مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٥ يوليو ٢٠١٧
أهي موجة طحن جديدة تنتظرنا؟

لو أجرينا اليوم استفتاء في أيّ بلد عربيّ: من الذي يؤيّد نظاماً ينهض على مبادئ القانون والحرّيّة والمساواة، لانتهينا إلى أقلّيّات هزيلة تؤيّد. هذه الأقلّيّات زادها ضموراً انهيار الثورات العربيّة ما بين تحطيم خارجيّ وتحطيم ذاتيّ، فاندفع البعض إلى إيثار الوضع القائم، أي الاستقرار والأمان كيفما اتّفق. تلك الأقلّيّات إيّاها يُرجّح أن تزداد ضموراً: ذاك أنّ الأديان والطوائف والإثنيّات، المتورّطة في النزاعات، ستستعيد بعض أبنائها «الضالّين» الذين لا تزال تتوزّعهم الحيرة بين العقل والغريزة، أو بين الضمير والجماعة. في المحيط العريض، سوف يزداد الالتحام بالبنى التقليديّة طلباً للحماية و/أو طلباً للترقّي. ما تبقّى من حقوق الإنسان سيُسحق، والمنظّمات والجمعيّات التي تدافع عنها ستبحث عمّن يدافع عنها.

تجربة لبنان مع اللاجئين السوريّين اليوم تقول، للمرّة الألف، إنّ الاختلاف في درجة الصلة بحداثة وحيدة الجانب، حداثةٍ من دون القانون ومن دون النزعة الإنسانيّة، لا يعني الكثير على صعيد كهذا.

الوضع الموصوف سوف يضعنا، في مستقبل بدأت نذره بالظهور، أمام مأساة تتجاوز المآسي التي سبقت، لتولّد سلسلة لا متناهية من المآسي. فلا الحاكم سيكون قابلاً للمساءلة، ولا زعيم الطائفة، ولا شيخ العشيرة. الاستبداد سيهبط من موقعه المركزيّ إلى تضاعيف العلاقات الاجتماعيّة في جميع مستوياتها الدنيا. معه ستشعّ علينا كراهيّات مقدّسة بلا حدود، وستُفتح عرسالات لا نهاية لها.

لكنْ لنتذكّر قليلاً التسعينات، عقد «العرس الديموقراطيّ» الكونيّ، بالجدّيّ فيه والفولكلوريّ. يومذاك بدا النشاز العربيّ في عدم الطلب على الديموقراطيّة مدعاة لطروحات بائخة وتبسيطيّة عن «صراع الحضارات». اليوم، وفي معزل عن تعداد الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، ستبدو الهوّة أكبر بلا قياس ممّا كانت عليه في التسعينات. إلى ذلك، ستكون الهجرة الكثيفة التي شهدها العامان المنصرمان الصنّارة التي سيصطاد بها الكثيرون صيدهم المسموم، متأكّدين من صلابة براهينهم وملموسيّتها.

ولقائل أن يقول: إنّ الغرب نفسه تردّى ويتردّى، وهذا صحيح. لكنّ الفارق بين تردّيه، أو كبوته، وبين تردّينا، لا تخطئه إلاّ عين المتستّر على انهيارنا، أو من يجمّله. ففي مقابل حروبنا المفتوحة والمؤجّلة، تطالعنا الأخبار يوميّاً باحتمالات عزل ترامب (الذي بحسابات الأرقام رسب في الانتخابات الرئاسيّة). واستطاعت فرنسا أن تبعد مارين لوبن، فيما تتهيّأ ألمانيا لتجديد الانتخاب لأنغيلا مركل. اليمين المتطرّف، فوق هذا، لم يحظَ بموقع مؤثّر في البرلمان الهولنديّ ولا حظي بالرئاسة النمسويّة. حتّى بولندا، تعلن أكثريّتها الكبرى رفضها القانون الجديد الذي يُخضع المحكمة الدستوريّة وتعييناتها للسلطة السياسيّة. إنّها تهبّ دفاعاً عن فصل السلطات. فوق هذا: ليس ما يعانيه الغرب من طينة جيولوجيّة. ليس فناء وبقاء وإعادة تشكّل. نحن نعاني هذا.

ما يقال لا يقال للإيحاء بأنّ سائر العالم يعيش ألمع لحظاته. «هناك»، لا تزال مقاومة الانحطاط تملك ضماناتها القويّة. «هنا»، يملك الانحطاط ضماناته الهائلة القوّة.

هل نحن حيال موجة جديدة من «صراع الحضارات» تطحننا، بعد كلّ الطحن الذي تعرّضنا له في العقود الفائتة؟

الأسوأ أنّه إذا كان هذا التعبير الإيديولوجيّ يتضمّن «وحدة» بين أبناء «الحضارة» في مقابل «وحدة» بين أبناء «الحضارة» الأخرى، فإنّ أحوالنا البينيّة، حروباً وأحقاداً، بليغة جدّاً في فضح هذه النظريّة برمّتها... إلاّ أنّنا قد ننتهي إلى وضع لا نعود معه نملك الصوت واللسان كي نعلن ذلك!

اقرأ المزيد
٢٤ يوليو ٢٠١٧
حديث حول الدستور السوري

مع انطلاق اللقاءات التشاورية التقنية التي عقدها دي مستورا في لوزان مطلع هذا الشهر (يوليو 2017) بين أطراف المعارضة السورية، انطلقت في المجتمع السوري حملات شعبية ملأت صفحات التواصل الاجتماعي تدعو إلى اعتماد دستور 1950 الذي رسخ بنية الديمقراطية في تلك المرحلة من تاريخ سورية، وأسس لحكم غير طائفي، وقد جاء هذا الدستور بعد أن مرت سورية بحالة قاسية من الفوضى حيث شهدت ثلاثة انقلابات عسكرية في عام واحد هو 1949 وكان الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم (في شهر مارس) أول انقلاب في الشرق الأوسط، وبداية لتدخل الجيش في الحكم بشكل مباشر، وبعد أقل من خمسة أشهر قام سامي الحناوي بانقلاب على الزعيم (شهر أغسطس) وسرعان ما قام أديب الشيشكلي بانقلاب على الحناوي (شهر ديسمبر)! ولعل هذه الأجواء الانقلابية حفزت الشعب السوري على الإصرار على استعادة الحياة الديمقراطية، التي بدت مطلباً شعبياً منذ حكومة علي رضا الركابي عام 1918 حيث تم تأسيس أول تجربة برلمانية عربية بعد نهاية المرحلة العثمانية. والطريف أن الأمير فيصل بن الحسين استعان عام 1919 بالناخبين الذين اختاورا ممثليهم لمجلس المبعوثان لإسطنبول ليكونوا أعضاء المؤتمر السوري العام الذي قام بتعيين الأمير فيصل ملكاً لسوريا، وهو المؤتمر الذي تولى رئاسته بعد فوزي باشا العظم، هاشم الأتاسي الذي ترأس لجنة صياغة دستور 1920.

ولقد قام الانتداب الفرنسي بتعطيل هذا الدستور لأن خطة فرنسا يومذاك هي تقسيم سوريا، وقد فعلت ذلك، ولن أستعرض التفاصيل فحسبي أن أشير إلى أن دستور 1920 انتهى العمل به وانتخبت لجنة جديدة لوضع دستور لسوريا عام 1928 برئاسة إبراهيم هنانو، وأعلن الدستور الجديد أن سوريا جمهورية نيابية عاصمتها دمشق ودين رئيسها الإسلام، وأن بلادها وحدة سياسية لا تتجزأ، وتم في هذا الدستور فصل السلطات، وقد تم تعديله عام 1947 ثم عام 1948 حيث سمح للقوتلي بولاية ثانية، إلى أن جاء انقلاب الزعيم وتم تعطيل العمل بالدستور.

وحين جاء سامي الحناوي بانقلابه كلف الرئيس السابق هاشم الأتاسي بالإعداد لانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وكان دستور 1950 الذي سمي دستور الاستقلال، وكان قد ترأس لجنة وضع الدستور الدكتور ناظم القدسي الذي صرح يومذاك بأن اللجنة درست خمسة عشر دستوراً أوروبياً وآسيوياً للوصول إلى أرقى المعايير الدستورية.

وأهم ما جاء به الدستور الجديد هو إنهاء النقاش الحاد حول «دين الدولة» حيث اتفق الجميع على الاكتفاء بأن يكون دين رئيس الدولة الإسلام، وهذا ما كان أقره دستور 1930، كما أقر دستور 1950 تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، وزاد من صلاحيات البرلمان، ولكن هذا الدستور لم يحسم موضوع تدخل الجيش في الحياة السياسية، وكانت هناك مادة لم يتم إقرارها.

والمفارقة اليوم أن موضوعات النقاش الجارية في لوزان وفي مواقع أخرى تستعيد ذات القضايا على رغم مرور ستة عقود ونيف، حيث كانت الحوارات وما تزال تدور حول صلة الدولة بالإسلام، وحول حقوق الأقليات، وحول موقف الجيش من السياسة، كما أن هاجس تقسيم سوريا لا يزال خطراً يخشاه جميع الشرفاء من السوريين.

وقد توافقت رؤى أغلب المتحاورين في اللجنة التقنية التي تدرس ملف الدستور حالياً على أن صياغة دستور جديد لسوريا تأتي في سياق عملية انتقال سياسي ضمن محادثات جنيف الراهنة، وينبغي أن يبدأ العمل في إعداد الدستور فور إنشاء هيئة الحكم ذي المصداقية غير الطائفي (كما تسميه البيانات والقوانين الدولية) وسيطرح على النقاش الشعبي العام. ويفترض أن تكون آلية ذلك منوطة بهيئة الحكم التي ستدعو إلى عقد مؤتمر وطني عام، يقوم بتشكيل لجنة صياغة الدستور، الذي سيعرض على استفتاء عام، وتلتزم الأمم المتحدة بالإشراف عليه.

وأعتقد أن إصرار قوى مهمة من الشعب السوري على استعادة دستور 1950 بشكل مؤقت هو توجيه مهم لمن سيقومون بوضع دستور جديد، بألا يخرجوا عن روح هذا الدستور، وأن يرسخوا قيم الديمقراطية ومفهوم المواطنة، وأن يحافظوا على المرجعيات الثقافية التي حافظ عليها الشعب وحافظت بدورها على هويته.

اقرأ المزيد
٢٤ يوليو ٢٠١٧
السياسة الروسية ترفض الشراكة السياسة وتسعى للتفرد بالقرار وتغيير جياد المعارضة

لضمان تفخيخ المعارضة السورية والوفد المفاوض وتطعيمها بمنصّات موسكو والقاهرة بغية استنبات القرار الروسي في المعارضة والوفد المفاوض، يحاول الرّوس فيما يتعلق بوقف إطلاق النار بالغوطة من خلال التنسيق  مع أحمد الجربا الرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري ورئيس تيار الغد حالياً تهديد الهيئة العليا للمفاوضات والتلويح لها بإمكانية قلب الطاولة ودعم الجربا والتحالف معه إذا لم تسرع في اتخاذ القرار المتعلق بتغيير الهيكلية السياسية للمعارضة. وبشكل عام وحتى إن تم قبول المعارضة الحالية بمنصات موسكو والقاهرة، لن تقبل موسكو والقاهرة بوجود تيارات أو أشخاص غير راضيةٍ عنهم في التكتلات السورية المعارضة، وسيكون أحمد الجربا أحد أعضاء الهيئة العليا للمفاوضات هو البديل المناسب المطروح والذي تشرف موسكو على إعداده وتسويقه كأحد الفواعل المؤثرة بالملف السوري، لا سيما ويعتبر الجربا أحد منافسي رياض حجاب المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات والمعروف بخطه السياسي المغاير للإرادة الروسية، وبعبارة أدق خطه السياسي غير المتطابق مع الإرادة الروسية.

وتؤكد تصريحات قدري جميل رئيس منصّة موسكو والمعارض بشدة لرحيل بشار الأسد بالوقت الحالي، عزم الروس على تغيير جياد المعارضة بالمطلق وعدم الاكتفاء بتطعيمها إلا كخطوة تكتيكية، فمن المعلوم أن السياسة الروسية لا تقبل أنصاف الحلول أو مشاركة الآخر إلا تكتيكيا إن أجبرت على ذلك في مرحلة معينة، فقد كانت تصريحات رئيس منصة موسكو واضحة عندما لمح في مؤتمره الصحفي الأخير في جنيف7 أنّ مفاوضاته مع المعارضين كانت سلسة للغاية، لحين الوقت الذي وصل به رياض حجاب المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات لجنيف، عندها وفجأة تعرقلت المفاوضات وتغيرت المواقف حسب إفادة قدري جميل. بالمقابل ما يبدو استطاعت روسيا إقناع العديد من الفصائل المقاتلة بقبول واجهة سياسية جديدة مقابل وعود سياسية ومستقبلية لن يحققها الروس لهم حتماً، لأن سياستهم لا تقبل الطرف الآخر إلا تكتيكيا ولأهداف مصلحية واستراتيجية. وعليه فعلى قوى الحراك السوري أن تكون أكثر فطنة وتحاول تحقيق أكبر المكاسب الممكنة في ظل المتغيرات السياسية الطارئة، وأولى الخطوات لذلك هو التحالف مع القوى الثورية الأخرى ومن ثم مفاوضة الطرف الآخر، وإلا ستذوب بالطرف الآخر كما يذوب السكر في فنجان القهوة.

اقرأ المزيد
٢٤ يوليو ٢٠١٧
لبنان.. هذا التحريض العنصري ضد السوريين

استوت الطبخة، وبدأت التعبئة السياسية والإعلامية والشحن الطائفي، والتخويف من النازح واللاجئ، وشد وتر العصبية اللبنانية، تفرز نتائجها. العنوان المعلن لهذه الحملة هو الدفاع عن الجيش اللبناني "سياج الوطن وحامي أمنه وحدوده من الإرهابيين". علما أن لا أحد تعرّض للجيش بكلمة. أما المبطن والمضمر فخطير وخبيث وسلطوي واستبدادي وفتنوي، ناهيك عن رائحة العنصرية التي بدأت تفوح.

بدأت الحملة على مواقع التواصل الاجتماعي تنافس مزايدة في التهليل للجيش والإشادة به، وشتم النازحين السوريين، خصوصا في أوساط المراهقين والجهلة، بدأت تنتقل إلى وسائل الإعلام وتتوسع، ثم تليها التعبئة في الشارع وعلى اللوحات الإعلانية. وها هي تدخل كل بيت، متخطيةً كل الخلافات السياسية والانتماءات الطائفية والمذهبية. الجيش لا يُنتقد ولا يُمسّ، ولا يمكن إبداء أي ملاحظةٍ تجاه ما يقوم به. ولا يجب حتى أن يُؤتى على ذكره على أي شفة أو لسان، غير التبجيل والحمد، كما في ظل الأنظمة العسكرية. أنه يقاتل ويستبسل في مواجهة الإرهاب وتنظيماته، مثل "داعش" وجبهة النصرة المتغلغلة بين النازحين، بحسب أصحاب الحملة. حتى عندما يخطئ، وجلّ من لا يخطئ، وإذا حصل وأن أخطأ في التعاطي مع بعض من تم اعتقالهم خلال عمليات مواجهة على الحدود الشرقية اللبنانية - السورية، وأدّى هذا الخطأ إلى وقوع أربع ضحايا، فمن غير المسموح أن يحتج أحدٌ، أو أن يطالب بإجراء تحقيقٍ لكشف حقيقة ما حصل، حفاظا على حقوق الموقوف، حتى تثبت إدانته، أو بهدف معرفة حقيقة ظروف من قضى، وحفاظا، في الوقت عينه، على دور الجيش وسمعته وحصانته.

ولأن أحدا تجرّأ، وهو طرفٌ لبناني بطبيعة الحال، ودعا إلى اعتصام رمزي سلمي مرخص، تضامنا مع الموقوفين والضحايا، ومطالبا بكشف حقيقة ما حصل مع هؤلاء الأشخاص، بغض النظر عن جنسيتهم وانتماءاتهم، ارتفعت أصواتٌ تهدّد بالثبور وعظائم الأمور. واشرأبت أعناق وأبواق مأجورة ومسعورة مطلقةً حملة شعواء على النازحين السوريين، "المعتدين على أمننا" و"المتنكّرين لحسن الضيافة"، و"ناهبي خيراتنا ولقمة عيش أبنائنا" و.. و.. وحولت البروباغندا الاعتصام إلى تظاهرة معادية للجيش اللبناني. وأعلن "سعاة الخير"، من حاقدين وبقايا أجهزة، عن تظاهرة مضادة، تضامنا مع الجيش في المكان نفسه. ووسط هذا المناخ المسموم، اندفع متهورون ليلا إلى مطاردة بعض النازحين، والاعتداء عليهم بوحشية. عندها، سارعت وزارة الداخلية إلى التحرّك لضبط الأمور، قبل حصول ما لا تُحمد عقباه. وقد دفعت الوقاحة بالسفير السوري في بيروت إلى حد إصدار بيانٍ يدين فيه "المعاملة السيئة التي يتعرّض لها السوريون من البعض" في لبنان؟!

الخطوة الأولى إذا إيجاد مناخٍ معاد للنازحين السوريين الذين هم بمعظمهم من معارضي النظام، ولجأوا إلى لبنان هربا من القتل ببراميل الأسد المتفجرة. ثم تسويق فكرة أن مخيمات النزوح أصبحت مخترقة من إرهابيي "داعش" وجبهة النصرة الذين يتلطون بالنازحين، للاعتداء على الجيش كما يروّج حزب الله منذ فترة. وبالتالي، تأليب الجيش ضد النازحين، ووضعهم في مواجهةٍ معه، بالتزامن مع إحداث مناخٍ تعبويٍّ من الحقد والكراهية والعنصرية تجاه السوريين، واللعب على خلفية مخزون الذاكرة، الحديثة في مطلق الأحوال، عبر الخلط بين الشعب السوري وممارسات النظام السوري وأجهزته التي حكمت لبنان ثلاثين سنة.

الخطوة الثانية هي إيهام النازحين السوريين، في المقابل، بأنهم باتوا غير آمنين، وغير مرغوب فيهم في لبنان، وإن العودة إلى سورية هي الخيار الأسلم لهم. ولكن، إلى أين؟ يحاول هنا حزب الله الضغط على الحكومة اللبنانية، لإجبارها على فتح حوار مع بشار، والاعتراف بشرعيته، والتنسيق معه بشأن عودة النازحين التي يضمنها هو إلى "المناطق الآمنة" التي يسيطر عليها. وطبعا نريد أن نقتنع أنها مزحة، ولو سمجة، إلا أن هذه المناورة لم تنطل على رئيس الحكومة وحلفائه من غير "الممانعين".

الخطوة الثالثة والأهم تمرير تحت دخان هذا الغطاء الكثيف والخبيث المشحون بالسموم العنصرية "معركة تحرير جرود عرسال" اللبنانية من إرهابيي "النصرة" التي مهد لها حزب الله منذ أسابيع، وأطلقها فجر الجمعة 21 يوليو/ تموز الجاري. وهي معركةٌ قرّرها وافتعلها حزب الله بمفرده، ووضع الجيش اللبناني أمام الأمر الواقع، بعد أن تم توريطه في معارك تطهير تمهيدية، اصطدم خلالها بوفاة أربعةٍ بظروف غامضة من بين الذين تم توقيفهم خلال المداهمات. وقد مهّدت هذه الواقعة الطريق أمام حملة التعبئة والتجييش مع الجيش، وضد النازحين. وقد مهد الطيران الحربي الأسدي لهذه المعركة منذ أكثر من أسبوع بغاراتٍ على جرود عرسال داخل الأراضي اللبنانية، فيما بدت الحكومة اللبنانية مربكةً، تلتزم الصمت حيال انتهاك طيران بشار السيادة اللبنانية. أما جماعة "الممانعة" فيبرّرون هذا الانتهاك بأنه يعود إلى عدم ترسيم الحدود بين البلدين، علما أن من رفض كل محاولات الترسيم هو النظام السوري، سواء بالمباشر أو عبر الأمم المتحدة.

تم التحضير لمعركة عرسال بإتقان، وعلى أكثر من مستوى، أوله إحراج الجيش وإجباره على اللحاق بما يقرّره حزب الله، بسبب غياب أي قرار رسمي حكومي. وثانيا، عبر إيجاد مناخ لبناني حاضن ومعاد للنازحين. وثالثا، مواكبة من وسائل إعلام "الممانعة" التي راحت تروّج المعركة، وتتكلم عن تفاصيلها وإحداثياتها قبل حصولها. وواضح أن الهدف الجوهري للمعركة أن منطقة عرسال (نحو 50 ألف نسمة من السنّة) تشكل عقبة كأداء في طريق تحرير الشريط الساحلي (دويلة الأسد المزعومة؟) من دمشق نحو حمص واللاذقية.
وللمفارقة، رسمت صحيفة الأخبار اللبنانية صورة عن مجريات المعركة في عددها الصادر صباحا بالتزامن مع بدء الهجوم، واعتبرت بوضوح، ومن دون أي إحراج، أنها معركة يخوضها حزب الله والجيش السوري. وقدمت للتقرير جازمةً أن المعركة "ستنتهي قريباً بتحرير ما يزيد على 300 كلم مربّع من سيطرة الإرهابيين على يد المقاومة والجيش السوري، ليتسلّم الجيش اللبناني لاحقاً الحدود اللبنانية ــ السورية "خالية من الإرهاب".

اقرأ المزيد
٢٤ يوليو ٢٠١٧
تركيا وأميركا في سورية؟

لا يمكن فهم كشف وكالة الأناضول التركية القواعد العسكرية الأميركية في شمال شرق سورية إلا في سياق زيادة التوتر بين البلدين، على خلفية مواصلة الإدارة الأميركية دعمها الكرد، وعدم استجابتها لمطلب تركيا بوقف هذا الدعم، وهو ما تعدّه أنقرة الحليفة التاريخية لواشنطن انقلابا على ثوابت العلاقة الأميركية - التركية، منذ انضمت تركيا مبكرا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1952، ولعل ما يزيد من مخاوف تركيا شعورها العميق بأن وراء الدعم الأميركي للكرد وجود مخطط غير معلن، هدفه إقامة دولة كردية في المنطقة، وإن إقامة مثل هذه الدولة ستؤدي إلى تقسيم تركيا، فيما تقول واشنطن إن ذلك يأتي في إطار الحرب على "داعش". وهكذا، تحول الدعم الأميركي للكرد إلى نقطة خلاف متصاعدة في العلاقات التركية – الأميركية، أفقدها الثقة من جهة، ومن جهة ثانيةٍ، عمّق من الشروخ بين البلدين، لاسيما ان قضية تسليم فتح الله غولن المتهم بالتورّط بالإنقلاب العسكري الفاشل في تركيا تخيم بظلالها على هذه العلاقة.

أمام هذا الواقع، ترى تركيا أن اللغة الدبلوماسية الأميركية التي تحاول التوفيق بين الحليف التاريخي (تركيا) والحليف الكردي الجديد عبر لعبة التوازنات ليست سوى مجرد أسلوب دبلوماسي، للتهرب من مطالب أنقرة، والمضي في المخططات الخفية، ومثل هذا الأسلوب لم يعد ممكنا القبول به في المرحلة المقبلة، وإن على واشنطن أن تحسم خيارها بين استمرار تحالفها مع الكرد أو العودة إلى تحالفها القديم مع أنقرة. وعليه، فان كشف أنقرة المواقع العسكرية الأميركة في سورية يشكل رسالة تركية بأنها لن تقبل باستمرار الوضع هكذا، وهي رسالةٌ تتكامل مع التسخين العسكري التركي في شمال سورية، والتهديد بشن عملية عسكرية ضد عفرين، تحت عنوان "سيف الفرات".

أبعد من قضية الدعم الأميركي للكرد، ثمّة قضية حسّاسة قد تفجر العلاقات بين البلدين، فبعد الاتفاق الأميركي – الروسي على وقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية، زادت الهواجس التركية إزاء إدارة دونالد ترامب، ولاسيما بعد تلميح الأخير إلى احتمال إبرام اتفاق ثان يشمل منطقة شمال شرق سورية التي تتمتع بأهمية قصوى لتركيا. ولعل تركيا تخشى هنا، في المقام الأول، من أن يجري مثل هذا الاتفاق من دون الترتيب معها، وأن يؤدي إلى تكريس الكيان الكردي الناشئ على شكل اعتراف أمني، يجلب اعترافا سياسيا به في المرحلة المقبلة. ومن جهة ثالثة، قد يؤثر مثل هذا الاتفاق سلبا على التقارب التركي – الروسي، والتفاهمات التي حصلت في أستانة بشأن التهدئة في المناطق المنخفضة التوتر، فيشكل ذلك كله ضربة لنفوذ تركيا ودورها في الأزمة السورية.

من دون شك، يثير وصول العلاقات الأميركية - التركية إلى هذا المستوى من الخلافات مخاوف مفتوحة في تركيا، لاسيما وأن سياسات دونالد ترامب توحي بمزيد من التصعيد، في ظل شعاراته المعادية للإسلام، وانخراطه في إجراءات إقصائية بهذا الخصوص، والحديث عن احتمال تصنيف الكونغرس الأميركي جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، كذلك ازدياد حدّة الخلافات بين تركيا ودول أوروبية عديدة... إذ يوحي ذلك كله بتطورات دراماتيكية في العلاقات التركية مع الغرب، بشقيه الاميركي والأوروبي، قد يكون من أهم نتائجها إعادة تموضع العلاقات، إن لم نقل القطيعة في بعض الحالات.

اقرأ المزيد
٢٤ يوليو ٢٠١٧
هل نصبت روسيا وأميركا فخاخاً لتركيا؟

 لم تكن اللحظة التركية مناسبةً في ما خصّ إعلان الحرب على قوات سورية الديمقراطية في عفرين وأكنافها، ذلك أنه ثمّة مكيدةٌ، أو ما يشبهها، لجهة تسعير حربٍ تركية، بشروط قاسية، داخل منطقة وعرة ومليئة بالتناقضات والتقاطعات السياسية والعسكرية، بل ومزدحمة بالقوى العسكرية المحلية والدولية. وفوق ذاك، في لحظة سعيدة لقوات سورية الديمقراطية (قسد)، حيث تخوض حرباً في الرّقة تحظى من خلالها بدعم دولي، وتغطية إعلامية مهولة، وربتٍ دوليٍّ على أكتاف مقاتليها، فلمَ اختارت تركيا هذه اللحظة غير المناسبة، ولم تدخلها بلا موجباتٍ حقيقية، أي أسباب مباشرة (قريبة) مقنعة، إلا تذرّعها بحوادث إطلاق نارٍ استهدفت جنودها داخل الشريط الحدودي لتركيا، أو تصريحها بالخطر الكردي المحدق بأمنها القومي، علماً أن أمنها القومي لا يعني الكثير لحليفها الأطلسي (الولايات المتحدة) ولا شريكها الاقتصادي المهم (روسيا)؟

جهدت روسيا لإعادة عفرين، بما هي ثالث أحجار الأثافي للمناطق التي يعتمد عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، بعد الجزيرة وكوباني (عين العرب) إلى حظيرة النظام السوري، تلويحاً بإمكانية استعادتها بُعيد استعادة حلب، وبسط السيطرة عليها، وتخويفاً من إمكانية أن تشنّ القوات التركية والمعارضة السورية المسلحة هجمات صاعقة عليها، قد تودي بما تحقق للحزب وللأكراد هناك، بيد أن عناد "الاتحاد الديمقراطي" أدى إلى تراجع الروس عن مطالبهم التي وجدها الحزب قاسيةً ومهينةً لمشاعره وتضحياته، فكيف للحزب الذي يعتبر عفرين إحدى أكبر خزّاناته البشرية، وأحد أهم مناطقه التاريخية داخل سورية تنظيمياً أن يوافق على رفع العلم السوري (علم النظام) على مضض، وفي لحظة "ابتزاز" من شريكٍ يرقى إلى مرتبة الحليف، مثل روسيا.

إلى ذلك أدت طبيعة العلاقة الروسية – التركية إلى قلقٍ، طاول قيادات الحزب الكردي في عفرين وسواها، في ما خص إمكانية أن يؤدي هذا التلاقي الروسي – التركي إلى السماح لتركيا بالتوغل عميقاً شمال حلب، معطوفاً الأمر على صمت أميركي صريح عن الأعمال العسكرية التركية شمالي حلب، وعن تهديداتها المتواصلة للمناطق التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي.

بيد أن الوقائع على الأرض، في الأيام القليلة الماضية، أفصحت عن خلاف ما كان يتم تداوله بخصوص إمكانية الإحاطة بعفرين، ومن ثم عزلها، وإدخالها ضمن معادلتين متعاكستين، تصبّان في مصلحة تركيا وأمنها القومي، وقد كانت المعادلتان: إما عودة عفرين وجوارها إلى حظيرة النظام، وهذا مقبول على سوئه بالنسبة للجانب التركي، بحيث يخسر غريمه الكردي أحد أبرز معاقله، أو أن تصبح المعادلة بشكل معكوس، أي أن تخضع هذه المنطقة لسيطرة القوات المعارضة المتحالفة وتركيا، وبذا أيضاً يخسر الحزب مرةً أخرى، فواقع الحال، وما نجم عن أولى المعارك التي دارت بين "قسد" والجيش التركي، مصحوباً بقوات من المعارضة السورية المسلحة في شمالي حلب في محيط عين دقنة، دلّت على صعوبة المواجهات؛ فوفق ما نشره "المرصد السوري"، فإن المعارك أودت إلى قتل وجرح مقاتلي الطرفين، وأن تركيا وسّطت روسيا "لسحب الجرحى ونقلهم لتلقي العلاج، عبر التوصل إلى تهدئة شاملة ومؤقتة، أو وقف القتال في موقع وجود الجرحى"، بما يفيد أن المواجهات، ومنذ بدايتها، ستكون شرسة، وأن التطورات على الأرض قد تكون بخلاف المتوقع تركياً، خصوصا أن الطرف التركي غير قادر على استخدام سلاح الجو الحاسم في مثل هذه المعارك والاشتباكات. وفي ما يدلّ على أن الروس والأميركان غير مستعدين لمنح تركيا نصراً على "القوات الكردية " و"قسد"، بقدر ما يرغبان في إرباك تركيا وتوريطها في العمق السوري!
تشي المشاهد الأولى للمعارك عن مراقبة روسيّةٍ أميركية لتطورات الأحداث في عفرين وشمالي حلب، لكنهما قد يدخلان حال تفوّق طرفٍ على الآخر، ولعل الغاية الروسية مختلفةٌ عن تلك الأميركية، لجهة أن كل جهود روسيا، حتى اللحظة، تكمن في تكسير "النصال على النصال"، بغية بقاء النظام في موقعٍ أفضل لاحقاً. أما أميركا فواثقةٌ من أن شريكها الكردي لن ينتهي بسهولة، وفق شروط الحرب التركية القاسية، ويبقى السؤال المعلّق: هل حقاً كان صمت الروس والأميركان فخاً منصوباً لتركيا كي تتورّط في حربٍ لا يمكن توقّع نتائجها، أم أنهم كانوا عاجزين عن إيقاف الأتراك المستشيطين غضباً لأجل حدودهم الجنوبية وأمنهم القومي؟ وحتى نجد أجوبة مقنعة لمثل هذه الأسئلة وغيرها، سنشهد كثيراً من المعارك ومن تكسيرٍ للنصال.

اقرأ المزيد
٢٣ يوليو ٢٠١٧
رقابة دولية على اتفاق جنوب سورية

تراوحت ردود المعارضة السورية بين مؤيدٍ ومعارضٍ لاتفاق الجنوب السوري، الموقّع بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن. وهذا الانقسام في الرأي مفهوم، في ضوء عدم نشر النص الرسمي للاتفاق. وواقع الحال أن الاتفاق يجمّد الوضع في جنوب سورية (درعا وحوران والسويداء)، ويكرّس وقف إطلاق النار، ويثبّت الوجود الروسي، ويمنحه أفضليةً عبر نشر قوات فصل روسية (زهاء 400 جندي روسي في مرحلة أولية).

يحقق الاتفاق مكاسب للأردن من حيث إبعاده قوات "داعش" الإرهابية والمنظمات المبايعة لهذا التنظيم. كما يضمن عدم تسرّب المقذوفات والمقاتلين مجهولي الهوية عبر الحدود. ويضمن إبعاد مليشيات إيران اللبنانية والعراقية وسواها إلى 40 كيلومتراً بعيداً عن الحدود الأردنية. وما زال الاتفاق بشأن تشغيل المركز الحدودي نصيب غامضاً. ومن حق الأردن إبداء الحذر الشديد إزاء هذه المسألة، فمع التوافق على أن يكون السوريون وحدهم من يتمركزون في هذا المركز، فإن أي عودة لنظام دمشق إلى هذا المركز سوف تفتح الأبواب أمام تسرّب مليشيات إيرانية (ربما بلباس مدني) نحو الحدود الأردنية. وذلك تحقيقاً لحلمٍ توسّعي قديم للجمهورية الإسلامية في اختراق الأردن، والتموضع السياسي والمذهبي والإعلامي على بعض أراضيه، كما أن سجل نظام دمشق في تسريب الأسلحة والمسلحين إلى داخل الأردن طويل وحافل، ويعود إلى ما قبل الحراك السوري عام 2011 بفترة طويلة، وكذلك خلال فترة الحراك الذي ما زال متواصلاً.

وعدا ما تقدّم، فإن الاتفاق (ما تسرّب من بنوده) لا يضمن بعد تمكين اللاجئين السوريين في الأردن من العودة بصورة آمنة إلى مناطق جنوب سورية، فقوات الفصل الروسية ذات سجل حافل بإيذاء المدنيين والتنكيل بهم (استهداف مخابز ومشافٍ وأسواق ومراكز للدفاع المدني بصورة وحشية طوال العام 2016). وبينما يشدّد الأردن على أنه لا يعتزم إرسال قوات إلى جنوب سورية، أو أي منطقة أخرى في سورية، فإن من الواجب عدم ترك الأمور بيد الجانب الروسي وحده الذي يعمل ضمن أجندة نظام دمشق، ويبدي على الدوام ازدراءً تاماً للمدنيين ولحقوقهم في الحياة والكرامة على أرض وطنهم. ناهيك عن العداء الروسي للمعارضة السورية. وهذا يتطلب آلية رقابةٍ فعالةٍ على الوجود الروسي، كما على وجود الأطراف الأخرى. فخلال السنتين الماضيتين، أثبتت موسكو أنها جزء من المشكلة لا الحلول.

وأنها في سبيل تأمين مصالحها لا تتوانى عن تدمير المدن (حلب خصوصاً) والتغطية الحثيثة على استخدام النظام البراميل المتفجرة والأسلحة المحرّمة. وعليه، فإن عودة اللاجئين إلى ديارهم تتطلب ضماناتٍ إضافية، وربما قوات إضافية من دول أخرى، ورعاية مباشرة من الأمم المتحدة ومنظماتها، فضلاً عن الحاجة إلى إعادة بناء ما دمرته الحرب من مساكن ومرافق مدنية، وهو آخر ما يعني روسيا التي لا تمانع في رؤية سورية بدون السوريين، إذا ضمن ذلك مصالحها.

أما وجود مليشيات إيران، وبخاصة حزب الله، فإنه يظل خطراً قائماً، إذ سوف تظل هذه المليشيات تتحيّن الفرص للتسلل إلى مناطق الجنوب بصور شتى، مستفيدةً من حرص موسكو على التنسيق معها، ومن تفادي واشنطن الاحتكاك بهذه المليشيات، إلا على أضيق نطاق.

وعلى الأغلب، سيظل الاتفاق على الأرض هشّاً، بدون آليات رقابة فعالة على الأرض، وليس هناك على الإطلاق ما يشي بأن حرب إيران على السوريين في سبيلها إلى التوقف. وليس أدل على ذلك من تدفق مقاتلين، تسلحهم وتمولهم إيران من الحدود العراقية عبر البادية السورية، وغير بعيدٍ عن الجنوب السوري.

من المفهوم أن توافق جهاتٌ رئيسيةٌ في المعارضة، مثل الهيئة العليا للمفاوضات، على الاتفاق، سعياً نحو وقف شلال الدم، والتوقف عن تدمير ما لم يدمّر بعد على أرض الجنوب، ومن أجل إقصاء مليشيات إيران. كما من المفهوم أن تبدي جهاتٌ أخرى في المعارضة تحفّظها على الاتفاق، وخصوصاً في ما يتعلق بالانتشار الروسي الذي سيكون مهجوساً فقط بتمكين النظام، كي يجثم مجدّداً على صدور السوريين، وإعادة المشكلة إلى نقطة الصفر، بدلاً من وضعها على سكة حلولٍ جدية، تستجيب لتطلعات السوريين. ومن الملاحظ أن موسكو واظبت على طمأنة تل أبيب من مفاعيل الاتفاق، لكنها لا تبدي أدنى اهتمام لطمأنة السوريين، والاعتراف بحقهم في صياغة مستقبلهم. والرهان هو على أن الاتفاق، على الرغم من سريانه قبل نحو أسبوعين، ما زال في مراحله الأولية، وأنه يجب أن يكون حُكماً قابلاً للتعديل في ضوء مجريات الوقائع على الأرض، واستناداً إلى هدف تأمين وجود المعارضة، وعودة اللاجئين السوريين تباعاً من الأردن، في ظروفٍ آمنة، لا تجعل منهم مُجدّداً لقمة سائغة في أفواه من قاموا باقتلاعهم وتهجيرهم، وبما قد يُجدّد خطر التهجير الإجباري على أيدي من يحلمون بسورية أخرى، تعاد فيها صياغة الهندسة الديمغرافية، ويتم تدمير الحواضر السوريّة التاريخية!.

وبالنظر إلى ما تقدّم، يشكل الاتفاق بالفعل امتحاناً وتحدّياً لكل من روسيا وأميركا، كما أوضح ذلك وزير الاتصال الأردني، محمد المومني، في تصريحاتٍ أخيرة له في 18 يوليو/ تموز الجاري. وفي التعقيب على ذلك، يكمن التحدّي أمام روسيا في وقف عدائها للشعب السوري، والتوقف عن عرقلة مفاوضات جنيف، بينما يتمثل التحدّي أمام أميركا في الاستجابة للتطلعات الأساسية للسوريين، وشقّ الطريق نحو تسويةٍ شاملةٍ وجديةٍ تستند إلى المرجعية الدولية والقرارات ذات الشأن، وعدم الاكتفاء بالتصدّي لداعش الإرهابية، على الرغم من الأهمية الحاسمة لذلك، وبحيث يُصار إلى مكافحة مليشيات إيران وجبهة النصرة جنباً إلى جنب، بالوتيرة نفسها والأولوية ذاتها، وهو ما يهيئ بيئةً مواتيةً لمفاوضاتٍ مثمرةٍ في جنيف، تمكّن السوريين من تقرير مصيرهم بأنفسهم، والانطلاق نحو إعادة الإعمار على جميع المستويات.

اقرأ المزيد
٢٣ يوليو ٢٠١٧
ساسة موسكو والدفاع عن دكتاتور دمشق

لا يوفر المسؤولون الروس مناسبةً إلا ويكرّرون القول إن بلادهم، أو بالأحرى نظامهم، لا يدعم بشار الأسد ونظامه، بل يخشون على سورية من مصيرٍ مشابه لمصير العراق أو ليبيا أو سواهما، ويتفنون في التنويع على مثل هذا القول، دفاعاً عن دكتاتورية الأسد ونظامه، مقدّمين مختلف الذرائع الواهية والكاذبة، وجاء جديدها على لسان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في محاضرةٍ ألقاها في مقر صندوق كوربر في برلين، حيث أبدى غيرته على سورية، ولم يخف هذا الرجل "الوديع جداً" خشيته من "أنه بعد القضاء على الدكتاتور، سيجري القضاء على البلد أيضاً".

ولا نملك أمام حسه الإنساني المفرط أن نسأله عما تفعله مقاتلات نظامه وقاذفاته وصواريخه وقنابله حين تدكّ القرى والبلدات والمدن السورية منذ 30 سبتمر/ أيلول 2015؟ هل تحمل معها الورود والمساعدات، يا سيد لافروف، أم تدمّر ما تبقى من "البلد" من منازل ومشاف ومدارس وأسواق؟

ومع ذلك، بعد كل الدمار والقتل الذي أصاب سورية والسوريين، جرّاء التدخل العسكري الروسي السافر، إلى جانب التدخل المليشيوي لنظام الملالي الإيراني، يريد لافروف القول إن نظام بلاده البوتيني استقدم آلته العسكرية، ليس حماية للدكتاتور، بل حرصاً على سورية والسوريين، وللقضاء على "الإرهابيين" الذين يشكلون، بالنسبة إلى معيارية النظام البوتيني، غالبية الشعب السوري. وبالتالي، يجب القضاء عليهم، دفاعاً عن مجرمٍ، يعترف لافروف بنفسه بأنه دكتاتور، مع ملاحظة أن مفردة دكتاتور لا تثير حفيظة السيد لافرورف، فهو سليل الدكتاتورية السوفييتية، والابن الشرعي لدكتاتورية نظام بوتين، المغلفة بغلاف لعبة التبادل والتناوب على منصبي الرئاسة ورئاسة الوزراء بين بوتين وميدفيديف الطيّع، والجاهز تحت الطلب، ليلعب دوراً في لعبة الكراسي الرئاسية الروسية.

واللافت أن لافروف اتهم دولاً غربية كثيرة بالتعطّش للقضاء على الدكتاتور، في حين أن كل الوقائع تفيد بأن الدول الغربية وسواها لم تسع أبداً إلى القضاء على دكتاتور دمشق الذي تدخل النظام الروسي عسكرياً لحمايته، والدفاع عنه في مواجهة الشعب السوري، وليس "للقضاء على الإرهاب والتنظيمات الإرهابية"، كما يدّعي المسؤولون الروس من أمثال لافروف، إذ إنهم لا يملكون حتى تعريفاً واضحاً للإرهاب الذي يدّعون زوراً محاربته، فالإرهابي، حسبما عرّفه لافروف نفسه في نيويورك، في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، هو ذلك الشخص الذي "يبدو وكأنه إرهابي، أو يتصرّف كإرهابي، أو يمشي كالإرهابي، ويحارب كالإرهابي"، وهو تعريفٌ يكشف ضحالة (وإفلاس) السند الفكري والسياسي الذي ينطلق منه.

وإن كان المسؤولون الروس قد تمكّنوا عبر تدخلهم العسكري السافر في سورية من المحافظة على نظام الدكتاتور، ومنعه من السقوط، فإن ذلك جرى على حساب قتل المعارضين، وتدمير حاضنتهم الاجتماعية، ولم يسلم المدنيون منهم، شيوخاً ونساء ورجالاً وأطفالاً، ولفّقوا كعادتهم مختلف الحجج والذرائع، تبريراً لما ترتكبه قوات نظامهم من جرائم في سورية بحق المدنيين في مناطق سيطرة المعارضة، حيث اعتاد المسؤولون الروس على إنكار استخدام مقاتلاتهم وقاذفاتهم القنابل العنقودية والفوسفورية والارتجاجية وسواها، في قصف المرافق المدنية، من مستشفياتٍ ومدارس وأسواق في مختلف المدن والقرى السورية، على الرغم من مئات الصور والفيديوهات التي تظهر استخدامها هذا النوع من الأسلحة غير التقليدية والمحرّمة دولياً.

ووصل التمادي الروسي في حماية الدكتاتور إلى حدّ إنكار الجرائم التي يرتكبها، وخصوصا جرائم استخدام الأسلحة الكيميائية في غوطتي دمشق وخان شيخون، كما سبق أن أنكروا، في البداية، تدخلهم العسكري المباشر في سورية إلى جانب الدكتاتور، وادّعوا أن مقاتلاتهم تقوم بعملياتٍ "محدودة" فقط، وتستهدف ضرب مواقع تنظيم الدولة "داعش"، في حين أن عشرات التقارير الدولية الموثقة، أظهرت أن 80% أو أكثر من غارات المقاتلات الروسية تستهدف مواقع الجيش السوري الحر، أو ما تعرف بالمعارضة المعتدلة والإسلامية، مقابل أقل من 20% من الغارات الروسية كانت تستهدف مناطق وجود عناصر "داعش"، وهي تصيب المدنيين في تلك المناطق، في أغلب الأحيان، وليس مواقع عناصر التنظيم.

وتثير تصريحات المسؤولين الروس عن دورهم في الحفاظ على سورية، وليس الحفاظ على الدكتاتور، سخرية متابعي الوضع في سورية، لأن أكاذيبهم باتت تحتاج إلى موسوعة غينيس خاصة بحكام روسيا الذين لم يملّوا من محاولات إنكار وجود مظاهر (ومواطن) الاستبداد والطغيان والفساد في نظام الدكتاتور، منذ بداية الحراك الاحتجاجي السلمي في سورية، وجسّدوها في ممارساتٍ وسياساتٍ تنفي وجود احتجاجاتٍ شعبيةٍ، سلمية الطابع، وكانت تطالب بالحرية والكرامة، وبتغيير نظام الاستبداد نحو دولةٍ مدنيةٍ تعدّدية وديمقراطية.

وعلى الرغم من ذلك كله، انكشف تماماً أن التدخل العسكري الروسي لم يكن من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، ومساعدة السوريين للوصول إلى حلّ سياسي، حسبما يزعم ساسة موسكو، بل تمكين النظام البوتيني من تثبيت وجوده العسكري المباشر في سورية، والحفاظ على مصالحه وتوسيعها، حيث إن الاتفاقية التي وقعها النظام السوري في أغسطس/ آب 2015 مع الطرف الروسي، تخول الأخير التحول إلى قوة احتلال مدة طويلة، ولا يحاسب عناصر الجيش الروسي بموجبها عن أي جريمةٍ يرتكبونها بحق السوريين، وكما لا يخضعون للتفتيش أو المساءلة القانونية.

اقرأ المزيد
٢٣ يوليو ٢٠١٧
معركة باب الهوى المسمار الأخير في نعش التوافقات

يؤشر حصار النصرة لأحرار الشام في معبر باب الهوى الحدودي بين تركيا وسوريا لتحقق مآلات ثلاثة، الأول هو فشل كل محاولات التوفيق بين أجندات الجماعات السلفية المسلحة ومنافستها الإخوانية والمقربة من مشروعها.

فعلى مدى السنوات الماضية، شكلت عدة كيانات جمعت النصرة والأحرار في إطار عسكري واحد، وإن ظل فضفاضا أقرب لغرفة عمليات مشتركة دون اندماج حقيقي.

آخر هذه الكيانات هو «جيش فتح الشام»، التي آلت إلى التفكك لاحقا بسبب رفض التيار الاخواني في أحرار الشام المرتبط بالسياسات الرسمية للحكومات الداعمة، للتوحد مع جماعة الجولاني، رغم أن الأخيرة أعلنت تخليها عن الارتباط بـ»القاعدة» وهو ما كانت تطالب به الفصائل «المعتدلة» والأحرار كأحد شروط الاندماج، حينها انبثقت «تحرير الشام» التي كانت الخطوة التمهيدية لما حصل اليوم من صدام اخير. فانشاء «هيئة تحرير الشام» عنى في حينه ايضا انتهاء توافق اخر داخل «أحرار الشام» نفسها، بين تيار قريب من الإخوان وتركيا وقطر، أبرز رموزه اليوم المسؤول الخارجي للحركة لبيب النحاس، وبين تيار سلفي كان يسيطر على قيادة الحركة في بدايات نشأتها حتى مقتل الصف الاول في حادثة الاختناق الغامضة الشهيرة قبل نحو ثلاث سنوات، وبقيت منهم قيادات عسكرية، أبرزها الطحان وأبوجابر الشيخ القائد السابق للأحرار، فانشقت هذه القيادات السلفية مع الكتائب التي كانت موالية لها داخل الاحرار، وانضمت لـ»النصرة» ضمن مشروع «هيئة تحرير الشام»، الذي تقاسم القيادة فيه الجولاني وأبوجابر الشيخ، نفسه الذي كان يوما قائدا للاحرار قبل انشقاقه، ولكن الملاحظ هنا ان هذه التحالفات بين التيار السلفي في الاحرار والنصرة، كان قائما فعليا على الارض قبل هذا الاعلان الرسمي للاندماج، فمعظم المعارك الكبرى التي كانت تشترك فيها النصرة والاحرار معا، كان الشق المشارك فعليا من الاحرار هو نفسه المرتبط بتلك القيادات السلفية بالاحرار كابو جابر الشيخ وغيره الكثيرين، ولكن المصالح المتبادلة اقتضت حينها إطالة فترة التعايش بين الفصيلين دون اندماج، لان القيادة السياسية للاحرار غير المتحمسة للنهج السلفي والعلاقة مع النصرة، كانت مستفيدة من صيت الانتصارات العسكرية الكبيرة التي كانت تتحقق بمشاركة الاحرار، ولكن بفضل قوة النصرة والجناح السلفي للاحرار، وآخرها استعادة ادلب، والجناح السلفي استفاد كذلك من بقائه منضويا مع الاحرار ولو رسميا، من خلال الحصول على بعض الدعم الحكومي من تركيا والدول الداعمة الاخرى، الى ان احتدمت المسارات وتقاطعت الاجندات الدولية من خلال القرار الشهير، بضرورة فصل الجهاديين عن المعتدلين، وهنا تعذر التوفيق داخل الاحرار، ليختار الجناح السلفي بقيادة ابو جابر الشيخ الانضمام لمشروع النصرة.

وهكذا فان انقطاع اخر شعرة لمعاوية بين التيار السلفي والتيار الاخواني داخل الاحرار نفسها وبين النصرة والاحرار، جاءت على مراحل عدة، اخر تجلياتها ومظاهرها هو حصار باب الهوى. وهذا يقودنا للمآل الثاني، وهو تراجع نفوذ الفصائل المعارضة المرتبطة بتركيا والنظام الرسمي العربي والغربي الداعم لاقل مستوياته في مناطق المعارضة السورية، منذ انطلاق الثورة السورية، لصالح الجهاديين المتمردين على المنظومة الاقليمية، وهذا ايضا سيؤدي لتراجع وانحسار مشروع الفصائل المعتدلة وفكرتها القائلة بضرورة التحالف مع الغرب في سبيل بناء سوريا «وطنية» لا «اسلامية»، وهو الخطاب الادبي الذي اعتمدته «أحرار الشام» مؤخرا، ورفعت لاجله علم الثورة بدلا من راياتها الاسلامية، وخفضت من نبرة صوتها الاصولي من الحديث عن مشروع امة في بداياتها نحو الجهاد الشامي الاسلامي، وصولا لـ»الوطنية السورية»، فكل فصائل الجيش الحر وغيرها من الاسلامية المعتدلة، التي انخرطت في تبني هذه المقاربة بالتنسيق مع المنظومة الاقليمية، اتضح انها وعلى مدى السنوات الاخيرة، باتت عاجزة عن تحقيق اي تقدم عسكري، إلا من خلال انضوائها في صفوف كيانات اسلامية، كما حصل في تجمع «فتح الشام» اخيرا، أو من خلال دعم دولي تركي أو روسي، إذا تعلق الامر بقتالها للتنظيمات الجهادية، كما حصل من خلال درع الفرات.

ومع اعلان ترامب وقف دعمه للفصائل «المعتدلة»، باتت فكرة الاستعانة بالدول الغربية والحكومات العربية المرتبطة بها ممجوجة اكثر من اي وقت مضى، بعد ان عولت تلك الفصائل لسنوات مع جمهورها على المسار الدولي، ليكون ضياع حلب الشرقية ضربة قاصمة لها، خاصة أنها خالية من وجود تنظيم «الدولة الاسلامية»، وفي معظمها فصائل خاضعة لبرنامج الدعم الامريكي (تجمع فاستقم كما أمرت، وجيش المجاهدين، وأحرار سوريا وغيرهم)، ليظهر فشل التعويل على هذا الدعم الامريكي، وتكرر الامر في اجتماعات الاستانة، اذ تبدلت الامال الخلبية، من الدعم الامريكي إلى الطمع في انحياز روسي تركي للمعارضة ضد ايران، فوصلت هذه الفصائل لحد الترويج لجمهورها، بان روسيا ستقطع دابر التواجد الايراني وحزب الله في سوريا، واذا بروسيا تقنع الامريكيين بقطع الدعم عن هذه الفصائل، حسبما قالت «الواشنطن بوست» وحسبما يجري عمليا منذ اشهر.

المآل الثالث هو فشل فوضى الفصائل لصالح المشروع العقائدي المركزي، وإن بالتغلب كما يجادل بعض الاصوليين الجهاديين بضرورة توحيد الجماعات المسلحة بالقوة، كخيار نهائي لمواجهة اخفاقات الاغلبية السنية امام مشروع الاسد وايران، كعدو موحد الصفوف ومنتظم بقيادة رأسية تملك رابطة عقدية ايضا، نجحت في تحويل أقلية علوية لقوة متماسكة تدير مفاصل المؤسسة العسكرية والميليشيات المحلية المدعومة ايرانيا، في مواجهة فصائل معارضة فشلت في الاستفادة من مجتمع الاغلبية الثورية السني والدعم الاقليمي والدولي ، بسبب تفكك بنيتها وهزالة تكوينها على كل الاصعدة.

على الارض، فان هذا الصدام في باب الهوى بين «تحرير الشام» و»احرار الشام»، متوقع ان يفضي لسيطرة حاسمة لـ»تحرير الشام»، وإن من خلال فصائل مقربة منه تتولى ادارته كالزنكي، الذي اعلن انفكاكه من عقد التحالف مع هيئة «تحرير الشام» قبل ساعات، في خطوة تبدو مدبرة ومنسقة مع قيادة الهيئة في سبيل منح الزنكي شرعية كـ»وسيط توافقي محايد»، يمكنه استلام إدارة المعبر بعد إخراج «الأحرار»، ويكون مقبولا من قبل الطرف التركي، وان تمت هذه التسوية (سواء من خلال الزنكي او اي فصيل اخر خاضع عمليا لهيمنة تحرير الشام) يكون الجولاني قد ادار هذه المعركة بدهاء، واستخدم كل الاطراف لتحقيق مآربه في الهيمنة على احد اهم المعابر امنيا واقتصاديا، وأكمل إبعاد كل الفصائل المناوئة لمشروعه، ابتداء من جمال معروف لحركة حزم وصولا للاحرار، وان كان المستقبل لا يوحي بأن هذه الجماعة التي يقودها الجولاني سيختلف مصيرها عن ما يحصل لتنظيمها الشقيق في الرقة وقريبا دير الزور .

اقرأ المزيد
٢٣ يوليو ٢٠١٧
العراق يسيطر على الموصل ولكن مَن يسيطر على العراق؟

عقب إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تحرير الموصل من تنظيم «داعش»، اتجهت الأنظار نحو سورية على أمل أن تحظى بالنتيجة المرضية ذاتها. ولكن تحرير العراق من تسلط «داعش» لا يعني عملياً أن العبادي أصبح في وضع سياسي مريح يسمح له بالسيطرة الكاملة على مقاليد الحكم. والسبب أن قائد «فيلق القدس» الجنرال الايراني قاسم سليماني تدخل بقوة لتشكيل جبهة عريضة تضم مرجعيات شيعية وسياسيين موالين لطهران بهدف منع تقديم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الى المحاكمة.

ويعتقد سليماني أن المالكي لم يكن حراً في قراراته، وأن كل ما أقدم عليه من أعمال مخالفة للقوانين كانت تتم بموافقة المرشد الأعلى للثورة الايرانية علي خامنئي. وقد أُعطي ذلك النفوذ الاستثنائي بغرض منع المؤسسات العراقية الرسمية من فك ارتباطها بطهران.

وبما أن ايران اعتمدت سياسة إضعاف العراق، ومنعه من التحوّل دولة قوية اقتصادياً وعسكرياً، لذلك تدخلت مع عمار الحكيم، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، ومقتدى الصدر، رئيس التيار الصدري، من أجل القبول بحيدر العبادي وكيلاً غير كامل الصلاحيات.

والثابت أن أحزاب الطائفة السنيّة في العراق قد تنبهت إلى خطورة هذه التبعية وأثرها السلبي على الوحدة الوطنية. وهذا ما دفعها الى عقد مؤتمر في فندق بابل تحت شعار: «نحو دولة المواطنة... لا دولة المكونات!».

واعتمد رئيس البرلمان سليم الجبوري هذا الشعار مدخلاً لتحقيق التسوية السياسية في دولة اتهمت السنّة في الموصل بالانحياز الى أبو بكر البغدادي. تماماً مثلما اتهم بول بريمر كل أفراد الجيش العراقي بالانحياز الى حزب البعث. واستناداً الى هذه النظرية، قرر طردهم من صفوف القوات المسلحة، الأمر الذي شجعهم على الالتحاق بقوات «القاعدة» ثم «داعش» بعد مساهمتهم في خطة التآمر لخلق دولة سنيّة.

الجديد في هذا السياق ما نتج عن لقاء هامبورغ بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين حول مستقبل سورية، ذلك أنهما اتفقا على عملية تقاسم النفوذ، ومن ثم تقاسم الأدوار عبر المنطقة الجنوبية الغربية التي تتميز بـ «انخفاض التصعيد».

وعلى الفور، رحب المبعوث الدولي الى سورية ستيفان دي ميستورا بهذه الخطوة السياسية، مؤكداً دعمه كل هدنة تدعو إلى وقف إطلاق النار وتمنع تقسيم البلاد. وقد أتبع تصريحه بضرورة تشكيل نظام مراقبة دولية، لأن خبراته السابقة في هذا المجال لا تطمئن إلى سلامة المرحلة الانتقالية.

ويبدو أن تلميح المبعوث الدولي كان يشير إلى التجاوز الذي قامت به تركيا على طول ثمانين كيلومتراً من الشريط الحدودي الفاصل بينها وبين سورية. وفوق هذه المساحة ثبتت القيادة العسكرية التركية كاميرات مراقبة معززة بدعم وحدات أمنية من أجل حماية القرى المتاخمة من هجمات المتسللين. وادّعت أن هذه الإجراءات الاحترازية تمت من أجل مواجهة تسعة أحزاب كردية كانت أصدرت بياناً موحداً طالبت فيه بإنشاء إدارة ذاتية في ظل نظام دستوري.

والثابت أن الأكراد وسواهم من العناصر المؤثرة التي يتألف منها النسيج الاجتماعي السوري، كل هؤلاء يطالبون بحل النظام المركزي السابق والاستعاضة عنه بنظام فيديرالي. والسبب أن الفيديرالية تستطيع استيعاب التعددية بحيث لا تبقى القرارات المصيرية -كالحرب والسلم- رهن مزاج رئيس الجمهورية. وبما أن سورية تتألف من طوائف وعرقيات مختلفة، كالسنّة والعلويين والأكراد والأرثوذكس والتركمان والسريان وسواهم، فإن الانصهار الوطني يبقى الضمانة الوحيدة لنجاح أي حل سياسي.

ومن هذا الواقع ينطلق السؤال المهم المتعلق بمصير بشار الأسد، وما إذا كانت المعارضة التي حاربت من أجل إسقاطه مستعدة للتعايش معه؟

هذا الأسبوع أعلن مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبدالرحمن عن حصيلة النزاع داخل سورية لمدة ست سنوات تقريباً، فقال: «قتِل أكثر من 330 ألف شخص بينهم نحو مئة ألف مدني، وذلك خلال الفترة الممتدة من 15 آذار (مارس) 2011 حتى 15 تموز (يوليو) هذا الشهر».

وفي تفسير دوافع هذا النزاع، قال مدير المرصد: «بدأت الحرب الأهلية باحتجاجات سلمية ضد الرئيس بشار الأسد. ولكنها سرعان ما تحولت حرباً دامية تسببت -الى جانب العدد الكبير من القتلى- بدمار هائل في البنى التحتية، وبنزوح وتشريد أكثر من ست ملايين نسمة».

ويُستدَل من توقيت إعلان هذه المعلومات أن المرصد حريص على إظهار بعض الحقائق التي دفع الشعب السوري ثمنها بسبب فشل بشار الأسد في احتواء تداعياتها.

وبالإضافة الى حصيلة الموت والدمار وكل ما ذكره المرصد عن دور روسيا وايران في دعم الجيش النظامي، أدى الأمر الى ارتهان هذا البلد العربي الى قوى خارجية تتحكم بمصائر شعبه في الداخل والخارج.

وفي تقدير بعض المحللين فإن محاولة تعويم نظام بشار الأسد من قِبَل روسيا وايران سوف تؤسس لحرب ثانية قد تحول دون عودة ملايين النازحين، إضافة الى تفكيك ما بقي من عناصر الوحدة الوطنية.

وفي تصور الرئيس الروسي بوتين، فإن الأسد يمثل له ضمانة استمرار التحالف الى حين اكتشاف شخصية سياسية محايدة تحل محله. لذلك وعد رجب طيب اردوغان بضرورة تمرير فترة انتقالية قبل أن يُصار الى وضع دستور جديد خالٍ من تأثيرات حزب البعث.

ولما عبّر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن تجاوبه مع طلب بوتين حول عدم الاعتراض على بقاء الأسد في الحكم، زاره الدكتور رياض حجاب ليحذره من مخاطر المجازفة بهذا الرهان. وقال له المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات في المعارضة السورية إن بقاء الأسد في منصبه يعزز الفوضى، ويرسخ دور المنظمات الإرهابية، ويؤجج عوامل الكراهية والاحتقان لدى الشعب الذي يتوق الى صنع مصيره ومستقبله.

ومع أن طهران أنكرت أنها تبني قاعدة عسكرية برية في وسط سورية، إلا أن الأقمار الصناعية الاميركية إلتقطت لها عدة صور، إضافة الى صور طائرات حربية ايرانية رابضة في مطار سوري.

وذكرت الصحف الاميركية أن طهران درّبت أكثر من خمسة آلاف متطوع من أفغانستان وباكستان، سوف يتواجدون في القاعدة بصورة دائمة، وإنما تحت إشراف قيادة «الحرس الثوري». والى جانب ذلك، وافقت دمشق على إقامة مصفاة مستقلة لايران في ميناء طرطوس.

إضافة الى هذه النشاطات الحربية في سورية، فإن العراق يبقى الجار الأكثر أهمية بالنسبة لاستراتيجية طهران على مختلف الأصعدة: الأمنية والسياسية والاقتصادية. ولقد أقيم عند ديالى معبر جديد تمر عبره كل يوم أكثر من مئتي شاحنة ايرانية محمّلة باللحوم والخضار ومواد البناء. ويتردد في هذا السياق أن شركات البناء والتعمير باشرت أعمال الترميم عند حدود البلدين. ومن أجل ترسيخ هذه العلاقة وتمتين أواصرها، اختارت طهران أحد أهم جنرالاتها سفيراً في بغداد هو ابراج مسجدي. ويُقال إن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» ضمن «الحرس الثوري» هو الذي اقترحه لهذا المنصب بعدما اختبره عدة سنوات مستشاراً أول.

ورأى الديبلوماسيون في هذا الاختيار مؤشراً على تزايد نفوذ «الحرس الثوري» في العراق. كما هو في الوقت ذاته مؤشر على أهمية العراق بالنسبة الى نظام الملالي في طهران.

وعندما قدم السفير الايراني الجديد أوراق اعتماده الى وزير خارجية العراق ابراهيم الجعفري، حرص على تذكيره بأن ايران كانت دائماً الى جانب العراق وفي كل الظروف. وهو يعني بهذه الكلمات: «الظروف التي حكم خلالها صدام حسين، وكان ابراهيم الجعفري آنذاك لاجئاً سياسياً في طهران (حزب الدعوة).» وختم السفير مسجدي كلمته بالقول: إن ايران والعراق بلدان شقيقان، ويتعيّن العمل على رفع مستوى العلاقات بينهما على مختلف المستويات.

وقالت وكالات الأنباء أن السفير الايراني كان يلمح الى الانتخابات التشريعية المقبلة في العراق، والى احتمال إقامة وحدة بين البلدين لأن غالبية النواب ستكون مجندة لهذا التوجه.

اقرأ المزيد
٢٢ يوليو ٢٠١٧
الكويت تغضب على إيران

أن تطرد الكويت دبلوماسيي الجمهورية الخمينية الإيرانية من أراضيها وتغلق مكاتب السفارة الفنية، فهذا يعني أن السيل بلغ الزبى لدى هذه الدولة الخليجية الودودة مع الجار الإيراني.

الكويت صبرت صبر أيوب على شرور الجارة الكبيرة، ولعبها بصميم الأمن الوطني الكويتي، ليس من اليوم، بل مذ ولد هذا النظام الإرهابي المتأسلم الطائفي الخطير عام 1979 حين بدأت حكاية العصر الخميني. من فجّر موكب أمير الكويت السابق المرحوم الشيخ جابر الأحمد؟ من فجّر مقاهي الكويت الشعبية؟ من خطف الطائرة المدنية؟ من جنّد خلية التفجيرات الكويتية في مكة؟

أخيراً، من أنشأ أخطر خلية إرهابية خمينية في الكويت، خلية أو شبكة العبدلي؟ الداخلية الكويتية، كانت قد أعلنت في أغسطس (آب) 2015 عن ضبط عدد من المتهمين مع كمية كبيرة من الأسلحة عثر عليها في مزرعة بمنطقة العبدلي قرب الحدود العراقية، وفي منازل مملوكة للمشتبه بهم، وشملت المضبوطات 19 طناً من الذخيرة، و144 كلغم من المتفجرات، و68 سلاحاً متنوعاً و204 قنابل يدوية، إضافة إلى صواعق كهربائية. في وقتها تواقحت السفارة الإيرانية، وأصدرت بياناً استنكارياً ضد الداخلية الكويتية، وهو الأمر الذي استفز عدداً من أهل الكويت، وحق لهم، واليوم تصدر الخارجية الإيرانية استنكاراً ووعيداً ضد الكويت بسبب حقها «السيادي» الأخير بعدما قال القضاء الكويتي كلمته في حق إرهابيي خلية العبدلي. أعضاء الخلية الآن تحت الرصد والملاحقة، وأعلنت سلطات الأمن الكويتية قائمة بهم محذرة من إيوائهم، بعد أنباء ترددت عن فرارهم فوق قوارب إيرانية إلى الجمهورية الخمينية.

نتذكر في هذا الصدد حادثة الهجوم الخمينية على سجن «جو» البحريني في يناير (كانون الثاني) الماضي لتهريب أعضاء الخلية الإرهابية بعد قتل رجل شرطة بحريني، لكن الأمن البحريني نجح في القبض على الأشرار قبل الوصول لشاطئ الشيطان.

الكويت منذ عقود أخذت جانب اللين مع الجار الإيراني، ويتمتع الحزبيون الموالون للجمهورية الخمينية بهامش كبير من الحركة بالكويت، ومنهم النائب الشهير، الهارب، عبد الحميد دشتي، وقبل فترة ذهب وزير الخارجية الشيخ صباح الخالد لطهران من أجل الوساطة مع دول الخليج، وبعد هذا كله يكون هذا هو الجزاء!

بيان الكويت الرسمي عبّر عن: «الأسف للتطور السلبي الذي طرأ على علاقات البلدين في هذا الصدد»، على الرغم, أنها ليست الأزمة الأولى بين الكويت وطهران, فقد سبقها أزمات كان آخرها قبل 5 سنوات.

العبرة من هذا كله، أن مساعي جمهورية الشرّ الخمينية لن تهدأ حتى تخريب كل شيء، فهم مناديب السماء حسب وهمهم القاتل!

هذه هي الحقيقة للأسف، إيران دولة غير قابلة للتفاهم، أحسن حلّ معها هو «الهدنة» أما السلام... فلا سلام.

اقرأ المزيد
٢٢ يوليو ٢٠١٧
ترمب يركل العلبة الإيرانية على طول الطريق

على مدى الأشهر الستة الماضية، بطريقة أو بأخرى، ركل الرئيس دونالد ترمب الكثير من العلب الموروثة من إدارة باراك أوباما السابقة على طول الطريق.

بعد الكثير من المحاولات لإلغائه، انطلق برنامج أوباما - كير للرعاية الصحية إلى غياهب اللجان التشريعية. وجرى تعديل ما على سياسة التودد التي انتهجها باراك أوباما مع الأخوين كاسترو غير أنها لم تسقط تماماً. ورفض الرئيس الجديد اتفاق باريس المناخي شفهياً ولكن لم يتم دفنه عملياً لا لشيء سوى أنه لن يدخل حيز التنفيذ الفعلي حتى عام 2020.

وآخر العلب التي يحاول الرئيس الأميركي ركلها على طول الطريق هي ما يعرف إعلامياً باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، وهي البيان الصحافي الغريب للغاية والذي يعدد الأمور التي يتعين على إيران القيام بها حيال مشروعها النووي المثير للجدل في مقابل الرفع المؤقت للعقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها.

يوم الاثنين الماضي، أبلغت وزارة الخارجية الأميركية الكونغرس بأن الرئيس ترمب يعتزم تمديد الإعفاء بشأن تعليق العمل بالعقوبات الاقتصادية المقررة على إيران لمدة ثلاثة أشهر أخرى. وقد بررت وزارة الخارجية قرار الرئيس بناء على الزعم بأن إيران قد احترمت نص خطة العمل الشاملة المشتركة في حين أنها خالفت روح الخطة وفحواها.

ويأتي قرار الرئيس الأميركي بالتمديد لصالح إيران بعد عامين تماماً من إماطة اللثام عن خطة العمل الشاملة المشتركة في فيينا والإشادة الكبيرة التي تلقتها على لسان الرئيس الإيراني حسن روحاني باعتبارها «أكبر انتصار دبلوماسي في تاريخ الإسلام». وحقيقة الأمر بالطبع هي أن إيران قد انتهكت نص وروح الخطة في آن واحد.

على سبيل المثال، خفضت إيران من عدد أجهزة الطرد المركزية لديها والمسؤولة عن تخصيب اليورانيوم، ولكنها لم تخفض القدرة الإنتاجية العامة بسبب أن الأجهزة الجديدة ذات الطاقة العالية لديها إنتاجية أعلى بكثير من الأجهزة القديمة التي تخلصت منها طهران.
وعلى أي حال، وحيث إنه لا توجد لدى إيران أي محطات للطاقة النووية قد تحتاج لاستخدام اليورانيوم المخصب كوقود، يمكن للمرء افتراض أن كافة المخزون من اليورانيوم المخصب سوف يتم تخزينه لأغراض أخرى بما في ذلك الرؤوس الحربية النووية عندما تقرر القيادة الإيرانية ذلك.

ولكي تحافظ طهران على استمرار «خدعة» احتياجها الضروري لليورانيوم كوقود، تعلن القيادة الإيرانية بصورة دورية عن خطط لبناء محطات الطاقة النووية بمساعدات من الصين أو روسيا. ومع ذلك، يعلم الجميع أن إيران لا تملك المال الكافي لإنفاقه على مثل هذه المشاريع النووية الضخمة وأنه لا روسيا ولا الصين حريصتان أو عازمتان فعلياً على الاستثمار في مشروع مجنون من الناحية الاقتصادية. ويعكس التقرير الذي أعدته وزارة الطاقة الإيرانية أن محطات الطاقة النووية سوف تكلف أموالاً بنسبة 40 في المائة على الأقل بأكثر من المطلوب لإنتاج الطاقة من الغاز الطبيعي الذي تمتلك إيران كميات هائلة منه.

وهناك مثال آخر يتعلق بمخزون الماء الثقيل الذي تمتلكه إيران وتحتفظ به على مر السنين. تم إخراج منشأة البلوتونيوم في آراك من الخدمة فعلياً، مما أدى إلى عرقلة مؤقتة لواحدة من طريقتين رئيسيتين تؤهلان إيران لامتلاك الرؤوس الحربية النووية. ولكن ما الذي سوف تفعله إيران بالاحتياطي الذي تملكه بالفعل؟ بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة فإنه يجب بيع هذا الاحتياطي في الأسواق العالمية. ولكن ما الذي سوف يحدث إذا تعذر العثور على مشترٍ؟ ونزعاً للحيرة عن هذا التساؤل، تعهد الرئيس أوباما بترتيب شراء المخزون الإيراني عبر شركات أميركية في حالة عدم العثور على مشترين آخرين. وبعد عامين، ليس هناك مشترون، ومن غير المرجح أن ينجح الرئيس ترمب في إقناع الشركات الأميركية بشراء المخزون الإيراني الذي قد يرقى أو لا يرقى إلى المعايير العالمية المطلوبة.

لم يكن الهدف من خطة العمل الشاملة المشتركة أبدا هو إيجاد حلول للطموحات النووية الإيرانية الحقيقية أو المتصورة. كما لم يكن الهدف منها إعادة التأكيد على صلاحيات معاهدة عدم الانتشار النووي والتي اعترفت إيران علنا بانتهاك بنودها على الأقل حتى عام 2003. بل كان المقصود من خطة العمل الشاملة المشتركة أن تكون جزءاً من استراتيجية موسعة من قبل إدارة الرئيس السابق أوباما لتمكين «الفصيل المعتدل» في طهران، ومساعدته على الفوز بنصيب أكبر من السلطة داخل البلاد، ثم في خاتمة المطاف، محاولة تعديل الجوانب الأكثر كراهية في تصرفات طهران وسلوكياتها الإقليمية.

وبعد مرور عامين، يعرف الجميع بعض ما كان بعضنا على دراية به منذ البداية: ليس هناك من «فصيل معتدل» داخل الزمرة الخمينية، وليست هناك من فرصة كبيرة أو صغيرة لتغيير الأسلوب أو السلوك الذي يمليه عليهم الحمض النووي الآيديولوجي الذي يتأصل في أعماق قلوبهم.

ولا يعني ذلك أن النظام الخميني عاجز عن تغيير السلوك، بل إنهم يفعلون ذلك فقط عندما يكونون مضطرين إليه. ففي سوريا، على سبيل المثال، خفضت طهران من وجودها على الأرض ليس بسبب أنها أصبحت على بينة من تكاليف الحماقات التي ارتكبتها وإنما لأن روسيا قد أكدت أنها سيدة الأمر الواقع هناك.

وفي العراق، أيضاً، أدى تحرير مدينة الموصل إلى تراجع الظهور الإيراني لا لشيء إلا لأن قوات الأمن العراقية، التي تؤيدها القيادة الشيعية في مدينة النجف ويدعمها زعماء العشائر العربية السنية، قد أحرزت بنفسها النصر المحقق.

وفي اليمن، كذلك، انخفض الوجود الإيراني على أرض الواقع للدرجة الثانية بسبب أن الجماعات التي تدعمها طهران، ومن أبرزها المتمردون الحوثيون، قد فشلوا فشلاً ذريعاً في تحقيق الأهداف الحربية التي أعلنوا عنها من قبل.

واضطر الملالي أيضاً إلى ابتلاع غصة خانقة حول قضية الحج الشائكة؛ إذ بعد أن تقدمت طهران بـ16 طلباً بخصوص استئناف إرسال بعثة الحج الإيرانية، اضطرت طهران إلى سحبها كلها تباعاً. ووافق الملالي أيضاً على ارتداء الحجاج الإيرانيين للأساور الإلكترونية حتى يمكن متابعة كافة تحركاتهم داخل المشاعر المقدسة وعلى مدار الساعة.

والمسيرة الشهيرة التي تمتدح الإمام الخميني والتي تعلن شعار «الله واحد والخميني هو القائد»، سوف تنظم اعتباراً من الآن داخل خيمة واحدة خارج المدينة في الصحراء. وسوف تصور طهران بالطبع الأفلام لتعرضها على التلفزيون الرسمي في البلاد استمراراً للعبة الوهم بأن المسلمين من كافة أنحاء العالم يقدسون ويجلون إمامهم الراحل.

وبسبب هذه الانتكاسات الدبلوماسية في الخلفية، ليس من المستغرب أن الملالي يتمسكون وبشدة بخطة العمل الشاملة المشتركة باعتبارها من أبرز إنجازاتهم على الصعيد الدولي.

فهل الرئيس الأميركي على حق في السماح لهم بهذا التشبث، لمدة ثلاثة أشهر أخرى على الأقل؟

يجب للإجابة أن تكون نعم، ولو لمجرد أن الرئيس ترمب لم يدرس المشكلة الإيرانية بصورة تامة ناهيكم عن وضع سياسة بديلة للتعامل مع طهران. ولقد تحدث الرئيس الأميركي عن تغيير النظام الحاكم بدلاً من تغيير السلوك من دون أي دليل على المنهج الجديد المؤيد بالإجراءات الواقعية الملموسة. وفي مثل هذا الموقف، لن يكون من المنطقي إدانة خطة العمل الشاملة المشتركة وإثارة حالة من النزاع مع الحلفاء الأوروبيين من دون المقدرة على توفير بديل مناسب. وبعبارة أخرى، فإن ركل العلبة على طول الطريق كان الخيار الأقل سوءاً حتى الآن.

ومع ذلك، سوف تعود العلبة الإيرانية إلى الظهور مرة أخرى خلال ثلاثة أشهر من الآن، مما يدفع الرئيس ترمب إلى الاختيار بين وضع نسخة جديدة من استراتيجية أوباما الفاشلة أو طريقة أكثر فعالية للتعامل مع ما وصفه هو والرئيس السابق أوباما بأنه «التحدي الأول للمصالح القومية الأميركية».

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو