يحذر قول سوري من إدخال الدب إلى الكرم لحراسته، لأنه سيكون الحارس والمستولي على الكرم في آن معا. لكن هذا القول ورغم سدادة تفكير من وضعه، فإنه لم يقنع بشار الاسد، الذي هرول فزعا إلى الدب الروسي يستجدي حمايته، من ثورة كادت تكنسه، بعد أن استنجد بحزب الله في إبريل 2013 الذي لم يفلح بقضه وقضيضه، ودعم ولاية الفقيه في طهران له سلاحا وعتادا، في صد المد الثوري، وتقدم الثوار على جبهات عدة.
في موسكو التي وصلها بشار على متن طائرة شحن روسية، أعطى موافقته على كل الشروط الروسية، من بناء قواعد عسكرية وبحرية، وعدم التعرض للقوات الروسية التي ستكون لها اليد الطولى في سورية لضرب الثورة السورية، تحت غطاء» محاربة الإرهاب»، وهو شعار النظام السوري لتبرير قتل الأبرياء المطالبين بالحرية، بإلباسهم ثوب الإرهاب. وقد تشجع فلاديمير بوتين بتنازلات بشار، ووجد في العرض الأسدي فرصة ذهبية لضرب عصافير عدة بحجر واحد: بناء قواعد روسية لتثبيت حضور روسيا العسكري في منطقة البحر المتوسط، قطع الطريق على خط أنابيب الغاز القطري عبر الأراضي السورية (خط أنابيب الغاز الذي كان مزمع انشاؤه عبر الأراضي السورية، وربطه بخط أنابيب نابوكو لتزويد تركيا وأوروبا بالغاز القطري)، امتلاك الورقة السورية لإبرازها في وجه أوروبا وامريكا في حال التفاوض بالشأن الأوكراني، إعادة إظهار روسيا كلاعب دولي اساسي، بعد تراجع دورها إثر انهيار الاتحاد السوفييتي.
وقد شجعت إدارة أوباما الروس بطريقة غير مباشرة على الدخول في المغامرة السورية، بعد أن تراجع الدور الامريكي في عهد أوباما، الذي ترك لروسيا وإيران حرية التصرف على الاراضي السورية، وبعد أن تراجع عن خطوطه الحمراء في ما يخص استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة، ورغم تحذيرات اسرائيل لإدارة أوباما من تنامي الخطر الإيراني.
ففي أواخر شهر سبتمبر 2015 بدأت طائرات السوخوي والميغ قصف مواقع المعارضة، مدعية أنها تحارب المنظمات الارهابية «داعش» و»النصرة»، مع القناعة الأكيدة بأن المسألة لن تطول، وأن أسلحتها الفتاكة التي جربت إلى الآن، أكثر من مئتي سلاح جديد في رؤوس الأطفال السوريين وأمهاتهم، كفيلة بحسم الموقف خلال أسابيع عدة، أو بضعة شهور على أقصى تقدير، لكن حسابات الحقل لا تطابق بالضرورة حسابات البيدر.
فاليوم ومنذ ما يقارب العامين لا تزال الطائرات الروسية تقصف مواقع الثوار، من دون أن تنجح في القضاء عليهم، خاصة في درعا والغوطة الشرقية، رغم النجاح النسبي الذي حققته في بعض قرى ضواحي دمشق، أو في حلب. وتيقنت موسكو من أن الحل العسكري بمفرده لن يؤتي أكله، ما لم يرفق بحل سياسي مفصل على مقاسات الرغبة الروسية، في عدم قتل الراعي ولا الذئب، مع التضحية ببعض الغنم.
وقد سارعت الخطى باتجاه إنشاء منصات سياسية «لمعارضات معتدلة» في القاهرة وموسكو، تقوم بدور «المشوش» على المعارضة السياسية للثورة السورية، المتمثلة بالائتلاف الوطني واللجنة العليا للمفاوضات (التي تحافظ على مواقفها الثابتة في انتقال السلطة الكاملة، ورحيل بشار الأسد، حسب قرارات جلسات جنيف الخمس) وإنشاء مسار جديد للمفاوضات بعيدا عن جنيف، مخصصا للفصائل العسكرية في آستانة، لشق صف المعارضة واعتبار الفصائل المسلحة هي المخولة بالتفاوض في مسائل ميدانية على أقل تقدير، ورغم الزخم الذي بدأ فيه إلا أنه بات متعثرا كمسار جنيف، بعد جولاته الست، التي أطالت أمد الصراع، وبقاء الأسد ونظامه، فبعد أربع جولات من المفاوضات التي حاولت فرض وقف إطلاق النار، من دون نجاح، لأنها اي روسيا اول من انتهكه، ثم رسم خرائط لمناطق «تخفيض التوتر»، التي لم تسفر عن نجاح يذكر أيضا، لأن أول من اخترق هذا الاتفاق هم الروس أنفسهم.
ولم تنجح موسكو إلى الآن في تحديد موعد للجولة الخامسة لآستانة، بانتظار انتصارات جديدة في درعا والغوطة، تساعدها في الضغط على المعارضة للقبول بالشروط الروسية، وعلى رأسها بقاء الاسد، «ولو صورة»، لإضفاء شرعية ما على التدخل الروسي، وإرضاء الحليف الإيراني، الذي لم يدع عميلا من عملائه إلا واستدعاه وزجه في ميليشيات بتسميات مختلفة تذكر بالدولة الفاطمية (فاطميون، زينبيون) تقوم طائرات الروس بتغطية قواتها وقوات الميليشيات الأخرى، التي يصعب على المرء حصرها (حزب الله اللبناني، حزب الله العراقي، عصائب الحق، الحشد الشعبي، الحرس الثوري، لواء أبو فضل العباس، كتائب القدس، كتائب سيد الشهداء، كتيبة الزهراء، كتيبة العباس، لواء اسد الله، لواء الامام الحسن، لواء الإمام الحسين، منظمة بدر) ويضاف إليها ميليشيات عقائدية بعثية وقومية ( البعث اللبناني، والقوميون السوريون، وفلول من قوميجين من دول عربية مختلفة)، ورغم كل هذه الحشود المختلطة، والطيران الروسي والسوري، التي ترتكب يوميا عشرات المجازر بقصف جوي بحق الشعب السوري، إلا أنها ما زالت بعيدة عن تحقيق آمالها بالقضاء على الثورة، وبدا أن روسيا باتت منهكة اقتصاديا جراء التكاليف الباهظة للحرب في سورية، وهي تبحث عن إنهاء مهمتها باقل الخسائر الممكنة، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من المكاسب، لكن عوامل عدة دخلت على الخط تعرقل المسار الروسي ـ الاسدي ـ الايراني، وهو التواجد الامريكي شمالا داعما القوات الكردية في حربها ضد «داعش» وامتداد سيطرتها على مساحات واسعة في الشمال ومنطقة الرقة، وجنوبا في منطقة التنف والحدود السورية الاردنية داعمة فصائل الجيش السوري الحر، للسيطرة على منطقة الجنوب، وقد قامت بنشر صواريخ هيمارس بعيدة المدى ذات القدرة التدميرية الكبيرة، كتحذير واضح لإيران وميليشياتها بعدم الاقتراب من التنف. وهذا لم يكن متوقعا من الادارة الامريكية السابقة في عهد اوباما. وهذه المنطقة التي ستكون بمثابة منطقة آمنة بحراسة أمريكية، ما يجعل الجغرافيا السورية مقسمة على عدة مناطق نفوذ روسية ـ ايرانية ـ أسدية، ومناطق تركية في الشمال، ومناطق امريكية، ومناطق تسيطر عليها المعارضة في الغوطة الشرقية تدعمها دول خليجية، وعدة مناطق متفرقة في إدلب، والمنطقة الواقعة بين حمص وحماة، والمنطقة المتاخمة للجولان، وهذه المناطق الموزعة على الخريطة السورية، تذكر إلى حد ما بخريطة البوسنة والهرسك إبان الحرب الأهلية، التي انتهت بتقسيم البوسنة كواقع على الارض، والحال السورية تقترب كثيرا من هذه الحالة، أو على أقل تقدير إلى فيدرالية تسيطر على مناطقها القوى المتواجدة فيها، وبمفهوم آخر تفتيت سورية وشعبها بعد أن تم تدميرها وتهجير نصف السوريين، وقتل نصف مليون سوري مع مئات آلاف الجرحى، والحبل على الجرار، في ظل ضعف المعارضة، والصمت الدولي، وتلاعب الدب الروسي الذي دخل الكرم السوري ولن يخرج منه، ولا يرى في عودة سورية موحدة ذات سيادة بأنها تناسب مخططاته الاستراتيجية بعيدة المدى، لأنه يخشى أن أي حكومة منتخبة تحظى بالشرعية الشعبية والدولية على كامل تراب سورية المحررة من سلطة النظام الأسدي، وميليشيات ايران أن تطلب منها الرحيل، بعد أن عاثت في سورية فسادا ودمرت مدنها، فهذا السيناريو يقض مضاجع بوتين، الذي يفضل التعامل مع نظام أسدي مهلهل يقع تحت سيطرته، يضمن دون اي احتجاج بالوجود الروسي على الاراضي التي تقع تحت سيادته (سورية المفيدة) إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. ولكن في رمال سورية المتحركة لا ضمان لأحد أن يحتفظ بما لديه كلاعبي البوكر المهددين دائما بالخسارة، حتى لو حققوا مكاسب في بداية اللعب.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القادم من عالم البنوك والمال يعاني كما يقول خبراء من نقص في علم السياسة الخارجية. هذا النقص قال محللون آخرون إنه سيعوضه بخبراء فرنسيين متخصصين في هذا المجال. وقال متفائلون إن انتخابه هدية من السماء لوقف تضعضع الديمقراطية والإيمان بالليبرالية وحقوق الإنسان على يد اليمين الشعبوي المتصاعد. لم تدم فرحة المتفائلين طويلا، حيث أعلن ماكرون الأربعاء في لقاء صحافي أنه يؤمن بالسياسة الواقعية التي ترتكز في أهم أسسها على استبعاد الأخلاق، إذا ما تصادمت مع المصلحة وذلك على عكس السياسة المثالية التي ترى أن الأخلاق عنصر أساس في تحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
ماكرون الوافد لاستنهاض أمل الاتحاد الأوروبي بالوحدة وبالحرية وحقوق الإنسان، رأى أن سياسة فرنسا السابقة في ليبيا وسوريا خطأ كبير، وأنها، أي تلك السياسة، مسؤولة عن الإرهاب الذي، برأيه، يخرب العالم. ماكرون اعتبر أن الحل الواقعي أن يبقى بشار الأسد لأنه لا يوجد بديل شرعي له ليحكم السوريين! ذهب ماكرون، وبغض النظر عن وهن مقولته وما تستتبعه بأن الأسد حاكم شرعي وليس متسلطا، إلى أبعد من ذلك ليبرر في ظل النظرية الواقعية الجديدة ممارسات وسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حليف الأسد وداعمه. وينقل عن بوتين، في معرض التبرير وكشف السياسة الروسية، أن لبوتين هدفين أساسيين: محاربة الإرهاب، ومنع تحقق الدولة الفاشلة. لم يقل ماكرون شيئا عن سياسات بوتين وممارساته في جورجيا وسوريا بل كل ما قاله إنه يختلف معه فقط في أوكرانيا.
لننس نقدنا الأخلاقي لماكرون، لأن الضعف الأخلاقي أصبح تهمة دامغة وعارا يلاحقه، ولننظر إلى ما يتجاوزه وهو الواقعية السياسية التي يؤمن بها. ماكرون يرى أن الحل هو التعاون مع روسيا لوضع خارطة طريق لسوريا عبر الحوار الدبلوماسي وليس عبر الحل العسكري، وأن تكون تلك الخارطة ضامنة لحقوق الأقليات، وأن فرنسا ستفرض ولو لوحدها حماية خطوط الإمدادات الإنسانية في سوريا، وستعاقب الأسد إن استخدم السلاح الكيماوي.
يعرف ماكرون تماما أن الأسد استخدم السلاح الكيماوي، ومع ذلك يقبل به رئيسا شرعيا، ويعرف أيضا أن من حمى الأسد من العقاب الدولي هو روسيا، ولكنه يتعاون مع الروس لحل دبلوماسي. هذه يسميها ماكرون واقعية سياسية، لكن ما لم نعرفه في علم الواقعية هو كيف سيضمن ماكرون استجابة الروس له ويقبلون بحلول يراها، وفرنسا ليس لها أي وجود على الأرض السورية، ولا نعرف أيضا موقف الأميركان من قراره المفاجئ، لأنهم الأكثر والأقوى انتشارا على الأرض السورية. في غياب التفسير لهذه الأسئلة تصبح هذه السياسة الواقعية سياسة انهزامية وتتحول إلى تسليم الأوراق لآخرين تحت يافطة هذه الواقعية المصطنعة. هكذا يرسب ماكرون في امتحانيْ النظرية المثالية الأخلاقية والنظرية الواقعية.
في سوريا توجد قوى خارجية وداخلية على الأرض إلى درجة بلغ تشابكها تعقيدا يصعب تفكيكه، ويصعب تخيل الخروج منه بلا مشاكل. فسوريا لم تعد مشكلة سورية بل مشكلة أكبر لها ارتباطات بملفات إقليمية ودولية وأهمها إقليميا الدور الإيراني، وأكبرها دوليا الموقف الأميركي من التغول الروسي على الديمقراطية الأميركية وعلى النفوذ الأميركي في المنطقة وكذلك الخلاف بين دونالد ترامب والمؤسسات العميقة في أميركا حول روسيا.
في خضم هذا التعقيد تدخل إقليميا تركيا كمتضرر كبير من الأزمة السورية، وكلاعب أساس في حلها أو في إشعالها. ماكرون لم يقل لنا شيئا عن ذلك، بل كل ما قاله هو انسحابه من الموقف الأخلاقي، ومجاراته لبوتين طمعا في استقطابه وإقناعه بالتراجع عن عدوانيته في أوروبا بعدما أعلن الرئيس ترامب عن نيته التخلي عن أوروبا في أي مواجهة روسية أوروبية.
هكذا يمكن فهم التحول الماكروني من باب سياسة موازين القوى التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر، واستمرت إلى غاية الحرب العالمية الثانية، والتي تقوم على مبدأ التعويض عن غياب قوة كبيرة (أميركا) بالتعاون مع قوى أقل، لإحداث توازن يضمن السلام والأمن للدولة المعنية وهي هنا فرنسا أو الاتحاد الأوروبي الجديد. لكن مبدأ توازن القوى لم يضمن الأمن ولم يجلب السلام، والدليل حربان عالميتان كبيرتان دمرتا الأخضر واليابس.
يواجه ماكرون تحديات كبرى في الداخل الفرنسي وفي الخارج. داخليا عليه أن ينتشل فرنسا من التراجع الاقتصادي، وأن يحميها من العولمة، وهو في الوقت ذاته ممثل العولمة، ومناصر تخفيض دور الدولة في حياة الأفراد. ماكرون سيصطدم كسلفه فرانسوا هولاند بقوة القطاع العام في الدولة، وسيخوض حروبا معه، ولن يكون لديه وقت كاف للقضايا الخارجية.
أما على المستوى الخارجي، فإن ماكرون يحاول حماية أوروبا من الانفراط، ومنع دول أوروبا الشرقية من الجنوح إلى المثال البوتيني، وفي الوقت ذاته يحاول أن يوازي الغياب الأميركي، وأحيانا تحديه في قضية المناخ العالمي، ويحاول أن يبرز كحامل للراية الليبرالية والمشعل الأخلاقي اللذين يعتبر أن ترامب أسقطهما من سياسات أميركا.
هذا هو ماكرون وهذه هي سياسته، وعند النظر فيها والتدقيق في دقائقها، يتبين بسرعة أنه يفتقد بالفعل للخبرة في السياسة الخارجية، وتنقصه الشجاعة الأخلاقية، ويريد أن يغطي على هذا العجز بسياسة يعتبرها واقعية، لكنها في الواقع سياسة مخالفة للواقعية بكل المعايير.
كان الأجدى بماكرون أن يعترف بأن فرنسا ليس لها دور مؤثر في النزاع، وأن يشرح لمواطنيه وللعالم أن الحرب السورية تقترب من نهايتها وأن المؤثرين فيها هم أميركا وروسيا وإيران وتركيا، وأن التدخل الأميركي بموافقة عربية (الأردن ومجلس التعاون الخليجي) هو لوقف جماح الروس ومنعهم من تقرير مستقبل سوريا.
ما يجري في سوريا الآن هو سباق للسيطرة على الأرض، وبعدها يبدأ التفاوض، إما بالمزيد من السلاح وإما بحوارات دبلوماسية. في هذا السباق والحوار فإن انتصار أميركا يعني انتصارا إقليميا لحلفائها، وانتصار روسيا هو انتصار لإيران والأسد. في سوريا صراع يزداد حدة ليس لقتال تنظيم داعش، لأنه انتهى، بل للسباق على السيطرة وتقرير مصير سوريا.
هذا الصراع المأزوم لا اعتبار فيه لحسابات الشعب السوري ولا لمستقبله، ولا ينظر فيه إلى مبدأ الشرعية وفق معايير موضوعية، بل المهم في هذا الصراع معرفة من يربح وماذا يكسب.
ماكرون تجنب كل هذه الإشكاليات لأن المسألة لديه لم تعد متعلقة بدور فرنسا في المنطقة، ولا بدورها في حماية حقوق الإنسان، بل كيف يضمن لفرنسا أمنا يحميها من حفنة متطرفين، يعرف هو ويعرف الجميع، من يقف وراءهم وما هي الأسباب التي أدت إلى ظهورهم، لكنه يفضل في ضوء الضعف الفرنسي وغياب الأوراق من يديه في سوريا أن يجعلهم القضية الكبرى؛ لذلك لم يستح حين قال: الأسد عدو للشعب السوري لكنه ليس عدوا لفرنسا. شكرا ماكرون، وهنيئا لك ولفرنسا ولليبراليين بهذا الصديق.
خمس ضربات أميركية خلال فترة شهر في محيط قاعدة التنف قرب الحدود السورية - العراقية استهدفت النظام السوري وميليشيات محسوبة على طهران، أولها في ١٨ أيار (مايو) الفائت تزامن مع إجراء واشنطن محادثات سرية مع روسيا في الأردن حول إنشاء مناطق للتهدئة جنوباً.
جلوس المفاوض العسكري الأميركي مع نظيره الروسي في نفس الوقت الذي كانت طائراته تستهدف قوات موالية لإيران (لحقها استهداف قوات النظام السوري وطائرة سوخوي ٢٢ وأخرى استطلاعية)، يلخص الاستراتيجية الحالية لإدارة دونالد ترامب في سورية. فظِلُ إضعاف إيران وقطع الطريق عن ممر عراقي - سوري - لبناني لها يهيمن على تحركات وأفكار مجلس الأمن القومي الأميركي الجديد، فيما يبقى السعي لإبعاد موسكو عن طهران أولوية للإدارة في مقاربتها للحل السياسي والتحركات العسكرية في النزاع.
إضعاف إيران لا يعني بالضرورة خوض مواجهة عسكرية مباشرة معها في سورية. فاليوم إيران تحارب بميليشيات عراقية وسورية ولبنانية وهي ليست بحاجة ولن تقدم على مواجهة عسكرية مباشرة ضد أقوى جيش وطيران حربي على وجه الأرض. أما واشنطن فهي تعول على تحالف كردي- عربي أي «قوات سورية الديموقراطية» لزيادة نفوذها في الطريق لهزيمة داعش وما بعد ذلك. وهي، أي الإدارة الأميركية، كما أكدت في البيانات الخمسة التي لحقت الضربات الجوية في محيط التنف، لا تسعى إلى مواجهة مع الأسد أو قوات موالية للنظام، إنما «لن تتردد في الدفاع عن التحالف أو القوات الشريكة لدى تعرضها لأي تهديد».
أميركياً، هذه اللهجة من الفريق الدفاعي لترامب تختلف عن نبرة الرئيس السابق باراك أوباما والذي تفادى لسنوات إغاظة اللاعب الإيراني في سورية خوفاً من ارتدادات عكسية على المفاوضات حول الاتفاق النووي، وأيضاً خوفاً من استهداف طهران لقوات أميركية خاصة وتدريبية في العراق وسورية. اليوم، استبدل هذه الحسابات هوسٌ بالتصدي لإيران داخل البيت الأبيض. فمستشارو ترامب معظمهم من خريجي الدفعات العسكرية في حرب العراق بينهم مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر ومساعديه ديريك هارفي وجول رايبرن، ووزير الدفاع جايمس ماتيس. ولكل منهم تجربة مع تفجيرات إيرانية الصنع استهدفت الجيش الأميركي أو صواريخ تم توجيهها إلى المنطقة الخضراء.
هذا لا يعني بالضرورة وجود استراتيجية متكاملة لترامب للتصدي لإيران عدا عن التكتيكات الأولية وحماية القوات المتحالفة مع واشنطن والتي تحارب داعش. وهو ينسجم مع أولويتي ترامب في المنطقة بالتشدد حيال طهران وهزيمة ما يسميه الرئيس الأميركي بـ «الإرهاب الإسلامي المتطرف».
وفِي هذه المعركة في سورية، غضت واشنطن النظر عن مصير الرئيس السوري بشار الأسد، وهي تحاول استمالة اللاعب الروسي. فبعد إسقاط السوخوي الأحد الفائت، حرصت واشنطن على تهدئة موسكو التي لوحت بقطع قناة عدم الاشتباك مع الجانب الأميركي.
هذه القناة وعلى الأقل الجانب الهاتفي منها ما زال مفتوحاً كما قال رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي جوزيف دانفورد. في وقت يسعى البيت الأبيض والخارجية الأميركية تخفيف حدة التشنج مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإقناع الكونغرس بالتراجع عن سلة العقوبات الجديدة التي سيفرضها على روسيا وإيران في مشروع قرار واحد.
السعي إلى التقارب مع روسيا في سورية هو نتاج عاملين، الأول الخوف الأميركي من تصعيد أكبر مع موسكو تكون له انعكاسات وخيمة أبعد من الشرق الأوسط وتصل القارة الأوروبية. وثانياً انطلاقاً مِن قناعة تبنتها إدارة أوباما وبعدها إدارة ترامب بأن مفتاح الحل السياسي في سورية هو في موسكو، وأنه لا وجود لتضارب في المصالح الاستراتيجية بين القوتين في حال وافق الكرملين أو بقِيَ على الحياد في حشر واشنطن لإيران إقليمياً.
في انتظار اللقاء المنتظر بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين والذي يرجح حصوله في 20 تموز (يوليو) المقبل في هامبورغ على هامش قمة العشرين، تبقى العلاقة بين الدولتين خاضعة للتجاذب والتصادم بالواسطة حيناً، ثم ضبط المواجهة، لاسيما في سورية، أحيانا أخرى.
وإلى أن يحصل اتفاق بين الدولتين العظميين يبدد التوتر القائم بسبب العقوبات الأميركية والغربية على موسكو والخلاف على تقاسم النفوذ في أوروبا، فإن الكثير من الأحداث في ميادين الصراع تبدو عصية على الفهم.
إنها مطاردة متبادلة بالواسطة، بين روسيا وأميركا، تثير المخاوف من إمكان صدام خطير بينهما.
لكن هذا لا يعني حتمية هذا الصدام المباشر، بقدر ما يعني أنّ كلاً من الجانبين يرسم حدوداً للآخر يأخذ في الاعتبار مصالح الخصم، والرغبة الدفينة في تفادي أي اصطدام، طالما أن كلاً منهما يمكنه الاتكال على حلفاء يتولى الحد من اندفاعهم لكسب المواقع الميدانية، فيدفع هؤلاء الحلفاء الثمن بالنيابة عنه ويتعرضون للخسائر بدلاً منه.
وفي كل مرة يقترب الروس والأميركيون من المواجهة المباشرة، يحصل اتفاق ما على كبح هذا الاحتمال الخطير، عبر رسم حدود لمناطق نفوذ في سورية. هكذا، تنفذ قوات النظام وميليشيات إيران هجوماً على درعا في الجنوب، وتتقدم ميدانياً نحوها بغطاء قصف روسي مدمر من الجو على مدى 10 أيام، لكن ما تلبث المعارضة أن ترد على هذا التقدم وتنزل خسائر كبيرة بالمهاجمين من «حزب الله» والميليشيات الأخرى والقوات السورية، بعد أن تدفقت أسلحة أميركية نوعية إلى «الجيش الحر»، منها صواريخ «تاو». وبعدما تخوف مَن راقب التصعيد في درعا من تكرار سيناريو حلب فيها، نظمت موسكو وواشنطن عبر محادثات بينهما في الأردن، اتفاقاً على تكريس منطقة آمنة في جنوب سورية، تثبّت أرجحية الوجود الميداني لـ «الجيش الحر» (مع اتفاق على محاربة «داعش»)، وفي ظل تواجد لجيش النظام على الطريق المؤدية إلى المدينة، فيتم لجم الاندفاعة الأسدية الإيرانية.
ويرد النظام وحلفاؤه الإيرانيون بفتح جبهة الغوطة بقصف عنيف جوي ومدفعي، ومحاولة اقتحام حي جوبر مرة أخرى، في الأيام الماضية، فيتكبدون خسائر جديدة، وتقتل قوات المعارضة منهم أعداداً كبيرة وتأسر إيرانيين ومن «حزب الله»، ويمتد القصف إلى أحياء قريبة من دمشق.
خرقت المعارك في هاتين المنطقتين اتفاق آستانة مطلع شهر أيار (مايو) الماضي، على اعتبار الجنوب والغوطة الشرقية من ضمن مناطق خفض التصعيد الأربع، (يضاف إليهما محافظة إدلب وشمال حمص)، وبدت روسيا وإيران دولتين ضامنتين للاتفاق، على أنهما غير معنيتين به أو تتلاعبان ببنوده، فيما بدا الضامن الثالث لآستانة، أي الجانب التركي، كالزوج المخدوع، لأن همه محصور بما يجري في الشمال وهاجسه فقط دور القوات الكردية في محاصرة الرقة، فمن مهمات «الضامنين» وفق نص الاتفاق «ضمان وفاء الأطراف المتصارعة بالاتفاقات».
لكن رسم حدود تواجد حلفاء كل من الدولتين في درعا كان مؤشراً إلى خفض احتمالات المواجهة نتيجة ما كان يحصل على جبهة معبر التنف السوري الذي اقتطع الأميركيون النفوذ فيه لمنع قوات الأسد وإيران من وصل الطريق بين طهران وبغداد ودمشق، حيث قصف الأميركيون هذه القوات عند اقترابها من المعبر، وأسقطوا طائرة استطلاع إيرانية، وأسقطوا طائرة حربية سورية قصفت «قوات سورية الديموقراطية» الموالية لواشنطن أثناء استكمالها حصار الرقة، فالجيش الأميركي رسم حدوداً لمحاولة التفاف القوات الإيرانية- العراقية- الأسدية على معبر التنف هي المدى الذي تبلغه الصواريخ التي نشرتها حول المعبر (80 كيلومتراً). لم يدم مفعول التهديد الروسي باعتبار أي جسم طائر معادياً لها، في الأجواء السورية، رداً على إسقاط المقاتلة السورية طويلاً. فواشنطن خففت من وطأة العملية بالقول إنها كانت في إطار الدفاع عن النفس وسعت لاستعادة التنسيق حول الطلعات الجوية لقصف مواقع «داعش».
يعمق التنافس على استثمار الحرب ضد «داعش» في الرقة وملء الفراغ الذي يتبع التخلص منها، الفوضى على الساحة السورية بحيث تحتاج كل من موسكو وواشنطن إلى رسم مناطق نفوذ كل منهما بالنيران، في انتظار اتفاقهما على الحلول. تزداد الفوضى بفعل أجندة اللاعب الإيراني وصولاً إلى استخدامه صواريخ متوسطة المدى في قصف دير الزور رداً على منعه من فتح الحدود لقواته. ومع أن الجانب الروسي يستفيد من هذه الأجندة تارة، فإنه يغض النظر عن لجمها على يد خصمه الأميركي تارة أخرى، لأن الحد من طموحات طهران لن يتم قبل اتفاق بوتين وترامب.
يبدو إصرار السوريين على المضي في ثورتهم مدهشاً بعد أن حل بهم من الفواجع والمآسي ما تتصدع له الجبال الراسيات، ويبدو أن بعض دول العالم وجد في الثورة السورية فرصة موائمة لإعادة ترتيب النظام الدولي، فروسيا الصاعدة ضد نظام القطب الواحد سارعت بالعودة إلى الحضور الدولي القوي بعد أن أهملها الأميركان والأوروبيون وراحوا يعاقبونها كما يعاقبون دولاً ضعيفة! وأما إيران فقد جاءتها الفرصة النادرة لإعلان طموحها الإمبراطوري الفارسي بعمامة إسلامية، ولاستعراض مكانتها العسكرية في المنطقة! وقد بدت الولايات المتحدة أضعف من أي توقع في عهد أوباما، وبدا الاتحاد الأوروبي نفسه مرتبكاً قلقاً من تصاعد حضور بوتين ومن غموض الموقف الأميركي. وأما الجامعة العربية فقد دخلت في موت سريري، على رغم كون انتصار النظام على الشعب ستكون له تداعيات كارثية على الأمة العربية كلها، لأنه سيعني انتصار إيران وامتداد نفوذها إلى عمق المتوسط، فضلاً عن خطر تطويق الأمة من الشمال إلى الجنوب. كما أنه يعني أيضاً بقاء مشكلة اللاجئين معلقة بلا حلول، فلا أحد من ملايين السوريين اللاجئين والنازحين يطمئن إلى العودة إلى دياره وتسليم نفسه لنظام سينتقم من كل من خرج ضده. ومن المفارقات أن النظام أعدم أربعة سوريين عادوا إلى سوريا من إحدى الدول العربية لأنهم وضعوا علامة (إعجاب- لايك) على منشور مضاد للنظام في الفيسبوك! والمفجع أن حالات التوحش صارت عادية في معاقبة خصوم النظام.
وإزاء غياب الإرادة الدولية عن إيجاد حل للقضية السورية، والتحول إلى إدارة الصراع بدل البحث عن حل له، وبعد التحولات الكبرى في المواقف الدولية من القضية السورية، وإلهاء المعارضة بمفاوضات جنيف العبثية، والانتقال الصوري إلى مفاوضات آستانة، أصاب المعارضة وهنٌ سياسي، كان بعضه انعكاساً للخسارات العسكرية التي ألحقتها روسيا وإيران بقوى الجيش الحر الذي سبق أن خاض معارك ضد «داعش» وضد كل التنظيمات المتطرفة وفقد الكثير من قواه، دون أن يتمكن من تعويضها بسبب انقطاع الدعم. وقد رفض المطالب الدولية بأن يتوقف عن الدفاع عن الشعب وأن ينضم إلى جيش النظام وينصرف لقتال «داعش» وحدها، منهياً معركته مع الاستبداد باستسلام كامل! وقد تفاءلت المعارضة بعد وصول الرئيس ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة عسى أن تجد موقفاً أفضل وأقوى في مجلس الأمن من موقف الإدارة السابقة، وما تزال المعارضة تنتظر ظهور الرؤية الأميركية، وجدية أصدقاء سوريا في فرض حل سياسي وفق القرارات الدولية. وقد حاولت موسكو كما هو معروف أن تنقل المفاوضات إلى آستانا، وأن تبعد عنها الهيئة العليا للتفاوض كي تتخلص منها ومن مظلة مجلس الأمن، ولكن المعارضة ودول أصدقاء سوريا ظلوا متمسكين بشرعية جنيف، وسيتابعون الإصرار على مسار التفاوض السياسي دون أن يؤثر ذلك على مسار العمل الثوري. وحسبنا ما نجد من المقاومة الوطنية المدهشة في درعا اليوم وهي تصد جيوش إيران ووحشية «داعش» والطائرات المعادية تقذف الحمم والبراميل المتفجرة. وقد تمكن الجيش الحر في درعا أن يفشل المخطط الفارسي في الاستيلاء على الجنوب السوري، وهو مستمر في المعركة، رغم أنها غير متكافئة. كما أن القوى الوطنية السورية في الشمال تشارك بقوة في تحرير المناطق التي يسيطر عليها «داعش»، وكنا نصرّ على أن تشارك قوى الجيش الحر في هذه المعارك، ولاسيما أن الجيش الحر هو أول من واجه «داعش» ووقف ضد كل تطرف وإرهاب.
ولكن السوريين جميعاً يشعرون بأنهم في متاهات البحث عن حلول، فلا أمل عندهم في إيجاد حل في جنيف مهما ثابرت هيئة التفاوض لأنها لا تجد من تفاوضه بل إن المفاوضات مع النظام لم تبدأ بعد، ولن يتنازل النظام عن شيء وهو طليق لا أحد يحاسبه وعنده دعم بلا حدود. والسوريون يستنكرون مفاوضات آستانا التي ازداد التصعيد العسكري بعدها بدل أن ينخفض، كما أنهم يشعرون بضعف حضور الائتلاف وحاجته إلى إصلاح جذري. وبعضهم يبحث عن بدائل ويطالب بوجود جسد ثوري جديد، وقد اشتعلت وسائل التواصل بحوارات ساخنة تعبر عن حالة من القلق الوجودي، ولكن ما يحمي السوريين من الضياع في الشتات عبر تغريبة يخشون أن تطول، هو وعيهم لكون الانكسار خروجاً من التاريخ والجغرافيا معاً، ولكون الانتصار انتصار بقاء ووجود وليس مجرد انتقال سياسي.
سجلت سابقتان في الحروب الدائرة على الأراضي السورية خلال الأسبوع الماضي: إسقاط الأمريكيين لأول طائرة تابعة للنظام الكيماوي قرب مدينة الرقة، وإطلاق إيران لصواريخ بعيدة المدى من الأراضي الإيرانية باتجاه مدينة دير الزور.
وتشير الحادثتان معاً إلى خلاصة واحدة مفادها أن الأمريكيين في حالة دفاعية أمام الهجوم من المحور الروسي ـ الإيراني، ويشمل ذلك محاولات هذا المحور المتكررة للسيطرة على المنطقة الحدودية السورية ـ العراقية قرب معبر التنف، وصد الأمريكيين لتلك الحملات، وآخرها إسقاط الأمريكيين وحلفائهم الميدانيين في التنف للدرون الإيرانية الصنع مساء الثلاثاء 20 حزيران الجاري.
يبدو مستغرباً، للوهلة الأولى، أن يخاطر طيران النظام الكيماوي بدخول منطقة العمليات الرئيسية لطيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في الحرب على داعش، مهاجماً قوات «سوريا الديموقراطية» الحليفة لواشنطن التي تحاصر الرقة. فهذا الاحتكاك يقوض كل ادعاءات النظام، ومعه ظهيراه الإيراني والروسي، برغبتهم في المشاركة في الحرب على داعش، فضلاً عن مخاطر اختبار العزم الأمريكي.
ولكن إذا نظرنا إلى ردة فعل الأمريكيين على الحادثين، اتضح أن ما يقال عن ارتباك الإدارة الأمريكية بشأن سياستها في سوريا ما زال يحتفظ بصحته. فقد مضى الآن أكثر من شهرين ونصف على ضرب قاعدة الشعيرات الجوية قرب حمص، وما تبعها من تصريحات أمريكية حادة تجاه النظام الكيماوي، وصولاً إلى وصف ترامب لرأس هذا النظام بالحيوان، وما زال الأمريكيون في حالة دفاعية تجاه المحور الروسي ـ الإيراني الذي لم يبد أي علامة على استعداده لتقديم تنازلات أو تراجعات. الإدارة الأمريكية التي دأبت، طوال الأشهر الماضية، على إطلاق تصريحات نارية ضد إيران، لم تكد تقول شيئاً ذا قيمة عن الصواريخ الإيرانية التي أطلقت باتجاه دير الزور، وهي المرة الأولى التي تطلق فيها إيران صواريخ مماثلة إلى خارج أراضيها منذ نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية في أواخر الثمانينيات، أي منذ ما يقارب ثلاثين عاماً. ومن المحتمل أن إسرائيل نفسها أحست بخطورة هذه السابقة الصاروخية الإيرانية، برغم معرفتها أنها ليست مقصودة برسالتها الضمنية الموجهة أكثر إلى الأمريكيين ودول الخليج العربي.
هذا الارتباك الأمريكي هو الذي يشجع المحور الروسي – الإيراني، إذن، على مواصلة اختبار الخط الافتراضي الفاصل بين «سوريا المفيدة» المتروكة للروس و»سوريا ما بعد داعش» إذا صح التعبير التي تريد أمريكا الاحتفاظ بها منطقة لنفوذها المديد. ارتباك لا يخص الحرب في سوريا وحدها، بل ظهر أيضاً في الموقف من الخلاف الخليجي ـ الخليجي، فتضاربت التصريحات بين البيت الأبيض والخارجية، مما يشير إلى أزمة إدارة ترامب الداخلية أساساً. ومن المحتمل أن التنمر اللفظي الروسي في أعقاب إسقاط الطيران الأمريكي لطائرة السوخوي قرب الرقة، يعتمد على تلك «القطبة المخفية» -إلى الآن- في علاقة ترامب وفريقه المفترضة بالحكم الروسي منذ حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام الماضي.
من مفارقات الموقف الأمريكي في سوريا، هذا التساهل الغريب مع هجوم النظام وحلفائه الشرس على مدينة درعا، مقابل الحزم الأمريكي في الحفاظ على منطقة معبر التنف وجواره، على رغم أهمية درعا في الحسابات الأمنية الأردنية والإسرائيلية. وبدلاً من غرفة «الموك» التي كانت تدعم الجبهة الجنوبية وتتحكم بمسار المعارك وحدودها، نرى اليوم «مفاوضات سرية» أمريكية ـ روسية في عمان، يفترض أنها وصلت إلى تفاهمات. فإذا كانت نتيجة هذه التفاهمات هي ترك درعا ليستولي عليها النظام وحليفه الإيراني، فهذا من عجائب سياسة إدارة ترامب، ويعني أنها فعلاً لا تملك أي سياسة في سوريا. وهو ما يتعارض مع الحزم الأمريكي الواضح على طول «الخط الاستراتيجي» الممتد شرقاً من التنف إلى محافظة الرقة شمالاً، وتم اختباره مراراً من قبل الإيرانيين والروس.
بالمقابل، لا يخلو الموقف الروسي أيضاً من الارتباك. فإذا كانوا واضحين في دعمهم لسيطرة عميلهم في دمشق على كامل مساحة «سوريا المفيدة» غرباً، فهم أقل حماسةً في دعم محاولاته للتمدد نحو الرقة والطرق المؤدية إلى دير الزور. وجاءت تصريحات لافروف، في أعقاب إسقاط طائرة السوخوي التابعة للنظام الكيماوي، كأنها تعترف بالتخلي عن «تركة ما بعد داعش» في الرقة، وربما دير الزور لاحقاً، للأمريكيين، مقابل الاحتفاظ بالتملك الحصري للأراضي الواقعة غرب نهر الفرات. ولكن يبدو أن الإيرانيين لم يصلوا بعد إلى هذا التسليم أمام الأمريكيين. وهو ما نراه في مواصلة القوات البرية التابعة للنظام والميليشيات التابعة لإيران محاولاتها المستميتة لنيل حصة ما من تركة داعش في الشرق. محاولات ذهبت بعيداً في المغامرة إلى حد الاصطدام بقوات سوريا الديموقراطية ـ أهم الحلفاء الميدانيين لأمريكا ـ بعد سنوات من علاقة هي أقرب إلى التعاون منها إلى الخصومة.
منذ سنوات، والحرب الداخلية في سوريا هي حرب، أو حروب، بالوكالة بين قوى إقليمية منخرطة في سوريا. وكان أحد أركان السياسة الأمريكية في سوريا، في عهد باراك أوباما، هو ترك هامش حركة واسعاً للقوى الإقليمية للانخراط في الحرب السورية، إيران وتركيا والسعودية وقطر، وبدرجة أقل الأردن ومصر والعراق. أما اليوم فنحن أمام انخراط عسكري أمريكي أكثر في الحرب السورية، ليس فقط بسلاح الطيران، بل كذلك بقوات برية يزداد عددها باطراد، وقواعد أرضية ثابتة، وتعزيزات بأسلحة أكثر تطوراً.
هل تندلع الحرب بالأصالة بين الأمريكيين من جهة والروس والإيرانيين من جهة أخرى، بصورة مباشرة، على الأراضي السورية وفي أجوائها، بعد الانتهاء من معركة الرقة؟ المرجح أن أحداً من القوى المذكورة لا يريد ذلك. فالمحور الروسي – الإيراني يضغط وفقاً لسياسة حافة الهاوية، مختبراً الحزم الأمريكي في كل خطوة. والإدارة الأمريكية أكثر انشغالاً بالمعارك السياسية الداخلية الدائرة حول البيت الأبيض، من أن ترغب في الانخراط بحرب غير معروفة النتائج، بعد سنوات من سياسة الانسحاب.
ولكن من يدري؟ أليس إشعال نار حرب كبيرة في الخارج مخرجاً للأزمات الداخلية لدى الحكام المأزومين؟
يحيّر السوريين السؤالُ عن إمكانية الحل السياسي وموعده أكثر مما يحيرهم أي سؤال آخر. أما حيرتهم المعذّبة، فمردُّها فقدانهم الثقة بوجود حل في ظل خروج قضيتهم من أيديهم، وعجزهم عن ممارسة أي تأثير جدي ومنظم على الممسكين بأوراقها، من الأجانب والعرب، ناهيك عن افتقارهم إلى قيادة، وتهافت دور ممثليهم الذين يبدون أقرب إلى المتفرج على مأساتهم، منهم إلى جهةٍ تتابع أهدافاً يرتبط بها مصير الملايين منهم الذين ينتظرون حلاً يرد الكارثة عمّن لم تبتلعهم بعد محارق ومجازر الأسد وإيران وروسيا.
لمتابعة التطورات التي تلعب دوراً تقريرياً بالنسبة للحل، يجب أن نتوقف عند بناء عسكر واشنطن، منذ نيف وعام، قواعد عسكرية على الأرض السورية، تمتد من شمالها وشرقها إلى جنوبها الغربي، تشكل، مع مثيلاتها في شمال العراق، بنية استراتيجية متكاملة، قد تكون بديل البنية التي فشل الأميركيون بإقامتها في العراق، بعد غزوه بين عامي 2003 و2010. هذه البنية ترابط فيها قوة عسكرية عديدها عشرة آلاف جندي وضابط، يمتلكون مدافع ودبابات وراجمات صواريخ وطائرات وسفناً حربية، كلفوا بقطع طرق إمداد إيران إلى سورية ولبنان، وبإغلاق الحدود العراقية مع سورية، والمساعدة على طرد "داعش" من محور الرقة/ دير الزور/ الميادين/ البوكمال الذي ستتولى إدارة مدنه وقراه مجالس مدنية منتخبة وفصائل من الجيش الحر. بعد إنجاز هذه المهام، يأمل الأميركيون أن يحدث تحوّلٌ مفصليٌّ في الوضع السوري يبدل حسابات الروس، ويحد من قدرة إيران على معارضة تفاهم دولي على حل، والأسد على إحراز نصر عسكري.
هل تبني واشنطن هذا الوضع العسكري في سورية، لكي تخوض حرباً بقواتها المباشرة ضد إيران والنظام وروسيا، أو لأنها تريد التراضي مع موسكو على حل سياسي، انطلاقاً من التوازن العسكري بينهما، أو من تفوقها عليها. وفي الحالتين من إنهاء انفرادها بالشؤون السورية؟ بغض النظر عن أن للانتشار الأميركي مهام تتخطى سورية إلى الإقليم، وخصوصاً منه إيران، فإن فاعليته كانتشار مستقر تتطلب العمل لإيجاد بيئةٍ تضمر حلاً سياسياً، يلبي مصالح روسيا أيضاً، ويقلص مصالح إيران ودورها في إدامة الصراع السوري. ما هي التنازلات التي ستطلبها كل دولة من الأخرى؟ سيقرّر الرد على هذا السؤال صورة الحل وهويته، وما إذا كان تقاسم النفوذ السياسي والحضور العسكري بين الدولتين سيتعارض مع وحدة سورية دولة ومجتمعاً، أو سيكتفي بطمر نيران الصراع تحت رماد تفاهمهما وحسب. سيعزّز توازن القوى بين روسيا وأميركا فرص الحل السياسي الذي يعطله اليوم أمران: بدائله التي تطورها روسيا بصورة منفردة، وعدم اكتمال البناء العسكري الأميركي، وبالتالي محدودية قدرته على تنفيذ مهمته الرئيسة: منع إيران من الوصول البري الحر إلى سورية ولبنان، الذي سيحقق عسكر واشنطن، لكونه يحدد استباقياً جزءاً رئيساً من نتائج المعركة ضد طهران التي ستبلغ أوجها بعد لف سورية بحزامين أرضيين، سيمتد أولهما من شمال العراق إلى المتوسط بمحاذاة الحدود التركية، وثانيهما من حدود العراق الشمالية إلى الأردن وفلسطين بمحاذاة حدود إيران الأمنية، وسيضع قيامهما "سورية المفيدة" الروسية بين فكي كماشة، لن تكون إسرائيل بعيدة عنها، ربما كانت ضرورية لإقناع الروس بالتخلي عن إيران، مقابل تقليص دور تركيا السوري.
هل سيكون الحل موضعياً يطبق في موقع واحد، ثم ينتقل تدريجياً إلى غيره، بحيث يسهل تنفيذه في ظل وقف إطلاق نار شامل يسبقه، يتيح انصراف القوتين الكبيرتين إلى ضبط أوضاعهما داخل سورية وخارجها، والتحكم بمشكلاتٍ قد يتسبب بها هذا الطرف أو ذاك، وخصوصاً إيران؟ أعتقد أن الحل المتدرج، في ظل وقف إطلاق نار شامل، ويسمح للسوريين بالعودة إلى وطنهم، يمتلك فرص نجاح حقيقية، سيزيد منها التزام الدولتين بهدف جنيف: نقل سورية إلى الديمقراطية بديلاً للنظام الأسدي.
تبني أميركا قاعدة استراتيجية، سيكون إنجازها لحظة فارقة في الصراع على سورية وفيها، ستأخذنا إما إلى حلٍّ بتراضٍ أميركي/ روسي، شامل أو متدرج، أو إلى خوض صراعٍ مباشر بقواهما العسكرية، سيبدل جذرياً طابع الصراع الذي عشناه حتى الآن، يجعله توازن قواهما من دون جدوى أو عائدٍ لأي منهما، بينما يتيح الحل لهما ملاحقة أهدافهما غير السورية أيضاً. أي هذين الاحتمالين يرجّحه توضع القوتين عسكرياً في سورية؟ هذا ما سنعرفه في الأسابيع القليلة المقبلة.
بدأت معركة تحرير مدينة الرقة من أيدي تنظيم «داعش» وتتزايد التقارير عن المناطق التي تمت استعادتها من المنظمة الإرهابية. الولايات المتحدة وحلفاؤها يقدمون الحملة في شكلٍ إيجابي، قائلين إن تجريد ما يسمى بـ «الخلافة» من عاصمتها سيشكل ضربةً قويةً للتنظيم. لكن تحرير مدينة الرقة يواجه عدداً من التحديات الكبيرة التي يجب على التحالف الدولي المناهض لتنظيم «داعش» أن يوليها الاهتمام، وإلا فإن مكاسب الحملة ستطغى عليها موجة جديدة من التوتر.
لا يزال التوتر العرقي مشكلة محتملة. فالحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة يتم دعمها على الأرض في شكلٍ رئيسي بواسطة «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) التي لا تزال تحت سيطرة المقاتلين المنتمين لـ «وحدات حماية الشعب الكردية» على رغم وجود مقاتلين عرب داخل صفوفها. وأدلت الولايات المتحدة ببيانات تفيد بأن المناطق المحررة من تنظيم «داعش» على يد قوات سورية الديموقراطية سيتم تسليمها للعرب لكي يحكموها وليس للأكراد، في محاولةٍ لتخفيف التوتر العرقي المحتمل.
إلا أن نطاق التعاون بين قوات سورية الديموقراطية والسكان المحليين في المناطق المحررة ما زال غير واضح، بخاصة أن التقارير المبكرة مثل تقرير الزميل حايد حايد الذي تم نشره على موقع مجلس الأطلنطي الالكتروني في أيار (مايو) تشير إلى أن قوات سورية الديموقراطية ستستخدم نهجاً للحكم المحلي في مدينة الرقة يشبه النهج الذي استخدمته عندما قامت بتحرير مدينة منبج العام الماضي. يدور هذا النهج حول إشراك العرب في مجالس الإدارة الذاتية ولكن من دون منحهم سلطة حقيقية. ويمهد مثل هذا النموذج الطريق للتوتر الكردي- العربي في المستقبل القريب.
التوتر القَبَلِيّ هو مصدر قلق آخر. فقامت الولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع الأردن والإمارات العربية المتحدة وغيرهما من الأقطاب الخارجية الأخرى بحشد القبائل لتكون بمثابة شركاء محليين في الحملة ضد تنظيم «داعش». وخلقت تلك الأيدي الدولية «جيش العشائر» الذي يشارك في القتال في جنوب سورية وكذلك في الشرق. ومع ذلك، فإن الاعتماد على العشائر للسيطرة على المناطق ما بعد تنظيم «داعش» ليس نموذجاً يمكن تطبيقه في شكل موحد. هناك فرق بين الديناميكيات الريفية والحضرية في هذا الصدد، وكذلك بين المناطق المختلفة: ولذا من المرجح أن تشهد مدينة دير الزور وريف الرقة نجاحاً أكبر في تنفيذ «مجلس العشائر» منه في مدينة الرقة.
علاوةً على ذلك، ولأن القبائل غالباً ما تعمل على أساس التحالف مع الجانب الذي يوفر لها الحماية، فقد عادت بعض القبائل في شرق سورية إلى دعم النظام. وهذا هو الحال بالنسبة الى قبيلة الشعيطات التي ذبح تنظيم «داعش» المئات من أعضائها في عام 2014، فانضم أعضاؤها في ما بعد إلى الجيش السوري في محاولة لكسب الحماية. لذلك، فإن الاعتماد على القبائل للسيطرة على الرقة بعد تحريرها يحمل خطر الاشتباكات القبلية.
أما المنافسة بين الأقطاب الخارجية فتترجم على أرض الواقع، ما يساهم في تقويض الحملة. فمنذ آذار (مارس)، قُتل نحو 700 مدني في أكثر من 150 ضربة جوية من التحالف المناهض لتنظيم «داعش» وفي معارك برية، وفرّ 160 الفاً من ديارهم وأصبحوا مشردين داخلياً. ووصفت الأمم المتحدة ضربات التحالف بأنها تسببت «بخسارة صاعقة في حياة المدنيين». لكن مدير الشؤون العامة في التحالف الدولي الكولونيل جو سكروكا رفض بشدة تقرير الأمم المتحدة قائلاً إنه يضع التحالف الدولي على قدم المساواة مع داعش. واتهم سكروكا وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية باستنساخ دعاية «داعش» عن غير قصد في تقاريرها عن الخسائر المدنية في سورية. وهذا البيان يضر بصدقية التحالف بدلاً من تعزيزه.
وهناك نزاع آخر يتعلق بتنفيذ «مناطق تخفيض التصعيد» على النحو المتفق عليه في أيار (مايو) 2017 في المحادثات التي تقودها روسيا في الآستانة. ينص الاتفاق على أن هذه المناطق ستسمح لوكالات الإغاثة الدولية بتوصيل الأغذية والخدمات الطبية الى المناطق المحاصرة. ولكن وكالات الإغاثة أفادت بعدم تطبيق هذا البند واستمرار النقص في الإمدادات الغذائية والطبية. إضافة إلى ذلك، يتم إجلاء بعض المناطق من سكانها في ما لاحظته الأمم المتحدة كزيادة في عدد «اتفاقيات الإجلاء»، وهي في الواقع عملية إجلاء السكان مباركة من قبل روسيا، الدافع الأساسي «الاعتبارات الاستراتيجية للأطراف المتحاربة التي تتفاوض»، وفقاً للجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق في سورية.
وهناك أيضاً نزاع بين روسيا وحلفائها من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، حول من يحقق أكبر النتائج في محاربة «داعش». واسترجعت قوات سورية الديموقراطية حتى الآن سبع مقاطعات في محافظة الرقة من «داعش»، وقدمت بيانات علنية عدة عن انتصاراتها من أجل تسليط الضوء على إنجازات حملة التحالف بقيادة الولايات المتحدة. فيما أعلنت روسيا في وقتٍ لاحق أنها «ربما قتلت» زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي في إحدى غاراتها الجوية في 28 أيار. ولكن لا يوجد دليل على أن البغدادي قد قُتل بالفعل في هذه الغارة، أو أنه داخل سورية. آخر بيان صوتي من قبل البغدادي أطلق في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 ولا يُعرف مكان تواجده. حتى لو قُتل البغدادي، فإن هذا لن يؤدي إلى انهيار تنظيم «داعش»، حيث يقوده عدد من الشخصيات التي لا تزال هويتها مجهولة، في حين أن المجموعة غالباً ما تخلق شخصيات عامة من القادة المفترضين من أجل تحويل الانتباه بعيداً من الديناميكيات الفعلية التي تعمل من خلالها.
كل هذه التوترات، سواء بين الأقطاب المحليين أو الدوليين، تعني أن حملة الرقة لن تحقق الاستقرار في سورية، وستؤدي ببساطة إلى تحويل الصراع. إن هدف الحملة محدود ألا وهو هزيمة «داعش» عسكرياً وهذا يعني أيضاً أنه ينتهي إلى تجاهل أحد العوامل الرئيسية لعدم الاستقرار وهو النظام السوري.
وبعد أن الولايات المتحدة، وللمرة الأولى، أسقطت طائرة مقاتلة سورية كانت تهاجم قوات سورية الديموقراطية، أصدرت قوى المهمات المشتركة ضمن التحالف بياناً يوم 18 حزيران (يونيو) أكدت فيه أن «مهمة التحالف هي هزيمة داعش في العراق وسورية. ولا يسعى التحالف إلى محاربة قوات النظام السوري أو الروسي أو الموالي للنظام»، واختتم بدعوة «جميع الأطراف إلى تركيز جهودها على هزيمة داعش، الذي يُعد عدونا المشترك وأكبر تهديد للسلام والأمن على الصعيدين الإقليمي والعالمي». هذا الوصف غير الدقيق للصراع في سورية سيكون أكبر سبب للتوتر على الأرض في المستقبل.
تزداد في سورية، حدة التوتر بين الولايات المتحدة وحلفائها المحليين من جهة، وبين روسيا وإيران وميليشياتها الأجنبية والنظام السوري من جهة ثانية، مع اقتراب موعد معركة الرقة لطرد تنظيم «داعش» وإنهاء «خلافته» المترنحة. إذ تخشى القوى الخارجية الداعمة الأسد من المرحلة التالية للحرب على «داعش»، وتشكك في النيات الأميركية غير الواضحة التي تتركها ضحية القلق والحيرة.
لكن الغموض الأميركي الذي ينعكس تخبطاً في القرارات السياسية والعسكرية، ليس ناجماً عن تخطيط مسبق، بل عن غيابه. فالتحركات الاميركية تفتقر إلى خط ناظم يرسم استراتيجية واضحة ويحدد الأولويات وتداخلاتها، والعلاقة بسائر الفرقاء على الأرض، لا سيما روسيا وإيران، سلباً أو إيجاباً.
ومنذ مطلع العام الحالي، تاريخ تسلم ترامب مقاليد البيت الأبيض، ازداد التباعد بين الشعارات السياسية وبين تطبيقاتها العملية، وتفاقم التناقض بين الإعلان المتكرر عن الرغبة في تغيير التحالفات في الشرق الأوسط خصوصاً، وبين التعامل الآني مع الوقائع والمعطيات الميدانية.
وفيما ركز ترامب خلال حملته الانتخابية، ثم في تصريحاته الرئاسية الأولى، ثم خلال زيارته المنطقة، على ضرورة كبح جماح إيران ووقف تمددها الإقليمي، والتراجع عن سياسة أوباما في التغاضي عن خططها للهيمنة وتهديدها التوازنات الإقليمية، كان التنفيذ على الأرض متبايناً إلى حد بعيد، ويتجنب المواجهة مع الانتشار الإيراني، المباشر أو بالوكالة، في العراق وسورية واليمن، سوى في حالات نادرة اقتضتها ضرورات عسكرية بحتة.
وحتى الآن، ليس للولايات المتحدة أي هدف معلن في سورية سوى القضاء على «داعش» في رقعته الجغرافية المحاصرة. بل إن قادتها السياسيين والعسكريين يشددون مع كل توتر يحصل مع القوى الأخرى المنتشرة في هذا البلد، على أنهم لا يهدفون إلى محاربة القوات السورية النظامية أو الإيرانية أو الروسية، بل «الدولة الإسلامية» فقط. غير أنهم لا يقدمون صورة واضحة عما ستفعله بلادهم بعد إنجاز هذه المهمة.
أما إسقاط المقاتلة السورية والطائرتين الإيرانيتين المسيرتين، وقصف ميليشيات موالية لإيران اقتربت من مثلث الحدود المشتركة بين سورية والأردن والعراق، فيندرج في رأي واشنطن في إطار تنفيذ تفاهم ضمني مع موسكو بعدم تعرض أي طرف لقوات الطرف الآخر وحلفائه، ويبرره الأميركيون بأنه مجرد رد على خروقات سورية وإيرانية لهذا التفاهم هددت القوات المحلية التي يدعمونها.
لكن من المرجح أن تستمر الخروقات لأن القائمين بها يعتقدون أن الهدف المضمر للأميركيين بعد طرد «داعش» من «دويلته»، سيكون الاستدارة نحو إيران وميليشياتها، ما قد ينعكس على دعم نظام الأسد، ويهدد النفوذ الروسي في سورية.
ولهذا تستعجل إيران الاشتباك مع الأميركيين، وبالتالي تشتيت واشنطن عن هدفها المعلن وإعاقة حربها المنفردة ضد «داعش»، وربما إلحاق خسائر بقواتها المنتشرة في سورية والعراق. والهدف الأبعد إجبار أميركا على مهادنة طهران والتنسيق معها ومع موسكو ودمشق في الحرب على التنظيم، وتقاسم عائدها المعنوي والمادي. وبكلام آخر الاعتراف بامتداداتها الإقليمية.
فالروس والإيرانيون ونظام دمشق يرفضون أن تتصرف الولايات المتحدة كأن لها حقاً مطلقاً في شن حرب في سورية، واعتبارهم مجرد متفرجين غير معنيين، مع أنهم يسيطرون على معظم الأرض ويمتلكون القدرة على وقف أي تسوية أو تخريبها. ولهذا بدأت القوات النظامية تتقدم نحو الرقة وأطلقت إيران صواريخ عابرة على دير الزور وأعلنت موسكو أنها ربما قتلت زعيم «داعش» في غارات على التنظيم، لتأكيد مشاركتها في معركة الرقة.
في هذه الأثناء، يَغيب ويُغيّب أي دور للمعارضة السورية التي قادت الثورة على نظام الأسد. وفي هذا يتفق اللاعبون الدوليون والإقليميون جميعاً بلا استثناء، من واشنطن وأوروبا إلى موسكو وطهران.
قدّم الرئيس الروسي سياسته الدولية بأنها «تصحيح» للنظام العالمي الذي تفرّدت الولايات المتحدة في الهيمنة عليه ووضع قواعـــــده. وإذ انطلق فلاديمير بوتين من تداعيات الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، ومن الفوضى التي عمّت ليبيا جرّاء التدخل الأطلسي لإسقاط النظام السابق، فإنه يعتقد أن إدارته الأزمتين السورية والأوكرانية في الأعوام الثلاثة الأخيرة وفّرت نموذجاً صائباً لما يمكن أن تكون عليه القيادة «الجديدة» للنظام الدولي بالاستناد الى جرائم الحرب المحرّمة إدانتها. لكن تبدّى الآن أن النموذج البوتيني يكاد يقوم على فكرة وحيدة هي إنكار القطبية الواحدة وإنهاء وضعية الدولة العظمى (الأميركية) الوحيدة، ولتطبيق ذلك أعطى بوتين أولوية لتقليد وحشية أميركا في فيتنام بالأسلوب الروسي في حلب بعد الشيشان، وانتقل التقليد الى مجلس الأمن الذي باتت موسكو تعطّله بتلقائيةٍ عمياء وغالباً ما كانت واشنطن تعطّله أيام الحرب الباردة. وفي السياق، فإن ما التقى ويلتقي عليه القطبان هو تهميش العدالة الدولية وتمرير جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وإذا تبادلا الاتهامات التشهيرية في شأنها فإن «الفيتو» يحول دون إصدار قرارات ودون التزامها وتفعيلها إذا أمكن إصدارها.
يبدو هاجس «التصحيح» بارزاً أيضاً في الكثير من الكلام والقليل من الفعل في نهج الرئيس الأميركي الذي قد يفقد منصبه وهو لا يزال يُوصف بـ «الجديد». فما أقدم عليه مع أعوانه، قبل الحملة الانتخابية وخلالها وبعدها وقبيل أيام من تنصيبه، يشكّل حالياً الخلفية المزعزعة للسياسات أو الاستراتيجيات التي تحاول إدارته بلورتها. ويبدأ «التصحيح» في عُرف دونالد ترامب بمراجعة الفواتير الأميركية حول العالم، وفقاً لقاعدة أن مَن يريد حماية الولايات المتحدة ينبغي أن يتحمّل الكلفة، لكن طبعاً باستثناء إسرائيل. وهذا حساب مخاتلٌ لأن أميركا لم تكن خاسرةً أبداً من تدخّلاتها، وحساب خاطئٌ لأن لأزماتها الاقتصادية أسباباً في السياسات الداخلية أولاً وأخيراً، وهو حسابٌ غير واقعي يرمي الى إبقاء الهيمنة الأميركية لكن مجانية، ثم أنه يُسقط بل يرفض تقويم المحصلة نسبةً الى الكلفة، فنادراً ما يكون التدخّل والحماية نهايةً لأزمة بل بداية لمسلسل يديم الاضطراب والتوتر. كانت لدى باراك اوباما أجندة «تصحيحية» أيضاً، ولم يتمكّن من تطبيقها فاكتفى بتركة تكرّس الانسداد الدولي والتقاء القطبين على الاستثمار، كالعادة، في الأزمات الإقليمية وإدارة الحروب بالوكالة.
بمعزل عن السياسات، كان هناك دائماً ما يُسمّى «الحلم الأميركي» الذي لم يعد له السحر الإلهامي نفسه، لكن يبقى لدى أميركا دائماً نموذجٌ محمّل قيماً قابلة للتصدير بشرط أن تتوافر إرادة سياسية لتطبيقه، أما اذا غابت القيم والإرادة معاً تكون النتــائج كــارثــية، كما هي حالياً.
والأمثلة كثيرة، لكن تكــــفي الإشارة الى غزوات جورج بوش الابن في إطار الحرب على الإرهاب وما أفضت اليه في العراق وأفغانستان، الى انسحابات اوباما وعدم اعترافه بأخطار سياسة التخريب الإيرانية وانخراطاته الملتوية في التعاطي مــع الأزمات السورية والعراقية والليبية التي أدّت الى ولادة الارهاب «الداعشـــي» الجديد، وأخيراً الى تخبّطات ترامب بين ما يتصوّره وما يحقّقه في شأن إيران وصولاً الى وقوعه في فخّ التواصل مع روسيا كما لو أنه يحتاج الى مَن يلفته الى أن روسيا عدوٌ وليست حليفاً استراتيجياً لأميركا.
في المقابل، لم تكن روسيا يوماً مصدراً لـ «حلم» أو نموذجاً قابلاً للتصدير، وإذا كانت لا تدّعي ذلك فليس في الأمر فضيلة. فحتى النموذج السوفياتي، وهو مقياس بوتين ومرجعيته، استخدمته موسكو لاستقطاب عشرات الدول قرابة قرن من الزمن، إلا أنه انتهى الى سقوط مريع وسقطت معه «اشتراكيته» وأي قيم اقتصادية فيها قد تكون صالحة للاتّباع من دون حمولتها السلطوية الفظّة. لا شك في أن التقليد الروسي قد يتفوّق على الأصل الأميركي في الوحشية أو يتساوى معه، لكن المؤكّد أنه لا يستطيع أن يقدّم منظومة متكاملة يمكن أن تضاهيه. ففي سورية، أثبت التدخّل الروسي أن «نموذجه» هو نظام بشار الأسد الذي يوقّع له على ما يشاء، وأثبت أيضاً أن حليفه الأمثل هو النظام الإيراني. نفذ الروس خطة الأسد والإيرانيين لتفتيت قوة المعارضة وتسفيه طموحاتها كأفضل وسيلة للمحافظة على ماكينة اسمها النظام، وإذ حققوا النسبة الكبرى من برنامجهم بالقوة العسكرية إلا أن تحويل إنجازاتهم الى نهاية حرب وبداية استقرار فتلك مهمة لا يتمتّع الرئيس الروسي بالخبرة لإدارتها، لأن قاموسه يعرف الحكّام والجيوش لا الشعوب.
شكا بوتين أخيراً من أن مشاكل ترامب مع المحققين والقضاة تعرقل مساهمة أميركا كشريك في حل النزاعات الدولية، على افتراض أن القطبَين يريدان فعلاً حلّها. يدرك الرئيس الروسي أن كل ما فعله في سورية واوكرانيا وغيرهما مجرد تأزيم لاستدراج الولايات المتحدة الى مساومة لم تبرهن على أنها راغبة فيها.
فهو يتحدّث علناً عن «شراكة» ويترجمها ضمناً «مساومة». لم تعارض أميركا «تنسيقه الاستراتيجي» مع إسرائيل، وأوحت بأنها تطلق يده في سورية سواء بخطة آستانا لـ «مناطق خفض التصعيد» أو بقيادة من الخلف لمفاوضات جنيف، فهي مثله لا تملك نموذجاً مناسباً لإنهاء الصراع السوري بل لإدامته وتوظيفه.
لكن بوتين الباحث عن شراكة مع أميركا وجد أنها تعمل على مشروع آخر في سورية من خلال محاربة «داعش» في الشمال والمنطقة الآمنة في الجنوب، بل وجد أن أميركا وإيران باشرتا صراعاً ميدانياً متجاهلتَين الوجود الروسي، فإيران تبحث أيضاً عن ظروف لاستدراج الأميركيين الى مساومة لا يريدونها.
اضطر الروس أخيراً لقبول هدنة درعا وفرضها على النظام، لأن تفاهمهم مع الأميركيين على عدم التعرّض لقوات النظام اختُرق مع انكشاف أن الخسائر الكبيرة التي نُسبت الى الأخير كانت في معظمها لحلفائه من «حزب الله» وميليشيات أخرى تابعة لإيران، وبالتالي فإن سيطرتهم على كامل درعا تعني السماح بوجود إيراني على حدود الأردن، وهذا غير مقبول أيّاً تكن الاعتبارات. إذاً، أصبح عنوان «قوات النظام» إشكالية روسية يصعب الدفاع عن مشروعيتها، ولا يمكن موسكو إقناع واشنطن بعدم التعرّض للإيرانيين وأتباعهم لأن النظام هو مَن دعاهم. أما الإشكالية الأخرى فتتعلق بالحدود سواء في الشمال أو الجنوب الغربيين اذ يخترقها الإيرانيون متحدّين الإنذارات الأميركية. وفي أي حال، يُظهر الإيرانيون أنهم لا ينتظرون أن تدافع موسكو عن وجودهم في سورية، بل يمارسونه ويطوّرونه وفقاً لاستراتيجية ثابتة لا تحسب حساباً لحواجز تضعها الدول الكبرى أمامهم.
في أسوأ الظروف، ولعلها حلّت، سيسعى الإيرانيون الى استفزاز الأميركيين بدفع زوارق الى المياه الاقليمية السعودية وإحدى المنصّات النفطية وإلى صدام مباشر، كما حاولوا بالزحف نحو معبر التنف من الجانبين، بل إلى افتعال أسباب لصدام أميركي - روسي سبق أن راهنوا عليه عندما حضّوا على استخدام السلاح الكيماوي في خان شيخون وجاءهم الجواب عبر الصواريخ الأميركية على مطار الشعيرات.
وتلتقي طهران وموسكو اليوم على ضرورة استغلال حال التخبّط الأميركي، فمن الواضح أن واشنطن لم تحسم خياراتها في المنطقة على رغم إطلاقها معركة الرقّة ضد «داعش» وتهديفها على نفوذ إيران واضطرارها مجدّداً لإرسال قوات الى أفغانستان. ولا شك في أن الصواريخ التي أطلقتها سفينة روسية من المتوسط وتلك التي أطلقتها إيران من أراضيها على مناطق «داعش»، وكذلك إسقاط الأميركيين طائرة للنظام على مقربة من الرقة، لا تريد كسر احتكار التحالف الأميركي والقوات الكردية لمحاربة الارهاب فحسب، بل ترمي الى وضع الأميركيين أمام واقع جديد لا يمكّنهم من حسم المعركة مع «داعش» وما بعدها وفقاً لتصوّرهم، ومن دون إشراك الأطراف الأخرى، أي روسيا وإيران ونظام الأسد.
مثل انطلاق الثورة السورية في العام 2011 رداً "شعبياً" على سياساتٍ كثيرة للنظام السوري، في مقدمتها توجهاته الاقتصادية التي كانت ماضية في اتجاه تدمير البنية الصناعية والزراعية السورية، الرثة أصلا، لصالح انتعاش تجاري وسياحي ومالي، تستفيد منه فئة محدودة، وعلى ارتباط وثيق بالنظام السياسي والأمني، يصل إلى درجة الانصهار معه. ونظرا لقناعته بوجود ارتباط جوهري بين توجهاته الاقتصادية نحو اقتصاد السوق، عمليا نحو تبعية اقتصادية، والثورة السورية، فقد تبنى النظام خطابا إعلاميا مغايرا وناقدا، ما بعد انطلاق الثورة في 2011، مجمل التوجهات الاقتصادية السابقة. ليعترف النظام السوري آنذاك بأن سياسات الانفتاح الاقتصادي، والتسهيلات الجمركية لبعض دول الجوار، وخصوصا تركيا، وتوجهات الحكومة السورية نحو تقليص مصاريف الدعم الحكومي العلمية والصحية والمعيشية والاقتصادية، مثل تقليص دعم المشتقات النفطية، قد ساهمت في تصاعد الاحتقان والغضب الشعبي. كما سارع النظام في إيجاد كبش فداء يتحمل وحده مسؤولية التوجهات الاقتصادية المذكورة، وتبعاتها الاجتماعية والسياسية الحاصلة، حيث تم إعفاء نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، عبد الله الدردري، من جميع مناصبه ومسؤولياته الرسمية، ليصبح الدردري مادة إعلامية دسمة على جميع الوسائل الإعلامية التابعة والمقربة من النظام السوري، متناسية خطابها القديم نسبيا ما قبل الثورة، والذي كان يشيد ويتغنى بذكاء الرئيس الشاب وقدرته على استقطاب أهم الخبرات والكفاءات السورية في الخارج وخصوصا عبد الله الدردري، كما تناست هذه القنوات والمحطات الإعلامية ترويجها قبل الثورة جميع إجراءات الانفتاح الاقتصادي وقوانينه، ليتحول المشهد الإعلامي السوري، بين يوم وليلة، إلى تبني رواية غريبة جدا، وعلى درجة كبيرة من الفجاجة في الكذب والتزوير، تتلخص بإخلاء مسؤولية الرئيس والحكومة السورية السياسية والاقتصادية والأخلاقية، على حساب تحميل الدردري كامل المسؤولية، وكأن جميع الوزراء وجميع القيادات الأمنية والعسكرية، وفي مقدمتهم الرئيس، مجرد أسماء ومناصب شكلية وهامشية، حتى أنهم لا يملكون حق إبداء الرأي والاعتراض على أيٍّ من سياسات الدردري الاقتصادية الهدامة!
على كل حال، وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل باتت قديمة نسبياً، وإن كانت على ارتباط وثيق باليوم، فقد تم التخلص، وبنجاح، من الشخص المسؤول عن تلك السياسات الاقتصادية.
لذا، من الطبيعي والمنطقي سير الحكومة والنظام السوري في طريق مغاير تماما عنها اليوم. لكن الخطاب والوقائع والقوانين والمعاهدات الموقعة حديثاً تشير إلى عودة سياسات الانفتاح الاقتصادي، أو سياسات الدردري كما كانت تسميها وسائل إعلام النظام، مع تغيير المظهر الخارجي لها، فنحن اليوم أمام دور إيراني وروسي، وربما صيني أيضا بدلا من دور تركيا والاتحاد الأوروبي السابق في فرض تبعية الاقتصاد السوري بالمركز الإمبريالي العالمي. تخلى النظام عن جميع المصادر مضمونة الربح، لصالح تحالف الدول التي حافظت حتى اليوم على بقائه، ليتم بيع عقود استثمار ثروات سورية الباطنية النفطية والغازية، بما فيها المتعلقة باستخراج الفوسفور لهم، فضلا عن المرافئ والموانئ الساحلية وعقود استثمار في قطاع الاتصالات، وجزء مهم من الثروة الزراعية، وربما الحيوانية أيضا، وفقا لما تم الإعلان عنه من الاتفاقات والعقود فقط، فضلا عن عقود إعادة الإعمار وعن عقود الاستثمارات السياحية طويلة الأجل، ليتخلى النظام السوري عن المصادر الرئيسية لميزانيته السنوية (الدخل القومي)، ما يفرض على أي حكومة قادمة تقليص المصروفات التنموية الداخلية العلمية والطبية، فضلا عن تقليص مصروفات الدولة المرتبطة بسياسة الدعم الحكومي في مجال الطاقة عموما، وفي المجال المعيشي كذلك. وهو ما تعكسه تصريحات مسؤولين في الحكومة والنظام السوري الذين يتحدثون، وبكل وضوح، عن أن الدولة عاجزة عن تأمين جميع مستلزمات المواطن السوري الخدمية والحياتية. لذا يجب إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص في المجالات الصحية والعلمية، وفي مجال تأمين مستلزمات الطاقة النفطية والكهربائية، تمهيدا لإلغاء أي دور للدولة، وتترافق تلك التصريحات مع تصريحات أخرى تعبر عن إخلاء مسؤولية الحكومة والنظام السوري تجاه مواطنيها على صعيد تأمين المستلزمات الغذائية والمعيشية البسيطة.
قد يعتبر بعضهم أن عملية بيع سورية للإيرانيين والروس مؤقتة وضرورية، من أجل الدفاع عن سورية "في مواجهة الإرهاب والمؤامرة الكونية"، أو ثمنا بخسا كي يحافظ بشار الأسد على سلطته السياسية والأمنية (وجهة نظر المعارضة)، غير أن ربط الحاصل اليوم بسياسات النظام ما قبل الثورة يشير، وبكل وضوح، إلى مسار النظام السوري منذ نهاية التسعينيات في اتجاه تخليه عن هموم السوريين وحاجاتهم لصالح مجموعة محدودة من المقرّبين والنافذين،
أشهرهم رامي مخلوف. ما يعني أن الخطاب الإعلامي الرسمي ما بعد انطلاق الثورة مجرد مناورة تكتيكية من النظام، بغرض امتصاص الغضب الشعبي وتطويقه، خوفا من تصاعده ونموه ليطاول مناطق جديدة، ويصبح احتواؤه أو مواجهته مستحيلة، لا سيما إن برزت قوى سياسية تعبر عن تطلعات ثورية شاملة، وتطرح تغييرا شاملا يطاول مجمل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، حيث كان خطاب جميع القوى المعارضة السياسية المعروفة، ولا سيما الائتلاف والمجلس الوطني، وما زال، يرتكز على تحقيق الانتقال الديمقراطي فقط مع تهميشٍ كامل ومقصود لمجمل التوجهات الاقتصادية، ما يعني قبولها جميع هذه الممارسات مع تحفظاتٍ قد تنحصر بهوية الطبقة أو الفئة الاجتماعية المستفيدة من سياسات الانفتاح الاقتصادي، أي يصبح الخلاف أو الاحتجاج الاقتصادي محصورا بهوية أصحاب رؤوس الأموال الذين سوف يقطفون ثمار الانفتاح عبر الوكالات الحصرية التجارية والمالية وشركاء محليين أو حصريين في الاستثمارات السياحية المزمع إقامتها.
لا يمكن اعتبار التوجهات الاقتصادية السورية مسألة ثانوية وهامشية، بل لا بد من الانطلاق من أنها إحدى أهم الركائز المكونة للنظام السياسي، الحالي والمستقبلي. لذا لا بد من فضح النهج الاقتصادي السياسي الحالي، والمستمر منذ نهاية التسعينات، انظلاقا من تبعاته الكارثية على بنية الدولة والمجتمع السوري، والعمل على طرح المبادئ الاقتصادية الرئيسية والضرورية، من أجل بناء مجتمع سوري متماسك ومتطور صناعيا وعلميا وخدميا، بدلا من الاستمرار في حصر خطاب المعارضة في النواحي السياسية، على الرغم من أهميتها الراهنة والمستقبلية، إذ يتطلب الانتقال إلى مجتمع تسوده الحرية والعدالة والمساواة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين جميع أبنائه العمل على بناء دولة مستقلة اقتصاديا وماليا. وبالتالي، رفض جميع أشكال التبعية الاقتصادية، تركية وأوروبية كانت أم إيرانية وروسية، فقضية الحرية والعدالة كتلة واحدة لا تتجزأ.
الضربة الأميركية التي أسقطت المقاتلة السورية أدخلت حرب التحالف الدولي ضد «داعش» مرحلة جديدة من المواجهة الأميركية مع روسيا في سورية، فقوات التحالف والأكراد مع قوات عربية أضعفت «داعش» على الأرض في العراق وبدأت تضعفه في الرقة السورية، والضربة الأميركية التي استهدفت مقاتلة الجيش النظامي السوري تشير إلى أن أميركا قررت منع روسيا، وخصوصا حليفها الإيراني، من السيطرة وإدارة الرقة بعد «داعش».
أدرك الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند ذلك، وكانت الدبلوماسية الفرنسية تدفع بقوة فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى التفكير المبكر باستراتيجية ما بعد تحرير الرقة من «داعش»، وتحض الجانب الأميركي على منع النظام السوري وحليفتيه إيران وروسيا من تسلم إدارة الرقة، وهو موقف بعيد النظر، لأن مدناً عدة في سورية يقوم النظام بإفراغها من سكانها لاستبدال إيرانيين بهم وتشييع المناطق. أما الآن، فما زالت دبلوماسية الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون بالنسبة إلى سورية في طور إعادة التقويم، ولذلك ليس معروفاً ما هو الموقف الفرنسي، وما إذا كان قد تغير أم لا، فماكرون بدأ عهده -لأسباب غير واضحة- بإبعاد الإعلام الذي ساهم ورحب بانتخابه، والرئيس الفرنسي الشاب الذي اكتسح الساحة السياسية بفوز حزبه «إلى الأمام»، يعتمد نهج «إلى الوراء» في ما يتعلق بمنع فريقه الدبلوماسي أو دبلوماسيي وزارة خارجيته من التكلم وشرح تصوره لخطته الدبلوماسية تجاه سورية، وهذا «الإغلاق» الإعلامي المستغرب من رئيس يريد التحديث، يمنع التحليل الدقيق لما يريده بالنسبة إلى سورية ومرحلة ما بعد «داعش» في الرقة، وهل أنه يوافق التوجه الأميركي بمنع إيران وحلفاء النظام السوري من إدارة الأماكن المحررة، فالمرحلة الآن بالغة الخطورة، كون إرهاب «داعش» لم يعد في مكان واحد وانتقل من الأرض السورية التي كانت بفضل سياسة النظام السوري معقلاً لهذا التنظيم الإرهابي إلى كل مدن الغرب.
إن الأوضاع الأمنية العالمية مع تزايد الإرهاب الأعمى وعدم التمكن من السيطرة عليه تقتضي حلاً جذرياً لحروب المنطقة، فلو تدخلت القوات الأميركية في عهد أوباما في عام ٢٠١٣ وضربت القواعد الجوية لبشار الأسد لما نشأ وتغلغل «داعش» في أراضي سورية. لم يكن هناك حينها تدخل روسي مباشر. والآن، وفيما يتم تحرير مناطق سورية من هذا الوحش الإرهابي «داعش»، لا ينبغي أن تترك هذه المناطق لروسيا وإيران اللتين تعولان على السيطرة على الشرق الأوسط من خلال تواجدهما في سورية، فالضربة الأميركية للمقاتلة السورية قد تكون تنبيهاً لروسيا إلى أن الإدارة الأميركية لن تترك إيران تسرح وتمرح في سورية. تعتمد روسيا لغة التهديد لأنها حامية النظام السوري ومصلحتها في سورية، لكن إدارة ترامب لديها وزير دفاع أميركي قوي وحازم ويعرف المنطقة جيداً، وعلى رغم أنه لا يبحث عن مواجهة عسكرية مع روسيا لكنه يدرك أن الموقف الأميركي الحازم والقوي في مواجهة روسيا ونظام بشار الأسد أفضل من التنازل والتخاذل الذي قدمه جون كيري والرئيس أوباما للجانب الروسي في تعاطيه مع كل من سورية وإيران.
إن الأيام المقبلة وعودة مفاوضات الأطراف السورية التي دعا إليها المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا ستُظهر مدى جدية الجانب الروسي في الضغط على النظام السوري أو تركه يناور ولا يتفاوض على شيء رافضاً مبدأ الانتقال السياسي، فالحرب السورية تحمل في طياتها خطورة مواجهة بين الدول الكبرى، علماً أن روسيا لم تعد بقوة الاتحاد السوفياتي ولكنها تحمي نظاماً إرهابياً مع حليف إيراني مبدع بإرهاب المنطقة العربية منذ ثورة الخميني. إن نهاية الحرب في سورية والحل السياسي مستبعدان طالما الموقف الروسي عازم على حماية هيمنته في هذا البلد وفي المنطقة. والمؤلم أن سقوط الضحايا والنزوح السوري والكوارث الإنسانية ستستمر.