لفترة طويلة من التاريخ المعاصر، نظر نظام الأسد إلى سوريا، باعتبارها مزرعة تخص العائلة ورأس العائلة ليس إلا؛ ولهذا لم يكن من الغريب أن تسمى بـ«سوريا الأسد»، وبالتبعية فإنه لم يكن ينظر للسوريين، إلا باعتبارهم أتباعاً وعبيداً في «سوريا الأسد»، لا دور لهم في الحياة إلا خدمة العائلة ورأسها، والتصرف وفق رغباتها ومصالحها الضيقة. ولهذا؛ فقد كان من الطبيعي ولعقود طويلة مكتوب لكل سوري يحقق إنجازاً في مجال ما، أن يهديه للرئيس، الأب والقائد وصاحب المكرمات إلى آخر القائمة، التي تجعل من السوريين مجرد أتباع، يستجيبون لرغبات رأس السلطة الذي اختار لمرحلة وراثته ابنه باسل، وهيأ السوريين لتقبل الفكرة، وعندما مات باسل في حادثة ملتبسة سرعان ما استبدله بوريث آخر، سلمه سدنة النظام الورثة قبل أن يجف الماء على قبر أبيه.
ولأن الأسد الأب استطاع الحفاظ على سلطته في سوريا المكتوبة على اسمه وسط معادلات محلية وإقليمية ودولية، ضمنت بقاءه لثلاثين عاماً متواصلة على سدتها. فإن وريثه، فشل في تحقيق تلك المعادلة؛ مما عزز عوامل التفجير في مزرعة أبيه، فانفجرت ثورة السوريين من أجل مطالب الحرية والكرامة والعدالة، ومن أجل مستقبل مختلف لسوريا والسوريين.
ومرة أخرى، أثبت الوريث فشله في استخدام أدوات السيطرة، التي كانت خليطاً من الإكراه والمراضاة، واستخدام القوة العارية، واقتصر على الأخيرة باعتبارها الطريق الوحيدة والممكنة من أجل إعادة سيطرته وعائلته على البلاد وأهلها؛ مما عمق الاختلالات في المعادلات الداخلية من جهة وفي المعادلات الخارجية؛ الأمر الذي دفعه للارتماء في أحضان تحالف إقليمي دولي، لم يكن أبداً بين خيارات أبيه القريبة، فأصبح الابن رهينة خياراته الإيرانية - الروسية من جهة، ورهينة ما أفرزه الصراع الداخلي في سوريا، وهما العاملان الأساسيان اللذان يرسمان صورة سوريا المقبلة في رؤية النظام.
إن الأساس في اختلال المعادلات الداخلية عمليات القتل والاعتقال والتدمير والتهجير التي طالت غالبية السوريين وأغلب المدن والقرى السورية، وخلفت قطيعة بين أكثرية السوريين والنظام، وفتحت في الوقت نفسه، أبواب خيارات أخرى في عدادها السعي إلى دولة مدنية ديمقراطية، ومثله السعي إلى دولة إسلامية، وصولاً إلى دولة خلافة على نحو ما ترغب جماعات التطرف والإرهاب من «داعش» و«القاعدة» وأمثالهما.
وهكذا نرى أن الإيرانيين وميليشياتهم أقرب إلى مشروع سوريا محكومة بأنصارهم لضمان بقاء سوريا المستقبل في حدود السيطرة الإيرانية باعتبارها جزءاً من رقعة الانتشار الاستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط، وحلقة في الطريق من طهران إلى البحر المتوسط عبر العراق ولبنان، وتتجاوز حدود هذا الطموح البُعدين السياسي والعسكري إلى بعد آيديولوجي، تركز إيران من خلاله على أهمية حضورها الحاسم ومشروعها في سوريا والمنطقة؛ ولهذا السبب فإنها في التفاصيل تسعى لبناء وجود إيراني سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي في سوريا وبخاصة في العاصمة دمشق ومحيطها عبر شبكة معقدة من المؤسسات والعلاقات، وهي تضع وجود ونشاط الميليشيات الشيعية التابعة لها في خدمة مشروعها.
ولا يختلف هدف الروس الرئيس في سوريا كثيراً عن هدف إيران في ضرورة أن تكون سوريا المستقبل جزءاً من رقعة الانتشار الاستراتيجي في شرق المتوسط، بما يوفره الانتشار من مصالح سياسية وعسكرية واقتصادية، لا تتعلق بسوريا وحدها إنما بمحيطها الإقليمي وتفاعلاته القريبة والبعيدة، وهو الأساس الذي قام عليه التدخل والوجود الروسي وعلى أساسه، يمكن فهم السياسات والممارسات الروسية، التي تتغلغل في عمق الحياة السورية، وتنظم شبكة علاقات داخلية وإقليمية قوية ومعقدة، توظفها جميعاً لتعزيز وجودها الاستراتيجي في سوريا.
ورغم أن طموحات نظام الأسد بسوريا المستقبل، ليست بعيدة عما كانت عليه صورتها في الماضي، باعتبارها مجرد مزرعة لرأس النظام والعائلة، لكن بتعديلات، تضمن إبعاد بعض عوامل التفجير الداخلي الجغرافية والبشرية بواسطة جراحة العنف التي لجأ إليه نظام الأسد في السنوات الماضية دون توقف، وبالاستناد إليها، تم طرح مشروع سوريا المفيدة، والتي يمكن توسيع مساحتها أكثر، طالما كان الأمر متاحاً بمساعدة الإيرانيين والروس أو غيرهم، بمن فيهم الأميركيون والأوروبيون والإسرائيليون الذين لن يمانع نظام الأسد في القبول بمصالحهم، طالما تم الحفاظ على النظام ورأسه في السلطة.
سوريا المقبلة في رؤية نظام الأسد، هي سوريا الممكنة في المعادلة الداخلية - الخارجية، التي ترضي شهوة البقاء في السلطة واستعباد السوريين ولا شيء آخر.
كان من الواضح لعين كل متابع، ومنذ العام الأول، فشل الإطار الفلسفي الذي قام عليه الاتفاق النووي. فمن ناحية نظرية تقديم «الجزر» من أجل تحسين سلوك نظام سيئ، فإن سلوك النظام الإيراني لم يتغير، بل على العكس سمح له هذا الاتفاق بالتمدد أكثر وتكريس سلطته في أكثر من مكان.
أما من ناحية السلم العالمي ونزع السلاح النووي، فقد كان واضحاً كذلك عدم وجود أي ضمانات يمكنها تأكيد ما تمت الدعاية له في مرحلة ما قبل الاتفاق، ولو حتى على صعيد مجرد تأجيل حصول إيران على السلاح النووي. في الواقع فإن الأمر لم يكن يحتاج لكثير من العبقرية والذكاء من أجل التيقن، حتى قبل توقيع الاتفاق، من أن جمهورية الولي الفقيه صاحبة المشروع العالمي، لن تكتفي بمجرد الانخراط في المنظومة الدولية، والاستفادة من إيجابيات هذا الانفتاح الجديد، بما يخدم رفاه الشعب الذي عانى لعقود من عقوبات متنوعة وحصار.
حتى الآن لا نعرف السر خلف حماس الرئيس السابق باراك أوباما وبعض المقربين منه لتوقيع الاتفاق، وهو حماس جعلهم يرفضون قراءة الواقع، ويعلّقون آمالاً كبيرة على نجاحه وإن تسبب بتوتر علاقة بلادهم مع شركاء تاريخيين في المنطقة. أما عهد دونالد ترامب فقد بدا بداية مختلفة، حيث أعلن منذ أيام الحملة الانتخابية رفضه لهذا الاتفاق «الأغبى على الإطلاق»، متوعداً بتمزيقه بمجرد استلامه الرئاسة، وهو الأمر الذي أكد عليه بمجرد دخوله البيت الأبيض رئيساً، ولعلنا نذكر كيف كانت الأسابيع الأولى لحكمه فترة لتبادل التصريحات العدائية بين واشنطن وطهران. على عكس فترة الحملات الانتخابية، بدأ المراقبون بأخذ تصريحات الرئيس ترامب ضد الاتفاق وضد النظام الإيراني نفسه بشكل جاد ومختلف، فالأمر الآن لم يعد مجرد تصريحات لكسب أصوات بقدر ما هو قناعة وسياسة أمريكية جديدة في طريقها لأن تكون قيد التنفيذ.
بالنسبة لإيران فقد كان الوضع ملتبساً، حيث اعتاد النظام هناك على التصريحات الغربية، خاصة الأمريكية الناقدة لسلوكها، بل إن فترة الرئيس أوباما نفسه، وهو الذي كان يعتبر قريباً من المسؤولين الإيرانيين، لم تكن تخلو من تصريحات لاذعة تقابلها ردود ساخطة من الجانب الإيراني، إلا أن كل ذلك لم ينجح في تعطيل النظام، سواء على صعيد مشاريع تطوير السلاح في الداخل، أو كان على مستوى التدخلات الخارجية، خاصة في العراق وسوريا واليمن، مستندة إلى تجربتها مع الإدارة الأمريكية السابقة، وعلى وجهة نظر مفادها أن من الصعب على الولايات المتحدة إلغاء الاتفاق. قامت إيران بفعل ما سيعتبره الرئيس الجديد استفزازاً، بتجربة علنية لصاروخ باليستي متوسط المدى، ما يتنافى مع أهم بنود الاتفاق القاضية بتجميد مثل هذه العمليات. تزامن ذلك مع استهداف مجموعة الحوثي المدعومة من نظام الملالي لقطعة بحرية سعودية. لم يكن الغضب الذي ظهرت به الإدارة الأمريكية الجديدة مفتعلاً أو مسرحياً، على غرار الغضب والاستياء الذي كان يعبر عنه الرئيس السابق من حين لآخر، بدون اتخاذ إجراءات فعلية. ترامب الذي قال إن إيران « لم تقدّر» ما منحه لها باراك أوباما، عمد إلى تفعيل عقوبات اقتصادية قاسية طالت الكثير من الكيانات الإيرانية. من النقاط الفارقة في مسار قضية الاتفاق النووي والعلاقات الأمريكية الإيرانية بشكل عام، كان تعيين ريكس تيلرسون وزيراً للخارجية. كان الرجل يمثل الصوت الدبلوماسي للسياسة الأمريكية. صوت يسعى لأن يكون مقبولاً وواقعياً في مقابل الصوت الاستفزازي و الصادم أحياناً للرئيس الأمريكي. ومقابل الرئيس الذي كان يتحدث عن تمزيق الاتفاق ورميه، وهي العبارات التي كانت تلقى قبولاً كبيراً عند منتقدي الاتفاق، كان تيلرسون يقول إن ذلك غير واقعي وأنه من الواجب العودة مرة أخرى إلى الحوار حول الاتفاق. فسّر كثيرون رأي تيلرسون هذا بأنه انحياز جديد لإيران، لكن تصريحات الرجل ومواقفه المتعددة كانت تؤكد إيمانه بدور إيران التخريبي في المنطقة وإن كان، وبحكم الكثير من الخبرة، ينظر للأمور بعين مختلفة.
حاول تيلرسون على سبيل المثال أن يشرح للمتحمسين أن هذا الاتفاق ليس اتفاقاً ثنائياً بين الولايات المتحدة وإيران، وإن كانت الأولى هي الطرف الأعلى صوتاً في الحديث عنه، بل هو في حقيقته اتفاق بين إيران ومجموعة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي. يتوجب على الولايات المتحدة بحسب ذلك أن تتعامل وفق حجمها الطبيعي كأحد أطراف الاتفاق. بهذا المنطق يكون الحديث عن إلغاء الاتفاق أو تمزيقه، مجرد حديث للاستهلاك الشعبوي، أما واقعياً، فلا يملك الأمريكيون أي تفويض للحديث عن ذلك نيابة عن الآخرين. استناداً إلى ذلك دعمت الدبلوماسية الأمريكية مقاربة عملية ومختلفة فيما يتعلق بالمسألة الإيرانية، وهي مقاربة تستند إلى محورين: المحور الأول، هو محور المواجهة الذي تعمل فيه الولايات المتحدة بشكل لصيق مع جيران إيران المتضررين من سياساتها ونواياها من أجل إجبارها على التراجع عن ميادينها ومكتسباتها الاستراتيجية على الأرض، وهو ما مثله بشكل واضح تجمع الرياض الذي ضم عدداً كبيراً من الدول العربية والخليجية والإسلامية. أما المحور الثاني فهو محور تصعيد العقوبات، بإضافة أفراد ومجموعات جديدة وبحجز الملايين من الدولارات التي كانت في طريقها لإنعاش الاقتصاد ورد العافية إليه. هذه المقاربة المزدوجة لم تلبث أن اصطدمت بثلاثة عراقيل مهمة:
ـ أول هذه العراقيل هو الأزمة الخليجية التي خلقت شرخاً مهماً في نسيج المعسكر المناهض للنفوذ الإيراني، والتي أظهرت الجانب العربي وكأنه ينطلق من سياسات ارتجالية وحالات مزاجية متقلبة، ما يجعل من الرهان المطلق عليه صعباً، وافتقاد الاستراتيجية جعل الكثير من الدول تبدأ في إعادة حساباتها محافظة على شعرة معاوية مع حكام طهران، برفض الانخراط في أي مشروع للتصعيد الجاد أو المواجهة المباشرة معها، وهو ما بدأته بالفعل دول مهمة ومؤثرة حتى قبل اندلاع الأزمة الخليجية الحالية.
ـ وثاني العراقيل المتعلق بمسألة العقوبات، من الناحية القانونية فإن الجهة الوحيدة التي بإمكانها معاقبة إيران على سلوكها هي مجلس الأمن، بعد توصية من وكالة الطاقة الذرية، وهي مسألة فنية معقدة وتأخذ وقتاً طويلاً. صحيح أن الولايات المتحدة استطاعت فرض عقوبات أحادية على طهران وهي عقوبات موجعة بلا شك، إلا أنها تظل عقوبات بلا سند قانوني واضح، وهو الأمر الذي ظل النظام الإيراني يكرره ضمن تحركات دبلوماسية كان آخرها بداية هذا الشهر حين تقدمت طهران بشكوى رسمية لمجلس الأمن، المكلف بمراقبة تنفيذ الاتفاق، ضد الولايات المتحدة. اعتبرت طهران في شكواها أن العقوبات المفروضة التي تستهدف الحرس الثوري والبرنامج الصاروخي، تنتهك الاتفاق النووي. من المهم أن نذكر هنا أن هذا التحرك الإيراني ليس منفرداً، وإنما يستند إلى دعم كثير من الدول التي يمكن أن يضرها نقض الاتفاق، وهو ما يشكل مزيداً من الضغط على الإدارة الأمريكية.
أما ثالث العراقيل فهو المتعلق بالبيت الداخلي الأمريكي نفسه، حيث يلاحظ كل مراقب أن الإدارة الأمريكية تتكلم بأصوات مختلفة وتمتلك رؤى متباينة للكثير من القضايا التي من بينها موضوع الاتفاق النووي والعلاقة مع إيران. هناك تغييرات كثيرة طالت، وما تزال تطال، شخصيات مهمة داخل البيت الأبيض ومؤسسات الحكم الأخرى، ما خلق حالة فريدة وغير مسبوقة من الارتباك وضباب الرؤية، بل إن مصادر إعلامية أمريكية كانت تتحدث قبل أيام عن نية وزير الخارجية نفسه تقديم استقالته بسبب اختلافه مع الرئيس ترامب حول عدد من المقاربات.
السيناريو الأسوأ بعد ذلك كله يبقى عودة الولايات المتحدة للمراهنة على النظام الإيراني كحليف وشريك في المنطقة على حساب الآخرين، وهو سيناريو غير مستبعد في ظل العمل الدؤوب الذي يقوم به ما بات يعرف باللوبي الإيراني في واشنطن، الذي لا يقابله من الجانب الآخر سوى الكثير من السلبية والتشرذم وفوضى الأولويات.
أوكل الأمر في الداخل المحرر لكثير من الأمراء بعيداً عن معايير الكفاءة والتخصص ووسد الأمر لغير أهله وضاعت الأمانة، فهل أظلنا زمن الرويبضة وكيف؟
جميعنا يعلم المبدأ القائل "لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم" وما ورد في الحديث "لا يحل لثلاثة نفر يكونون بفلاةٍ من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم"، ولربما انطلاقاً من ذلك اتخذت كل جماعة في الداخل المحرر قائداً لها وأميراً يقوم على أمورها ويتولاها سعياً منها لتجنب الفوضى، لكن رغم ذلك لا زلنا نرى الحيرة والضياع والتشرذم والفوضى في أمر الجماعات التي تتخبط خبط العشواء لسان حالها يقول: أسير على نهجٍ يرى الناس غيره لكل امرئٍ فيما يحاول مذهب، فهل غاب عنها ألا صلاح لها إذا ما ساد جهالها أمر العامة ونطق الرويبضة؟ وهل الأزمة الحقيقية اليوم هي أزمة قياداتٍ ورجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه أكثر مما هي أزمة شعوب وأفكار نتيجة لفقدان المعايير الصحيحة لاختيار القادة المعول عليهم في ذلك؟
إن المتأمل لعملية اختيار القيادات والأمراء في فصائلنا يرى أنها تخضع في كثيرٍ من الأحيان لمعايير سلبية، بعيداً عن مبادئ الكفاءة والقوة والأمانة، وبعيداً عن مبدأ التخصص ـ الفريضة الغائبة عن واقعنا ـ ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، هذا مما انعكس سلباً على الواقع وكان سبباً في فقدان الثقة من جهة، ومن أخرى وصلنا بموجبها إلى الفشل الذي لاتزال تتخبط فيه إلى يومنا هذا جل الفصائل.
ولعل من أبرز وأهم هذه المعايير التي اعتمدتها قيادات أكبر وأقوى الفصائل والجماعات في الداخل السوري المحرر لاختيار القادة والأمراء وكانت وبالاً عليه، هو الاعتماد على أولي العلم الشرعي ذوي الخلفية والمنهج الواحد دون غيرهم في كل المجالات والشؤون ذات الأهمية وإهمال الجوانب الأخرى من التخصص والكفاءة و ...الخ، في الوقت الذي تقول فيه الحكمة إنه يكفيك أن تتعلم شيئاً عن كل علم، و أن تتقن كل شيءٍ عن علمٍ واحدٍ فقط في إشارةٍ لأهمية التخصص في مجالٍ معينٍ والذي يجعلك تلم بكل جوانبه، ويجعلك قاب قوسين أو أدنى من النجاح، فلكل مجالٍ متميزوه ولا يلزم من تميز شخص في مجال ما استصحاب ذلك التميز والظهور عند انتقاله لمجال آخر، فالمنطق يرفض مثل ذلك ولو كان المتجاوز لغير تخصصه أباً للعلم الذي برز فيه، فمن أراد أن يقيم مجتمعاً ناجحاً، فعليه اختيار الشخص المناسب، ليكون في المكان المناسب، و لا يمكن لمجتمعٍ يعتمد في العلاقات بين أفراده على أهل الثقة (اولي العلم الشرعي) دون الكفاءة أن ينهض، ولا يمكن أن تأتي الكفاءة دون تخصص، وفي ظل التطور الهائل في مختلف المجالات أصبح التخصص فريضةً ينبغي الالتزام بها وتطبيقها، غير أنها غائبةٌ عن واقعنا.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فانشتاين أكبر فيزيائي في العالم كان بليداً في بعض المواد كالإنشاء والرسم، ولكنه لما توجه لاختصاصه (الفيزياء) أتى بالعجب العجاب. ومثله سيبويه إمام النحو وعبقري الدنيا طلب الحديث فلم يكن من اللامعين فيه، فلما طلب النحو أدهش العالم لأن مواهبه تناسب مادة النحو، وكم رأينا من طالبٍ فاشلٍ في بعض العلوم عبقريٍ في علوم أخرى فلو أن كل طالبٍ وُجِّه إلى ما يناسبه لَكثر العباقرة والمنتجون.
وكذلك شأن صاحب العلم الشرعي المتدين الورع الخلوق إذا لم تكن له بصيرةٌ في شؤون الحكم والإدارة، قد يكون عرضةً لخديعة أصحاب الأهواء والمضللين ـ كما هو حال الكثير من القادة اليوم ـ أما المحنَّك المجرَّب صاحب الاختصاص في مجاله يعرف من النظرة السريعة، معاني الألفاظ وما وراء معانيها.
هناك لا شك معايير 5 أخرى سلبية للاختيار الخاطئ للأمراء إلى جانب المعيار السابق ليس أقلها: ـ المعرفة والاجتهادات الشخصية للقيادات العليا وبناء عليه يخضع تعيين هذا الأمير أو ذاك لرأي القائد الشخصي أو معرفته به ربما في فترة سابقة (سجن صيدنايا).
ـ الولاء للأمير والطاعة العمياء له فصاحب الهوى لا يولي إلا الذي يوافقه في صفاته التي تحقق له مصالحه الخاصة، وإن كان فيها ضرر على عامة الناس، فتجد أكثر الناس حظاً في الإمارة والمناصب هو أكثرهم إخلاصاً وطاعةً له وتنفيذاً لأوامره دون تردد (فتاوى سفك الدماء ومنفذيها على الأرض).
ـ المحسوبية والمكانة الأسرية وبموجبها يصار لتعيين من للأمير هوىً فيه ومصلحةً يبتغيها من ورائه من أبناء بلدته وعشيرته والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى.
ـ الانتماء الفصائلي(المنهج) ولعل هذا المحدد الأساسي في الاختيار الذي لايمكن تجاهله، فيحال تعيين من هو خارج الفصيل ممن لا يوافقه المنهج أو الطريقة ولو امتلك الكفاءة والتخصص والخبرة الكافية المطلوبة.
ـ أضف إلى كل ذلك النفاق والتملق الذي لم يخلُ منه زمان ومكان.
يلاحظ أن جملة هذه المعايير تفتقد لأدنى درجات الموضوعية والكفاءة والاستحقاق في الاختيار والتعيين، وهذا ما أخلى الساحة من أهل التخصص فليس كل أحدٍ يصلح لأي منصبٍ أو وظيفةٍ أو ولايةٍ، فلابد إذا ما أراد الأمراء الخير للساحة من الاعتماد على أولي العلم ليس الشرعي فقط لأن أولوا العلم في كل موضع بحسبه، ففي الأمور الشرعية يستشار أهل العلم الشرعي، وفي الأمور الحربية يستشار أهل العلم بالحرب، وأمور الصناعة تُستنبط من أهل العلم بها، وفي أمور الزراعة يؤخذ العلم من أربابها وهكذا... لأن كل أحدٍ يدرك ما لا يدركه الآخر. فعندما يسند الأمر لأهله نجد القيادة الناجحة والتي هي حجر الأساس في استنهاض طاقات الناس والأخذ بيدهم نحو الخير والنجاح.
... والحديث عن مثقفين لبنانيين وسوريين جمعتهم قيم الحرية والعدالة ومعاناة مشتركة من القهر والاضطهاد والأهم مبادراتهم المتعددة لإعلان موقف موحد تجاه أحداث وتطورات سياسية وأمنية تهم الشعبين، ولعلنا نتذكر بيان المثقفين ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 ثم موقفهم المناهض للحرب الإسرائيلية عام 1982، وبعده تجاه ما عرف بمعارك الجبل والمخيمات، تلاه بيان لمثقفين سوريين ولبنانيين عام 2004 ضد التمديد للرئيس إميل لحود، فبيانات متواترة تدين اغتيال رفيق الحريري ثم سمير قصير ثم جبران تويني، وأبرزها ما عرف بإعلان بيروت- دمشق، دمشق بيروت، في ربيع 2006 والذي أظهر موقفاً حازماً يدعم انتفاضة الاستقلال وانسحاب الجيش السوري من لبنان رافضاً منطق العنف والاغتيال ومطالباً بتكريس علاقات صحية يفترض قيامها بين البلدين، ليصدر في أيلول (سبتمبر) 2011 مع تصاعد حراك الربيع العربي بيان يؤيد طموحات الشعب السوري في التغيير وتطلعات الشعب اللبناني بالسيادة والاستقلال ويدعو لمشرق عربي تزدهر فيه المواطنة فلا تكون غلبة لطائفة وغبن لأقلية ولا اضطهاد لجماعة أثنية ولا تمييز، تلاه في تموز (يوليو) 2014 إطلاق رؤية مشتركة ترفض الردّة الدينية والسياسية، ومحاولات تفجير حرب طائفية تدمر المنطقة، وأخيراً أصدر مثقفون سوريون ثم لبنانيون بيانين على التوالي يشجبان مناخ العداء للاجئين السوريين في لبنان ومداهمات مخيمات عرسال ومقتل عدد من المعتقلين في سجون الجيش اللبناني.
صحيح أن المثقفين اللبنانيين كانوا أقل عرضة للقمع المباشر لقاء مواقفهم المعارضة، واستمدوا بعض الأمن والأمان من أجواء الحرية النسبية التي ميزت بلادهم تاريخياً، وصحيح أن وطأة الاضطهاد كانت تقع على كاهل المثقفين السوريين المعارضين لنظام الاستبداد وسياساته، ونتذكر الهجوم السلطوي الشرس على مثقفين وسياسيين وقفوا ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان، حيث طاولت الاعتقالات بعضهم بينما أكرهت المضايقات آخرين على الهرب والتشرد، وتكرر الهجوم السلطوي، بصورة هستيرية في ربيع 2006 عبر حملات إعلامية تطعن بوطنية مثقفين سوريين وتتهمهم بالعمالة والخيانة، لمجرد توقيعهم رؤية مشتركة مع مثقفين لبنانيين عرفت بإعلان بيروت دمشق، والنتيجة سجن عدد منهم ومحاربة آخرين بلقمة عيشهم بطردهم تعسفياً من وظائف شغلوها في الدولة لسنوات عدة.
لكن الصحيح أيضاً أن الأمر كان ينقلب إلى العكس تماماً وربما أشد، حين يتعلق الأمر بوقوف مثقفين لبنانيين في وجه النظام السوري ومناهضته، فمن ينسى اغتيال سمير قصير وجبران تويني وقبلهما عام 1980 اغتيال سليم اللوزي وتعمد تشويه أصابع يده اليمنى التي كتب بها مناهضاً القهر الأمني السوري، لتنتقل «الراية» بعد انشغال النظام بالقتل والتدمير لوأد تطلعات الشعب السوري، إلى أيادي حلفائه اللبنانيين، الذي لم يغرقوا فقط في مستنقع دعم النظام وارتكاباته، وإنما استعانوا أيضاً بأساليبه القمعية ذاتها في النيل من معارضيه ومعارضيهم، وساروا على منواله في فرض أنفسهم أوصياء على حياة الناس وخياراتهم، وتكريس تلك الأجواء المرضية التي تضع في دائرة الشك كل من يتجرأ على الاعتراض، مستسهلين سوق الاتهامات بالمروق والعمالة بحق من يبدي رأياً مخالفاً، بما في ذلك تسويغ ما يحلو لهم من الأساليب التصفوية لإقصاء الآخر المختلف وتحطيمه، تصل في بعض الأحيان إلى حد اغتياله.
ويبدو أن حدة هذه الأساليب وشدة الشتائم والاتهامات بدأت تتصاعد طرداً مع تفاقم أزمة هؤلاء الحلفاء وفي مقدمهم حزب الله، ربطاً بانكشاف أوراق الأخير المذهبية وانحسار قدرته وطنياً، ولنقل خفوت نغمته كمقاوم لإسرائيل في الدفاع عن اندفاعاته العنيفة وارتكاباته، وتالياً عجزه عن رص صفوفه التي بدأت تتصدع من الخسائر التي مني بها، ومن الحصار الذي بدأ يفرض عليه عربياً ودولياً، ويصح أن ننظر من هذه القناة إلى حملته المحمومة والمغرضة ضد أصوات لبنانية دانت تدخله الدموي في الصراع السوري ورفضت محاصرة اللاجئين على أنهم إرهابيون، متوسلاً افتعال ما سماه انتصار عرسال، لتبرير استمرار حضور سلاحه المنفلت خارج الدولة اللبنانية، والأهم لإظهار نفسه قوة لا تقهر، يحدوها تعميم القهر والخوف، لفرض ما تراه مناسباً على اللبنانيين.
والحال، ثمة أسئلة كثيرة تثار في تفسير هذا الدور الفريد والمتميز للمثقفين اللبنانيين والسوريين: هل يتعلق السبب بالتقارب الجغرافي والعلاقات التاريخية التي تربط البلدين وذاك التشابك العميق بين الشعبين في المصالح والمصير؟ أم لأن لبنان ومثقفيه شكلوا دائماً واحة للمثقفين السوريين يتنسمون عبرها هواء الحرية ويطلقون في فضاءاتها اجتهاداتهم ومواقفهم من دون خوف، وقد عزز ذلك ما خلقه وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان من ساحة مشتركة للقاء والتفاعل وبناء التوافقات؟. أم يتعلق الأمر بقيم راسخة تجمع هؤلاء المثقفين في الاعتزاز بالحياة الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التفكير والإبداع، وتالياً في مناهضة العنف ومنطق التمييز والاضطهاد، ربطاً بوحدة معاناتهم من قمع سلطوي ظالم ومزمن كان الأسوأ خلال الوجود العسكري السوري في لبنان ووصايته على الحياة السياسية والأمنية؟.
والأهم أن السبب يرتبط بدور إنقاذي مشترك آمن به المثقفون اللبنانيون والسوريون، أو بوظيفة خاصة تنطحوا لها للرد عما يستجد من تطورات ولبناء وعي نقدي يفترض أنهم أقدر المعنيين ببنائه في ظل ضعف الأحزاب السياسية أو عجز رجالاتها وترددهم، ولنقل في ظل انكشاف أزمات مجتمعاتهم والفشل البين للمشاريع السياسية والأيديولوجية في وقف التدهور الحاصل أو الإمساك بزمام المبادرة، مجاهرين برهانهم على الثقافة في حض المجتمع على التحرّر من الديكتاتورية والتخلص من القمع والاضطهاد، وفي تمكين لغة العصر ونشر قيم النهضة والتنوير، وتغذية الأمل بولادة إنسان جديد يستطيع أن يحيا ويفكر ويقاوم ذوداً عن حقوقه... إنهم بضع مئات من المثقفين، لكنهم ملح الأرض وخميرتها!.
لا يظننّ أحد أنّ المحرقة السورية انتهت. لقد بدأت الآن مع توارد الأنباء عن بقاء مجرم الحرب بشار الأسد في الحكم، «لحين انقضاء المرحلة الانتقالية» كما تقول التحليلات، وهذه المرحلة قد تطول بحيث تصبح مثل تلك المرحلة المقترنة بالاحتفاظ بـ «حق الرد» على الجرائم الإسرائيلية ضد دمشق، والتي استمرت أزيدَ من أربعين عاماً.
إنها المأساة في أكثر وجوهها سخرية. إنه التحديق الأرعن في عين الموت بابتسامة تسيل من الطرف الأيسر من الفم، ولا تأبه لروائح الجثث التي أزكمت أنف التاريخ، ولا بمشاهد الضحايا الذين ابتلعهم البحر والصحراء والهجير وبيوت «الزينكو» في مخيمات اللجوء والمنافي.
والمأساة تشير إلى هزيمة ساحقة للعقل والأخلاق والمنطق والوجدان، وسقوط مدوّ للتآخي الإنساني، والتعاطف الأممي الذي يقبل أن يواصل المجرم والسفاح عمله حتى انتهاء ولايته الدستورية، وبعد ذلك سيجد ولاة الأمر وأعضاء مجمع حملة المباخر أنّ لا بديل عن المجرم، فلنزوّجه سورية بعد أن اغتصبها وأوغل في بكارتها توحشاً. إنها المكافأة التي تُمنح لقادة العار في التاريخ، وزعماء الغزو والاستباحة والهمجية باسم توازن القوى، واختيار الحلول الأسلم، ومن نعرفه خير ممن نجهله، فضلاً عن الخشية الموهومة من اليوم التالي لرحيل الأسد. فمن البديل؟!
والبديل يُطرح أولاً على «المعارضة» السورية التي خذلت شعبها، وارتضت الارتهان لإرادة الدول والمنظمات، وأمزجة التوازنات التي فرّخت معارضات لا برامج حقيقية لديها، فتاهت البوصلة، وصار الطريق إلى دمشق يمر عبر بوابات العواصم والتحالفات والأجندة الدولية التي حوّلت الدم السوري إلى سلعة في بورصة الدم والهمجية والاستقرار المزعوم، والحفاظ على أمن دول الجوار، ونقصد هنا حصراً «إسرائيل»!
سقطت الشرعيات عن الأمم والدول والمعارضات. سقطت الشعارات التي تحكي عن العدل وتحض على حق الشعوب في التحرّر والاستقلال وتنفّس الهواء النظيف. سقطت الشعارات واليافطات لا لخلل في بنيانها أو تهافت في خطابها، بل لأنّ حَمَلَتها سقطوا في امتحان الثبات والصمود، وأجّروا إرادتهم وضمائرهم للعابثين الذين كانوا يرون سورية من ثقب إبرة مصالحهم وتوازناتهم.
على أنّ ذلك كله لا يعني، أبداً، أنّ الراية سقطت. لا يسقط الظلم بالتقادم، ما يعني أن تندلع في مقبل الأيام حركة كفاحية مدنية تفضح جرائم النظام، وتعرّي المتخاذلين الذين صمتوا أو تواطأوا أو أثروا وكوّنوا لأنفسهم مصالح خاصة باسم الثورة، وتحت أغطيتها. يتعين أن يذهب الحراك المدني إلى نشر فظائع هؤلاء في كل المنابر، فالوسائل متاحة بكثرة الآن، وعالم «السوشال ميديا» مفتوح وسهل، ولا مجال للإنكار أو الإفلات من العقاب.
لا بد من توثيق جرائم النظام وفظاعاته، والتحرّك نحو تغيير النظام بأدوات أكثر ذكاءً من تلك الأدوات المهترئة التي سلكتها المعارضة التي مع الأسف ضمت وجوهاً نضالية محترمة، لكنها كانت بلا ملامح ولم تترك بصمتها، وانخرطت في قطيع الدهماء والباصمين والموقّعين والمتنازلين، حتى لم يبق لديهم ما يتنازلون عنه.
الحرب بدأت الآن، والمواجهة قدحت نارها. فإذا كان التاريخ والجغرافيا وإرادة الأمم والأخلاق قد تهاوت وارتضت أن تزوّج سورية إلى مغتصبها، فهذا لا يتعين أن يلقى رضا الناس وطأطأة رؤوسهم وإذعانهم. لا بد أن يكون الرفض مدوّياً ضد هذا الخراب العامّ والطامّ. إلا إذا أضحى السوريون مثل الليبيين والعراقيين يتغنون بفضائل القذافي وصدام حسين، وبأنهما وفّرا الأمن، مع أنهما سلبا شعبيهما الحرية. إذا كان لسان السوريين هكذا، فإنّ اللعنة لا بد أن تحلّ علينا جميعاً، وأن تذهب الخطابة والرطانة وقيم الكرامة والتنوير والحق، إلى الجحيم. نعم إلى الجحيم، وبئس بذلك مستقراً...!
إعلان شركة «رينو» الفرنسية للسيارات عن فتح معمل جديد لصناعة السيارات في إيران يمثل تحدياً أوروبياً للعقوبات الأميركية على إيران. فالعقوبات التي فرضها الرئيس ترامب أزعجت في شكل كبير القطاع الاقتصادي الأوروبي الذي كان هرول للاستثمار في إيران بعد رفع العقوبات الأوروبية على هذا البلد إثر الاتفاق الدولي مع إيران حول برنامجها النووي. ومجموعة «رينو» التي يرأسها اللبناني كارلوس غصن لم تترك إيران حتى خلال العقوبات عليه. وشركة «توتال» للنفط عادت إلى إيران بعد رفع العقوبات للاستثمار في إنتاج الغاز من حقل «بارس». ومشروع استثماره بالبلايين وهو مهم جداً لـ «توتال» الفرنسية. كما باعت شركة «إرباص» مئات الطائرات لإيران فور رفع العقوبات عنها. أما الآن فالعقوبات الأميركية ستعقد الأمور للأوروبيين إذ إن البنوك الأوروبية تتخوف من العمل مع شركات إيرانية وضعت على اللائحة السوداء في الولايات المتحدة لأنه سبق لبنك فرنسي مهم هو «بنك باريس الوطني» BNP أن اضطر إلى دفع غرامة بقيمة ٨.٩ بليون دولار لأنه خرق الحظر. إلا أن الصناعيين الأوروبيين يظهرون نية في البقاء على قرارهم بالدخول إلى السوق الإيرانية لأنهم يعتبرون البلد واعداً من ناحية حاجاته في جميع القطاعات.
إن وضع الاقتصاد الإيراني على رغم تحسن بسيط ما زال يعاني من توترات اجتماعية شديدة مع بطالة تصل إلى ١٦ في المئة وتمس الشباب. ومعظم القطاع الاقتصادي تسيطر عليه مؤسسات «الحرس الثوري» الذي يصرف أموالاً باهظة لتمويل الحروب وزعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. فإيران تمول «حزب الله» وحربه في سورية ووجوده وهيمنته على لبنان، وأيضاً تمول نفوذ قاسم سليماني في العراق وسورية. و «الحرس الثوري» يمول أيضاً الحوثيين وعلي عبدالله صالح في اليمن. فالانفتاح الاقتصادي الذي يصبو إليه الشعب الإيراني وخصوصاً الشباب منه سيصطدم بسياسة «الحرس الثوري» والمجموعة التي تدير سياسة إيران في الداخل والخارج وهي عازمة على إبقاء ثروة البلد في يدها. والدليل أن تعطش إيران إلى الاستثمارات الخارجية جعل البرلمان الإيراني يوافق على شروط عقود استثمار في قطاع النفط أكثر جاذبية من السابق. فكانت الشركات النفطية العالمية في السابق وقبل العقوبات مترددة في الدخول في عقود خدمات غير جاذبة للمستثمرين. ولكن القيادة الإيرانية أدركت بعد رفع العقوبات الأوروبية عنها أنها بحاجة إلى تحسين هذه الشروط لجذب الاستثمار لأن «الحرس الثوري» المسيطر على قطاع النفط عانى الكثير من قلة العائدات التي يحتاج إليها للتدخل وتوسيع النفوذ في كل المنطقة.
مما لا شك فيه أن إيران دولة كبرى مع طبقة اجتماعية مثقفة ولها تراث قيم ولكن قيادتها حالياً أهدرت كل ذلك ولو أن أوروبا وشركاتها تهرول للاستثمار فيها. فالقطاع الخاص في إيران يمثل نحو ٢٠ في المئة من مجمل الاقتصاد والباقي هو لـ «الحرس الثوري». ولا شك أن العقوبات الأميركية على إيران ستؤثر في عمل الشركات الأوروبية في هذا البلد، علماً أن لدى الأميركيين وخصوصاً دونالد ترامب خلفية أخرى في استراتيجيته في العقوبات وهي منع القطاع الاقتصادي الأوروبي من أن يستفيد في غياب الأميركيين، علماً أنه بعد الاتفاق مع إيران حول النووي سمحت إدارة أوباما لشركة «بوينغ» أن تبيع قطع غيار لطائرات إيران وكانت إيران ستعقد صفقة شراء طائرات «بوينغ» من الولايات المتحدة. ولكن في عهد إدارة ترامب تغيرت الأمور ولو أنها من دون استراتيجية ورؤية لما تريده من إيران. فمن جهة يقول ترامب إنه لا يريد أي نفوذ إيراني في سورية ولا يريد بشار الأسد، ومن جهة أخرى لا يظهر كيف يريد مكافحة النفوذ الإيراني في سورية. فهو يسحب الدعم المسلح للمعارضة الديموقراطية ويوقف تمرين قواتها ولا يعطي الانطباع أنه فعلاً ضد توسع النفوذ الإيراني في سورية. فالعقوبات الأميركية على إيران معاقبة أكبر لأوروبا.
كان الأردن يتصرف طيلة السنوات الماضية على أساس عدم وجود جيش عراقي نظامي يتميز بالكفاءة يمكنه مواجهة قوات «داعش»، خصوصاً في غرب العراق. اليوم بات واضحاً أن هذه الحسابات الأردنية تغيرت بفعل أربعة عوامل، أولها انطلاق عمليتي الموصل والرقة، ثانيها التدخل الروسي في سورية منذ نحو عامين، وثالثها مجيء إدارة أميركية جديدة فرضت ترتيبات جديدة على المشهدين العراقي والسوري، وأخيراً تبلور جهد دولي واسع يجعل بوابة مكافحة الإرهاب مدخلاً لإعادة ترتيبات المنطقة.
تغير الحسابات لا يقتصر على عمّان، بل يشمل الرياض والقاهرة وغيرهما. وعلى وقع هذه المعطيات الميدانية، نشهد حراكاً سياسياً عراقياً تجاه دول المنطقة العربية، تجلى في نهج رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي ووزير داخليته قاسم الأعرجي، وحراك الزعيمين مقتدى الصدر وعمار الحكيم نحو الرياض وعمّان والقاهرة.
موجبات التقارب العراقي - العربي كثيرة ويفرضها تغيّر الظروف الإقليمية وتغيّر ظروف العراق ونجاح العراق في دحر «داعش» من الموصل ووجود رغبة أميركية قوية في تحسين علاقات العراق مع جيرانه العرب. وقد رحبت واشنطن بزيارات الزعماء السياسيين العراقيين الأخيرة عمّان والقاهرة والرياض. ولقد ضاع وقت كثير بسبب سياسة عربية مفادها أن «احتضان العراق يتطلب تحقيق جملة شروط»! وحصاد أربعة عشر عاماً، منذ غزو العراق عام 2003، يؤكد أنه لا يمكن تخيّل منطقة عربية قوية في ظل عراق ضعيف ومفكك ومستنزف وتهيمن طهران على كثير من مفاصل قراراته السياسية. وكذلك اتضح أن تقوية الوطنية العراقية ووقوفها في وجه سياسة «الاستلحاق والاستتباع» التي تنتهجها إيران مع قوى نافذة على الساحة العراقية، لا يمكن أن يتمّا من دون حاضنة عربية تتخلص من «إرث ما بعد 2003»، وتكرّس بناء الثقة وتتجاوز المعادلات الصِفرية وتقتحم المناطق الرمادية في إرث العلاقة وتستثمر في عناصرها المستجدة.
اليوم نستذكر تصريحات السفير الأميركي لدى العراق كريستوفر هيل في 2009 بأن العراق يمكن أن يصبح محركاً للاستقرار الإقليمي والنمو الاقتصادي، وحديثه عن أن علاقة العراق مع جيرانه ستحدد شكل المنطقة في السنوات المقبلة.
وعلى رغم كل هذه السنوات التي مرت، فإن الثابت في الاستراتيجية الأميركية أنها تحاول إقامة هيكل أمني أكثر اعتماداً على الذات، يتطلب مشاركة خارجية فقط في الظروف الصعبة. وما ينقص العراق هو إطار عمل أمني إقليمي يسمح للعراق اليوم باستعادة مكانته الإقليمية، عبر الانخراط في حوار بنّاء حول هذا الإطار مع جيرانه، الذين عليهم النظر إلى أن إعادة الاستقرار إلى العراق ومحاربة الإرهاب فيه ومشاركة الجوار العربي في إعادة إعماره وتنميته والاستثمار فيه أدوات أساسية لترسيخ العمق العربي في سياسة العراق و «مدافعة» النفوذ الإيراني في هذا البلد، وهو نفوذ تصاعد في ظل غياب عربي وتردد سياسي وتواطؤ أميركي من خلال «لعبة التوازن الطائفي» و «التمييز بين إرهاب وإرهاب».
ثمة فرصة سانحة لـ «طي إرث 2003» وإعادة الحسابات من خلال ربط المصالح العربية بمغادرة سياسة التردد والارتباك وعدم الهروب من دفع «كلفة الجرأة الديبلوماسية». هذه الجرأة يتعين أن تتجه نحو استثمار حال «التململ» الموارب لدى العراقيين من فجاجة التدخل الإيراني في بلدهم واستغلالهم وتعاطي طهران معهم كأتباع. ذلك يتحقق أيضاً عبر الإقرار بأن «سياسة المحاور» بأبعادها الطائفية أضعفت الوطنية العراقية وأضعفت المصالح العربية في آن، وسيستمر إضعافهما طالما استمر اختزال العرب العراق في «الحشد الشعبي» ونوري المالكي، وطالما استمرت الإساءة إلى شيعة العراق بتصويرهم كأنهم وإيران، عملة واحدة!
السؤال: ما جدوى حديثنا عن أن طهران تحتل أربع عواصم عربية إن لم يكن المقصود التحرك العربي الذكي لمنعها من ذلك، ووقفِ هذا القَدَر بقَدَرٍ غيره... يبدأ من أرض الرافدين؟
تعتبر حركة أحرار الشام النموذج الأهم لتجربة الفصائل الإسلامية في سوريا وتحولاتها وصراعاتها، وبدا مفاجئاً انهيار الحركة السريع أمام حملة هيئة تحرير الشام منذ 18/7/2017 والتي انتهت بتوقيع اتفاق 21 تموز وخروج قيادة الحركة من معبر باب الهوى المحاصر بعد التزام أغلب مجموعات الحركة الحياد، و أصبح هذا اليوم تحولاً مفصلياً في تاريخ الحركة وتتويجاً لحملة جبهة النصرة على فصائل الجيش الحر، ورغم العوامل الأيديولوجية والسياسية التي لعبت دورها في هذا الصراع الطويل، إلا أنه كان للعوامل المناطقية وأزمات قيادية وطريقة إدارة المعركة دور حاسم في هذه المعركة والتي تؤثر نتيجتها على مستقبل إدلب والثورة ككل وليس على حركة أحرار الشام التي تلقت ضربة ضد تكون أقسى من حادثة رام حمدان 9/9/2014م.
المقدمة
أثار الانهيار المفاجئ لحركة أحرار الشام الإسلامية أمام هيئة تحرير الشام (مكونها الرئيس جبهة فتح الشام، جبهة النصرة سابقاً) استغراباً من المراقبين، بحكم أن الحركة كانت ذات امتداد جغرافي وعدد مقاتلين وعتاد أضخم مما لدى هيئة تحرير الشام، إضافة لتأييد الحاضنة الاجتماعية لها كخيار محلي ومعتدل وقريب من الثورة الشعبية في وجه جبهة النصرة التي كانت تنتمي رسمياً إلى تنظيم القاعدة حتى زمن قريب قبل أن تصبح جبهة فتح الشام ثم تتحالف مع فصائل أخرى وتصبح هيئة تحرير الشام، مع بقاء القيادة الفعلية بيد الجولاني.
ومنذ قيام هيئة تحرير الشام في 28/1/2017م، كانت الاشتباكات متواترة ومتكررة بين هتش وأحرار الشام، ولكن ضمن مناطق محدودة، رغم توقع أحرار الشام أنهم هدف لحرب شاملة تستهدف معبر باب الهوى خاصة، وقد كانت حملة التحولات الأخيرة التي قامت بها أحرار الشام من الأسباب التي عجلت هذه الحملة التي نجح فيها الجولاني بفرض هيمنته العسكرية على إدلب.
تحولات الأحرار نحو الأخضر
فبعد جدل أخذ سنوات حسمت أحرار الشام أمرها وتبنت علم الاستقلال الأخضر، الذي يعتبر شعاراً للثورة المحلية يرفضه الجهاديون الذين يرفعون رايات سوداء بشعار التوحيد، وانتشرت حملة شعبية لرفع الأعلام الخضراء في مناطق ريف إدلب، وهي حملة سميت “إدلب خضراء”، لإثبات الهوية الثورية المحلية لهذه المناطق، ما اعتبرته هتش وأنصارها محاربة لنفوذها.
وبعدها أعلنت أحرار الشام تبنيها للقانون العربي الموحد، وهو الأمر الذي كان محرماً في الوسط الجهادي سابقاً، بسبب رفضهم لاعتماد قوانين مكتوبة، خاصة كونه صادراً عن جامعة الدول العربية. وتوجت أحرار الشام مسيرتها الجديدة نحو “الأخضر” بإعلان مبادرة لإنشاء إدارة مدنية للشمال السوري تعتمد علم الاستقلال شعاراً لها وتقتصر على السوريين والقوى غير المصنفة دولياً، وهو ما اعتبره الجولاني تهديداً مباشراً بإقصائه من المعادلة.
كان مما سمح بسلسلة التحولات هذه بعد الزحف البطيء الطويل نحو الأخضر، هو خروج القسم الأكبر من التيار المتشدد من أحرار الشام وانتقالهم إلى هتش، ولكن قبل ذلك سمح به حالة ضمور الأيديولوجيا التي أصابت الحركة تدريجياً بعد مقتل قادتها الأوائل وغياب المنظّرين، وهي حالة ليست منفصلة عن الحالة العامة للفصائل والوسط الثوري بعد فترة من طغيان الخطاب المتشدد خلال 2013م، ورافق ذلك أن قيادة الحركة الحالية معظمها جديد على الأحرار ولا يتبع له كتل عسكرية خاصة به، يمكن ملاحظة أن قائد الأحرار علي العمر من تفتناز ونائبه جابر علي باشا من بنش ونائبه الآخر أنس نجيب من أطمة ، وكل هذه المناطق بقيت على الحياد في المعركة، بينما قاتلت ألوية الغاب وصقور الشام.
حملة منتظرة واستعداد غائب
في يوم (14 تموز) هاجمت هتش مواقع أحرار الشام في تل طوقان (تل شرق سراقب ومشرف على الطريق الدولي) وفي جبل الزاوية، ورغم سقوط التل بيد هتش إلا أن مؤازرة الأحرار حول سراقب ساعدت في عقد اتفاقية تهدئة في الليلة نفسها، أو من جانب آخر فإن الهجمة كانت محاولة ليستكشف الجولاني مدى مقاومة مجموعات الأحرار وتحركها معاً، كان هذا طبعاً بعد قرابة ثلاثة أشهر من الاستنفار المستمر بين الحركة والهيئة، الأمر الذي اعتبره أعضاء في الأحرار استنزافاً للحركة أسهم في فشلها الأخير.
في 18 تموز تجدد هجوم هتش على محاور متعددة، من جبل الزاوية جنوباً إلى سراقب في الوسط إلى ريف إدلب الشمالي، وكان امتداد الأحرار الجغرافي وعددهم الكبير والحاضنة المحلية للوهلة الأولى يبدو عائقاً أمام الجولاني ومصدر قوة للأحرار، ولكن بعد ثلاثة أيام أصبحت قيادة أحرار الشام محاصرة داخل معبر باب الهوى وتوقع اتفاقية خروجها من المعبر، فيما بدا أشبه باستسلام وتفكك للحركة، فما الذي حدث ؟!
استطاع أحرار الشام في جبل الزاوية (صقور الشام) وفي سهل الغاب وجبل شحشبو في ريف حماة أن يتقدموا على هتش ويطردوهم من مناطقهم، وتحركت قوة من تل طوقان لمحاولة اقتحام سراقب التي شهدت مظاهرات مدنية للمجتمع المحلي ضد جبهة النصرة، وهو ما انتهى باتفاقية لخروج الأحرار والنصرة من المدينة، ولكن بعد أسر “أبي عزام سراقب” أحد قياديي الحركة، وتم تحييد سراقب.
كانت جرجناز محاصرة أيضاً، وهي أحد المعاقل المناهضة لجبهة النصرة، والتي تضم لواء جند السنة في الأحرار وقائده حسام سلامة صاحب الموقف القوي ضد الجهاديين، وأدى أسر “أبي عزام سراقب” والتخوف من اقتحام جرجناز إلى عقد اتفاق بتحييد “قاطع البادية” وإعلان مبايعة شكلية من قائده أبي البراء معرشمارين للهيئة، وهو يضم ريف إدلب الجنوبي وريف حلب الجنوبي، وكان أحد أكبر كتل أحرار الشام، وفرض الجولاني بذلك سيطرته على الطريق الدولي، وعزل جبل الزاوية وسهل الغاب وشحشبو عن إرسال مؤازرات نحو الشمال.
في مناطق ريف إدلب الشمالي، والتي تعتبر تقليدياً من معاقل أحرار الشام وقوتها البشرية، فقد شهدت معظم البلدات عملية تحييد للمنطقة وعدم إدخالها في الاقتتال سواء باتفاق معلن أو ضمنياً، رغم وجود مجموعات صغيرة لهتش مقارنة بأحرار الشام في معظمها، مثل بنش وتفتناز وطعوم وكللي وغيرها، بينما شهدت مناطق أخرى معارك معزولة عن البقية مثل حارم (من أهم مراكز النصرة ومعسكراتها هجم الأحرار عليها ولكن انسحبوا) وسلقين (اقتحمتها النصرة مع التركستان وطردوا الأحرار) وبلدتي معرة مصرين ورام حمدان (معقل لواء بدر في الأحرار واستطاعوا منع هتش من اقتحامها ولكن سيطروا عليها بعد الاتفاق).
وفي ريف حلب الغربي، أحد أهم معاقل الجيش الحر المناهضة للطيف الجهادي، كان انشقاق حركة الزنكي عن هتش (وهو أكبر فصيل فيها بعد النصرة) عامل قوة معنوي لصالح الأحرار، كما أن قسماً كبيراً من مجموعات الفصائل التي هاجمتها جبهة النصرة -وقت الأستانة يناير 2017- كان قد انضم إلى أحرار الشام، خاصة ثوار الشام ومجموعات من جيش المجاهدين والشامية، وكان هناك محاولة من هتش لاقتحام بلدة الأتارب (معقل حركة حزم سابقاً) واجهتها مظاهرات مدنية، ولكن لم تتمكن أحرار الشام من حشد مجموعاتها هناك (سواء الأصلية أو التي انضمت إليها بداية العام أو مجموعات الجيش الحر المناهضة للنصرة) لمؤازرتها في إدلب ولا للهجوم على مواقع هتش في الريف الغربي، رغم توقعها الهجوم مسبقاً، كانت تحالفاتها في المنطقة هشة، وربما لم تحاول أن تجعلها متينة حتى.
ولم يكن هذا أول التحالفات الفاشلة التي عقدتها الأحرار، ففي وقت سابق انضم تجمع فاستقم وجيش الإسلام في الشمال إلى أحرار الشام أيضاً بعد الهجوم الذي تلا الأستانة، وكانت مقراتهم في بابسقا ولديهم تجارب قتالية سابقة ضد الجهاديين (داعش، جند الأقصى، جبهة النصرة)، ولكن بعد تهديد الجولاني لقيادة الأحرار بأنه سيهجم على بابسقا بسبب عدم قناعته أن هذه المجموعات من الأحرار، تولت أحرار الشام بنفسها الهجوم على هذه المجموعات وتفكيكها والسيطرة على مقراتها وطرد قياداتها إلا قسما من جيش الإسلام فقط بقي في بابسقا، فساعد ذلك الجولاني في السيطرة على المنطقة لاحقاً.
بعد قطع طريق سهل الغاب وجبل الزاوية وتحييد ريف إدلب الجنوبي وقرى ريف إدلب الشمالي و إشغال المؤازرات المحتملة بمعارك معزولة، تركز هجوم الجولاني على المنطقة المحيطة بباب الهوى، حيث تمثل بلدتا الدانا وسرمدا شريان المعبر، وتمثل عقربات وبابسقا التلال الحامية له، فبعد سيطرة الأحرار على الدانا وسرمدا في اليوم الأول (18 تموز)، تمكنت هتش في اليوم الثاني من السيطرة على الدانا بسهولة، وتمكنت بعد اشتباكات من السيطرة على سرمدا، البلدة الملاصقة للمعبر، وبدأت بهجومها نحو التلال المحيطة بالمعبر يوم 20 تموز، واستمرت محاولاتها السيطرة على التلال طيلة الليلة لتسقط المواقع تباعاً حتى صباح 21/7 (عقربات، نقطة 106، جبل ومعسكرات بابسقا)، وانحصر وجود الأحرار في معبر باب الهوى، لتبدأ مفاوضات التسليم.
إدارة الجولاني للمعركة
رغم انشقاق الزنكي عن هتش يوم الهجوم على الأحرار وتعليق مجموعات أخرى عملها قبل ذلك، خاصة المنشقين من أحرار الشام إلى هتش، وكذلك رفض قطاعات ضمن هتش المشاركة في القتال ضد الأحرار سابقاً، مثل قسم كبير من مقاتلي المنطقة الشرقية، وتعليق الشرعي السعودي عبد المحيسني أنه لا يقبل فتوى قتال الأحرار الصادرة عن المكتب الشرعي في هتش، وهو ما بدا تفككاً مركباً ينخر مشروع الجولاني، إلا أنه تمكن من المضي في معركته الأكبر حتى الانتصار فيها وفرض شروطه.
في الحقيقة فقد كانت رأس حربة الجولاني في حملته ضد أحرار الشام هو “جيش النصرة”، وهو تنظيم عسكري صلب داخل جبهة النصرة، يقوده أبو حسين الأردني، وهو طبيب شاب أردني من أصل فلسطيني اسمه محمد حسين الخطيب، مع تعبئة شرعية من الشرعيين المصريين المنشقين عن أحرار الشام، طلحة المسير وأبو اليقظان المصري وأبو الفتح الفرغلي، إضافة لـ “الزبير الغزي” والشرعي العام عبد الرحمن عطون (سوري)، واستعان الجولاني بمجموعات من المقاتلين الأجانب كانت هي رأس الحربة في الحملة المضادة على ريف إدلب في اليوم الثاني (من سراقب وحتى سرمدا)،وخاصة الصينيين التركستان الذين اقتحموا سلقين، مستغلاً المخزون الأيديولوجي الأكثر صلابة لديهم والتخويف من أن أحرار الشام والفصائل الأخرى تنوي طردهم بسبب العملية السياسية، وربما يقدّر عدد القوة التي حركها الجولاني في حملته ضد أحرار الشام بأقلّ من 1500 مقاتل.
استطاع الجولاني إدارة المعركة على مساحات واسعة، عبر تحييد مناطق تعتبر حواضنا للأحرار عن القتال لأسباب مناطقية غالباً من المجموعات التي فيها، أو عبر علاقات مع وجهاء المنطقة والتخويف من حصول اقتتال داخلها، خاصة في قطاع البادية وريف إدلب الشمالي، وتمكن من السيطرة على عقد الطرق في سراقب ودارة عزة وحارم لتسيير قوته، وإشغال مناطق قوة الأحرار بمعارك معزولة عن مركز المعركة الذي أراده –وأراده الأحرار للمفارقة- في معبر باب الهوى حيث قيادة أحرار الشام، مستفيداً بلا شك من العمل الأمني السابق واختراق الأحرار أنفسهم.
إدارة أحرار الشام للمعركة
بالمقارنة، فإن أحرار الشام رغم الامتداد الجغرافي الكبير والأعداد الكبيرة التي كانت تتباهى بها الحركة، وتأييد الحاضنة الشعبية لها بوجه النصرة، لكنها بقيت مجموعة من الكتائب المناطقية يربط بينها اسم الحركة، ولم تعمل الحركة على قوة عسكرية مركزية حرة الحركة شبيهة بـ “جيش النصرة” لدى الجولاني، فيما عدا القوة التي تمركزت في منطقة باب الهوى وتكونت من مقاتلين من الغاب ولواء الإيمان حماة وكتيبة المعبر (حوالي 800 مقاتل)، ولم تتمكن أحرار الشام من دمج فصائل الجيش الحر المنضمة إليها في بنيتها ولا الاستفادة من عداوتها للنصرة، بقدر ما قضت بنفسها على بعضها في مناطق هي الهدف الأول لجبهة النصرة مثل بابسقا، أو أبقت تحالفات اسمية مثل مجموعات ريف حلب الغربي، ولا استطاعت تحريك مجموعاتها أو مجموعات مناصرة أيضاً، وافتقدت للقيادة العسكرية المركزية التي تستطيع الحشد والتعبئة وتحريك المجموعات، بدت أحرار الشام في المعركة مجموعة غير مترابطة من الكتائب لا تعمل باستراتيجية موحدة، وتحمل عبء القتال مجموعة الصقور في جبل الزاوية الشرقي ومجموعات سهل الغاب في ريف حماة، وهم الذين أصبحوا الهدف القادم للجولاني بعد هزيمة الحركة.
بعد أعوام من صراع الصبغتين الثورية والجهادية في هوية الأحرار ومواقفها، حسمت هويتها الثورية المحلية والمعتدلة على مستوى الخطاب، ولكن دون أن تتحول لمؤسسة صلبة تنظيمياً أو أن تبني قوة عسكرية مركزية، أو أن تستفيد حقاً من حلفائها وتشارك فصائل الجيش الحر التي انضمت إليها أو شبكات المناصرين الثورية، واقتنعت بتفوقها حسب الامتداد الجغرافي والعدد الكبير دون تنظيمه وقيادته، لقد ماتت الأيديولوجية القديمة مع التباسها ولكن دون بناء المشروع الجديد تنظيمياً أو على مستوى قواعد الحركة وحلفائها، ما سهّل القرارات المنفردة والمناطقية وغياب التنسيق والحياد، وكان فشل القيادة الرهيب في المعركة تتويجاً لمسيرة طويلة من تردد الحركة وهويتها القلقة وخسارة الحلفاء المحليين أو الإقليميين.
مؤازرات الدرع
كان مطروحا منذ يوم الهجوم الأول أن تنتقل مجموعات من فصائل الجيش الحر في ريف حلب الشمالي والشرقي (مناطق درع الفرات) إلى إدلب لتؤازر الأحرار في معركتها، وأبلغت الإدارة التركية الفصائل بذلك، والتي جهزت أعدادها وآلياتها للمؤازرة، ولكن لم تذهب سوى مجموعة من أحرار الشام في جرابلس، مع بقاء المجموعات الأخرى تنتظر الإذن التركي مع اقتراب المعارك من معبر باب الهوى، ولكن السقوط السريع لمعبر باب الهوى حسم موضوع إلغاء (أو تأجيل) المؤازرات، وهو ما فسره البعض بموقف أحرار الشام الرافض للأستانة رغم الطلب والضغط التركي، ما لم يشجع تركيا على إنقاذ الأحرار، أو أن انتهاء الأحرار قد يكون مبرراً أكبر للتدخل لاحقاً.
ما بعد الاتفاق
في 21 تموز تم توقيع اتفاق بين أحرار الشام وهتش، وقيل إن الجولاني حضر الاجتماع، قضى الاتفاق بخروج أحرار الشام من معبر باب الهوى وعدم عودتهم للمناطق التي انسحبوا منها ووقف إطلاق النار والإفراج عن المعتقلين بين الطرفين، ورغم أن الاتفاق هو أشبه باستسلام فعلاً، إلا أنه بدا أقلّ مما يمكن للجولاني فرضه بعد انتصاره في المعركة بتحييد أغلب مجموعات الأحرار أو عزلها مناطقياً وحصار قيادتهم في المعبر، كان الجولاني مهتماً أكثر بتثبيت مكتسباته والتقدم بمشروع “الإدارة المدنية” للشمال تحت مظلته العسكرية، وإن تنازل عن حلّ الأحرار علنياً فقد استمر بتطبيق حلّها عملياً، حيث سيطر على معبر أطمة وخربة الجوز بعد باب الهوى وتقدم على مناطق ومستودعات الأحرار في ريف إدلب الشمالي تباعاً بعد الاتفاق، في رام حمدان ومعرة مصرين ودارة عزة وكفروما وترمانين وغيرها، رغم حصول اشتباكات عنيفة في رام حمدان قبل التسليم، وحصول اشتباكات وسلسلة انفجارات في مدينة إدلب، إلى حين توقيع اتفاق آخر بدأ بعده خروج قيادة أحرار الشام إلى مناطق في إدلب وحماة أو إلى مناطق درع الفرات، ولكن دون أن يعني ذلك توقف تمدد الجولاني على ميراث أحرار الشام والمؤسسات المدنية التي كانت محمية منها، ولا تخليه عن استكمال حملته ضد رأس الحربة التي قاتلته حقاً في سهل الغاب وجبل الزاوية.
خاتمة
في 1 آب، أعلن مجلس شورى أحرار الشام تعيين حسن صوفان في منصب القائد الجديد لحركة أحرار الشام الإسلامية، كان حسن صوفان معروفاً طيلة السنوات السابقة باسم “شادي المهدي” على موقع تويتر، وخرج من السجن بصفقة تبادل نهاية 2016م بعد قرابة 12 عاماً في سجون نظام الأسد، وكان مشاركاً في أحداث سجن صيدنايا ومعروفا في الوسط الجهادي، وكان يحظى باحترام واسع من قبل قيادة أحرار الشام الأولى، ورغم مؤهلات الرجل الشرعية وموقعه المحترم و”المعتدل” ضمن الوسط الجهادي وموقفه النقدي المبكر من تنظيم القاعدة وداعش، إلا أنه يبدو بمثابة عودة خطوة للخلف لدى أحرار الشام ومحاولة لتمتين الجانب الأيديولوجي واستعادة الشرعية والتحصين الشرعي ووجود قيادة كاريزمية (…الخ)، ولكن الحركة بكل الأحوال تبدو -كما كانت- تلعب بالأوراق القديمة بزمن جديد تجاوز هذه الأوراق وربما تجاوز الحركة أيضاً.
لقد كانت ثلاثة أيام غيرت خارطة إدلب ومستقبلها، وكتبت تحولاً مفصلياً في مسيرة الصراع الفصائلي والأيديولوجي في المشهد السوري، وكان 21/7/2017م ضربة أخرى لمشروع حركة أحرار الشام الإسلامية قد تكون أقسى من التي تلقتها يوم 9/9/2014م وقامت بعدها، ولكن هل تقوم الآن؟
هل سقط لبنان نهائيا في الفخّ الذي نصبه له “حزب الله”، ومن خلفه إيران؟ يطرح السؤال نفسه بجدّية عندما يجد المواطن العادي نفسه أمام ظاهرة لا سابقة لها في البلد تتمثّل في تمجيد ما قام به مقاتلو الحزب، الذين يشكلون ميليشيا مذهبية، في جرود عرسال. لعلّ أخطر ما في الأمر أن هناك بين اللبنانيين، من المسيحيين خصوصا، من يعتقد أن “حزب الله” يخوض حربا على الإرهاب، وأنه يحمي المسيحيين، في حين أنه موجود في سوريا من منطلق ارتباطه بالاستراتيجية الإيرانية ولا شيء آخر غير ذلك.
مرة أخرى، من المناسب تذكير اللبنانيين بما هو “حزب الله” وطبيعة تكوينه ودوره في تغيير طبيعة قسم كبير من أبناء المجتمع الشيعي في البلد، بما في ذلك تغيير أسلوب حياة هؤلاء وطريقة تعاطيهم في ما بينهم ومع اللبنانيين الآخرين. هل كان تمييز بين السنّي والشيعي في لبنان قبل صعود نجم “حزب الله” وقبل دخوله في مواجهات مع أهل بيروت.
لا حاجة إلى التذكير في أي وقت أن “حزب الله” استهدف التغلغل في بيروت. اعتمد في البداية الحلول مكان المسيحيين في بيروت الغربية التي كانت فيها دائما أحياء مختلطة في المصيطبه والمزرعة والوتوات وزقاق البلاط والخندق الغميق ورأس بيروت، على سبيل المثال وليس الحصر. لم يترك فجوة إلا وتسلل الحزب منها كي يصبح له وجود طاغ في بيروت السنّية، وذلك تمهيدا ليوم مثل يوم السابع من أيار- مايو 2008، حين شنّ غزوة بيروت التي ترافقت أيضا مع غزوة الجبل، مع تركيز خاص على الدروز.
منذ اليوم الأول الذي ظهر فيه “حزب الله”، كانت هناك مواجهة بينه وبين الدولة اللبنانية، بل بينه وبين لبنان وفكرة لبنان تحديدا. ليس سرّا أن الحزب عمل كل شيء من أجل تقليص حجم حركة “أمل” وتحويلها إلى ما هي عليه الآن. تبقى معارك إقليم التفّاح خير شاهد على ذلك. ليس سرّا أيضا أن الحزب كان في مواجهة دائمة مع الجيش اللبناني. ليس ما يدعو إلى تكرار ما يذكره ضباط في الجيش عن طبيعة هذه المواجهة وعدد ضحاياها، وصولا إلى اغتيال الضابط الطيّار سامر حنا في العام 2008 بحجة أنّه حلق بطائرته في منطقة لبنانية محظورة على الجيش اللبناني!
هذا غيض من فيض ممارسات “حزب الله” وما قام به وما زال يقوم به. ولكن يبقى الأهمّ من ذلك كلّه أن الحزب عمل دائما على تقويض مؤسسات الدولة اللبنانية وعلى عزل لبنان عن محيطه العربي. لا ينفع كلام السيّد حسن نصرالله، الأمين العام للحزب، عن الكويت وعن حرص الحزب ومن خلفه إيران، على هذا البلد العربي الخليجي. يظل “حزب الله” متورطا إلى ما فوق أذنيه في لعبة إيرانية تقوم على إثارة الغرائز المذهبية وتشجيع الشيعة الخليجيين على أن يكونوا مختلفين عن المجتمعات التي يعيشون فيها.
من حسن الحظ أن في الكويت أميرا حكيما وعاقلا هو الشيخ صُباح الأحمد لا يفرق بين مواطن وآخر ويعتبر الكويت لكل الكويتيين. أمّا السبب الذي يدعو “حزب الله” إلى الإشادة بالشيخ صُباح وإلى التبرّؤ من دوره في ما يسمى “خلية العبدلي”، فهو عائد إلى الرغبة في استغلال الخلافات الخليجية – الخليجية القائمة حاليا إلى أبعد حدود. الأكيد أن مناورات “حزب الله” لن تمرّ على الكويتيين الذين يعرفون من حاول اغتيال أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد في منتصف ثمانينات القرن الماضي.
من ضرب مؤسسات الدولة اللبنانية الواحدة تلو الأخرى، إلى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه ومحاولة اغتيال مروان حماده قبل ذلك بأربعة أشهر ونصف شهر، ثمّ الاغتيالات الأخرى، تتضح المهمة التي يقوم بها “حزب لله” وسلاحه غير الشرعي الذي ورث السلاح الفلسطيني بعد العام 1982.
ليس ما يدعو إلى السقوط مرّة أخرى في لعبة تبسيط الأمور وإطلاق شعارات من نوع أنّه لولا “حزب الله”، لكان “داعش” في جونيه. لم يحم “حزب الله” المسيحيين يوما. لو كان المسيحيون بخير، لما كان رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، أقام في الرابية الواقعة في المتن في السنوات التي تلت عودته إلى لبنان من منفاه الفرنسي في العام 2005. كان طبيعيا أن يقيم ميشال عون في حارة حريك التي هي مسقط رأسه. هل يسأل المسيحيون اللبنانيون المتحمسون لـ“حزب الله” أنفسهم في لحظة يستعيدون فيها بعض الوعي، لماذا كان ميشال عون من سكان الرابية وليس من المقيمين في حارة حريك القريبة من بيروت قبل انتخابه رئيسا في تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي؟
بدل الدخول في لعبة حدّد “حزب الله” ومن يقف خلفه شروطها ومواصفاتها، من المفيد للبنانيين عدم الاكتفاء بالعودة إلى تاريخ الحزب وما قام به، خصوصا عندما افتعل حرب تموز – يوليو من العام 2006 لتغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري التي كانت كارثة على لبنان واللبنانيين.
في المقابل، يفترض باللبنانيين، خصوصا بالمسيحيين منهم، السعي إلى فهم معنى تورط الحزب في حرب على الشعب السوري خدمة لإيران. من أخطر ما أسفر عنه هذا التورّط إلغاء الحدود المعترف بها دوليا بين دولتين مستقلتين هما لبنان وسوريا. الصحيح أنّ “حزب الله” تجاوز ما يسمّى خط الحدود الذي رفض النظام السوري تثبيته يوما بسبب أطماعه في لبنان، وقرر تكريس أمر واقع. يتمثل هذا الأمر الواقع في ربط أراض سورية معينة بأراض تقع تحت السيطرة المباشرة لـ“حزب الله” في لبنان من منطلق مذهبي بحت. هناك سابقة في غاية الخطورة تعمل إيران على تعميمها وصولا إلى تحقيق ما يسميه المسؤولون فيها “البدر الشيعي”. تتمثل هذه السابقة في جعل الرابط المذهبي يتجاوز كل ما عداه في المنطقة، بما في ذلك الحدود المعترف بها دوليا بين الدول.
ليس معروفا أين مصلحة لبنان في دخول لعبة من هذا النوع في وقت يعاد فيه تشكيل المنطقة وفي وقت لم تحدّد الإدارة الأميركية بعد سياستها السورية، على الرغم من مضي سبعة أشهر وأكثر على دخول دونالد ترامب البيت الأبيض.
يواجه لبنان في هذه المرحلة مخاطر عدّة. يمرّ البلد بسبب الظروف الإقليمية وبسبب سعي إيران إلى عزله عن محيطه العربي، خصوصا الخليجي، وتوريطه في سياسات لا علاقة له بها، بمرحلة في غاية التعقيد. لذلك، من الضروري أكثر من أي وقت التنبه إلى المخاطر. يبدأ ذلك بعدم الاستخفاف بتجاوز “حزب الله” الدولة اللبنانية وتنصيب نفسه حاميا لتلك الدولة وللمسيحيين اللبنانيين.
ارتكب المسيحيون في العام 1969 جريمة القبول باتفاق القاهرة. كان في استطاعتهم، عبر زعمائهم ونوابهم، تسجيل موقف اعتراضي على الأقلّ. ما يمرّ به البلد حاليا أشد خطورة من مرحلة ما قبل اتفاق القاهرة. هناك فخّ إيراني ينصب للبنان. وحده الموقف الواضح من السلاح غير الشرعي الذي تحمله ميليشيا مذهبية معروف لمن هو ولاؤها يمكن أن يكون نقطة بداية لاستعادة بعض الوعي والتنبّه لما يدور في المنطقة وما هو المحكّ فعلا. على المحكّ مستقبل لبنان، كدولة مستقلّة، واللبنانيين بكلّ بساطة.
كان لافتاً لدى ساسة المسيحيين اللبنانيين، وقواعدهم الاجتماعية، شبه الإجماع على دعم حزب الله الشيعي في حربه على جماعات سورية راديكالية على الحدود اللبنانية - السورية.
حتى الزعيم اللبناني الأعلى صوتاً في مناهضة المشروع الإيراني، سمير جعجع، تراجع خطوة إلى الخلف، ولم يواصل ذا الخطاب الحادّ ضد حزب الله ودولته الحاضنة؛ الجمهورية الإيرانية التي أسسها رجل الدين الراديكالي الثوري، السيد الخميني، حسب ملاحظة الزميل والإعلامي اللبناني نديم قطيش بهذه الجريدة.
أن يدعم أشخاص مثل جبران باسيل أو سليمان فرنجية أو الرئيس عون، حروب حزب الله «الطائفية» الخادمة للمشروع الإيراني، فهذه «شنشنة نعرفها من أخزم»، كما يقال، لكن أن يصل هذا الحماس لقواعد مسيحية حامية للجمهورية، تقليدياً، باعتبارها «أم الصبي» ومن أجل ذلك ترفض المشاريع الإقليمية المخترقة لسيادة لبنان، ومنها المشروع الإيراني، فهذا تطور جدّ خطير، وجدّ مثير.
خطير في دلالاته على يقظة المشاعر الطائفية الرثّة، وعلى فكرة سيئة هي الأخرى، نبعت حين حاول التيار العوني ومن ينظر له، الترويج لها، وهي فكرة «تحالف الأقليات»، ضد من؟ بوضوح ضد أهل السنة.. حتى لو كانوا من قماشة رفيق الحريري أو فؤاد السنيورة.
كتب أخيراً المفكر اللبناني رضوان السيد واضعاً يده على هذا المنحنى الكارثي واصفاً إياه بالوهم، وقال: «الأوهام لا تتعلق فقط بوهم أنّ الحزب يقاتل من أجل لبنان. بل هناك وهمٌ آخر مستجد لدى كثرة من المسيحيين اللبنانيين. فهم لا يزالون متمسكين بالجيش، لكنهم متمسكون أيضاً بـ(حزب الله)، لأنه يقاتل الإرهاب السني الذي يتهدد المسيحيين خصوصاً!».
ولاحق مظاهر هذا الهلع المسيحي اللبناني الغرائزي لدى «جملة» من مسيحيي لبنان، وفي مقدمهم الموارنة، حماة الجمهورية والكيانية اللبنانية، فقال: «كان المسيحيون اللبنانيون هم الأكثر تمسكاً بالدولة وبالجيش وبالقرارات الدولية. وهم اليوم، وقد سيطرت عليهم ذهنية (تحالف الأقليات) التي تحميها إيران، لا حرج عندهم في استتباع الجيش للميليشيا الإيرانية، ونسيان الدولة والدستور!».
بقي تعليق ضروري، وتكريره أصلاً سخيف، وهو أنه لا جدال في أن جبهة النصرة وتنظيم القاعدة، وطبعاً «داعش»، كلها منظمات إرهابية يجب الخلاص منها بكل السبل، هذه قضية الشعوب المسلمة «السنيّة»، وهي غالب المسلمين، قبل أي شعب آخر صوناً للمسلمين وحماية للسلام على الأرض بين خلق الله.
لكن من قال إن ورثة عماد مغنية ومصطفى بدر الدين وقاسم سليماني وأبي مهدي المهندس وصادق خلخالي، هم رسل السلام وأنصار العلمانية والقيم الحديثة للدولة العصرية!؟
شقّ التعنيف الاجتماعي طريقه بقوة إلى حياة السوري. وتحت مسمّى "اللجان الشعبية" أو "الدفاع الوطني"، أصبح التجنيد في الفصائل المسلحة العشوائية العاملة لدى بشار الأسد من أكثر مهام حزب البعث حساسية وأولوية في سورية. هناك في أحد الأحياء العشوائية جنوب العاصمة دمشق، كانت الحسابات القديمة بين أبناء الحيّ هي التي تدير الصراعات بين حين وآخر.
كانت الدراسات الاستخباراتية التي تُجرى على مستوى الأحياء يوميا، عَبر عناصر يعتبرون مصدر ثقة لدى الناس هناك، كالبقّال وبائع الخضروات والفرّان وبعض موظفي الدرجة الخامسة والمستخدمين في "الدوائر الرسمية"، قبل الثورة السورية، تكوّن لدى النظام أرضية خصبة للملفات والدراسات، وفرز الولاءات التابعة له.
وبعد اشتعال المظاهرات، راح النظام يصفّي ويعتقل، حسب ما يرده من تفاصيل عن وجود المتظاهرين، على الرغم من أن بعض من كانوا يتظاهرون أصبحوا اليوم في صفوف "كتائب البعث"، وتحولت المناطق الفقيرة في جنوب دمشق إلى محجّ للنازحين، وتابت الحارات الثائرة بفعل "مخبري النظام" وتقاريرهم، وبقي السؤال: إلى أي درجةٍ استطاع النظام جعل العنف مادة أولية، يعتمد عليها المجتمع السوري، لتأسيس مجتمعٍ خائفٍ أغلبه من الأسر ذات المستوى المعيشي المتوسط والفقير، والتي دون خط الفقر، بعد الثورة السورية؟
الخوف المنظم، القادم من حرص الحزب الحاكم على تدجين الناس، اعتمد على أمرين أساسيين، للإمساك بعصب الطبقة المتوسطة التي تشكل العمود الفقري لمليشيا الدفاع الوطني التابعة للنظام. أولهما: ضمان الضرب بسيف السلطة عبر اللباس الدائم "المموّه" الذي تتجول به تلك المليشيا، حيث يعتبر مفتاحاً لتجاوز الدَور على مؤسسات الخدمات العامة، والقفز بين زحام الحواجز والانتظار الطويل، بالتالي سوف تشعر هذه المليشيا بامتيازاتٍ تعوّض مؤقتاً عن الفقر مقابل بعض السلطة! وثانيهما: الدفاع المزعوم عن المحتاجين والمسحوقين ضد تشبيح تلك المليشيات، من النظام، وهذا ما يحدث الآن في أحياء جنوب دمشق قرب حي الميدان، حيث تم الاعتماد على النساء العاملات في حزب البعث، بعد إلغاء الاتحاد النسائي (على قلتهن) انتقلن إلى مكاتب "القيادة القطرية" للحزب. وتعتبر الأخيرة من أكثر سلطات النظام وصولاً إلى مركز القرار. ثم بدأن إعداد تقارير أمنية ملحقة بدعاوى قضائية ضد عدد كبير من عناصر "الدفاع الوطني - اللجان الشعبية"، بداية من القادة والمدعومين، وصولاً إلى من لديهن معهم انتقاماتٍ قديمة من أبناء الحيّ!
تفيد الأخبار القادمة من هناك بأن تلك التحركات النسائية تقوم على دعاوى تهم تحرّش جنسي، يُمارس ضد نساء في القيادة "البعثية"، وبالتالي لا مخرج إلا السجن، وكسر شوكة تلك المليشيات، والتخلص من وجودها بين المدنيين، ليظهر النظام مخلّصاً من بطش "الدفاع الوطني" وتشبيحه.
وتماهياً مع تصريحات رأس النظام عن "محاربة" الفساد، أعلن في أحياء عديدة من العاصمة، منع التجول أو البقاء باللباس العسكري لغير عناصر "جيش النظام" حصراً، بينما تراجعت شعبية "كتائب البعث والدفاع الوطني" الذين هم بالأساس أصحاب سوابق في البلطجة الأهلية، وحان موعد بترهم ببساطة التعقيم والتحجيم المنظم، إياه، الذي أوجد الفقر، ودعا إلى التطوع في صفوف "المليشيات الرديفة". ولكن، ليس على الجبهات ضد فصائل المعارضة، فقط لأنهم عناصر غير مضمونة، وقد يبيعون أنفسهم لأول فصيل معارض، يدفع جيداً.
بل تم جعلهم عين الأسد للتخلص من أكبر عدد ممكن من التيارات السياسية، والأشخاص الذين يعملون بعيداً عن منطق السلاح في الانتفاضة السورية، من ناشطين وداعمين للحراك الشعبي. أمّا الآن، بعد ويلات الموت اليومية التي استخدمها النظام مناهج لتربية المنتفضين ضده، سوف يتحدّث بدبلوماسية "القضاء على الإرهاب" و"محاربة الفساد"، وتغيير الجلد كثعبان متجذّر في النفوس السورية.
لقد أخذ التعامل مع البسطاء في مناطق الطبقة المتوسطة مبدأ عودة "الابن النادم"، ذلك أن خدمات عامة (كالماء والكهرباء والنظافة) فُقدت طوال أعوام الثورة الماضية، وأصبحت الآن في المتناول، ومع تسهيلات مفاجئة للناس في الداخل، خصوصاً في دمشق، الأمر الذي يعكس تبسيطاً سياسياً للموت في المجتمع السوري، ودفعه إلى الخنوع حتى يقول لنا بعضهم: "أموت ألف موتة ولا أنسى هويتي الشخصية في البيت".
لم يمر وقت كثير على الدخول الأميركي على الخط السوري لمزاحمة الروس على رسم المشهد الجديد في البلاد، لتعود روسيا إلى الهيمنة، لكن هذه المرة بالتفاهم مع الولايات المتحدة التي عادت إلى الانسحاب التدريجي، والاكتفاء بالتنسيق من بعيد، بشكل يخدم، بالدرجة الأولى، المصالح الروسية، وهو الأمر الذي يثير تساولات كثيرة بشأن ما حققته الولايات المتحدة من أهداف من دخولها السريع، وأي تفاهمات جرت مع روسيا في شأن الملف السوري.
لا يترك وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، مناسبة إلا ويشير إلى التفاهم مع الروس في سورية، وترك الملف في عهدة موسكو، سواء في ما يخص الوضع الميداني أو الملف السياسي لاحقاً. حتى عندما تطرق إلى مصير الرئيس السوري بشار الأسد، لم يقدم موقفاً حاسماً، فالواضح أن لا موقف للولايات المتحدة في الأمر، واكتفى بالإشارة إلى أن بلاده لا ترى درواً للأسد في المستقبل. والمستقبل هنا مفتوح على المجهول، ومن دون سقف زمني محدّد لذلك، قد يكون شهوراً أو سنوات، غير مهم بالنسبة للولايات المتحدة، فالتفاهم مع موسكو، على الرغم من غموضه، يبدو أنه يريح واشنطن ويعفيها من التدخل في سورية، إلا عبر توجيهات من بعيد.
مؤكد أن التسليم الأميركي للروس بإدارة الملف السوري ليس مجانياً، غير أن مكاسب هذا التنازل المفاجئ لا تزال غير واضحة. ما هو واضح إلى الآن هو الاستفراد الروسي بالوضع السوري بالمجالات كافة، فسورية بمجملها باتت منطقة نفوذ لموسكو، لا أحد ينازعها عليها، حتى من نظام بشار الأسد والإيرانيين. ففي طهران، لا ينظرون بعين الرضا إلى التفاهم الروسي الأميركي الجديد، وخصوصاً أنه جرى استبعاد المسؤولين الإيرانيين عن تفاصيله. الأمر نفسه بالنسبة إلى نظام الأسد الذي لا يستطيع القيام بأي خطوة من دون نيل الرضا الروسي. ولعل الحديث أخيرا عن معركة إدلب ونية النظام تسريعها خير دليل، إذ عمدت موسكو إلى الوقوف في وجه رغبات النظام، على اعتبار أن الوقت لم يحن بعد، أو أن التفاهم مع واشنطن ينص على ذلك، بانتظار الاتفاق على دور تركي في هذه المعركة، وهو أيضاً دور غير واضح بعد.
حتى بالنسبة إلى تركيا التي تربطها حالياً علاقة جيدة مع روسيا، تمنع موسكو إشراكها في الملف السوري، إذ جرى أخيراً استبعاد أنقرة كلياً من اتفاق منطقة خفض التصعيد في ريف حمص، على الرغم من أن هذه المناطق كان مفترضا أن تكون تحت الإشراف الثلاثي الروسي التركي الإيراني، وهو ما لم يحصل، فالروس يتعاملون مع كل منطقة وفق ظروفها الاستراتيجية، وما يخدم مصالحهم وقدراتهم. والاتفاق في حمص، أخيرا، كرّس الهيمنة الروسية على القرار في سورية، بالتفاهم مع الولايات المتحدة التي فوّضت موسكو إدارة مصالحها في البلاد، وهو ما يمكن أن نراه مستقبلاً في الرقة، بعد نهاية المعارك ضد "داعش"، وأي دور سيكون لروسيا بالتعاون مع قوات سورية الديمقراطية.
بالمحصلة، قد لا تنتهي الحرب في سورية إلا وقد تحولت البلاد إلى محميةٍ روسية بالكامل، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. قد يبقى اسم الجمهورية العربية السورية موجوداً، في حال تم الإبقاء على وحدة أراضي البلاد، لكن لا بد من أن يكتب تحته "بإدارة روسية حرّة".