

تركيا حسمت أمرها عبر اقتطاع شريط حدودي كاف في نظرها لمنع تدفق مقاتلي حزب العمال الكردستاني الدخول إلى أراضيها، وهي تعمل اليوم لتكريس مناطق جغرافية تمنع من خلالها قيام كيان كردي ذاتي، في وقت قطع الأكراد شوطاً كبيراً في قيام كيانهم الذاتي وذلك بدعم صريح وقوي من الولايات المتحدة الأميركية. أما روسيا، التي شكلت الداعم الأساس للنظام من خلال مساهمتها في احتلال الأراضي التي كانت المعارضة تسيطر عليها، أو من خلال منع القوى الدولية من اتخاذ قرارات تمس النظام، لا يبدو أنها مهتمة باقتطاع أراض، لا راهناً ولا مستقبلاً، لكنها حاسمة في بقاء قواعدها العسكرية على الساحل السوري، وتطويرها بما يسمح لها بالتدخل العسكري وممارسة النفوذ السياسي.

في مقابل هذه القوى، عادت الولايات المتحدة الأميركية إلى سياسة التدخل العسكري، بعد أن كانت مكتفية بالتدخل السياسي أو المعنوي. أدخلت قوات على الأرض، وحددت لها مناطق نفوذ في الجنوب السوري وعلى المثلث الأردني– العراقي– السوري، بل استخدمت قواتها الجوية لمنع النظام والميليشيات المتحالفة معه من التقدم إلى هذا المثلث.

كل ذلك يجري في ظل تراجع مواقع تنظيم داعش والقوى الإسلامية الأخرى، بعد أن تكبد خسائر وفقد مواقع في العراق وسورية، ما يشي بقرب انتهاء المعارك في هذا الميدان. كما يجري ذلك وسط التقلص الشديد بل والضمور لقوى المعارضة العسكرية، بعدما نجحت ضربات المحور الروسي الإيراني في تكبيدها خسائر فادحة وخسارتها مواقعها على الأرض.

صحيح أن الأعمال العسكرية في سورية ما تزال قائمة، تخف وتيرتها وتتصاعد وفقاً للوظيفة المطلوبة من التصعيد العسكري. هذا الأمر متلازم مع البحث الدائر حالياً في مصير الكيان السوري، لجهة تحديد مناطق النفوذ لكل قوة ومجموعة خارجية بالاستناد إلى قوى داخلية تدعمها. هنا يدور الحديث عن تقسيمات وتغييرات في الديموغرافيا بما يسمح بوجود مناطق متجانسة.

لا ننسى أن سورية كانت حتى الثلث الأول من القرن العشرين مقسمة إلى أربع دول، ما يعني أن اللعب على استحضار التاريخ الماضي لتقسيمها أمر لا يغيب عن البال، بل يستحضر رغبات قوى داخلية قد لا تريد لحكم البعث المركزي العودة للتحكم بها.

قد تحتاج الأزمة السورية إلى بعض الوقت لإنجاز «القص والتلزيق» لمناطقها ومجموعاتها السكانية، لكن ما يبدو شبه واضح أن الوحدة السورية التي كانت، باتت خارج الموضوع، ما سينتج عن التسويات إقامة كيانات أو كانتونات تحمل في جوفها كل عناصر الانفجار، في داخلها وفي علاقتها بالكيانات القائمة، كل ذلك في إطار الجغرافيا الحالية الممنوع التلاعب بها، ليس في سورية فقط، وإنما في المنطقة بكاملها.

اقرأ المزيد
٢٠ يونيو ٢٠١٧
الدب الروسي والعنب السوري

تبدو روسيا اليوم باعتبارها المتدخل الأهم في القضية السورية، وهذه حقيقة بين أهم حقائق الواقع السوري، تم تكريسها عبر سياسات وخطوات تابعتها موسكو طوال سنوات ست من تطورات عاصفة، شهدتها البلاد بعد انطلاق ثورة السوريين على نظام الأسد عام 2011.

وبالعودة إلى بداية الأحداث، يمكن القول: إن علاقات موسكو مع نظام الأسد كانت علاقات تقليدية رغم الإرث القديم من العلاقات السورية – السوفياتية؛ إذ كانت تماثل الكثير من علاقات النظام مع دول أخرى بما فيها من إيجابيات وسلبيات. غير أن موسكو سرعان ما أدركت حاجة نظام الأسد إلى علاقات جديدة في ضوء ما يواجهه من تحديات الثورة عليه، وربطت ذلك بأهدافها وعلاقاتها الدولية، فقررت الوقوف إلى جانب النظام ضد معارضيه، وبدأت في تنشيط علاقاتها مع النظام، واتخذت موقف الحذر من المعارضة سرعان ما طورته إلى حد العداء.

لقد رسم الروس سياستهم السورية وفق ثلاث مراحل، كانت أولها دعم نظام الأسد والوقوف ضد المعارضة، والثانية الدفاع عن النظام وتشكيل حلف دولي - إقليمي يؤيده، وإدانة المعارضة والوقوف ضد داعميها ومؤيدها، والثالثة الانتقال إلى الانخراط العميق طرفاً في القضية السورية بصورة لا يمكن إيجاد حل للقضية دون أخذ موقف موسكو ومصالحها بعين الاعتبار.

ففي المرحلة الأولى، صعدت موسكو علاقاتها السورية، فاستمرت في تنفيذ اتفاقيات التعاون العسكري بما فيه تقديم الأسلحة والمعدات العسكرية، إضافة إلى إرسال الخبراء في المجالات الأمنية والتقنية، مما ساعد في ترميم ما أصاب النظام من انهيارات، وأضافت موسكو إلى ما سبق اتباع سياسة مراوغة مع المعارضة السورية، بالتمييز بين «معارضة الداخل» التي تمثلها القوى النشطة في سوريا ومنها هيئة التنسيق الوطنية، و«المعارضة الخارجية» التي جسدها المجلس الوطني السوري، ولاحقاً الائتلاف الوطني، فانفتحت على الأولى، وحاورت الثانية، لكن دون نتائج في الحالتين بحيث همش الروس المعارضة السورية ودورها في القضية السورية.

وطورت موسكو سياساتها في المرحلة الثانية، بالانتقال إلى بلورة سياسة إقليمية دولية داعمة لنظام الأسد، بتنسيق علاقاتها مع إيران الداعم الرئيسي للنظام، وقبلت بدور ميليشياتها خصوصا «حزب الله» في سوريا، وبلورت موقفاً دولياً يضم الصين داعماً لنظام الأسد تحت شعارات الاستقلالية ورفض التدخلات الخارجية، ووقفت ضد اتخاذ أي قرارات دولية حول القضية السورية، وفي هذا السياق مارست الفيتو في مجلس الأمن الدولي سبع مرات لصالح سياسات الأسد.

وطورت روسيا مستوى علاقاتها الإقليمية والدولية في الموضوع السوري، فأقامت بالشراكة مع إيران والعراق ونظام الأسد مركزاً في العراق لتنسيق سياسات الأطراف الأربعة، وأقامت مركز اتصال بين قاعدة حميميم وتل أبيب للتنسيق، يربط السياسيتين الروسية والإسرائيلية، وآخر في عمان ينسق سياسات الأردن وروسيا في سوريا، وبعد سلسلة من المواجهات السياسية والعسكرية مع تركيا، قامت بجلب تركيا إلى «تفاهم ثلاثي» روسي - إيراني - تركي للحل في سوريا، تضمنه «إعلان موسكو» الذي وقعته الأطراف الثلاثة في ديسمبر (كانون الأول) 2016، ليعكس تحولاً خطيراً في الموقف التركي إزاء سوريا.

لقد رفضت روسيا وقف دعمها لنظام الأسد، وفك ارتباطها معه، ووقف تعاونها مع إيران في سوريا، وقاومت كل الجهود والضغوطات العربية والإسلامية في هذا المجال، وما كان ذلك ليتم لولا وجود أمرين، أولهما عدم جدية بعض الأطراف المشاركة في تلك الجهود والضغوطات بما في ذلك أطراف المعارضة السورية، والثاني واقع التشتت وضعف المسؤولية في موقف المجتمع الدولي بمنظماته ودوله ومنها الولايات المتحدة.

ومهد نجاح سياسة موسكو السورية في المرحلتين الأولى والثانية، لانتقالها إلى المرحلة الثالثة، والتي جعلت من روسيا طرفاً رئيسياً في القضية السورية، انطلاقاً من التدخل العسكري المباشر عبر إرسال قواتها الجوية إلى سوريا أواخر العام 2015، ثم دعمتها بإرسال المزيد من القوات البحرية والبرية، ومزيد من الأسلحة والخبراء استناداً إلى اتفاق طويل الأمد، وقعته مع نظام الأسد، يسمح لها بالتدخل في كل الشؤون السورية السياسية والعسكرية والإدارية، بما ذلك إدارة الصراعات والتسويات العسكرية والسياسية في سوريا وحولها مع مختلف الأطراف.

إن أبرز معالم الدور الروسي في هذه المرحلة، سعي الروس إلى خلق مسار آستانة ومحاولة جعله بديلاً للمساعي الدولية في الحل السوري عبر مسار جنيف، وهو تحول، ما كان له أن يحدث لولا ضغوطات ومساعي موسكو على تركيا وإحداث تحولات في موقفها، سمح لموسكو بالإمساك بجماعات المعارضة السورية المسلحة، ودفعها في مسار آستانة، كما سمح لموسكو بإدخال تركيا طرفاً في ضامني اتفاق مناطق خفض الصراع الأخير.

ومن أبرز معالم الدور الروسي الراهن في سوريا، تحول موسكو إلى قوة فاعلة، ليس لجهة التأثير على سياسات النظام وتوجهاته فقط بما في ذلك إعادة تنظيم وهيكلة قواته وميليشياته، بل التأثير على سياسات إيران ومواقف الميليشيات التابعة لها، وإخضاع حركتها لخطط التحرك السياسي والميداني في الصراع السوري، وقد طور الروس دورهم في الداخل ليشمل قوى «المعارضة الداخلية»، فأثروا في تعديل بعض مواقف أطرافها، وأسهموا في خلق أطراف هي أقرب لمواقفهم مثل مجموعة حميميم نسبة إلى القاعدة الجوية الروسية، كما تدخلوا في الصراعات الميدانية، بحيث استطاعوا الدخول على خط التسويات المحلية خصوصا في مناطق محيطة بدمشق، وكان من الصعب على نظام الأسد القيام بمثل هذا الدور. خلاصة القول في سياسة موسكو السورية، هي أن روسيا هي القوة الأهم في قوى التدخل، وهي التي تملك أكثر الأوراق تأثيراً في القضية السورية، وأن ضمان دورها في حل القضية، لا بد أن يتصل بمعالجة قضايا خارج النطاق السوري كله، مما يجعل التفاهم مع الروس بحاجة، ليس فقط إلى تفاهم سوري إقليمي ودولي فقط، إنما إلى مستوى عال من الوحدة والجدية من المستويات كافة في التعامل مع الروس حول سوريا وخارجها أيضا.

اقرأ المزيد
٢٠ يونيو ٢٠١٧
هل يسلمون بخسارة درعا وانتكاسة حرب الحدود؟

الكونغرس الأميركي أقر بغالبية ساحقة مشروع قانون لتشديد العقوبات على إيران. وشمل المشروع روسيا أيضاً لاحتمال تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية وضمها شبه جزيرة القرم ودعمها نظام الرئيس بشار الأسد. والتحقيقان القضائي والاستخباري في احتمال تدخلها باتا يشملان الرئيس دونالد ترامب. وزير خارجيته ريكس تيلرسون سجل تحفظه على المشروع. لا يروقه أن تكون العلاقات بين واشنطن وموسكو في أسوأ مستوياتها. وهو يحرص على وقف تدهورها أكثر لمواصلة العمل الثنائي في مناطق معينة، مشيراً إلى جهود قائمة في سورية. ويعارض العقوبات لأن ذلك يقيد هامش التحرك، وهو يريد «أوراق ضغط لأوقات أخرى». الرئيس فلاديمير بوتين هو الآخر حريص على العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة التي لا يعتبرها «عدواً». بل لديه «أصدقاء فيها» يهتم مثلهم بالتعاون لمعالجة الملفات الملحة. وكرر استحالة تسوية الأزمة السورية والصراع في الشرق الأوسط من دون تعاون وتنسيق بين بلاده وأميركا. ولم ينس تحميل الرئيس باراك أوباما المسؤولية عن «صناعة ظروف تجعل ترامب غير قادر معها على الوفاء بوعوده لشعبه». لديه ثارات مع الرئيس السابق الذي لم يكنّ أي احترام. فقد نادى القوى الكبرى إلى سياسة التعاون لحل المعضلات والمشاكل الدولية. ونهج سياسة عدم التدخل والانخراط في الأزمات. لكنه أدرك متأخراً في آخر سنة من ولايته الثانية أن لا بد من رفع موازنة الدفاع. وكان التركيز في حيثياتها على وجوب التصدي لما سمي «اعتداءات روسيا». وخصصت إدارته مبالغ لتغطية نفقات انتشار قوات أميركية في وسط أوروبا وشرقها لمواجهة «هجوم الكرملين».

لا يزال الرئيس بوتين اليوم يأمل بعلاقات مختلفة مع الإدارة الجديدة. لكنه سينتظر طويلاً ما دام التحقيق في تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية يزداد تعقيداً ويضيق الخناق على الرئيس ترامب. في هذه الأثناء لا شيء يثنيه عن مواصلة مشروعه لاستعادة مكانة بلاده ودورها، انطلاقاً من سورية خصوصاً والمنطقة عموماً. فهو حريص على تعميق تفاهمه مع إيران شرقاً ومصر في أفريقيا، وقوى أخرى في الإقليم. ولا يرغب في حسم الموقف مع الولايات المتحدة بقدر ما يرغب في شراكتها. وهو يلتقي مع الوزير تيلرسون في وجوب الحفاظ على الحد الأدنى من التفاهم الثنائي في سورية. لكن الوقائع على أرض الشام تشي بخلاف ما يتوافق عليه الطرفان. مشروع «مناطق خفض التوتر» الذي أقر في آستانة ولقي تأييداً من واشــنطن، يكاد لا يبقى منه شيء. إيران والنظام يعملان على تقويض المنــطقة الخاصــة بالغوطة الشرقية. وكذلك تهدد اندفاعة الجيش والميليشيات في البادية شــرق حمص «المنطقة» الخاصة بهذه المحافظة. أما الحدود الجنوبية فتشهد أقسى المعارك للسيطرة على درعا، كأن المقصود تقويض الاتفاق الأميركي - الروسي الخاص بالحدود الجنوبية. بل تقويض إقامة «المــنطقة» الرابعة التي تضم درعا والقنيطرة والسويداء، بما يضمن ابتعاد النفوذ الإيراني عن الحدود مع إسرائيل والأردن، ويطمئن هذين البلدين.

هذه التطورات الميدانية لا تشكل وحدها تحدياً لما تريده إدارة الرئيس ترامب من سورية، خصوصاً من تفاهمها مع موسكو. كان يفترض أن تنتهي «مناطق خفض التوتر» إلى تقاسم سورية بين القوى المنخرطة في الصراع. وأن تنتهي حماية هذه المناطق إلى وقف العنف وتكريس واقع يسهل تسويق مشروع الفيديرالية، بحيث ينتهي الوضع في سيطرة الولايات المتحدة على حدود سورية مع العراق والأردن لتحقيق هدفها الاستراتيجي بكسر الهلال الإيراني. على أن تستأثر روسيا بدمشق والساحل... على غرار التقاسم الحاصل في أوكرانيا حيث شرقها للشرق وغربها للغرب، وعلى غرار «التقاسم» في جورجيا حيث أوسيتيا وأبخازيا لحلفاء روسيا وجورجيا للغرب. لكن إيران نجحت قبل أيام في ربط الحدود بين سورية والعراق شمال الرقة (جنوب الأنبار). وضمنت بذلك طريق إمداد الأسلحة إلى قوات النظام وميليشياتها من مصانعها حتى ساحل الأبيض المتوسط. كما ضمنت قطع التواصل بين «وحدات حماية الشعب» و «فصائل الجنوب» التي تحظى بحماية ودعم من أميركا. وكان حضور قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الجنرال قاسم سليماني مع فصيل أفغاني رسالة واضحة إلى واشنطن أن مساعيها إلى فك «الهلال الإيراني» باءت بالفشل. وكان ظهر قبل ذلك مع «الحشد الشعبي» لدى وصوله إلى الحدود مع سورية في منطقة بين نينوى والحسكة، تمتد على مساحة سبعة كيلومترات.

الدينامية الميدانية في أكثر من بقعة في سورية لم تكرس بعد واقعاً ثابتاً. فالقوات الأميركية زودت حلفاءها نظاماً مدفعياً متطوراً أثار حفيظة روسيا التي حذرت من التمادي في استهداف قوات النظام السوري. وتمددت نحو منطقة الزكف على بعد سبعين كيلومتراً شمال قاعدة التنف. أي أن معركة الحدود لم تحسم بعد. علماً أن موسكو التي تنتظر الترياق من الوزير تيلرسون، لا تقف مكتوفة. بل تواصل بناء استراتيجيتها وتنفيذ مشروعها في سورية والمنطقة وأنحاء أخرى في العالم فيما اقتصادها لا يزال يعاني ويواجه صعوبات. وعلى رغم كل ما يقال عن التحالف التكتيكي بينها وبين طهران، وإمكان تعرضه لانتكاسة إذا عقد التفاهم بين بوتين وترامب، فإن الكرملين تعامل مع مشروع طهران بإيجابية. بل يدعم ويساعد على تحقيقه، بخلاف ما يتوقع الأميركيون. والدليل دعمه قوات النظام والميليشيات التي أعادت ربط الحدود بين سورية والعراق. وسكوته عما يجرى في درعا، حيث يقاتل النظام وحلفاؤه من أجل استعادة السيطرة على المعبر القديم مع الأردن ومعبر نصيب التجاري. كل ذلك ليحبط الرئيس بشار الأسد خطة «المناطق الآمنة». وليثبت أنه لا يزال قادراً على الإمساك بالحدود. وبتوفيره ممراً بين بلاده والعراق، يؤكد وقوفه إلى جانب الجمهورية لأنها وحدها ضمان بقائه. وهو بذلك يقطع الطريق على أي تفاهم بين القوتين الكبريين ترغب واشنطن من ورائه في إنهاء دوره وإبعاده عن السلطة.

حرب «المعابر» والسيطرة على الحدود لم تنتهيا بعد. ولن تنتهيا في المدى المنظور. جل ما يرغب فيه اللاعبون الكبار وقف القتال وتجميد الأزمة إلى أن يحين وقت الصفقات، أو إقرار الجميع بوجوب قيام نظام دولي جديد يراعي موازين القوى القائمة، ويراعي المصالح والعلاقات القائمة. ومن المبكر أن يحتفل هذا الطرف أو ذاك بالنصر الحاسم. إيران مصصمة على التمسك بما حققه «الحرس الثوري» ولن تتخلى عن «العواصم الأربع» مهما كلفها ذلك. وروسيا التي تراهن على التقارب مع إدارة ترامب، تراهن أكثر على تحالف يشمل إلى الجمهورية الإسلامية، الصين الراغبة أيضاً في أداء دور في الشرق الأوسط الذي تستورد منه معظم حاجاتها للطاقة. يبقى السؤال، هل تسلّم إدارة الرئيس ترامب وحلفاؤها في قمم الرياض بخسارة أول خطوة في استراتيجية ضرب النفوذ الإيراني في الإقليم؟ وهل يسلّم الأردن الذي لا يرى ملكه عبدالله الثاني تسوية في سورية من دون توافق أميركي - روسي بانتشار إيراني على حدوده؟ وماذا عن إسرائيل التي تغير طائراتها من وقت إلى آخر على قوافل تحمل السلاح من إيران إلى «حزب الله»، هل تسلّم بالأمر الواقع؟ وماذا ستفعل قوى «الائتلاف الوطني» و «أصدقاؤها» والفصائل الأخرى على اختلافها؟ جميعهم يدركون أن خسارة «الجبهة الجنوبية» تعني نهاية المعارضة. وكانوا يعولون على دور هذه الجبهة الهادئة نسبياً من سنتين وأكثر، في الزحف إلى دمشق في اليوم المناسب وحسم الأزمة... ولكن يبدو أن قوات العاصمة تزحف إليهم؟! من الصعب أن يستسلم المنخرطون في الأزمة من ست سنوات أو أن يسلّموا بنتائج الدينامية الجديدة وإن جدد المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا دعوته إلى جنيف خامسة وسادسة و...

اقرأ المزيد
٢٠ يونيو ٢٠١٧
عن البغدادي الذي قتله الروس

كشف الإعلان الروسي عن مقتل البغدادي عن رغبة موسكو في تصدر «الحرب على الإرهاب»، فركاكة الوقائع التي أوردها الإعلان وعدم حماسة وزارة الخارجية الروسية نفسها لما كشف عنها جنرالات جيشها، تدفع إلى الاعتقاد بأن الكرملين أراد من وراء الإعلان المشاركة في سبق، ذاك أن مقتل البغدادي في الخبر الروسي هو أمر محتمل بحسب البيان، وأن يصدر عن جيش محترف خبر يتضمن «احتمالاً» غير موثق، فإن ذلك يعني أن وظيفته ليست الكشف عن وقائع، بل الاستثمار فيها.

لكن الإعلان الروسي كشف عما هو أهم من ذلك، وهو هامشية أبو بكر البغدادي في التنظيم الذي يرأسه. البغدادي في «داعش» ليس أسامة بن لادن في «القاعدة» كما أنه ليس أبو مصعب الزرقاوي في «قاعدة العراق». فالرجلان شقا طريقهما إلى تصدر تنظيميهما عبر وقائع دموية وشاقة حفراها بأيديهما، أما البغدادي فقد جُهزت «الخلافة» له من خارج التنظيم، ولا يبدو أن للرجل قيمة عملانية على نحو ما كان لسلفيه بن لادن والزرقاوي. التقى مجموعة من ضباط الجيش العراقي السابق في سجن بوكا في البصرة وقرروا شكل القيادة وشعروا بالحاجة إلى صورة داعية، وبقي الرجل صورة طوال مرحلة قيادته التنظيم الممتدة حتى يومنا هذا.

الحرب الروسية على «داعش» هي تماماً حرب على صورة. نقاط المواجهة المباشرة في هذه الحرب تكاد تقتصر على بعض الجيوب في ريف حلب، وعلى غارات متقطعة على دير الزور والرقة. وتدمر، المدينة التي يتناوب على الاستيلاء عليها «داعش» وجيش النظام، تبدو الحرب فيها أشبه برقصة لا بمواجهة.

لا حرب روسية على «داعش» سوى تلك التي كشف عنها بيان الجيش الروسي الركيك. فموسكو ترى في ذلك التنظيم فرصتها لانتزاع «شرعية» لوجودها في سورية ليس أكثر، وما تصدعه سوى تهديد لمهمتها هناك. الصورة ضرورية في هذه الحرب، واهتزازها يعيد تحريك الموقع بما ينقذه من الركود. والإعلان عن مقتل البغدادي، وإن لم يكن صحيحاً، يعيد تذكير العالم بأن موسكو تحارب الإرهاب. وعلينا أن لا ننسى هنا الكشف الموثق عن تسهيل موسكو خروج مقاتلين روس من الجمهوريات الإسلامية إلى العراق وسورية عبر صفقات مع السلطات الروسية قضت بمنحهم جوازات سفر لمرة واحدة، وهو ما أدى إلى تخفف موسكو منهم في بلادهم وإلى تعزيزهم روايتها عن الحرب في سورية. قادة كبار في «داعش» وصلوا إلى سورية بواسطة جوازات سفر روسية شرعية، ونالوا تسهيلات خروج من السلطات الروسية، وتسهيلات دخول إلى سورية من السلطات التركية. ولم تقتصر هدايا الدول للـ «خليفة» على موسكو وأنقرة، فقد سبق أن أهدته طهران الموصل، وأهدته بغداد، تحت أنظار واشنطن، الحرية بأن أخلت سبيله هو والضباط الذين صنعوه.

البغدادي ليس أكثر من صورة، فالرجل لم يظهر إلا مرة واحدة. هو رجل بلا صوت، وبصورة واحدة، وباسم ملتبس أضيفت إليه ألقاب وأنساب حتى يستقيم. ما عرف عنه في تنظيمه أنه كان رجل البريد في زمن أسلافه ليس أكثر، وفجأة أسقطت «الخلافة» على رأسه وصار خليفة. موسكو أعلنت أنها قتلت هذا الرجل، وهذه الصورة. ليس مهماً ما سيحدثه فعل القتل، بل المهم ما سيحدثه الإعلان عنه.

لا أحد ينفي أو يؤكد صحة الإعلان. «داعش» لم يشعر بالحاجة إلى ذلك، إذ إن البغدادي ليس أكثر من صورة لا بأس من اهتزازها أحياناً. التحالف الدولي الذي لم يُظهر حماسة للإعلان الروسي، لم يشعر أنه بحاجة إلى التحقق من الخبر. لكن ذروة المفارقة كانت في بيان وزارة الخارجية الروسية الذي أشار إلى ضرورة التحقق من الخبر قبل إعلانه.

لطالما كانت لـ «داعش» وظيفة تتعدى الوقائع التي أحدثتها ولادة هذا التنظيم الرهيب. والمقدار الضئيل من الصحة الذي ينطوي عليه الخبر الروسي يعيد تذكيرنا بهامشية البغدادي في تنظيمه، ذاك أن الخبر أشار إلى أن مقتله ربما حصل قبل أكثر من شهر من اليوم. أكثر من شهر و «داعش» يعيش بلا «خليفة»، هذا الغياب العديم التأثير يكشف أيضاً حقيقة أن الرجل مجرد صورة، وأن وراء الصورة وهم رجل لا يعدو كونه منشداً ومجوداً، وأن ضباطاً في جيوش كثيرة صنعوا الصورة، وصنعوا لـ «داعش» خليفته.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو