لم تقع الحرب بين الأميركيين والروس في سورية. انتهت تهديدات موسكو بالعودة إلى اتفاق التنسيق مع واشنطن في الأجواء السورية. لا يعود غضبها إلى إسقاط «التحالف الدولي» طائرة «سوخوي 22». أزعجها أكثر أن قيادة التحالف لا تُعلمها بتحركاتها الميدانية أو الجوية ولا ترغب في التنسيق. أي أنها تتجاهل مصالحها. في حين أنها كررت في أكثر من مناسبة استعدادها للتفاهم في الحرب على «داعش». ما حدث احتكاك طبيعي متوقع. وقد يتكرر كلما اقترب يوم تحرير الرقة بعد الموصل، أو كلما ازداد انخراط الرئيس دونالد ترامب في الإقليم، من اليمن إلى العراق بحدوده الغربية وبلاد الشام بشرقها وجنوبها. علما أنه تعهد أن لا حروب جديدة في الشرق الأوسط. ومثله أعلن الكرملين قبل أيام أن الحرب في سورية توقفت! وهو يستعجل مسارَي آستانة وجنيف لتأكيد هذا «التوقف». ويسعى إلى التفاهم على آليات مراقبة «مناطق خفض التوتر». ذلك أن تصعيد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة يقوض استراتيجيته ويطيح مشروعه لإنهاء الحرب. لذلك رفع سقف خطابه بعد تعرض قوات النظام والميليشيات الحليفة لأكثر من ضربة أميركية أثناء تقدمها نحو قاعدة التنف والمثلث الحدودي مع الأردن والعراق. أوحى بعزمه على الرد، لأنه لا يريد لدمشق أو طهران أن تديرا اللعبة أو تبدلا قواعدها. وساهم في إشعال بعض الجبهات، وساهم أسطوله في المتوسط ببضعة صواريخ، وأعاد نشر بطاريات...
الاحتكاك متوقع إذاً ما دام السباق قائماً على تقاسم النفوذ في سورية. ويمكن هذا السباق أن يؤدي إلى إطالة الحرب على «داعش». بل قد يطيل عمر الأزمة في بلاد الشام بعد القضاء على التنظيم الإرهابي. روسيا تجهد لوقف القتال بترسيخ فكرة «مناطق خفض التوتر». أي أن تنشر هي وتركيا جنوداً في منطقة إدلب، وتتولى وإيران مراقبة المناطق المحيطة بدمشق، وتراقب الولايات المتحدة والأردن المنطقة الجنوبية في درعا. هذا ما أوضحه أحمد كالين الناطق باسم الرئيس رجب طيب أردوغان. بالطبع تبقى هذه الخريطة ناقصة. فالصراع هو على الرقة وعلى تركة «داعش» عموماً. الرئيس ترامب أقفل قناة الحوار مع طهران وأطلق حلفاً واسعاً في الإقليم لمواجهة نفوذها وتمددها. لكنه لم يطلق خطة أو يقدم استراتيجية لتحقيق هذا الهدف. تماماً كما يتعامل مع حربه على الإرهاب. فهو على خطى الإدارة السابقة لا يملك خطة لما بعد «داعش». ولا يملك أجوبة عن مستقبل سورية ومستقبل دور روسيا وإيران في هذا البلد. ما يستعجله هو إنجاز نصر في تحرير «عاصمة الخلافة». كما أن الرئيس السوري الذي لا يروقه تقاسم، بل يريد تحرير الرقة لتوكيد «شرعيته» وأهليته في محاربة الإرهاب! مثلما ترغب حليفته إيران في المشاركة في هذا التحرير لتوكيد حضورها الكبير في الإقليم وقدرتها على إدارة شؤونه. ومثلها تفعل تركيا التي تريد حضوراً يضمن لها قطع أوصال مناطق الكرد وأحلامهم.
هذا الازدحام ،أو بالأحرى التزاحم، في أرض سورية وسمائها، كما رأى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يجعل من الصعب على اللاعبين الكبيرين، روسيا وأميركا، أن يقررا وحدهما مسار الأزمة. القوى الإقليمية والمحلية لا تنتظر نتيجة النقاش في الكونغرس ودوائر الإدارة في الاستراتيجية المنتظرة. لا تتوقف عند تحذير قوى في واشنطن من مغبة الانخراط في حروب المنطقة وإصرارها على قتال «داعش» أولوية. ولا تتوقف أيضاً عند دعوة قوى أخرى إلى رفع وتيرة المواجهة مع إيران باعتبارها معركة مصيرية لمستقبل مصالح الولايات المتحدة وعلاقاتها ودور حلفائها في المنطقة. وتعتقد هذه القوى أن غياب الخطة الاستراتيجية يتيح للأطراف الآخرين في الملعب السوري كسب مزيد من الأرض، كما هي الحال اليوم. ولا شك في أن النظام وإيران يحرزان تقدماً في كثير من المناطق على حساب الفصائل المعارضة. ويسعيان إلى تقويض مشروع «مناطق خفض التوتر». ولم تكتف طهران بإطلاق صواريخ باليستية على منطقة دير الزور حاملةً جملة من الرسائل الواضحة، بل بدأت ببناء قاعدة قرب تدمر تتضمن مطاراً ومهبطاً لإطلاق طائرات من دون طيار ومحطة مراقبة أرضية. وهدفها والنظام تقويض تفاهم موسكو وواشنطن على هدنة طويلة توفرها صيغة «مناطق خفض التوتر» التي قد تكرس لاحقاً أقاليم في نظام فيديرالي. في المقلب الآخر تحشد تركيا قواتها مهددة بضرب عفرين، وتتوعد بتقويض حلم الكرد في حكم ذاتي بعدما دفعت البنتاغون إلى التعهد باستعادة كل الأسلحة التي يمد بها «وحدات حماية الشعب» بعد انتهاء معركة الرقة.
في خضم هذه الأجندات المختلفة، لا تملك إدارة الرئيس ترامب استراتيجية تمكّنها من التغلب على خصومها في سورية. أو فرض رؤيتها وأجندتها. كما أن رفع عديد قواتها أو توسيع رقعة انتشارها في شرق البلاد وشمالها لن يغيرا في مآل الصراع، أو يَحُولا دون انتصار خصومها في المعركة في النهاية. ذلك أن عشرات الآلاف من جنودها الذين غزوا العراق لم ينجحوا في فرض المشروع السياسي الأميركي في بلاد الرافدين. وقبل ذلك لم تقطف الولايات المتحدة وشريكاتها في حرب أفغانستان ثمار جهودها العسكرية في هذا البلد بعد إسقاط نظام «طالبان» وتشتيت قيادات «القاعدة». إلا أن بعض داعمي هذه الإدارة يعتقد بأن انخراطها في المسرحين العراقي والسوري سيمكنها عاجلاً أم آجلاً من إرهاق اللاعبين الآخرين وتحويل الحضور الإيراني خصوصاً مكلفاً وصعباً، على غرار ما حدث في أفغانستان إبان الاحتلال السوفياتي. لكن الوقائع على الأرض لا تشي بذلك، على رغم أن من المبكر الجزم بمآل حرب الحدود وتقاسم الجغرافيا السورية، فالإيرانيون حتى الآن يقيمون على طرفي الحدود العراقية- السورية، على رغم أن واشنطن طلبت من بغداد إبعاد ميليشيات «الحشد الشعبي» عن هذه الحدود وتسليم أمنها إلى القوات الشرعية من حرس حدود وجيش. وجاءت الصواريخ الباليستية الإيرانية على دير الزور لتقول لقاطني قاعدة التنف أن يد الجمهورية الإسلامية طويلة وقادرة على إزعاجهم. كما أن النظام في دمشق يقترب من استعادة درعا والسيطرة على منافذ الحدود في الجبهة الجنوبية مع الأردن. لذلك تبدو الجمهورية الإسلامية في الميزان العسكري هي الأقوى انتشاراً على المسرحين العراقي والسوري. لكنها تبقى دون تفوق الولايات المتحدة وروسيا وقوتهما وترسانتهما. وهذا واضح في المسرح السياسي حيث تترجم الموازين فعلياً، فموسكو مثلاً هي من يقود ويقرر في آستانة، كما في دمشق وإلى حد كبير في جنيف، أضف إلى ذلك أن اتساع خريطة انتشار القوى الإيرانية يفوق حجمها وقدرتها في الإقليم. كما أنها ليست دولة متقدمة تتمتع باقتصاد راسخ وقوي. وهي تواجه مقاومة لا يستهان بها من اليمن إلى سورية. لذلك يستحيل التنبؤ بمسار الصراع.
إلى هذه القوة الإيرانية على الأرض هناك تركيا، التي تشكل تهديداً لمكتسبات الكرد في شمال شرقي سورية، خصوصاً إذا تخلى عنهم الأميركيون مرضاة لهذا الحليف المفترض في «الناتو»، كما هو واضح اليوم من تعهداتهم لها بإطلاعها على لوائح المعدات التي تسلح بها «قوات سورية الديموقراطية»، والتزامهم استعادة هذه المعدات والأسلحة بعد القضاء على «داعش». وعلى رغم ذلك، لا تملك حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان خيارات واسعة. وإذا غامرت بتنفيذ وعيدها للكرد فإنها ستغامر بفتح معركة واسعة متعددة الجبهات تعم كل مناطق انتشار حزب العمال الكردستاني وفروعه في شمال سورية ومناطق سنجار فضلاً عن مناطق ديار بكر ومناطق انتشار الكرد الأخرى. ثم إن إطالة الحرب على الرقة، كما يتضح اليوم، تتيح للاتحاد الديموقراطي الكردي تعميق تعاونه مع الأميركيين وترسيخ حضوره في مناطق انتشاره الواسعة. وهو يتمتع بشبكة علاقات تتيح له خيارات عدة إذا شعر بتخلي إدارة ترامب عنه. يمكنه الرد على خصومه بإحياء تفاهمات مع النظام في دمشق، كما حصل في حلب، حيث ساهم في طرد الفصائل المعارضة. وكما فعل في مناطق وجبهات تخلى فيها عن مواقعه لمصلحة دمشق وحلفائها.
في ضوء هذه الوقائع، لا مجال للحديث عن تسوية في آستانة ولا في جنيف. كان منطق المعارضة و «أصدقائها» في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، هو الرهان على إرغام الرئيس الأسد ونظامه على تقديم تنازلات بعد إضعافه وتقليص مناطق نفوذه. فمن يستطيع اليوم دفع هذا النظام إلى التنازل؟ ألا يكفي ما تحقق له الآلتان العسكريتان لروسيا وإيران؟ ألا يكفي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بات لا يرى «أي بديل شرعي للنظام»، وأن رحيل الأسد لم يعد أولوية بل محاربة «داعش». سيبقى الحل إذاً رهن ميدان الحرب ونتائجها. من هنا لم يعد مآل الأزمة رهن تفاهم بين أميركا وروسيا ينتظره الجميع. بات لكل ناحية في خريطة سورية دينامية خاصة ومعقدة، من الشمال إلى الجنوب مروراً بالبادية والحدود الشرقية. لم تعد هناك قواعد ثابتة وعامة لإدارة اللعبة.
بانتظار ما ستقرر واشنطن فعله إزاء الطموحات القومية الكردية المزمنة، أقله في شمال سوريا، يتركز الاهتمام من دون كلام كثير عن البؤرة الأخطر في منطقة الشرق الأدنى اليوم... ألا وهي جنوب سوريا.
بالأمس نشرت «الشرق الأوسط» قراءات إسرائيلية للوضع في المنطقة الممتدة من البوكمال على الحدود العراقية إلى خط الهدنة في هضبة الجولان مروراً بمعبر التنف الحدودي. وكان مثيراً بعض ما ورد، مع أن التجارب علمتنا أن جوهر السياسة الإسرائيلية يكمن في ما يحصل على الأرض لا ما يُقال. بل، في معظم الأحيان، تكون المواقف المعلنة محاولات متعمدة للتمويه كي لا نقول التضليل.
ولندع، لبرهة ما قيل وما زال يُقال، وننظر إلى حقائق جنوب سوريا.
الحقيقة الأولى أن النظام - بالأصالة أو عبر ميليشيات حماية القرى المحلية - موجود عسكرياً في أقصى جنوب غربي سوريا. ولئن كانت إسرائيل تتقبل مبدأ حماية القرى لأسباب إنسانية وطائفية غير مدفوعة الثمن سياسياً واستراتيجياً، فإن للنظام وميليشيا حزب الله - واستطراداً، إيران - حضوراً عسكرياً في المنحدرات الشرقية لجبل الشيخ وسفوحه. والصمت يعني أن إسرائيل لا تجد في هذا الحضور تهديداً لها بصيغته الراهنة.
الحقيقة الثانية، أنه يوجد في جنوب غربي محافظة درعا (جنوب منطقة الجيذور وغرب حوران) «جيب» يضم بضع بلدات يسيطر عليه تنظيم داعش. وهذا الجيب يُفترض به أنه معزول جغرافياً عن باقي محافظة درعا (قلب حوران) وأنه معرّض للغارات الجوية. مع هذا، ما زال «داعش» يسيطر على «الجيب»، وما زال طيران النظام الذي دمّر حلب وحمص وضواحي دمشق متمنِّعاً عن قصفه. والشيء نفسه يُقال عن طيران إسرائيل.
الحقيقة الثالثة، أن إسرائيل ضمّت في أواخر عام 1981 الأجزاء التي كانت قد احتلتها من هضبة الجولان عام 1967. وهي تعتبرها اليوم جزءاً لا يتجزأ من «أرض إسرائيل». وكانت المناورات السياسية المتبادلة بين الرئيس السوري السابق الراحل حافظ الأسد وقادة إسرائيل حول «تحرير الجولان» والتفاوض على الهضبة، تتمحوَر حول «مبرّرات» الطرفين للهروب من الحل. وكان من المبرّرات حدود محيط بحيرة طبريا (بما في ذلك أرض البطيحة والحِمّة) وحدود الجزر والمد بالنسبة لمياهها. وذات يوم أخبرني أحد الخبراء المائيين العرب المطّلعين على ملف طبريا أن هدف حافظ الأسد كان الإبقاء على حالة «اللاحرب واللاسلم» - بما في ذلك بقاء هضبة الجولان محتلة – بوصفه ذريعة لعداء «ممانع» مصطنع مع إسرائيل يستفيد منه النظام لأنه يخدم غاية رفض أي توجه نحو الديمقراطية والحريات الدستورية السليمة. وفي المقابل، تستفيد إسرائيل من تحوّل النظام السوري إلى مظلة مزيفة للرفض العربي و«الممانعة» و«المقاومة» اللفظيتين، بينما يحقق فعلياً الأهداف الاستراتيجية لتل أبيب.
الحقيقة الرابعة، أنه منذ «حرب التحريك» العربية الإسرائيلية في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، الهادفة إلى تسليم كل ملفات المنطقة لواشنطن، ظل خط الهدنة في هضبة الجولان أهدأ «خط جبهة» في عموم الشرق الأوسط. وحقاً، ما كان «العداء» لإسرائيل يترجَم قتالاً إلا في لبنان تمهيداً لضمه إلى «الهلال الإيراني»، والأراضي الفلسطينية لشق الصف الفلسطيني وافتعال «حرب أهلية» فلسطينية... والمسلسلات التلفزيونية والأغاني الوطنية. ومعلوم، أن دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 ومن ثم تصفيتها المقاومة الفلسطينية وقوى اليسار اللبناني كانا جزءاً من خطة أميركية تحظى بمباركة إسرائيلية. فقط تغيّرت تفاصيل التفاهم «التعايشي» بين دمشق وتل أبيب مؤقتاً عام 1982 مع غزو القوات الإسرائيلية لبنان، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى طبيعتها بعد غزو العراق للكويت عام 1990؛ ذلك أنه بعد مشاركة حافظ الأسد في الحرب على نظام صدام حسين، أطلقت واشنطن - ومعها تل أبيب، طبعاً - يده في لبنان. وكانت النتيجة تسريع عملية إلغاء الدولة اللبنانية لصالح «دولة المقاومة».
الحقيقة الخامسة، أن إسرائيل ارتضت منذ انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، و«إعلانها» انتصار «حزب الله»، التعايش مع لبنان يسيطر عليه هذا الحزب المرتبط ارتباطاً عضوياً بإيران وحرسها الثوري. ثم إن إسرائيل، التي تعرف جيداً طبيعة الحزب وارتباطاته وما فعله في نسيج المجتمع اللبناني، حرصت على إهدائه انتصاراً «علنياً» آخر عام 2006 كي تضمن له مزيداً من «الشرعية»، عندما شنّت حرباً ضروساً على لبنان تعمّدت أن تدمر فيها كل شيء إلا البنى التحتية للحزب. وبعدها، ظهر التفاهم الضمني على أن الحزب يمكن أن يستخدم سلاحه في أي مكان في الداخلين اللبناني والعربي، ولكن ليس ضد إسرائيل.
الحقيقة السادسة، أنه بعد خوض «حزب الله» معركة إنقاذ نظام بشار الأسد في سوريا، في إطار «الجهود الحربية» الإيرانية، اكتفت تل أبيب بالتعامل معه بأسلوب تعاملها مع نظام الأسد نفسه... أي «توجيه الرسائل» لا أكثر. وعملياً، قامت الاستراتيجية الإسرائيلية حتى الآن على اعتبار أن بقاء نظام الأسد و«حزب الله» «هدف استراتيجي» لها... ولكن وفق شروطها أيضاً، لا شروط طهران وحدها. وكما نرى منذ 2011، فإن إيران وتوابعها خصّصوا لـ«تحرير القدس» الخطب التحريضية الرنانة والاستعراضات العسكرية، بينما استخدموا أفتك الأسلحة داخل سوريا «لتحرير» كثير من مدنها وقراها من سكانها، واحتلوا أربع عواصم عربية.
وعليه، إذا ما نظرنا إلى خريطة ما تبقى من سوريا، نستشف معالم صفقة كبرى تعبّر عنها «مناطق تخفيف التصعيد»، والواضح أن مشروع «الهلال الإيراني» يلعب دوراً محورياً. ولئن كانت الإشارات من واشنطن وموسكو إلى كل من تركيا والجماعات الانفصالية الكردية في الشمال السوري تبدو متناقضة، فالصمت الإسرائيلي الطويل في الجنوب لا يعني أن تل أبيب غير مكترثة.
إسرائيل، التي حمت نظام الأسد لسنوات من وراء الستار في العواصم الغربية، تريد الآن حصتها في الكعكة السورية، بل والكعكة الإقليمية أيضاً. وهي تطمح لأن تكون حوران الطبيعية التي تقع دمشق على أطرافها الشمالية... تحت جناحها.
مع قرب نهاية «داعش» في الموصل والعراق، بعد الجرائم التي ارتكبها بحق البشر والحجر، وآخرها تفجير مئذنة الجامع الكبير التاريخية في الموصل، تبدو المعركة المقبلة مع التنظيم في الرقة أكثر صعوبة وتعقيداً، بسبب تداخل الأطراف المتصارعة على الإمساك بالأرض واحتمالات المواجهة في ما بينها، بعد هزيمة «داعش» في معقله السوري.
مؤشرات هذه التعقيدات ظهرت الأسبوع الماضي مع إسقاط القوات الأميركية طائرة من طراز «سوخوي» تابعة لسلاح الجو السوري، وهو أول حادث يُسقط فيه الأميركيون مقاتلة سورية، منذ بدء الحرب في هذا البلد قبل أكثر من ست سنوات. موسكو وصفت الحادث بأنه «عدوان عسكري»، فيما قالت وزارة الدفاع الأميركية إن إسقاط الطائرة كان «دفاعاً عن النفس» لأنها كانت تشن غارات على «قوات سورية الديموقراطية» التي كانت تقوم بعمليات ضد «داعش» في الرقة. ثم جاء إسقاط الأميركيين طائرتين من دون طيار من صنع إيراني في الأجواء السورية، وقيام إيران بقصف مواقع للتنظيم في بلدة الميادين القريبة من الحدود العراقية بصواريخ «كروز» من أراضيها، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها إيران صواريخها لقصف أهداف في الخارج منذ الحرب العراقية- الإيرانية. وبررت طهران القصف بأنه رد على التفجيرات التي ضربت العاصمة الإيرانية والتي أعلن «داعش» مسؤوليته عنها.
إضافة إلى ذلك، يتهم الروس القوات الأـميركية بتعزيز وجودها العسكري في جنوب سورية، في ظل أنباء عن نقل منظومات صواريخ إلى قاعدة التنف عند الحدود العراقية- السورية، التي باتت هدفاً مباشراً لقوات التحالف، لمنع إيران وحلفائها من السيطرة على هذه المنطقة، وإقامة خط إيراني مباشر يربط إيران بالبحر المتوسط، مروراً بالعراق وسورية ووصولاً إلى قواعد «حزب الله» في لبنان.
في هذا السياق، ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» في الأسبوع الماضي أن مسؤولين في إدارة الرئيس دونالد ترامب طلبوا من وزارة الدفاع إقامة نقاط عسكرية في البادية السورية، بهدف منع قوات النظام أو الميليشيات التابعة لإيران من الوقوف في وجه القوات الأميركية التي تقوم بمواجهة «داعش» لمنعه من إقامة قواعد في منطقة البادية، يمكن أن تسهل للتنظيم إعادة تنظيم صفوفه بعد هزيمته المتوقعة في الرقة.
وأضافت الصحيفة أن هناك معارضة من بعض المسؤولين في البنتاغون لتوسع الوجود الأميركي على الأرض السورية بحجة صعوبة حماية هذه القوات في مناطق معزولة في سورية، أو في المناطق التي تتواجد فيها ميليشيات مدعومة من إيران في العراق. غير أن مسؤولاً في البيت الأبيض قلل من هذه المخاوف وأشار إلى أن توسيع الدور الأميركي قد لا يحتاج إلى مزيد من القوات على الأرض، مع القدرة الجوية الموجودة في المنطقة.
وبعيداً عن مسرح العمليات السورية جاء الإعلان عن الاصطدام الذي تم تجنبه في اللحظات الأخيرة بين مقاتلتين أميركية وروسية في الأجواء فوق منطقة بحر البلطيق قرب الحدود الفنلندية، وما اعتبرته موسكو استفزازاً مقصوداً من جانب الأميركيين، أدى إلى تهديدها باعتبار أي طائرة أميركية أو تابعة للتحالف الغربي في سورية هدفاً إذا قامت بالتحليق في منطقة شرق نهر الفرات، فوق المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
تنافس محموم على من سيحتفي بهزيمة «داعش» ومن سيخلف «خلافة» هذا التنظيم في سورية. وهكذا مع توقع سقوطه في الرقة، يظهر صراع جديد على ملء الفراغ الذي سيخلّفه هذا السقوط. صراع يدور بين النظام السوري وحلفائه الإيرانيين من جهة وقوات المعارضة السورية وحلفائها من جهة أخرى، وبالتبعية في شكل مباشر بين القوات الإيرانية والأميركية. الصراع الحقيقي هو على مستقبل سورية وموقع هذا البلد على الخريطة الاستراتيجية في المنطقة، تحت ضغط المواجهة المحتدمة بين طهران وحلفائها والميليشيات العاملة معها وواشنطن والقوى الحليفة لها. إنه الصراع الذي يمنع القوى التي يُفترض أنها جميعها متضررة من وجود «داعش» من الاصطفاف في جبهة واحدة لمحاربته، وانصرافها إلى مواجهة بعضها البعض بدلاً من ذلك.
لم تكن متوقعة تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة حول سورية، في مقابلة له الأربعاء الفائت مع ثماني صحف أوروبية. فهو كان أدلى بتصريحات مختلفة أثناء حملته الانتخابية، وحتى بعد توليه الرئاسة واستقباله نظيره الروسي. يُذكر أن ماكرون نال استحسان السوريين على موقفه الذي لا يبتعد من موقف الحكومات الفرنسية منذ اندلاع الثورة، بخلاف المواقف اليي أطلقها منافسوه في سباق الانتخابات مثل لوبن وفيّون وميلانشون. يُذكر أيضاً عدم حدوث تغير درامي في الملف السوري يستدعي انقلاباً في الموقف، وعدم حدوث تغيرات درامية دولية تخص هذا الملف، إلا إذا كان ماكرون معادياً لانخراط أميركي أكبر قليلاً مما سبق.
لتسويق موقفه الجديد، لا يتحرج ماكرون من تسويق المبررات الزائفة، الأمر الذي بات معهوداً لدى مناصري تنظيم الأسد والصامتين عن جرائمه. هكذا هي الحال مثلاً مع قوله أن "الأسد عدو الشعب السوري وليس عدو فرنسا"، فهذا الفصل الذي يبدو منطقياً ظاهراً وساذجاً مفهومياً، يقفز فوق حقيقة ارتكاب الأسد جرائم ضد الإنسانية، وفوق محاولات فرنسية سابقة لتجريمه في مجلس الأمن اصطدمت بالفيتو الروسي، ويقفز بالطبع فوق مسؤولية فرنسا كعضو دائم في المجلس، ما يحمّلها مسؤولية خاصة عن السلم الدولي.
ألا يرى ماكرون الذي لم يكن على الأرجح ليفوز بالرئاسة لولا فضائح فيون المالية وتطرف لوبن، بديلاً شرعياً للأسد على رغم جرائمه، فهذا مما يتنافى مع أبسط قواعد الديموقراطية التي أتت به إلى الرئاسة. إلا إذا كان كمنافسته السابقة لوبن من العنصرية بحيث لا يرى السوريين جديرين بأكثر من ذلك، ولا يراهم جديرين بما طالبوا به منذ اندلاع ثورتهم بحقهم في الديموقراطية، وبحقهم اللاحق في ألا يتولى رئاستهم مجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية. ذلك الحق الأصيل لا علاقة له بأي ادعاء يُساق اليوم حول تهافت المعارضة السياسية، أو حول وجود فصائل متطرفة، طالما بقي السوريون محرومين من ممارسته بملء حريتهم.
أما التخوف الذي أبداه ماكرون من تحول سورية إلى بلد فاشل فيذكّرنا بتصريحات المبعوث الدولي السابق الأخضر الإبراهيمي، لكن الفارق الزمني يجعل التخوف الآن أقرب إلى نكتة سمجة. لقد تحولت سورية فعلاً إلى دولة فاشلة منذ سنوات، ومن المخجل ألا يرى رئيس لدولة كبرى ذلك، وألا تضع له مخابراته صورة دقيقة عن انهيار بقايا الدولة في معاقل تنظيم الأسد، باعتبار الأخيرة لم تتضرر منه قصفاً وتدميراً. وإذا كان ماكرون يستلهم الكذبة الدولية التي تتخوف من مصير سوري يشابه مصير العراق إثر إسقاط نظام صدام، فالواقع الذي يفقأ الأعين أن هذه المقارنة من النواحي كافة لم تعد لمصلحة خيار الإبقاء على الأسد.
فوق المغالطات السابقة، ثمة قفز على المسؤولية الأخلاقية الخاصة بفرنسا إزاء بشار الأسد، وتلك في الأنظمة الديموقراطية المحترمة ليست مسؤولية تنقضي برحيل حكومة مع سياساتها. الإليزيه استقبل الأسد استقبال الرؤساء عندما كان يُعَدّ للرئاسة، في تجاوز للبروتوكول أيام الرئيس شيراك، وكان في هذا دعم واضح لمشروع التوريث بحد ذاته بصرف النظر عما إذا كان بشار قد خيب الآمال المعقودة عليه.
إثر اغتيال الرئيس الحريري وتوجيه الاتهام إلى تنظيم الأسد، أتت رئاسة ساركوزي لتفك العزلة عنه، وكانت الذريعة التي تُسوّق خلف الكواليس احتواءه، بدل مضيه في مسلسل الاغتيالات التي أودت بحياة كثير من الشخصيات اللبنانية آنذاك. وإذا أخذنا في الحسبان الالتزام الخاص الذي تبديه الحكومات الفرنسية إزاء لبنان، يمكن القول أن لفرنسا مسؤولية خاصة عن عهد وصاية الأسد على لبنان وتداعياتها المستمرة حتى الآن، وفي رأس التداعيات استقواء "حزب الله" على اللبنانيين ومشاركته الحثيثة في الحرب على السوريين.
في الواقع، كان للموقف الفرنسي الداعم الثورة السورية، والأشد ثباتاً حتى تصريحات ماكرون الأخيرة، أن يغطي ضعف التزام الحكومة الفرنسية تجاه قضية مؤثرة مثل قضية اللاجئين. فرنسا، بخلاف الجعجعة التي رافقت الانتخابات الرئاسية حول موضوع اللاجئين، لم تستقبل إلا عدداً محدوداً جداً من السوريين مقارنة بدول مثل ألمانيا والسويد، وهما تقليدياً غير منخرطتين في الشأن السوري، بل يؤخذ على الحكومة الألمانية عدم اتخاذها موقفاً صارماً إزاء الأسد على رغم تحملها العبء الأكبر للجوء.
في كل الأحوال، إذا كان من مصائب السوريين تجرؤ قادة دول مؤثرة في قول ما يشاؤون وتغيير مواقفهم بلا حساب أو مساءلة، فهذا لا يعني تضخيم الدور الفرنسي، وتضخيم تأثير تصريحات ماكرون الأخيرة. ذلك يتضح مقارنة بالدورين الأميركي والروسي، فقد كان لتراجع أوباما عن خطه الأحمر الشهير وإبرامه صفقة الكيماوي تأثير مدمر في القضية السورية، والجدير بالذكر أن الطيران الفرنسي كان جاهزاً آنذاك لضرب مطارات الأسد لو قرر أوباما توجيه ضربة عسكرية. كما هو معلوم أيضاً، تمّ تهميش الدور الأوروبي كاملاً في الملف السوري، لمصلحة احتكاره أولاً من موسكو وواشنطن، وبعض الدول الإقليمية بدرجة أقل أو عند اللزوم.
لذا، قد يبدو ماكرون أنه يضحي بصدقية أخلاقية من دون طائل، لولا أنه يحاول طرح نفسه كديغول فرنسي جديد، خصوصاً يبرز تمايزه عن سياسة ترامب لمصلحة توجه أكثر أوروبيةً. لكن، مع إدراك عدم تأثير الموقف الفرنسي أو الأوروبي برمته في موضوع بقاء الأسد وتنحيته، يمكن القول أن كلامه الأخير، مع رهانه على تشكيل قطب أوروبي مع ألمانيا لن يكون خبراً ساراً، وقد يؤكد ما تمّ تداوله منذ مدة عن عودة السفير الفرنسي إلى دمشق قريباً. هذا التوجه يعطي جرعة معنوية لتنظيم الأسد، بل سيُرى فيه شرعية دولية تعوّض الشرعية المفتقدة داخلياً.
التذرع بأولوية الحرب على الإرهاب قد يفيد أمام الرأي العام الفرنسي للتغطية على القبول بمجرم ضد الإنسانية، وقد يردّ الأخير الدَّيْن فنشهد انتهاء العمليات الإرهابية في فرنسا، على نحو ما توقف استهداف شخصيات لبنانية إثر استقبال بشار في باريس عام 2008. إذا تحققت هذه الغاية لن يبقى من سبب لمشاركة الطيران الفرنسي في الحرب على "داعش"، ويستطيع ماكرون القول أيضاً أن "داعش" ليس عدو فرنسا.
تبدو مسألة تحرير الرقة من «داعش» قضية وقت ليس إلا. ورغم أن قوى كثيرة تسعى من أجل الفوز بتحرير الرقة والمشاركة فيها، فإن قوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd)، هي المرشح الرئيسي على قائمة القوى للسيطرة على الرقة وتحريرها - أو أغلبها على الأقل - من سيطرة «داعش».
مسألة تحرير الرقة، تطرح سؤالا مفاده: مَن يحكم الرقة بعد تحريرها؟ والجواب البديهي، هو أن قوات سوريا الديمقراطية هي التي ستحكمها، وهو أمر جرى التفكير فيه منذ أن لاح في الأفق موضوع تحرير الرقة، وطرد «داعش» منها، قبل عدة أشهر، وقد أكدت قوات سوريا الديمقراطية هذا التوجه، يوم سربت قرار تشكيل مجلس للإدارة المحلية، يضم أكراداً وعرباً وآشوريين، يتبنى توجهات الإدارة الذاتية، التي تتبناها سوريا الديمقراطية، وتسعى إلى تعميمها، ليس في شمال وشرق البلاد، بل في كل الأنحاء السورية، التي يمكن أن تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
وتشكل سيطرة سوريا الديمقراطية على الرقة، وتولي إدارتها، موضوعاً خلافياً في الواقع السوري. وأساس الخلاف في الموضوع يستند إلى ثلاثة أمور أساسية: أولها رفض سيطرة الأكراد على الرقة، ليس لوجودهم المحدود في المدينة، إنما بفعل أن أكراد pyd، يمكن أن يحكموا الرقة، وهم جماعة متهمة بممارسة التطرف والسياسة العنصرية من جانب سكان الرقة والأغلبية العربية في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا، وتجلى ذلك في أوقات سابقة من الصراع السوري، ولا سيما في عملية تحرير تل أبيض من تنظيم داعش، وقد أكدت تقارير - بينها تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» - محتويات تلك السياسة في عنصريتها وتطرفها.
الأمر الثاني في رفض سيطرة أكراد pyd على الرقة، وتولي إدارتها من جانب سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، اتهام المعارضة السورية وخاصة المقربة من تركيا، بعلاقة هؤلاء بنظام بشار الأسد، وفي الأبعد من ذلك بالعلاقة مع النظام الإيراني، وهي اتهامات لها بعض المظاهر الواضحة في سياسات وممارسات pyd، ويبرر الأخير بعضها بالمصالح المشتركة والطارئة، التي تظهر في إطار الصراعات والتوافقات، التي تشهدها الحرب المتواصلة في سوريا، مما يجعل البراغماتية أساس السياسة وليست المبادئ.
الأمر الثالث في معارضة تولي pyd حكم الرقة، يكمن في رفض السياسات التي تطبقها الإدارة المدنية في مناطق سيطرتها، والأهم فيها ثلاث نقاط: أولها سياسة التجنيد، حيث يتم سوق الشباب للانخراط في قوات سوريا الديمقراطية دون رغبتهم، وبالتالي جعلهم أدوات لتطبيق فكرة الإدارة الذاتية وتعميمها. والنقطة الثانية تتعلق بالتعليم، حيث يفرض التعليم باللغة الكردية على المدارس، بخلاف رغبة أهالي المنطقة. والنقطة الثالثة الاستيلاء على أملاك الغائبين من السكان، ووضعها بتصرف الإدارة الذاتية. وقد أثارت النقاط الثلاث خلافات في كل مناطق سيطرة pyd، سواء مع العرب والآشوريين والتركمان.
إن البديل المطروح لحكم الرقة بعد تحريرها، هو أن يحكمها أهلها، وهو شعار رائج وشعبوي، لكنه شعار يطرح كثيراً من الإشكالات، لعل الأبرز فيها، أن عشرات آلاف الرقاويين غادروا المدينة في سنوات الصراع، وقسم كبير منهم لاجئون في تركيا وفي بلدان أبعد منها بكثير، ولا أمل في عودة سريعة لأكثرهم، ومن تبقى في الرقة في سنوات سيطرة «داعش»، يتوزعون بين قليل منهم مال إلى عزلة مغرقة، وقسم كبير منهم بايع التنظيم خوفاً أو اقتناعاً بآيديولوجيته الإرهابية المتطرفة، وبالتالي لا يمكن تسليمهم إدارة الرقة، على الأقل قبل التحقق من مواقفهم وعلاقاتهم، خاصة أن «داعش» يطبق فكرة الخلايا النائمة، ومن المؤكد، أنه ترك في الرقة خلايا نائمة على نحو ما فعل في مناطق أخرى، اضطر إلى الانسحاب منها أو التخلي عنها في سياق الحروب مع خصومه، على أمل العودة إليها لاحقاً.
وإذا كانت فكرة عدم إمكانية حكم الرقة من قبل قوات سوريا الديمقراطية وpyd نتيجة تحفظات كثيرة، يطرحها خصومهما، فإن حكم الرقة من قبل سكانها تحيط بها التباسات، لا تقل أهمية عن التحفظات، فليس من المقبول احتمال عودة «داعش» للرقة تحت أي ظرف كان.
إن البديل الممكن لحكم الرقة، أن يحكمها مجلس خارج القوتين المطروحتين وامتداداتهما، والمجلس في هذه الحالة، قوة تنتمي إلى ثورة السوريين بأطروحاتها الوطنية والديمقراطية، التي عبرت عنها الرقة في حراكها المدني والسلمي ضد نظام الأسد، وجسدتها بصورة عملية ولو لفترة قصيرة بعد خروج الرقة من سيطرة النظام، وقبل أن تقع أسيرة سيطرة المتطرفين وصولاً إلى سيطرة «داعش» عليها، وإعلانها عاصمة لدولة التطرف والإرهاب، لكن مثل هذا الخيار غير ممكن عملياً؛ لأن المنتمين لهذا الاتجاه صاروا أضعف من أن يحكموا الرقة أو غيرها من المدن السورية.
ووضع كهذا يطرح فكرة تحالف ثلاثي، يقوم على برنامج من نقاط مشتركة، تراعي وضع الرقة واحتياجاتها العاجلة ومستقبل المدينة وأبنائها، يتشارك فيه سكان الرقة الحاليون، وما تبقى من ممثلي الحراك الوطني الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية، لكن حصول مثل هذا التحالف، يكاد يكون مستحيلاً في الظرف الحالي، وتحيط به صعوبات كثيرة داخلية وخارجية، الأمر الذي يؤشر إلى أن مأساة الرقة ستظل ماثلة في المدى المنظور، وأن فكرة عودة الحياة إلى طبيعتها هناك بعد طرد «داعش» منها، أبعد ما تكون عن الواقع، وأن ما يمكن أن يحصل هناك هو مجرد فصل جديد من مأساة مدينة، ثارت على نظام لأسد من أجل حياة ومستقبل أفضل، وما زالت في الطريق ذاته رغم مرور سنوات طويلة ومعاناة كثيرة.
يحذر قول سوري من إدخال الدب إلى الكرم لحراسته، لأنه سيكون الحارس والمستولي على الكرم في آن معا. لكن هذا القول ورغم سدادة تفكير من وضعه، فإنه لم يقنع بشار الاسد، الذي هرول فزعا إلى الدب الروسي يستجدي حمايته، من ثورة كادت تكنسه، بعد أن استنجد بحزب الله في إبريل 2013 الذي لم يفلح بقضه وقضيضه، ودعم ولاية الفقيه في طهران له سلاحا وعتادا، في صد المد الثوري، وتقدم الثوار على جبهات عدة.
في موسكو التي وصلها بشار على متن طائرة شحن روسية، أعطى موافقته على كل الشروط الروسية، من بناء قواعد عسكرية وبحرية، وعدم التعرض للقوات الروسية التي ستكون لها اليد الطولى في سورية لضرب الثورة السورية، تحت غطاء» محاربة الإرهاب»، وهو شعار النظام السوري لتبرير قتل الأبرياء المطالبين بالحرية، بإلباسهم ثوب الإرهاب. وقد تشجع فلاديمير بوتين بتنازلات بشار، ووجد في العرض الأسدي فرصة ذهبية لضرب عصافير عدة بحجر واحد: بناء قواعد روسية لتثبيت حضور روسيا العسكري في منطقة البحر المتوسط، قطع الطريق على خط أنابيب الغاز القطري عبر الأراضي السورية (خط أنابيب الغاز الذي كان مزمع انشاؤه عبر الأراضي السورية، وربطه بخط أنابيب نابوكو لتزويد تركيا وأوروبا بالغاز القطري)، امتلاك الورقة السورية لإبرازها في وجه أوروبا وامريكا في حال التفاوض بالشأن الأوكراني، إعادة إظهار روسيا كلاعب دولي اساسي، بعد تراجع دورها إثر انهيار الاتحاد السوفييتي.
وقد شجعت إدارة أوباما الروس بطريقة غير مباشرة على الدخول في المغامرة السورية، بعد أن تراجع الدور الامريكي في عهد أوباما، الذي ترك لروسيا وإيران حرية التصرف على الاراضي السورية، وبعد أن تراجع عن خطوطه الحمراء في ما يخص استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة، ورغم تحذيرات اسرائيل لإدارة أوباما من تنامي الخطر الإيراني.
ففي أواخر شهر سبتمبر 2015 بدأت طائرات السوخوي والميغ قصف مواقع المعارضة، مدعية أنها تحارب المنظمات الارهابية «داعش» و»النصرة»، مع القناعة الأكيدة بأن المسألة لن تطول، وأن أسلحتها الفتاكة التي جربت إلى الآن، أكثر من مئتي سلاح جديد في رؤوس الأطفال السوريين وأمهاتهم، كفيلة بحسم الموقف خلال أسابيع عدة، أو بضعة شهور على أقصى تقدير، لكن حسابات الحقل لا تطابق بالضرورة حسابات البيدر.
فاليوم ومنذ ما يقارب العامين لا تزال الطائرات الروسية تقصف مواقع الثوار، من دون أن تنجح في القضاء عليهم، خاصة في درعا والغوطة الشرقية، رغم النجاح النسبي الذي حققته في بعض قرى ضواحي دمشق، أو في حلب. وتيقنت موسكو من أن الحل العسكري بمفرده لن يؤتي أكله، ما لم يرفق بحل سياسي مفصل على مقاسات الرغبة الروسية، في عدم قتل الراعي ولا الذئب، مع التضحية ببعض الغنم.
وقد سارعت الخطى باتجاه إنشاء منصات سياسية «لمعارضات معتدلة» في القاهرة وموسكو، تقوم بدور «المشوش» على المعارضة السياسية للثورة السورية، المتمثلة بالائتلاف الوطني واللجنة العليا للمفاوضات (التي تحافظ على مواقفها الثابتة في انتقال السلطة الكاملة، ورحيل بشار الأسد، حسب قرارات جلسات جنيف الخمس) وإنشاء مسار جديد للمفاوضات بعيدا عن جنيف، مخصصا للفصائل العسكرية في آستانة، لشق صف المعارضة واعتبار الفصائل المسلحة هي المخولة بالتفاوض في مسائل ميدانية على أقل تقدير، ورغم الزخم الذي بدأ فيه إلا أنه بات متعثرا كمسار جنيف، بعد جولاته الست، التي أطالت أمد الصراع، وبقاء الأسد ونظامه، فبعد أربع جولات من المفاوضات التي حاولت فرض وقف إطلاق النار، من دون نجاح، لأنها اي روسيا اول من انتهكه، ثم رسم خرائط لمناطق «تخفيض التوتر»، التي لم تسفر عن نجاح يذكر أيضا، لأن أول من اخترق هذا الاتفاق هم الروس أنفسهم.
ولم تنجح موسكو إلى الآن في تحديد موعد للجولة الخامسة لآستانة، بانتظار انتصارات جديدة في درعا والغوطة، تساعدها في الضغط على المعارضة للقبول بالشروط الروسية، وعلى رأسها بقاء الاسد، «ولو صورة»، لإضفاء شرعية ما على التدخل الروسي، وإرضاء الحليف الإيراني، الذي لم يدع عميلا من عملائه إلا واستدعاه وزجه في ميليشيات بتسميات مختلفة تذكر بالدولة الفاطمية (فاطميون، زينبيون) تقوم طائرات الروس بتغطية قواتها وقوات الميليشيات الأخرى، التي يصعب على المرء حصرها (حزب الله اللبناني، حزب الله العراقي، عصائب الحق، الحشد الشعبي، الحرس الثوري، لواء أبو فضل العباس، كتائب القدس، كتائب سيد الشهداء، كتيبة الزهراء، كتيبة العباس، لواء اسد الله، لواء الامام الحسن، لواء الإمام الحسين، منظمة بدر) ويضاف إليها ميليشيات عقائدية بعثية وقومية ( البعث اللبناني، والقوميون السوريون، وفلول من قوميجين من دول عربية مختلفة)، ورغم كل هذه الحشود المختلطة، والطيران الروسي والسوري، التي ترتكب يوميا عشرات المجازر بقصف جوي بحق الشعب السوري، إلا أنها ما زالت بعيدة عن تحقيق آمالها بالقضاء على الثورة، وبدا أن روسيا باتت منهكة اقتصاديا جراء التكاليف الباهظة للحرب في سورية، وهي تبحث عن إنهاء مهمتها باقل الخسائر الممكنة، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من المكاسب، لكن عوامل عدة دخلت على الخط تعرقل المسار الروسي ـ الاسدي ـ الايراني، وهو التواجد الامريكي شمالا داعما القوات الكردية في حربها ضد «داعش» وامتداد سيطرتها على مساحات واسعة في الشمال ومنطقة الرقة، وجنوبا في منطقة التنف والحدود السورية الاردنية داعمة فصائل الجيش السوري الحر، للسيطرة على منطقة الجنوب، وقد قامت بنشر صواريخ هيمارس بعيدة المدى ذات القدرة التدميرية الكبيرة، كتحذير واضح لإيران وميليشياتها بعدم الاقتراب من التنف. وهذا لم يكن متوقعا من الادارة الامريكية السابقة في عهد اوباما. وهذه المنطقة التي ستكون بمثابة منطقة آمنة بحراسة أمريكية، ما يجعل الجغرافيا السورية مقسمة على عدة مناطق نفوذ روسية ـ ايرانية ـ أسدية، ومناطق تركية في الشمال، ومناطق امريكية، ومناطق تسيطر عليها المعارضة في الغوطة الشرقية تدعمها دول خليجية، وعدة مناطق متفرقة في إدلب، والمنطقة الواقعة بين حمص وحماة، والمنطقة المتاخمة للجولان، وهذه المناطق الموزعة على الخريطة السورية، تذكر إلى حد ما بخريطة البوسنة والهرسك إبان الحرب الأهلية، التي انتهت بتقسيم البوسنة كواقع على الارض، والحال السورية تقترب كثيرا من هذه الحالة، أو على أقل تقدير إلى فيدرالية تسيطر على مناطقها القوى المتواجدة فيها، وبمفهوم آخر تفتيت سورية وشعبها بعد أن تم تدميرها وتهجير نصف السوريين، وقتل نصف مليون سوري مع مئات آلاف الجرحى، والحبل على الجرار، في ظل ضعف المعارضة، والصمت الدولي، وتلاعب الدب الروسي الذي دخل الكرم السوري ولن يخرج منه، ولا يرى في عودة سورية موحدة ذات سيادة بأنها تناسب مخططاته الاستراتيجية بعيدة المدى، لأنه يخشى أن أي حكومة منتخبة تحظى بالشرعية الشعبية والدولية على كامل تراب سورية المحررة من سلطة النظام الأسدي، وميليشيات ايران أن تطلب منها الرحيل، بعد أن عاثت في سورية فسادا ودمرت مدنها، فهذا السيناريو يقض مضاجع بوتين، الذي يفضل التعامل مع نظام أسدي مهلهل يقع تحت سيطرته، يضمن دون اي احتجاج بالوجود الروسي على الاراضي التي تقع تحت سيادته (سورية المفيدة) إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. ولكن في رمال سورية المتحركة لا ضمان لأحد أن يحتفظ بما لديه كلاعبي البوكر المهددين دائما بالخسارة، حتى لو حققوا مكاسب في بداية اللعب.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القادم من عالم البنوك والمال يعاني كما يقول خبراء من نقص في علم السياسة الخارجية. هذا النقص قال محللون آخرون إنه سيعوضه بخبراء فرنسيين متخصصين في هذا المجال. وقال متفائلون إن انتخابه هدية من السماء لوقف تضعضع الديمقراطية والإيمان بالليبرالية وحقوق الإنسان على يد اليمين الشعبوي المتصاعد. لم تدم فرحة المتفائلين طويلا، حيث أعلن ماكرون الأربعاء في لقاء صحافي أنه يؤمن بالسياسة الواقعية التي ترتكز في أهم أسسها على استبعاد الأخلاق، إذا ما تصادمت مع المصلحة وذلك على عكس السياسة المثالية التي ترى أن الأخلاق عنصر أساس في تحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
ماكرون الوافد لاستنهاض أمل الاتحاد الأوروبي بالوحدة وبالحرية وحقوق الإنسان، رأى أن سياسة فرنسا السابقة في ليبيا وسوريا خطأ كبير، وأنها، أي تلك السياسة، مسؤولة عن الإرهاب الذي، برأيه، يخرب العالم. ماكرون اعتبر أن الحل الواقعي أن يبقى بشار الأسد لأنه لا يوجد بديل شرعي له ليحكم السوريين! ذهب ماكرون، وبغض النظر عن وهن مقولته وما تستتبعه بأن الأسد حاكم شرعي وليس متسلطا، إلى أبعد من ذلك ليبرر في ظل النظرية الواقعية الجديدة ممارسات وسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حليف الأسد وداعمه. وينقل عن بوتين، في معرض التبرير وكشف السياسة الروسية، أن لبوتين هدفين أساسيين: محاربة الإرهاب، ومنع تحقق الدولة الفاشلة. لم يقل ماكرون شيئا عن سياسات بوتين وممارساته في جورجيا وسوريا بل كل ما قاله إنه يختلف معه فقط في أوكرانيا.
لننس نقدنا الأخلاقي لماكرون، لأن الضعف الأخلاقي أصبح تهمة دامغة وعارا يلاحقه، ولننظر إلى ما يتجاوزه وهو الواقعية السياسية التي يؤمن بها. ماكرون يرى أن الحل هو التعاون مع روسيا لوضع خارطة طريق لسوريا عبر الحوار الدبلوماسي وليس عبر الحل العسكري، وأن تكون تلك الخارطة ضامنة لحقوق الأقليات، وأن فرنسا ستفرض ولو لوحدها حماية خطوط الإمدادات الإنسانية في سوريا، وستعاقب الأسد إن استخدم السلاح الكيماوي.
يعرف ماكرون تماما أن الأسد استخدم السلاح الكيماوي، ومع ذلك يقبل به رئيسا شرعيا، ويعرف أيضا أن من حمى الأسد من العقاب الدولي هو روسيا، ولكنه يتعاون مع الروس لحل دبلوماسي. هذه يسميها ماكرون واقعية سياسية، لكن ما لم نعرفه في علم الواقعية هو كيف سيضمن ماكرون استجابة الروس له ويقبلون بحلول يراها، وفرنسا ليس لها أي وجود على الأرض السورية، ولا نعرف أيضا موقف الأميركان من قراره المفاجئ، لأنهم الأكثر والأقوى انتشارا على الأرض السورية. في غياب التفسير لهذه الأسئلة تصبح هذه السياسة الواقعية سياسة انهزامية وتتحول إلى تسليم الأوراق لآخرين تحت يافطة هذه الواقعية المصطنعة. هكذا يرسب ماكرون في امتحانيْ النظرية المثالية الأخلاقية والنظرية الواقعية.
في سوريا توجد قوى خارجية وداخلية على الأرض إلى درجة بلغ تشابكها تعقيدا يصعب تفكيكه، ويصعب تخيل الخروج منه بلا مشاكل. فسوريا لم تعد مشكلة سورية بل مشكلة أكبر لها ارتباطات بملفات إقليمية ودولية وأهمها إقليميا الدور الإيراني، وأكبرها دوليا الموقف الأميركي من التغول الروسي على الديمقراطية الأميركية وعلى النفوذ الأميركي في المنطقة وكذلك الخلاف بين دونالد ترامب والمؤسسات العميقة في أميركا حول روسيا.
في خضم هذا التعقيد تدخل إقليميا تركيا كمتضرر كبير من الأزمة السورية، وكلاعب أساس في حلها أو في إشعالها. ماكرون لم يقل لنا شيئا عن ذلك، بل كل ما قاله هو انسحابه من الموقف الأخلاقي، ومجاراته لبوتين طمعا في استقطابه وإقناعه بالتراجع عن عدوانيته في أوروبا بعدما أعلن الرئيس ترامب عن نيته التخلي عن أوروبا في أي مواجهة روسية أوروبية.
هكذا يمكن فهم التحول الماكروني من باب سياسة موازين القوى التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر، واستمرت إلى غاية الحرب العالمية الثانية، والتي تقوم على مبدأ التعويض عن غياب قوة كبيرة (أميركا) بالتعاون مع قوى أقل، لإحداث توازن يضمن السلام والأمن للدولة المعنية وهي هنا فرنسا أو الاتحاد الأوروبي الجديد. لكن مبدأ توازن القوى لم يضمن الأمن ولم يجلب السلام، والدليل حربان عالميتان كبيرتان دمرتا الأخضر واليابس.
يواجه ماكرون تحديات كبرى في الداخل الفرنسي وفي الخارج. داخليا عليه أن ينتشل فرنسا من التراجع الاقتصادي، وأن يحميها من العولمة، وهو في الوقت ذاته ممثل العولمة، ومناصر تخفيض دور الدولة في حياة الأفراد. ماكرون سيصطدم كسلفه فرانسوا هولاند بقوة القطاع العام في الدولة، وسيخوض حروبا معه، ولن يكون لديه وقت كاف للقضايا الخارجية.
أما على المستوى الخارجي، فإن ماكرون يحاول حماية أوروبا من الانفراط، ومنع دول أوروبا الشرقية من الجنوح إلى المثال البوتيني، وفي الوقت ذاته يحاول أن يوازي الغياب الأميركي، وأحيانا تحديه في قضية المناخ العالمي، ويحاول أن يبرز كحامل للراية الليبرالية والمشعل الأخلاقي اللذين يعتبر أن ترامب أسقطهما من سياسات أميركا.
هذا هو ماكرون وهذه هي سياسته، وعند النظر فيها والتدقيق في دقائقها، يتبين بسرعة أنه يفتقد بالفعل للخبرة في السياسة الخارجية، وتنقصه الشجاعة الأخلاقية، ويريد أن يغطي على هذا العجز بسياسة يعتبرها واقعية، لكنها في الواقع سياسة مخالفة للواقعية بكل المعايير.
كان الأجدى بماكرون أن يعترف بأن فرنسا ليس لها دور مؤثر في النزاع، وأن يشرح لمواطنيه وللعالم أن الحرب السورية تقترب من نهايتها وأن المؤثرين فيها هم أميركا وروسيا وإيران وتركيا، وأن التدخل الأميركي بموافقة عربية (الأردن ومجلس التعاون الخليجي) هو لوقف جماح الروس ومنعهم من تقرير مستقبل سوريا.
ما يجري في سوريا الآن هو سباق للسيطرة على الأرض، وبعدها يبدأ التفاوض، إما بالمزيد من السلاح وإما بحوارات دبلوماسية. في هذا السباق والحوار فإن انتصار أميركا يعني انتصارا إقليميا لحلفائها، وانتصار روسيا هو انتصار لإيران والأسد. في سوريا صراع يزداد حدة ليس لقتال تنظيم داعش، لأنه انتهى، بل للسباق على السيطرة وتقرير مصير سوريا.
هذا الصراع المأزوم لا اعتبار فيه لحسابات الشعب السوري ولا لمستقبله، ولا ينظر فيه إلى مبدأ الشرعية وفق معايير موضوعية، بل المهم في هذا الصراع معرفة من يربح وماذا يكسب.
ماكرون تجنب كل هذه الإشكاليات لأن المسألة لديه لم تعد متعلقة بدور فرنسا في المنطقة، ولا بدورها في حماية حقوق الإنسان، بل كيف يضمن لفرنسا أمنا يحميها من حفنة متطرفين، يعرف هو ويعرف الجميع، من يقف وراءهم وما هي الأسباب التي أدت إلى ظهورهم، لكنه يفضل في ضوء الضعف الفرنسي وغياب الأوراق من يديه في سوريا أن يجعلهم القضية الكبرى؛ لذلك لم يستح حين قال: الأسد عدو للشعب السوري لكنه ليس عدوا لفرنسا. شكرا ماكرون، وهنيئا لك ولفرنسا ولليبراليين بهذا الصديق.
خمس ضربات أميركية خلال فترة شهر في محيط قاعدة التنف قرب الحدود السورية - العراقية استهدفت النظام السوري وميليشيات محسوبة على طهران، أولها في ١٨ أيار (مايو) الفائت تزامن مع إجراء واشنطن محادثات سرية مع روسيا في الأردن حول إنشاء مناطق للتهدئة جنوباً.
جلوس المفاوض العسكري الأميركي مع نظيره الروسي في نفس الوقت الذي كانت طائراته تستهدف قوات موالية لإيران (لحقها استهداف قوات النظام السوري وطائرة سوخوي ٢٢ وأخرى استطلاعية)، يلخص الاستراتيجية الحالية لإدارة دونالد ترامب في سورية. فظِلُ إضعاف إيران وقطع الطريق عن ممر عراقي - سوري - لبناني لها يهيمن على تحركات وأفكار مجلس الأمن القومي الأميركي الجديد، فيما يبقى السعي لإبعاد موسكو عن طهران أولوية للإدارة في مقاربتها للحل السياسي والتحركات العسكرية في النزاع.
إضعاف إيران لا يعني بالضرورة خوض مواجهة عسكرية مباشرة معها في سورية. فاليوم إيران تحارب بميليشيات عراقية وسورية ولبنانية وهي ليست بحاجة ولن تقدم على مواجهة عسكرية مباشرة ضد أقوى جيش وطيران حربي على وجه الأرض. أما واشنطن فهي تعول على تحالف كردي- عربي أي «قوات سورية الديموقراطية» لزيادة نفوذها في الطريق لهزيمة داعش وما بعد ذلك. وهي، أي الإدارة الأميركية، كما أكدت في البيانات الخمسة التي لحقت الضربات الجوية في محيط التنف، لا تسعى إلى مواجهة مع الأسد أو قوات موالية للنظام، إنما «لن تتردد في الدفاع عن التحالف أو القوات الشريكة لدى تعرضها لأي تهديد».
أميركياً، هذه اللهجة من الفريق الدفاعي لترامب تختلف عن نبرة الرئيس السابق باراك أوباما والذي تفادى لسنوات إغاظة اللاعب الإيراني في سورية خوفاً من ارتدادات عكسية على المفاوضات حول الاتفاق النووي، وأيضاً خوفاً من استهداف طهران لقوات أميركية خاصة وتدريبية في العراق وسورية. اليوم، استبدل هذه الحسابات هوسٌ بالتصدي لإيران داخل البيت الأبيض. فمستشارو ترامب معظمهم من خريجي الدفعات العسكرية في حرب العراق بينهم مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر ومساعديه ديريك هارفي وجول رايبرن، ووزير الدفاع جايمس ماتيس. ولكل منهم تجربة مع تفجيرات إيرانية الصنع استهدفت الجيش الأميركي أو صواريخ تم توجيهها إلى المنطقة الخضراء.
هذا لا يعني بالضرورة وجود استراتيجية متكاملة لترامب للتصدي لإيران عدا عن التكتيكات الأولية وحماية القوات المتحالفة مع واشنطن والتي تحارب داعش. وهو ينسجم مع أولويتي ترامب في المنطقة بالتشدد حيال طهران وهزيمة ما يسميه الرئيس الأميركي بـ «الإرهاب الإسلامي المتطرف».
وفِي هذه المعركة في سورية، غضت واشنطن النظر عن مصير الرئيس السوري بشار الأسد، وهي تحاول استمالة اللاعب الروسي. فبعد إسقاط السوخوي الأحد الفائت، حرصت واشنطن على تهدئة موسكو التي لوحت بقطع قناة عدم الاشتباك مع الجانب الأميركي.
هذه القناة وعلى الأقل الجانب الهاتفي منها ما زال مفتوحاً كما قال رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي جوزيف دانفورد. في وقت يسعى البيت الأبيض والخارجية الأميركية تخفيف حدة التشنج مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإقناع الكونغرس بالتراجع عن سلة العقوبات الجديدة التي سيفرضها على روسيا وإيران في مشروع قرار واحد.
السعي إلى التقارب مع روسيا في سورية هو نتاج عاملين، الأول الخوف الأميركي من تصعيد أكبر مع موسكو تكون له انعكاسات وخيمة أبعد من الشرق الأوسط وتصل القارة الأوروبية. وثانياً انطلاقاً مِن قناعة تبنتها إدارة أوباما وبعدها إدارة ترامب بأن مفتاح الحل السياسي في سورية هو في موسكو، وأنه لا وجود لتضارب في المصالح الاستراتيجية بين القوتين في حال وافق الكرملين أو بقِيَ على الحياد في حشر واشنطن لإيران إقليمياً.
في انتظار اللقاء المنتظر بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين والذي يرجح حصوله في 20 تموز (يوليو) المقبل في هامبورغ على هامش قمة العشرين، تبقى العلاقة بين الدولتين خاضعة للتجاذب والتصادم بالواسطة حيناً، ثم ضبط المواجهة، لاسيما في سورية، أحيانا أخرى.
وإلى أن يحصل اتفاق بين الدولتين العظميين يبدد التوتر القائم بسبب العقوبات الأميركية والغربية على موسكو والخلاف على تقاسم النفوذ في أوروبا، فإن الكثير من الأحداث في ميادين الصراع تبدو عصية على الفهم.
إنها مطاردة متبادلة بالواسطة، بين روسيا وأميركا، تثير المخاوف من إمكان صدام خطير بينهما.
لكن هذا لا يعني حتمية هذا الصدام المباشر، بقدر ما يعني أنّ كلاً من الجانبين يرسم حدوداً للآخر يأخذ في الاعتبار مصالح الخصم، والرغبة الدفينة في تفادي أي اصطدام، طالما أن كلاً منهما يمكنه الاتكال على حلفاء يتولى الحد من اندفاعهم لكسب المواقع الميدانية، فيدفع هؤلاء الحلفاء الثمن بالنيابة عنه ويتعرضون للخسائر بدلاً منه.
وفي كل مرة يقترب الروس والأميركيون من المواجهة المباشرة، يحصل اتفاق ما على كبح هذا الاحتمال الخطير، عبر رسم حدود لمناطق نفوذ في سورية. هكذا، تنفذ قوات النظام وميليشيات إيران هجوماً على درعا في الجنوب، وتتقدم ميدانياً نحوها بغطاء قصف روسي مدمر من الجو على مدى 10 أيام، لكن ما تلبث المعارضة أن ترد على هذا التقدم وتنزل خسائر كبيرة بالمهاجمين من «حزب الله» والميليشيات الأخرى والقوات السورية، بعد أن تدفقت أسلحة أميركية نوعية إلى «الجيش الحر»، منها صواريخ «تاو». وبعدما تخوف مَن راقب التصعيد في درعا من تكرار سيناريو حلب فيها، نظمت موسكو وواشنطن عبر محادثات بينهما في الأردن، اتفاقاً على تكريس منطقة آمنة في جنوب سورية، تثبّت أرجحية الوجود الميداني لـ «الجيش الحر» (مع اتفاق على محاربة «داعش»)، وفي ظل تواجد لجيش النظام على الطريق المؤدية إلى المدينة، فيتم لجم الاندفاعة الأسدية الإيرانية.
ويرد النظام وحلفاؤه الإيرانيون بفتح جبهة الغوطة بقصف عنيف جوي ومدفعي، ومحاولة اقتحام حي جوبر مرة أخرى، في الأيام الماضية، فيتكبدون خسائر جديدة، وتقتل قوات المعارضة منهم أعداداً كبيرة وتأسر إيرانيين ومن «حزب الله»، ويمتد القصف إلى أحياء قريبة من دمشق.
خرقت المعارك في هاتين المنطقتين اتفاق آستانة مطلع شهر أيار (مايو) الماضي، على اعتبار الجنوب والغوطة الشرقية من ضمن مناطق خفض التصعيد الأربع، (يضاف إليهما محافظة إدلب وشمال حمص)، وبدت روسيا وإيران دولتين ضامنتين للاتفاق، على أنهما غير معنيتين به أو تتلاعبان ببنوده، فيما بدا الضامن الثالث لآستانة، أي الجانب التركي، كالزوج المخدوع، لأن همه محصور بما يجري في الشمال وهاجسه فقط دور القوات الكردية في محاصرة الرقة، فمن مهمات «الضامنين» وفق نص الاتفاق «ضمان وفاء الأطراف المتصارعة بالاتفاقات».
لكن رسم حدود تواجد حلفاء كل من الدولتين في درعا كان مؤشراً إلى خفض احتمالات المواجهة نتيجة ما كان يحصل على جبهة معبر التنف السوري الذي اقتطع الأميركيون النفوذ فيه لمنع قوات الأسد وإيران من وصل الطريق بين طهران وبغداد ودمشق، حيث قصف الأميركيون هذه القوات عند اقترابها من المعبر، وأسقطوا طائرة استطلاع إيرانية، وأسقطوا طائرة حربية سورية قصفت «قوات سورية الديموقراطية» الموالية لواشنطن أثناء استكمالها حصار الرقة، فالجيش الأميركي رسم حدوداً لمحاولة التفاف القوات الإيرانية- العراقية- الأسدية على معبر التنف هي المدى الذي تبلغه الصواريخ التي نشرتها حول المعبر (80 كيلومتراً). لم يدم مفعول التهديد الروسي باعتبار أي جسم طائر معادياً لها، في الأجواء السورية، رداً على إسقاط المقاتلة السورية طويلاً. فواشنطن خففت من وطأة العملية بالقول إنها كانت في إطار الدفاع عن النفس وسعت لاستعادة التنسيق حول الطلعات الجوية لقصف مواقع «داعش».
يعمق التنافس على استثمار الحرب ضد «داعش» في الرقة وملء الفراغ الذي يتبع التخلص منها، الفوضى على الساحة السورية بحيث تحتاج كل من موسكو وواشنطن إلى رسم مناطق نفوذ كل منهما بالنيران، في انتظار اتفاقهما على الحلول. تزداد الفوضى بفعل أجندة اللاعب الإيراني وصولاً إلى استخدامه صواريخ متوسطة المدى في قصف دير الزور رداً على منعه من فتح الحدود لقواته. ومع أن الجانب الروسي يستفيد من هذه الأجندة تارة، فإنه يغض النظر عن لجمها على يد خصمه الأميركي تارة أخرى، لأن الحد من طموحات طهران لن يتم قبل اتفاق بوتين وترامب.
يبدو إصرار السوريين على المضي في ثورتهم مدهشاً بعد أن حل بهم من الفواجع والمآسي ما تتصدع له الجبال الراسيات، ويبدو أن بعض دول العالم وجد في الثورة السورية فرصة موائمة لإعادة ترتيب النظام الدولي، فروسيا الصاعدة ضد نظام القطب الواحد سارعت بالعودة إلى الحضور الدولي القوي بعد أن أهملها الأميركان والأوروبيون وراحوا يعاقبونها كما يعاقبون دولاً ضعيفة! وأما إيران فقد جاءتها الفرصة النادرة لإعلان طموحها الإمبراطوري الفارسي بعمامة إسلامية، ولاستعراض مكانتها العسكرية في المنطقة! وقد بدت الولايات المتحدة أضعف من أي توقع في عهد أوباما، وبدا الاتحاد الأوروبي نفسه مرتبكاً قلقاً من تصاعد حضور بوتين ومن غموض الموقف الأميركي. وأما الجامعة العربية فقد دخلت في موت سريري، على رغم كون انتصار النظام على الشعب ستكون له تداعيات كارثية على الأمة العربية كلها، لأنه سيعني انتصار إيران وامتداد نفوذها إلى عمق المتوسط، فضلاً عن خطر تطويق الأمة من الشمال إلى الجنوب. كما أنه يعني أيضاً بقاء مشكلة اللاجئين معلقة بلا حلول، فلا أحد من ملايين السوريين اللاجئين والنازحين يطمئن إلى العودة إلى دياره وتسليم نفسه لنظام سينتقم من كل من خرج ضده. ومن المفارقات أن النظام أعدم أربعة سوريين عادوا إلى سوريا من إحدى الدول العربية لأنهم وضعوا علامة (إعجاب- لايك) على منشور مضاد للنظام في الفيسبوك! والمفجع أن حالات التوحش صارت عادية في معاقبة خصوم النظام.
وإزاء غياب الإرادة الدولية عن إيجاد حل للقضية السورية، والتحول إلى إدارة الصراع بدل البحث عن حل له، وبعد التحولات الكبرى في المواقف الدولية من القضية السورية، وإلهاء المعارضة بمفاوضات جنيف العبثية، والانتقال الصوري إلى مفاوضات آستانة، أصاب المعارضة وهنٌ سياسي، كان بعضه انعكاساً للخسارات العسكرية التي ألحقتها روسيا وإيران بقوى الجيش الحر الذي سبق أن خاض معارك ضد «داعش» وضد كل التنظيمات المتطرفة وفقد الكثير من قواه، دون أن يتمكن من تعويضها بسبب انقطاع الدعم. وقد رفض المطالب الدولية بأن يتوقف عن الدفاع عن الشعب وأن ينضم إلى جيش النظام وينصرف لقتال «داعش» وحدها، منهياً معركته مع الاستبداد باستسلام كامل! وقد تفاءلت المعارضة بعد وصول الرئيس ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة عسى أن تجد موقفاً أفضل وأقوى في مجلس الأمن من موقف الإدارة السابقة، وما تزال المعارضة تنتظر ظهور الرؤية الأميركية، وجدية أصدقاء سوريا في فرض حل سياسي وفق القرارات الدولية. وقد حاولت موسكو كما هو معروف أن تنقل المفاوضات إلى آستانا، وأن تبعد عنها الهيئة العليا للتفاوض كي تتخلص منها ومن مظلة مجلس الأمن، ولكن المعارضة ودول أصدقاء سوريا ظلوا متمسكين بشرعية جنيف، وسيتابعون الإصرار على مسار التفاوض السياسي دون أن يؤثر ذلك على مسار العمل الثوري. وحسبنا ما نجد من المقاومة الوطنية المدهشة في درعا اليوم وهي تصد جيوش إيران ووحشية «داعش» والطائرات المعادية تقذف الحمم والبراميل المتفجرة. وقد تمكن الجيش الحر في درعا أن يفشل المخطط الفارسي في الاستيلاء على الجنوب السوري، وهو مستمر في المعركة، رغم أنها غير متكافئة. كما أن القوى الوطنية السورية في الشمال تشارك بقوة في تحرير المناطق التي يسيطر عليها «داعش»، وكنا نصرّ على أن تشارك قوى الجيش الحر في هذه المعارك، ولاسيما أن الجيش الحر هو أول من واجه «داعش» ووقف ضد كل تطرف وإرهاب.
ولكن السوريين جميعاً يشعرون بأنهم في متاهات البحث عن حلول، فلا أمل عندهم في إيجاد حل في جنيف مهما ثابرت هيئة التفاوض لأنها لا تجد من تفاوضه بل إن المفاوضات مع النظام لم تبدأ بعد، ولن يتنازل النظام عن شيء وهو طليق لا أحد يحاسبه وعنده دعم بلا حدود. والسوريون يستنكرون مفاوضات آستانا التي ازداد التصعيد العسكري بعدها بدل أن ينخفض، كما أنهم يشعرون بضعف حضور الائتلاف وحاجته إلى إصلاح جذري. وبعضهم يبحث عن بدائل ويطالب بوجود جسد ثوري جديد، وقد اشتعلت وسائل التواصل بحوارات ساخنة تعبر عن حالة من القلق الوجودي، ولكن ما يحمي السوريين من الضياع في الشتات عبر تغريبة يخشون أن تطول، هو وعيهم لكون الانكسار خروجاً من التاريخ والجغرافيا معاً، ولكون الانتصار انتصار بقاء ووجود وليس مجرد انتقال سياسي.
سجلت سابقتان في الحروب الدائرة على الأراضي السورية خلال الأسبوع الماضي: إسقاط الأمريكيين لأول طائرة تابعة للنظام الكيماوي قرب مدينة الرقة، وإطلاق إيران لصواريخ بعيدة المدى من الأراضي الإيرانية باتجاه مدينة دير الزور.
وتشير الحادثتان معاً إلى خلاصة واحدة مفادها أن الأمريكيين في حالة دفاعية أمام الهجوم من المحور الروسي ـ الإيراني، ويشمل ذلك محاولات هذا المحور المتكررة للسيطرة على المنطقة الحدودية السورية ـ العراقية قرب معبر التنف، وصد الأمريكيين لتلك الحملات، وآخرها إسقاط الأمريكيين وحلفائهم الميدانيين في التنف للدرون الإيرانية الصنع مساء الثلاثاء 20 حزيران الجاري.
يبدو مستغرباً، للوهلة الأولى، أن يخاطر طيران النظام الكيماوي بدخول منطقة العمليات الرئيسية لطيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في الحرب على داعش، مهاجماً قوات «سوريا الديموقراطية» الحليفة لواشنطن التي تحاصر الرقة. فهذا الاحتكاك يقوض كل ادعاءات النظام، ومعه ظهيراه الإيراني والروسي، برغبتهم في المشاركة في الحرب على داعش، فضلاً عن مخاطر اختبار العزم الأمريكي.
ولكن إذا نظرنا إلى ردة فعل الأمريكيين على الحادثين، اتضح أن ما يقال عن ارتباك الإدارة الأمريكية بشأن سياستها في سوريا ما زال يحتفظ بصحته. فقد مضى الآن أكثر من شهرين ونصف على ضرب قاعدة الشعيرات الجوية قرب حمص، وما تبعها من تصريحات أمريكية حادة تجاه النظام الكيماوي، وصولاً إلى وصف ترامب لرأس هذا النظام بالحيوان، وما زال الأمريكيون في حالة دفاعية تجاه المحور الروسي ـ الإيراني الذي لم يبد أي علامة على استعداده لتقديم تنازلات أو تراجعات. الإدارة الأمريكية التي دأبت، طوال الأشهر الماضية، على إطلاق تصريحات نارية ضد إيران، لم تكد تقول شيئاً ذا قيمة عن الصواريخ الإيرانية التي أطلقت باتجاه دير الزور، وهي المرة الأولى التي تطلق فيها إيران صواريخ مماثلة إلى خارج أراضيها منذ نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية في أواخر الثمانينيات، أي منذ ما يقارب ثلاثين عاماً. ومن المحتمل أن إسرائيل نفسها أحست بخطورة هذه السابقة الصاروخية الإيرانية، برغم معرفتها أنها ليست مقصودة برسالتها الضمنية الموجهة أكثر إلى الأمريكيين ودول الخليج العربي.
هذا الارتباك الأمريكي هو الذي يشجع المحور الروسي – الإيراني، إذن، على مواصلة اختبار الخط الافتراضي الفاصل بين «سوريا المفيدة» المتروكة للروس و»سوريا ما بعد داعش» إذا صح التعبير التي تريد أمريكا الاحتفاظ بها منطقة لنفوذها المديد. ارتباك لا يخص الحرب في سوريا وحدها، بل ظهر أيضاً في الموقف من الخلاف الخليجي ـ الخليجي، فتضاربت التصريحات بين البيت الأبيض والخارجية، مما يشير إلى أزمة إدارة ترامب الداخلية أساساً. ومن المحتمل أن التنمر اللفظي الروسي في أعقاب إسقاط الطيران الأمريكي لطائرة السوخوي قرب الرقة، يعتمد على تلك «القطبة المخفية» -إلى الآن- في علاقة ترامب وفريقه المفترضة بالحكم الروسي منذ حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام الماضي.
من مفارقات الموقف الأمريكي في سوريا، هذا التساهل الغريب مع هجوم النظام وحلفائه الشرس على مدينة درعا، مقابل الحزم الأمريكي في الحفاظ على منطقة معبر التنف وجواره، على رغم أهمية درعا في الحسابات الأمنية الأردنية والإسرائيلية. وبدلاً من غرفة «الموك» التي كانت تدعم الجبهة الجنوبية وتتحكم بمسار المعارك وحدودها، نرى اليوم «مفاوضات سرية» أمريكية ـ روسية في عمان، يفترض أنها وصلت إلى تفاهمات. فإذا كانت نتيجة هذه التفاهمات هي ترك درعا ليستولي عليها النظام وحليفه الإيراني، فهذا من عجائب سياسة إدارة ترامب، ويعني أنها فعلاً لا تملك أي سياسة في سوريا. وهو ما يتعارض مع الحزم الأمريكي الواضح على طول «الخط الاستراتيجي» الممتد شرقاً من التنف إلى محافظة الرقة شمالاً، وتم اختباره مراراً من قبل الإيرانيين والروس.
بالمقابل، لا يخلو الموقف الروسي أيضاً من الارتباك. فإذا كانوا واضحين في دعمهم لسيطرة عميلهم في دمشق على كامل مساحة «سوريا المفيدة» غرباً، فهم أقل حماسةً في دعم محاولاته للتمدد نحو الرقة والطرق المؤدية إلى دير الزور. وجاءت تصريحات لافروف، في أعقاب إسقاط طائرة السوخوي التابعة للنظام الكيماوي، كأنها تعترف بالتخلي عن «تركة ما بعد داعش» في الرقة، وربما دير الزور لاحقاً، للأمريكيين، مقابل الاحتفاظ بالتملك الحصري للأراضي الواقعة غرب نهر الفرات. ولكن يبدو أن الإيرانيين لم يصلوا بعد إلى هذا التسليم أمام الأمريكيين. وهو ما نراه في مواصلة القوات البرية التابعة للنظام والميليشيات التابعة لإيران محاولاتها المستميتة لنيل حصة ما من تركة داعش في الشرق. محاولات ذهبت بعيداً في المغامرة إلى حد الاصطدام بقوات سوريا الديموقراطية ـ أهم الحلفاء الميدانيين لأمريكا ـ بعد سنوات من علاقة هي أقرب إلى التعاون منها إلى الخصومة.
منذ سنوات، والحرب الداخلية في سوريا هي حرب، أو حروب، بالوكالة بين قوى إقليمية منخرطة في سوريا. وكان أحد أركان السياسة الأمريكية في سوريا، في عهد باراك أوباما، هو ترك هامش حركة واسعاً للقوى الإقليمية للانخراط في الحرب السورية، إيران وتركيا والسعودية وقطر، وبدرجة أقل الأردن ومصر والعراق. أما اليوم فنحن أمام انخراط عسكري أمريكي أكثر في الحرب السورية، ليس فقط بسلاح الطيران، بل كذلك بقوات برية يزداد عددها باطراد، وقواعد أرضية ثابتة، وتعزيزات بأسلحة أكثر تطوراً.
هل تندلع الحرب بالأصالة بين الأمريكيين من جهة والروس والإيرانيين من جهة أخرى، بصورة مباشرة، على الأراضي السورية وفي أجوائها، بعد الانتهاء من معركة الرقة؟ المرجح أن أحداً من القوى المذكورة لا يريد ذلك. فالمحور الروسي – الإيراني يضغط وفقاً لسياسة حافة الهاوية، مختبراً الحزم الأمريكي في كل خطوة. والإدارة الأمريكية أكثر انشغالاً بالمعارك السياسية الداخلية الدائرة حول البيت الأبيض، من أن ترغب في الانخراط بحرب غير معروفة النتائج، بعد سنوات من سياسة الانسحاب.
ولكن من يدري؟ أليس إشعال نار حرب كبيرة في الخارج مخرجاً للأزمات الداخلية لدى الحكام المأزومين؟
يحيّر السوريين السؤالُ عن إمكانية الحل السياسي وموعده أكثر مما يحيرهم أي سؤال آخر. أما حيرتهم المعذّبة، فمردُّها فقدانهم الثقة بوجود حل في ظل خروج قضيتهم من أيديهم، وعجزهم عن ممارسة أي تأثير جدي ومنظم على الممسكين بأوراقها، من الأجانب والعرب، ناهيك عن افتقارهم إلى قيادة، وتهافت دور ممثليهم الذين يبدون أقرب إلى المتفرج على مأساتهم، منهم إلى جهةٍ تتابع أهدافاً يرتبط بها مصير الملايين منهم الذين ينتظرون حلاً يرد الكارثة عمّن لم تبتلعهم بعد محارق ومجازر الأسد وإيران وروسيا.
لمتابعة التطورات التي تلعب دوراً تقريرياً بالنسبة للحل، يجب أن نتوقف عند بناء عسكر واشنطن، منذ نيف وعام، قواعد عسكرية على الأرض السورية، تمتد من شمالها وشرقها إلى جنوبها الغربي، تشكل، مع مثيلاتها في شمال العراق، بنية استراتيجية متكاملة، قد تكون بديل البنية التي فشل الأميركيون بإقامتها في العراق، بعد غزوه بين عامي 2003 و2010. هذه البنية ترابط فيها قوة عسكرية عديدها عشرة آلاف جندي وضابط، يمتلكون مدافع ودبابات وراجمات صواريخ وطائرات وسفناً حربية، كلفوا بقطع طرق إمداد إيران إلى سورية ولبنان، وبإغلاق الحدود العراقية مع سورية، والمساعدة على طرد "داعش" من محور الرقة/ دير الزور/ الميادين/ البوكمال الذي ستتولى إدارة مدنه وقراه مجالس مدنية منتخبة وفصائل من الجيش الحر. بعد إنجاز هذه المهام، يأمل الأميركيون أن يحدث تحوّلٌ مفصليٌّ في الوضع السوري يبدل حسابات الروس، ويحد من قدرة إيران على معارضة تفاهم دولي على حل، والأسد على إحراز نصر عسكري.
هل تبني واشنطن هذا الوضع العسكري في سورية، لكي تخوض حرباً بقواتها المباشرة ضد إيران والنظام وروسيا، أو لأنها تريد التراضي مع موسكو على حل سياسي، انطلاقاً من التوازن العسكري بينهما، أو من تفوقها عليها. وفي الحالتين من إنهاء انفرادها بالشؤون السورية؟ بغض النظر عن أن للانتشار الأميركي مهام تتخطى سورية إلى الإقليم، وخصوصاً منه إيران، فإن فاعليته كانتشار مستقر تتطلب العمل لإيجاد بيئةٍ تضمر حلاً سياسياً، يلبي مصالح روسيا أيضاً، ويقلص مصالح إيران ودورها في إدامة الصراع السوري. ما هي التنازلات التي ستطلبها كل دولة من الأخرى؟ سيقرّر الرد على هذا السؤال صورة الحل وهويته، وما إذا كان تقاسم النفوذ السياسي والحضور العسكري بين الدولتين سيتعارض مع وحدة سورية دولة ومجتمعاً، أو سيكتفي بطمر نيران الصراع تحت رماد تفاهمهما وحسب. سيعزّز توازن القوى بين روسيا وأميركا فرص الحل السياسي الذي يعطله اليوم أمران: بدائله التي تطورها روسيا بصورة منفردة، وعدم اكتمال البناء العسكري الأميركي، وبالتالي محدودية قدرته على تنفيذ مهمته الرئيسة: منع إيران من الوصول البري الحر إلى سورية ولبنان، الذي سيحقق عسكر واشنطن، لكونه يحدد استباقياً جزءاً رئيساً من نتائج المعركة ضد طهران التي ستبلغ أوجها بعد لف سورية بحزامين أرضيين، سيمتد أولهما من شمال العراق إلى المتوسط بمحاذاة الحدود التركية، وثانيهما من حدود العراق الشمالية إلى الأردن وفلسطين بمحاذاة حدود إيران الأمنية، وسيضع قيامهما "سورية المفيدة" الروسية بين فكي كماشة، لن تكون إسرائيل بعيدة عنها، ربما كانت ضرورية لإقناع الروس بالتخلي عن إيران، مقابل تقليص دور تركيا السوري.
هل سيكون الحل موضعياً يطبق في موقع واحد، ثم ينتقل تدريجياً إلى غيره، بحيث يسهل تنفيذه في ظل وقف إطلاق نار شامل يسبقه، يتيح انصراف القوتين الكبيرتين إلى ضبط أوضاعهما داخل سورية وخارجها، والتحكم بمشكلاتٍ قد يتسبب بها هذا الطرف أو ذاك، وخصوصاً إيران؟ أعتقد أن الحل المتدرج، في ظل وقف إطلاق نار شامل، ويسمح للسوريين بالعودة إلى وطنهم، يمتلك فرص نجاح حقيقية، سيزيد منها التزام الدولتين بهدف جنيف: نقل سورية إلى الديمقراطية بديلاً للنظام الأسدي.
تبني أميركا قاعدة استراتيجية، سيكون إنجازها لحظة فارقة في الصراع على سورية وفيها، ستأخذنا إما إلى حلٍّ بتراضٍ أميركي/ روسي، شامل أو متدرج، أو إلى خوض صراعٍ مباشر بقواهما العسكرية، سيبدل جذرياً طابع الصراع الذي عشناه حتى الآن، يجعله توازن قواهما من دون جدوى أو عائدٍ لأي منهما، بينما يتيح الحل لهما ملاحقة أهدافهما غير السورية أيضاً. أي هذين الاحتمالين يرجّحه توضع القوتين عسكرياً في سورية؟ هذا ما سنعرفه في الأسابيع القليلة المقبلة.