بعيداً عما يحمل هذا القانون أو تلك الوثيقة أو ذاك الدستور - الذي اعتمد من قبل البعض كمرجعية - في طياته من مواد تتناسب مع هذا الواقع أو تتناقض معه ولا تصلح للتطبيق فيه. وبعيداً عن أي انعكاسات متوقعة سلبية كانت أم إيجابية، وعن أي اتهامات متبادلة بالخيانة أو العمالة أو الرقبة، وبعيداً عن المهاترات والرفض أو القبول.
بعيداّ عمن يرى في هذه الصيغة حبل نجاة للأمة ومن يرى فيها ردة تستوجب الحرب والقتال… بعيداً عن كل ذلك...
فإن الناظر إلى الغاية التي لا زالت تجمع كل من في واقعنا المحرر، هي واحدة ولا يكاد يختلف عليها أحد على اختلاف أسمائهم وألوانهم. فالكل يدعي وصلاً بالمشروع الإسلامي العظيم الذي سيعيد للأمة الإسلامية دورها في ريادة العالم وسيادة البشرية وإقامة دولة الحق، وملء أرضنا عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً.
وما أكثر من يسعى جاهداً (بأقواله) ليصحح المسار إن صح التعبير، ويعيد الثورة إلى طهرها الأول لتكون بداية الطريق الصحيح لتحقيق ذلك المشروع المعلن.
لكن رغم كل ذلك فإننا إذا ما نظرنا إلى أرض الواقع لا نكاد نرى شيئاً من ذلك سوى مزيد بيانات وتوضيحات وتبريرات لا تسمن ولا تغني من جوع لا بل وأحيانا تصل الأمور إلى أبعد من ذلك بكثير فنرى أرتال تسير وحروب هنا وهناك بين من يحملون ذات الغاية...فيقف إزاء ذلك الحليم حيراناً.
ولا نكاد نرى تفسيراً لذلك سوى تلك الفجوة الأزلية بين النظرية والممارسة التي وجدت مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم ولا زالت حاضرة إلى يومنا هذا ولربما هي باقية مالم تقم الساعة.
فجميعنا كمسلمين متفقين بشكل أو بآخر على نظرية تعد من المسلمات بالنسبة لنا وليس هناك من إشكالية فيها، فالكل متفق على شرع الله كمبدأ في حياته ومنطلق يحكم من خلاله على أصغر الأمور وأكبرها والقضية في ذلك محسومة نظرياً ولا تحتاج منا لأن ننشغل في الصراعات الفكرية والإيديولوجية التي لطالما انشغل بها غيرنا من الأمم، فالإسلام نموذج حياة متكامل لا نقص فيه.
ولكن لب القضية يكمن في إشكالية تطبيق هذه النظرية وإسقاطها على أرض الواقع، هذه الإشكالية التي كانت سبباً في نشوء هذه الحركات والجماعات المتناحرة المتخاصمة التي لا يعترف بعضها بالآخر مع أن لديها الهدف ذاته (إقامة شرع الله على أرض الله) ومصالحها في ذلك مشتركة ولاشي بينها سوى أن كل طرف ارتأى في نفسه الحق وحصر في ذاته الصواب فلا يريد أن يري الغير إلا ما يرى، فطريقته هي المثلى وسبيله سبيل الرشاد وطريقة وسبل غيره ضلال.
فنجد بناء على ذلك أن مثل أولئك ساهموا من حيث يدرون أو لا يدرون بتعطيل التطبيق عملياً على أرض الواقع.
فهناك من عطل تطبيق أحكام الشرع من حيث يدري (لدنيا يصيبها أو لاتباع هوى)، وهناك من فعل ذلك من حيث لا يدري عندما تعصب لرأي آخر رأى فيه بوابة لمدينة العلم، أما البعض الآخر عطلها بفهمه وتصوره الخاطئ لطبيعة المجتمع المسلم الذي رأى فيه مجتمع السيوف المشرعة والسكاكين القاطعة فجهل بذلك مراد الشرع أصلاً.
تنوعت الأسباب لكن النتيجة واحدة حيث أصبحنا اليوم أشبه ما نكون بأمس غابر من تاريخنا كان اسمه عصر ملوك الطوائف، يومها كان لكل أمير دولته ورجاله ومناصروه ممن يحتمي ويلوذ بهم ضد أخيه، والذين ما فتئوا ينفخون على جمر الفتنة لتستعر نارها أكثر فأكثر حتى تأتي على كل شيء.
لا شك أن ما نجده اليوم من نتائج قائمة وحاضرة على الأرض من تشرذم وتشتت وتصادم ومناوشات تصل لإعلان الحروب وسفك الدماء بين أخوة المنهج ماهي في حقيقتها إلا انعكاس لفقدان الفهم الصحيح لآلية التطبيق.
ذلك الفهم الذي ينظر لتطبيق أحكام الإسلام ككل لا يتجزأ ويرى فيها منظومة حياة كاملة، فلا يجتزئ منها ما يريد ويترك مالا يهوى، فيرى بذلك العدل والمساواة والفضيلة وتحريم الاحتكار والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي و... كما يرى إقامة الحدود من قطع يد السارق ورجم الزاني و…
إذاً فلا بد من بناء التصور الصحيح عن آلية التطبيق وفهم الواقع المراد تقويمه فهماً دقيقاً، فكم من ساعٍ لتطبيق شرع الله بفهمٍ معوجٍ لم يكن في حقيقته إلا محارباً لهذا الشرع، وعاكساً الصورة المشوهة عن أحد نماذج مدعي تطبيق الشريعة.
يكثر هذه الأيام وبعد مرور كل هذه السنوات على الأزمة السورية، الاستخدام المكثف لمفردتي «التسوية» و»الإنهاء» دون كلمة الحل. في اعتقادي أن الأمر هنا ليس من قبيل العبث أو المصادفة أو تنويع المترادفات، فهناك فارق كبير بين الحل الذي يرد الكرامة والحقوق ويأخذ على يد الظالم والمعتدي، ومجرد إنهاء الأزمة، حيث أن هذه «النهاية» قد تأتي عبر قضاء أحد الأطراف، الأقوى غالباً، على الآخر وهذا بالتأكيد لا يمكن أن يكون حلاً.
كذلك هو الحال فيما يتعلق بالتسوية، فهي مفردة تعبر عن ضيق ما يسمى بالمجتمع الدولي بمشكلة إقليمية معينة، وتعكس رغبته في إنهائها، خاصة إنهاء الجانب المزعج منها، كمسألة اللاجئين وانتشار الفوضى والهشاشة السياسية التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على مصالح ذلك المجتمع الدولي.
الوصول إلى تسوية مقنعة هو أمر مهم بالنسبة لدول الإقليم، كما هو مهم بالنسبة للدول الكبرى، التي تحب أن تظهر أمام نفسها وشعبها، على الأقل، بمظهر المهتم بالأزمات الإنسانية والقلق على مستقبل الشعوب.
كل ما سبق ينطبق بشكل تام على الأزمة السورية التي يمكن أن تعد، خاصة في جانبها الإنساني، من أكبر المآسي التي مرت على البشرية بعد الحروب العالمية الكبيرة، وهو ما فرض على أطراف دولية كثيرة التدخل من أجل لعب دور في إنهاء ما بدا وكأنه صداع حاد لا يستطيع أحد تجاهله. للحل الشامل والحقيقي خطوات معروفة، أهمها تقديم المسؤولين عن هذه المعاناة إلى محاكمة عادلة، والعمل على إغلاق الثغرات التي قد تساعدهم على الفرار بجرائمهم. مثل هذا الحل، ولسبب أو لآخر، صعب أو غير مرغوب فيه، ولذلك فقد اكتفت القوى الإقليمية بالحديث عن التسوية وإنهاء الأزمة بأي ثمن، ولو كان عبر إجراءات للقضاء على ما تبقى من الشعب الثائر، أو الذي قد يثور مستقبلاً.
إذا كان هذا يمثل حال معظم اللاعبين الإقليميين، فلماذا التركيز على الرؤية الروسية دون غيرها؟ في الواقع فإن السبب يعود لأهمية الدور الروسي الذي أصبح رئيساً، فيما يتعلق بحاضر ومستقبل الدولة السورية، بعد تراجع الأطراف الأخرى، خاصة التي تملك رؤى بديلة ومناقضة لوجهة نظر موسكو وطريقتها في إدارة الأمور. هنا يجب الاعتراف بأن الرؤية الروسية، ظلت إلى حد كبير متسقة مع نفسها وثابتة، مقارنة بالتحركات المنافسة التي كانت على شكل خطوات مرتبكة ومتراوحة بين الأمام والخلف. على سبيل المثال فإننا نذكر كيف كانت الولايات المتحدة جادة في عزمها مساعدة الثوار وتنحية بشار الأسد خلال العام الأول للأحداث، بل إن الأنباء نقلت أن عام 2012 قد شهد مقترحاً من مجلس الأمن القومي الأمريكي بتسليح المعارضة، وآخر من المخابرات الأمريكية متعلقاً بوضع تصور لكيفية تنحية الأسد. إلا أن هذا العزم سرعان ما تبدل بعد وضوح سيطرة «الإسلاميين» على المشهد، وهناك قال السيناتور ريتشارد بلاك، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرجينيا، مقولة شهيرة، مفادها أن سوريا هي مركز الثقل الذي إن سقط بيد الإسلاميين فإن ذلك سيعني سقوط أوروبا الحتمي، ونهاية الحضارة الغربية على يد المسلمين.
لم تكن خشية بلاك والتيار المتطرف الذي يمثله، تنبع من قلقه بشأن انتشار الإرهاب والفوضى، بقدر ما كانت تنبع من الكابوس الذي تمثله الرايات الإسلامية، والدعوات لإحياء المجد التاريخي، واستعادة الدور الحضاري للإسلام، عبر الانتقال من دول الخضوع لنظام عالمي ظالم، إلى دول تبحث عن مصالح شعوبها وتطلعاتها، التي من أهمها حق الغالبية في حكم نفسها وممارسة دينها وعقيدتها.
أما تنظيم «الدولة» الفوضوي فقد قدم خدمة كبيرة لتيار الخوف من الإسلام ذاك، ففي حين كان ذلك الاتجاه يبحث عن وسيلة لتشويه الدين الإسلامي والتشكيك في دوره الحضاري واتهام ممثليه، فإذا به يفاجأ بجماعة تطلق على نفسها «الدولة الإسلامية» وتمعن في احتراف القتل وأعمال الترويع مما شكّل هدية مجانية، خاصة أن أولئك الأدعياء استخدموا الكثير من المال والدعاية لإظهار أنفسهم كممثل شرعي ووحيد لحقيقة الإسلام. هكذا لم يعد مطلوباً من «الاسلاموفوبيين» نشر الأكاذيب أو محاولات التشويه الكاذبة أو المفضوحة، فما عليهم سوى الترويج لما ينشره ويكتبه ممثلو «الدولة الإسلامية» الذين لم يسلم من شرهم حتى أبناء جلدتهم من المسلمين.
تم توظيف هذا التنظيم بشكل جيد، وسواء كان أفراده من الواعين بذلك أو المخدوعين، فإنهم إنما كانوا تروساً في ماكينة كبرى، كان من أهدافها الوصول إلى هذه الحالة الرمادية، التي أصبح أقصى طموحها تسوية المسألة السورية عبر تبديل الأولويات وإظهار دحر الإرهاب كهدف رئيس.
أما ما ميّز الرؤية الروسية فهو تجاهلها لكل هذه التعقيدات، وثباتها على منطق واحد يتم تكراره بشكل أو بآخر على مدى السنوات الماضية، وهو المبني أولاً على أن الأحداث في سوريا ليست ثورة، وإنما محاولة غربية امبريالية من أجل تغيير نظام صديق لروسيا لمجرد أنه لا يعجبهم. هذا يعني أن القائمين على هذه «الأحداث» هم مجرد عملاء، أو على تقدير آخر مجرد مخربين ومغرر بهم.
من هنا يأتي ربط موسكو محاولات التدخل الغربية في الشأن السوري بتدخلاته سيئة الصيت في العراق وليبيا، التي أفضت إلى حالة مركبة من الفوضى. يأتي هذا مع التحذير، خاصة في إطار العالم الثالث، من مغبة تمرير النوايا الأمريكية في تغيير الأنظمة التي لا تروقها. هذا المنطق خلق انقساماً لدى المتعاطفين مع المسألة السورية، فهم من ناحية يريدون إنهاء معاناة الشعب الأعزل، الذي يرونه يعاني القتل والحصار والتجويع، ومن ناحية أخرى لا يريدون دعم خيار التدخل والإطاحة بالنظام، حتى لا يتم تثبيت ذلك كسابقة قانونية قد ترتد على دولهم لاحقاً.
ثانياً، يشدد المنطق الروسي على إثبات شرعية النظام السوري، واعتباره ممثلاً لسوريا، وبهذا فإن كل من خرج على الدولة هو مجرم أو إرهابي يستحق العقاب وكذلك فإن كل الأطراف التي تدعم المعارضة المسلحة هي أطراف داعمة بشكل أو بآخر للإرهاب. وأخيراً، يرى الروس في تبسيط، هم أعلم من غيرهم بعبثيته، أنه إذا كانت المسألة مسألة حرية وديمقراطية فإنه يجب العودة إلى طاولة المفاوضات، ثم الدعوة لانتخابات حرة ونزيهة واحترام نتائجها، وهذه هي الوسيلة الوحيدة المقبولة لتغيير النظام.
بين ذلك كله كانت المسألة بالنسبة للروس هي مسألة تحدٍ وإثبات وجود خاصة في الفترة الأولى، التي بدا الغربيون فيها، خاصة الأمريكيين، داعمين للثورة فقد أرادت موسكو إثبات أنها ليست من دول الهامش وأن بإمكانها أن تغيّر مسار الخطط الغربية. هذا طبعاً قبل أن يتغير ذلك المسار بشكل تلقائي، وتصبح الولايات المتحدة غير جادة أساساً في حسم المسألة السورية بشكل عادل.
تعيش روسيا اليوم نشوة الانتصار، بعد أن استطاعت فرض رؤيتها للتسوية في سوريا، لكنه في الواقع انتصار زائف، فالولايات المتحدة لم تتراجع عن محاولات إسقاط النظام السوري، بسبب صموده وبسالته، أو بسبب الخوف من ردود الأفعال الروسية، كما يروّج إعلام «المقاومة» الذي يدعي الانتصار على الامبريالية والصهيونية، ولكنها تراجعت بسبب إعادة تفكيرها في مصالحها وعلاقاتها في تلك المنطقة المسماة بالشرق الأوسط، خاصة بعد أن اتضح للعيان أن الكيان الصهيوني ليس قلقاً من استمرار النظام الأسدي كجار، بقدر خشيته من مستقبل مجهول على يد قادة جدد قد لا يصبرون على احتلال أراضيهم وعلى مجاورة مغتصبها.
ذات مرّة كتب الشاعر اللبنانيّ الراحل محمّد العبدالله: «ونظرت من الشبّاك فإذا هي حرب أهليّة». فهل سننظر من الشبّاك هذه المرّة لنجد «عشرات، بل مئات الآلاف من المجاهدين» اليمنيّين والعراقيّين والإيرانيّين والأفغان والباكستانيّين يتدفّقون على لبنان، وفقاً لخطاب حسن نصر الله، الأمين العامّ لـ «حزب الله» في «يوم القدس»؟
هذه الفقرة في الخطاب قد تكون تهويلاً محضاً من النوع المعتاد، وقد تكون مسايرة للوجهة التي افتتحها «حزب الله» في سوريّة، حيث حضرت جيوش وميليشيات لا تُعدّ لقهر الشعب السوريّ، وقد تكون رفعاً لمعنويّات ليست في أحسن أحوالها.
لكنْ تبقى مسألتان يثيرهما خطاب الأمين العامّ، بل يثيرهما كلّ خطاب يلقيه علينا: ما موقف الدولة اللبنانيّة، وحكومتها التي يشارك فيها الحزب، من كلام كهذا؟ ثمّ إذا كان مئات الآلاف من هؤلاء سيأتون لإنجادنا، فإلى من تعود هذه الـ «نا»؟ هل تشعر أكثريّة اللبنانيّين بأنّها عشيّة حرب تستدعي استقبال «مجاهدين» بمئات الآلاف، أم أنّ هذه الأكثريّة ستتساءل، وهي تسمع خطاب الأمين العامّ: خير إن شاء الله؟
أكثريّة اللبنانيّين الكبرى مهتمّة اليوم بإنجاح مواسم السياحة والاصطياف. يوم الأحد الماضي أقيم مهرجان لإحياء شارع الحمرا في بيروت (ولو أنّ عنوانه كان سمجاً ولا يمتّ بصلة إلى كوزموبوليتيّة الحمرا التي يراد إحياؤها: «لبنانيّ قحّ»). شوارع أخرى في العاصمة وبلدات ومدن في لبنان سبق أن أحيت مهرجانات مماثلة. اللبنانيّون، عن خطأ أو عن صواب، يريدون استقبال آلاف السيّاح والمصطافين، «بل مئات آلافهم» إن أمكن ذلك. الأمين العامّ يريد لهم أن يستقبلوا مئات آلاف «المجاهدين».
مرّة أخرى يتّضح أنّ حروب «حزب الله» هي، بالضرورة والتعريف، من نوع تآمريّ: تُفرض على المجتمع من وراء ظهره وضدّاً على إرادته. إنّها حروب الوظيفة الإقليميّة غير المعنيّة بهذا البلد لا من قريب ولا من بعيد. لهذا تبدو تلك الحروب شبيهة بأفلام الكوارث والرعب: زلزال أو طوفان غير متوقّعين بتاتاً يضربان الحياة اليوميّة والعاديّة للسكّان.
فوق ذلك فإنّ تلك الحروب ذات طابع ملحميّ، إن لم يكن في الواقع الفعليّ، ففي الصورة المخيفة التي تُرسم لها: تخيّلوا مئات آلاف «المجاهدين» وهم يتدفّقون على البلد «للدفاع عنه»!
إنّ الحروب التآمريّة مضطرّة، كي تُكسب نفسها بعض الواقعيّة وبعض التبرير، إن لم يكن بعض الشعبيّة أيضاً، إلى استعارة هذه المبالغات الملحميّة. ضعف التمثيل، في أمر يعادل الحياة والموت، يستدعي نفخ كلّ شيء آخر: نفخ الخطر. نفخ العداوة. نفخ الأعداد التي ستقاتل. نفخ معنى الانتصار...
لكنْ إذا كانت مأساة «حزب الله» أنّ عليه تغيير المجتمع نفسه من أجل أن يضفي الشرعيّة على حروبه، فإنّ مأساة هذا المجتمع هي أنّه، في آخر المطاف وفي ما هو أساسي، محكوم بـ «حزب الله»!
هناك مشكلة كبيرة عند المفكرين العرب أنهم مقصرون بعض الشيء في التعريف بالنظام الإيراني وساساته، وذلك في علاقاتنا بمراكز الأبحاث الغربية وبجامعاتها ومفكريها، فالشعور الذي أخرج به دائماً هو أن الغربيين لديهم معلومات غير متكاملة عن طبيعة النظام في ذلك البلد وعن سياساته الخارجية الحقيقية. والمستشارون في مجال السياسات الخارجية الذين أراهم مع جل الرؤساء الحاليين ابتداء من الرئيس ترامب، مروراً بالمستشارة الألمانية ميركل، وصولًا إلى الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون، هم من خريجي ومزاولي التدريس الجامعي. فجلهم جامعيون مختصون مثلنا في العلاقات الدولية، وهم الذين يقضون الوقت في كتابة القصاصات الاستراتيجية، بل ورسم السياسات الخارجية الرسمية لبلدانهم.
وهؤلاء رجال متشبعون بالنظريات في سوسيولوجية العلاقات الدولية، ولهم علاقات وطيدة بالمفكرين من كل دول المعمورة قبل أن تكون لهم علاقات برجالات الدولة. وعندما تتواصل معهم وهم في دوائر القرار تجدهم أصحاب أفكار مسبقة أو جاهزة ورثوها من أيام التدريس والبحث العلمي في الجامعات! والمصيبة الكبرى أن الكتابات الفكرية المتزنة القادمة من عندنا قليلة إن لم نقل منعدمة، فلا يكون إلا ما يؤمنون به لوحدهم.. وإذا سألتهم مثلاً عن تشخيص حقيقي لطبيعة النظام في إيران، وعن المؤسسات النافذة، ستجد منهم أجوبة غير مقنعة... وإذا سألتهم عن أسباب تواجد أتباع ملالي طهران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان فسيخوضون معك في تفسيرات جيوسياسية عقيمة... وإذا تفضلت وقلت لهم إن التقية عندهم تسمح لهم بفعل كل شيء، وإن مسألة السيادة الممنوحة من القانون الدولي لكل دولة منعدمة في إيديولوجيتهم، إن قلت كلذلك ابتسموا لك وغيروا الموضوع.
يا سادة إن النظام في إيران قائم على الشخصنة السلطوية، وأعني بذلك «الولي الفقيه»، والذي وصفته المادة 107 من الدستور الإيراني بأنه «المرجع المعظم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية، ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني، الذي اعترفت الأكثرية الساحقة من الناس بمرجعيته وقيادته». فالسلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية تمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأئمة (المادة 57)... فمهمته مهمة مركزية في نظام الحكم الإيراني، وهو المتفرد بالمرجعية الدينية لكل الشيعة في العالم، دون اكتراث بالحدود الجغرافية أو السيادة الوطنية. ولحماية هذا النوع من التواجد السلطوي في دواليب الدولة، فإن للقائد ممثلين يعينهم يبلغ عددهم نحو ألفي ممثل في كل مؤسسات الدولة وأجهزتها وفي الوزارات والسفارات والمراكز الثقافية، كي تتمكن أسس الثورة من البقاء انطلاقاً من «ممثلي الإمام»! وهذه السلطات والصلاحيات أتاحت للقائد إنشاء «دولة داخل دولة»، مع ما يعنيه ذلك من سريان نظام وقواعد غير مكتوبة، وأخرى مكتوبة، تكون فوق القانون والصلاحيات المشروعة المتعارف عليها، وبلباس ديني ثوري مطلق!
إن النظام قائم على مؤسسات نافذة موضوعة مباشرة تحت سلطة «الولي الفقيه»، منها: مجلس صيانة الدستور، وهذا المجلس له صلاحيات حساسة بما فيها الإشراف على انتخابات مجلس خبراء القيادة ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وعلى الاستفتاء العام. ومجلس تشخيص مصلحة النظام. ومجلس الخبراء. ومجلس الأمن القومي الأعلى. ومجلس إعادة النظر في الدستور. ولجنة الثورة الثقافية، التي تعنى بخلق أجيال جديدة تتبنى قيم الثورة وتكون مصدر قوة للدولة. ثم يجب أيضاً ألا ننسى «الحرس الثوري» المنبثق من «اللجان الثورية»، وهو الجهاز العسكري الموازي للجيش، الذي يخضع خضوعاً مطلقاً لإيديولوجية الثورة والتوجيهات العليا للدفاع عن خط القائد داخل إيران وخارجها، والدفاع عن «المستضعفين في الأرض» أينما كانوا، عبر عملية تصدير الثورة التي تتيح كل شيء بما في ذلك خلق الفتنة، وزعزعة أركان الاستقرار للدول والشعوب.
وإذا أفهمنا زملاءنا في الدول الغربية من خلال هذه الإطلالة السريعة نوعية النظام القائم في إيران، سيفهمون كل شيء. وسيفهمون أن لعب إيران على الوتر الطائفي مسألة وجود إيديولوجي لإيديولوجية ولاية الفقيه. وسيفهمون أن تصدير مشروع الثورة الإيرانية لن يكون إلا من خلال استعمال أدوات مذهبية باستغلال وتجييش طائفي لبعض الشيعة العرب وغيرهم في المنطقة العربية لنشر مبادئ ومرتكزات الثورة. وكل ذلك لتعزيز المصالح القومية الإيرانية، والتمركز داخل النظام الإقليمي وابتزاز الخصوم والأنداد.
لم تعد الحرب بالوكالة التي تشنها إيران في المنطقة كافية للدفاع عن نظام الولي الفقيه قي طهران. بات استراتيجيو الجمهورية الإسلامية يشعرون بأن رياحاً أخرى تهب في المنطقة وبات وقعها يقرع أبواب البلد ويهزّ عرشاً كان يمنّي النفس بالنفخ بإمبراطورية غابرة عاصمتها بغداد.
تبدل التوازن الإقليمي برمّته. لم تعد العواصم العربية الأربع التي أعلنت طهران أنها تحت السطوة الإيرانية كافية للدفاع عن العاصمة الإيرانية نفسها. انتقل الإرهاب «الداعشي» إلى طهران ليضرب داخل البرلمان، حجر الزاوية للنظام السياسي للجمهورية، وليضرب ضريح الإمام الخميني، رمز تأسيس هذه الجمهورية. لم تعد دولة الفقيه بمنأى من أورام التطرّف التي ما برحت منابر إيران وأجهزتها تنفخ فيه شرقاً وغرباً، علناً وخلف الكواليس، فينتج ميليشيات طائفية تنافس «داعش» في غيّه وتتقاطع معه في غاياته.
ليس بالأمر افتراء ومبالغة، فالتقارير دقيقة في التحدث عن تورّط إيران المباشر مع تنظيم «القاعدة» واستضافة قياداته، كما في التواطؤ لتحرير قيادات التطرّف الإسلامي من سجون سورية والعراق الذي لم يكن سيؤدي إلا لإنشاء تنظيم أبو بكر البغدادي الشهير. كما أن التنظيم نفسه راعى هذه «المكرمة» فلم يتوجه بعد سقوط الموصل عام 2014 إلى بغداد، بل إلى مناطق الأكراد والإيزيديين، كما أنه كشف عن تعاون يشبه التحالف مع نظام دمشق ضد المعارضة السورية المعتدلة.
كان ذلك في ما مضى. فالمنطقة تشهد فصولاً أخرى تتغير فيها القواعد والمسلّمات. تعبّر عملية «داعش» الإرهابية في طهران عن ذلك تماماً. لم يضرب التنظيم قبل ذلك أي هدف داخل إيران، ولذلك أسباب من دون شك. وأن يضرب التنظيم في هذا الشكل وتلك الأهداف وفي هذا التوقيت، فلذلك أسباب من دون شك. وأهم تلك الأسباب أن تفاهماً ما بين طهران و «داعش» جنّب إيران صولات البغدادي، قد سقط، وأن سقوط هذا التفاهم فتح نيران الإرهاب ضد طهران.
هكذا هي المعادلة بكل بساطة.
تلتقط إيران وجبات متدفقة من الأعراض المقلقة هذه الأيام. تستنتج علاقة ما بين سقوط «داعش» القريب في الموصل وهجماته في طهران. وتستنتج أن عواصم العالم كما عواصم المنطقة تستعد للتموضع في حقبة ما بعد «داعش». وما بعد «داعش»، أي ما بعد سقوط التطرّف والإرهاب الإسلاميين، سيتّسق منطقياً مع حقبة تسحب البساط من تحت تيارات التطرّف الديني كافة سنية كان أم شيعية. وفي ذلك تماماً أن خدمات طهران ومواهبها في هذا الصدد لم تعد تتوافق مع ذائقة السوق الدولية في تقليعاتها الجديدة.
لن يجهد المراقب كثيراً لملاحظة أن سعي إيران لحفر «هلالها الشيعي» وتأمين تواصل بري بين طهران وبيروت يكشف عن إدراك إيراني بتصدّع سطوتها في ميادين نفوذها التقليدي على ذلك الطريق. تفرج معركة الموصل ونزوع الأكراد إلى توسّل الاستفتاء طريقاً للانفصال عن مشهد عراقي آخر لن تعود به إيران سيدة الموقف. وتشي زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي السعوديةَ بتوق عراقي، بدعم ورعاية أميركيين، لإعادة وصل العراق بمحيطه العربي والتحلل آلياً من تبعية لإيران، تمت منذ غزو عام 2003 بتشجيع أميركي أيضاً.
وإذا ما صعّب على المراقب استيعاب ملامح التغير المقبل في العراق، فإن ملامح ما قد يقترب من الانقلاب جلية في الميدان السوري. باتت إيران «فصيلاً» من بين الفصائل التي تتقاتل داخل هذا البلد منذ عام 2011، وحتى أن دفعها بالميليشيات الشيعية المقبلة من لبنان والعراق وأفغانستان ودول أخرى، كما دفعها بالآلاف من «مستشاري» الحرس الثوري، لم يحسّن من شروط هيمنتها على النظام السوري وحوّلها إلى عامل مساعد تستخدمه روسيا وتهمله وفق أجندة القيصر لا وفق توصيات المرشد.
تكاد إيران تفقد نفوذها في سورية المستقبل، أياً كان هذا المستقبل، حتى لو حققت ميليشياتها إنجازاً هنا واختراقاً هناك. تعرف طهران أن لإدارة دونالد ترامب خطة عمل وأجندة كانتا غائبيتين في عهد الإدارة الأميركية السابقة، وأن الاستراتيجية الأميركية الجديدة في سورية التي تتنافس مع تلك الروسية قد تتوصل إلى شراكة مع موسكو، لكنها غير مهتمة بأي شراكة من أي نوع مع طهران. تدرك إيران أيضاً أن قرار واشنطن بمنع أي نفوذ إيراني على الحدود الشرقية لسورية هو خيار استراتيجي نهائي على ما تكشف تطورات التنف جنوباً وحراك قوات سورية الديموقراطية في الرقة، وعلى ما يكشف تدخل طائرات التحالف لحسم أي محاولة تسعى لغير ذلك.
لم تستخدم طهران قواها النارية منذ انتهاء الحرب العراقية الإيرانية. لم يكن من حاجة لذلك والجوائز تأتيها مجاناً منذ حرب الكويت مروراً بحصار العراق انتهاء بغزوه غرباً وغزو أفغانستان شرقاً. فأن تستخدم إيران صواريخها الباليستية، فإن في ذلك اعتراف أن الحرب بالوكالة لم تعد تفي بالغرض، وأن صواريخ إيران التي لطالما أثارت قلقاً لدى عواصم العالم تجاوزت مهماتها التجريبية ودخلت في منظومة العمل المهدِّد الأهداف المحتملة.
لم يصدر عن البنتاغون أي تعليق أو تأكيد لرواية الصواريخ الإيرانية. أخطأت إيران في الإعلان عن استخدام صواريخ يفهم منها تهديد لكل دول المنطقة كما لمصالح دولية، في مقدمها تلك الروسية - الأميركية، في المنطقة. وإذا ما ثبتت رواية الصواريخ وثبتها إعلان أميركي دولي ما عنها، فإن المجتمع الدولي الذي رفض البرنامج الصاروخي الإيراني وتجاربه، سيكون له موقف جدي آخر ضد ما انتقل من موسم نظري إلى دائرة الفعل بالنار. لا يمتلك المجتمع الدولي إلا الحزم إذا ما أراد تجنيب المنطقة حرباً كبرى ضد إيران تشنها عواصمها، حتى تلك المتخاصمة تقليدياً في ما بينها.
يتشابه السيناريو الذي يتم تطبيقه حاليا اتجاه الأسد ، بذلك الذي لاحق صدام حسين قبل قرابة الـ ١٥ عاما ، من حيث الحديث و المعلومات الاستخباراتية الغير قابلة للدحض عن أسلحة كيميائية أو دمار شامل ، تمهيداً لعمل عسكري مضاد قد نشهده في قريب الأيام .
فمع اجماع المؤسسات الأمريكية الثلاث الرئيسية في أمريكيا (البنتاغون - المخابرات - البيت الأبيض) ، على ذات المعلومات المتعلقة بوجود نشاط مشابه لذلك الذي شهده مطار “الشعيرات” في حمص ، قبيل ارتكاب مجزرة الكيماوي في خان شيخون نيسان الفائت ، هذه المعلومات التي تلاها تهديد بدفع "ثمن باهظ جدا" ، سرعان ما انضم إليه مؤيداً و مسانداً كل من بريطانيا و فرنسا ، يجعل السيناريو القريب جداً ، يصل حد التطابق في حال اكتمال الحبكة وصولاً للفعل الحقيقي ، الذي يكون كنوع عقابي للأسد ، وفقا ما تسير باتجاهه وسائل الاعلام الأمريكية.
و صحيح أن الحديث السابق ، هو محتمل و بنسب عالية جداً ، ولكن يبقى هناك احتمالية لو ضئيلة لانعدام مصداقيته ، وبالتالي وجود تهديد جدي و فعلي اتجاه المناطق المحررة التي تشهد معارك أو هي مقبلة على حملات جديدة.
قراءة الساحة السورية الحالية ، من حيث توزع خارطة الاشتباك تنحصر امكانية تنفيذ المرحلة التي تستبق عملية الاستهداف الجدي للأسد ، ألا وهي استخدام الكيماوي ، فإن أقرب الساحات لهذا الاستهداف هو ريف دمشق الشرقي ، الذي يشهد حاليا اشتباكات غاية في الخطورة ، ومحصورة في قطاع واحد ، ألا هو جبهة عين ترما ، اذ الهدف الأبرز “جوبر” ، تم تأجيله لمرحلة ما بعد الفصل عن الجسد المتبقي من الغوطة الشرقية.
في حين لا تعد جبهة درعا و معركتها الشهيرة “الموت ولا المذلة” بعيدة عن خريطة الاستهداف المتوقع ، اذ تعد هذه الجبهة الأكثر خطورة على النظام في حال ما واصل الثوار معاركهم (الهادئة حالياً نتيجة اتفاق يعتبر كبادرة تمهيداً لاتفاق دولي حول المنطقة ، الاتفاق الذي يبدو أنه لم يحقق النجاح) ، و المعلومات الواردة من مصادر دقيقة تجعل من الأمر (الكيماوي) قريبا جداً من تلك المنطقة.
و ليس ببعيد عن درعا ، قد تكون القنيطرة هدفاً محتملاً بعد الهجوم الذي قاده “جيش محمد” ، اتجاه أكثر النقاط قرباً للنظام و المليشيات الايرانية ( مدينة البعث) لاسرائيل ، وما رافقه من تشدد اسرائيلي وحسمية في الرد ، و في ذات الوقت تحويله لأمر كبير مع اعلان المناطق المقابلة للمعارك ، منطقة عسكرية لا يسمح الاقتراب منها ، مما يضعها في مركز متقدم في قائمة الاستهداف الكيميائي.
باب المناطق التي من المحتمل أن تكون هدفاً للكيماوي ، اذا ما صدقت بالفعل التقارير الاستخباراتية ، هو باب عريض سيما مع معلومات ميدانية تقول إن النظام و حلفاءه يقومون بحركة نشطة و كبيرة في منطقة سهل الغاب ، وهي حركة لا تشهدها المنطقة إلا في حال حدوث معركة باتجاه المناطق المحررة في ريف حماه الشمالي و جنوب ادلب.
و السؤال الأبرز الذي يدور حول : ما سبب الرغبة باللجوء إلى العنف لفرض التقسيم السوري .. في حين تم الأمر بيسر و سهول إبان سايكس بيكو !؟ ، وهنا الجواب يقودنا للقول أن المساحة المتبقية من سوريا بعد اعتماد كل طرف على القوة لانتزاعها ، حيث استحصلت روسيا على مما أسمته “سوريا المفيدة” ، و ايران باتت على أبواب الولوج لحلمها بوصل طهران بالمتوسط عبر طريق بري آمن ، وتركيا استحوذت على أجزاء من طلبها وهي مقبلة على المرحلة الثانية ، وصولاً للخمسة آلاف كيلومتر المطلوبة لضمان أمنها و تمزيق الحلم الكردي الانفصالي ، في حين بقي اللاعبون في الجنوب بلا حصة مجزية سيما الأردن و اسرائيل ، و بالتالي لابد من عمل سريع وحاسم يضمن الحصول على النصيب “المغمس بالدم”.
في مقابلة مطولة مع مطبوعة عربية، أطلق السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد لخياله العنان في عملية إعادة تصوير المشهد السياسي السوري ودوره فيه، بحيث يحقق هدفين رئيسين: رسم صورة إيجابية لدوره، وتصفية حساب مع الإدارة الأميركية السابقة.
لم تكن محاولة رسم صورة إيجابية لدوره بالعملية السهلة لأن في الملف صفحات تقود إلى نتيجة أخرى، مختلفة، إن لم تكن مناقضة، لما حاول السفير ترويجه. ثلاث قضايا رئيسة، بعضها تجاهل هو الاقتراب منها وقفز الصحافي عنها، تناولها يمكن أن يعيد التوازن إلى الصورة التي رسمت ويسمح بإطلاق أحكام مختلفة على موقف السفير والإدارة أكثر دقة وموضوعية، وبتحديد المسؤوليات على النتائج وتبعاتها. أولى تلك القضايا موقف السفير من الثورة كفعل شعبي هدفه تغيير الواقع السياسي القائم في سورية. فقد عكست حواراته، وتحركاته في دمشق، قبل إغلاق السفارة، وفي الخارج، أنه ليس مع الثورة، وأنه تحفظ عليها منذ البداية، وقد تجلى ذلك في سؤال تشكيكي وتحريضي طغى على أسئلته لمن التقاهم من المعارضين: الأخطار التي تنطوي عليها الثورة على الأقليات الدينية والمذهبية. بدأ بالسؤال حين كانت تظاهرات السوريين تصدح بشعار «واحد... واحد... واحد... الشعب السوري واحد».
وقد اعتبر في شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشيوخ عام 2013 أن «عدم تقديم ضمانات للأقليات، العلويين بخاصة، سبب رئيس في فشل الثورة، كرر الموقف ذاته في مقالة له في جريدة النيويورك تايمز. وقد تصاعد تحفظه مع ظهور المنظمات والفصائل الإسلامية كاشفاً عن أعراض إسلاموفوبيا عميقة. وقوله في المقابلة: «في 2013، قلت للمعارضة السورية: يجب أن تكونوا منفتحين إزاء الأسد. إذا أقنعتم الأسد بتغيير رئيس المخابرات الجوية والعسكرية والأمن السياسي والاستخبارات العامة. إذا تغير رئيس المصرف المركزي ووزير المال٬ ثم يعيَّن مستقلون بدلاً منهم من دون سيطرة الأسد يمكن قبول بقائه»، لا يعكس حقيقة موقفه من الثورة والتغيير فقط بل ويكشف مدى سطحية فهمه للنظام السوري. وأما ثاني تلك القضايا فموقفه من «المجلس الوطني السوري» حيث ناصبه العداء وحرض عليه ومارس ضغوطاً على أعضاء وتكتلات فيه محاولاً دفعها إلى الانسحاب منه، وقدم إلى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تقارير سلبية عن أدائه، قبل أن يكلف باحثاً في مركز بروكنز في الدوحة بوضع خطة وإصلاحه خلال أسبوعين أو حله وتشكيل بديل سياسي له، ما حصل عندما شكل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، المؤسف أن معارضين ممن تصدروا المجلس والائتلاف قد ساعدوه في ضرب «المجلس» وتشكيل «الائتلاف»، وهاهم الآن يدعون إلى إصلاح «الائتلاف» وعدم تشكيل بديل بذريعة أنه يحظى باعتراف دولي يجب أن لا نهدره متناسين أن «المجلس» كان يحظى بالاعتراف ذاته عندما طالبوا بتجاوزه.
وقد ختمها في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة عام 2016 بتقديم شهادة سلبية عن المعارضة المعتدلة، ناهيك بما قاله في محاضراته في مراكز البحث والجامعات ضدها. وأما ثالثة الأثافي، كما تقول العرب، فموقفه من تسليح الجيش السوري الحر، حيث تقلب في موقفه من رفض التسليح والوقوف ضد اقتراح هيلاري بيترايوس بينيت عندما كان على رأس عمله، إلى تبني التسليح بعد خروجه من وظيفته، شباط 2014، ومطالبته في مقالة له في النيويورك تايمز يوم 10/6/2014 تحت عنوان «سلحوا المعارضة السورية» بتزويده بأسلحة ثقيلة بما في ذلك صواريخ مضادة للطائرات، قال في المقالة: «من المؤكد أنه لا يوجد حل عسكري، ولكن من الممكن إنقاذ شيء في سورية من خلال تهيئة الظروف لإجراء مفاوضات حقيقية تجاه حكومة جديدة. وهذا يتطلب تمكين المعارضة المسلحة المعتدلة». وعودته إلى معارضة التسليح، فقد نقلت عنه صحيفة ماكلاتشي، بعد اجتماعه مع قادة من الجيش السوري الحر في تركيا، قوله: «إن أمام المعتدلين فرصة ضئيلة ليصبحوا قوة قابلة للحياة، سواء ضد الأسد أو المتطرفين، قدر عددهم بعشرين ألفاً، وأضاف باختصار «ليس من المنطقي الاستمرار بإرسال المساعدة إلى الجانب الخاسر». هنا يمكن أن نذكر واقعة دالة بهذا الخصوص، فبعد ضربة الكيماوي في الغوطتين الشرقية والغربية زار عدد من نشطاء دوما وداريا، خلال جولة لهم على الأمم المتحدة والإدارة الأميركية لتقديم صورة عن الهجوم الكيماوي، الخارجية الأميركية والتقوا بالسفير الذي ترك الحديث عن الهجوم الكيماوي وأجرى مع الدارانيين تحقيقاً أمنياً عن عملية إسقاط مروحية للنظام فوق داريا يريد أن يعرف نوع السلاح الذي أسقطها ومن أين حصلوا عليه، وقد بلغ به الموقف حد اتهام مقاتلي داريا بالتواصل مع المتطرفين.
يبقى حديثه عن احتمال خسارة الكرد مراهنتهم على أميركا جديراً بالانتباه وأخذه على محمل الجد لأن السياسة الأميركية تتبنى في تعاطيها مع الملفات وإدارة الأزمات فحوى نظرية «التقاطع» التي طرحها زبغينيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة كارتر، في كتابه «أميركا في العصر التكنتروني» الذي نشره عام 1966، والتي تقول «بإجراء تحالفات وتعاون مع أية دولة أو قوة تتقاطع مصالحها مع المصالح الأميركية في ملف أو قضية ما، لأن محصلة التحالف ستصب في طاحونة الطرف الأقوى فيه».
لم تقع الحرب بين الأميركيين والروس في سورية. انتهت تهديدات موسكو بالعودة إلى اتفاق التنسيق مع واشنطن في الأجواء السورية. لا يعود غضبها إلى إسقاط «التحالف الدولي» طائرة «سوخوي 22». أزعجها أكثر أن قيادة التحالف لا تُعلمها بتحركاتها الميدانية أو الجوية ولا ترغب في التنسيق. أي أنها تتجاهل مصالحها. في حين أنها كررت في أكثر من مناسبة استعدادها للتفاهم في الحرب على «داعش». ما حدث احتكاك طبيعي متوقع. وقد يتكرر كلما اقترب يوم تحرير الرقة بعد الموصل، أو كلما ازداد انخراط الرئيس دونالد ترامب في الإقليم، من اليمن إلى العراق بحدوده الغربية وبلاد الشام بشرقها وجنوبها. علما أنه تعهد أن لا حروب جديدة في الشرق الأوسط. ومثله أعلن الكرملين قبل أيام أن الحرب في سورية توقفت! وهو يستعجل مسارَي آستانة وجنيف لتأكيد هذا «التوقف». ويسعى إلى التفاهم على آليات مراقبة «مناطق خفض التوتر». ذلك أن تصعيد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة يقوض استراتيجيته ويطيح مشروعه لإنهاء الحرب. لذلك رفع سقف خطابه بعد تعرض قوات النظام والميليشيات الحليفة لأكثر من ضربة أميركية أثناء تقدمها نحو قاعدة التنف والمثلث الحدودي مع الأردن والعراق. أوحى بعزمه على الرد، لأنه لا يريد لدمشق أو طهران أن تديرا اللعبة أو تبدلا قواعدها. وساهم في إشعال بعض الجبهات، وساهم أسطوله في المتوسط ببضعة صواريخ، وأعاد نشر بطاريات...
الاحتكاك متوقع إذاً ما دام السباق قائماً على تقاسم النفوذ في سورية. ويمكن هذا السباق أن يؤدي إلى إطالة الحرب على «داعش». بل قد يطيل عمر الأزمة في بلاد الشام بعد القضاء على التنظيم الإرهابي. روسيا تجهد لوقف القتال بترسيخ فكرة «مناطق خفض التوتر». أي أن تنشر هي وتركيا جنوداً في منطقة إدلب، وتتولى وإيران مراقبة المناطق المحيطة بدمشق، وتراقب الولايات المتحدة والأردن المنطقة الجنوبية في درعا. هذا ما أوضحه أحمد كالين الناطق باسم الرئيس رجب طيب أردوغان. بالطبع تبقى هذه الخريطة ناقصة. فالصراع هو على الرقة وعلى تركة «داعش» عموماً. الرئيس ترامب أقفل قناة الحوار مع طهران وأطلق حلفاً واسعاً في الإقليم لمواجهة نفوذها وتمددها. لكنه لم يطلق خطة أو يقدم استراتيجية لتحقيق هذا الهدف. تماماً كما يتعامل مع حربه على الإرهاب. فهو على خطى الإدارة السابقة لا يملك خطة لما بعد «داعش». ولا يملك أجوبة عن مستقبل سورية ومستقبل دور روسيا وإيران في هذا البلد. ما يستعجله هو إنجاز نصر في تحرير «عاصمة الخلافة». كما أن الرئيس السوري الذي لا يروقه تقاسم، بل يريد تحرير الرقة لتوكيد «شرعيته» وأهليته في محاربة الإرهاب! مثلما ترغب حليفته إيران في المشاركة في هذا التحرير لتوكيد حضورها الكبير في الإقليم وقدرتها على إدارة شؤونه. ومثلها تفعل تركيا التي تريد حضوراً يضمن لها قطع أوصال مناطق الكرد وأحلامهم.
هذا الازدحام ،أو بالأحرى التزاحم، في أرض سورية وسمائها، كما رأى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يجعل من الصعب على اللاعبين الكبيرين، روسيا وأميركا، أن يقررا وحدهما مسار الأزمة. القوى الإقليمية والمحلية لا تنتظر نتيجة النقاش في الكونغرس ودوائر الإدارة في الاستراتيجية المنتظرة. لا تتوقف عند تحذير قوى في واشنطن من مغبة الانخراط في حروب المنطقة وإصرارها على قتال «داعش» أولوية. ولا تتوقف أيضاً عند دعوة قوى أخرى إلى رفع وتيرة المواجهة مع إيران باعتبارها معركة مصيرية لمستقبل مصالح الولايات المتحدة وعلاقاتها ودور حلفائها في المنطقة. وتعتقد هذه القوى أن غياب الخطة الاستراتيجية يتيح للأطراف الآخرين في الملعب السوري كسب مزيد من الأرض، كما هي الحال اليوم. ولا شك في أن النظام وإيران يحرزان تقدماً في كثير من المناطق على حساب الفصائل المعارضة. ويسعيان إلى تقويض مشروع «مناطق خفض التوتر». ولم تكتف طهران بإطلاق صواريخ باليستية على منطقة دير الزور حاملةً جملة من الرسائل الواضحة، بل بدأت ببناء قاعدة قرب تدمر تتضمن مطاراً ومهبطاً لإطلاق طائرات من دون طيار ومحطة مراقبة أرضية. وهدفها والنظام تقويض تفاهم موسكو وواشنطن على هدنة طويلة توفرها صيغة «مناطق خفض التوتر» التي قد تكرس لاحقاً أقاليم في نظام فيديرالي. في المقلب الآخر تحشد تركيا قواتها مهددة بضرب عفرين، وتتوعد بتقويض حلم الكرد في حكم ذاتي بعدما دفعت البنتاغون إلى التعهد باستعادة كل الأسلحة التي يمد بها «وحدات حماية الشعب» بعد انتهاء معركة الرقة.
في خضم هذه الأجندات المختلفة، لا تملك إدارة الرئيس ترامب استراتيجية تمكّنها من التغلب على خصومها في سورية. أو فرض رؤيتها وأجندتها. كما أن رفع عديد قواتها أو توسيع رقعة انتشارها في شرق البلاد وشمالها لن يغيرا في مآل الصراع، أو يَحُولا دون انتصار خصومها في المعركة في النهاية. ذلك أن عشرات الآلاف من جنودها الذين غزوا العراق لم ينجحوا في فرض المشروع السياسي الأميركي في بلاد الرافدين. وقبل ذلك لم تقطف الولايات المتحدة وشريكاتها في حرب أفغانستان ثمار جهودها العسكرية في هذا البلد بعد إسقاط نظام «طالبان» وتشتيت قيادات «القاعدة». إلا أن بعض داعمي هذه الإدارة يعتقد بأن انخراطها في المسرحين العراقي والسوري سيمكنها عاجلاً أم آجلاً من إرهاق اللاعبين الآخرين وتحويل الحضور الإيراني خصوصاً مكلفاً وصعباً، على غرار ما حدث في أفغانستان إبان الاحتلال السوفياتي. لكن الوقائع على الأرض لا تشي بذلك، على رغم أن من المبكر الجزم بمآل حرب الحدود وتقاسم الجغرافيا السورية، فالإيرانيون حتى الآن يقيمون على طرفي الحدود العراقية- السورية، على رغم أن واشنطن طلبت من بغداد إبعاد ميليشيات «الحشد الشعبي» عن هذه الحدود وتسليم أمنها إلى القوات الشرعية من حرس حدود وجيش. وجاءت الصواريخ الباليستية الإيرانية على دير الزور لتقول لقاطني قاعدة التنف أن يد الجمهورية الإسلامية طويلة وقادرة على إزعاجهم. كما أن النظام في دمشق يقترب من استعادة درعا والسيطرة على منافذ الحدود في الجبهة الجنوبية مع الأردن. لذلك تبدو الجمهورية الإسلامية في الميزان العسكري هي الأقوى انتشاراً على المسرحين العراقي والسوري. لكنها تبقى دون تفوق الولايات المتحدة وروسيا وقوتهما وترسانتهما. وهذا واضح في المسرح السياسي حيث تترجم الموازين فعلياً، فموسكو مثلاً هي من يقود ويقرر في آستانة، كما في دمشق وإلى حد كبير في جنيف، أضف إلى ذلك أن اتساع خريطة انتشار القوى الإيرانية يفوق حجمها وقدرتها في الإقليم. كما أنها ليست دولة متقدمة تتمتع باقتصاد راسخ وقوي. وهي تواجه مقاومة لا يستهان بها من اليمن إلى سورية. لذلك يستحيل التنبؤ بمسار الصراع.
إلى هذه القوة الإيرانية على الأرض هناك تركيا، التي تشكل تهديداً لمكتسبات الكرد في شمال شرقي سورية، خصوصاً إذا تخلى عنهم الأميركيون مرضاة لهذا الحليف المفترض في «الناتو»، كما هو واضح اليوم من تعهداتهم لها بإطلاعها على لوائح المعدات التي تسلح بها «قوات سورية الديموقراطية»، والتزامهم استعادة هذه المعدات والأسلحة بعد القضاء على «داعش». وعلى رغم ذلك، لا تملك حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان خيارات واسعة. وإذا غامرت بتنفيذ وعيدها للكرد فإنها ستغامر بفتح معركة واسعة متعددة الجبهات تعم كل مناطق انتشار حزب العمال الكردستاني وفروعه في شمال سورية ومناطق سنجار فضلاً عن مناطق ديار بكر ومناطق انتشار الكرد الأخرى. ثم إن إطالة الحرب على الرقة، كما يتضح اليوم، تتيح للاتحاد الديموقراطي الكردي تعميق تعاونه مع الأميركيين وترسيخ حضوره في مناطق انتشاره الواسعة. وهو يتمتع بشبكة علاقات تتيح له خيارات عدة إذا شعر بتخلي إدارة ترامب عنه. يمكنه الرد على خصومه بإحياء تفاهمات مع النظام في دمشق، كما حصل في حلب، حيث ساهم في طرد الفصائل المعارضة. وكما فعل في مناطق وجبهات تخلى فيها عن مواقعه لمصلحة دمشق وحلفائها.
في ضوء هذه الوقائع، لا مجال للحديث عن تسوية في آستانة ولا في جنيف. كان منطق المعارضة و «أصدقائها» في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، هو الرهان على إرغام الرئيس الأسد ونظامه على تقديم تنازلات بعد إضعافه وتقليص مناطق نفوذه. فمن يستطيع اليوم دفع هذا النظام إلى التنازل؟ ألا يكفي ما تحقق له الآلتان العسكريتان لروسيا وإيران؟ ألا يكفي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بات لا يرى «أي بديل شرعي للنظام»، وأن رحيل الأسد لم يعد أولوية بل محاربة «داعش». سيبقى الحل إذاً رهن ميدان الحرب ونتائجها. من هنا لم يعد مآل الأزمة رهن تفاهم بين أميركا وروسيا ينتظره الجميع. بات لكل ناحية في خريطة سورية دينامية خاصة ومعقدة، من الشمال إلى الجنوب مروراً بالبادية والحدود الشرقية. لم تعد هناك قواعد ثابتة وعامة لإدارة اللعبة.
بانتظار ما ستقرر واشنطن فعله إزاء الطموحات القومية الكردية المزمنة، أقله في شمال سوريا، يتركز الاهتمام من دون كلام كثير عن البؤرة الأخطر في منطقة الشرق الأدنى اليوم... ألا وهي جنوب سوريا.
بالأمس نشرت «الشرق الأوسط» قراءات إسرائيلية للوضع في المنطقة الممتدة من البوكمال على الحدود العراقية إلى خط الهدنة في هضبة الجولان مروراً بمعبر التنف الحدودي. وكان مثيراً بعض ما ورد، مع أن التجارب علمتنا أن جوهر السياسة الإسرائيلية يكمن في ما يحصل على الأرض لا ما يُقال. بل، في معظم الأحيان، تكون المواقف المعلنة محاولات متعمدة للتمويه كي لا نقول التضليل.
ولندع، لبرهة ما قيل وما زال يُقال، وننظر إلى حقائق جنوب سوريا.
الحقيقة الأولى أن النظام - بالأصالة أو عبر ميليشيات حماية القرى المحلية - موجود عسكرياً في أقصى جنوب غربي سوريا. ولئن كانت إسرائيل تتقبل مبدأ حماية القرى لأسباب إنسانية وطائفية غير مدفوعة الثمن سياسياً واستراتيجياً، فإن للنظام وميليشيا حزب الله - واستطراداً، إيران - حضوراً عسكرياً في المنحدرات الشرقية لجبل الشيخ وسفوحه. والصمت يعني أن إسرائيل لا تجد في هذا الحضور تهديداً لها بصيغته الراهنة.
الحقيقة الثانية، أنه يوجد في جنوب غربي محافظة درعا (جنوب منطقة الجيذور وغرب حوران) «جيب» يضم بضع بلدات يسيطر عليه تنظيم داعش. وهذا الجيب يُفترض به أنه معزول جغرافياً عن باقي محافظة درعا (قلب حوران) وأنه معرّض للغارات الجوية. مع هذا، ما زال «داعش» يسيطر على «الجيب»، وما زال طيران النظام الذي دمّر حلب وحمص وضواحي دمشق متمنِّعاً عن قصفه. والشيء نفسه يُقال عن طيران إسرائيل.
الحقيقة الثالثة، أن إسرائيل ضمّت في أواخر عام 1981 الأجزاء التي كانت قد احتلتها من هضبة الجولان عام 1967. وهي تعتبرها اليوم جزءاً لا يتجزأ من «أرض إسرائيل». وكانت المناورات السياسية المتبادلة بين الرئيس السوري السابق الراحل حافظ الأسد وقادة إسرائيل حول «تحرير الجولان» والتفاوض على الهضبة، تتمحوَر حول «مبرّرات» الطرفين للهروب من الحل. وكان من المبرّرات حدود محيط بحيرة طبريا (بما في ذلك أرض البطيحة والحِمّة) وحدود الجزر والمد بالنسبة لمياهها. وذات يوم أخبرني أحد الخبراء المائيين العرب المطّلعين على ملف طبريا أن هدف حافظ الأسد كان الإبقاء على حالة «اللاحرب واللاسلم» - بما في ذلك بقاء هضبة الجولان محتلة – بوصفه ذريعة لعداء «ممانع» مصطنع مع إسرائيل يستفيد منه النظام لأنه يخدم غاية رفض أي توجه نحو الديمقراطية والحريات الدستورية السليمة. وفي المقابل، تستفيد إسرائيل من تحوّل النظام السوري إلى مظلة مزيفة للرفض العربي و«الممانعة» و«المقاومة» اللفظيتين، بينما يحقق فعلياً الأهداف الاستراتيجية لتل أبيب.
الحقيقة الرابعة، أنه منذ «حرب التحريك» العربية الإسرائيلية في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، الهادفة إلى تسليم كل ملفات المنطقة لواشنطن، ظل خط الهدنة في هضبة الجولان أهدأ «خط جبهة» في عموم الشرق الأوسط. وحقاً، ما كان «العداء» لإسرائيل يترجَم قتالاً إلا في لبنان تمهيداً لضمه إلى «الهلال الإيراني»، والأراضي الفلسطينية لشق الصف الفلسطيني وافتعال «حرب أهلية» فلسطينية... والمسلسلات التلفزيونية والأغاني الوطنية. ومعلوم، أن دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 ومن ثم تصفيتها المقاومة الفلسطينية وقوى اليسار اللبناني كانا جزءاً من خطة أميركية تحظى بمباركة إسرائيلية. فقط تغيّرت تفاصيل التفاهم «التعايشي» بين دمشق وتل أبيب مؤقتاً عام 1982 مع غزو القوات الإسرائيلية لبنان، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى طبيعتها بعد غزو العراق للكويت عام 1990؛ ذلك أنه بعد مشاركة حافظ الأسد في الحرب على نظام صدام حسين، أطلقت واشنطن - ومعها تل أبيب، طبعاً - يده في لبنان. وكانت النتيجة تسريع عملية إلغاء الدولة اللبنانية لصالح «دولة المقاومة».
الحقيقة الخامسة، أن إسرائيل ارتضت منذ انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، و«إعلانها» انتصار «حزب الله»، التعايش مع لبنان يسيطر عليه هذا الحزب المرتبط ارتباطاً عضوياً بإيران وحرسها الثوري. ثم إن إسرائيل، التي تعرف جيداً طبيعة الحزب وارتباطاته وما فعله في نسيج المجتمع اللبناني، حرصت على إهدائه انتصاراً «علنياً» آخر عام 2006 كي تضمن له مزيداً من «الشرعية»، عندما شنّت حرباً ضروساً على لبنان تعمّدت أن تدمر فيها كل شيء إلا البنى التحتية للحزب. وبعدها، ظهر التفاهم الضمني على أن الحزب يمكن أن يستخدم سلاحه في أي مكان في الداخلين اللبناني والعربي، ولكن ليس ضد إسرائيل.
الحقيقة السادسة، أنه بعد خوض «حزب الله» معركة إنقاذ نظام بشار الأسد في سوريا، في إطار «الجهود الحربية» الإيرانية، اكتفت تل أبيب بالتعامل معه بأسلوب تعاملها مع نظام الأسد نفسه... أي «توجيه الرسائل» لا أكثر. وعملياً، قامت الاستراتيجية الإسرائيلية حتى الآن على اعتبار أن بقاء نظام الأسد و«حزب الله» «هدف استراتيجي» لها... ولكن وفق شروطها أيضاً، لا شروط طهران وحدها. وكما نرى منذ 2011، فإن إيران وتوابعها خصّصوا لـ«تحرير القدس» الخطب التحريضية الرنانة والاستعراضات العسكرية، بينما استخدموا أفتك الأسلحة داخل سوريا «لتحرير» كثير من مدنها وقراها من سكانها، واحتلوا أربع عواصم عربية.
وعليه، إذا ما نظرنا إلى خريطة ما تبقى من سوريا، نستشف معالم صفقة كبرى تعبّر عنها «مناطق تخفيف التصعيد»، والواضح أن مشروع «الهلال الإيراني» يلعب دوراً محورياً. ولئن كانت الإشارات من واشنطن وموسكو إلى كل من تركيا والجماعات الانفصالية الكردية في الشمال السوري تبدو متناقضة، فالصمت الإسرائيلي الطويل في الجنوب لا يعني أن تل أبيب غير مكترثة.
إسرائيل، التي حمت نظام الأسد لسنوات من وراء الستار في العواصم الغربية، تريد الآن حصتها في الكعكة السورية، بل والكعكة الإقليمية أيضاً. وهي تطمح لأن تكون حوران الطبيعية التي تقع دمشق على أطرافها الشمالية... تحت جناحها.
مع قرب نهاية «داعش» في الموصل والعراق، بعد الجرائم التي ارتكبها بحق البشر والحجر، وآخرها تفجير مئذنة الجامع الكبير التاريخية في الموصل، تبدو المعركة المقبلة مع التنظيم في الرقة أكثر صعوبة وتعقيداً، بسبب تداخل الأطراف المتصارعة على الإمساك بالأرض واحتمالات المواجهة في ما بينها، بعد هزيمة «داعش» في معقله السوري.
مؤشرات هذه التعقيدات ظهرت الأسبوع الماضي مع إسقاط القوات الأميركية طائرة من طراز «سوخوي» تابعة لسلاح الجو السوري، وهو أول حادث يُسقط فيه الأميركيون مقاتلة سورية، منذ بدء الحرب في هذا البلد قبل أكثر من ست سنوات. موسكو وصفت الحادث بأنه «عدوان عسكري»، فيما قالت وزارة الدفاع الأميركية إن إسقاط الطائرة كان «دفاعاً عن النفس» لأنها كانت تشن غارات على «قوات سورية الديموقراطية» التي كانت تقوم بعمليات ضد «داعش» في الرقة. ثم جاء إسقاط الأميركيين طائرتين من دون طيار من صنع إيراني في الأجواء السورية، وقيام إيران بقصف مواقع للتنظيم في بلدة الميادين القريبة من الحدود العراقية بصواريخ «كروز» من أراضيها، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها إيران صواريخها لقصف أهداف في الخارج منذ الحرب العراقية- الإيرانية. وبررت طهران القصف بأنه رد على التفجيرات التي ضربت العاصمة الإيرانية والتي أعلن «داعش» مسؤوليته عنها.
إضافة إلى ذلك، يتهم الروس القوات الأـميركية بتعزيز وجودها العسكري في جنوب سورية، في ظل أنباء عن نقل منظومات صواريخ إلى قاعدة التنف عند الحدود العراقية- السورية، التي باتت هدفاً مباشراً لقوات التحالف، لمنع إيران وحلفائها من السيطرة على هذه المنطقة، وإقامة خط إيراني مباشر يربط إيران بالبحر المتوسط، مروراً بالعراق وسورية ووصولاً إلى قواعد «حزب الله» في لبنان.
في هذا السياق، ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» في الأسبوع الماضي أن مسؤولين في إدارة الرئيس دونالد ترامب طلبوا من وزارة الدفاع إقامة نقاط عسكرية في البادية السورية، بهدف منع قوات النظام أو الميليشيات التابعة لإيران من الوقوف في وجه القوات الأميركية التي تقوم بمواجهة «داعش» لمنعه من إقامة قواعد في منطقة البادية، يمكن أن تسهل للتنظيم إعادة تنظيم صفوفه بعد هزيمته المتوقعة في الرقة.
وأضافت الصحيفة أن هناك معارضة من بعض المسؤولين في البنتاغون لتوسع الوجود الأميركي على الأرض السورية بحجة صعوبة حماية هذه القوات في مناطق معزولة في سورية، أو في المناطق التي تتواجد فيها ميليشيات مدعومة من إيران في العراق. غير أن مسؤولاً في البيت الأبيض قلل من هذه المخاوف وأشار إلى أن توسيع الدور الأميركي قد لا يحتاج إلى مزيد من القوات على الأرض، مع القدرة الجوية الموجودة في المنطقة.
وبعيداً عن مسرح العمليات السورية جاء الإعلان عن الاصطدام الذي تم تجنبه في اللحظات الأخيرة بين مقاتلتين أميركية وروسية في الأجواء فوق منطقة بحر البلطيق قرب الحدود الفنلندية، وما اعتبرته موسكو استفزازاً مقصوداً من جانب الأميركيين، أدى إلى تهديدها باعتبار أي طائرة أميركية أو تابعة للتحالف الغربي في سورية هدفاً إذا قامت بالتحليق في منطقة شرق نهر الفرات، فوق المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
تنافس محموم على من سيحتفي بهزيمة «داعش» ومن سيخلف «خلافة» هذا التنظيم في سورية. وهكذا مع توقع سقوطه في الرقة، يظهر صراع جديد على ملء الفراغ الذي سيخلّفه هذا السقوط. صراع يدور بين النظام السوري وحلفائه الإيرانيين من جهة وقوات المعارضة السورية وحلفائها من جهة أخرى، وبالتبعية في شكل مباشر بين القوات الإيرانية والأميركية. الصراع الحقيقي هو على مستقبل سورية وموقع هذا البلد على الخريطة الاستراتيجية في المنطقة، تحت ضغط المواجهة المحتدمة بين طهران وحلفائها والميليشيات العاملة معها وواشنطن والقوى الحليفة لها. إنه الصراع الذي يمنع القوى التي يُفترض أنها جميعها متضررة من وجود «داعش» من الاصطفاف في جبهة واحدة لمحاربته، وانصرافها إلى مواجهة بعضها البعض بدلاً من ذلك.
لم تكن متوقعة تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة حول سورية، في مقابلة له الأربعاء الفائت مع ثماني صحف أوروبية. فهو كان أدلى بتصريحات مختلفة أثناء حملته الانتخابية، وحتى بعد توليه الرئاسة واستقباله نظيره الروسي. يُذكر أن ماكرون نال استحسان السوريين على موقفه الذي لا يبتعد من موقف الحكومات الفرنسية منذ اندلاع الثورة، بخلاف المواقف اليي أطلقها منافسوه في سباق الانتخابات مثل لوبن وفيّون وميلانشون. يُذكر أيضاً عدم حدوث تغير درامي في الملف السوري يستدعي انقلاباً في الموقف، وعدم حدوث تغيرات درامية دولية تخص هذا الملف، إلا إذا كان ماكرون معادياً لانخراط أميركي أكبر قليلاً مما سبق.
لتسويق موقفه الجديد، لا يتحرج ماكرون من تسويق المبررات الزائفة، الأمر الذي بات معهوداً لدى مناصري تنظيم الأسد والصامتين عن جرائمه. هكذا هي الحال مثلاً مع قوله أن "الأسد عدو الشعب السوري وليس عدو فرنسا"، فهذا الفصل الذي يبدو منطقياً ظاهراً وساذجاً مفهومياً، يقفز فوق حقيقة ارتكاب الأسد جرائم ضد الإنسانية، وفوق محاولات فرنسية سابقة لتجريمه في مجلس الأمن اصطدمت بالفيتو الروسي، ويقفز بالطبع فوق مسؤولية فرنسا كعضو دائم في المجلس، ما يحمّلها مسؤولية خاصة عن السلم الدولي.
ألا يرى ماكرون الذي لم يكن على الأرجح ليفوز بالرئاسة لولا فضائح فيون المالية وتطرف لوبن، بديلاً شرعياً للأسد على رغم جرائمه، فهذا مما يتنافى مع أبسط قواعد الديموقراطية التي أتت به إلى الرئاسة. إلا إذا كان كمنافسته السابقة لوبن من العنصرية بحيث لا يرى السوريين جديرين بأكثر من ذلك، ولا يراهم جديرين بما طالبوا به منذ اندلاع ثورتهم بحقهم في الديموقراطية، وبحقهم اللاحق في ألا يتولى رئاستهم مجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية. ذلك الحق الأصيل لا علاقة له بأي ادعاء يُساق اليوم حول تهافت المعارضة السياسية، أو حول وجود فصائل متطرفة، طالما بقي السوريون محرومين من ممارسته بملء حريتهم.
أما التخوف الذي أبداه ماكرون من تحول سورية إلى بلد فاشل فيذكّرنا بتصريحات المبعوث الدولي السابق الأخضر الإبراهيمي، لكن الفارق الزمني يجعل التخوف الآن أقرب إلى نكتة سمجة. لقد تحولت سورية فعلاً إلى دولة فاشلة منذ سنوات، ومن المخجل ألا يرى رئيس لدولة كبرى ذلك، وألا تضع له مخابراته صورة دقيقة عن انهيار بقايا الدولة في معاقل تنظيم الأسد، باعتبار الأخيرة لم تتضرر منه قصفاً وتدميراً. وإذا كان ماكرون يستلهم الكذبة الدولية التي تتخوف من مصير سوري يشابه مصير العراق إثر إسقاط نظام صدام، فالواقع الذي يفقأ الأعين أن هذه المقارنة من النواحي كافة لم تعد لمصلحة خيار الإبقاء على الأسد.
فوق المغالطات السابقة، ثمة قفز على المسؤولية الأخلاقية الخاصة بفرنسا إزاء بشار الأسد، وتلك في الأنظمة الديموقراطية المحترمة ليست مسؤولية تنقضي برحيل حكومة مع سياساتها. الإليزيه استقبل الأسد استقبال الرؤساء عندما كان يُعَدّ للرئاسة، في تجاوز للبروتوكول أيام الرئيس شيراك، وكان في هذا دعم واضح لمشروع التوريث بحد ذاته بصرف النظر عما إذا كان بشار قد خيب الآمال المعقودة عليه.
إثر اغتيال الرئيس الحريري وتوجيه الاتهام إلى تنظيم الأسد، أتت رئاسة ساركوزي لتفك العزلة عنه، وكانت الذريعة التي تُسوّق خلف الكواليس احتواءه، بدل مضيه في مسلسل الاغتيالات التي أودت بحياة كثير من الشخصيات اللبنانية آنذاك. وإذا أخذنا في الحسبان الالتزام الخاص الذي تبديه الحكومات الفرنسية إزاء لبنان، يمكن القول أن لفرنسا مسؤولية خاصة عن عهد وصاية الأسد على لبنان وتداعياتها المستمرة حتى الآن، وفي رأس التداعيات استقواء "حزب الله" على اللبنانيين ومشاركته الحثيثة في الحرب على السوريين.
في الواقع، كان للموقف الفرنسي الداعم الثورة السورية، والأشد ثباتاً حتى تصريحات ماكرون الأخيرة، أن يغطي ضعف التزام الحكومة الفرنسية تجاه قضية مؤثرة مثل قضية اللاجئين. فرنسا، بخلاف الجعجعة التي رافقت الانتخابات الرئاسية حول موضوع اللاجئين، لم تستقبل إلا عدداً محدوداً جداً من السوريين مقارنة بدول مثل ألمانيا والسويد، وهما تقليدياً غير منخرطتين في الشأن السوري، بل يؤخذ على الحكومة الألمانية عدم اتخاذها موقفاً صارماً إزاء الأسد على رغم تحملها العبء الأكبر للجوء.
في كل الأحوال، إذا كان من مصائب السوريين تجرؤ قادة دول مؤثرة في قول ما يشاؤون وتغيير مواقفهم بلا حساب أو مساءلة، فهذا لا يعني تضخيم الدور الفرنسي، وتضخيم تأثير تصريحات ماكرون الأخيرة. ذلك يتضح مقارنة بالدورين الأميركي والروسي، فقد كان لتراجع أوباما عن خطه الأحمر الشهير وإبرامه صفقة الكيماوي تأثير مدمر في القضية السورية، والجدير بالذكر أن الطيران الفرنسي كان جاهزاً آنذاك لضرب مطارات الأسد لو قرر أوباما توجيه ضربة عسكرية. كما هو معلوم أيضاً، تمّ تهميش الدور الأوروبي كاملاً في الملف السوري، لمصلحة احتكاره أولاً من موسكو وواشنطن، وبعض الدول الإقليمية بدرجة أقل أو عند اللزوم.
لذا، قد يبدو ماكرون أنه يضحي بصدقية أخلاقية من دون طائل، لولا أنه يحاول طرح نفسه كديغول فرنسي جديد، خصوصاً يبرز تمايزه عن سياسة ترامب لمصلحة توجه أكثر أوروبيةً. لكن، مع إدراك عدم تأثير الموقف الفرنسي أو الأوروبي برمته في موضوع بقاء الأسد وتنحيته، يمكن القول أن كلامه الأخير، مع رهانه على تشكيل قطب أوروبي مع ألمانيا لن يكون خبراً ساراً، وقد يؤكد ما تمّ تداوله منذ مدة عن عودة السفير الفرنسي إلى دمشق قريباً. هذا التوجه يعطي جرعة معنوية لتنظيم الأسد، بل سيُرى فيه شرعية دولية تعوّض الشرعية المفتقدة داخلياً.
التذرع بأولوية الحرب على الإرهاب قد يفيد أمام الرأي العام الفرنسي للتغطية على القبول بمجرم ضد الإنسانية، وقد يردّ الأخير الدَّيْن فنشهد انتهاء العمليات الإرهابية في فرنسا، على نحو ما توقف استهداف شخصيات لبنانية إثر استقبال بشار في باريس عام 2008. إذا تحققت هذه الغاية لن يبقى من سبب لمشاركة الطيران الفرنسي في الحرب على "داعش"، ويستطيع ماكرون القول أيضاً أن "داعش" ليس عدو فرنسا.
تبدو مسألة تحرير الرقة من «داعش» قضية وقت ليس إلا. ورغم أن قوى كثيرة تسعى من أجل الفوز بتحرير الرقة والمشاركة فيها، فإن قوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd)، هي المرشح الرئيسي على قائمة القوى للسيطرة على الرقة وتحريرها - أو أغلبها على الأقل - من سيطرة «داعش».
مسألة تحرير الرقة، تطرح سؤالا مفاده: مَن يحكم الرقة بعد تحريرها؟ والجواب البديهي، هو أن قوات سوريا الديمقراطية هي التي ستحكمها، وهو أمر جرى التفكير فيه منذ أن لاح في الأفق موضوع تحرير الرقة، وطرد «داعش» منها، قبل عدة أشهر، وقد أكدت قوات سوريا الديمقراطية هذا التوجه، يوم سربت قرار تشكيل مجلس للإدارة المحلية، يضم أكراداً وعرباً وآشوريين، يتبنى توجهات الإدارة الذاتية، التي تتبناها سوريا الديمقراطية، وتسعى إلى تعميمها، ليس في شمال وشرق البلاد، بل في كل الأنحاء السورية، التي يمكن أن تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
وتشكل سيطرة سوريا الديمقراطية على الرقة، وتولي إدارتها، موضوعاً خلافياً في الواقع السوري. وأساس الخلاف في الموضوع يستند إلى ثلاثة أمور أساسية: أولها رفض سيطرة الأكراد على الرقة، ليس لوجودهم المحدود في المدينة، إنما بفعل أن أكراد pyd، يمكن أن يحكموا الرقة، وهم جماعة متهمة بممارسة التطرف والسياسة العنصرية من جانب سكان الرقة والأغلبية العربية في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا، وتجلى ذلك في أوقات سابقة من الصراع السوري، ولا سيما في عملية تحرير تل أبيض من تنظيم داعش، وقد أكدت تقارير - بينها تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» - محتويات تلك السياسة في عنصريتها وتطرفها.
الأمر الثاني في رفض سيطرة أكراد pyd على الرقة، وتولي إدارتها من جانب سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، اتهام المعارضة السورية وخاصة المقربة من تركيا، بعلاقة هؤلاء بنظام بشار الأسد، وفي الأبعد من ذلك بالعلاقة مع النظام الإيراني، وهي اتهامات لها بعض المظاهر الواضحة في سياسات وممارسات pyd، ويبرر الأخير بعضها بالمصالح المشتركة والطارئة، التي تظهر في إطار الصراعات والتوافقات، التي تشهدها الحرب المتواصلة في سوريا، مما يجعل البراغماتية أساس السياسة وليست المبادئ.
الأمر الثالث في معارضة تولي pyd حكم الرقة، يكمن في رفض السياسات التي تطبقها الإدارة المدنية في مناطق سيطرتها، والأهم فيها ثلاث نقاط: أولها سياسة التجنيد، حيث يتم سوق الشباب للانخراط في قوات سوريا الديمقراطية دون رغبتهم، وبالتالي جعلهم أدوات لتطبيق فكرة الإدارة الذاتية وتعميمها. والنقطة الثانية تتعلق بالتعليم، حيث يفرض التعليم باللغة الكردية على المدارس، بخلاف رغبة أهالي المنطقة. والنقطة الثالثة الاستيلاء على أملاك الغائبين من السكان، ووضعها بتصرف الإدارة الذاتية. وقد أثارت النقاط الثلاث خلافات في كل مناطق سيطرة pyd، سواء مع العرب والآشوريين والتركمان.
إن البديل المطروح لحكم الرقة بعد تحريرها، هو أن يحكمها أهلها، وهو شعار رائج وشعبوي، لكنه شعار يطرح كثيراً من الإشكالات، لعل الأبرز فيها، أن عشرات آلاف الرقاويين غادروا المدينة في سنوات الصراع، وقسم كبير منهم لاجئون في تركيا وفي بلدان أبعد منها بكثير، ولا أمل في عودة سريعة لأكثرهم، ومن تبقى في الرقة في سنوات سيطرة «داعش»، يتوزعون بين قليل منهم مال إلى عزلة مغرقة، وقسم كبير منهم بايع التنظيم خوفاً أو اقتناعاً بآيديولوجيته الإرهابية المتطرفة، وبالتالي لا يمكن تسليمهم إدارة الرقة، على الأقل قبل التحقق من مواقفهم وعلاقاتهم، خاصة أن «داعش» يطبق فكرة الخلايا النائمة، ومن المؤكد، أنه ترك في الرقة خلايا نائمة على نحو ما فعل في مناطق أخرى، اضطر إلى الانسحاب منها أو التخلي عنها في سياق الحروب مع خصومه، على أمل العودة إليها لاحقاً.
وإذا كانت فكرة عدم إمكانية حكم الرقة من قبل قوات سوريا الديمقراطية وpyd نتيجة تحفظات كثيرة، يطرحها خصومهما، فإن حكم الرقة من قبل سكانها تحيط بها التباسات، لا تقل أهمية عن التحفظات، فليس من المقبول احتمال عودة «داعش» للرقة تحت أي ظرف كان.
إن البديل الممكن لحكم الرقة، أن يحكمها مجلس خارج القوتين المطروحتين وامتداداتهما، والمجلس في هذه الحالة، قوة تنتمي إلى ثورة السوريين بأطروحاتها الوطنية والديمقراطية، التي عبرت عنها الرقة في حراكها المدني والسلمي ضد نظام الأسد، وجسدتها بصورة عملية ولو لفترة قصيرة بعد خروج الرقة من سيطرة النظام، وقبل أن تقع أسيرة سيطرة المتطرفين وصولاً إلى سيطرة «داعش» عليها، وإعلانها عاصمة لدولة التطرف والإرهاب، لكن مثل هذا الخيار غير ممكن عملياً؛ لأن المنتمين لهذا الاتجاه صاروا أضعف من أن يحكموا الرقة أو غيرها من المدن السورية.
ووضع كهذا يطرح فكرة تحالف ثلاثي، يقوم على برنامج من نقاط مشتركة، تراعي وضع الرقة واحتياجاتها العاجلة ومستقبل المدينة وأبنائها، يتشارك فيه سكان الرقة الحاليون، وما تبقى من ممثلي الحراك الوطني الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية، لكن حصول مثل هذا التحالف، يكاد يكون مستحيلاً في الظرف الحالي، وتحيط به صعوبات كثيرة داخلية وخارجية، الأمر الذي يؤشر إلى أن مأساة الرقة ستظل ماثلة في المدى المنظور، وأن فكرة عودة الحياة إلى طبيعتها هناك بعد طرد «داعش» منها، أبعد ما تكون عن الواقع، وأن ما يمكن أن يحصل هناك هو مجرد فصل جديد من مأساة مدينة، ثارت على نظام لأسد من أجل حياة ومستقبل أفضل، وما زالت في الطريق ذاته رغم مرور سنوات طويلة ومعاناة كثيرة.