يشهد لبنان، منذ أسابيع، أعمالاً مثيرة للجدل من قبل الجيش اللبناني ضد اللاجئين السوريين نتج عنها إحراق عدد من مخيماتهم والتنكيل بمئات منهم واعتقال وتعذيب العشرات مما أدى إلى مقتل أربعة مواطنين أثناء توقيفهم.
ساهمت أجهزة أمنية وقضائية لبنانية عديدة بإخفاء طبيعة القتل تحت التعذيب وعزا الجيش وفاة اللاجئين الأربعة إلى «أسباب صحية» كما قدم رواية ركيكة عن تعرضه لهجمات «انتحاريين» خلال اقتحامه المخيمات، وقال إن أحدهم قام بتفجير نفسه فقتل ابنته، لنكتشف بعد ذلك أن الفتاة (حسب رواية النائب اللبناني خالد الضاهر) ماتت نتيجة صدم آلية عسكرية لخيمتها وأن أباها ليس انتحارياً وأنه لم يمت أصلا.
وجدت روايات الجيش تقبلا لدى رأي عام لبناني، يكره بعضه اللاجئين السوريين (والفلسطينيين من قبلهم وبعدهم) على أسس طائفية وعنصرية، وجزء آخر يعتبر نفسه متضررا من وجود اللاجئين، وحين خرجت بعض الأصوات للتنديد بالانتهاكات ودعا بعض الناشطين للتظاهر احتجاجا تزايدت حملة التأجيج المحمومة وقام بعض اللبنانيين بأخذ مسألة إهانة السوريين على عاتقهم عبر التنكيل والتحريض ببعض الأبرياء والمساهمة بحماس في حملة على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الطائفي والرسمي.
الحماس الذي تم رفعه على رايات احترام الجيش اللبناني ما لبث أن تعرض للإحراج بعد أن تكشفت الأهداف السياسية والعسكرية لما يجري.
دخل «حزب الله» اللبناني على الخط من باب الدعوة لإخراج «المسلحين الإرهابيين» من جرود عرسال مطالبا الجيش اللبناني بالعمل على قتالهم. تبعت ذلك فعلاً تحشيدات للجيش اللبناني حول المدينة لحصارها ثم جاءت موافقة رئيس الوزراء سعد الحريري على الخطة قائلا إنها تتم «من دون تنسيق مع جيش النظام السوري». النظام السوري، من ناحيته، قام بالتمهيد للمعركة، التي لا يريد الحريري تنسيقها معه، بقصف مواقع «المسلحين».
يحمل ما يجري العديد من المفارقات لأن «حزب الله» الذي دخل إلى سوريا بدعاوى تبدلت بالتدريج من حماية مرقد السيدة زينب إلى «محاربة التكفيريين» وحماية النظام الممانع في دمشق بحيث وصل عناصر الحزب إلى حمص في وسط سوريا وحلب في شمالها ودير الزور في أقصى شرقها، وبالتالي فإن الحزب كان أولى بإكمال «المهمة» التي ادعاها لنفسه بدلا من توريط جيش لبنان.
يرتبط انخراط «حزب الله» في الدفاع عن النظام السوري ارتباطا شديدا بالأوضاع التي يعيشها لبنان الآن، فهذا القرار باجتياز الحدود اللبنانية نحو سوريا أعطى المبرر للتنظيمات المناهضة للحزب في الساحة السورية بالدخول إلى لبنان، كما أدى لهروب مئات آلاف اللاجئين السوريين إلى لبنان.
الجيش اللبناني، الذي كان مغلوبا على أمره (إن لم يكن متواطئا مع تدخل «حزب الله» في سوريا) استيقظ فجأة ليدافع عن سيادة البلد التي اكتشف انتهاكها من جانب اللاجئين و«الإرهابيين» فحسب.
لا يتعلق الأمر بحسابات أطراف الساحة اللبنانية فقط الذين يريدون التخلص من نتائج أفعال النظام السوري وحلفائه لأنهم لا يستطيعون مواجهة أسبابها، بل أيضاً بالحسابات الإقليمية العربية التي تشهد بدورها تغيرات سلبية، فانشغال السعودية بتبعات العمل الحثيث لتوريث العرش لابن الملك محمد بن سلمان فتح المجال للإمارات ومصر للضغط باتجاه تمرير أجندتهما والتي تضغط باتجاه حلول عسكرية وأمنية لإنهاء أي أمل بالتغيير.
ولهذه الأسباب وجدنا سعد الحريري الذي كان طرفا مضادا للنظام السوري و«حزب الله» في بداية الأزمة، وكان رجاله وسطاء أساسيين في تمويل وتسليح المعارضة السورية، يتحمس هو أيضاً لقيام الجيش اللبناني بـ«عملية مدروسة» في عرسال، وتناغم ذلك مع دعوة حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله» للخلاص من التهديد الذي يشكله اللاجئون، وقيام الجيش السوري بقصف أولئك «المسلحين» بالطيران.
الانطباع الذي تركته ممارسات ومواقف داخلية حيال النازحين السوريين في لبنان منذ أسبوعين، وبث أفلام يتعرض فيها نازحون للتعنيف من قبل لبنانيين، هو أن السوريين سواء كانوا موالين للنظام أم معارضين له، توحدوا في وجه بعض المناخ اللبناني المعادي لهم.
وإذا كانت الأمور اختلطت بين العمليات الأمنية ضد المجموعات الإرهابية التي تتلطى ببعض مخيمات النازحين، وبين ممارسات أمنية فرضت طغيان صورة عدم التمييز بين النازح والإرهابي، فإن المشاعر العنصرية المتنامية عند مجموعات لبنانية في المجتمع وفي المؤسسات، حيال النازحين، سهّلت هذا المزج وأطلقت العنان للعصبيات المريضة، بالتزامن مع حملة سياسية إعلامية لإعادة النازحين إلى سورية، لم يكن هدفها الفعلي إلا دفع السلطات اللبنانية إلى التواصل مع النظام السوري بهدف التسليم بشرعيته. مفعول هذا الهدف السياسي كان تأجيج مشاعر العداء. ولا يحتاج المرء إلى دليل على أن تحقيق مآرب النظام تسبب منذ 6 سنوات ونيف بالأضرار والمآسي للسوريين. إلا أن اللبنانيين بدورهم سقطوا ضحية ذلك. وهي ليست المرة الأولى طبعاً. تنبه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي ينتمي إلى الفريق الملح على إعادة النازحين، إلى ضرر الحملة فقال إن حل أزمة النزوح لا يكون بنشر الكراهية.
لتنامي هذه المشاعر الذي يفاقم الحساسية بين الشعبين، عوامل كثيرة في ظل الوضع الاقتصادي اللبناني الصعب، والفوضى الإقليمية. منها إطلاق الحملة السياسية الإعلامية أيضاً، تحضيراً من «حزب الله» للتخلص من المسلحين التابعين لـ «النصرة» و «داعش»، في جرود عرسال، بعملية عسكرية، أثارت المخاوف من أن يدفع مدنيو مخيمات النزوح فيها وأهالي عرسال، ثمناً جديداً بتهجير آخر. وهي عملية أغراضها السياسية أبعد من مواجهة الإرهاب ومجموعاته، تتعلق بحاجة ايران إلى استكمال اقتطاع منطقة النفوذ التابعة لها في الميدان السوري، من دمشق ومحيطها إلى منطقة القلمون، في سياق التقاسم مع روسيا وأميركا وتركيا للكعكة السورية. وليست المرة الأولى التي يدفع فيها السوريون واللبنانيون بمن فيهم رموز السلطة اللبنانية، أثمان أهداف متصلة بالصراع الإيراني- الأميركي. فالحاجة الإيرانية للسيطرة على هذه المنطقة تتعدى تطهير الحدود من هؤلاء المسلحين.
قضى الاتفاق الأميركي- الروسي على المنطقة الآمنة في جنوب غربي سورية، بإخراج إيران منها وإبعادها من الحدود مع الأردن ومع الجولان المحتل من قبل إسرائيل في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء. انكفأت الميليشيات الإيرانية و «حزب الله»، منها وبقيت في بعض محافظة القنيطرة. والتفاوض يدور على انسحابها إلى ما بين 30 كيلومتراً عن حدود الجولان (كما يطالب الأميركيون) أي إلى محيط دمشق الإدارية في سعسع، و50 كيلومتراً كما يطالب الإسرائيليون، أي إلى غرب دمشق. وأبعد الأميركيون الإيرانيين من الحدود العراقية- السورية عند معبر التنف والمثلث الأردني العراقي السوري وفي محيطه حين حاولوا التقدم مع «الحشد الشعبي» العراقي، (بحجة انتهاء معركة الموصل والمشاركة في المعارك مع «داعش» في الرقة). كما أبعد الأميركيون وبغض نظر روسي، الميليشيات الإيرانية عن البادية السورية التي تقود إلى تدمر ودير الزور، ثم الرقة... وحال كل ذلك دون استثمار إيراني بالانتشار على مساحات كبيرة من الأرض السورية بعد 6 سنوات من القتال الذي خاضوه دفاعاً عن نظام بشار الأسد، في وقت تصاعدت حملة إدارة الرئيس دونالد ترامب ضد التدخل الإيراني في سورية وغيرها وصولاً إلى العقوبات ضد قيادات في «الحرس الثوري» التي صدرت قبل 3 أيام، بتهمة رعاية الإرهاب... بل أن الأميركيين زادوا قواعدهم في سورية تدريجاً من دون الإعلان عنها إذ باتت 7 قواعد، مرشحة لأن تصبح 12 قاعدة.
ترمي طهران من وراء تمهيد «حزب الله» لعمل عسكري في الجرود إلى استكمال السيطرة على غرب دمشق والقلمون المحاذية للبنان (وهي متصلة بالطريق نحو حمص وريفها حيث لها قوات) وإلى ضمان طريق الإمداد بالسلاح للحزب بين طهران وشرق لبنان وجنوبه. والإمداد الإيراني يتم بثلاث طرق: جواً من طريق مطار دمشق والمطارات العسكرية المحيطة بالعاصمة. براً عبر العراق، الذي حال دونه الأميركيون حتى الآن من دون استبعاد مواصلة طهران محاولتها فتحه. وهناك خيار ثالث في حال تعذر الطريقين الأولين، هو أن يتيح تصاعد الخلاف الأميركي- التركي حول دعم واشنطن الأكراد في شمال سورية، واستمرار احتضان واشنطن فتح الله غولن، لإيران استخدام طريق بري من الحدود مع تركيا وصولاً إلى الساحل السوري، (سبق أن تم استخدامه على رغم طوله) ومنه إلى القلمون، ثم لبنان.
فما علاقة لبنان وجيشه والنازحين بأثمان تلك الأهداف؟
ترتفع في بيروت هذه الأيام أصوات المطالبين بعودة السوريين إلى ديارهم، فنسمع وقع صيحاتهم المدوية على أسماع مواطنيهم، ويتردد صداها في خيام و «منازل» اللاجئين، الذين يلملمون حاجياتهم ويضعونها في أكياس مهترئة بفعل الانتظار، يمسحون المكان بعيونهم الغائرة في وجوههم.
هنا تحت «سقف» لا يقي من برد أو مطر، ولا يعين على رد لهيب الشمس، كانت حياتنا، نحن «السوريين» (اللاجئين)، هاربين من الموت على يد النظام، حتى أصبحت أقدارنا المهزومة تواجهنا بموت آخر، وأن ما من مهرب. عودوا إلى موتكم الأول تحت حكم نظام الأسد، قنابله وبراميله، طيرانه وصواريخه، فهي ربما لا تؤدي إلى مصير مختلف عندما يكون الموت هو الخاتمة، ولو تحت التعذيب.
هكذا، أمام حال العجز والبؤس والإنكار، قابلت مجموعة من الناشطين السوريين حكم الموت على سوريين تحت التعذيب بـ «حرب الأمعاء الخاوية»، بهاشتاغ: (# صيدنايا- لبنان)، في إشارة منهم إلى ما يجمع مصائر المعتقلين السوريين، سواء في معتقلات نظام الأسد أو في بلدٍ طالما كانت تؤرق حريته مضاجع حكام العرب، فيهرب إليه كل باحث عن مساحة حرية لينشر فيه ما عذب من كلام الحق والحب والمواطنة الممنوعة عنه في «بلاد العرب أوطاني».
طبيعي أن موت بعض السوريين (لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين) في معتقل لبناني لا يقارَن بعشرات الآلاف ممن قضوا في سجون النظام، إذ يقول التقرير الأخير لـ «المرصد السوري لحقوق الانسان» إن ٤٥ ألف سوري قتلوا تحت التعذيب واحتجاز الحرية والإهمال، لكنّ الحدث اللبناني يأخذ بعداً آخر، حيث يفترض أن مؤسسة الجيش في لبنان ليست بيد حكومة ديكتاتورية، إلا إذا كان «حزب الله» الذي يقتل السوريين في سورية هو الذي يتحكم بمصائرهم في لبنان.
يمارس «حزب الله» إحدى أهم الاستراتيجيات المسلحة الايرانية في سورية (ولبنان)، وهي سياسة التهجير والتغيير الديموغرافي وفق خريطة مرسومة منذ الأسبوع الأول لاندلاع الثورة في سورية (آذار/ مارس ٢٠١١) وحتى ما بعد الاتفاق في جنوب سورية الذي تم أخيراً بين روسيا والولايات المتحدة لإنشاء ما سمي منطقة آمنة خالية من الوجود الايراني الذي يهدد امن السوريين وجوارهم، الأردن واسرائيل. ويبدو أن هذا الأمر نشّط الحراك الاجرامي للحزب بحق السوريين خارج الحدود السورية أيضاً، في الداخل اللبناني، وفي مخيمات اللاجئين تحديداً، ما حوَّلها محطَّ أنظار المجتمع الدولي من جهة، ومحلَّ صب جام غضب بعض اللبنانيين، من خلال آلاتهم الاعلامية وشائعاتهم التي أججت الخلاف وحوّلته، اضافة إلى طائفيته، خلافاً مناطقياً وطبقياً، وضاعفت توتر اللبنانيين بسبب ظرفهم الاقتصادي والمجتمعي والسياسي المتأزم، قبل ثورة السوريين ولا يزال.
وضمن خطة تبييض واقع النظام وميليشيا «حزب الله» في مناطق سيطرتهما المزعومة في القلمون، ولإقناع المجتمع الدولي بقدرتهما على اعادة الحياة الطبيعية إلى تلك المناطق المسترجعة من المعارضة، كان لا بد من فبركة «مشهد العودة» إلى الوطن والترويج له، والذي يعني بمضمونه العودة إلى الانضواء تحت حكم النظام، والتسليم بنجاحه المزيف في فرض حالة الأمن وإعادة المهجرين الذين ساهم «حزب الله» نفسه في تشريدهم من ديارهم ومدنهم واستولى على ممتلكاتهم وزرع بينهم غرباءه، لإحداث الشرخ المجتمعي والتغيير الديموغرافي. كانت عودة الأسر المغلوبة على أمرها من لبنان إلى القلمون عودةَ الهارب من جمر النار إلى جحيمها، بينما كانت مشاهد العائدين عبر كاميرات «حزب الله» تصور انتصار سلامهم المدمّى، متناسية أنهم يعودون إلى حيث قُتل أولادهم، وهم ينتظرون من المآسي ما يساوي فاجعتهم بمدنهم المدمرة، ومجتمعهم الذي لُوِّن بما ليس منهم.
في المقابل، يمنح «حزب الله» أمثاله من المتطرفين في الجانب الآخر، ممن سُمُّوا «متطرفي السنّة»، من «داعش» و «النصرة»، الفرصة ليكونوا عاملَ جذب آخر لعودة اللاجئين السوريين، حيث تخشى تلك الأسر على أولادها من تهمة الارهاب، بسبب نشاط تدعو إليه هذه المجموعات المصنفة ارهابية، وهي بذلك تخدم تماماً هدف النظام و «حزب الله» في خلط الأوراق، وتأكيد أن الحرب الدائرة هي فقط بين ارهابيين وحكومة شرعية، لتنجح في خطتها بإبعاد صفة الصراع السياسي عما يحدث في سورية ولبنان معاً.
يعود بعض العائلات المشردة من لبنان إلى ريف دمشق وفق الخطة التي وضعتها إيران وينفذها «حزب الله» من دون أي ضمانات سلامة، ومن دون أن تجد ما ينتزع خوفها على حياة أولادها المطلوبين للنظام، إن لم يكن بـ «جريمة» التظاهر ضده، فبجريمة الهرب من الخدمة الالزامية، التي ربما تستوجب استعداد المجند وأهله للتحول من مدافع عن الوطن وحدوده إلى قاتل لأبناء هذا الوطن، الذي فُتحت حدوده لكل من هب ودب من قوات عسكرية وأفراد بأجندات ارهابية عبروها ليقولوا إن الصراع في سورية هو صراع مع قوى ارهابية، مبتعدين بذلك من أي حلول سياسية تقربنا من اليوم الأول للثورة، التي انطلقت من اجل الحرية والكرامة وحق المواطنة، فغابت تلك المطالب وحضرت الفوضى والغوغائية، ووحدها حرية القتل هي المنتصرة حتى اليوم، وكذلك حضرت أجندات الفصائل المتقاتلة في ما بينها لتكون عامل فشل اضافي لثورة النصف مليون شهيد، ومنهم عشرات الآلاف من الأطفال والنساء بحسب المرصد، وأكثر من مليوني مصاب ومعوق.
يعود بعض العائلات إلى سورية، إلى حيث تجد مبرراً لتموت هناك في ظل نظام القهر والحصار والقهر والتجويع في زمن الحرب، بينما لا سبب يبقيها في لبنان طالما يد الموت تطاولها فيه، وبحجج واهية، ومعارضة تتوهم أنها تفاوض، وتنسى أن من تفاوض باسمهم يتجرعون مرارة الذل والحصار والتجويع.
قالت لي «عائدة»، وهي سيدة سورية تهم بالعودة إلى دمشق، إنها اشترت كل ما سوف تحتاج إليه هناك لدى عودتها إلى بلد النصف مليون ضحية، وضمن ذلك كفن أبيض، ربما استعداداً لما قد يكون مصيراً أسود، إلا أنها أردفت: لكنه أقل من سواد أن تموت لاجئاً، بذات اليد والسلاح اللذين هجّراك (حزب الله) وقتلا أولادك، ودمرا مدنك واحتلت أعلامهما الصفراء ساحات دمشق وطرق سورية «المفيدة».
ما إن بدأ عملياً تنفيذ ما بات يعرف بالتفاهم بين أميركا وروسيا حول وقف إطلاق النار في جنوب سورية وحظر المنطقة على المقاتلين الأجانب، حتى بدأت الأسئلة تثار عن جدية هذا التفاهم وجدواه وعما قد يترتب عليه من نتائج وطنية وتداعيات إقليمية.
ما سبب اختيار هذا الوقت بالذات لإعلان تفاهم كان متاحاً للطرفين منذ زمن طويل؟ هل لأن القوتين الأكثر تأثيراً في الصراع السوري، اكتفتا بما حصل من قتل وخراب وتشريد وباتت مصالحهما تتطلب إخماد هذه البؤرة من التوتر؟ أم أنه يقترن من جانب موسكو بالرد على أعباء باتت ترهقها بعد فشل لقاء الآستانة الأخير نتيجة تشدد الحليفين التركي والإيراني، وكأنها بذلك تريد تحذيرهما من وجود بديل قوي ومستعد لمشاركتها في إدارة الملف السوري؟ أم ربما كان محاولة من جانب زعيم الكرملين للتقرب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال لقائهما الأول في هامبورغ، ومغازلة مطلبه في الحد من تمدد طهران في المنطقة على أمل استمالته وتشجيعه على التعاون في ملفات أخرى تهم البلدين، في مقدمها المسألة الأوكرانية، وربما كبادرة استباقية لاحتواء السياسة الأميركية الجديدة تجاه الصراع السوري والتي بدأت تتحرر من انكفائها البليد في عهد أوباما، نحو نشاط نسبي تجلى بالضربة الصاروخية لمطار الشعيرات، والدعم المتواتر لقوات سورية الديموقراطية في معاركها ضد تنظيم داعش؟
صحيح أن توازنات القوى وتجارب بؤر التوتر المريرة تؤكد أن لا مخرج جدي لمحنة بلادنا من دون توافر إرادة دولية تحدوها سياسة أميركية حازمة، وصحيح أن شرعنة دور واشنطن في الجنوب السوري مكسب مريح لها، يمكّنها، ربطاً بحضورها في شمال البلاد، من تعزيز أوراقها وكلمتها في الصراع الدموي الدائر منذ سنوات، لكن ما الثمن؟ هل هو تسليم البيت الأبيض بشروط الكرملين ومنها الحفاظ على النظام القائم، بدليل التصريح الأميركي بقبوله مشاركة رموز السلطة المرتكبة في المرحلة انتقالية؟ أم يتعلق بتلبية حاجة أمنية إسرائيلية وبدرجة ثانية رغبة أردنية، في إبعاد القوات الإيرانية وميليشيا «حزب الله» مسافة آمنة عنهما، بما يعني فرض ما تمكن تسميته منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي الفاصل؟!
مما لا شك فيه أن تفاهماً يرعاه الطرفان الأقوى عالمياً يمتلك حظاً وافراً من النجاح، بخاصة إن بقي مقتصراً على جبهة الجنوب، بينما يرجح أن تعترضه عوائق كبيرة ومقاومة جدية إن تقرر تعميمه في مختلف جبهات القتال، فأنّى لطهران أن تقف مكتوفة الأيدي تراقب كيف يلجم طموحها الإقليمي وتدمر نتائج جهودها السياسية وتدخلاتها العسكرية في المنطقة؟ أوليس أشبه بإعلان حرب تصريح أهم مسؤوليها بأنها غير معنية بالتفاهم بين روسيا وأميركا؟ أولا يحتمل أن تلجأ، إن شعرت بالحصار الشديد وبجدية العمل على تفكيك نفوذها المشرقي، إلى تحريك أدواتها وتوسل التعبئة المذهبية لإفشال هذا التفاهم أو إعاقة تنفيذه بالحد الأدنى، بما في ذلك افتعال حرب مع إسرائيل لخلط الأوراق؟
وأيضاً لماذا ترضى تركيا بما يترك لها من فتات، بخاصة مع تنامي قلقها من اقتران التفاهم الأميركي الروسي برؤية مشتركة تتفهم مظالم الأكراد السوريين وحقوقهم وتراهن على دورهم الرئيس في مواجهة الإرهاب الجهادي؟ ألا يرجح أن توظف أنقرة ما تمتلكه من أوراق للعبث أمنياً بالترتيبات المزمع إجراؤها لتنفيذ التفاهم؟ أولم يشجعها ذلك على مزيد من التنسيق مع خصمها الإيراني اللدود، لتوحيد جهودهما ضد من يحاول منازعتهما على ما حققتاه في سورية، بما في ذلك توسل ورقة اللاجئين السوريين على أراضيها للضغط على خصومها وابتزازهم؟
وبين من لا يعول على أي دور للتفاهم الأميركي - الروسي في كسر الاستعصاء القائم، مذكراً بتفاهم مماثل لم يصمد إلا أسابيع قليلة أمام استعار معارك حلب، وبين من يسخر من تفاؤل المبعوث الدولي دي ميستورا، حول انعكاس التفاهم بنتائج ايجابية طال انتظارها في مفاوضات جنيف، وبين من يعتبر ما حصل نقلة نوعية قد تخمد الصراع السوري عسكرياً لتطلقه سياسياً، مستقوياً بجدية إدارة البيت الأبيض الجديدة، وحالة الإنهاك المتزايد للقوى الداخلية، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ثمة من يسأل محذراً: ألن يشكل ذلك التفاهم، وربطاً باتفاق مناطق خفض التوتر الذي ترعاه روسيا وإيران وتركيا، عنواناً لتقسيم البلاد وبداية لشرعنة مناطق النفوذ القائمة في ما درجت تسميته بدويلات تنازع سلطة قائمة في دمشق وحمص وحماه والساحل السوري على السيطرة، تبدأ بجبهة الجنوب، فالحكم الذاتي للأكراد في شمال البلاد وشرقها، فمدينة إدلب وأريافها، فمنطقة «داعش» في دير الزور وما حولها؟
لن تبقى المعادلات السياسية الداخلية وما يرتبط بها من توازنات بمنأى عن التأثر بهذا التفاهم، بخاصة إن تكلل تطبيقه بالنجاح وتضافرت الجهود لتعميمه، ليحضر السؤال: هل يصح من هذه القناة توقع صراعات خفية وربما معلنة بين مراكز قوة سلطوية تميل لدعم النفوذ الإيراني ضد أخرى تحبذ الدور الروسي في إدارة الصراع ورسم مستقبل البلاد؟ وهل يجوز الذهاب بعيداً مع المتفائلين في توقعاتهم بأن تفضي المناخات الأمنية والسياسية المرافقة لتعميم التفاهم، إلى تبديل الصورة النمطية للمشهد الدموي السوري، وإلى تفكيك الدوائر المحلية الضيقة المتمسكة بخيار العنف وقد باتت مجرد أدوات لأطراف خارجية تتصارع على تحسين مكاسبها وحصص النفوذ، ما يتيح بلورة قوى، سياسية وثقافية ومدنية، لها مصلحة في إنقاذ المجتمع السوري من المصير الأسوأ؟ أم علينا الاكتفاء بالحد الأدنى، وبأن أهم وجه لما حصل هو تخفيف معاناة الناس، بإيصال المساعدات الإنسانية للمحاصرين وفتح الباب لمعالجة قضية اللاجئين السوريين الذين ينتمون للمناطق التي يشملها التفاهم، ما يشجعهم على العودة لديارهم والتخلص من ظروف تشرد سمحت للآخرين بازدرائهم وإذلالهم والاستهتار بأرواحهم؟
عندما سألته مجلة «ذي آيلاندر» الطلابية: لماذا وافقت، من بين آلاف الطلبات على إعطائنا مقابلة مطولة؟
كان جواب جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركي، والضابط المتقاعد صاحب النجوم الأربعة، والذي كان مسؤولاً في الحلف الأطلسي، والقيادة المركزية، وشارك في الحروب في أفغانستان والعراق: لقد حاولت دائماً مساعدة الطلاب (كان أستاذاً في جامعة ستانفورد لمدة 3 سنوات)، نحن مدينون للشباب لإطلاعهم على ما تعلمناه خلال مسيرتنا؛ كي يرتكبوا أخطاءهم، ولا يكرروا تلك التي ارتكبناها».
ماتيس صاحب مكتبة الألف كتاب، ركز على أهمية دراسة التاريخ، هو المتخصص أيضاً في التاريخ قال: إنه لو كان يعرف ما ستحمله له الحياة، لتعمق أكثر في التاريخ. قال لـ«ذي آيلاندر»: بغض النظر عما سوف تذهب إليه سواء كان العمل أم السياسة أم العلاقات الدولية أم السياسة الداخلية، لا أعتقد أنك تخطئ إذا حافظت على تعطشك للتاريخ، والسبب في قولي هذا، أن لا شيء جديداً تحت الشمس بخلاف بعض التكنولوجيا التي نستعملها.
سئل عن الحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط تحديداً، حيث أمثال تنظيم داعش يتكبدون الخسائر العسكرية من خلال تجنيد المقاتلين الأجانب، فأجاب ماتيس: إن مفتاح خلق مناخ من الاستقرار في الشرق الأوسط يكون من خلال التعليم؛ إذ يمكن مواجهة الآيديولوجيات بمنح الناس تعليماً أفضل وأملاً بالمستقبل. أخذ ماتيس المملكة العربية السعودية مثلاً، وأشار إلى برنامج العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز للمنح الدراسية في عام 2005 لتمكين المواطنين السعوديين المؤهلين أكاديمياً من الدراسة في الخارج في الجامعات العريقة بهدف أن يعودوا إلى المملكة للمساهمة في التقدم الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. إضافة إلى ذلك، قال ماتيس إن بلدان الشرق الأوسط يجب أن تصبح أكثر إنتاجية اقتصادياً لضمان أنها يمكن أن تدعم التحديات المرتبطة بدعم المجتمع؛ كي تحقق الأهداف المتعلقة بتوسيع التعليم. ثم تحدث عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وأشاد بمحاولته التغيير السريع من الاقتصاد الاستهلاكي إلى الاقتصاد المنتج، قائلاً: «هذا جهد ثوري»، وعاد يركز على الطاقة الشبابية؛ لأنه من أجل تحقيق الازدهار في الشرق الأوسط «يجب أن يكون الشباب جزءاً من مناخ إيجابي يشعرون فيه بأنهم ينتمون إلى هذا المناخ بحيث يتجنبون أن يكونوا جزءاً من المجموعة الأكثر عرضة للتجنيد من قبل الجماعات المتطرفة».
وعاد ماتيس إلى التاريخ الذي لا يعطيك كل الأجوبة، إنما يوحي لك بالكثير من الأسئلة كي تطرحها. عبّر عن رفضه للآيديولوجيين «إنهم مثل الناس الذين توقفوا عن التفكير». يرفضون كل من ليس مثلهم. يتساءل لماذا يتعبون ويصرفون كل الجهد لإظهار أن «هذا الآخر» إما شرير أو مجنون! يقول: لا أحد منا مثالي أو كامل المعرفة.
وتسأله المجلة الطلابية «ذي آيلاندر» عن الحرب لنكتشف إعجاب ماتيس بالمؤرخ والقائد الإغريقي «ثوسيدايدس» مؤلف أول كتاب في التاريخ عن التاريخ قبل ألفين أو ثلاثة آلاف سنة. يقول ماتيس: إن الطبيعة الأساسية للحرب لم تتغير منذ «ثوسيدايدس»، والدافع إليها لا يزال الخوف والشرف والمصالح، وهذا مستمر حتى يومنا: «هذا ما قصدته عن دراسة التاريخ»، صحيح أن التكنولوجيا دخلت في الحرب الآن، لكنها لا تزال مليئة بالخوف والشجاعة، الجبن والازدواجية والغدر، الوضوح والصدق والارتباك.
عندما اختاره الرئيس دونالد ترمب لتسلم منصب وزير الدفاع، وفي شهادته أمام الكونغرس قال ماتيس: إن المؤسسة العسكرية يجب أن تكون فتاكة. في المقابلة يشرح: في عالم ليس مثالياً، فإن الطريقة الوحيدة الذي تجعله يصغي إلى الدبلوماسيين تكون عندما تدعمهم بالقوة الصلبة. يؤكد أن الدبلوماسيين هم من يجب أن يقودوا السياسة الخارجية، وليس العسكريين. «أتناول الإفطار مرة كل أسبوع مع ريكس تيلرسون وزير الخارجية، وأضعه في جو العوامل العسكرية لسياسته الخارجية؛ لأن دور العسكريين هو تقوية الدبلوماسيين». لذلك؛ لا يغيب ما بعد هزيمة «داعش» عن تفكير «العسكري» ماتيس، يروي كيف أن تيلرسون دعا قبل سبعة أسابيع إلى مؤتمر في واشنطن شاركت فيه 65 دولة ومنظمات دولية عسكرية ومالية وإنسانية وتحدث فيه ماتيس. ما أراد الوصول إليه هو أنه ليس المطلوب من الولايات المتحدة وحدها القيام بكل الأعباء. «قالت دول عدة لنا، إذا توليتم القيادة فإننا سنساهم؛ لأن الكثير من الدول لا تثق ببعضها بعضاً، لكن كلها تثق بأميركا وبغض النظر عما تقرأ في الصحف الآن».
قال ماتيس: إن 85 في المائة من المؤتمر حول «داعش» لم يكن حول الجوانب العسكرية، ونصح بمراجعة «مشروع مارشال» بعد الحرب العالمية الثانية «إنما لن تتحمل أميركا العبء الكامل، أو حتى العبء الثقيل».
اعترف ماتيس بـ«خسارة» أميركا للحروب بعد الانتصارات العسكرية، واحدة برأيه جنبت أميركا الصراعات الكبرى. قبل أن يشرح «عاصفة الصحراء» أكد أن الأهم إذا كان لا بد من الحرب، بذل كل ما يمكن لتجنب الذهاب إليها. في «عاصفة الصحراء» حققت أميركا الانتصارات على كل المستويات: يقول: قال الرئيس جورج بوش الأب لن نتسامح مع دولة تحتل دولة أخرى». وذهب إلى الحرب. «ذهبنا، طردنا العراقيين من الكويت، حررناها، ثم لم يذهب أبعد من ذلك. تصاعدت أصوات للوصول إلى بغداد، رفض، لقد كان هدفنا تحرير الكويت، ثم أننا ذهبنا بقوات أكثر من حاجتنا، أنهينا الحرب بسرعة. انطلق بالحرب بعد أن وضع نهاية سياسية لها. يضيف ماتيس: حتى الروس كانوا معنا في تلك الحرب. أبلغونا بالضبط ماذا زودت راداراتهم صدام حسين بحيث كنا نعرف أين تحلق طائراتنا وتتجنب تغطية الرادارات».
من العراق إلى إيران، وهل يمكن إعادة ثقة الشعوب العربية بإيران؟ يقول ماتيس «سيكون ذلك صعباً. لا تجري انتخابات صحيحة في إيران. المرشد الأعلى يقرر من سيتنافس ويفوز، تماماً كأن يقرر الرئيس الأميركي من سيخلفه، لكنه يبقى هو في البيت الأبيض ويبقى الآخرون يتناوبون. (هناك المرشد الثابت والآخرون يأتون ويذهبون). إيران بلد يتصرف كقضية ثورية وليس للمصالح الأفضل لشعبه؛ لذلك من الصعب جداً جداً الوثوق به. ما يجب القيام به في نهاية المطاف هو ما أقدمت عليه هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية آنذاك، أي تحريك العقوبات على كل صعيد، ولا سيما الصعيد الاقتصادي ودفعهم إلى طاولة المفاوضات؛ لأنهم يريدون البقاء في السلطة». يضيف ماتيس «لقد حاولوا اغتيال سفير عربي وسط واشنطن، وفي الوقت الحالي نقلوا صواريخ باليستية إلى اليمن أطلقت على السعودية. سيكون من الصعب جداً التعامل مع هذه القيادة. نريد أن يدرك الشعب الإيراني أن لا مشكله لنا معه. نحن لا نريد الضغط على الشعب الإيراني كي لا ينمو بظلال قيادته. لكن المؤكد أن النظام الإيراني أكبر مزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط».
ماتيس يعرج في النهاية على سوريا، حيث يعود الفضل في بقاء نظام بشار الأسد إلى إيران وروسيا. يشرح: اختارت روسيا أن تكون منافساً استراتيجياً للحلف الأطلسي ولأميركا، وسوريا هي المكان الوحيد الذي تستطيع أن تنافس فيه: «لكن بصراحة يحافظ الجيشان الأميركي والروسي على اتصالات عسكرية مفتوحة بينهما»، النقطة الحالية الآن: نحن لا نشارك في الحرب للتخلص من الأسد، نحن فقط هناك لمقاتلة «داعش»، بينما يحاول الروس معرفة كيف يخرجون.
المقابلة مع «ذي آيلاندر» مطولة. فيها التاريخ والدروس منه، فيها كيف ظلت الدوافع للحروب واحدة ولم تتغير وإن كانت الأسلحة التي تخاض بها تغيرت. يكشف ماتيس وزير الدفاع والضابط عن إنسان وإنسانية، عن ثبات وليونة. هو يرسم الحاضر ويعرف أن الشريك الأساسي لمستقبل صحيح، هم الأجيال الجديدة الشابة، شرط أن تكون تشربت ثقافة وتعليماً وهي على عجلة التاريخ. ما قاله ماتيس بتفاصيله يحتاج إلى تعميم.
في ضوء الاستعصاء السياسي بشأن سورية، وقد عبر عنه الفشل المتكرّر لاجتماعات مساري أستانة وجنيف، والذي عكس رفض الولايات المتحدة مسار أستانة، على خلفية اعتبار نجاحه "انتصاراً" لروسيا وإيران والنظام السوري، ورفض روسيا الاتحادية مسار جنيف، على خلفية اعتبار نجاحه "انتصاراً" للولايات المتحدة والسعودية والمعارضة، وفي ضوء حاجة كل من الرئيسين الأميركي، دونالد ترامب، والروسي، فلاديمير بوتين، كلّ لاعتباراته الخاصة، إلى تحقيق تقدّم، ولو كان رمزياً، جاء اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية، محافظات درعا، السويداء، القنيطرة، مساراً ثالثاً، وحلاً وسطاً يعبر عن تعارض مواقفهما إزاء أستانة وجنيف، ويلبي تطلع كل منهما إلى إنجاز ما.
عبرت الولايات المتحدة عن رفضها مسار أستانة من خلال المستوى المتدنّي لمشاركتها في اجتماعاته، حيث شاركت فيه مراقباً، ومن خلال تحفظها على نتائج تلك الاجتماعات، تحفظت على دور إيران ضامناً للاتفاق على مناطق خفض التوتر. وكان تأكيد مسؤوليها المتكرّر تمسّكها بمسار جنيف وبيان 2012 وقرار مجلس الأمن 2254 الذروة في هذا المجال.
عملت روسيا الاتحادية على عرقلة أي تقدّم يمكن أن يحصل في اجتماعات جنيف، من خلال تصريحات مسؤوليها الاستفزازية ضد المعارضة ومواقفها، ومن خلال شل الاجتماعات، عبر طرح جدول أعمالٍ لا يمسّ جوهر القضايا، ووضع لازمة توحيد وفد المعارضة على الطاولة، للتشكيك بتمثيل الهيئة العليا للمفاوضات، وكسر وحدانية تمثيلها المعارضة، وبالحلول التي تطرحها "الهيئة" لملفات التفاوض بالتالي، وسعيها إلى تحديد أسس الحل في مسار أستانة، وفرض محدّداتٍ تنطلق من رؤيتها لمتطلبات الحل السوري ومخرجاته على مسار جنيف.
جاء اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية تجسيداً لرفض الإدارة الأميركية الجديدة الدور الروسي الكبير في سورية، من جهة، وتحفظها، من جهةٍ ثانية، على إشراك الدول الإقليمية (تركيا وإيران) في الحل، ومنحها حصة في الكعكة السورية، ما يغريها للعب دور مستقل في ملفات الإقليم الأخرى، وتجسيداً لفشل موسكو في إرغام الأطراف الدولية الأخرى على قبول مبادرتها في أستانة، ودفعها إلى التخلي عن استراتيجياتها الخاصة، فقد كان بوتين بحاجةٍ إلى "نجاحٍ" يُعلن عنه يحوّل الانتباه عن فشل أستانة "المهين"، وفق مصدر دبلوماسي غربي، ويمنحه فرصة للمناورة لاستكمال مشروعه الساعي إلى احتلال روسيا موقع القوة العظمى الثانية في نظام ثنائي القطبية، عبر عقد صفقةٍ شاملةٍ مع الولايات المتحدة الأميركية.
وهذا جعل توافقهما واتفاقهما عرضةً للاهتزاز، إن لم يكن للفشل، والدخول في منعطفاتٍ خطرةٍ في ضوء عاملين رئيسين، أولهما ما تشهده العاصمة الأميركية من تطوراتٍ على صعيد ملف التحقيق في علاقة أركان حملة المرشح دونالد ترامب بمسؤولين روس، ابنه وصهره بشكل خاص، ودور الكرملين في نجاحه، وما ترتب عليها من ردود فعلٍ تجسّدت في تحرك نوابٍ في الكونغرس على مستويين: تمرير قانون يفرض عقوبات جديدة على روسيا، وطرح فكرة عزل الرئيس. ما سيضطر الإدارة الأميركية إلى التشدّد في تعاطيها مع موسكو في ملفاتٍ عالقةٍ بينهما، أوكرانيا وضم جزيرة القرم. ويثير شكوك روسيا في جدوى التوافق والاتفاق مع إدارةٍ مهدّدة بالعزل، ويدفعها إلى السعي إلى تعزيز موقعها التفاوضي، عبر فرض أمر واقع ميداني في مناطق (الحدود السورية العراقية، وشرق الفرات) سبق وألمحت واشنطن إلى أنها تريدها (المناطق) ضمن نطاق نفوذها، وتكريس نفوذها في سورية بغض النظر عن الاتفاق مع واشنطن.
بدأ ذلك بإنشاء قاعدة عسكرية في خربة رأس الوعر في البادية السورية، وهي موقع حسّاس جيوسياسياً، يبعد نحو 50 كيلومتراً عن دمشق، و85 كيلومتراً عن خط فك الاشتباك في الجولان المحتل، و110 كيلومترات عن جنوب الهضبة، ويبعد 96 كيلومتراً من الأردن و185 كيلومتراً من معسكر التنف التابع للجيش الأميركي في زاوية الحدود السورية ـ العراقية ـ الأردنية، وبمصادقة مجلس الدوما على البروتوكول الملحق باتفاقية نشر القوات الجوية الروسية في سورية الذي يسمح لموسكو بنشر قواتها الجوية في سورية 49 عاماً، مع إمكان تمديدها 25 عاماً إضافياً، واستثمار الاتفاق في تحرير قوات النظام وحلفائه من المليشيات الشيعية التابعة لإيران المرابطة في المنطقة، وزجها في معارك بادية شرق محافظة السويداء، المشمولة بالاتفاق، وبادية محافظة حمص، وجنوب غرب محافظة الرّقة، والغوطة الشرقية، وتقديم غطاء جوي لهذه القوات، واستغلال رغبة النظام وإيران في الاستمرار بالحل العسكري لإحداث تغييرٍ ميدانيٍّ كبير، لتوظيفه في المفاوضات مع واشنطن، ما يعني قطع الطريق على احتمال تطور التوافق، ومد الاتفاق إلى مناطق أخرى.
أما العامل الثاني فهو رد فعل القوى الإقليمية، خصوصاً إيران وتركيا وإسرائيل، على الاتفاق واستجابتها، السلبية والإيجابية، لمخرجاته، حيث عبرت إيران عن تحفظها عليه، وقال مساعد وزير الخارجية الإيراني في الشؤون العربية والأفريقية، حسين جابر أنصاري، في رده على سؤالٍ عمّا إذا كان الاتفاق بين أميركا وروسيا في جنوب غربي سورية سيترك أثراً على وجود القوات الإيرانية هناك: "وجود إيران بأي شكل وأي مستوى في الأزمة السورية، تم بطلبٍ من الحكومة، والتوافقات الحاصلة بين البلدين ليست مرهونة بأي طرف إقليمي ودولي"، ناهيك عن تحرّك المليشيات الشيعية التابعة لها، لتحقيق مكاسب ميدانية في البادية، وربط تقدمها بتقدم مليشيا الحشد الشعبي العراقي على الجانب الآخر من الحدود السورية العراقية، تحقيقاً لمشروع الطريق البري من إيران إلى لبنان، وباستعدادات حزب الله لشنّ هجومٍ على جرود عرسال انطلاقاً من القلمون الغربي.
وقد عبّرت تركيا عن عدم رضاها عن التوافق الأميركي الروسي، خوفاً من تطوره وامتداده ليشمل الحدود الشمالية، حيث المشروع الكردي الذي تخلت عن أولوياتها لمواجهته، والذي تخشى حصوله على مباركة الدولتين، بتصعيد ضغوطها على "قوات سورية الديمقراطية"، برفع لهجة مسؤوليها وتهديداتهم لها، وبتعزيز حشودها العسكرية على الحدود مع سورية قرب عفرين وتل أبيض والقامشلي، وتلويحها بإطلاق عمليةٍ بريةٍ بالتنسيق مع فصائل من الجيش السوري الحر، تحت اسم "سيف الفرات". وعبرت إسرائيل عن تحفظها على الدور الإيراني في سورية، واعتبرت "أن الاتفاق يرسّخ الوجود الإيراني في سورية"، وفق قول رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، خصوصاً بعد ما تسّرب عن اتفاق بين النظام وإيران، لإقامة قاعدة جوية إيرانية وسط سورية، تديرها قوة عسكرية إيرانية من خمسة آلاف جندي.
يبدو أن نجاح الاتفاق واستمرار التوافق الأميركي الروسي رهن قدرة ترامب على تجاوز العاصفة الداخلية، وحصوله على مباركة وزارة الدفاع (البنتاغون) الاتفاق الذي تم من دون مشاركته، وقدرة بوتين على لجم إيران، وتقليص دورها، ووضع حد لنفوذها، الثمن المطلوب لإغواء ترامب بمواصلة التعاون، وتوسيع التوافق ليصبح شاملاً، واستسلام تركيا وإسرائيل لمخرجات التوافق الأميركي الروسي ومترتباته.
غرّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إثر بضع ساعات من اتفاق وقف إطلاق النار في منطقة الجنوب الغربي السوري، الذي أنجزه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبشراكة واضحة من المملكة الأردنية وملكها، كتب: «وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ سيكون سبباً في إنقاذ أرواح عدة». وتابع: «حان الوقت للمضي قدماً في العمل البناء مع روسيا!».
تأتي تغريدة ترامب لتصرّح عن تفاؤله بصمود وقف إطلاق النار في ثلاث محافظات سورية أدمتها وأثكلتها الحرب لسنوات ست، هي القنيطرة ودرعا والسويداء. وجاءت هذه الهدنة نتيجة لمحادثات معقدة ومشاورات ديبلوماسية استراتيجية دامت أشهراً، وليست البتة وليدة ساعتها حين التقى الرئيسان في مدينة هامبورغ الألمانية. تلك المحادثات كانت دائرة على قدم وساق بين إدارة ترامب الجديدة وموسكو حيث حليف النظام الأعظم فلاديمير بوتين.
فما هو معيار تفاؤل ترامب، وهو المعروف عنه تبدّل طقسه السياسي وانقلابات تصريحاته الغرائبية؟ وما الضامن الحقيقي والحيادي لصمود تلك الهدنة، بل ما هي آليات فرضها على مناطق النزاع في الجنوب الغربي السوري المجاور لإسرائيل، وقد دمرت ست سنوات من القتال والحصار درعا، إحدى المدن الأولى التي شهدت احتجاجات كبرى ضد بشار الأسد في 2011، وأحالت المدفعية الحكومية والقوة الجوية الروسية رقعة كبيرة منها إلى أنقاض، بينما لا يزال قتال «داعش» دائراً في القنيطرة والسويداء من قوات النظام والمعارضة، على افتراقهما، حيث لم يشمل اتفاق وقف إطلاق النار الحرب على القوى الإرهابية هناك.
لم يأتِ هذا الاتفاق متماسكاً وصلباً من فراغ، بل جاء نتيجة أسابيع من المشاورات الكثيفة غير المعلنة، والبعيدة من الإعلام وحتى من ممثلين للجسم السياسي للمعارضة من الائتلاف أو الهيئة العليا للمفاوضات، مشاورات دارت وما زالت بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن، في عمّان، لمعالجة تدفق الميليشيات الإيرانية المنشأ، والطائفية المذهب، والداعمة لنظام الأسد، باتجاه الحدود الإسرائيلية والأردنية. هذا وقد أعلنت إسرائيل مراراً أنها لن تسمح لإيران التي دخلت في حلف جهنمي مع نظام الأسد، بترسيخ قواعدها في سورية. وحدث أن نفّذ الطيران الحربي الإسرائيلي غارات جوية عدة ضمن الأراضي السورية ضد شحنات مشبوهة من الأسلحة المتجهة إلى «حزب الله» في لبنان. كما استُهدفت المنشآت العسكرية التابعة لقوات الأسد في مواقع عدة هذا العام بعد سقوط قذائف داخل الجانب الذي تسيطر عليه إسرائيل من مرتفعات الجولان.
يشكّل الدخول الأميركي على خريطة القوى المتصارعة تحولاً نوعياً استراتيجياً للسياسة الخارجية الأميركية في عهد ترامب عن سابقتها في عهد باراك أوباما. فبعكس سلفه الذي اكتفى خلال سنوات الثورة الست باللهجة الخطابية العالية المفرّغة من أية إرادة سياسية، اتجه ترامب إلى فعل مباشر تجلّى في الشمال بتسليح ثقيل ومباشر للقوات الكردية المقاتلة هناك، على رغم تذمّر أنقرة.
أما من الغرب، فأمر ترامب باستهداف موقع عسكري للنظام بصواريخ كروز أطلقتها إحدى البوارج الأميركية من البحر إثر استخدام النظام السلاح الكيماوي ضد مدنيي خان شيخون، وذلك في أول هجوم أميركي صاروخي مباشر على هدف عسكري نظامي هو مطار الشعيرات. وفي النهاية جاء دعم ترامب لجبهة الجنوب المعارضة، والدخول في توافق روسي على إقامة منطقة آمنة محظورة الطيران في الجنوب الغربي للبلاد.
وإذا كان الهدف غير المباشر لمنطقة الحظر الجوي تلك ضمان بيئة آمنة على حدود إسرائيل، فالولايات المتحدة إنما تؤسس في الوقت عينه لهدفها الاستراتيجي الأساس برفع حاجز يحول دون الحلم الإيراني بتمديد الممر الشيعي الذي يفترض أن ينطلق من طهران ماراً ببغداد ودمشق ليصل إلى البحر المتوسط عبر بيروت.
في جولة جنيف السابعة للمفاوضات السورية، التي يديرها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، كانت لي فرصة الحديث العلني مع المبعوث الأميركي للملف السوري، مايكل راتني، حيث كان يشرح لأعضاء الهيئة العليا والوفد، وبحضور سفراء ومبعوثي أصدقاء سورية، عن أهمية اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب سورية لحماية الأرواح السورية، ولمنع إيران ووكلائها من تطوير وجود عسكري على طول الحدود. قلت له: هل نفهم أن تجربة وقف إطلاق النار تلك ستكون «نموذجاً» بالمعنى التقني والتطبيقي للمصطلح، يتم تعميمه على مناطق ساخنة أخرى، ولن يكون مشروع اقتطاع أجزاء من سورية للتعامل معها أمنياً، ما قد يمهّد لتقسيم سورية؟
جاءت الإجابة بعد يومين بتصريح أدلى به ترامب من باريس حيث قال: إثر نجاح خطة وقف إطلاق النار التي تمت بتوافق روسي- أميركي، فستشهدون في القريب تنفيذاً لخطة موازية في منطقة هي الأشد اقتتالاً اليوم في سورية.
هذا ولم يعمّر أي اتفاق لوقف إطلاق النار منذ فترة طويلة في سورية خلال السنوات الست الأخيرة، علماً أنه لم توضع أية آلية علنية لرصد أو تنفيذ الاتفاق الأخير، ناهيك عن تغييب المعارضة السياسية تماماً عن المشاركة فيه، ما ينبئ بنضوج فكرة تشكيل مجلس عسكري مشترك للمرحلة الانتقالية بالمناصفة بين من لم تتلطخ يداه بدماء الشعب السوري من ضباط النظام ومن فصائل المعارضة، وهو سينضوي تحت مظلة الجيش الوطني السوري، وهو ما بدأت بوادره تلوح في الأفق إثر إعلان جيش الإسلام في اليوم الأخير من جولة جنيف 7 عن حل نفسه استعداداً للانضمام إلى صفوف الجيش الوطني المرتقب.
تزداد التقارير الصحافية التي تتحدث عن وعود يقطعها نظام بشار الأسد لكل من روسيا والصين بأن شركات هذين البلدين ستكون لهما الأولوية في جهود إعادة الإعمار، وأن استثماراتهما ستكون ببلايين الدولارات مقابل استمرار جهودهما في دعم نظام الأسد سياسياً وعسكرياً حتى يتجاوز «أزمته». لا بد من القول إن هذا النوع من الوعود «المعسولة» لم تعد تنطلي على أحد، فلا القيادة الصينية ولا الروسية بالغباء الذي يمكن أن يقنعهم أن «إعادة الإعمار» في سورية ممكنة أو أنها ستكون قريبة، ولعل الموقف الروسي الأخير في اتفاق التهدئة في الجنوب يصب في نفس القناعة الأميركية التي تولدت في نهاية عام 2015 أنه لا إمكانية لإنهاء النزاع في سورية ولا بد من العمل على «تجميده» و «احتوائه» لمنع اشتعاله إقليمياً.
لكن، لماذا يستمر نظام الأسد في بيع هذا النوع من الأوهام التي اعتاد على بيعها لقاعدته «المؤيدة» في الساحل السوري؟ ينبع الجواب في شكل كبير من حقيقة أن الأسد لم يعد يمتلك أية أوراق كي يراهن عليها، أو يساوم عليها، فكل ما راهن عليه تبخر يوماً بعد يوم من «انتهاء الأزمة» في سنتها الأولى إلى عودة «الاستقرار» قريباً إلى تحسن الوضع الاقتصادي إلى دحر الإرهاب وأخيراً «خرافة» إعادة الإعمار وبيع الوهم أن ذلك ممكن في الوقت القريب.
التحدي الرئيس في ما يتعلق بإعادة الإعمار في سورية هو انتهاء الصراع العسكري وبداية تحقيق الاستقرار السياسي من أجل بدء ما يسمى إعادة الاستقرار والأمل. وهو وفق كل السيناريوات المطروحة اليوم يحتاج إلى سنوات عدة إن لم نقل ربما إلى عقد من الزمان لتحقيقه، أولاً بسبب تعدد الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة وتنازع وتضارب مصالحها واستحالة توافقها على الحد الأدنى هو وقف الحرب في سورية، فهناك أطراف وعلى رأسها إيران ترى مصلحة حقيقية في استمرار الحرب بدل خروجها نهائياً من المعادلة السياسية في سورية لأنه ليست لديها أية قاعدة اجتماعية يمكن لها أن تدافع عن مصالحها.
ثانياً بسبب تعدد الميليشيات الداخلية، فانتشار الميليشيات المسلحة من الطرفين سواء من قبل نظام الأسد الذي أعطى الضوء الأخضر للميليشيات العراقية والإيرانية واللبنانية للعمل على الأراضي السورية. وأيضاً من طرف المعارضة المسلحة من جهة تعدد الفصائل وتفرقها. بالتالي فإن جلب الاستقرار وإعادة الأمان تبدو مسألة معقّدة وتحتاج للكثير من الجهود الدولية والمحلية. فعدد الميليشيات التي تقاتل إلى جانب النظام أصبح يعادل عدد الكتائب المتناحرة التي تقاتل باسم المعارضة وهو ما يعقد سيناريو الاستقرار في شكل يجعله مستحيلاً في ظل انعدام أي أفق لاستقدام قوات حفظ سلام دولية أو بروز جيش وطني يضمن السلام متفق عليه ومدعوم اجتماعياً وشعبياً.
التحدي الثاني هو تأمين الأموال اللازمة لمشاريع إعادة الإعمار خصوصاً مع الدمار الكبير الذي جرى في سورية والذي كان من أهم أسبابه الاستخدام المكثف لسلاح الجو من قبل نظام الأسد، فنحن نتحدث عن عشرات البلايين من الدولارات. هذه الموازنات الضخمة من المستحيل اليوم تحقيقها لدولة صغيرة نسبياً ومحدودة الموارد كسورية وليست ذات أهمية كبرى على الخريطة الدولية. كما أنه لا بد من أن نتذكر دوماً أنه بالنسبة الى إعادة الإعمار ليس المهم هو الدمار البنياني لسورية، بل الأهم هو دمار النسيج الاجتماعي السوري والذي باستمراره وعدم معالجته سيمنع عودة الاستقرار والأمل وأيضاً سيمنع عودة الوحدة السياسية بين الأطراف المجتمعية من أجل الاتفاق على سورية المستقبل.
التحدي الآخر هو العدد الكبير من المهجرين الذين تركوا بيوتهم وأحياءهم حيث نتحدث اليوم عن أكثر من ٨ ملايين لاجئ و ١٠ ملايين نازح داخلياً، بالتالي فإن ثلثي سكان سورية تقريباً هم من المهجرين عن بيوتهم الأصلية وعودة هؤلاء جميعاً الى بيوتهم وأحيائهم ومدنهم الأصلية سيحتاج إلى ما يمكن وصفه بالمعجزة.
بالتأكيد هنالك تحديات أخرى إنما هي أقل أهمية مثل إدارة التوقعات العالية للمواطنين السوريين من عملية إعادة الإعمار ونتائجها خلال المراحل المقبلة.
فالتحدي الرئيسي اليوم هو إعادة اللحمة للنسيج الاجتماعي السوري. فنظام الأسد خلال السنوات الست الماضية عمل في شكل رئيسي على تفريق وتفتيت السوريين والتحريض طائفياً بين الطوائف المختلفة ليستفيد من ذلك تحت مبدأ فرق تسد وأنّ بقاءه في الحكم هو الضمان الوحيد لوحدة سورية الأمر الذي لم يعد صالحاً للتصدير أبداً بعد اليوم بعدما تدمر النسيج الاجتماعي السوري بفعل ممارسات منهجية على مدى السنوات السبع الماضية. لذلك وجب على النظام السياسي الجديد خلق سياسات موازية ترافق إعادة الإعمار من أجل التخلص من الوعي والسياسات الطائفية السابقة بهدف إعادة اللحمة الوطنية للمجتمع السوري.
فالعمل بمبدأ العدالة الانتقالية خلال الفترة الانتقالية من خلال عملية محاسبة رؤوس النظام الملطخة أيديهم بالدماء وأيضاً عملية بناء وتقوية مؤسسات الدولة المختلفة وكذلك القيام بالتعويضات الضرورية كل ذلك ضروري من أجل تحقيق السلام المستدام من أهم هذه القيم الجمعية هو إيمان السوريين بوحدتهم وأنّ ما حدث بينهم في هذه الحرب كان بسبب سياسات مدبرة من نظام الأسد. فإنْ استطاع السوريون وضع سياسات التفرقة خلفهم والانطلاق لما سيجمعهم لبناء سورية جديدة فسيكون أمر لم يتكرر عبر التاريخ إلا في حالات نادرة مثل اليابان وألمانيا.
إنّ عملية بناء الوعي الجمعي للمجتمعات هي عملية تراكمية ومستمرة ولا تحصل بين ليلة وضحاها ولكن بالحالة السورية سيكون من الصعب جداً بل نوع من الترف التركيز على عملية بناء الوعي الجمعي في ظل الصراع العسكري وعدم الاستقرار السياسي. لذلك الأمر الأهم الآن لبدء عملية الوعي الجمعي هو وقف الحرب والبدء بعملية التسوية السياسية.
ففي حالتي ألمانيا واليابان نجحت عملية إعادة الإعمار في شكل كبير بينما في حالة العراق فشلت في شكل مطلق وليس فقط بالإعمار وإنما أيضاً في إعادة بناء النظام السياسي على أسس ديموقراطية. ودليل هذا الفشل الذريع في العراق هو سيطرة «داعش» على كبريات المدن العراقية الموصل خلال فترة وجيزة جداً. الاحتلال ليس هو العامل الحاسم لفشل أو نجاح مشروع إعادة الإعمار، بل إنّ العامل الحاسم في حالة اليابان وألمانيا كان في وحدة النخب وفي إنتاج حكومة قادرة على توحيد السوريين على هدف واحد وهو إعادة الإعمار وإعادة بناء سورية.
للأسف الشديد لا نجد اليوم قيادات في سورية عليها إجماع مجتمعي، وأيضاً ليس هناك تصور قريب لطريقة وآلية إنهاء هذه الحرب ولذلك، يبدو المستقبل السوري غامضاً أكثر من حالة العراق عام ٢٠٠٣ حيث تم الحفاظ وقتها على الحكومة المركزية. الآن نحن في سورية أسوأ من هذا الوضع بكثير بسبب غياب فكرة الحكومة المركزية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وفي المقابل فإنّ المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام تقع تحت حكم حكومة مركزية لكنها فاقدة للشرعية بسبب سياساتها الممنهجة لقتل وتعذيب السوريين.
سورية بالنسبة الى القانون الدولي لا تعتبر تحت الاحتلال في وضعها الحالي، فالأمم المتحدة ما زالت تصنف حكومة الأسد حكومة شرعية على رغم عدم شرعيتها بنظر غالبية السوريين، بالتالي فإن الوجود الروسي هو بطلب من الحكومة السورية. ولذلك أفضل حل بالنسبة الى سورية اليوم هو الدخول تحت الإدارة الانتقالية للأمم المتحدة كما جرى في حالة تيمور الشرقية، ففي الحالة السورية يمكن هذه الإدارة الأممية بالتعاون مع الإدارة السياسية الوطنية تهيئة الأجواء للانتخابات ومن ثم انتقال إدارة البلاد للقوى السورية المنتخبة. هذا الحل يعني بالطبع وجود قوات عسكرية أممية على الأراضي السورية (القبعات الزرق) لضمان حصول الانتخابات وتحقيق الأمن في الفترة الانتقالية. إنّما حتى هذا السيناريو يبدو غير متاح في الحالة السورية بسبب تعدد الفئات المتصارعة على الأراضي السورية، بالتالي لن تجد بلداناً ترغب بإرسال جنودها لهكذا مهمة في بلد تعد الأخطار فيه عالية جداً. وعلى رغم صعوبة حصول هذا الأمر يبدو بحسب المعطيات الراهنة أنّ هذا هو الحل الوحيد على الأرض بعد الاتفاق السياسي لإنهاء العنف والاقتتال، ومن دون هذا السيناريو لا يبدو أنّ الظروف مهيأة لإنهاء الحرب.
الرسالة الوحيدة لكل مسار آستانة، والبحث المتشعب بـ«مناطق خفض التصعيد»، ومفاوضات عمان، والاتفاق الكبير في هامبورغ بين الرئيسين ترمب وبوتين، بشأن الهدنة في الجنوب السوري تحت رقابة روسية بمشاركة أميركية وأردنية، وكل الاتصالات الأميركية الروسية منذ زيارة الوزير تيلرسون إلى موسكو في أبريل (نيسان) الماضي، تؤكد المؤكد، وهو أن المفاوضات الجدية بشأن الأزمة السورية لا تدور بين السوريين، وأن الاتفاقات الكبرى باتت بين الكبار خارج مسار جنيف، وخارج رعاية الأمم المتحدة.
في الجولة السابعة من مفاوضات جنيف الأخيرة، التي أكد خلالها السيد دي ميستورا، أنه يتوقع إنجاز التسوية السياسية قبل نهاية العام الحالي، لم يكن يتحدث عن تقدم في مجرى جنيف، بل كان يشير إلى المفاوضات الموازية، بمعنى أن سوريا لم تُترك لمصيرها، وهي مركز اهتمام الكبار، الذين يطرحون سيناريوهات عن كيفية تسهيل التوصل إلى تسوية الأزمة السورية بأبعادها المختلفة. فالسيد دي ميستورا كوفود المعارضة ووفد النظام، يعرفون أن هناك سريالية في البحث بمكافحة الإرهاب، والدستور الجديد، وحتى حكومة جديدة، من دون أي بحث أو اتفاق على أسس التسوية السياسية، وحتى من دون وجود أي تفاوض مباشر بين وفود النظام والمعارضة. في العمق كل أطراف جنيف، بما فيها الموفد الأممي، يعرفون أن ما يقومون به أشبه بعمل خبراء يناقشون ملفات منفصلة، في حين التفاوض الحقيقي في مكان آخر، بعدما سلّم النظام بالقرار الروسي، وراهنت المعارضة على تفعيل إيجابي للدور الأميركي، وهو الأمر الذي بدأ يتقدم مع تسلم إدارة الرئيس ترمب.
منذ التدخل العسكري الروسي العنيف والواسع في سوريا، رسمت موسكو ما تريده من خلال تغييرها ميزان القوى بالقوة العسكرية، سعت منذ البداية لإبرام صفقة مع الأميركيين، تؤكد من خلالها أنها شريك استراتيجي في معالجة كثير من القضايا الدولية، ومنها أن دورها من القرم وأوكرانيا إلى سوريا ومنطقة المتوسط، ثابت وخارج النقاش. بالمقابل عبّرت عن جاهزية للإقرار بأدوار الآخرين وحصصهم، ولنتذكر أن موسكو منذ أن قلبت ميزان القوى العسكري في سوريا ميدانياً رفضت المضي بالحل العسكري، كما أراد النظام السوري وحليفه الإيراني، بل أكدت أن الحل السياسي هو هدفها، وتلافياً لأي التباس لم تشر يوماً إلى الحل العادل، وهي ببساطة في كلِّ هذا النهج حاذرت أن تتحول قوة قتال أرضي كي لا تسقط في فخ يستنزفها، بل تحكمت في سياق المواجهات وحجمها، وأبرمت تفاهمات إقليمية مع إسرائيل والأردن وتركيا، ولم تُسقط رغبات أطراف إقليمية أُخرى، قوام هذه التفاهمات أنه لا يمكن الذهاب إلى أي حل إلاّ بالتوافق، ولكن البداية تكون مع الأميركيين لأنه من دون التوافق بين موسكو وواشنطن لن تضمن الأولى الإقرار بمصالحها ودورها. الترجمة الأولى كانت اتفاق كيري - لافروف الذي أسقطته إدارة الرئيس أوباما، فاتسع القتال في سوريا، ومعه التداعيات على المعارضة الآخذة في التفتت، والنظام الذي أُصيبت قواه بالهذيان، ومعه الأذرع العسكرية للحرس الثوري التي عجزت عن أي انتصار حقيقي، من دون التغطية والحماية الجوية الروسية.
الرئيس ترمب منذ تسلمه الزعامة الأميركية حدد اقتلاع «داعش» والإرهاب هدفا أول، وحددت الإدارة الأميركية هدفها الثاني وهو تحجيم النفوذ الإيراني، بعدما اعتبرت أن إيران هي الجهة التي زعزعت الاستقرار في المنطقة، وبعد جريمة استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي في خان شيخون، والضربة الأميركية التأديبية على الشعيرات، اعتبرت واشنطن أن لا دور للأسد في مستقبل سوريا، لكن لا واشنطن ولا أي طرف غربي وضع شرطاً لاستئناف المفاوضات إزاحة الأسد مسبقاً، بل إن مفاوضات تيلرسون في موسكو طرحت كثيرا من الخيارات، التي يتم العمل عليها، وإذا كانت واشنطن قد وضعت مناطق خفض التصعيد تحت المجهر، فإن التوصل لإعلان الجنوب السوري منطقة آمنة، مثّل خطوة متقدمة جداً على طريق تحقيق الأهداف الأساسية التي وضعتها واشنطن، وهي أهداف يفترض إنجازها تعاونا أميركيا - روسياً وهذا ما جرى، فالاتفاق المذكور أخرج الأذرع العسكرية للحرس الثوري من كل الجنوب وبعمق يتجاوز الثلاثين كلم، ومن منطقة امتدت من القنيطرة في الجولان وحتى التنف. وتكريس الجنوب السوري منطقة آمنة يعني عودة مئات ألوف اللاجئين إلى الأردن، ما يمثل تخفيضاً للأعباء عن الأردن، ويحقق مطلبا سوريا بالعودة، وأساساً يمنع قوى التطرف والإرهاب اللعب على أوتار الصراعات الدينية والعرقية ومقتلة الهويات فيحول مخيمات النزوح إلى حاضنة للإرهاب، وقنابل موقوتة يتم تفجيرها على الطلب.
في أوساط المعارضة السورية تأكيد أن لا أولوية تتقدم وقف النار، الذي يخفض الأعباء الملقاة على عاتق السوريين، وما حصل يعد إنجازاً قياساً على السابق، والمطلوب تعميم وقف النار ومناطق آمنة تُسرع من عودة اللاجئين، وهذه الأهمية أبرزتها كل الأطراف، فأكد الرئيس الأميركي الأربعاء الماضي أن «واشنطن وموسكو يمكنهما العمل معاً في سوريا وقضايا أخرى كثيرة». والأمر ذاته أكده الكرملين، ووصفه السيد غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، بأنه «في هذه المرحلة خطوة مهمة نحو الحد من العنف، ويتماشى مع السعي إلى تحقيق هدف وقف النار الشامل على نطاق سوريا». ومع إعادة الاعتبار لمقترح روسي قديم بإنشاء مجلس عسكري، توضع بين يديه صلاحيات واسعة، محصورة اليوم بيد الرئاسة، ويضم ممثلين عن الجيش السوري والمعارضة المسلحة التي خرجت عنه، وعمليا فإن 219 مجموعة عسكرية من المعارضة المسلحة، أنجزت «مصالحات» مع النظام بإشراف «حميميم»، تمّ دمجها في وحدات عسكرية يشرف عليها الضباط الروس مثل الفيلق الخامس وسواه... وبالتوازي، دعا الوزير الروسي لافروف المعارضة إلى «عدم انتظار وضع دستور سوري جديد لبدء بحث مشاركتها في إدارة شؤون سوريا».
وبعد، فما يجري على أرض الواقع في سوريا هو ما تريده موسكو وهو يمثل الرؤية الأميركية، وعبثاً البحث عن أمر آخر. وتعاون البلدين مرشح للتطور رغم العواصف السياسية والإعلامية، انطلاقاً من الزعم بالتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، وبقدر ما يتقدم وقف النار يتعزز الإشراف الدولي الثنائي أساساً على سوريا، وتتراجع احتمالات تحول مناطق النفوذ الآنية إلى حالات تقسيم، ويكون ممكناً تبلور ظروف تصححُ من العملية السياسية، وتحد من الاستئثار بالسلطة، وتضع سوريا على خط الحد من التهميش، الذي طال أوسع الأوساط السورية، ومحاصرة نفوذ وأدوار الميليشيات الطائفية المرتبطة بإيران.
في تاريخ الثامن من يوليو (تموز) الحالي أفادت صفحة موقع «جبلة وكالة إخبارية» على «فيسبوك» المؤيدة لنظام الأسد، التي تغطي أخبار الساحل السوري أو ما يعرف بالمناطق العلوية، بأن وزارة الأوقاف السورية قررت إغلاق الثانويات الشرعية التي تدرس مذهب أهل البيت في عدة مناطق وهي «مدرسة عين شقاق، ورأس العين، والقرداحة، وكرسانا، واسطامو، والثانوية المركزية»، وقد بررت الوزارة قرارها بأن هذه المدارس والثانويات التي تم إغلاقها لم تحصل على تراخيص من الجهات المختصة، وهي غير مسجلة في الأوقاف، وتعمل بطريقة غير شرعية.
يعود انتشار المدارس التي تدرس المذهب الجعفري في مناطق العلويين إلى ما بعد سنة 2011، عندما أصدر رأس نظام البعث بشار الأسد في الأول من يناير (كانون الثاني) مرسوماً بتأسيس معهد الشام العالي لعلوم الشريعة واللغة العربية والدراسات الإسلامية الذي يتكون من 3 فروع (مجمع الفتح الإسلامي، ومجمع الشيخ أحمد كفتارو، ومجمع السيدة رقية)، وقد حصل معهد السيدة رقية على دعم كبير من وجهاء الطائفة العلوية ومثقفيها، بداية ظناً منهم أن هذا المعهد سيشكل جسراً يعزز الروابط الإيمانية والفكرية بين العرفان العلوي والفقه الشيعي، إلا أن العلويين الذين رحبوا بالوجود الإيراني في مناطقهم، فوجئوا بأنه تجاوز فكرة حماية مناطقهم من التهديدات الأمنية والعسكرية، بعد أن تسللوا إلى داخل النسيج الاجتماعي لدى العلويين، واستغلوا حضورهم الكبير مادياً وعسكرياً ودعوياً، بهدف نشر التشيع، ولتنفيذ مشروعهم قاموا ببناء مسجد الرسول الأعظم في اللاذقية، ومن ثم افتتحوا فرعاً لمعهد السيدة رقية ومقره داخل بناء المسجد، وهذا الفرع غير قانوني أيضاً، وأوكلت إمامة المسجد وإدارة المعهد إلى رجل دين راديكالي درس في الحوزة العلمية في قم، يعاونه في المهمة مجموعة من رجال الدين الذين يغلب عليهم الطابع الفقهي الراديكالي الجامد، الذي يصعب عليه تقبل أو التعايش مع فكرة العرفان أو فلسفة التصوف عند العلويين، التي تشكل جزءاً أساسياً من عقائدهم، وقد اختار الإيرانيون لهذه المهمة رجال دين شيعة من سوريا ولبنان والعراق، وحتى بعض المغاربة المتشيعين، رافضين حتى التعاون مع رجال الدين العلويين، حتى الذين درسوا في الحوزات والجامعات الإيرانية، وقد أدى قرار استبعاد العلويين إلى ردة فعل سلبية بين الأوساط العلوية المؤثرة، التي عبرت علناً عن هواجسها جراء عملية التهميش الممنهج التي تنفذها جماعات إيرانية اختارت التعامل مع وجوه غير معروفة مهمشة اجتماعياً، ومن دون أي تأثير، وفي الأغلب استغل الإيرانيون رغبة هؤلاء في النفوذ، فتم توفير الإمكانيات لهم، وذلك في إطار المواجهة التي لم تعد خفية بين دعاة تشيع العلويين والنخب العلوية الاجتماعية والثقافية المتمسكة بالتراث العرفاني للعلويين وتناضل من أجل حماية خصوصياتها، وقد جاء القرار الإيراني باستبعاد هذه النخب عن مراكز القرار العلمي والإداري في هذه المؤسسات تدبيراً عقابياً لها على موقفها العقائدي، الأمر الذي مكن القيمين على إدارة مسجد الرسول الأعظم من فتح ثانويات شرعية غير مرخصة في المدن والقرى العلوية، والعمل بشكل غير مباشر للاستيلاء على مساجد العلويين وتعيين خطبائها، الأمر الذي فتح الأبواب أمام حركة الاستبصار التي أدت إلى حدوث شرخ اجتماعي وعقائدي داخل المجتمع العلوي من خلال آليات تصنيف اجتماعية وعقائدية جديدة، حيث بات الفرز بين علوي ومستبصر.
تمكن الإيراني في بداية الأحداث عندما كان لوحده في موقع المدافع عسكرياً عن النظام من استثمار خوف العلويين وقلقهم الوجودي، فلجأ إلى استغلال العواطف الدينية التي يزداد تأثيرها في زمن الأزمات، من أجل تمرير مشروعه التوسعي حتى يضمن لنفسه إقامة طويلة الأمد في مناطقهم، وفي التزامن مع وجوده العسكري والريعي عمل على تكوين شريحة علوية تكون مخلصة له عقائدياً، فاندفع في فكرة تشييع العلويين ودعوتهم إلى اعتناق المذهب الجعفري، الأمر الذي شهد رفضاً علوياً برز أكثر مع دخول الروس القوي في الحرب السورية ولعبهم دور الحامي الأول للأقليات، وخصوصاً العلويين الذين استغلوا الروس، من أجل الابتعاد التدريجي عن المشروع الإيراني الذي تجاوز السياسة والاستراتيجية وبدأ يتدخل في شؤونهم الخاصة.
فشلت طهران جراء استعانتها براديكاليين يصعب عليهم فهم المجتمع العلوي نشأة وصيرورة، على الرغم من أنهم تيار عرفاني فلسفي منشؤه وتكوينه في تاريخ الإمامية، هذا الفشل هو العلامة الأبرز الآن في مستقبل علاقتها مع العلويين الذين فشلوا في فك ارتباطهم مع النظام، فدفعوا تكلفة عالية تتجاوز 155 ألف قتيل معظمهم من الشباب، وهم في أغلب الظن على قناعة أنهم سيدفعون مستقبلاً ثمن ما ورطتهم فيه إيران وجعلتهم معادين لمحيطهم كما فعلت بغيرهم من الفرق الشيعية.
دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتانياهو للمشاركة في إحياء الذكرى الخامسة والسبعين لحوادث فيل ديف، عندما اعتقلت الشرطة الفرنسية لحكومة فيشي ١٣٠٠٠ يهودي فرنسي لإرسالهم الى مخيمات النازيين، خطأ تاريخي وسياسي.
كان الرئيس جاك شيراك أول من اعترف واعتذر ليهود فرنسا عن ارتكاب حكومة فيشي هذه الجريمة بحق اليهود. ولكنه لم يدع أي مسوؤل إسرائيلي الى حضور هذه الذكرى الأليمة في تاريخ فرنسا. ثم جاء الرئيسان اللذان تعاقبا بعد شيراك، نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، ولم يرتكبا خطأ ماكرون الذي يرتكب بإصراره على إظهار أنه مختلف عن أسلافه الخطأ بعد الآخر في بداية عهده. وخطابه الموجه الى نتانياهو يوم هذه الذكرى وقوله «إننا لن نستسلم لرسائل الكراهية ولمقاومة الصهيونية، لأنها نوع جديد من اللاسامية» يُحييان مسوؤلاً إسرائيلياً يعتمد الكراهية إزاء الفلسطينيين ويسيء معاملتهم وهو أول من يشجع على كراهية الفلسطينيين والعنصرية ضدهم وعزلهم ودفع سياسة المستوطنات على رغم إدانتها العالمية.
إضافة الى ذلك، إن نتانياهو دعا من باريس بوقاحته المعتادة، بعد الهجوم الإرهابي الذي استهدف صحيفة «شارلي ايبدو» في فرنسا، اليهود الفرنسيين الى مغادرة بلدهم والتوجه الى إسرائيل. واضح أن ماكرون يبحث عن دور على الصعيد الدولي، لكن بحثه يشير الى عدم خبرة ديبلوماسية. وينبغي عليه أن يستفيد أكثر مما سبق خلال عهود أسلافه الرؤساء، لأن الأهم ليس أن يقوم بما يختلف عنهم بل أن يستفيد من خبراتهم وحتى من أخطائهم.
وحتى الآن، لا يزال الرئيس الشاب يحظى بالتأييد ولكن عليه أن يتجنب الأخطاء في قيادة الديبلوماسية الفرنسية. فهو أيضاً، كما قال في مؤتمر صحافي مشترك مع دونالد ترامب، عازم على تغيير الرؤية الفرنسية إزاء الصراع في سورية. وهنا أيضاً الغموض المقلق إزاء مبادرته. فهو يقول: «لقد حاولنا سبع سنوات إغلاق السفارة في دمشق وعزل بشار الأسد وهذا لم ينفع، فعلينا أن نغير». ولكنه قال للمعارض رياض حجاب، كما قال في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن إعادة فتح السفارة في دمشق ليست على الأجندة في الوقت الحاضر. وأوضح الى جانب ترامب أنه سيتحدث مع ممثلي النظام السوري عبر مجموعة اتصال تضم الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ودولاً عربية وممثلين عن النظام. ولكن مبادرته هذه غامضة. فالمفهوم منها حالياً أنه يريد إعادة دور لفرنسا من طريق روسيا، لأنها القوة النافذة في الصراع السوري.
لكن رغبة ماكرون تصطدم أيضاً بقوله خلال زيارة نتانياهو إنه سيكون في يقظة إزاء خطورة سياسة «حزب الله». ألا يعرف الرئيس الفرنسي أن الحليف الأساسي على الأرض في سورية لبشار الأسد هو «حزب الله» الذي يدفع من دماء مقاتلين شبان لبنانيين ثمن حماية بشار الأسد الذي يريد السيد ماكرون العودة الى التواصل معه؟ فأي دور فرنسي مع بوتين حليف الأسد وإيران و «حزب الله»؟ ولم تستطع فرنسا لعب دور مهم إلا في الحالات التي لم تكن تابعة لا لروسيا ولا للولايات المتحدة. بل كانت سياستها عاقلة ومنصفة من دون الاصطفاف الى جانب إسرائيل.
ربما استعصت تعقيدات الأوضاع في الشرق الأوسط جديدة على رئيس شاب ليست له خبرة في السياسة الدولية ومصر على أن يظهر كمختلف عن أسلافه بالشكل والمضمون. فهو يريد العودة الى رئاسة براقة على الطريقة الملكية بالشكل. كما دخل ساحة اللوفر يوم انتخابه أو قصر فرساي يوم استقبل بوتين سائراً وحده، في ظل فخامة يريدها لمنصبه الجديد على عكس هولاند الذي بدأ بمظهر الرئيس العادي. وماكرون أيضاً عازم على إبعاد الصحافة عنه وعدم التعاطي معها حتى في تنقلاته الى الخارج، حيث يقتصر على مؤتمرات صحافية ويحجب عن الصحافة الرئاسية المواكبة لقاءات معها. لكنه سرعان ما سيكتشف أنه في حاجة الى الاستفادة من خبرة أسلافه في صراعات المنطقة والتحالفات مع الدول الكبرى ومن التواصل مع إعلام هو في حاجة اليه.
احتُفل، في لبنان، بسقوط الموصل كما لو أنّ أمتاراً قليلة تفصلنا عن شمال العراق. الأمين العام لـ «حزب الله» كرّم ذاك الحدث بحدث آخر هو خطابه. إذاً نحن أمام حدثين في واحد. لقد هبّت العاصفة مرّتين.
من دون شكّ، وبفتوى السيستاني أو من دونها، يستحقّ سقوط «داعش» في الموصل أن يُحتفل به. لكنّ ما جرى ويجري يوحي أنّ المحتفلين احتفلوا بسقوط المدينة نفسها وبدمارها المهول. هناك خلطة من تحرير واحتلال انقسمت حولهما العواطف.
والفارق بين الاحتفال بسقوط «داعش» والاحتفال بسقوط الموصل بسيط: واحد يريد أن يسقط «داعش» في الموصل، والآخر يريد أن تسقط الموصل في «داعش». قانون جديد لـ «اجتثاث داعش»، على غرار قانون «اجتثاث البعث»، سيكون كفيلاً بفرض الانتصار النهائيّ والحاسم لوجهة النظر الثانية. ذاك أنّ دمار عاصمة الشمال العراقيّ وإذلال أهلها أقصر الطرق إلى ازدهار التنظيم الإرهابيّ، إلى سقوط الموصل في «داعش». وازدهار هذا التنظيم مطلوب ومرغوب:
فهو، أوّلاً، يبرّر الاستمرار في مشروع طائفيّ راديكاليّ مقابل، مشروعٍ يجد في تنظيم البغدادي ذريعته وعلّة وجوده.
وهو، ثانياً، يبرّر المضيّ في إلحاق المنطقة بإيران، لأنّ خطراً كخطر «داعش» يستدعي الاستعانة بقاسم سليماني وحواشيه. هذا الميل يعزّزه أنّ التوافق الأميركيّ – الروسيّ في الجنوب السوريّ «قد» (؟) يحرم الإيرانيّين جسراً بارزاً من جسورهم إلى المشرق.
وهو، ثالثاً، يبرّر الدفاع عن الأسد ونظامه المتوحّش، إذ إنّ هذا النظام، وفقاً لروايته، لا يقاتل إلاّ الإرهاب التكفيريّ. التتمّة المنطقيّة التي يتلقّفها الأتباع في بيروت هي: ضرورة التطبيع مع النظام المذكور و «التنسيق» لأجل «عودة اللاجئين». في هذه الغضون يتمّ إخضاع اللاجئين إيّاهم لرقابة بوليسيّة ولإذلال أرعن يشارك فيهما السكّان. إنّ «الأخوّة»، مثلها مثل «الطريق إلى القدس»، تعمل بأشكال كثيرة ومتفاوتة!
وهو، رابعاً، يبرّر مضيّ «حزب الله» في الإمساك بلبنان ودولته وجيشه إلى ما لا نهاية، بل تشديد هذا الإمساك وتمتينه. والموضة الآن، ما بين بغداد وبيروت، أن يُحتفى بالجيش احتفاءً يشبه تسمين الطريدة، وأن يُمنح القرار لميليشيا كـ «الحشد الشعبيّ» أو «حزب الله». ذاك أنّ الجيوش ضعيفة أمام «داعش»، مثلما كانت ضعيفة أمام إسرائيل. إنّها ضعيفة أمام أيٍّ كان. الميليشيات وحدها هي الأهل لذلك، ولهذا ينبغي أن يبقى سلاحها بيدها إلى ما شاء الله.
تبعاً للأهداف أعلاه تبدو بلدة عرسال اللبنانيّة مُلحقاً بمدينة الموصل العراقيّة. الإلحاق هذا قد يتأخّر يومين أو ثلاثة، أسبوعين أو ثلاثة، إلاّ أنّه ماثل بقوّة في الأفق. فبالحجر العرساليّ يصاب لبنان وتصاب سوريّة معاً، وبه نتواصل مع الموصل فيما يتأكّد، مرّة أخرى، أنّ سلاح الميليشيا ضرورة قاهرة. ولأجل أهداف كتلك تسهر قيادةٌ سياسيّة وميدانيّة لا نكون تآمريّين إن وصفناها بالغرفة التي تسري أوامرها على مدى عريض عابر للحدود. إنّها، وبطريقتها الطقسيّة، تصف نفسها بذلك: قاسم سليماني يقبّل يد حسن نصر الله الذي قبّل يد علي الخامنئي.
لقد سبق أن عرفنا، في هذه المنطقة، «قيادة قوميّة» تحرّك «العمل الثوريّ من المحيط إلى الخليج». على رأس تلك القيادة وقف رجل بائس تبيّن لاحقاً أنّه زوج مخدوع في حزبه. إنّه ميشيل عفلق الذي دعا إلى «انقلاب في الحياة العربيّة» ففهم أتباعه العسكريّون أنّ المطلوب انقلاب عسكريّ في كلّ بلد عربيّ. وحين حاول أن يعترض، تمرّدت «القيادات القطريّة» على قيادته «القوميّة»، وتمرّد عليه حزبه وعسكره ليكتشف متأخّراً أنّ «هذا الحزب ليس حزبي وهذا العسكر ليس عسكري». ويبدو أنّ القوى والأحزاب التي من هذا النوع بحاجة دائمة إلى عفلقها، أو إلى اختراع عفلق ما، أو إلى استضافة غريب طارئ كي يكون عفلقها العابر. والعفلق هذا قد يكون جيشاً وطنيّاً، عراقيّاً أو لبنانيّاً، وقد يكون شخصيّة دينيّة كالسيستاني، أو سياسيّة كحيدر العبادي أو سعد الحريري. أمّا القرار الفعليّ، من الموصل إلى عرسال، فيبقى في تلك الغرفة السوداء التي تجهد لإسقاط المنطقة في «داعش».