مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٦ يوليو ٢٠١٧
عفرين أم إدلب؟

"سيف الفرات"، هو العنوان الذي أطلقته الصحافة التركية على العملية العسكرية التي يستعد لها الجيش التركي، بعد أن حشد قواته في الطرف المقابل لعفرين وإدلب، وسط قصف مدفعي لمواقع وحدات حماية الشعب الكردية في ريف عفرين. ولعل السؤال هنا هو: لماذا عفرين؟

على الرغم من أن عفرين معزولة جغرافيا عن باقي الكانتونات الكردية في سورية (كوباني – عين العرب والجزيرة)، إلا أنها تحتل أهمية استراتيجية كبيرة في المشروعين، الكردي والتركي معا، فكرديا تشكل عفرين الجسر الجغرافي لوصل المناطق الكردية بالبحر، إذا ما أتيحت الظروف للمشروع الكردي للتقدّم. وفي الوقت نفسه، فإن المشروع التركي هو منع تحقق هذا المشروع، نظرا لأن من شأن تحقيقه خروج الأمور عن السيطرة، وتشكل مقومات الكيان الكردي، وربما تصبح الفيدرالية على طاولة تسوية الأزمة السورية. وعليه، فإن مصير عفرين يقع في صلب الصراع الجاري في الشمال السوري في المرحلة المقبلة، لكن الثابت أن استراتيجية تركيا تجاه عفرين تتجاوز البعد الكردي إلى استراتيجيةٍ شاملةٍ لمستقبل الشمال السوري الذي بات في صلب الأمن القومي التركي.

ترى تركيا التي خرجت من حلب خالية الوفاض، لصالح النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، أن عملية درع الفرات لم تحقق هدفها الأساسي، طالما أن منبج، ومعها مثلث الشيخ عيسى وتل رفعت واقعة تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية، إذ قد يتيح هذا الوضع الجغرافي في ظروف مرحلة ما بعد تحرير الرقة من "داعش" تحرك هذه القوات باتجاه عفرين، لوصلها بالكانتونات الكردية. وتشعر تركيا، التي أبعدت من معركة تحرير الرقة بقرار أميركي، بقلق شديد من أن مواصلة واشنطن دعمها العسكري للكرد ربما يشجعهم في المرحلة المقبلة على توسيع نفوذهم. وعليه، ربما ترى أن كلفة الانتظار باتت أكبر من كلفة عملية عسكرية استباقية تقطع الطريق أمام المشروع الكردي نهائيا. وعليه، فإن الحديث في تركيا ليس عن العملية، بل عن عمقها ومداها ومراحلها، على نحو: هل تستهدف عفرين فقط أم أنها قد تصل إلى إدلب؟ في الحديث عن السيناريوهات المطروحة، ثمّة من يتحدّث عن توسيع نفوذ عملية درع الفرات، بحيث تصل إلى منبج، على اعتبار أنها تشكل جسر التحرّك الكردي القادم. ومن دون ذلك، فإن عملية درع الفرات تبقى مهدّدة، ويبقى المشروع الكردي قابلا للتقدّم على الأرض في المرحلة المقبلة.

أبعد من منبج، يرى بعضهم أن عفرين تبقى الهدف، طالما أن السيطرة عليها وضرب نفوذ حزب العمال الكردستاني وحليفه السوري، حزب الاتحاد الديمقراطي، هناك تشكل الضمانة الحقيقية للأمن القومي التركي. وأبعد من عفرين، ثمّة من يرى في تركيا أن الظروف السياسية والميدانية باتت مواتيةً لتحرّك أوسع، وأن الحماس التركي – الروسي للاتفاق على التفاهم في إطار اتفاق المناطق المنخفضة التوتر، قد ينتج تفاهما أوسع، يصل إلى رسم مصير محافظة إدلب، وخصوصا أن الطرفين منزعجان من موقف الكرد وتحالفهم مع الإدارة الأميركية. وبالتالي، فان إمكانية التفاهم على عملية عسكرية تركية في عفرين، مرحلة أولى، قد تفضي إلى اتفاق أوسع للتحرك معا نحو إدلب للقضاء على نفوذ "القاعدة" وباقي التنظيمات المتشدّدة في هذه المنطقة، وحماية الهدنة وفق اتفاق أستانة.

أمام هذا الواقع، ربما لا ترى تركيا أن هناك مشكلة مع روسيا في التوصل إلى تفاهماتٍ مدروسة، في حين أن المشكلة الأساسية هي مع الجانب الأميركي الداعم لقوات سورية الديمقراطية، ولعل التحدّي هنا، هو كيف ستتعامل تركيا مع الموقف الأميركي، ولا سيما في ظل التأكيدات الأميركية على مواصلة دعم الكرد بالسلاح.

يبقى القول إن بين قيام تركيا بعملية عسكرية وممارسة الضغط السياسي والعسكري حسابات متداخلة، تختلط فيها حسابات الميدان بسياسات الدول المعنية بالأزمة السورية ومواقفها وحساباتها.

اقرأ المزيد
١٦ يوليو ٢٠١٧
بعد سنتين من الاتفاق النووي الإيراني

«الذي يُهادن الطغاة هو كمَن يطعم تمساحاً بأمل أن يكون آخر ضحاياه» (وينستون تشرتشل)

في الذكرى السنوية الثانية للاتفاق النووي الإيراني، سنخطئ جداً إذا ظننا - ولو للحظة - أن «مهندسي» سياسة باراك أوباما، القائمة على تسليم مفاتيح الشرق الأوسط لحكام طهران، يشعرون بالندم.
إطلاقاً.

«الزمرة» المحيطة بأوباما، التي أطلقت يد الحرس الثوري الإيراني في المشرق العربي عندما كانت مولجة بصوغ سياساته الإقليمية، سعيدة جداً بما «أنجزته» على الرغم من «اعترافها» بأن الاتفاق النووي «لم يغيّر سلوكيات» الملالي.

بالأمس، تكرّم علينا روبرت مالي، أحد أبرز هؤلاء، بتغريد مقالة تشارك في كتابتها زميلٌ له في «الزمرة» فيليب غوردن مع ريتشارد نيفيو - الباحث والخبير بالملف النووي الإيراني بين 2011 و2013 - في مجلة «ذي أتلانتيك».

مالي، «التقدمي» المُعجب بـ«حزب الله» اللبناني وحكام إيران والكاره لـ«المحافظين» العرب، كتب في تغريدته الكلمات التالية: «لماذا حقّقت الصفقة الإيرانية مبتغاها، ولماذا منتقدوها مخطئون؟». أما غوردن ونيفيو فلقد اختارا عنواناً لمقالتهما «الصفقة الأسوأ التي لم تكن كذلك أبداً!».

في المقالة كتب غوردن ونيفيو، حاملَين على انتقادات الرئيس دونالد ترمب وقيادات بارزة في الحزب الجمهوري الأميركي للاتفاق، «في الحقيقة، الصفقة تحقّق تماماً ما كان مقصوداً منها: منع إيران من الحصول على كميات كافية من المواد الانشطارية الكافية لصنع سلاح نووي، والتبيان للجمهور الإيراني منافع التعاون مع المجتمع الدولي، وشراء مزيد من الوقت كافٍ لحدوث تغييرات محتملة بالوضع السياسي في إيران وسياساتها الخارجية».

وتابع الكاتبان: «الذين توقعوا أن تُحدث الصفقة تغيّراً فورياً في جدول أعمال إيران الإقليمي، أو زعموا أنه لو أصرّت أميركا وشريكاتها على تغيّر كهذا أثناء المفاوضات لحدث التغيّر، فإنهم يجهلون ما بمقدور العقوبات والضغوط الدبلوماسية فعله. ومن واقع انخراطنا العميق بالعملية التفاوضية، فإننا نعتقد أنه من الأهمية بمكان توضيح الغاية، والفوائد الطويلة الأمد، والحدود الحتمية لما يمكن للاتفاق تحقيقه».

إلى أن يخلص الكاتبان إلى القول: «ما أنجزته الصفقة، على الأقل خلال العَقد المقبل، هو إزالة أي تهديد واقعي قصير الأمد بتطوير إيران أسلحة نووية. على الولايات المتحدة استغلال هذا العَقد بحكمة: مواجهة التجاوزات الإيرانية ومعاقبتها، ودعم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة (الشرق الأوسط)، والتوضيح للجمهور الإيراني أن الغرب ليس عدواً له، والتحضير ليوم انتهاء مفعول التضييقات المفروضة في الصفقة. ومن ثم، إذا لم تثبت إيران بحلول 2030 أن برنامجها ذو غايات سلمية بحتة، وأنها مستعدة للعيش بسلام مع جيرانها، سيترتّب إذ ذاك على الولايات المتحدة وشريكاتها اتخاذ قرارات صعبة حول مستقبل هذا الأمر. ولكن بما أن ثمة فرصة بأنه سيكون لإيران قادة مختلفون وسياسات مختلفة - المرشد الأعلى سيكون على الأرجح قد غاب عن المشهد، وسيأتي جيل جديد إلى السلطة - لماذا علينا أخذ تلك القرارات الصعبة الآن؟ لقد اشترت الصفقة مع إيران وقتاً ثميناً، وسيكون من الغباء هدر هذا الوقت في غياب خطة أفضل».

نقطة مهمة ينبغي تذكرها لدى قراءة هذه الكلمات، هي هل كان وارداً في ذهنَي مالي وغوردن، المقرّبين جداً من أوباما ومن هيلاري كلينتون، احتمال خسارة الديمقراطيين معركة البيت الأبيض أمام دونالد ترمب؟ لقد كانت غالبية المعطيات تشير إلى العكس، وكان غوردن مرشحاً للعب دور في إدارة هيلاري لو فازت. ومن ثم، هل كان الديمقراطيون «يُرحِّلون» الأزمة خلال فترة حكم ديمقراطية تالية، لتوريط الجمهوريين باستحقاقاتها الصعبة لاحقاً؟

كما شهدنا في حينه خطّط «ليبراليو» الحزب الديمقراطي «الصفقة» - وفق تعبير غوردن ونيفيو - وقاتلوا من أجلها بعناد. و«الليبراليون» هؤلاء ينقسمون إلى فريقين؛ الأول، يضم «التقدميين الاعتذاريين» المُعجبين بشعارات طهران «الثورية» في وجه عالم عربي «عسكريتاري» أو «محافظ»... وعلى رأس هؤلاء أوباما نفسه. والثاني يضم «أصدقاء إسرائيل» الموثوقين الذين يؤمنون بأن أفضل ضمان لأمن إسرائيل يتمثّل بانشغال دول المنطقة عنها بحروبها الأهلية والدينية والمذهبية.

الظن خيراً بالحكم الإيراني كان في صميم تفكير سيد البيت الأبيض، إذ سبق له وصفه بأنه «ليس انتحارياً». ومصلحة إسرائيل، طبعاً، تظل جزءاً استراتيجياً في حسابات أي إدارة أميركية. في المقابل، مصير المنطقة العربية لم يحتل موقعاً عالياً في حسابات أوباما الذي تراجع عن معظم ما جاء في خطابه التاريخي في القاهرة عام 2009، وبلغ منتهاه بسقوط «الخطوط الحمراء» التي توهّم كثيرون وجودها لمنع نظام بشار الأسد من قتل شعبه بالغازات السامة وغيرها.

منذ تلك «الصفقة» مع إيران تغيّر الكثير في الشرق الأوسط. تغيّر الكثير في كل الشرق الأوسط... إلا في إيران التي شعرت أنها حصلت على «شيك على بياض» لتفعل ما تشاء..

صحيح، حرص وزير الخارجية السابق جون كيري، منذ البداية، على القول إن التفاوض على الاتفاق النووي كان مخصّصاً للاتفاق نفسه، ولا يتطرّق لمسائل أخرى. ولكن كان بين تلك «المسائل الأخرى» عمل الحرس الثوري على احتلال 4 عواصم عربية، وتدمير المدن في سوريا والعراق، وتهجير - أو فرض نزوح - عشرات الملايين من سكان البلدين جُلّهم من العرب السنّة!

ومن المسائل الأخرى أيضاً أن كل أزمات المنطقة اختزلت بـ«الحرب على داعش»... ذلك التنظيم الإرهابي الشَّبَحي المُصطنع، الذي أسهمت سياسات طهران وموسكو و«واشنطن - أوباما» خلال 3 سنوات دامية من الانتفاضة السورية في «فبركته» وتغذيته وتجميع عناصره وإعطائه «المبرّر» الطائفي لوجوده.

كان وجود «داعش» المسوّغ لنشوء «شرق أوسط جديد» كان مطلوباً لإسقاط الكثير مقابل ألا يخلق غير كيانات فاشلة، وأحقاد مذهبية، ووباء من الجهل والتجهيل، وتدمير منظّم للمؤسسات ومعالم الحضارة ومقوّمات الثقافة.

إن العَقد الذي منحه الاتفاق النووي لإيران دفعت ثمنه غالياً منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بما فيها المواطن الإيراني العادي، الذي سلبه متعصبّوه وملاليه و«حرسه» شبكة أمانه وفرص العيش الكريم لأبنائه.

اقرأ المزيد
١٥ يوليو ٢٠١٧
حروب الدول لتقاسم البلد تلي حروب الأسد على السوريين

ماذا يعني «مسار آستانة» والاتفاق الذي انبثق منه لإقامة المناطق الأربع «لخفض التصعيد»، وماذا يعني «مسار عمّان» واتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غربي سورية؟ إنهما نموذجان لإدارة الأزمة بعدما تعب الطرفان المتقاتلان، نظام بشار الأسد وفصائل المعارضة، وبلغا من الضعف ما يسمح للقوى الدولية والإقليمية بأن تقرّر أن سورية المعروفة انتهت، أصبحت مناطق مشرذمة، ولم يعد ممكناً توحيدها ولا حُكمها، وأن المتاح هو تقاسمها مناطق نفوذ في انتظار الظروف المواتية لـ «حلٍّ نهائي» يُفترض أن يفضي الى تقسيمها. ولا شيء يؤكّد أن التقسيم ممكنٌ وعمليٌّ، أو أنه قدرٌ محسوم. والأهم أن شعب سورية (وليس النظام)، على رغم كل الانقسامات، يرفض مثل هذا المصير.

ليس في الغالبية الصامتة، بمَن تضم من موالين ليسوا مع الأسد ومعارضين لا يراهنون على المعارضة، مَن يؤيّد التقسيم أو يسلّم به، بل إن لديهم ايماناً ضمنياً بأن صعوبات ترميم التعايش مهما بلغت تبقى أهون من آلام التجزئة الجغرافية والاجتماعية. كذلك، ليس في المعارضة وأنصار الانتفاضة الشعبية مَن دفعهم هول المآسي، على فظاعاتها، الى اعتبار التقسيم مصيراً يلبي طموحاتهم أو يحقق المستقبل الذي حلموا به. ما يتوافق عليه هؤلاء وأولئك أن دمار الوطن أصاب الجميع، شعباً ودولةً، وأن تقسيمه لا يعوّض خسارات الأفراد والعائلات والطوائف، بل يضاعفها.

الأكيد أنهم متوافقون أيضاً على رفض الأمر الواقع الذي تفرضه القوى الدولية والإقليمية عليهم الآن، وليست لديهم قدرة ولا حلفاء أو «أصدقاء» يعولون عليهم لتفعيل هذا الرفض بموقف «وطني» جامع. فالمعارضة تحاول بشقّ الأنفس الحفاظ على وجودها في آستانة وجنيف، من دون أي قدرة على مقاومة «مناطق النفوذ» وأصحابها. أما النظام، الطائر زهواً بـ «انتصارات» اعتقدها نتيجة لشطارته وتزكيةً لبقائه، فيتبيّن له أكثر فأكثر أنه لم يكن سوى أداة في أيدي حلفائه وأعدائه، حتى أنه يتلهّف اليوم لقنوات مفتوحة مع الولايات المتحدة والسعودية، اعتقاداً منه أن اللعب على التناقضات والتوازنات لا يزال في مستطاعه. لم تمكّنه عقليته السياسية البائسة من إدراك أن حلفاءه عملوا على تقزيم أي قيمة يمكن أن يمثّلها، وأنه بالنسبة اليهم لم يعد سوى ورقة يساومون بها على مصالحهم، وتوشك أن تفقد صلاحيتها. ولعل اللحظة الراهنة الأكثر دلالة الى أنه فاقد «الشرعية»، فميليشياته وأجهزته وشبّيحته لا تؤهّله لأن يكون حاكماً، أما تآمره على شعبه فلا يخوّله استنهاض حال «وطنية» - على افتراض أنها خطرت في باله - ضد الاملاءات الخارجية. لذلك، وحده هذا النظام يجد في التقسيم مآلاً يناسب طائفته ومخرجاً يغطّي عجزه عن إبقاء البلد موحّداً ويعفيه من مواجهة تحدّيات ما بعد الحرب.

في ضوء التقاسم الحاصل راهناً، ودخلت الولايات المتحدة على خطّه من باب التعاون لا التصادم مع روسيا، دخل الصراع السوري مرحلة يقول اللاعبون الرئيسيون فيها إنهم يسعون الى وقف التقاتل، سواء عبر «مسار آستانة» أو «مسار عمّان»، ليتوجّهوا بعدئذ الى «المسار السياسي». وفيما هم يتقاسمون لا يزالون يقولون، باستثناء الإسرائيليين، أنهم يرفضون أي مشاريع لتقسيم سورية. فبعدما استخدموا التقاتل لتمكين النظام هنا وإيران هناك و «داعش» و «القاعدة» هنالك، ولتعجيز المعارضة وإضعافها في كل مكان، استخدموه أيضاً لرسم الخرائط والحدود بين المناطق، هل يمكّنهم وقف التقاتل من استخدام الفوضى التي صنعوها في استنباط «حلّ سياسي» كفيل بعدم زرع أسباب لتجدّد القتال. الأكثر واقعية أنهم، أي الروس والأميركيين والإيرانيين والأتراك والإسرائيليين، يتنافسون على تقاسم البلد، وليسوا مهتمّين بأي حل سياسي، ويصعب تصوّر أي في ظل هذا التقاسم. ولذلك يُعزى عدم أكتراثهم بـ «مسار جنيف» الى أن التفاوض بين النظام والمعارضة ليس الإطار الذي يُتوقّع منه البحث في التقسيم أو الاتفاق عليه. هذا يفسّر أيضاً لعبة إضاعة الوقت التي يمارسها النظام في المفاوضات، واذا كان انخرط أخيراً في مناقشة «أي دستور للمرحلة الانتقالية» فلأن هذه رغبة موسكو المهتمّة بدسترة تعيد انتاج النظام (من دون الأسد) وبفدرلة تغلّف التقسيم المزمع.

لا وقف حقيقياً للتقاتل، وعدا مواصلة الحرب على «داعش» في دير الزور التي تُوصف بأنها أهم مواقع سيطرته بعد الموصل، سيخوض المتقاسمون المعارك المقبلة لتحريك حدود مناطق النفوذ، توسيعاً أو تضييقاً، فالتقاسم لم يُحسم بعد. لا شك في أن إيران راكمت في الآونة الأخيرة خسائر عدة، بعضٌ منها بفعل الاتفاق الأميركي- الروسي- الأردني في شأن الجنوب الغربي لسورية، وبعضٌ آخر قبله. ولعل هذا الاتفاق أشعر طهران للمرّة الأولى بما عنته واشنطن حين تحدثت عن تقليص نفوذها، إذ إنه يحول دون أن تهاجم باسم «قوات النظام» لاستعادة كامل درعا والاقتراب من حدود الأردن أو لاستعادة كامل القنيطرة لبلوغ الحدود مع إسرائيل. كان هذان الهدفان بالغَي الأهمية في الاستراتيجية الإيرانية، سواء للعبث بأمن الأردن أو بالأخص لإشعال جبهة الجولان.

قبل ذلك، حاول الإيرانيون باسم «قوات النظام» أيضاً السيطرة على معبر التنف، وباسم «الحشد الشعبي» الاستحواذ على معبر القائم - البوكمال، لجعل الحدود العراقية - السورية مفتوحةً لتنقّل ميليشياتها وآلياتها، وتحديداً لتأمين مشاركتها في معركة دير الزور، غير أن الضغط الأميركي على حكومة بغداد أوقف اندفاعها. بل حاولت أيضاً اقحام «قوات النظام» في معركة الرقّة، فأسقط الأميركيون طائرة «سوخوي 22» تابعة للنظام لمنعها من قصف «قوات سورية الديموقراطية»، ما أغضب الروس فأوقفوا التنسيق الجوي ثم أعادوه بعدما اضطرّوا لتفهّم الدوافع. يضاف الى ذلك أن نهاية معركة الموصل، بجهد رئيسي للجيش العراقي وجهازَي مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية، تترافق مع تطورَين: أولهما فرز سياسي حاصل، خصوصاً في البيئة الشيعية المؤيدة لإيران، والآخر طرح مصير ميليشيات «الحشد الشعبي» التي كانت محاربة «داعش» المبرّر المعلن لإنشائها... صحيح أن هذه الوقائع لم تُضعف نفوذ طهران، لكنها تظهر أن ثمة عقبات باتت قائمة أمام تمدّدها، وأن التقارب الروسي - الأميركي سيربك أهدافها ولا بد أن تعمل للتفلّت من قيوده.

المواجهة الأخرى المؤكّدة ستخوضها تركيا لإحباط أي مشروع لدويلة كردية محاذية لحدودها في شمال سورية، أو في أسوأ الأحوال لتكبيل أي كيان كردي بكثير من القيود لمنعه من التحوّل الى دولة. هذه معركة تجمع بين إيران وتركيا وتتجاوز خلافاتهما، بل تجمعهما مع نظام الأسد اذا كان لا يزال مؤثّراً في المعادلات الدولية والإقليمية. لكن روسيا وأميركا تبدوان متوافقتَين على خطوط عامة ومبدئية بالنسبة الى تلبية طموحات الكرد، وتحاولان معاً تهدئة الغضب التركي، من دون أن تقطعا أي تعهّد حاسم لأنقرة، إما لأن توافقهما لم يبتّ الوضع النهائي لما سيكون عليه الكيان الكردي أو لأنهما - خصوصاً الولايات المتحدة - لا يريدان كشف أوراقهما وسط تصدّر الكرد القتال ضد «داعش» في الرقة، ولذلك مثلاً أكّد وزير الدفاع الأميركي أن واشنطن ستستمر في تسليح الكرد حتى بعد تحرير الرقّة ردّاً على الرئيس التركي الذي كشف أن الأميركيين أبلغوه أنهم سيسحبون الأسلحة التي وفّرت لمقاتلي «حزب الاتحاد الديموقراطي» بعد انتهاء الحرب على الإرهاب. والمؤكّد أن تركيا التي عدّلت سياساتها مراراً في إطار تعاملها مع الأزمة السورية، وقدّمت تنازلات كثيرة على حساب فصائل المعارضة، لا تستطيع التنازل أو التهاون في المسألة الكردية.

قد تكون القوى المتقاسمة في صدد إنهاء القتال بأبعاده الداخلية البحتة، لكن المرحلة المقبلة ربما تشهد أغرب حرب بالوكالة تتقاتل فيها الأطراف المحلية لا من أجل استعادة سورية وإعادة حق تقرير المصير للشعب السوري، بل من أجل تحسين حصص الأطراف الخارجية وتعزيز مواقفها التفاوضية في عملية التقسيم. لكن السوريين «بحاجة الى وقف إطلاق شامل للنار وإلى نشر الأمن في سورية كافة، وليس الى اتفاقات تتخذ ذريعة المناطق الآمنة حجة لتقسيم سورية وتناهب أرضها...» على ما يقول بيان هو أولٌ من نوعه ووقّعت عليه عشرات من الشخصيات السورية.

اقرأ المزيد
١٥ يوليو ٢٠١٧
لماذا حافظت إسرائيل على الدولة السورية؟

لا شك أن الطواغيت العرب وخاصة الذين صنعوا الدولة على مقاسهم، وسموها بأسمائهم أحياناً كسوريا الأسد مثلاً، ربطوا الدولة كلها بمصير الرئيس والنظام، بحيث إذا انهار النظام يجب أن تنهار معه الدولة كلها، لأن الطاغية العربي يعمل على طريقة لويس الرابع عشر الذي قال يوماً: «أنا الدولة والدولة أنا». إما أن يحكم حتى ينتقل من القصر إلى القبر أو أنه إذا اضطر إلى التخلي عن الحكم تحت ظروف معينة فلا بد من الانتقام من الدولة والشعب معاً بتدمير كل مؤسسات الدولة ومقوماتها كما فعل بشار الأسد في سوريا والقذافي في ليبيا وعلي عبدالله صالح في اليمن. وقد لاحظنا في سوريا مثلاً أن النظام أوعز لشبيحته ومؤيديه أن يكتبوا على جدران سوريا شعارهم الفاشي الشهير: «الأسد أو نحرق البلد» ليقولوا للسوريين إما أن تقبلوا بحكم الأسد أو أننا نحرق سوريا الدولة والوطن، لا بل نقوم بتهجير الشعب أيضاً. وهذا ما فعلوه عملياً، فقد دمروا أكثر من نصف البلد، وشردوا أكثر من نصف الشعب، وحطموا غالبية البنية التحتية للبلاد بالقصف الممنهج وخاصة عبر البراميل المتفجرة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ولا حتى على أيدي النازية والفاشية.

لقد قالها جنرالات سوريون كبار مرات ومرات إنهم لو وجدوا أنفسهم محاصرين داخل دمشق، فسيحرقون العاصمة عن بكرة أبيها. لكن هناك قوى دولية وإقليمية لا يمكن أن تسمح بسقوط الدولة السورية، ليس من أجل عيون السوريين والحفاظ على دولتهم أو ما تبقى منها، بل لأنه ليس من مصلحة قوى إقليمية ودولية كثيرة القضاء على الدولة السورية، فسوريا ليست ليبيا ولا اليمن البعيد عن إسرائيل، بل إن أمن إسرائيل مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببقاء الدولة في الدول المجاورة وخاصة في سوريا. ولوعدنا إلى الوراء سنوات وتابعنا التصريحات الأمريكية تحديداً، لوجدنا أن كبار الاستراتيجيين والمسؤولين الأمريكيين أكدوا مرات ومرات بأنهم لن يسمحوا بسقوط الدولة ولا النظام في سوريا، لكن ليس لأنهم يحبون الشعب السوري ولا يريدونه أن يخسر دولته التي بناها على مدى عقود، بل لأن لا إسرائيل ولا أمريكا يمكن أن تسمح بوجود أفغانستان أو صومال أو ليبيا أخرى على حدود إسرائيل. بعبارة أخرى، فإن الدولة السورية ضرورة وجودية بالنسبة لإسرائيل قبل أن تكون ضرورة للسوريين أو الروس. وقد قالها رامي مخلوف الواجهة الاقتصادية لبشار الأسد في الأسابيع الأولى من الثورة عندما ذكّر إسرائيل بالاتفاق السري بينها وبين نظام الأسد، بأن أمن إسرائيل من أمن النظام. وقد كان مخلوف وقتها صريحاً إلى حد الفضيحة.

ورغم كل ما حصل في سوريا من دمار وخراب إلا أن الأمريكيين والروس والإسرائيليين عملوا المستحيل كي لا تنهار الدولة السورية.

لكن رب ضارة نافعة للسوريين بعد أن شاهدوا ما حل بالبلدان التي سقطت فيها الدولة كأفغانستان والصومال وليبيا. لا شك أن المصلحة الإسرائيلية والأمريكية بالحفاظ على الدولة السورية صب في نهاية المطاف في مصلحة الشعب السوري تحديداً، خاصة وأن فصائل المعارضة والجماعات التي تقاتل النظام لا تقل قذارة عن النظام في معاداة الدولة واستهدافها، فكما عمل النظام على تدمير البلد، لم تقصّر فصائل المعارضة في استهداف البنية التحتية ولا حتى البنى الحيوية والاستراتيجية في البلد بحجة إيذاء النظام، مع العلم أن المعارض الوطني يعلم علم اليقين أن الدولة شيء والنظام شيء آخر تماماً، حتى لو حاول النظام أن يربط الدولة بالنظام والحاكم كما فعل النظام السوري عندما أطلق اسم «سوريا الأسد» على سوريا. صحيح أن الدولة السورية ارتبطت منذ عام السبعين بنظام البعث الأسدي، لكن هذا لا يعني أن الدولة السورية صناعة أسدية بعثية، بل هي صناعة سورية وطنية ساهم في بنائها العديد من السوريين العظماء والوطنيين كفارس الخوري وأمثاله من السوريين الشرفاء. بعبارة أخرى، لقد فشل الكثير من المعارضين في التمييز بين الثابت والمتحول، فاستهدفوا الدولة على أنها هي والنظام صنوان، دون أن يعلموا أن النظام متحول والدولة ثابتة بغض النظر من يحكمها. لا بأس أن يستهدفوا النظام وينتقموا منه على اعتبار أنه مجرد عصابة اغتصبت الدولة، لكن من الخطأ الاستراتيجي أن يستهدفوا الدولة على اعتبار أنها هي والنظام شيء واحد، حتى لو بدت ذلك ظاهرياً. ولا شك أن بعض المغرضين من المعارضين تحجج باستهداف النظام كي يؤذي الدولة، فكان يبرر هجومه على مرافق الدولة ومؤسساتها مدعياً أنها أداة في يد النظام.

بكل الأحوال الآن وبعد أن شاهد السوريون ما حل بالبلدان التي سقطت فيها الدولة وتفكك جيشها، عليهم أن يحمدوا ربهم أن الدولة السورية رغم كل الخراب والتدمير الذي لحق بها إلا أنها مازالت موجودة وقابلة للترميم والإصلاح، خاصة وأن قوى المعارضة لم تقدم نموذجاً أفضل من الدولة التعيسة في سوريا. لقد تصرف معظم الفصائل في سوريا في الشمال والجنوب والوسط والشرق والغرب بعقلية العصابات والإقطاعيات والإمارات. وهل ثار السوريون أصلاً على النظام الفاشي ليقسموا بلدهم إلى إمارات ومقاطعات وغنائم بين الفصائل التي تدعي معارضة النظام؟ بالطبع لا. لقد لاحظنا كيف كان كل فصيل يتعامل مع المنطقة التي يسيطر عليها بعقلية العصابة أو الإمارة في أحسن الأحوال على اعتبار أنها غنيمة حرب. وقد شاهدنا أيضاً التناحر الكبير بين تلك الفصائل التي كانت تتنافس على الغنائم دون أي اهتمام ببناء دولة جديدة على أساس المواطنة والكرامة والحرية، أو تقديم نموذج أفضل من نموذج النظام. ولو كان السوريون قد وجدوا خياراً ثالثاً أقرب إلى دولة المواطنة الحديثة فلا شك أنهم كانوا سيركلون ما تبقى من الدولة السورية إلى مزبلة التاريح، لكنهم وجدوا أنفسهم بين بقايا دولة ولا دولة، فاختاروا بقايا الدولة على اللادولة. كم هم سخفاء أولئك الذين يقولون إن الجيش السوري والنظام حافظا على الدولة السورية! لا أبداً، فلو كان الأمر عائداً للنظام وفصائل المعارضة لما تركوا حجراً على حجر في الدولة السورية. وسيذكر التاريخ أن الذي منع سقوط الدولة السورية ليس النظام ولا جيش النظام ولا حتى حلفاء النظام، فالروس تدخلوا في سوريا بضوء أخضر إسرائيلي وأمريكي. ولو كانت سوريا بعيدة عن إسرائيل لسقطت الدولة منذ الشهر الأول. لكن قرب سوريا من اسرائيل منع سقوط الدولة بأمر اسرائيلي، مع الاعتراف طبعاً أن النوع الوحيد من «الدول» الذي يمكن أن تسمح به إسرائيل على حدودها هو نظام القمع والمخابرات والتشبيح ، فهذا النوع من الدول والانظمة هو الذي يحميها من الشعوب منذ نصف قرن.

اقرأ المزيد
١٥ يوليو ٢٠١٧
عندما كانت «الإسلاموية» تبرئة للسوريين من التطرف الشيوعي

 قبل نصف قرن لم تكن تهمة الإرهاب تعني أنك إسلامي جهادي، بل شيوعيا لأن من عمم مصطلح الإرهاب وجعله مسيسا هو الولايات المتحدة، فهي تصنف الدول والمنظمات حسب درجة عدائها لها.

يمكن ان تكون جزارا وقاتلا كإسرائيل والسيسي، لكنك لست إرهابيا لأنك حليف للولايات المتحدة، بل يمكن ان تكون إسلاميا جهاديا وتحصل على استقبال في البيت الأبيض من ريغان، ومديح من ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، إذا كنت تقاتل اعداءهم، كما حصل مع  الفصائل الأفغانية التي قاتلت الروس والشيوعية بالثمانينيات، حين كان الخطر الشيوعي هو الذي يشغل بال الامريكيين لا البعبع الاسلامي. والمفارقة أن الولايات المتحدة تنجح في كثير من الاحيان في الهيمنة على وعي خصومها، وجعلهم في موقف دفاعي عن تهمة مسيسة كالإرهاب، ويشغلون أنفسهم في تبرئة ذواتهم من هذه التهمة وكأنهم يأخذونها على محمل التوصيف الحقيقي، وينقاد الناس بسهولة للتماهي مع النقاش بالتهم الموجهة إليها، ليصبح شغلهم الشاغل نفي تلك الصفة عنهم.

الثورة السورية مثلت أحد الامثلة الحية على هذه القضية في زماننا الراهن، بتركيز جزء كبير من خطابها على نفي الإسلاموية والتشدد الديني، خشية من هذا التصنيف الغربي، بهدف الحصول على دعم الغرب الذي لم يأت. والمفارقة أن مقاربة مشابهة حصلت في سوريا قبل اكثر من نصف قرن، تكشف التلاعب الامريكي بوعي الشعوب بوضعهم دائما في موقع المتهم، ودفعهم بالنتيجة لتبني خطاب ذي أفكار وقيم ترمز للتبعية للغرب، رغبة في كسب رضا القوة العالمية الكبرى، ففي الخمسينيات كانت بعض القوى السياسية في سوريا تسعى لإثبات القطيعة مع الشيوعية عدوة الولايات المتحدة، ولعل ما قادنا لهذا الحديث هو تقرير تم نشره مؤخرا على قناة «بي بي سي» يظهر مراسل القناة وهو يتجول في دمشق نهاية الخمسينيات، ويلتقي عددا من المواطنين في الشارع وبعض السياسيين، يسأل المراسل البريطاني السكان وكأنه محقق: هل أنتم شيوعيون؟ هل تحبون الشيوعية؟ يأتي الجواب سريعا من الاشخاص المحيطين به (لا.. لا.. نحن لا نحب الشيوعية، نحن نحب الرأسمالية). مشهد يذكرنا بحديث مشابه لناشطي الثورة في سوريا لوسائل الإعلام الغربية التي ملت وهي تسألهم هل أنتم إسلاميون؟ وهم يجيبون منذ خمس سنوات آملين أن يجدوا آذانا صاغية (نحن لسنا داعش، نحن وطنيون معتدلون، نحن خرجنا من أجل الحرية والديمقراطية).

ولكن آذان الغرب مع ذلك استمعت لرواية الأسد أكثر منهم، رغم أن خطابه اللفظي مليء بالعداء للغرب ومحو القارة العجوز من الخريطة. الطريف في الامر ان احد الاشخاص في تقرير «بي بي سي» التاريخي، أجاب بطريقة لافتة، إذ قال للمذيع «نحن لسنا شيوعيين لأننا بلد اسلامي» يا لها من مفارقة.. قبل خمسين عاما تتم طمأنة الغربيين (بأننا اسلاميون.. لا تقلقوا). اما اليوم فالاسلاموية اصبحت هي الصفة البديلة للارهاب لا الشيوعية، فحسبما اختلف اعداء امريكا يختلف تعريف الإرهاب، ويختلف بناء عليه خطاب ردات الفعل الذي يغزو عقل الجماهير. أحد رجال الأعمال الذين التقتهم «بي بي سي»، كان جوابه مختلفا كليا، قال إنه يدعم الشيوعية، وانتخب القيادي الشيوعي خالد بكداش، مضيفا «أفضل ان اكون شيوعيا مئة مرة على ان تضيع بلادي بيد اسرائيل، كما حصل مع إخواننا، انتخبت خالد بكداش لأننا مللنا من شرح وضعنا للغربيين». يضحك المذيع البريطاني، فيكمل الرجل «انتخبته للفت انتباه الغربيين اكثر»، لو كان هذا الرجل في زماننا لوصف بالـ»متدعشن».  

نصف قرن مضى، والغربيون مستمتعون لحماسة الجماهير العربية بالاصطفاف بالطابور لمنح صكوك البراءة من الإرهاب، وحدهم الذين فهموا اللعبة ونفضوا أيديهم من العم سام، غضبت منهم امريكا، بعضهم تمكنت من تطويقه كما حصل مع الزعيم الفلسطيني الراحل  ابو عمار، الذي تحدى وزير الخارجية الامريكي كولن باول، والذي قال له في لقائه الاخير به في المقاطعة في رام الله «سنتركك لمصيرك»، ليموت أبو عمار مسموما، لكنه ظل رمزا خالدا عند شعبه، الذي تعلم منه ربما درسا يقول، إن الذي دعم وأنشأ اسرائيل لا يمكن ان يكون ظهيرا للعرب ضدها.

أما حديثا فإن الذين فهموا اللعبة مبكرا، نجحوا في مناوئة الامريكي بخطاب هجومي مقابل، ومشروع خارج عن الوصاية الامريكية في المنطقة، وتحولوا من عضو في محور للشر وأكبر راع للارهاب، حسب الوصف الامريكي النظري الى شريك حربي في مكافحة الارهاب في العراق وسوريا، يزور السفير الامريكي جرحاه في مستشفيات بغداد ليذكرنا بلوحة لاحد رسامي الكاريكاتير الغربيين، يظهر فيها اوباما يحتضن روحاني، وكلاهما يقول للاخر: «شيطان، لكنه ليس كبير حقا، شرير لكنه ليس إلى ذلك الحد».

اقرأ المزيد
١٥ يوليو ٢٠١٧
هل يفشل اتفاق بوتين ـ ترمب في سوريا؟

ليس واضحاً ما تمخضت عنه القمة الأميركية الروسية الأولى في هامبورغ على هامش قمة العشرين. المعلن هو اتفاق، لم تُنشر تفاصيله، عن إقامة منطقة هدنة في جنوب شرقي سوريا، تشمل القنيطرة ودرعا والسويداء وسفح الجولان امتداداً باتجاه الحدود الأردنية السورية واللبنانية السورية.

الاتفاق، الذي من غير الواضح من سيضمن آليات تطبيقه، أو ما هي الآليات هذه أساساً، هو الثاني بين الدولتين، إذ سبقه في سبتمبر (أيلول) 2016 اتفاق أول بين الكرملين وإدارة الرئيس السابق باراك أوباما في حلب، كان حصيلة جولات مكوكية بين جون كيري وسيرغي لافروف، طالت 11 شهراً، ليسقط الاتفاق بعد 5 أيام فقط من الإعلان عنه.

ما الجديد؟ يأتي الاتفاق الروسي الأميركي بعد ثلاثة تطورات ميدانية مهمة في سوريا.

الأول تمثل في دخول أميركا مباشرة إلى الميدان السوري بآليات وقوات برية وقوات خاصة في منبج على الحدود السورية العراقية (بالإضافة طبعاً للدخول الميداني المستجد في الرقة). وهو دخول يزعج، بالحد الأدنى، الطريق البري من طهران إلى المتوسط عبر العراق وسوريا، أو يقفل هذا الطريق الآمن كلياً مبقياً على بديل له هو عبارة عن مسارب متعرجة وطويلة ومكشوفة تستخدمها إيران وتتحكم بها القوة النارية الأميركية عند اللزوم.

التطور الميداني الثاني تمثل في سلسلة ضربات وتحركات عسكرية أمر بها ترمب على امتداد «محور الشغب» في الشرق الأوسط، وهي غارة التوماهوك على مطار الشعيرات في سوريا، ضرب زورق إيراني قبالة سواحل اليمن، رمي «أم القنابل» في أفغانستان لأول مرة في تاريخ الجيش الأميركي، وتحريك قطعات بحرية قبالة سواحل كوريا الشمالية. وفي مؤشر على الاستمرار بسياسة التحفز الأميركية، شهد الميدان السوري ضرب ميليشيات موالية للنظام بالقرب من التنف، وإسقاط مقاتلة حربية روسية وطائرتين إيرانيتين من دون طيار، في سابقة واضحة غيرت طبيعة التدخل الأميركي في سوريا من مقاتلة «داعش» حصراً إلى مقاتلتها ومواجهة إيران والأسد عسكرياً حيث يلزم.

التطور الميداني-السياسي الثالث كان الاتفاق بين روسيا وتركيا وإيران على تحديد أربع مناطق منخفضة النزاع في سوريا، لم يتسن بعد للأطراف الاتفاق على آليات فرضها وضمان استمراريتها، ولا على حدود أدوار كل من تركيا وإيران، وهو ما أدى إلى فشل جولة آستانة الأخيرة.

وبالتالي يدرك بوتين أنه أمام معطيين: نجاح روسي سياسي جزئي في آستانة، وإدارة أميركية جديدة مستنفرة، وتمتلك من طاقة التحفز أكثر من إدارة أوباما التي كانت قد أهانت نفسها يوم وضع الرئيس السابق خطاً أحمر لبشار الأسد بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية مهددا بضربة عسكرية، سرعان ما تراجع عنها بشكل بدد الهيبة الأميركية.

يضاف إلى كل ذلك أن فترة شهر العسل التي استمتع بها بوتين في سوريا انتهت، ولم تعد له اليد العليا في التحكم بالأحداث كما كان في السابق نتيجة ضعف الدور الأميركي، وفقدان إيران لثقتها بنفسها، ما استدعى أصلاً استجداء التدخل الروسي. تغيرت الوقائع. والحقيقة أن قواعد الاشتباك التي غيرتها واشنطن، تفاعلت معها إيران، وغيرت هي الأخرى قواعد الاشتباك من جهتها. في هذا السياق جاء إطلاق الحرس الثوري صواريخ أرض - أرض للمرة الأولى منذ ثلاثين عاما من قواعده غرب إيران على ما وصفه بأنه مقر قيادة تنظيم داعش في دير الزور شرق سوريا. وفي هذا السياق أيضاً، صرح أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله في لبنان عن استعداده لفتح الجبهات أمام مئات آلاف المقاتلين الأجانب في سوريا ولبنان، لمقاتلة إسرائيل.

أما تركيا فهي تحشد شمال غربي سوريا في محيط مدينة عفرين، إحدى مدن محافظة حلب، مبدية استعدادها لتجاوز قواعد الاشتباك مع الأكراد المتفاهم عليها مع واشنطن وموسكو، في حال شعرت أنقرة أن القوات الكردية ستسيطر على المدينة بغية وصل الكيان الكردي (كوباني والجزيرة) مع عفرين.

الأهم أن تركيا تعتبر أن الإمساك بعفرين سيمكنها من وصل أجزاء من ريفي حلب الشمالي والغربي (والشرقي لاحقاً إذا انهار «داعش»)، وريف حماة الشمالي، ومحافظة إدلب، التي تعتبرها أنقرة، هي عمقها الاستراتيجي الفعلي، قبل خسارة حلب، ولا سيما بعد خسارة حلب. هذا الكيان الجديد الذي يتمدد نحو بعض قرى اللاذقية أيضا على تخوم مناطق نفوذ نظام الأسد، هو «لواء الإسكندرون 2»، الذي هو امتداد طبيعي وجغرافي للواء الأول الذي صار جزءاً من الجغرافيا التركية، وهو اليوم العقدة الأهم في جغرافيا النفوذ في سوريا.

من ضمن هذا المشهد السوري الجديد قيد التشكل، والذي يميزه غياب عربي فاقع، يأتي الاتفاق الأميركي الروسي في جنوب غربي سوريا. نقطة الضعف الجدية التي تهدد مستقبل هذا الاتفاق وإمكاناته تكمن في عدم تماسك السياسة الخارجية الأميركية، بسبب إشارات متناقضة تصدر عن الإدارة، وخلافات علنية بين البيت الأبيض والبنتاغون، الذي لم يُستشر حول الاتفاق الأخير مع روسيا، واختلافات أخرى بين ترمب والخارجية في أزمات أخرى آخرها قطر، دعك عن ملفات الداخل الأميركي التي تعصف بإدارة ترمب.

اقرأ المزيد
١٤ يوليو ٢٠١٧
إيران... الانهيار بات قريباً والخروج من سوريا والعراق البداية

ليس لأن صحفاً أميركية رئيسية وذات مصداقية وتأثير فعلي، إنْ على أصحاب القرار وإنْ على الرأي العام في الولايات المتحدة، قد أثارت هذا الموضوع وبمنتهى الجدية في الأيام الأخيرة بل لأن هذا هو واقع الحال ولأن إيران، التي قد تبدو مستقرة ومتماسكة بالنسبة للناظر إليها من الخارج البعيد، تعاني في حقيقة الأمر من تناحر ومن اشتباكات داخلية مع نفسها بين من يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم الآخرون أصحاب هذا الحكم الذي مرَّ عليه منذ انتصار الثورة الخمينية ثمانية وثلاثون عاماً والذي كما يقول بعض أهله وبعض قادته الأوائل بات أوهى من خيوط العنكبوت وغدا مهدداً بالانهيار في أي لحظة.

إن الأخطر كثيراً مما تحدثت عنه بعض الصحف ووسائل الإعلام الأميركية هو ما نسب إلى الجنرال محسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري وأمين مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي كان قد قال قبل أيام قليلة إن نظام بلاده على وشك الانهيار من الداخل وإنه على المسؤولين أن يلتفتوا إلى الداخل بقدر ما يولون أهمية لتوسيع نفوذ إيران الإقليمي. وحقيقة أنَّ كل هذه التحذيرات التي أطلقها الجنرال رضائي هي تكرار لمواقف مسؤولين إيرانيين كبار كانوا قد حذروا هم بدورهم من تآكل نظامهم من الداخل «بسبب استشراء الفساد وتفشي الاختلاس وانتشار المحسوبية والرشى وضعف مؤسسات الدولة».

في إيران الآن هناك أجنحة متصارعة كثيرة داخل النظام نفسه؛ كل جناح منها ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على النظام والسيطرة عليه، واللحظة المناسبة هي الرحيل المفاجئ لمرشد الثورة والولي الفقيه علي خامنئي وعدم القدرة على اختيار بديل له بالسرعة التي تجنب البلاد الوقوع في الفراغ التي إنْ هي وقعت فيه فإنها ستغرق في الفوضى غير الخلاقة بالطبع مما سيفتح المجال لمغامر أو لمغامرين من قادة حراس الثورة للقيام بانقلاب عسكري على غرار الانقلاب العسكري الذي كان قام به الجنرال رضا شاه الذي أورث الحكم من بعده لابنه محمد رضا شاه الذي لم يحافظ عليه كما الرجال والذي انتهى بعد تجارب مُرة بالفعل إلى روح الله الخميني الذي بعد نجاح ثورته في فبراير (شباط) عام 1979 بدأ هؤلاء الملالي صراعاتهم الداخلية وإلى أن أوصلوا البلاد إلى كل هذا الذي وصلت إليه.

ثم وبالإضافة إلى كل أجنحة النظام هذه، التي ينتظر كل واحد منها اللحظة المناسبة لإقصاء الآخرين وإنْ بالحديد والنار والسيطرة على الحكم ليواصل هذه المسيرة الظلامية ولكن على نحو أكثر دموية واستبداداً وديكتاتورية، فإن هناك الذين يعتبرون أنفسهم «ليبراليين» كرئيس الوزراء السابق حسين موسوي وكمهدي كروبي وكأتباع الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، وإنَّ هناك أيضاً تيارات أكثر تطرفاً، بالإضافة إلى أجنحة حراس الثورة وبعض قادة الجيش الإيراني الذي يعتبر بمثابة الصامت الأكبر والذي قد يبرز من بين كبار جنرالاته من سيسيطر على الحكم في اللحظة المناسبة ويكرر ما فعله رضا شاه ويقيم دولة ملكية يتوارثها أبناؤه وذلك إنْ استطاع هؤلاء الصمود أمام العواصف الإيرانية المفاجئة المعهودة.

ربما أنَّ الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ومعه كثيرون لم يكن يعرف أن حرب الثمانية أعوام التي أرادها نهاية للنظام الخميني ولحكم هؤلاء الملالي الذين يحكمون الآن في طهران قد أطالت في عمر هذا النظام، فالإيرانيون مشهورون بالعناد والقبول بالتحدي، ومشهورون أيضاً برفض أي تدخل خارجي في شؤونهم الداخلية، ولذلك فإن حتى بعض الذين كانوا مناوئين لهذا النظام والذين كانوا يسعون لإسقاطه وبالقوة العسكرية وجدوا أنفسهم تلقائياً في مواجهة العراق ووقوداً لتلك الحرب المدمرة التي إذا أردنا قول الحقيقة فإن النظام الإيراني كان يريدها وكان يسعى إليها أكثر من نظام البعث في بغداد.

الآن وبعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 وبعد إسقاط صدام حسين وتدمير نظام حزب البعث فإن ما يجب البحث عن سببه ومسبباته هو فتح أبواب بلاد الرافدين لإيران التي غدت دولة محتلة وبكل معنى الاحتلال لهذه الدولة التي توصف، وهي كذلك، بأنها الجدار الشرقي للعرب وللأمة العربية ودائماً وأبدا وفي كل حقب التاريخ ضد الأطماع الفارسية وضد التمدد الفارسي في العالم العربي مما جعل نظام الملالي يشغل الشعب الإيراني الذي من المفترض أنه شعب شقيق يربط بيننا تاريخ مشترك طويل بكل هذا الذي يفعله بهذه المنطقة كلها وصولاً حتى إلى اليمن وحتى إلى لبنان وحتى إلى بعض دول المغرب العربي التي تعتبر نائية وبعيدة.

وهكذا فإنَّ التعجيل بانهيار هذا النظام، الذي غدا عبئاً على الشعب الإيراني أكثر مما هو عبء على المنطقة العربية كلها، يتطلب إخراجه وبكل وجوده الاحتلالي من العراق ومن سوريا وأيضاً من لبنان واليمن وحتى وإن اقتضى الأمر الأخذ بتلك المعادلة القائلة عدو عدوي صديقي والتعاون مع الولايات المتحدة التي هي دولة صديقة في كل الأحوال والتي اعتبرت، ومعها بعض الدول الغربية، إيران الخمينية والخامنئية دولة إرهابية.

ثم، وهذا يجب أن يقال الآن مراراً وتكراراً، فإنه وللإسراع في انهيار هذا النظام، نظام الملالي، ورحيله لا بد من أن تنضوي كل قوى المعارضة التي يشكل «مجاهدين خلق» عمودها الفقري وقوتها الرئيسية في جبهة مقاومة واحدة وموحدة وعلى أساس برنامج الحد الأدنى والمعروف هنا أن «المجاهدين» في مؤتمرهم الأخير قد أبدوا استعداداً لإقامة هذه الجبهة التي يجب أن تتمثل فيها كل تنظيمات وقوى المجموعات القومية في إيران كالعرب والأكراد والبلوش والبختيار والآذاريين وغيرهم.

وهنا وما دام أن برنامج الحد الأدنى هو الشرط الرئيسي لنجاح أي جبهة معارضة وبخاصة في إيران فإن المفترض أن يكون البند الرئيسي من بين أهداف هذه الجبهة المطلوبة هو إسقاط هذا النظام، نظام الملالي، واستبدال نظام ديمقراطي به تشارك فيه كل مكونات الشعب الإيراني وذلك لأنه من غير الممكن أن يستقطب أي برنامج يدعو لتجزئة الدولة الإيرانية وتقسيمها إلى كيانات ودويلات قومية ومذهبية غالبية الإيرانيين الذين يرفضون ولو مؤقتاً الانقسام والتقسيم والذين يسعون فعلاً إلى دولة علمانية وديمقراطية تساوي بين كل أبنائها بغض النظر عن أصولهم ومنابتهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية.

يجب أن يكون الهدف الوحيد في هذه المرحلة وبالنسبة لكل تنظيمات المعارضة وفصائلها حتى المسلحة منها هو إسقاط هذا النظام الرجعي الاستبدادي الذي يحشر شعباً عظيماً هو الشعب الإيراني بكل أعراقه وانتماءاته المذهبية والدينية في كهوف التاريخ الرطبة والمنتنة وإقامة حكم تعددي وديمقراطي عنوانه: الوطن للجميع والمساواة للإيرانيين كلهم بكل انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية.

وهكذا وعوْدٌ على بدء فإن الذين وصفوا انهيار إيران المتوقع والمنتظر بأنه سيشبه انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي كان يصفه أتباعه ومؤيدوه بأنه «عظيم»، لم يبتعدوا عن الحقيقة، فالروس - السوفيات قبل انهيارهم كانوا يحتلون أفغانستان وأيضاً كانوا يحتلون أوروبا الشرقية كلها وكانت خزائنهم فارغة وكان تضخم «الروبل» قد وصل إلى أرقام فلكية.

والمعروف أنَّ إيران، التي باتت تعاني من أوجاع كثيرة، تخوض الآن ثلاث حروب طاحنة هي الحرب العراقية والحرب السورية والحرب اليمنية وكل هذا بينما أصبح الـ«تومان» مصاباً بالانهيار الذي أصاب «الروبل» عشية انهيار الاتحاد السوفياتي وبينما أيضاً أنَّ ما يزيد الطين بلة كما يقال أن الدولة الإيرانية غير متجانسة قومياًّ وأنها عبارة عن مكون «فسيفسائي» من الفرس والآذاريين والعرب والأكراد والبلوش والبختيار وغيرهم، وأن بعض هذه المكونات القومية قد لجأت إلى امتشاق السلاح بعدما وصلت ممارسات حراس الثورة و«إطلاعات» وكل هذه الزمر «الميليشياوية» ضدها إلى حدود لم يعد بالإمكان احتمالها!!

اقرأ المزيد
١٤ يوليو ٢٠١٧
الاتفاق الأميركي - الروسي في جنوب سورية ربما يكون بداية النهاية

الاتفاق الروسي - الأميركي حول منطقة آمنة في جنوب سورية، والاتفاقات الأخرى التي في طور التحضير، نقطة تحول حاسمة في القضية السورية، وقد تكون بداية نهاية القضية السورية في شكلها القتالي. فهو ينقلها إلى أعلى مستوى ممكن، ويحصر معالجتها بالقوتين العظميين، بالتالي يجعل كل اتفاق أو قرار بشأنها قابلاً للنفاذ، بعد أن علقت المبادرات والحلول لسنوات طويلة في الاستعصاء الذي فرضته توازنات القوة بين المتنازعين المحليين والإقليميين وتناقضاتهم، ودفع ثمنها الشعب السوري غالياً.

تمثل كل من الولايات المتحدة وروسيا معسكراً من المتصارعين في سورية وعليها، وهما قادرتان على تلافي التباينات داخل كل معسكر، وعلى فرض القرارات على الجميع، عبر تسوية سياسية، لم يعد من الممكن الفرار منها، في ظل المأزق الدموي الذي وصلت إليه البلاد، وهو استحالة انتصار أي طرف.

لقد أعلن الروس والأميركيون، أن الاتفاق الحالي لا علاقة له بما يدعى بمسار آستانة، وهذا مبدئياً كفّ يد كل من إيران وتركيا، وبداية عملية تحييد المتصارعين الأكثر عنفاً وإشكالية في الصراع، سواء كانت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، أو القوى السنية المتشددة، أو حتى الجزء المرتبط بحزب العمال الكردستاني من المقاتلين الأكراد.

وهي رؤية يبدو أن الجانب العربي المعني قد أبلغ بها باكراً سواء من الطرف الأميركي أو الطرف الروسي، ونالت رضاه، وهذا ما يفسر إلى حد بعيد الصمت والإحجام العربي غير المفهوم في سورية منذ أشهر طويلة.

الاتفاق الذي يشمل جنوب سورية حالياً يتضمن إخراج إيران وميليشياتها من هناك، من خلال حضور عسكري روسي على الأرض، ومراقبة عن كثب من طرف الأردن وإسرائيل لجديّة تنفيذ ذلك، ويتضمن من ناحية أخرى القضاء على جيوب «داعش» والنصرة في تلك المنطقة، وهو ما ستتكفل به واشنطن والقوى المرتبطة بها على الأرض.

الأمر عينه سينسحب على بقية المناطق، من ريف دمشق إلى حمص إلى الحدود الأردنية إلى الحدود مع العراق، وصولاً إلى شرق سورية الذي سيكون الحلقة الأخيرة والختامية من الصراع ومن التسوية معاً، نظراً الى تعقد وتجمع الملفات الحساسة هناك. فهو الملاذ الأخير لداعش، وهو مركز الملف الكردي في سورية، إضافة إلى كونه الجدار الفاصل بين النفوذ الإيراني في العراق ومناطق نفوذ إيران على المتوسط، وهذا إلى الموارد التي تكتنفها تلك المنطقة بوصفها «سورية الغنية» حيث النفط والماء.

بعد إخلاء الميدان السوري من القوى المتطرفة السنية منها والشيعية وكذلك الكردية، ينتظر أن يجري التفكير بترتيب بديل للأسد ونظامه، يرضي بعض المعارضة وفصائلها، ويراعي بعض متطلبات القوى الإقليمية التي تم إبعادها من دون استبعاد مصالحها بطبيعة الحال، ويؤمن بعض الاستقرار داخل البلاد، وسلطة أمنية عسكرية تستطيع منع ظهور القوى الإسلامية المتشددة مجدداً.

الرئيس بوتين الذي نال أخيراً ما سعى إليه لسنوات في سورية، وهو التعاون الأميركي في الملف العسكري، سيفعل كل ما في وسعه لإنجاح هذا الاتفاق وتطويره، وسيتخلى عن حذره الذي لازمه في السنتين الماضيتين خشية التورط وحيداً في الرمال المتحركة السورية، وهو يعرف جيداً ثمن هذا التعاون وإطلاق يده في مسألة تقرير مصير سورية، وهو إخراج الميليشيات الايرانية، الذي هو ليس فقط شرطاً أميركياً، بل مطلب عربي وإسرائيلي ملح.

لكن مواجهة إيران بمطلب مغادرة ميليشياتها سورية ليست سهلة، فهي ستمانع في البداية بلا شك، ثم ستطلب تعويضاً مجزياً لما قدمته طوال السنوات الماضية. والأمر لن يقتصر على نفوذ في سورية وتأسيس مركز قوى يحفظ مصالحها هناك، بل ضمان نفوذها في لبنان، من خلال ممر ما إلى حليفها «حزب الله».

تركيا أيضاً لن تخضع للإملاءات ببساطة، ستطلب أجوبة عملية عن سؤال الدولة أو الإقليم الكردي في جنوبها، ولديها أوراق قوة ستلعبها، ابتداء من وجودها العسكري المباشر في شمال حلب، وصولاً إلى علاقاتها القوية ببعض فصائل الشمال، مروراً بورقة اللاجئين الذين تحتضنهم.

بين هؤلاء وأولئك يقبع نظام الأسد والمعارضة السورية، وهما بحالة يرثى لها من البؤس والاعياء، ومن فقدان الفاعلية والقدرة الذاتية، بعد أن سلم كلاهما أوراقه للقوى الخارجية، التي ستقوم بالتوافق في ما بينها بصنع واجهة لنفوذها ومصالحها وأطماعها من ركام النظام والمعارضة، على شكل نظام قليل التماسك، يشارك فيه فقط من يكون له دور وظيفي لمصلحة تلك القوة أو تلك، ومن لا يكون كذلك سيجد نفسه حجراً ناشزاً وغير محتاج إليه، وسيلقى إلى الإهمال ويغيبه الصمت.

في البعيد البعيد، يقبع الشعب السوري صامتاً، خائر القوى محطم الاحلام، لا ينتظر شيئاً وغير راغب بشيء، سوى أن يتوقف الجميع عن طعنه.

اقرأ المزيد
١٤ يوليو ٢٠١٧
قد ينتهي التنظيم وتبقى «الداعشية»

الضربات العسكرية التي يتعرض لها تنظيم «داعش» قد تنهي وجوده على الأرض التي أعلن عليها قيام «الخلافة الإسلامية» أواخر حزيران (يونيو) 2014. لكنّ أفكار التنظيم وتصوراته للحياة والدنيا لن تنتهي في الأفق المنظور، وربما لا تنتهي أبداً.

لقد حاكت أفكار «داعش» طبقات الوعي المتدنية في العقل العربي الإسلامي، ثم أصاب ذلك بالعدوى عقولاً أوروبية وأميركية، استنبتت لنفسها داعشية رديفة، تحت ذرائع انتقامية تصب في نهر العنف نفسه الذي أحال العيش إلى قدَر إرغامي صعب الاحتمال!

«داعش» استثمر في لحظة الانهيار النفسي والوجداني لدى الشعوب العربية الغارقة في وحل الهزيمة السياسية واليأس وانسداد الآفاق، ومهانة الكرامة القومية، وتردي الروح الجمعية، وتكالب الدنيا على «الحق» ونصرتها التي بلا حدود لـ «الباطل» وأعوانه، فحاز التنظيم تأييداً خرافياً تغذى، في البدء، من المظلومية المعكوسة لما يعرف بـ «أهل السنة» بعد أن كانت تلك المظلومية، لقرون، حكراً حصرياً للمكون الإسلامي الشيعي، وأثّثت مخياله الكربلائي.

وفي بوتقة التشدّد الذي اعتمده «داعش» صبّت كل نزعات العقل الباطني العربي، وخرجت إلى السطح المشاعر الدفينة تجاه المجتمع والمرأة والآخر والتعايش، فسقطت الأوهام المديدة، وذابت أوثان الشمع حول التسامح واحترام الأديان وتوقير الحساسيات الإثنية والمذهبية. كان «داعش» بمثابة البركان المرعب الذي أخرج مما استقر في باطن الأرض منذ آلاف السنين. سيندحر التنظيم كـ «دولة خلافة»، لكنه قد يعيد تموضعه هنا أو هناك، وقد ينتهي هذا التموضع حتى يعود القهقرى، فيعيد سيرة «القاعدة» وطرائق عملها، لكنّ خطره لن ينتهي على مستوى العنف المادي إلى الأبد. بيْد أنّ الذي سيبقى، وربما يتغلغل، هو ما سبّبه «فكر» هذا التنظيم في الوعي العربي الإسلامي الراهن من شروخ غوريّة، حيث أنعش التشدّد في مستوياته الدينية والسياسية والاجتماعية، وغذّى النزعات الثأرية لدى الخصوم الذين لطالما رفعوا من قبل شعار الحوار «بالتي هي أحسن».

التهدّمات التي أحدثها «داعش» من الصعب ردمها. خذ الخلاف السنّي- الشيعي، وشاهد لساعة واحدة فقط الفيديوات على «اليوتيوب» من كلا الطرفين. وخذ أيضاً التهديدات التي تطاول المسيحيين في المشرق العربي. وخذ الإكراهات الاجتماعية التي تواجه النساء، حيث أضحت المرأة رمزاً للفجور، وتنامت دعوات تسري كالنار في الهشيم، إلى السيطرة على لباسها وحركتها وكلامها وتفكيرها، حتى إن بعضهم دعا إلى فرض «شرطة دينية» للسيطرة على ما ترتديه النساء في الشارع، باعتباره مدعاة إلى «الفتنة والفجور»!

أما إن راح المهتم يرصد الخسائر المادية والبشرية التي تسبّب بها التنظيم في بلدين اثنين فقط: سورية والعراق، فالأرقام مرعبة، حتى ليخيل المرء أنّ الفتق اتسع على الراتق، فانسدت الكوى، ورُدمت الملاذات.

وما يزيد الصورة كآبة أنّ القوى المناهضة لأفكار «داعش» كشفت عن هشاشة بنيوية عميقة، فأهل اليسار، في جلهم، ناصروا الجلادين والقتلة، وراحوا يلتقطون الصور التذكارية معهم، وأما العلمانيون والليبراليون فظلوا معتكفين في أبراجهم الشاهقة، ومضوا يطلون على النيران من خلف شبابيكهم السوداء، ولم ينخرطوا، إلا شفاهياً في «المعركة». وليتهم لم ينخرطوا وبقوا متفرجين، لأنهم أظهروا في خطاباتهم نزعات إقصائية واستئصالية، جعلت الحرية والديموقراطية، والتعددية، واحترام الاختلاف، وتقدير الحساسيات الدينية، «يوتوبيا»، فانهار الخطاب، وسال الزبد على شفتيه!

ما تهدّم كبير ومتسع وعميق، ما يجعل البناء، وإعادة تأهيل المجتمعات العربية، نفسياً وروحياً، أمراً صعباً، فهذه المجتمعات الآن في مرمى الخرافة، والأنظمة المستبدة، والحركات الدينية التي أيدت «داعش» ضمنياً، ما يعني أنّ العرب بعد «داعش» خرجوا، كما يقول المثل الشعبي «من الدلف إلى المزراب»!

اقرأ المزيد
١٤ يوليو ٢٠١٧
هل انتهت المغامرة الروسية في سورية؟

لعل أهم إنجاز روسي، بنطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحقّق من اتفاق الجنوب السوري مع الرئيس دونالد ترامب أنه استطاع فتح ثغرة داخل الإدارة الأميركية تسمح بأحد خيارين: إما أن تكون هذه الثغرة بداية انفتاح أبواب واشنطن أمام روسيا ومناقشتها ومشاركتها في القضايا العالقة معها، أو زرع لغم ينفجر داخل الإدارة ويخلق صراعات بين أركانها يتيح لبوتين التحرك بسهولة أكبر في خرائط الأزمات الدولية.

لكن ماذا لو لم يحصل أحد الاحتمالين، بحيث أن الإدارة الأميركية اكتفت بهذا الاتفاق، على ما هو ظاهر حتى اللحظة، بل وذهبت إلى توكيل الأردن وإسرائيل لمتابعة ترتيباته وإجراءاته، بالتالي إخراج نفسها من أي استحقاقات مستقبلية، وبالتبعية لم تحصل أي توتّرات في العلاقة بين الأجنحة والتيارات في إدارة ترامب؟

تشكّل هذه الاحتمالات في حال تحقّقها ضربة غير مسبوقة لبوتين، فهو للمرّة الأولى يقدم على خطوة بهذا العمق في سورية، وكان قبل ذلك اعتمد سياسة الصبر والإمساك بأكبر قدر من مسارات الحرب السورية انتظاراً لنضوج التسويات التي اعتقد انه سيكون المتحكِّم بخيوطها ويجبر واشنطن على دور شرفي ديكوري لا يتعدى اعترافها بنهائية السيطرة الروسية على الإقليم السوري.

أن يشكّل خطأ تقديرات بوتين مغامرة فتلك مسألة بنيوية لها علاقة بوضع روسيا وواقعها في ميزان القوّة العالمي، فروسيا دولة ما زالت في طور بناء قوّتها ليست لديها إمكانات الدول العظمى والتي إضافة الى ثراء عناصر قوتها فإنها تملك مساحة واسعة من الخيارت والأوراق التفاوضية تدعم بها مواقفها وتسند بها تحركاتها.

وإذ لا تمتلك روسيا مثل هذه المزايا، إلا في خيالات وأوهام بعض رجالات الكرملين، فإنها بسبب قلة أوراقها وضيق خياراتها تعتبر أن كل ورقة تملكها كافية لتسوية جميع ملفاتها الخلافية مع العالم، من جزيرة القرم في أوكرانيا إلى تمدّد حلف الأطلسي على حدودها، وثبت أن هذا أمر لا يمكن ترجمته وتصريفه سياسياً لذلك تتحول القضايا العادية إلى أزمات مستدامة نتيجة هذه الحسابات المعقّدة.

ويذكر الجميع العروض التي قدّمتها دول الخليج العربية لروسيا كي تتخذ مواقف متوازنة من الأزمة السورية، وأثار موقفها هذا الاستغراب والشك لدرجة ذهب البعض معها إلى اعتبار أن روسيا عادت لزمن المواقف المبنية على الإيديولوجيا، غير أن الحقيقة التي تكشّفت بعد ذلك أثبتت وجود فارق شاسع بين تقدير روسيا للأوراق التي تملكها ورؤية وتقدير الآخرين لتلك الأوراق، وهذه إشكالية من شأنها تخريب أي عملية تفاوضية لأن أي طرف مقابل لروسيا سيجد نفسه أمام معادلة خاسرة غير مضطر للقبول بها في الوقت الذي تتوافر له بدائل، او حتى يمكن صناعتها، بأثمان أقل مما تطلبه روسيا.

لا شك في أن تراكب الإشكاليات البنيوية للقوّة الروسية مع طرائق إدارة صراعات موسكو مع اللاعبين الآخرين كفيلة بإنتاج مركب المغامرة الذي يشكل وزناً معتبراً في السلوك الروسي الحديث، فقد انبنت جميع تحركات موسكو على مغامرة واضحة ومزيج من النزق والتهوّر لم يكن في الإمكان إخفاءهما، وهو ما يشبه سلوك دولة إقليمية ليست لديها الثقة الكاملة بتصرفاتها.

ولكن ماذا لو أن واشنطن اعتبرت أنها دفعت ثمن الاتفاق مع روسيا عبر الاعتراف بها طرفاً مقرّراً في سورية، وبخاصة أن هذا الأمر لطالما شكل هدفاً عزيزاً على قلب موسكو، بالتالي تصبح واشنطن هي التي في موقع من ينتظر من روسيا دفع الاستحقاقات المترتبة عليها؟

والأمر ليس تخميناً، بل ثمّة مؤشرات عديدة على أن واشنطن بالفعل تسعى إلى تطوير الاتفاق بهذا الاتجاه، وبخاصة بعد أن صرّحت إدارة الرئيس ترامب بأنها تطمح لاستنساخه على بقية المناطق السورية، بما يعني حصر التفاهمات بين روسيا وأميركا وإبعاد إيران، ليس سياسياً وحسب، بل مادياً عبر إخراج ميليشياتها من تلك المناطق كما حصل في اتفاق جنوب سورية، بل أن واشنطن تذهب أبعد من ذلك في ما يخص الترتيبات الواجب إجراؤها لتهيئة المناخ اللازم لحل الأزمة في سورية، عبر تحديد مصير بشار الأسد ووضع إطار زمني لخروجه لا يتعدى المرحلة الانتقالية على ما صرح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، وعلى رغم رد بوتين العصبي لا يبدو أن كلام الوزير الأميركي يدخل في إطار توقعاته من روسيا بقدر ما هو نتيجة تفاوضية صريحة جرت خلال لقاء ترامب – بوتين.

لقد مارست روسيا، منذ تدخلها في سورية، سياسات تضليلية الهدف منها استنزاف الخصوم بالخدع، ولا شك في أنها استنزفت ما لديها من تكتيكات بهذا الخصوص، وتضع اليوم نفسها في قلب اتفاق ربما يرتب عليها استحقاقات أكبر من قدرتها على الالتزام بها، وفي حال استمرار سيرها بالاتفاق أو تراجعها عنه فإن المغامرة الروسية في سورية أمام شروط ووقائع مختلفة.

اقرأ المزيد
١٣ يوليو ٢٠١٧
اللجوء السوري حيال سياسات الهوية والسؤال الأخلاقي

من زمن الحديث عن الوجود المهدّد إلى أيام الشكوى من الحقوق المسلوبة أو الزهو باستعادتها، انطبعت سياسات الهوية الطائفية عند فئة كبيرة من السياسيين بسمات متشابهة، على اختلاف الطوائف وعلاقات القوى. جاء كلام الهوية سافراً مرة ومن باب التورية مرة أخرى. وكثيراً ما غاب السؤال الأخلاقي عن الحياة العامة. ولا يكفي الفصل بين السياسة والأخلاق الذي قال به ماكيافيلي، لتفسير هذا الغياب. ذلك أن جنوح سياسيين كثر إلى التشديد على مظلومية الطوائف اللبنانية وخوف الواحدة من الأخرى، هو بمثابة إعفاء من المسؤولية الأخلاقية. فحين تكون السياسة محكومة بمصلحة الجماعة المفترضة بوصفها الخير الأعلى، يضيق مجال الأخلاقيات إلى حدود العلاقات بين الأفراد، وداخل الجماعة الواحدة في شكل خاص. ويضيق أيضاً حين تلبس الهويات الطائفية لبوس الهوية الوطنية.

واليوم، يغيب السؤال الأخلاقي عند فئة من السياسيين وعدد غير قليل من اللبنانيين حين يتعلق الأمر بالتعامل مع اللاجئين السوريين. صحيح أن السوريين الذين هجّروا من بلادهم استقبلوا في البداية من غير خوف ولا عداء. ولم تؤد مشكلات الاستضافة الكثيرة إلى موجات تعصب أو عنصرية على غرار بلدان أخرى أكثر ازدهاراً واستقراراً وديموقراطية من لبنان. واستحق اللبنانيون تقديراً كبيراً في العالم. لكنه بات صحيحاً أيضاً أن الرصيد المعنوي تناقص وأن التضايق من وجود السوريين تصاعد، بعد أن أثارته ثم استثمرته سياسات الهوية اللبنانية المختلطة بسياسات الهوية الطائفية.

وبفعل هذه السياسات، صارت الأعباء التي يتحملها اللبنانيون المحرك الأول والأقوى للمواقف حيال السوريين. بطبيعة الحال، لم تكن تلك الأعباء قليلة. غير أنه تمّ تضخيمها على حساب حقائق بسيطة ومعروفة عن حياة اللاجئين إلى لبنان. راجت المبالغات عن أعدادهم وحجم منافستهم اللبنانيين في سوق العمل اللبنانية. وبخلاف ما تؤيده الأرقام عن المساعدات الدولية وإنفاق السوريين، عُزي إليهم تراجع النمو الاقتصادي. وشهدنا إجراءات تعسفية بحقوقهم في الإقامة والانتقال. وبلغ الخلط والإيحاء حدوداً غير مسبوقة، على غرار الإيهام بوجود علاقة سببية بين تناقص اللبنانيين وتزايد السوريين. وعلى رغم أن سبعين في المئة من اللاجئين يعيشون تحت خط الفقر، صُوّروا كأنهم يرغبون في البقاء في لبنان تبعاً لارتفاع مزعوم لمستوى معيشتهم فيه. ومنذ بدء تهجير السوريين إلى لبنان، اعتمد البعض لغة حربية في الحديث عنهم، فهم «قنبلة موقوتة» تارة و «لغم» طوراً.

كذّب الواقع هذه اللغة المقيتة لكنها لم تتغيّر. بل كانت تتجدّد كلما أوقفت الأجهزة العسكرية والأمنية إرهابياً أو قتلته. كأن أصحابها يحسبون أن هذا الاستثناء يؤيد الاعتقاد بأن خيم اللاجئين أو أماكن تجمعاتهم هي خطر أمني بذاته، ما يسمح بالاستغناء عن التمييز القاطع بين الإرهابيين والمدنيين، وهو قاعدة قانونية وواجب أخلاقي.

وفي ما يتعدى المناقشة التفصيلية لكل مسألة، بلغ التوجس من الآخر السوري المختلف، والمقيم موقتاً في لبنان، مبلغاً خطيراً. والتوجس، وهو في قلب سياسات الهوية، لم يُخلق من عدم. هو صنو الطائفية مهما تبدلت ملامحها منذ أن كانت «بغيضة» يخجل سياسيوها بها. وهو يتغذّى من فكرة الاستثناء، بل التفوق، اللبناني. والتوجس كما يعبّر عنه ينذر بالتعاظم. وكما أن الحرب أولها كلام فإن التوجس المتورّم أول الكراهية، والكراهية أول العنف. قد لا يقينا منه تأكيد الحرص على لبنان ومصالحه العليا وترداد الخطابة القديمة عن الأشقاء والجيران، ولا عقلنة المخاوف من انحياز طائفي إلى اللاجئين السوريين في وجه انحياز طائفي آخر ضدهم.

يبقى لنا أن نتعامل معهم بوصفهم بشراً مثلنا، فلا تكون الفروقات الصغيرة بيننا عيباً من عيوبهم. قضية حقوق اللاجئين السوريين الإنسانية، عندنا وعند سوانا، قضية أخلاقية في المقام الأول.

اقرأ المزيد
١٣ يوليو ٢٠١٧
نحو وصاية دولية على سورية!

لم يكن مستغرباً أن تخرج اجتماعات آستانة 5 بفشل في التوصل إلى تسوية للأزمة السورية. لا يخفف من وطأة الفشل قول المبعوث الدولي إلى سورية دي مستورا أن التقدم في اجتماع آستانة هو تقدم بسيط، لكنه مهم وسيتم استغلاله في تحقيق تقدم على الصعيد السياسي في محادثات جنيف المقبلة. حُدد الاجتماع نهاية شهر آب (أغسطس) المقبل موعداً جديداً للمفاوضات، وهو سيكون بالتأكيد على شاكلة الاجتماعات السابقة. فالحل السياسي للأزمة السورية يحتاج إلى اتفاق دولي ترعاه أميركا وروسيا في شكل رئيسي، فيما يتم البحث في ما يمكن أن تنال إيران وتركيا والنظام السوري من حصص جزئية في هذه التسوية. لكن الثابت حتى الآن أن كلا الطرفين الأميركي والروسي لم ينضج طبخة الوصاية على سورية.

استبشرت قوى إقليمية ودولية تعيين مناطق آمنة أطلق عليها «مناطق تخفيف التصعيد». لكن وقائع الأشهر السابقة لم تشهد تطبيقاً لمنع التصعيد، بل استمر النظام مدعوماً من إيران والميليشيات التابعة لها في السعي إلى الحسم العسكري وقضم المناطق غير الخاضعة للنظام، مستخدماً أقصى مظاهر العنف والتدمير. لم يمر ذلك من دون غض نظر روسي ساهم في تشجيع النظام على التقدم نحو مناطق جديدة. في المقابل، لم تردع الضربات الأميركية الجوية ضد بعض مواقع النظام من إكمال هذا الأخير خطته التصعيدية.

في الأسبوع الماضي طرأ تطور في شأن الأزمة السورية قد يكون الأكثر أهمية من كل ما حصل سابقاً. في اجتماع قمة العشرين في هامبورغ، تم الاتفاق بين الرئيسين الأميركي والروسي على وقف النار في جنوب غربي سورية، وبدأ الحديث عن نشر قوات روسية كشرطة محلية لمراقبة وقف النار. قد يكون ما أعلن عنه هو بداية الصفقة الدولية على سورية التي ستحدد مناطق النفوذ لكل طرف. صحيح أن الطرف الأميركي لا يزال متخبطاً في كيفية تحديد موقفه من بقاء الرئيس الأسد أو من رحيله. مرة يعلن أن لا مكان للأسد في التسوية المقبلة، ومرة أخرى يشير إلى أن الهدف ليس الأسد إنما القضاء على الإرهاب، وأخيراً يقول هذا الموقف ببقاء الأسد راهناً ولكن ليس لزمن بعيد. وهي مواقف تعكس عدم الوصول إلى تسوية نهائية مع روسيا تحسم في طبيعة النظام وتركيب الدولة السورية على قاعدة جديدة، ما يجعل الموقف الأميركي متذبذباً في انتظار مظاهر الحل.

في ظل «الطبخات» الجارية، تتحسس القوى الإقليمية الأخرى مواقع أقدامها، وبالنظر إلى الشعور باقتراب تسوية ما، تسعى تركيا إلى تصعيد لهجتها العسكرية، وتحشد جيوشها في الشمال السوري، تحت حجة منع قيام كيان كردي على حدودها قد يشكل خطراً على الأمن القومي لتركيا، لكن الهدف الأبعد لتركيا هو السعي لاقتطاع أراض سورية وضمها إلى الكيان التركي، مستعيدة تجربة إلحاق لواء الإسكندرون في القرن الماضي. ترغب تركيا في تكريس أمر واقع على الأرض يعزز موقعها على طاولة مفاوضات التسوية لاحقاً.

أما إيران، فلا تكف عن تثبيت مواقع نفوذها، سواء داخل أروقة النظام أو على الأرض. تتوجس إيران من الموقف الأميركي الذي لا يكف عن التصريح بضرورة إخراج إيران وميليشياتها من الأراضي السورية. لن تتساهل إيران في إلغاء موقعها في سورية، وهي التي استثمرت فيه بمليارات الدولارات، ودفعت أثماناً بشرية من جيشها، وذاقت لأول مرة طعم تمددها نحو تحقيق الهلال الشيعي الذي يمتد من العراق إلى لبنان، وتشكل فيه سورية الحلقة المركزية. لذا، يتولى الحرس الثوري الإيراني قيادة المعارك في مناطق كثيرة، ويحفر على الأرض مواقع ثابتة تكرس سيطرته. لعل تصريحات «حزب الله» الأخيرة وتسريباته عن معركة مقبلة في جرود عرسال لطرد التنظيمات الإرهابية، تقع في سياق التذكير بموقع إيران، والتحذير من تجاهلها في التسوية المقبلة أو الحد من نفوذها.

يبقى النظام السوري، الحاكم شكلاً لسورية والعاجز عن توظيف ما تقدمه له روسيا وإيران من استعادة نفوذه السياسي أو العسكري. كأن الدور المنوط اليوم هو تدمير ما تبقى من المدن السورية، مقابل بقائه في السلطة.

من المغامرة القول بقرب التسوية في سورية، لكن من الثابت أن سورية مقبلة على وصاية دولية عمادها أميركا وروسيا وتركيا وإيران، كل واحد سيكون له مناطق نفوذه. ولن يكون غريباً أن تشهد سورية دخول «قوات ردع دولية وعربية» إلى أراضيها لتبسط الأمن وتحرس التسوية. قد تشهد سورية «فيلماً» مشابهاً لما قامت به في لبنان عام 1976 عندما شكلت القوى الدولية قوات الردع التي باتت سورية الطابع وتحولت لاحقاً إلى سلطة احتلال للبنان.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو