دفعت الموصل ثمن استعادتها من «داعش» غالياً. قتل ودمار وخراب ستستلزم عقوداً طويلة لنسيانها وموازنات ضخمة لإعادة بنائها. ولا نعلم حقاً إذا كان من الممكن ترميم الدمار الذي لحق النفوس والمشاعر بسبب تجاوزات من يفترض فيهم تحرير المدينة من طائفية «داعش» العنيفة والحدّية، فبدا كما لو أن بعض هؤلاء المحررين أتى فاتحاً وغازياً، لا مستعيداً لمدينة في وطنه. وهذا تماماً ما حصل في سورية، في حلب وحمص وغيرهما، وكما لا بد حاصل في الرقة التي التفتت الأنظار إليها الآن في عملية التطهير الواسعة ضد «داعش» التي تحركها الولايات المتحدة ويلعبها فرقاء محليون لا يبدو أنهم يتذكرون أن الملعب الذي عليه يلعبون لعبتهم الخطرة والقذرة كان يوماً ما وطنهم.
حدث مهم بين أحداث عدة مؤسفة في تحرير الموصل ثارت حوله الخلافات التي تصاعدت حدة الكثير منها، كما دأبنا اليوم في خلافاتنا، للوصول إلى حد الاتهام بالعمالة أو الخيانة أو التطاول على الجيش وقوات «الحشد الشعبي» التي بذلت الكثير في سبيل تحرير المدينة من «داعش» (طبعاً بعد أن كانت قد فقدتها ببلاهة وقصر نظر هائلين قبل ثلاث سنوات)، وهي كلها مواضيع مقدسة لا يجوز المساس بها في خطابنا العربي المأسور ضمن عقلية إقصائية بائسة. هذا الحدث هو تدمير منارة الجامع النوري الحدباء في ٢١ حزيران (يونيو) وتبادل الاتهامات بين الأطراف المتصارعة عن مسؤولية تدميرها التي لم تحسم بعد. هذه المأذنة التي أعطت اسمها للمدينة في صفة محببة، وإن كانت تشير إلى عيب في بنائها، صمدت على مر القرون. فقد أمر ببنائها نور الدين محمود ابن زنكي الأمير التركي الذي وحد سورية الداخلية وأجزاء كبيرة من شمال العراق في مسعاه لاسترداد فلسطين من الصليبيين، ومصر من الفاطميين الإسماعيليين، وعموم سورية من الأمراء المتناحرين عام ١١٧٢. سياسة التوحيد التي اتبعها نور الدين ترافقت مع سياسة تسنين واضحة لدى هذا الأمير المتدين والطموح الذي وعى أن توحيد الجبهة الداخلية عقائدياً وسياسياً ضروري لمقاومة المد الصليبي الذي كان هدفه الأول.
مأذنة الجامع النوري في الموصل كانت كل ما بقي من جامع نور الدين. ولا يبدو لي أن تدميرها جاء نتيجة ضرورة عسكرية أو بسبب ضغط العمليات ضد «داعش»، بل لا بد أنه كان مقصوداً، تماماً كما كان تدمير مأذنة الجامع الأموي الكبير في حلب يوم ٢٣ نيسان (ابريل) ٢٠١٤ فعلاً متعمداً أيضاً. فالمأذنتان ترمزان الى الفترة ذاتها والسعي ذاته والعقلية ذاتها. كلتاهما نتاج العائلة الزنكية التي حكمت في سورية والعراق نحو القرن والتي استطاع أعظم أمرائها نور الدين محمود (وليس زنكي كما يخطئ الكثيرون في كتابة اسمه) استعادة زمام المبادرة في الحروب الصليبية وتمهيد السبيل أمام النصر الهائل الذي حققه صلاح الدين، الذي كان أحد قواده العسكريين، عام ١١٨٧ في معركة حطين واستعادته القدس إثر ذلك.
نور الدين بنى مأذنة الموصل في آخر سنوات حكمه، ومأذنة حلب بنيت على مراحل لكن إتمامها بالروعة التي كانت عليها تم على عهد آقسنقر، جد نور الدين ومؤسس الدولة التي عرفت فيما بعد بالزنكية أو الأتابكية، عام ١٠٩٤. أي أن المأذنتين مرتبطتان بطريقة أو بأخرى بنور الدين وبذكراه، وتدميرهما يحمل في طياته رسائل عابرة للزمن عن أحقاد وثارات لم تمت بعد بل تفاعلت وتطعمت بوقائع العصر الحديث وسياساته وتحالفاته لتكسب بُعداً آنياً. تدميرهما هو في الحقيقة تشويه متعمد للتاريخ.
لكن من دمرهما؟ هل هم الشيعة الذين لم يغفروا لنور الدين سياساته القمعية ضد شيعة سورية، بخاصة في حلب، بعد أكثر من تسعة قرون؟ أم هم «الداعشيون» الذين لم يهضموا أن يكون هناك أمير سني مجاهد من طراز نور الدين ولكنه في الآن نفسه متصوف ومتأله يعتقد بشيوخ الصوفية ويراعي مشاعر مدارس السنّة كلها؟ أم النظامان في العراق وسورية اللذان، كل لأسبابه، يحملان ضغينة عميقة ضد الوجه السني للمدينتين؟ أم القوات المحاربة الحليفة، خصوصاً الأميركية في العراق، التي لا تقيم وزناً للتراث الثقافي للبلاد كما أثبتت غير مرة؟ هم أي من هؤلاء؟ لعلنا نتمكن يوماً من تحديد المجرم الحقيقي في كلتا الحالتين بما أن الأدلة المتوافرة الآن، على الأقل بالنسبة لمراقب بعيد مثلي، غير كافية لتحديد الفاعل. لكنّ المدمرين الحقيقيين بنتيجة الأمر هم نحن كلنا، بثقافاتنا المتعادية وخطاباتنا الطائفية ونوازعنا التي لا ترضى إلا أن تستثمر في التاريخ كما لو أنه أداة عقائدية وسياسية في أيدينا نفعل به ما نشاء، نتشارك فيه مع البعض ونحرمه عن البعض الآخر.
كلنا مسؤول عن التدمير الهائل اللاحق بالبلاد وعن تدمير معالمها التاريخية عمداً كما في حالة المأذنتين، أو عرضاً كما في حالة مبانٍ أخرى لا تحصى، وفي شكل خاص تلك التي تنتمي للفترات ما قبل الإسلامية. فنحن كمواطنين وكثقافة لم نرق يوماً إلى مستوى الإحساس بأن تراث بلادنا كله تراثنا وأن المحافظة عليه واجبنا كلنا، وأن التركيز على معانيه السياسية وتقسيمه بين تراث مقبول وآخر مرفوض يستحق الإزالة، إنما يخالف في الآن نفسه المعنى الحقيقي للانتماء للوطن وللمحافظة على التراث. التراث الوطني كل كامل متكامل يصلنا بماضي الأرض التي عليها نشأنا والحضارات التي تتالت عليها والتي كونت ثقافاتنا شئنا أم أبينا. والمحافظة على هذا التراث بكامله، بغض النظر عن حقبته أو بانيه، واجب وطني وأساس من أسس بناء الوطن في الآن نفسه. كلنا مسؤول عن ذلك، وكلنا مسؤول عن التدمير الذي حاق بتراثنا، ببطء وإهمال قبل الحروب الطائفية، وبحقد وضغينة وتشفّ خلال الحروب التي تعاني منها بلادنا اليوم.
يبقى نور الدين، ذلك الأمير المجاهد والمفترى عليه من كارهيه ومحبيه على السواء. قبره في دمشق انتظر طويلاً قبل أن يحصل على بعض العناية. وذكراه أُهملت في الكتب المدرسية ربما بسبب ألق صلاح الدين الذي استكمل جهاده، وربما لأسباب أخرى عرقية أو طائفية أو حتى من منطلق الجهل المعشش في ذاكرتنا الجمعية. لكن نور الدين، على تسننه ومحاربته للتشيع، كان أميراً عظيماً. فهو الذي وضع أسس التسامح السني بسبب من دعمه للتصوف، الذي كان وما زال أفضل ترياق للمغالاة والتشدد، وبسبب من رعايته للمدارس الفقهية كلها على رغم انتمائه للمدرسة الحنفية، كما كل الحكام الأتراك. وهو الذي وضع أسس استراتيجية الاستعادة التي اتبعها الأيوبيون والمماليك من بعده وحرروا سورية من الصليبيين. وهو إلى ذلك كان زاهداً عادلاً ومحنكاً، وهي صفات لا نجدها في أي من حكامنا الحاليين.
يغيب مؤتمر جنيف ونتائجه عن العناوين الرئيسية في الصحف العربية والأجنبية. يبدو أن اسم المدينة الأكثر أمناً في العالم يجذب سياحاً، لكنه لم يعد جاذباً للمهتمين في الشأن السياسي، وتقلصت قدرتُه على زيادة عدد قرّاء المواقع الإخبارية، فالسوريون المفترض أن يهتموا بمتابعة مجريات المؤتمر يعرفون، سلفاً، مقرّرات هذه النسخة منه، والتي تحمل رقم 7، ومتأكدون أنها غير معدّة للتنفيذ في الوقت الحالي، خصوصاً أن الجميع منصرفٌ إلى متابعة الخطة الأميركية الروسية الجارية لعزل القطاع الجنوبي في سورية عن حمم النار والاقتتال، والتي يتوقع أن تكون بداية هدنةٍ شاملةٍ تمهد لحل متكامل، أو لتقسيم البلاد.
ليس الحل بالتأكيد انتقالاً سياسياً بالشكل الذي تنتظره المعارضة، وأعادت تكراره على لسان مندوبها، خالد خوجة، في أروقة جنيف، وقد صار يقيناً أن الوصول إلى ذلك يحتاج وقتاً طويلاً، بعد تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عقب لقائه نظيره الأميركي دونالد ترامب، مؤكداً ما قاله، في 21 من الشهر الماضي، إن بلاده لم تعد تعتبر رحيل الأسد شرطاً لحل الصراع، واعترف أن هناك "تغييراً فعلياً" في سياسة فرنسا تجاه سورية. ومن هنا، نستطيع استنتاج وجهة النظر الأميركية أيضاً التي يمثلها زائره ترامب..
يستمر الأسد الذي يحظى بدعم سياسي وعسكري غير محدود من الحليف الروسي في محاولات قضم أراضٍ تقع تحت سيطرة المعارضة، وتدعمه مليشيات إقليمية، ترى في غض الطرف الدولي فرصةً مهمة للتقدم ميدانياً، وأولوية النظام الحالية هي عزل الغوطة الشرقية المشمولة بقرار "خفض التوتر"، بهدف التمكّن من السيطرة عليها لاحقاً، وهو ينعم براحة بالٍ مؤقتة، متابعاً ما يجري في الشمال السوري، حيث الاقتتال بين الكتائب المعارضة يحدث متكرّراً، كالاشتباك الذي جرى، قبل أيام، بين أحرار الشام وهيئة تحرير الشام (المحسوبة على القاعدة) قرب الحدود التركية. يأتي هذا الاشتباك وغيره في سياق "حرب الآخرين" التي تجري على الأرض السورية منذ أكثر من ست سنوات، في وقتٍ لا يزال فيه الحل السياسي متوارياً خلف ساتر ضبابي، تحتضنه مدينة جنيف.
الراضون بما نتج عن جنيف يُعدون على أصابع اليد، وأولهم المبعوث الأممي الخاص، ستيفان دي ميستورا، الذي نجح في تحديد تاريخ سبتمبر/ أيلول المقبل موعداً لعقد الجولة المقبلة من سلسلة هذه المؤتمرات. والتفاؤل مفهوم، حيث تكاد مهمة المبعوث تنحصر بالحصول على موافقة الأطراف المتنازعة على الاستمرار في حضور المؤتمرات التالية، ما سيكفل له وظيفةً مستمرةً في الأمم المتحدة بصفة مبعوث أممي! وثانيهم مندوب النظام السوري، بشار الجعفري، الذي أكد أن لقاءه بالمبعوث الخاص كان "جولة مفيدة"، استلزمت منه تكرار عبارة "مكافحة الإرهاب" أمام المبعوث، ومجموعة صغيرة من الصحافيين، كانت تنتظره خارج قاعة الاجتماع. ومع أن الجعفري أكد لأحد الصحافيين أنه تحدّث "بإسهاب" عن الاعتداءات الأميركية والإسرائيلية على الأراضي السورية، لكنه لم يسرِّب نتائج هذا الحديث المسهب، وهو يتعامل مع الأوضاع منذ سنين بالأسلوب نفسه، وتبدو الأمور سهلةً بالنسبة له، ولا تحتاج بذل جهدٍ للابتكار، فقط التأكيد على رسالتين، واحدة موجهة إلى الخارج تقول بأولوية مكافحة الإرهاب، وأخرى إلى الداخل تطمئن المؤيدين بأن النظام لن يسمح بتكرار الاعتداءات على سورية، وإن كَذَب..
الأسد الذي يستفيد، منذ سبع سنوات، من عامل الوقت، ويسعى إلى نقل المدن المدمرة إلى سلطته، وإن كانت البيوت المهدّمة لا تنفع أهلها، فهي تنفعه في تحقيق القبول الدولي به على أنه أمرٌ واقع، لن يكون المستقبل خالصاً له، فحل كارثةٍ إنسانية بهذا الحجم يحتاج إلى إحراق كبش كبيرٍ لرشوة من فقدوا بيوتهم وأهاليهم، ولتسديد فاتورة زعماء العالم الذين انسحبوا من اللعبة طائعين، وسمحوا لروسيا بفرض هيمنتها فوق تلك البقعة المشتعلة من العالم.
لست ممن يصدّقون أن أميركا فاشلة إلى الحد الذي حال، نيفا وستة أعوام، بينها وبين انتهاج سياساتٍ تخدم مصالحها في سورية. ولا أصدّق أن الرئيس السابق، باراك أوباما، نجح في فرض سياساته الشخصية على مؤسسة بلاده العسكرية، ودهاقنة برلماني كونغرسها، وأساتذة جامعات ومراكز التفكير والبحث فيها، التي تستشار عادة قبل أي قرار، وتشارك فيه عند اتخاذه. لو كانت سياسات أميركا محكومةً بالقدر الذي يتحدث بعضنا عنه من الفشل والعجز حيال منطقةٍ هي الأهم استراتيجيا، والأغنى نفطيا وماليا في العالم، لما كانت الدولة الأعظم، ولما أمسكت، منذ قرن ونصف القرن، بمفاتيح السياسات والمصالح الدولية، وألزمت بقية العالم باحترام الأطر، التي تحدد أوضاع دوله المختلفة.
إذا كانت خطط واشنطن في سورية قد استهدفت تحويل ثورتها إلى بؤرة استقطابٍ واقتتالٍ ينخرط فيها خصومها الروس والإيرانيون، ومرتزقتهم والإرهابيون، وكانت قد حققت ما هدفت إليه، هل تكون خططها فاشلةً وسياساتها متخبطة؟. وإذا كانت قد قرّرت إطالة أمد الحرب إلى أن يتلاشى النظام العربي، ويفقد تماسكه ماديا ومعنويا، ليسهل تفكيك دوله، وإعادة تركيبها في صيغ جديدة، تنفيذاً لاستراتيجية "الفوضي الخلاقة" التي أعلنتها وزيرة خارجية بوش الابن، كوندوليزا رايس، عام 2003، وإذا كانت الحرب قد طالت بالفعل، وأدت إلى تفككٍ خطير في كيانات العرب المجتمعية والدولية في طول منطقتنا وعرضها، هل نعتبرها فاشلة، كما دأبنا على وصفها خلال عهد أوباما؟. وإذا كانت قد رسمت خطوطا حمراء ألزمت مختلف القوى بالامتناع عن لعب دورٍ يتعارض معها في سورية، وحظرت تزويد الجيش الحر بأي سلاح، يمكنه حسم الصراع من جهة، وتقييد أدوار من تورّطوا في المستنقع السوري من جهة أخرى، أين يكون فشلها وضعفها وتخبطها؟. هل تجرأ طرفٌ ما وأرسل أو أوصل صاروخا واحدا مضادا للطائرات إلى أي مقاتل من أي فصيل يحارب النظام وإيران وروسيا؟
يعترف اليوم من بيدهم القرار الأميركي في إدارة الرئيس دونالد ترامب بأن أوباما "حفر حفرة عميقة" لن يكون من السهل على من سيليه في الرئاسة الخروج منها، في كل ما يخص الشأن السوري، أو إحداث تبدّل جدّي في سياسات واشنطن السورية. إذا كان هذا صحيحاً، هل نكون هنا أيضاً إزاء تخبط وفشل؟ وهل ما تقوم به العسكرتاريا الأميركية في شمال سورية والعراق، وما أقامه أوباما من علاقات تعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وقواته، وأشرف على تنفيذه في الأسابيع الأخيرة من ولايته، وأسس بواسطته قاعدة استراتيجية أميركية قوية في الشمال السوري، يسوّغ اتهامه بالفشل والتخبط وفقدان الاتجاه؟ إذا كان هدف سياسة واشنطن في شمال سورية والعراق يركز أساسا على حضور طويل الأمد يعوّضها عن فشلها في احتلال العراق، إبان عهد جورج بوش الابن، هل يكون أوباما الذي أسس هذا الحضور، وحول الصراع في سورية إلى فرصةٍ أمسك بقوة بها، أوصلت المنطقة إلى الهاوية التي تجد نفسها فيها، ونقلتها إلى طورٍ أخرج مصيرها من أيدي دولها وأبنائها، وشرع يهدّد كياناتها ويفتتها على أسس طائفية وفئوية، يعتمدها النظام الأسدي وإيران وحزب الله، وكذلك داعش وجبهة النصرة، أين يكون التخبط والضعف في سياسات البيت الأبيض الأوبامي؟.
ثمّة ثوابت لم تحد واشنطن عنها قيد أنملة، طوال فترة الصراع السوري. وقد حققت في كل واحدةٍ منها نجاحاتٍ مفصلية، يتوّجها اليوم حضور عسكري مباشر، يزداد كثافةً وديناميةً في الجغرافيا السورية، يتجاهله، على الرغم من ذلك، من يصرّون على خرافةٍ ترى أن أميركا تهمل الشأن السوري، وتتركه لروسيا، وعلى عدم الاهتمام بما يقوله جنرالاتها بشأن تصميمهم على إبقاء قواتهم عشرين إلى ثلاثين عاما في سورية والعراق، وهي فترة استبعد أن يستمر الصراع السوري الراهن خلالها.
كان من المحال لأي دولةٍ، غير أميركا، تحويل ثورة داخلية ومحلية ضد نظام استبدادي إلى بؤرة تستقطب وتكثف صراعات دولية وإقليمية وعربية وسورية، لم يكن أحد غير دهاقنتها يستطيع تحقيقه وإدامته، وصولا إلى إغراق إيران وروسيا والإرهاب الدولي في لججها، وقلبها إلى نقلة نوعية على طريق اقتتال شيعي/ سني متعاظم، بدأت ترعاه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتخلق صراعا دولياً جديداً ضد العالم الإسلامي، عبر عنه كبار كتابها واستراتيجييها، ما لبثت أن فجّرته وأدارته باسم بلدان الشمال المتقدمة، ليس من المحتم أن تنخرط مباشرةً فيه، كي تتحكّم به وتجني منافعه بالشروط التي ستحدّدها له، وأهمها تحوله إلى فوضى دموية كالتي تعيشها سورية: الساحة الراهنة لهذه السياسة وضحيتها.
لا يتخبط الأميركيون ولا يخادعون. إنهم ينتهجون استراتيجيات تتخطى سورية، نجحت في قلب ثورة شعب صغير ضد نظامه إلى بؤرةٍ كونيةٍ لصراعاتٍ جرّت إليه القوى الأخرى. إذا كان هذا هو الفشل، فكيف يكون النجاح؟. وكيف نخرج من محرقةٍ نجد أنفسنا فيها، لن نتخطّاها إطلاقا إذا ما واصلنا التجاهل بعد الصراع، الكوني ومتعدّد المستويات والجوانب، الدائر في بلادنا، ولا دور لنا فيه غير فشلنا في تخطّي متاهات غيابنا عن وعيه، في حين تخترق خيوطه منذ نيف وستة أعوام العالم كله، بقوةٍ لا مثيل لها، سنبقى ضحاياها ما دمنا عاجزين عن تخطي أوضاعنا الراهنة؟.
تمارس روسيا دورها في الصراع السوري، باعتبارها صاحبة صلاحيات مطلقة، وتتصرّف وكأنها انتزعت كامل القرار من النظام، الذي يعتبرها "حليفته"، على الرغم من محاولات إيران المستمرة زعزة هذه الثقة الروسية، سواء من تصريحات رسمية، تفيد أنها غير معنيةٍ بالاتفاقات التي يبرمها الجانب الروسي مع الأميركي، أو عبر تحركاتٍ لقواتها أو المليشيات "الشيعية" التابعة لها، كحزب الله اللبناني وعصائب الحق وكتائب أبو الفضل العباس وألوية زينبيون وفاطميون العراقية والأفغانية وغيرهم، على الأرض.
ويظهر من ذلك أن موسكو تتابع تركيب قطع اللوحة، بحسب المشهد الذي يعزّز حضورها دولة عظمى شريكة للولايات المتحدة الأميركية، وإنْ بنسبةٍ أقل من النصف، وتوضّح دورها في سورية للشعب الروسي، وللمنظومة الدولية، وللسوريين، من خلال حجم التلاعب في هذا الصراع، وقدرتها على تغيير مواقع كل اللاعبين فيه، سواء من السوريين أو من الدول المتصارعة على سورية، وخصوصاً إيران وتركيا.
منذ دخولها رسمياً إلى حيز العمل الميداني في الصراع على سورية، في العام 2015، استطاعت روسيا أن تصل بالحرب إلى أقصى درجات قسوتها، حيث استباح طيرانها كل المحرّمات، وكل ما استعصى سابقاً على النظام ومن يسانده (إيران ومليشياتها)، بحيث تمكّنت من رسم خريطة جديدة للصراع، بإعادة تموضع صداقاتها وعداواتها. هكذا، فبعد وقوفها على حافة الحرب مع تركيا، استدارت لتعقد صفقة صداقةٍ معها، على حساب الموقف التركي من استراتيجية "تحرير" المعارضة للمدن السورية، كما أعطت لإيران أدواراً بأحجام مختلفة، بدأت بإطلاق يدها في مناطق الريف الدمشقي، وانتهت إلى إخراجها من المنطقة الجنوبية لدمشق، درعا والقنيطرة والسويداء، حسب الاتفاق الروسي الأميركي الأخير، في وقتٍ استرجعت فيه حلب للنظام، وشهدت تهجير السكان والتغيير الديمغرافي الذي أشرفت عليه إيران، من حمص حتى ريف إدلب، مروراً بريف دمشق المجاور للحدود اللبنانية.
وقد تابعت روسيا، باهتمام ملحوظ، خلافات المعارضة البينيّة، وتمكّنت من دعم مجموعات منها، على حساب تصغير أدوار كيانات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والهيئة العليا للمفاوضات، منذ جولة مفاوضات جنيف 4 حتى جنيف 7، التي انتهت أخيراً، بنتائج غير مرئية للمعارضة (الهيئة العليا للتفاوض) التي أعلنت أن لا تقدم فيها، بينما خرجت موسكو من هذه الجولة بعدة "انتصارات":
أول هذه "الانتصارات" أنها فرضت بشكلٍ لا يقبل الشك أن الطريق إلى جنيف يبدأ من الدور الروسي الذي سمحت به الإدارة الأميركية بتصريحاتها عن أن مصير الأسد، وبالتالي، غدا مصير مطالب الثورة السورية بيد روسيا، أيضاً، سواء كانت روسيا موجودة على طاولة مفاوضات الأردن (اتفاق الجنوب)، أو في جولات أستانة، أو عبر وفد النظام للتفاوض في جنيف.
وقاربت روسيا أحجام المعارضات السورية من بعضها بعضاً، وإن كثر عدد وفد الهيئة العليا للتفاوض، إلا أن فعلها تضاءل، وأصبح أقل تأثيراً حتى إعلامياً، وبدأ السوريون يتابعون تصريحات منصّتي موسكو والقاهرة، لأنهما الأقرب إلى واقع الحدث على الأرض، وفي غرف التفاوض بين الوسيط الأممي من جهة وبينهم، وبين الوسيط مع وفد النظام من جهة ثانية، وهذا يعني أن رفض "الهيئة العليا للتفاوض" إشراك هاتين المنصتين سابقاً، وقبولها بهما اليوم، على الرغم من "المغمغات" في التصريحات حول ذلك، هو إقرار من الهيئة بواقعية مطالب المنصتين، أو بتنازل الهيئة عن مطالبها السابقة التي اشترطتها للشراكة مع غيرها من المعارضات، وهو الاحتمال الأكبر.
إضافة إلى ما ذكرت، أكدت موسكو عبر هذه الجولة أن كل ما ترفضه المعارضة (الهيئة العليا) في جولةٍ ما تقبله في جولاتٍ لاحقة، ولعل الحديث عن السلال الأربع (الحكم ـ الدستور ـ الانتخابات ـ محاربة الإرهاب) خير دليل على ذلك، إضافة إلى كل ما كانت المعارضة ترفضه، بدءاً من بيان جنيف، وحتى انسحابها من جنيف 4، وما تلا ذلك من خسائر بشرية، وفي مساحات المعارضة، وفي مطالبها وأهدافها.
وفي كل الأحوال، نجحت موسكو، ومن خلال ما سميت الجلسات التقنية، في استدراج "الهيئة العليا للتفاوض" لنقل خلافات وفدها الفكرية المخفية حول رؤيتها لسورية المستقبل من الخفاء إلى العلن، عبر رفض تيارات أيديولوجية معينة لفكرة المشروع الديمقراطي في بناء مستقبل سورية، وهو ما تجلى في حربٍ إعلامية وشعبية، شنّت على الدكتورة بسمة قضماني، لا تهدف منها فقط إزاحة امرأة علمانية من وفد التفاوض، بقدر ما تهدف، أيضاً، إلى إزاحة فكرة المشروع الديمقراطي من أذهان من يريد تمثيل الهيئة العليا للتفاوض، منعاً لتداوله على طاولة التفاوض، وبالتالي إنهاء فكرة التقارب مع المنصّات التي تعتبر الديمقراطية أساساً لبناء سورية الجديدة، ومنطلقاً لأي تقاربٍ حقيقيٍّ بين المنصّات، بغض النظر عن رأيي بهذه المنصة أو تلك.
أخيراً، تفاوض موسكو باسم النظام وليس عنه، في المحطات التي تقرّر مستقبل سورية فعلياً، وهو (النظام) عبر وفده الذي يتمثل في مؤتمر جنيف، ليس إلا صورة إعلامية ترغب من خلالها موسكو بإقناع العالم بوجوده، بينما هي تمارس دورها وريثاً لأسدٍ فقد قدرته على الدفاع عن نفسه، وعن غيره ممن في زمرته، وهذا هو معنى "الأسد الميت"، أو الآيل إلى الموت، الذي تحتاجه موسكو لتحكم باسمه، وتفاوض العالم من خلال جثته، وتضيف إليه معارضةً مهزومة، لم تستطع حماية تضحيات شعبها، من أجل سورية ديمقراطية، تضع حقوق المواطنة أولاً، بينما تبحث معارضتها في ما يبعد هذا الحق عن السوريين، تحت شعارات الأيديولوجيات التي تحكمها.
هزيمة المعارضة هنا، وليس فقط في حلب أو غيرها. هزيمتها هنا، وليس فقط على طاولة المفاوضات. وفي المحصلة، لا تعني هزيمة المعارضة هزيمة المواطنين السوريين الذين نادوا بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، وبسورية لكل السوريين، وإنما هي هزيمة فقط لكل من فقد بوصلته، ومشى وفقاً لأجندةٍ لم تكن يوماً بين مطالب الثورة، عندما كانت ملكاً للسوريين فقط.
قبل أيام انتهت الجولة السابعة من مفاوضات جنيف، مع إعلان ستيفان ديميستورا المبعوث الدولي إلى سورية موعد انعقاد الجولة الثامنة في أيلول (سبتمبر) المقبل، وتأكيده أنه سيعقد جولات أخرى لاحقاً، وقبلها كانت انتهت الجولة الخامسة من مفاوضات آستانة، من دون التوصل إلى أي اتفاق، ومع ذلك تم الإعلان عن التحضير لجولة سادسة. لكن، وعلى رغم كل ذلك، وكل التصريحات والمؤتمرات التي تعقد، والأوراق التي تقدم، هل ماجرى هو مفاوضات فعلاً؟ أو ما الذي يجري حقاً؟
بداية أود أن أؤكد أن المعارضة السورية، بغض النظر عن تقييمنا وضعها أو أداءها، لا تستطيع رفض المشاركة في العملية التفاوضية، فهي لا تستطيع مجابهة المجتمع الدولي الذي فرض هذا المسار، لأنها بذلك تكون كمن يقدم هدية مجانية للنظام، وتظهر كمن يفوّت عليه فرصة الصراع على المكانة والشرعية، والرأي العام، وضمن ذلك فرصة تعزيز خبراتها السياسية.
بيد أن كل ذلك لا يعني تغييب الفرق الكبير بين انخراط المعارضة في العملية التفاوضية من واقع معرفتها محدودية إمكانياتها ودورها، ومن واقع وعيها انسداد أفق هذه المفاوضات، بحكم طبيعة النظام وطبيعة الظرفين الدولي والإقليمي غير المواتيين، وبين الانخراط فيها مع توهّم أنها يمكن أن تنتزع على الطاولة، ومن خلال الاجتماعات، ما لم تستطع انتزاعه من النظام في الصراع على الأرض.
منذ بيان جنيف 1 (2012)، الذي رفضته المعارضة («المجلس الوطني» وقتها)، والذي جمد قسم منها وجوده في كيانها الرئيس («الائتلاف») بسبب قبوله الانخراط في مفاوضات جنيف 2 (مطلع 2014)، مضت ثلاثة أعوام ونصف عام، من الجولة الثانية إلى السابعة، من دون تحقيق أي تقدم يذكر، على الأرض. بل يمكن التذكير هنا بناحيتين أساسيتين، أولاهما، أن وجهة نظر النظام هي التي تترسخ، وهو ما يظهر بتقديم هدف محاربة الإرهاب، والتشكيك بوحدانية مركز المعارضة، والترويج لضعف أهليتها وتمثيلها، الأمر الذي استمر من الجولة الثانية إلى الجولة السابعة، لمن يريد أن يلاحظ. وثانيتهما، أن أي تحول في الصراع السوري، من جهة التوافقات السياسية، إنما هو جرى من خارج العملية التفاوضية، ومن فوق إرادة السوريين (نظاماً ومعارضة)، هذا ما شهدناه في الدخول الروسي على خط الصراع المباشر (أيلول 2015)، وفي تكتيل الجهود الدولية في سورية للحرب على الإرهاب («داعش» و «جبهة النصرة»)، وتعزيز مكانة «قوات سورية الديموقراطية» في الشمال والشرق السوريين، ولا سيما في اتفاق «المناطق المنخفضة التصعيد»، بين روسيا وإيران وتركيا، وأخيراً في الاتفاق على منطقة آمنة في الجنوب بين الولايات المتحدة وروسيا، ما يحجم نفوذ إيران في هذه المنطقة، وضمن ذلك منع التواصل بين قواتها والميلشيات التابعة لها من طهران إلى لبنان، عبر الحدود العراقية ـ السورية.
المشكلة أن «الائتلاف»، بوصفه الأكثر تمثيلاً للمعارضة السورية، والكيان المعترف به، لم يعمل شيئاً يذكر، أو يتناسب، مع كل هذه التطورات والتحولات، فهو لم يستطع أن يعزز مكانته ككيان سياسي لكل السوريين، أو لمعظمهم، بحكم بنيته المنغلقة، التي تتحكم فيها جماعات صغيرة بارتهانات خارجية، وبحكم الخطابات الفئوية الضيقة الصادرة عنه، التي لا تتمثل مصالح كل السوريين وتطلعاتهم، والتي خرجت عن المقاصد الأساسية للثورة السورية المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية.
على سبيل المثال فقد شهدنا أن هذه المعارضة (المتمثلة في الائتلاف) لا تفعل شيئاً، مثلاً، بخصوص تلافي هذه الثغرات القاتلة، ولا تقطع تماماً مع الجماعات الإرهابية (النصرة أو هيئة تحرير الشام لاحقاً وأخواتها) على رغم أن هذه لا تعترف بالثورة السورية، وتشتغل ضدها، وتضر بشعبها، باستثناء بيان هنا وتصريح فردي هناك، للاستهلاك ووفقاً للظروف. هذا يشمل أن هذه المعارضة لم تبذل الجهود الكافية لتقديم رؤية وطنية وديموقراطية لحل المسألة الكردية، لقطع الطريق على النظام الذي يستثمر الخلاف بين المعارضة والقوة الرئيسة عند الكرد السوريين، مع الاختلاف مع بعض طروحاتها وممارساتها، بل إنها، بسبب ارتهاناتها الخارجية، اشتغلت على العكس، أي على تعظيم هذا الخلاف، في الوقت نفسه الذي سكتت فيه على جماعات المعارضة العسكرية (الإسلاموية)، التي ترفع أعلاماً خاصة بها بدل علم الثورة، والتي تجاهر برفضها للديموقراطية، وتنكل بالنشطاء السوريين، وحتى أنها لا تسمح بفتح مكتب للمعارضة، ولا بتوزيع جريدة، في المناطق التي تسيطر عليها.
وقد شهدنا، إضافة إلى ما تقدم، أن بعض المعارضة، او شخصيات مهمة فيها، أصدرت بياناً تدين فيه اتفاق التهدئة، أو «المنطقة الآمنة» في الجنوب، والتي تجنب ثلاث محافظات هي القنيطرة ودرعا والسويداء، مصير حلب المأساوي (العام الماضي)، وكأنها لا تدرك موازين القوى، ولا الظروف الإقليمية والدولية غير المواتية المحيطة بالصراع السوري، أو كأنها تتوهم أن لديها جيشا جراراً يمكن أن يجنب هذه المحافظات كارثة حلب، في حين أنها لا تستطيع حماية أي منطقة من القتل والحصار والتشريد. الأهم من كل ذلك أن هذا البيان صدر عن عقلية تتجاهل أهمية التعويض عن الخلل في موازين القوى، أو أهمية الحفاظ على الذات، بالاستناد إلى تضارب المواقف الدولية؛ ومثاله التوافق الروسي - الأميركي، الذي يحجم النفوذ الإيراني، فضلاً عن أن موقعي البيان لم يقولوا شيئاً يذكر عن مفاوضات آستانة، وتوافقاتها، ولا عن طريقة تشكيل وفدها، ولا عن التوافقات التي تمت فيها، ولا عن دورها في استبدال مسار جنيف بمسار آخر، مع تأكيدنا أن وجود المعارضة السورية العسكرية في آستانة هو مجرد وجود شكلي، إذ المفاوضات تجري بين الدول الثلاث المعنية، فقط.
ثمة كثير من التظلم لدى المعارضة السورية (الائتلاف ـ المجلس الوطني ـ الهيئة العليا للتفاوض) بكياناتها السياسية والعسكرية، نتيجة تجاهل القوى الدولية والإقليمية لها، وهذا صحيح ومرفوض، لكن ادعاء التظلم، وادعاء الحق، لا يكفيان إذ إن هذه المعارضة ينبغي قبل ذلك أن تتفحص مكانتها لدى مجتمعات السوريين في الداخل والخارج، وأن تشتغل لفتح اطاراتها لأوسع تمثيل للسوريين، بكل مكوناتهم وخلفياتهم وبغض النظر عن الاختلافات، كما عليها أن تتمثل مصالح كل السوريين أيضاً، ومن وجهة نظر المستقبل وليس الماضي.
للأسف، ثمة كثير من الأمور المتشابهة في المفاوضات السورية - السورية التي تذكر بالمفاوضات الفلسطينية -الإسرائيلية، فالمفاوضون الفلسطينيون، أيضاً، لم يدركوا حدود إمكانياتهم، ولا أدركوا استحالة التسوية مع إسرائيل في هذه الظروف. والمشكلة، أيضاً، أنهم لم يشتغلوا شيئاً، طوال ربع قرن من اتفاق أوسلو (1993)، سوى في المفاوضات، أي لم يشتغلوا على إعادة بناء كياناتهم، ولا على صوغ علاقاتهم البينية على أسس وطنية وكفاحية، ولا على صوغ خطابات سياسية جديدة، ولا على اجتراح أشكال نضالية أكثر ملاءمة لشعبهم ولإمكانياته ولقدرته على التحمل، ولا على جسر الفجوة بينهم وبين شعبهم في كل أماكن تواجده؛ وهذا ما جرى بالنسبة إلى المعارضة السورية، ايضاً، كأن لا أحد يتعلم إلا من كيسه ومن تجربته وبثمن باهظ يدفع ثمنه الشعب، السوري هنا والفلسطيني هناك.
فوق ذلك، تبدو المفاوضات بين السوريين مثل مفاوضات الفلسطينيين مع إسرائيل (مع الاحترام للمشاعر «القومية»)، إذ ان المفاوضات هناك، أيضاً، بلا أفق سياسي، وبلا مرجعيات، وبلا جدول زمني. فوق ذلك فهناك، أيضاً، قرر المجتمع الدولي، أو الدول الكبرى المعنية، ترك المفاوضات لما يتوصل إليه المتفاوضون، أي تركوها تحت رحمة إسرائيل، التي تتحدث حيناً عن أولوية مكافحة الإرهاب، وضمان أمن إسرائيل، وحيناً أخر عن عدم أهلية الفلسطينيين للديموقراطية، أو لحكم أنفسهم بأنفسهم، ودليلها ما جرى في غزة، التي أسندت روايتها إلى انقسام الفلسطينيين.
قصارى القول، تشتغل المعارضة (في الائتلاف والهيئة العليا) كأنها دائرة منعزلة، وليس ككيان سياسي يمثل كل السوريين، ويفترض أن يعبر عن كل أصواتهم ومصالحهم وتطلعاتهم. وعلى رغم جهودها في المفاوضات، خلال السنوات الماضية، والأوراق التي قدمتها، إلا أنها تتصرف وكأنها تظن أن هذه الأوراق هي بمثابة جواز مرور، أو امتحان، من دون أن تنتبه أن الأمر يتعلق بموازين القوى، وبإرادات الأطراف الخارجيين المتحكمين بالصراع، بدليل أنها لا تجد حرجاً في حشد عشرات الأعضاء والمستشارين في وفدها إلى جنيف، من دون أي طائل، وهو أمر مخجل حقاً لشعب يدفع باهظاً من تضحياته ومعاناته.
يقول رياض حجاب، رئيس الهيئة العليا للمفاوضات»: «الشعب السوري سئم من تكرر اجتماعات جنيف وتزامنها مع عمليات القصف الجوي والتصعيد العسكري، وأعتقد أن الوساطة الأممية أصبحت في حاجة إلى التقدم بمعطيات جديدة تتناسب مع عمق التحولات الإقليمية والدولية، وأن تركز على تخفيف معاناة السوريين.» (الحياة»، 16/7) لكن المشكلة أن هذا الكلام الصحيح، يبقى مجرد كلام مع الأسف إذ إنه لا يترجم إلى أفعال.
قد يكون من باب التكرار الممل للبعض، القيام بجردة لما أصاب السوريين من خسائر وآثار، وما لحقهم من كوارث في السنوات السبع الماضية، والتي عاشوا فيها ظروفاً وشروطاً شديدة الاستثنائية، خلقتها سياسة نظام الأسد، وتفاعلت معها سياسات محلية وإقليمية، أدت بالنتيجة إلى وصول السوريين إلى عمق كارثة، سوف يستغرق العالم وقتاً طويلاً لجمع تفاصيل، وقراءة نتائجها، ثم الوصول إلى تقييم ما حصل، ومعالجة آثاره في المستويات المختلفة، ليس في حياة السوريين وحدهم، إنما في محيط واسع من جوارهم في عالم لم يعد سوى «قرية كبيرة».
غير أنه وفي انتظار ذلك الجهد الكبير الذي سيبذل، وما يمكن أن يتمخض عنه من نتائج، لا بد من مقاربة لخلاصات ما حصل ويحصل في سوريا، وهذا لا يتجاوز خطأ فكرة التكرار الممل فقط، إنما يبين اتجاهات تطور الأوضاع السورية، ومآلاتها المحتملة.
إن الظاهر الأبرز فيما أصاب السوريين في السنوات السبع الماضية، جاء نتيجة سياسة النظام الدموية، والتي شارك فيها الإيرانيون وميليشياتهم والروس، وتمخضت عن قتل وجرح واعتقال وتشريد ملايين داخل سوريا وخارجها، وترافق معها تدمير واسع للممتلكات الخاصة أو استيلاء عليها، وكلاهما أمر لم تسلم منه الممتلكات العامة.
وساهمت عوامل متعددة في انتقال سياسة النظام الدموية إلى أطراف أخرى في معادلة الصراع. وكان الأقرب إلى تلك الممارسة جماعات التطرف والإرهاب لا سيما «داعش» و«النصرة» والأقرب إليهما من تنظيمات مسلحة رفعت شعارات «إسلامية»، ذهبت إلى ممارسة القتل والاعتقال والتهجير وتدمير الممتلكات والاستيلاء عليها.
وفي خلفية ما أصاب السوريين في السنوات الماضية، توسع ظاهرة التشبيح. ولأن الظاهرة كانت صفة لأهل النظام، وأحد مظاهر الحياة في مناطق سيطرته، فقد انتقلت إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، وفي هذا لم يكن ثمة فارق كبير بين التشبيح في مناطق النظام أو مناطق سيطرة قوى التطرف والإرهاب، وفي مناطق سيطرة التشكيلات المسلحة المعتدلة، وفيها جميعاً، ولدت ظاهرة التشبيح عصابات إجرامية وأمراء حرب، صار لهم تأثير كارثي في حياة السوريين.
كما أن في خلفية ما أصاب السوريين، استمرار ظاهرة الفساد، وتصاعدها على نحو غير مسبوق باعتبار الفاسدين جزءاً من آليات السيطرة والضبط في مناطق سيطرة النظام وخارجها، وتحول جزء من الفاسدين إلى مافيات، يمتد نفوذها ومصالحها في سوريا وعبر حدودها إلى دول الجوار والأبعد منها، وليست ظاهرة تهريب السوريين إلا تعبيراً واضحاً عن وحدة تلك المافيا ونفوذها.
ولم تسلم بلدان اللجوء من ظواهر سلبية على حياة السوريين فيها؛ فإلى جانب السياسات الرسمية المقنعة بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية باعتبارها سبباً في منع وتقييد وصول السوريين إلى تلك البلدان، وفي تفسير سوء وتردي الممارسة حيال اللاجئين والتقصير في تلبية الاحتياجات الأساسية للاجئين، فتمت عمليات التضييق عليهم وحشرهم في مناطق وظروف تتعارض مع متطلبات العيش والاجتماع الإنساني البسيط، وشيوع سرقة وتبذير الموارد المحدودة المخصصة لهم من الدول والمنظمات الإنسانية المانحة، وفي ظل هذه السياسة، تقارب البؤس الذي يصيب السوريين في بلدان اللجوء مع ما يصيب أقرانهم من المقيمين في سوريا، ولعل الأقرب مثالاً في هذا المجال حالة السوريين في لبنان الذي يضيق على اللاجئين في دخولهم وإقامتهم وفي حركتهم، ومحدودية تلبية احتياجاتهم للغذاء والسكن والصحة والتعليم والعمل، وتقوم بعض قواته وميليشيات طائفية باقتحام مخيمات اللجوء، وتجرح وتعتقل، وتقتل معتقلين تحت التعذيب، وتدمر المخيمات على رؤوس سكانها، وتسعى إلى ترحيل السكان بما يخدم سياسات نظام الأسد.
ورغم أهمية ما يظهر من مآسٍ ومشكلات تصيب السوريين في حياتهم، فإن الأهم مما سبق، يبدو في الظروف السياسية، التي تحيط بمستقبل السوريين، وهي ظروف محاطة بتناقضات، تدفع القطاعات الأوسع من السوريين نحو الإحباط واليأس. وإذا كان مسار نظام الأسد وحلفائه، يعمل على استعادة القبضة الحديدية على سوريا والسوريين بكل الوسائل الممكنة، فإن المسار الآخر، لا يطرح خياراً مختلفاً في نتائجه، خاصة في ظل ما يبدو من طروحات حل سوري يقبل ببقاء الأسد ونظامه، مما يعني أن ترديات الحياة السورية مستمرة، وأنه لا أفق لمعالجة أي منها، خاصة في ظل نظام يعرف العالم كله أن لا حدود لوحشيته ودمويته وفساده، وإصراره على الاستمرار في ذات الطريق ولو بتعديلات شكلية طفيفة.
لقد أدت سياسات نظام الأسد في عهدي الأب والابن إلى خروج السوريين ثائرين عليه في مارس (آذار) من العام 2011 مطالبين بالحرية والتغيير نحو مستقبل أفضل، وقاد قمع النظام الدموي إلى ولادة تشكيلات مسلحة لمواجهة دمويته وإجرامه، وفتحت بوابات الصراع الدموي في سوريا الباب أمام مجيء قيادات وعناصر التنظيمات الإرهابية المتطرفة إلى سوريا، وانضمام سوريين إليها. ووسط تردي وتدهور الأداء في السياسة الدولية حول القضية السورية، اتسعت الكارثة السورية وتشعبت تفاعلاتها، مما يعني تصاعد احتمالات الانفجارات السورية. ولأن السوريين، لم يعودوا كما في السابق ضمن بلد واحد وفي ظل ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية واحدة، فإن احتمالات انفجاراتهم ستكون مختلفة... وهذا ينبغي أن يشكل دافعاً للعالم من أجل البحث عن سياق آخر لمعالجة القضية السورية، بدل الاستمرار في الطريق الحالي الذي لن يقود إلا إلى انفجارات وكوارث في أكثر من مكان.
من شرق حلب إلى جنوب الرقة المدن والأرياف تخضع تباعا لقوات نظام الأسد وميليشيات إيران، على وقع قصف الطائرات الروسية، وصواريخها من بوارجها في البحر المتوسط. المعارضة السورية، أو ما تبقى منها، تقاتل ببسالة في ظروف صعبة تكالبت عليها القوات الإيرانية، والميليشيات الموالية لها مع قوات النظام، ومن دون إسناد يذكر للمعارضة منذ غلق الممرات التركية والأردنية.
والوضع السوري في أسوأ حالاته، حيث لم تدم طويلاً الوقفة الأميركية المبهرة أمام معسكر موسكو في سوريا، كما أن للرئيس الفرنسي الجديد أسوأ موقف صدر عن باريس منذ بداية الحرب السورية، يضاف إلى نشاط مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، الذي كان دائما سلبياً في حق السوريين وخاصة في تعريفه لمن يمثل المعارضة.
لقد نجح الإيرانيون والروس في تحويل قضية الشعب السوري إلى معركة ضد الإرهاب الدولي، مستفيدين من أخطاء حلفاء الثورة السورية، مثل قطر التي كعادتها لم تقدر الأمور ولا عواقب أفعالها. فمعظم القوى السورية المقاتلة لا علاقة لها بالجماعات الإرهابية، ولا بالتطرف إنما كان كافيا وجود هذه الجماعات على الأرض، وبروزها إعلامياً، حتى تصبح فزاعة للعالم على حساب الشعب السوري وقضيته.
ورغم هذا المناخ القاتم، لا تزال قوات النظام السوري، وقيادات إيران العسكرية، وميليشياتها المختلفة الجنسيات، غير قادرة على إخضاع معظم سوريا، ولا قادرة على ضمان أمن المناطق التي استولت عليها. لكن إيران يهمها في هذه المرحلة تأمين المناطق الاستراتيجية لها بالدرجة الأولى أكثر مما يهمها رفع علم النظام على كل المناطق، لهذا هي تحارب في مناطق النفط جنوب الرقة، وتستعين بالميليشيات العراقية مع اللبنانية لتأمين المعابر البرية السورية مع محافظات الغرب العراقي لتأمين السيطرة على العراق، وضمان الدرب الطويل من حدود إيران جنوب العراق إلى لبنان. وخصصت إيران جزءا من تركيزها في استهداف درعا باتجاه الحدود الأردنية معتقدة أن هناك مشروعا للمعارضة السورية، بدعم أميركي، للزحف نحو دمشق لاحقا وفرض شروط من بينها إبعاد يشار الأسد من الحكم.
محافظة درعا كانت ساحة حرب كبيرة، كانت المقاومة السورية قد كسبتها في ظروف فاجأت ثلاثي دمشق، ومنيت فيها ميليشيات إيران بخسائر كبيرة. إنما التبدلات السياسية الأخيرة باعت تلك الانتصارات، فالموقف الأميركي الأخير تراجع أمام مطالب الروس وحلفائهم، رغم أن الدعم العسكري الأميركي كان الأفضل في السنوات الست الماضية لولا أن السياسيين خذلوا العسكريين في التفاهمات الأخيرة.
ومع التراجع الأميركي الجديد، والموقف الفرنسي السلبي، والاشتباك الخليجي، والتقارب التركي مع موسكو فإن المعارضة السورية أمام وضع فريد في صعوباته. والمراهنة المتبقية هي على أن نظام سوريا لا يملك وسائل السيطرة وإدارة المناطق التي يستولي عليها، واستمراره في الاستعانة بالإيرانيين و«حزب الله» والميليشيات العراقية، وكذلك الروس، سيذكي الرفض السوري ويحرض عليه محليا وإقليميا.
غداً، أقدم مراجعة للنزاع السعودي القطري في سوريا.
في كل مرة تحدد الدولة اللبنانية موعداً لإجراء عمليات مسح العقارات والأملاك العامة والخاصة، يكتشف مهندس التحديد العقاري أن بعض المواطنين يقوم بالاستيلاء على أملاك إضافية من قطع المشاع. كما يكتشف أيضاً أن الفوضى المستشرية في مختلف دوائر الدولة تسمح لمستغلي فقدان الرقابة الرسمية بتغيير حدود أملاكهم. ومثل هذه الحال تنطبق سياسياً على زعماء دول المنطقة الذين يتنافسون حالياً على تجميع أكبر المساحات حجماً بانتظار إجراءات المسح «العقاري» الذي يقوم به الروسي والاميركي والايراني في العراق وسورية. أي في الدولتين اللتين أخضعهما تنظيم «داعش» لحكم استمر مدة ثلاث سنوات.
الرئيس السوري بشار الأسد استند الى كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليؤكد أن وثيقة مؤتمر الأقليات لا تمثل الحد الأدنى من مطالب غالبية الشعب.
وكان الرئيس بوتين قد شدد في مؤتمره الصحافي الذي عقده في هامبورغ، إثر اجتماعه مع الرئيس الاميركي دونالد ترامب، على ضرورة ضمان وحدة الأراضي السورية. وفسّر المراقبون كلام بوتين بأنه ردّ غير مباشر على وثيقة مؤتمر الأقليات السورية التي أسست لتقسيم البلاد الى كانتونات. وهي صادرة عن مؤتمر عُقِد في اسطنبول.
وانتقد أنصار النظام مضمون الوثيقة، لأنها في نظرهم تطالب بتقسيم سورية الى كانتونات أقلوية من دون مراعاة للتداخل الديموغرافي للشعب. واتهموا قوى سياسية خارجية بأنها تدعم هذا الطرح المريب الذي يعبّر عن دور الارتهان الى جهات غريبة. والملاحظ في هذا السياق أن بوتين عدّل موقفه من الأسد غداة لقائه مع ترامب. ففي منتدى بطرسبرغ قال إنه لا يدافع عن الأسد بقدر دفاعه عن الدولة. وحجته أنه يتحاشى نشوء وضع في سورية مماثل للوضع القائم في الصومال أو أفغانستان أو ليبيا. وأكد أن موسكو تريد استمرار الدولة السورية المهيأة لعقد تسوية سياسية مع خصومها على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254.
الجديد في لقاء بوتين وترامب هو اتفاقهما على إيجاد فترة انتقالية يصار خلالها الى إجراء انتخابات عامة ووضع دستور لا تستند نصوصه الى سياسة حزب البعث. وبما أن الرئيس الاميركي يجهل تفاصيل العملية السياسية في سورية، فقد أوكل الى وزير خارجيته ريكس تيلرسون مسؤولية تمثيله.
وقد أظهر تيلرسون في محادثاته أن بشار الأسد سوف يتخلى عن سلطاته في نهاية الأمر. وأكد أنه نجح مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في صوغ اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غربي سورية بعد إطلاع الأردن على ذلك.
وفي مؤتمر آستانة، وقعت كل من روسيا وتركيا وايران اتفاقاً يقضي بإنشاء «مناطق تهدئة» في سورية. ولقد انتقدها في حينه وفد المعارضة احتجاجاً على دور ايران في ضمان التهدئة. وبما أن الدولة والمعارضة عجزتا طوال ست سنوات عن التوصل الى تسوية مقبولة من الطرفين، لذلك قبلتا بما يقترحه الآخرون. والاتفاق يقضي بإرسال قوات أجنبية الى سورية لحراسة حدود الفصل بين المناطق. ومع أن اتفاق آستانة لم يحدد هوية هذه القوات إلا أن الأمم المتحدة تتصور أنها قد تأتي من دول محايدة مثل ماليزيا واندونيسيا والمغرب.
يقول المراقبون المحايدون إن «مناطق التهدئة» ستكون نتيجة هدنة ملزمة للدولة والمعارضة معاً. وهم يتوقعون أن يفاقم هذا التقسيم انقسام سورية بطريقة يصعب معها استعادة التعايش السلمي السابق. ويرى هؤلاء أيضاً أن مشاركة النظام والمعارضة في مفاوضات آستانة وجنيف ليست أكثر من مناورة لتغطية واقع الأمور. من هنا قول أحد زعماء المعارضة «إن الدولة السورية موجودة في خرائط غوغل ودروس الجغرافيا وفوق كرسي العضوية في الجمعية العامة فقط»!
صحيح أن المعارضة سعت الى إنشاء كيان مستقل، وكذلك حاول الأكراد، ولكن المحاولتين باءتا بالفشل لأن المعارضة والأكراد تعرضوا لمقاومة عنيفة من قبل تركيا وايران وروسيا. ومع هذا كله فإن ترميم النظام أصبح من رابع المستحيلات!
عندما التقى في «فرساي» الرئيسان بوتين وماكرون طلب الرئيس الروسي من نظيره الفرنسي عدم الاعتراض على استمرار الأسد في الحكم الى حين إنتهاء المرحلة الانتقالية. وبالفعل، أعلن الرئيس الفرنسي الجديد موقفه المناقض لموقف سلفه هولاند حيال الوضع في سورية.
ويبدو أن بشار الأسد المتهم من قبل الولايات المتحدة وعدة دول اوروبية وعربية بحاجة الى دعم شرعيته بعدما شاركت قواته في قتل أكثر من أربعمئة ألف مواطن وتهجير أكثر من ستة ملايين نسمة وتدمير كل البنى التحتية في المدن الكبرى.
وكما فعل بوتين في هذا المجال، كذلك شجع «حزب الله» الحكومة اللبنانية على فتح حوار مع الأسد من أجل إعادة النازحين السوريين الى مناطق «التصعيد المخفض» في الجنوب الغربي. وكان ذلك عقب اقتحام الجيش اللبناني مخيمات النازحين في عرسال، الأمر الذي خلق أزمة سياسية ما زالت تداعياتها تتفاعل حتى اليوم. والسبب أن دعاة عودة النفوذ السوري الى لبنان شنوا حملة سياسية تطالب بالانفتاح على النظام المعزول. في حين مانعت جماعة «تيار المستقبل» بقيادة رئيس الحكومة سعد الحريري كل خطة تفتح المجال أمام تعويم نظام الأسد. وأعلن الحريري أن هذه المجازفة من شأنها أن تنعكس سلباً على الحكومة وتعطل عملها. وانتقد دعاتها بقسوة عندما قال: «القبول بالتواصل مع نظام مجرم يعني تغطية الأعمال التي يقوم بها الحلف الايراني - السوري».
ومن أجل احتواء هذا الخلاف ومنع وصوله الى الشارع، قرر الرئيس ميشال عون تكليف مدير عام الأمن العام عباس ابراهيم القيام بمهمة التنسيق، بحيث لا تتحول مشكلة النازحين السوريين الى مشكلة لبنانية بامتياز.
ولفت الوزير درباس انتباه الحكومة الى وجود مليون وخمسين ألف نازح حسب الأرقام الرسمية. ولكنه على أرض الواقع يزيد عددهم على المليون ونصف المليون نسمة. وذكر أن ما نسبته 43 في المئة من مجموع هذا العدد يمكنهم الرجوع الى سورية بسبب انتمائهم الى مواقع موجودة في «المناطق الآمنة»... أو حسب الوصف التقني «مناطق منخفضة التصعيد». واستناداً الى الخبرة التي اكتسبها درباس في هذا المجال، اجتمع مع رئيس الحكومة سعد الحريري وبعض المهتمين بمعرفة تفاصيل هذه الأزمة، بحيث أطلعهم على مختلف وجهات النظر. المهم أن الجهود التي قام بها «حزب الله» خلال هذا الأسبوع بالتعاون مع «أبو طه» السوري قد أثمرت على الصعيد العملي. وكان من نتائجها عودة 33 عائلة تُعتبر الدفعة الثانية من سلسلة دفعات يشرف مندوبو الأمم المتحدة على عمليات رحيلها الطوعي.
ومن هذه المفاجأة تبرز أسئلة محيرة تتعلق بموقف «حزب الله» من النازحين السوريين: هل هو موقف طائفي يقود الى ترحيل مليون ونصف المليون سوري سنّي يمكن أن يؤدي بقاؤهم في الوطن الصغير الى إسقاط التوازنات القائمة؟
يُستدَل من لهجة الإنذارين اللذين أطلقهما الأمين العام السيد حسن نصرالله خلال الأسبوع الماضي أنه في صدد الإعداد لهجوم مسلح يبعد عن منطقة الجرد، الممتدة من نحلة وفليطا الى عرسال ورأس بعلبك، جميع المقاتلين المنتمين الى «داعش» و «جبهة النصرة» و «الجيش السوري الحر». ويقدر عددهم بألف وخمسمئة عنصر.
ويرى المراقبون أن انتصار «حزب الله» عليهم سيفتح أمامه الحدود مع سورية حيث تنتظره مهمات جديدة عقب استراحة الجيش السوري المنهك.
إضافة الى هذا الأمر، فإن «حزب الله» يسعى الى عدم الإخلال بالوضع الداخلي المريح، لكي يتفرغ الى ما هو أهم في نظره، أي الى مواجهة اسرائيل.
الرئيس بوتين تعهد بإقناع القوات الايرانية و «حزب الله» بالابتعاد من مناطق الاحتكاك مع اسرائيل. وفي اجتماع آستانة طالبت تركيا أيضاً بإبعاد مقاتلي «حزب الله» عن الحدود الشمالية لسورية. وهذا ما يفسر قيام الحزب بنقل معظم قواته الى مناطق جنوب شرق سورية بغرض مساعدة نظام الأسد في السيطرة على مثلث «التنف» على حدود سورية والأردن والعراق. وفي هذا المحيط توجد مواقع عسكرية اميركية أقيمت لمنع وصول الميليشيات الشيعية العراقية تحديداً الى حدود المثلث الخطر!
بقي أن نذكر أنه خلال فترة قريبة من المتوقع أن يقرر الكونغرس الاميركي فرض عقوبات إضافية أصعب من تلك التي فرضت على «حزب الله» في شتاء 2015. وتكمن خطورتها، بحسب مسودة اقتراح القانون الجديد، أنها تحذر المصارف الاميركية من التعامل والتعاون مع المصارف اللبنانية ما لم تلتزم عملياً بتطبيق العقوبات. علماً أن الزيارات المتواصلة التي قام بها لواشنطن مسؤولون من البنك المركزي اللبناني قد نجحت في إقناع غالبية شيوخ الكونغرس بتخفيف اقتراح القانون. ولكنها لم تقنع «اللوبي الاسرائيلي» في اميركا بتخفيف الضغوط على لبنان الذي تعتبره اسرائيل عدوها الأول في المنطقة!
ما زال بعضهم يصّر على العزف خارج السرب الدولي، مستغرباً سبب قبول زعماء العالم الغربي بقاء رأس النظام السوري في السلطة، مدّعمين استغرابهم بأن بشار الأسد أكبر قاتل في العصر الحديث، وهذا سبب كاف لأن ينبذه زعماء العالم الحر، لا أن يتحسّر زعيم ليبرالي عولمي بوزن الرئيس الفرنسي، إمانويل ماكرون، على إغلاق سفارة بلاده في دمشق سبع سنوات، وانقطاع التواصل مع نظام الأسد وأجهزته.
يعرف الغرب تماما من قتل وبأي سلاح فعل، لديهم تقنيات تكنولوجية، تتيح لهم رصد كل مكالمة وكل أمر عسكري، وينتشر عملاؤهم وعيونهم في كل مكان، يعرفون أكثر مما نعرف، نحن أهل البلاد، ما يجري في حوارينا وأزقتنا، ولكن ليس من مهامهم إعلان موقف من القاتل.
عندهم أن بشار الأسد ليس خطرا على الخارج، قالها ماكرون، وقبله ردّد وزير خارجية روسيا هذه المعزوفة على أسماع نظرائه الغربيين، قبله كان عبد الفتاح السيسي يقتل أول تجربة ديمقراطية في تاريخ الدولة المصرية الحديثة، ويجتث بيئتها الحاضنة، وكأنه يعيش في عالمٍ لا رقيب فيه، ومع ذلك جرى دعمه وتكريمه.
عندهم أيضاً أن كل ما يفعله الأسد خيرٌ صاف، الرجل أجرى هندسة اجتماعية بالسكين لموازنة الأكثرية بالأقليات، وضمن بقاء الأقلية وسيطرتها مدى زمنيا طويلا، أنقذ البلد من موجة الإسلاموية إلى مائة سنة مقبلة، رحّل إلى أوروبا عمالة تحتاجها بإلحاح في الوقت الراهن، ثمّة مهنٌ كثيرةٌ ضرورية لمجتمعات أوروبا عافها الأوروبيون، إما لقلة مردوديتها أو لصعوبة العمل بها، دعك من صراخات بعض الشعبويين هؤلاء، ليسوا على إطلاع بالمعطيات، ولا يعرفون المخططات.
أثبت الأسد قدرة هائلة على إدارة مساكنة دولية على أرض سورية، فقد أرضى جميع الأطراف، دولاً وجماعات وأحزابا، واستطاع منحهم ما يكفيهم من حصص وقواعد وممرات ومطارات. وشعر الكل معه بأنه أعظم من في العالم وأقوى من في الإقليم، وزَع عليهم ثروات سورية مثلما يشتهون ويحبّون، وفاض كرمه الذي تجاوز كرم حاتم الطائي الذي وقف عند ذبح حصانه للضيف، بأن منح صديقه فلاديمير بوتين سماء مفتوحة، وأرضاً عامرة باللحم الحي، ليجرّب عليها الأخير أسلحته، ويصنع دعايةً لمنتجاته القاتلة أمام الزبون وعلى الهواء مباشرة.
أثبت بشار الأسد أن الجغرافيا السورية رحبة، وتتسع لأشياء كثيرة، ولا تضيق إلا على السوري وحده، لا لشيءٍ سوى أنه لا يعرف استخدام المساحات بغير زراعة القمح ورعاية مواشيه، وملاعب لأولاده، فيما اكتشف الأسد أنها في عصر الصراعات الإستراتيجية وزمن العولمة وصراعات خطوط النفط والغاز ومشاريع طرق الحرير والسلام، تساوي أكثر من ذلك بكثير، وأثبت أن كل شيءٍ مسموح في جغرافية سورية، ووحدها حرية الشعب السوري الممنوعة، ليس من قلة حداثةٍ يفتقر لها الرجل، بل لأن حرية الجهلة جالبة للإرهاب، ومهدّدة وحدة التراب.
هل من قائل إن الأسد قاتل؟ نعم لكنه قتلٌ وظيفيٌّ هدفه تحديث الشعب، فالتحديث، في آخر نسخه، بات يعتمد القتل أداةً لإنجاز هذه المهمة، لم تعد مهمة الحاكم طرح أفكار ومشاريع تحديثية وصياغتها، ما دامت الأفكار ملقاةً على قارعة العالم بعد قرون من دخول الحداثة بوابة العالم، وتغلغلها في جنباته، خصوصا وأن الغرب علق في أزمة التحديث، إذ ليس شرطا أن تأتي عمليات التغيير السياسي بالتحديث الذي يتطابق مع الاغتراب أو التغرب، كما أن الديمقراطية يمكنها إيصال أشخاص إلى السلطة على تصادم مع الغرب، في حين أن قائمة الديكتاتوريين العرب، وإن كانت تمنع الديمقراطية، إلا أنها تطبق روشتية الغرب في التحديث والعولمة ونمط الحياة الغربي وسواها، ولا تستغربوا اقتران الحداثة بالقتل، الغرب نفسه كان قد دشّن حداثة اليابان بمذابح ناغازاكي وهيروشيما.
الأكثر من ذلك أن الأسد يمزج بين الحداثة والديمقراطية، فهو لم يجبر أحدا على الثورة ضده. استلم الرجل السلطة بالوراثة، وسمح للشعب بتجديد البيعة له كل سبع سنين، كما أنه لم يُجبر أحدا على القتال معه، من فعل ذلك فعله لأسبابه الخاصة، كان ديمقراطياً إلى أبعد الحدود، وغداً عندما تبرد الجراح، وينظر كلٌّ إلى الحدث من زاويته الخاصة، سيكتشف السوريون حجم إنجازات الأسد. كان الوصول إلى أوروبا وأميركا حلما لدى السوريين، لا يناله إلا أصحاب الثروات والمشاهير، وها هم السوريون يتجولون في أوروبا مثلما يتجولون في حواري مدنهم، حتى سكان المخيمات أغلبهم من أبناء الأرياف الذين ملّوا من رتابة الريف، وقيوده الاجتماعية وسنوات الجفاف القاهرة، وها هم اليوم يعيشون في المخيمات حياة المدن النشطة، وينعمون بالمساعدات الدولية، من دون انتظار السماء أمطرت أم لم تمطر، وحتى الموالون سيكتشفون أنهم تخلصوا من الزعران في قراهم ومدنهم، وحصلوا عوضاً عنهم على ساعاتٍ تزين حيطان بيوتهم.
كيف يفرّط العالم برئيسٍ كهذا، أدار كل هذه التوازنات، وحقق كل تلك النتائج المبهرة في زمنٍ ترتبك دول عظمى في إدارة صراعاتها على مساحةٍ صغيرة في بحر اليابان والمتجمد الشمالي، وتتهافت شعوبها على فرصة عملٍ تحسّن بها أوضاعها. فقط ممنوع على بشار استخدام الكيميائي، ونوع محدّد منه، وبالأصل لم يعد الرجل بحاجة لهذا النوع من السلاح. وباعتراف الأمم المتحدة، سبق أن استخدمه مائة وخمسين مرّة قبل ذلك، ما يعني أنه لو كان لعبة بلاي ستيشن تلك التي يعشقها الأسد أكثر شيء، لكان قد عافها وانتهى منها هذا الحداثي الديمقراطي.. والوسيم.
يحتل مسلحون لبنانيون منذ سنوات عديدة مساحات من أراضي «الجمهورية العربية السورية» لا تقل عن مساحة لبنان.
اعتبر ذلك خرقاً لإجماع لبناني وقع في القصر الجمهوري، بتحييد البلد عن التدخل في نزاعات البلد المجاور، وأوجد الخلفية التي تقف وراء الشلل في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي فترة الفراغ الحكومي بعد استقالته في اذار 2013 (حيث لم يتح لخلفه تمام سلام تشكيل حكومته الا بعد احد عشر شهرا من تكليفه)، ثم الشغور الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان.
واذا كانت «قوى 14 اذار» ، كما كانت لا تزال تتسمى الى ذلك الوقت، قد رفضت في البدء المشاركة في نفس الحكومة مع «حزب الله» طالما هو متدخل، بعسكره، في سوريا، فلم يواظب على هذا الموقف عندما تشكلت حكومة الرئيس تمام سلام (شباط 2014) سوى «القوات اللبنانية»، التي عادت وبنتيجة طبيعة التقلّبات اللبنانية، فتحالفت مع أبرز حليف مسيحي لبناني للنظام السوري و»حزب الله»: العماد ميشال عون.
سلّمت القوى اللبنانية الممانعة أمام هيمنة «حزب الله»، في نهاية الأمر، بتدخله في سوريا كأمر واقع أصبح أكبر من قدرات اللبنانيين ويتطلب قرارا دوليا حاسما. وهذا التدخل للحزب هو من دون أي طلب رسمي من الحكومة السورية الى الحكومة اللبنانية، الأمر الذي يكرّسه احتلالا، بل ان الشعور به كوجود عسكري وطقوسي غريب جاثم على صدور السوريين، وتحديدا في مدينة دمشق، يشترك فيه الموالي للنظام مع المعارض له، بل لا يزال النظام يغذي نفورا دمشقيا عاما بازاء هذه الثقافة الوافدة مع الميليشيات اللبنانية والعراقية والافغانية، الأمر الذي يجد تعبيره المذهبي في حملة وزارة الاوقاف السورية الاخيرة ضد «التشيّع». لا يعني هذا ان الاعتراض اللبناني على التدخل في الحرب السورية قد سحب من التداول، لكنه اعتراض «تشمّع»، وصار أشبه بالتعويذة المضافة الى جملة ما نجح الحزب الموالي لإيران في «تهذيبه»، من شعارات سياسية مناوئة له تحوّلت بمرور الوقت، واختلال الميزان، وشعور الانكسار وانعدام الحيلة أو الانتهازية الصرف، الى مجرد تحفظات رمزية «حتى قدوم الساعة».
والحكومات الغربية: تدين كل ما يقوم به «حزب الله» في الصراع مع اسرائيل، وتمتعض من تجبّره على اللبنانيين الآخرين بالسلاح، لكنها قلما تلتفت الى تدخل الحزب في سوريا. تصنّفه ارهابيا، ولا تعتبره بريئا من هذه التهمة بتجربته المتواصلة في محاربة ما يتوسع فيه هو من «ارهاب تكفيري» في سوريا، ليشمل فصائل متطرفة وأخرى أقل منه تطرفاً، على حد سواء.
والأنظمة العربية: استأثر تدخل الحزب في الخليج واليمن بتصلب الموقف منه. اعتبر ارهابيا على هذا الأساس، وليس لأنه متدخل في الحرب السورية. صحيح ان الحزب له باع في تدريب وتجهيز وأدلجة كوادر الحوثيين، لكن درجة تدخله في سوريا هي في أقل الايمان أعلى من ذلك بكثير.
سوّغ الحزب تدخله، من دون اجماع لبناني، ولا طلب سوري رسمي الى الجانب اللبناني، بأنه ذاهب لحماية مرقد السيدة زينب، ثم لحماية قرى شيعية من الجانب السوري للحدود، ثم لمنع «الارهاب التكفيري» من التمدد نحو لبنان، في نفس الوقت الذي توجه فيه الى الجهاديين اللبنانيين «الذي قد نكون وأنتم مختلفين في تفسير الواجب الجهادي» الى ملاقاته في الملعب السوري، حصرا. وبعد ان طاولت عمليات انتحارية منطقة الضاحية الجنوبية خرج الحزب بصيغة ان هذه العمليات كانت ستكون اكثر ايلاما وفتكا لو تأخر في التدخل بسوريا. التزم الحزب في كل هذه السنوات بالنهج السوري الرسمي في الاحتفاظ بحق الرد بعد كل غارة اسرائيلية تستهدفه، لكنه لم يلتزم بأي حدود لتوغله في الأرض السورية، وبعد ان كان يركز على المناطق القريبة من لبنان، كالقصير ويبرود، توسعت خارطة عملياته الى ريف حمص، وحلب، والبادية.
وكلما زاد الحزب في التوغل، زاد اللبنانيون المخالفون له في التطبع مع «لا حيلتهم» حيال تدخله. في نفس الوقت، قويت نزعة بينهم لفصل هذا التدخل عن نتائج تسبب بها كليا أو جزئيا. فاذا كان اللجوء السوري الى لبنان لا يختزل في تدخل الحزب وحده، لكن هذا التدخل اكثر من اساسي بالنسبة الى اهالي القصير والمناطق السورية في سلسلة جبال لبنان الشرقية. معظم اللاجئين السوريين في مخيمات شرق لبنان هم من «لبنان الداخل» جغرافيا، او «الأنتي ليبانوس» كما سماه الاغريق والرومان، اي السلسلة الممتدة من ريف حمص الى القلمون الى الغوطة الى حرمون. تهجير «لبنانيي الداخل» هؤلاء الى سهل البقاع، يتحمل مسؤولية كبرى فيه تدخل الحزب في المناطق التي كان مسلحو الثورة السورية فيها هم من نسيجها الأهلي بالدرجة الاولى، وليس من «المهاجرين» الجهاديين.
ان لا يكون لدى اللبنانيين قدرة على كف يد «حزب الله» عن سوريا، فهذا شيء، وان يكون بوسعهم فصل قضية اللاجئين السوريين من جهة، وقضية المجموعات المسلحة في جرود عرسال، عن هذا اللجوء فهذه مسألة أخرى. ليس صحيا ابدا ان لا تكون تظاهرة واحدة خرجت في بيروت ضد احتلال لبنانيين – من دون علم حكومة بلادهم رسميا رغم مشاركة حزب التدخل في الحكومة، للأراضي السورية.
لكن ما هو مرضي بحق، هو افتعال الكبرياء، للتعتيم على الشروط الاولية للسيادة الوطنية والحد الادنى من الالتزام بحقوق الانسان المنصوصة دستوراً: كبرياء الذين لا يترددون في قذف كل من يخالفهم الرأي في موضوع اللاجئين، بأنه «داعشي»، في مفارقة يصبح فيها الدواعش، بهذا الاتهام الاعتباطي، حركة علمانية عابرة للطوائف في لبنان، في مقابل عنتريات عنصرية وطائفية لنعامات تخفي رأسها في الرمل، لا تريد ان ترى الى واقعة أساسية، كواقعة تدخل الحزب في سوريا، الا كاختلاف في الاجتهاد أو كضرورة مكروهة. بقي ان الحزب لا يعطي المجال للنعامات طول الوقت، فتدخله الوشيك في جرود عرسال، يبعثر الرمال التي تخفي فيها رأسها. وبعد كل الجدل حول دور الجيش واسلوبه، يعود حزب الله ليذكر عمليا بما قاله الشيخ نعيم قاسم لفظيا: اي ان الحزب يخرج من الحرب السورية وقد تحول الى «جيش عظيم»، وبمعادلة «خوشبوشية»: لبنانيون يحتلون عسكريا أحياء من العاصمة السورية، وجيش النظام السوري ‘العائد» الى سهل البقاع.
هل يمثل الاتفاق الروسي/ الأميركي بشأن المناطق مخفضة التصعيد في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء خطوةً نحو تسوية الصراع الدولي والإقليمي في سورية، أم هو جزء من الاحتجاز الدولي القائم منذ ستة أعوام في سورية؟ للجواب على السؤال، علينا ملاحظة التالي:
ـ الاتفاق هو الأول بين الدولتين، لا يشاركهما فيه أحد ولا ينضوي في مساري جنيف وأستانة، فإن تلته خطوات أخرى، كما هو متوقع، كرّس مساراً جديداً، ستتولى واشنطن وموسكو تحريكه، لمصلحتهما حصراً.
ـ بينما رسم الاتفاق خطاً أحمر لإيران بموافقة روسيا في جنوب سورية، وضعت أميركا خطاً أحمر لتركيا شمالها، في تفاهمٍ بين العملاقين على تقليص قدرة الدولتين المعنيتين على تعطيل توافقهما.
ـ خلو الاتفاق من أي دور للنظام والمعارضة، ومن دور عربي، في سياق انفراد الدولتين بما ستقومان به من خطواتٍ، وتحييد الأطراف الأخرى. إذا كان الأردن قد استثني من الاستبعاد، فبسبب مجاورته المنطقة، والحاجة إلى جيشه المدرب الذي سيراقب تنفيذ الاتفاق، ومساحات شاسعة جنوب سورية وشرقها.
ـ أنجز الاتفاق بعد تشكل كيانين، هما الأسدي الذي تنقذه روسيا من الانهيار، وقرارها حاسم فيه، والكردي الذي تدعمه واشنطن، وقرارها مصيري بالنسبة إليه، بينما يجسّد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حالة فراغ وطني، لافتقاره إلى اعتراف داخلي فاعل به، وإلى علاقاتٍ دولية وإقليمية، كعلاقات الأسد بروسيا والكرد بأميركا، والتراجع الخطير في مكانته، وفشله في إقامة أوضاع ذاتية تقنع الدولتين الكبيرتين، بالتفاهم على تطبيق وثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن حول الحل السوري. من هنا أهمية الاتفاق على الجنوب، باعتباره أول خطوة مشتركة يقومان بها، غرضها إخراجه من الحرب إلى تهدئة مؤطرة في مشروع سياسي متفق على أسسه بينهما.
ـ منح الاتفاق مناطق خفض التصعيد ضرباً من استقلالية عبر فصلها بقوات أميركية/ روسية / أردنية عن النظام ومرتزقة إيران من جهة، وتمكينها من إدارة شؤونها بواسطة مجالس منتخبة ديمقراطياً، ستديرها بوصفها مناطق خاضعة للمعارضة، تعترف بها الدولتان، ستعالج في مرحلة تالية مشكلات سورية بالتعاون مع النظام. تفرض هذه الحقيقة على "الائتلاف" العمل لإقناع الشعب بانتخاب مجالس وطنية/ ديمقراطية تكون مستقلة، وتتبنّى مشروع الثورة الذي يطالب بالديمقراطية بديلاً وحيداً للأسدية، فإن توحدت وخضعت لقيادة مشتركة، غدت نواة سلطة ديمقراطية لكيانٍ ثالث، وطني ومعارض، مرجعيتها "الائتلاف" الذي يجب الإسراع إلى إصلاح أوضاعه، ليكون قادراً على مواجهة ما سيعترضها من صعوباتٍ كبيرة ومتنوعة. هل يبدأ "الائتلاف" بتركيز جهوده على خطط عملية، تهدف إلى إيصال وطنيين إلى المجالس، يوحّدهم برنامج سياسي مشترك يوضع لها، تصير معه جهة وطنية فاعلة تسهم، من موقع طليعي، بتمثيل شعبٍ قرّر التخلص من الأسد ونيل الحرية.
ـ بهذه المعاني، يمثل الاتفاق خطوة مهمة، سيقضي الوقوف ضدها على "الائتلاف" ممثلاً معترفاً به للسوريين. ولو كان صاحبا الاتفاق عازميْن علي تقسيم سورية، لما كان باستطاعة أحد إرغامهما على إقامة مجالس ديمقراطية منتخبة، هي سلطة موازية للأسد، بديله له في مناطقها.
أجيب الآن على سؤال البداية: نعم، سيخدم الاتفاق شعبنا السوري، إن تم التعامل معه فرصة جدية، لا شيء يمنعنا من دفعها في الاتجاه الذي نريده سياسياً اليوم، وتفاوضياً غداً، إلا إذا تمسّكنا بأوهامنا حول انتصارٍ صار في متناول أيدينا، وقدرتنا على تحقيق أهدافنا عبر خطوة واحدةٍ حاسمة، وتركنا المجالس للمذهبيين الذين دمروا الثورة لصالح النظام، وبدأت عناصرهم بالتشبيح في الجنوب، حيث قرّرت فرض "رسوم جمركية" على شاحنات نقل الخضار من حوران إلى دمشق، وعندما اعترض السائقون عليها، قيل لهم: "عم تدفعوا هونيك وبدكن تدفعوا هون، إذا بدكم تمروا".
بالمجالس الديمقراطية الموحدة، وبانتهاج خط وطني يخدم مصالح جميع السوريين أينما كانوا، سيكون الاتفاق مكسباً للثورة، والمدخل إلى حلٍّ يوقف إبادة شعبنا، ويأخذه تدريجياً، وخطوةً بعد أخرى، إلى الحرية. أما في حال أهمل "الائتلاف" وأطراف العمل الوطني هذه الفرصة، كما فوّتوا غيرها، وبقوا غارقين في النق وبكائيات الرفض، فإن ما ينتطرنا لن يكون فقط تقسيم وطننا الذي تمنعنا أوضاعنا الراهنة من المشاركة في تقرير مصيره، بل زواله من الوجود. عندئذٍ، سيكون الجواب: ليس اتفاق الجنوب، ولن يكون أي اتفاق آخر، لصالحنا، لأننا لا نستحق وطناً نواصل نحره بأيدينا، ونتهم غيرنا بقتله.
1
لم يتعرّض شعب في التاريخ الحديث لما تعرّض له الشعب السوري في الأعوام السبع الماضية. ولم يحصل في أي وقت أن دولةً، بكل ما تملكه من قوةٍ وأجهزةٍ ومؤسسات، انقلبت على شعبها وتحولت من إطارٍ لحمايته وتنظيم شؤونه والدفاع عن مصالحه إلى أداةٍ لقتله بالجملة، وتشريد من أمكن من أبنائه وتجويعه وتقطيع أوصاله، وفتح أبواب بلاده للاحتلالات الأجنبية. ولم يكن من المنتظر، في أسوأ التوقعات الممكنة، أن يحظى نظامٌ سياسي، تخلى عن جميع مسؤولياته السياسية والأمنية، وانتهك، بشكل فاضح، وخلال سنوات طويلة، كل مواثيق الحرب الدولية وحقوق الإنسان، تجاه شعبه نفسه، وفي مقدمها الحق الأول في الحياة، واستخدم من دون رادع جميع أسلحة الدمار الشامل، بما فيها الأسلحة الكيميائية، بما حظي به نظام الأسد من الدعم العلني والواسع من مجموعةٍ واسعة من الدول المهمة. ولم يجد أي نظامٍ دموي في التاريخ الحديث من يدافع عنه، ويبرّر جرائمه الوحشية، ويتعاطف مع الجلاد ضد الضحية، من الأنظمة والمثقفين والسياسيين والصحفيين والفنانين، ما وجده في عصرٍ اعتقد الجميع أنه مثل نهاية الحرب الباردة، وفتح الأبواب أمام تعميم قيم الحرية والديمقراطية.
ولم يظهر المجتمع الدولي الذي قامت مؤسساته لما بعد الحرب العالمية الثانية على مبادئ حفظ الأمن والسلام الدوليين، والحيلولة دون العودة إلى نظام العنصرية، وتبرير المذابح الجماعية وجرائم الإبادة العرقية أو الدينية، وتمكين الشعوب من حقها في تقرير مصيرها، تحللا من التزاماته القانونية والأخلاقية، في أي حقبةٍ سابقةٍ، كما أظهره إزاء الانتهاكات والارتكابات الشاملة والمستمرة لحقوق الشعب وحقوق الإنسان، حقوق الفرد والجماعة التي حصلت، ولا تزال تحصل، منذ سنوات، على يد الطغمة الحاكمة في دمشق.
ولم يظفر أي مجرمٍ في التاريخ الحديث بمن يبرّر جرائمه، ويزيّن أعماله له ولغيره، ويدعو إلى تأهيل القاتل، وتمكينه من شعبه، كما ظفر الأسد ونظامه. ولم يظهر الرأي العام الدولي تواطؤا مع قاتلٍ، أجمعت المنظمات الإنسانية والحقوقية على ضرورة تقديم ملفه للعدالة الدولية، واتهامه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما أظهره أمام نظامٍ لم يتوقف عن التأكيد على تصميمه على الاستمرار في إبادة "شعبه"، وإخضاعه بالحديد والنار لشهواته وإرادته. ولا تكاد تكون هناك سابقةٌ في العالم على الغياب الكامل لأي رد فعل، رسمي أو شعبي، وانعدامٍ كامل للتضامن الإنساني، أمام صور ألوف البشر، من الاطفال والنساء والشباب والشيوخ، الذين قضوا تحت التعذيب حتى الموت، وأؤلئك الذين ماتوا خنقا بالأسلحة الكيميائية، أو تحت أنقاض المنازل والملاجئ المستهدفة بالبراميل المتفجرة، كما حصل مع جرائم الحرب الدائرة في سورية منذ سنوات. ولم يعامل احتلالٌ لبلد آخر بالتساهل، إن لم نقل بالتعاطف، ولم يحصل استهتار بمبدأ السيادة وحرمة الدم، وشرعنة لغزو المليشيات الطائفية، وإقامة للقواعد العسكرية في أراضي الغير، كما حظي به الاحتلال الإيراني والروسي للأراضي السورية.
بالتأكيد، ليست المذبحة السورية الأولى في التاريخ القديم أو الحديث، فقد سبقتها مذابح وحروب تطهير عرقي وإبادة جماعية في أكثر من منطقة، حتى بعد الحرب العالمية الثانية، لا تقلّ دمويةً عما شهده السوريون، مرت من دون أي محاسبةٍ أو عقاب. لكن ما يميز حرب التطهير العنصري السورية أنها لم تحصل في غفلةٍ من الرأي العام العالمي، ولكنها تكاد تجري مباشرة على الشاشات، في كل مراحلها وتفاصيلها. وربما لم تحظ حربٌ بالقدر الهائل من التصوير ونقل المعلومة ومعرفة الجناة والضحايا، أي بهذه الشفافية و"المعروضية"، كما حظيت المحنة السورية. فقد مرّت حروب الإبادة الجماعية السابقة جميعا من دون إعلام واسع، أي قبل الثورة المعلوماتية، ونجح مرتكبوها في إخفاء صورها الأليمة عن الرأي العام، كما أنها حصلت في عالمٍ لم يكن على الدرجة التي يعرفها اليوم من التواصل والتفاعل والاندماج.
2
حتى الحرب السورية، كان هناك افتراض واسع الانتشار بأن المجازر الكبرى التي شهدتها المعمورة في القرن الماضي حصلت لأن مرتكبيها نجحوا في إبقائها بعيدةً عن الأنظار، ونشأ شعور واسع، في المقابل، بأن مثل هذه المجازر لن يكون حدوثها ممكناً في عالم ثورة المعلومات، وأن المجتمع الدولي لا يستطيع أن يتحمل رؤية مشاهد المذابح الواسعة، من دون أن يتدخل أو يسعى إلى وقفها. ونشأ عن ذلك اعتقادٌ لدى الناشطين السوريين الذين كانوا يتعرّضون للقتل المنهجي واليومي أن خلاصهم يكمن في التوثيق اليومي، بالصوت والصورة، لكل ما يحصل من مجازر، حتى صارت وظيفة الإعلام الأبرز بين وظائف نشطاء الثورة جميعها، وهذا ما حوّل الناشطين الإعلاميين من الشباب إلى هدفٍ أول لرصاص النظام. وبانعدام وسائل أخرى لمواجهة عنف السلطة، راهن السوريون على تعبئة الرأي العام الدولي، وتمسّكوا بأمل أن يثير النشر الواسع لصور المأساة ومشاهد العنف الوحشي للنظام رد فعل عالمياً قوياً، ويبعث ديناميات التضامن مع الشعب المذبوح. كان شعارهم غير المنطوق به: لا يمكن للعالم أن يقول إنه لا يعرف كما حصل مع المذابح السابقة. اليوم نحن نقدّم يوميا، بالصور والأرقام، الأدلة القاطعة على ما يجري من انتهاكاتٍ غير مسبوقة لحقوق الشعب والأفراد. أدلة على القتل والتمثيل بالجثامين والتجويع والتشريد. لذلك لم تحظ أحداثٌ بالأرشفة اليومية التي حظيت بها الأحداث السورية. حتى ليكاد يكون هناك كل يوم سجلٌ كاملٌ بعدد القتلى والشهداء وأسمائهم وسيرهم، ومكان استشهادهم، وبمشاهد القصف والعنف والإبادة. لم يحظ الموت بسجلٍّ مفصل وجامع ويومي في أي حرب، كما حصل في الحرب السورية.
كان هذا هو الفخ الذي وقع فيه السوريون، ولا يزال أغلبهم، وفي مقدمهم الناشطون، غير متحررين من وهمه بعد، فقد اكتشف السوريون، على حساب أرواح أبنائهم، عدم صحة هذه الفرضية التي تستمد قوتها من الاعتقاد المثلث الخاطئ بأن ما منع العالم من التدخل لوقف المجازر الجماعية في الماضي هو غياب المعلومات أو تغييبها، وأن النزوع إلى الحرية والديمقراطية أصبح مطلبا عالميا وأخلاقيا معا، يوحّد بين جميع الأمم والشعوب، ويشكل مصدراً للتضامن في ما بينها، وأن العالم الذي نعيش فيه ارتقى بثقافته السياسية إلى ما فوق أنانية المصالح القومية، وولد بالتأكيد، في المعمورة المعولمة، ضمير جماعي، يدفع الدول والحكومات والرأي العام إلى العمل لوقف أي مذابح أو جرائم ضد الإنسانية. ما حصل في الحالة السورية أثبت خطأ هذه الافتراضات جميعاً.
فلم يؤثر التوثيق اليومي للأحداث على سلوك الجمهور العالمي، ولا أعارت الدول والحكومات الديمقراطية اهتماماً كبيراً للوثائق الدامغة التي قدّمتها منظمات حقوق الإنسان الدولية عن اتساع دائرة الانتهاكات والقتل بالجملة خارج القانون، والموت تحت التعذيب، أو في حصار التجويع وتحت قصف القنابل العمياء، أو حتى بالأسلحة الكيماوية والعنقودية المحرّمة. ولم يُحدث نشر هذه الوثائق والصور أي تغييرٍ في مواقف الدول المؤثرة، ولم يجعلها تتقدّم خطوةً عما كانت تفعله في أول أيام اندلاع الأحداث. وربما أكثر مما حصل في أي أحداث دولية كبيرة سابقة، لم يسد منطق المصالح الوطنية حسابات الدول الكبرى والصغرى على حساب المبادئ والقيم الأخلاقية، كما ساد في الحالة السورية. ولم تشهد الساحة الدولية تظاهرةً مهمة واحدةً لإدانة القتل والضغط على الحكومات، لوقف المذبحة السورية المستمرة منذ سنوات. منذ البداية وحتى الآن، لم تغيّر الحكومات المعنية بالأحداث رؤيتها للمسألة وللمعادلة الأساسية التي توافقت عليها ضمنا منذ الأيام الأولى: معادلة لا غالب ولا مغلوب، والتي لا تعني شيئا آخر سوى مساواة الجلاد بالضحية، وشرعنة استمرار الحرب، والقبول بفكرة استمرار القتل والإبادة.
3
ظهرت معالم هذا الواقع واضحةً منذ إفشال النظام أول مسعىً دولي لطرح حل للمشكلة، والرد الباهت للمجتمع الدولي على إخفاق مؤتمر جنيف الأول الذي عقد في فبراير/ شباط 2012، لتطبيق المبادرة العربية الدولية التي لخصها كوفي أنان في ست نقاط، أبرزها وقف النار وسحب الأسلحة الثقيلة من المدن، والسماح بدخول المساعدات الإغاثية، والبدء بإطلاق سراح المعتقلين، والبدء بمفاوضات الانتقال السياسي. وقد حاول بعضنا الهرب من مواجهة هذه الحقيقة التي سوف تتأكد أكثر مع الوقت، بافتعال قضيتين ثانويتين، والتذرّع بهما، هما غياب وحدة المعارضة، وفي ما بعد تسليح الثورة وأسلمتها. وساعدت الذريعتان على الإبقاء على وهم الرهان على تحريك المجتمع الدولي، وتدخله الإنساني أو السياسي قويا عند الأغلبية الساحقة من جمهور الثورة والرأي العام. وزاد من قوة هذا الاعتقاد أيضا عزلة موسكو في استخدامها حق الاعتراض في مجلس الأمن، حتى تقلصت خطة العمل السياسي الثوري بمجموعه تقريبا إلى البحث في وسائل ثني روسيا عن موقفها المعارض اتخاذ أي قرارٍ يفرض على النظام التحرّك في اتجاه الانتقال السياسي، أو يمكن، أقل من ذلك، من تشكيل ضغط قوي على النظام السوري. وشيئا فشيئا، وجدت الدول الصديقة، أو التي أعلنت عزمها على مناصرة القضية السورية، في اعتراض موسكو وتعطيلها مجلس الأمن أفضل ذريعةٍ لتبرير تقاعسها ورفضها الانخراط أو التورّط في أي خطوةٍ عمليةٍ للضغط على النظام، أو ثنيه عن سياساته الدموية.
هكذا اكتملت شروط المجزرة، وصار من الممكن للنظام السوري أن يستمر في قتل شعبه وتشريده وتدمير شروط حياته، بشكل علني ومنهجي. ومع سبق الإصرار أمام صمت العالم، وعطالة حكوماته، ورأيه العام معا. وفي المحصلة النهائية، قبول الجميع واستسلامه لما يحصل. ولم يعد لعرض مشاهد العنف المروّعة وتوثيقها أي أثر إيجابي على سياسات الدول والحكومات. بل تحولت القضية بسرعةٍ من قضية سياسية إلى قضية إنسانية، وتركّز الحديث فيها في مسائل الإغاثة ومساعدة اللاجئين واستقبالهم هنا وهناك، وترك الفاعل الرئيسي وموقد الفتنة والنار حرا طليقا، وصرف النظر عن تسليحه، وتعزيز قدراته من حلفائه. ومع مرور الوقت، لم يعد القتل الجماعي والتنكيل بالناس وتشريد الملايين وقتل الأطفال يثير أي رد فعل، أو حتى اعتراضٍ، من المجتمع الدولي. بل إن الصور والفيديوهات التي لا تحصى التي عرضت على شاشات العالم حوّلت حرب الإبادة إلى ما يشبه التمثيلية التي يلعبها أشخاصٌ مجهولون على مسرحٍ مفتوح على مستوى العالم، وحولت القتلة والضحايا ممثلين في تراجيديا يونانية، وساعدت في تخدير مشاعر الجمهور وتبليده، بدل أن تدفعه إلى التحرّك والوقوف في وجه مأساة حقيقية.
لم تكن هناك إرادة سياسية دولية لوقف الجريمة. لذلك، لم تكن هناك أيضاً مصلحة في إعطاء الصورة والشهادة الحية معنىً وتحويلها إلى فعل أو رد فعل على العنف المتصاعد. فما منع الرأي العام في حروب التطهير العرقي السابقة من التحرّك، حتى في أوروبا الوسطى سنوات طويلة، ليس عدم المعرفة الصحيحة بما يجري، ولا تعقيد الوضع، كما كان يقال بالنسبة للحالة السورية، وفي الواقع في جميع حالات الصراع، وإنما الاعتقاد بغياب المصلحة في وقف الحرب، وربما المصلحة في تسعير نارها، وتوسيع دائرة انتشارها. وهو موقفٌ نابعٌ من أمور مختلفة أهمها المراهنة على إمكانية الاستفادة من حروب الآخرين لتأمين مصالح أو ما يعتقد أنه مصالح قومية أو خاصة، بصرف النظر عن مصير الضحايا، وهو ما يندرج تحت بند الأنانية القومية، ومنها الخوف من التورّط في حروبٍ لا تنجم عن المشاركة فيها مصالح واضحة، وقد يترتب على هذه المشاركة خسائر ينبغي تجنبها، ومنها عدم الرغبة في تقديم تضحياتٍ لإنقاذ شعبٍ لا يثير مصيره التعاطف، أو لا يحظى بالثقة، إما بسبب ثقافته أو ديانته أو الإرث السلبي من العلاقات التاريخية.
كل هذه العوامل والمصالح المباشرة وغير المباشرة تفسّر ما ينبغي أن نسميه التواطؤ الدولي على تمرير المذبحة السورية، وهو تواطؤ يعكس، لدى جميع الأطراف التي التزمت الصمت على الجرائم ضد الإنسانية أن السياسة الدولية شهدت عودة ما يسمى مذهب الواقعية السياسية، أي البحث عن تعظيم المصالح لكل دولة، مهما كان الثمن، وخارج أي اعتبار أخلاقي أو سياسي، وبصرف النظر عن مصير العالم ككل، وشعوبه الضعيفة خصوصاً، إلى حقل العلاقات الدولية. وهذا يعني تحرير منطق القوة من أي قيد، وتحويل العالم إلى غابةٍ يفترس فيها القوي الضعيف، ويعني، في ما وراء ذلك، شرعنة الحرب الدائمة على حساب حلم إقامة سلامٍ عالميٍّ، وتعاون ناجع بين جميع الدول والشعوب من أجل التنمية، وتحسين فرص التقدم الشامل الذي راود المجتمع الدولي، بعد كوارث الحرب العالمية الثانية.
والقصد من ذلك أن كوننا ضحايا التحولات العميقة التي تحصل على مستوى ديناميات العلاقات الدولية لا ينبغي أن يدفعنا إلى الاستسلام لموقف الضحية، والغرق في الندب والشكوى، وإنما بالعكس إلى استعادة زمام المبادرة، وتحمل مسؤولياتنا تجاه شعوبنا. وبدل أن تقودنا خيبتنا من المجتمع الدولي إلى قبول الحلول الخادعة والعرجاء التي يقدّمها لنا أصحاب الانتداب الجديد، علينا أن نعود إلى تلمس إمكانية تفعيل نوابض القوة المادية والمعنوية في مجتمعاتنا، والعمل على تعزيز فرص الحلول الداخلية، وربما البدء بتكوين لجنة اتصالٍ وطنية، مهمتها القيام بالمشاورات الأولية لاستكشاف إمكانية فتح حوار وطني منتج، على مستوى المجتمع المدني، يمهد في المستقبل لبناء تفاهمات والإعداد لعهد وطني جديد، يختم حقبة الحرب، ويؤسس لحقبة ما بعد الأسد وإنهاء التدخلات والاحتلالات الأجنبية جميعا. وربما وجدنا في هذا المسار، بعد معاناة الجميع من ويلات الحروب الداخلية والخارجية المهولة، ونهاية مشروع إيران وقرب التخلص من "داعش"، فرصا جديدة لإعادة التواصل بين أطياف المجتمع المختلفة، وبدء الخطوة الأولى على طريق التحرّر من وهم الحلول الخارجية، والعودة إلى منطق التفاهم الداخلي والحوار الوطني.