إعلان شركة «رينو» الفرنسية للسيارات عن فتح معمل جديد لصناعة السيارات في إيران يمثل تحدياً أوروبياً للعقوبات الأميركية على إيران. فالعقوبات التي فرضها الرئيس ترامب أزعجت في شكل كبير القطاع الاقتصادي الأوروبي الذي كان هرول للاستثمار في إيران بعد رفع العقوبات الأوروبية على هذا البلد إثر الاتفاق الدولي مع إيران حول برنامجها النووي. ومجموعة «رينو» التي يرأسها اللبناني كارلوس غصن لم تترك إيران حتى خلال العقوبات عليه. وشركة «توتال» للنفط عادت إلى إيران بعد رفع العقوبات للاستثمار في إنتاج الغاز من حقل «بارس». ومشروع استثماره بالبلايين وهو مهم جداً لـ «توتال» الفرنسية. كما باعت شركة «إرباص» مئات الطائرات لإيران فور رفع العقوبات عنها. أما الآن فالعقوبات الأميركية ستعقد الأمور للأوروبيين إذ إن البنوك الأوروبية تتخوف من العمل مع شركات إيرانية وضعت على اللائحة السوداء في الولايات المتحدة لأنه سبق لبنك فرنسي مهم هو «بنك باريس الوطني» BNP أن اضطر إلى دفع غرامة بقيمة ٨.٩ بليون دولار لأنه خرق الحظر. إلا أن الصناعيين الأوروبيين يظهرون نية في البقاء على قرارهم بالدخول إلى السوق الإيرانية لأنهم يعتبرون البلد واعداً من ناحية حاجاته في جميع القطاعات.
إن وضع الاقتصاد الإيراني على رغم تحسن بسيط ما زال يعاني من توترات اجتماعية شديدة مع بطالة تصل إلى ١٦ في المئة وتمس الشباب. ومعظم القطاع الاقتصادي تسيطر عليه مؤسسات «الحرس الثوري» الذي يصرف أموالاً باهظة لتمويل الحروب وزعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. فإيران تمول «حزب الله» وحربه في سورية ووجوده وهيمنته على لبنان، وأيضاً تمول نفوذ قاسم سليماني في العراق وسورية. و «الحرس الثوري» يمول أيضاً الحوثيين وعلي عبدالله صالح في اليمن. فالانفتاح الاقتصادي الذي يصبو إليه الشعب الإيراني وخصوصاً الشباب منه سيصطدم بسياسة «الحرس الثوري» والمجموعة التي تدير سياسة إيران في الداخل والخارج وهي عازمة على إبقاء ثروة البلد في يدها. والدليل أن تعطش إيران إلى الاستثمارات الخارجية جعل البرلمان الإيراني يوافق على شروط عقود استثمار في قطاع النفط أكثر جاذبية من السابق. فكانت الشركات النفطية العالمية في السابق وقبل العقوبات مترددة في الدخول في عقود خدمات غير جاذبة للمستثمرين. ولكن القيادة الإيرانية أدركت بعد رفع العقوبات الأوروبية عنها أنها بحاجة إلى تحسين هذه الشروط لجذب الاستثمار لأن «الحرس الثوري» المسيطر على قطاع النفط عانى الكثير من قلة العائدات التي يحتاج إليها للتدخل وتوسيع النفوذ في كل المنطقة.
مما لا شك فيه أن إيران دولة كبرى مع طبقة اجتماعية مثقفة ولها تراث قيم ولكن قيادتها حالياً أهدرت كل ذلك ولو أن أوروبا وشركاتها تهرول للاستثمار فيها. فالقطاع الخاص في إيران يمثل نحو ٢٠ في المئة من مجمل الاقتصاد والباقي هو لـ «الحرس الثوري». ولا شك أن العقوبات الأميركية على إيران ستؤثر في عمل الشركات الأوروبية في هذا البلد، علماً أن لدى الأميركيين وخصوصاً دونالد ترامب خلفية أخرى في استراتيجيته في العقوبات وهي منع القطاع الاقتصادي الأوروبي من أن يستفيد في غياب الأميركيين، علماً أنه بعد الاتفاق مع إيران حول النووي سمحت إدارة أوباما لشركة «بوينغ» أن تبيع قطع غيار لطائرات إيران وكانت إيران ستعقد صفقة شراء طائرات «بوينغ» من الولايات المتحدة. ولكن في عهد إدارة ترامب تغيرت الأمور ولو أنها من دون استراتيجية ورؤية لما تريده من إيران. فمن جهة يقول ترامب إنه لا يريد أي نفوذ إيراني في سورية ولا يريد بشار الأسد، ومن جهة أخرى لا يظهر كيف يريد مكافحة النفوذ الإيراني في سورية. فهو يسحب الدعم المسلح للمعارضة الديموقراطية ويوقف تمرين قواتها ولا يعطي الانطباع أنه فعلاً ضد توسع النفوذ الإيراني في سورية. فالعقوبات الأميركية على إيران معاقبة أكبر لأوروبا.
كان الأردن يتصرف طيلة السنوات الماضية على أساس عدم وجود جيش عراقي نظامي يتميز بالكفاءة يمكنه مواجهة قوات «داعش»، خصوصاً في غرب العراق. اليوم بات واضحاً أن هذه الحسابات الأردنية تغيرت بفعل أربعة عوامل، أولها انطلاق عمليتي الموصل والرقة، ثانيها التدخل الروسي في سورية منذ نحو عامين، وثالثها مجيء إدارة أميركية جديدة فرضت ترتيبات جديدة على المشهدين العراقي والسوري، وأخيراً تبلور جهد دولي واسع يجعل بوابة مكافحة الإرهاب مدخلاً لإعادة ترتيبات المنطقة.
تغير الحسابات لا يقتصر على عمّان، بل يشمل الرياض والقاهرة وغيرهما. وعلى وقع هذه المعطيات الميدانية، نشهد حراكاً سياسياً عراقياً تجاه دول المنطقة العربية، تجلى في نهج رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي ووزير داخليته قاسم الأعرجي، وحراك الزعيمين مقتدى الصدر وعمار الحكيم نحو الرياض وعمّان والقاهرة.
موجبات التقارب العراقي - العربي كثيرة ويفرضها تغيّر الظروف الإقليمية وتغيّر ظروف العراق ونجاح العراق في دحر «داعش» من الموصل ووجود رغبة أميركية قوية في تحسين علاقات العراق مع جيرانه العرب. وقد رحبت واشنطن بزيارات الزعماء السياسيين العراقيين الأخيرة عمّان والقاهرة والرياض. ولقد ضاع وقت كثير بسبب سياسة عربية مفادها أن «احتضان العراق يتطلب تحقيق جملة شروط»! وحصاد أربعة عشر عاماً، منذ غزو العراق عام 2003، يؤكد أنه لا يمكن تخيّل منطقة عربية قوية في ظل عراق ضعيف ومفكك ومستنزف وتهيمن طهران على كثير من مفاصل قراراته السياسية. وكذلك اتضح أن تقوية الوطنية العراقية ووقوفها في وجه سياسة «الاستلحاق والاستتباع» التي تنتهجها إيران مع قوى نافذة على الساحة العراقية، لا يمكن أن يتمّا من دون حاضنة عربية تتخلص من «إرث ما بعد 2003»، وتكرّس بناء الثقة وتتجاوز المعادلات الصِفرية وتقتحم المناطق الرمادية في إرث العلاقة وتستثمر في عناصرها المستجدة.
اليوم نستذكر تصريحات السفير الأميركي لدى العراق كريستوفر هيل في 2009 بأن العراق يمكن أن يصبح محركاً للاستقرار الإقليمي والنمو الاقتصادي، وحديثه عن أن علاقة العراق مع جيرانه ستحدد شكل المنطقة في السنوات المقبلة.
وعلى رغم كل هذه السنوات التي مرت، فإن الثابت في الاستراتيجية الأميركية أنها تحاول إقامة هيكل أمني أكثر اعتماداً على الذات، يتطلب مشاركة خارجية فقط في الظروف الصعبة. وما ينقص العراق هو إطار عمل أمني إقليمي يسمح للعراق اليوم باستعادة مكانته الإقليمية، عبر الانخراط في حوار بنّاء حول هذا الإطار مع جيرانه، الذين عليهم النظر إلى أن إعادة الاستقرار إلى العراق ومحاربة الإرهاب فيه ومشاركة الجوار العربي في إعادة إعماره وتنميته والاستثمار فيه أدوات أساسية لترسيخ العمق العربي في سياسة العراق و «مدافعة» النفوذ الإيراني في هذا البلد، وهو نفوذ تصاعد في ظل غياب عربي وتردد سياسي وتواطؤ أميركي من خلال «لعبة التوازن الطائفي» و «التمييز بين إرهاب وإرهاب».
ثمة فرصة سانحة لـ «طي إرث 2003» وإعادة الحسابات من خلال ربط المصالح العربية بمغادرة سياسة التردد والارتباك وعدم الهروب من دفع «كلفة الجرأة الديبلوماسية». هذه الجرأة يتعين أن تتجه نحو استثمار حال «التململ» الموارب لدى العراقيين من فجاجة التدخل الإيراني في بلدهم واستغلالهم وتعاطي طهران معهم كأتباع. ذلك يتحقق أيضاً عبر الإقرار بأن «سياسة المحاور» بأبعادها الطائفية أضعفت الوطنية العراقية وأضعفت المصالح العربية في آن، وسيستمر إضعافهما طالما استمر اختزال العرب العراق في «الحشد الشعبي» ونوري المالكي، وطالما استمرت الإساءة إلى شيعة العراق بتصويرهم كأنهم وإيران، عملة واحدة!
السؤال: ما جدوى حديثنا عن أن طهران تحتل أربع عواصم عربية إن لم يكن المقصود التحرك العربي الذكي لمنعها من ذلك، ووقفِ هذا القَدَر بقَدَرٍ غيره... يبدأ من أرض الرافدين؟
تعتبر حركة أحرار الشام النموذج الأهم لتجربة الفصائل الإسلامية في سوريا وتحولاتها وصراعاتها، وبدا مفاجئاً انهيار الحركة السريع أمام حملة هيئة تحرير الشام منذ 18/7/2017 والتي انتهت بتوقيع اتفاق 21 تموز وخروج قيادة الحركة من معبر باب الهوى المحاصر بعد التزام أغلب مجموعات الحركة الحياد، و أصبح هذا اليوم تحولاً مفصلياً في تاريخ الحركة وتتويجاً لحملة جبهة النصرة على فصائل الجيش الحر، ورغم العوامل الأيديولوجية والسياسية التي لعبت دورها في هذا الصراع الطويل، إلا أنه كان للعوامل المناطقية وأزمات قيادية وطريقة إدارة المعركة دور حاسم في هذه المعركة والتي تؤثر نتيجتها على مستقبل إدلب والثورة ككل وليس على حركة أحرار الشام التي تلقت ضربة ضد تكون أقسى من حادثة رام حمدان 9/9/2014م.
المقدمة
أثار الانهيار المفاجئ لحركة أحرار الشام الإسلامية أمام هيئة تحرير الشام (مكونها الرئيس جبهة فتح الشام، جبهة النصرة سابقاً) استغراباً من المراقبين، بحكم أن الحركة كانت ذات امتداد جغرافي وعدد مقاتلين وعتاد أضخم مما لدى هيئة تحرير الشام، إضافة لتأييد الحاضنة الاجتماعية لها كخيار محلي ومعتدل وقريب من الثورة الشعبية في وجه جبهة النصرة التي كانت تنتمي رسمياً إلى تنظيم القاعدة حتى زمن قريب قبل أن تصبح جبهة فتح الشام ثم تتحالف مع فصائل أخرى وتصبح هيئة تحرير الشام، مع بقاء القيادة الفعلية بيد الجولاني.
ومنذ قيام هيئة تحرير الشام في 28/1/2017م، كانت الاشتباكات متواترة ومتكررة بين هتش وأحرار الشام، ولكن ضمن مناطق محدودة، رغم توقع أحرار الشام أنهم هدف لحرب شاملة تستهدف معبر باب الهوى خاصة، وقد كانت حملة التحولات الأخيرة التي قامت بها أحرار الشام من الأسباب التي عجلت هذه الحملة التي نجح فيها الجولاني بفرض هيمنته العسكرية على إدلب.
تحولات الأحرار نحو الأخضر
فبعد جدل أخذ سنوات حسمت أحرار الشام أمرها وتبنت علم الاستقلال الأخضر، الذي يعتبر شعاراً للثورة المحلية يرفضه الجهاديون الذين يرفعون رايات سوداء بشعار التوحيد، وانتشرت حملة شعبية لرفع الأعلام الخضراء في مناطق ريف إدلب، وهي حملة سميت “إدلب خضراء”، لإثبات الهوية الثورية المحلية لهذه المناطق، ما اعتبرته هتش وأنصارها محاربة لنفوذها.
وبعدها أعلنت أحرار الشام تبنيها للقانون العربي الموحد، وهو الأمر الذي كان محرماً في الوسط الجهادي سابقاً، بسبب رفضهم لاعتماد قوانين مكتوبة، خاصة كونه صادراً عن جامعة الدول العربية. وتوجت أحرار الشام مسيرتها الجديدة نحو “الأخضر” بإعلان مبادرة لإنشاء إدارة مدنية للشمال السوري تعتمد علم الاستقلال شعاراً لها وتقتصر على السوريين والقوى غير المصنفة دولياً، وهو ما اعتبره الجولاني تهديداً مباشراً بإقصائه من المعادلة.
كان مما سمح بسلسلة التحولات هذه بعد الزحف البطيء الطويل نحو الأخضر، هو خروج القسم الأكبر من التيار المتشدد من أحرار الشام وانتقالهم إلى هتش، ولكن قبل ذلك سمح به حالة ضمور الأيديولوجيا التي أصابت الحركة تدريجياً بعد مقتل قادتها الأوائل وغياب المنظّرين، وهي حالة ليست منفصلة عن الحالة العامة للفصائل والوسط الثوري بعد فترة من طغيان الخطاب المتشدد خلال 2013م، ورافق ذلك أن قيادة الحركة الحالية معظمها جديد على الأحرار ولا يتبع له كتل عسكرية خاصة به، يمكن ملاحظة أن قائد الأحرار علي العمر من تفتناز ونائبه جابر علي باشا من بنش ونائبه الآخر أنس نجيب من أطمة ، وكل هذه المناطق بقيت على الحياد في المعركة، بينما قاتلت ألوية الغاب وصقور الشام.
حملة منتظرة واستعداد غائب
في يوم (14 تموز) هاجمت هتش مواقع أحرار الشام في تل طوقان (تل شرق سراقب ومشرف على الطريق الدولي) وفي جبل الزاوية، ورغم سقوط التل بيد هتش إلا أن مؤازرة الأحرار حول سراقب ساعدت في عقد اتفاقية تهدئة في الليلة نفسها، أو من جانب آخر فإن الهجمة كانت محاولة ليستكشف الجولاني مدى مقاومة مجموعات الأحرار وتحركها معاً، كان هذا طبعاً بعد قرابة ثلاثة أشهر من الاستنفار المستمر بين الحركة والهيئة، الأمر الذي اعتبره أعضاء في الأحرار استنزافاً للحركة أسهم في فشلها الأخير.
في 18 تموز تجدد هجوم هتش على محاور متعددة، من جبل الزاوية جنوباً إلى سراقب في الوسط إلى ريف إدلب الشمالي، وكان امتداد الأحرار الجغرافي وعددهم الكبير والحاضنة المحلية للوهلة الأولى يبدو عائقاً أمام الجولاني ومصدر قوة للأحرار، ولكن بعد ثلاثة أيام أصبحت قيادة أحرار الشام محاصرة داخل معبر باب الهوى وتوقع اتفاقية خروجها من المعبر، فيما بدا أشبه باستسلام وتفكك للحركة، فما الذي حدث ؟!
استطاع أحرار الشام في جبل الزاوية (صقور الشام) وفي سهل الغاب وجبل شحشبو في ريف حماة أن يتقدموا على هتش ويطردوهم من مناطقهم، وتحركت قوة من تل طوقان لمحاولة اقتحام سراقب التي شهدت مظاهرات مدنية للمجتمع المحلي ضد جبهة النصرة، وهو ما انتهى باتفاقية لخروج الأحرار والنصرة من المدينة، ولكن بعد أسر “أبي عزام سراقب” أحد قياديي الحركة، وتم تحييد سراقب.
كانت جرجناز محاصرة أيضاً، وهي أحد المعاقل المناهضة لجبهة النصرة، والتي تضم لواء جند السنة في الأحرار وقائده حسام سلامة صاحب الموقف القوي ضد الجهاديين، وأدى أسر “أبي عزام سراقب” والتخوف من اقتحام جرجناز إلى عقد اتفاق بتحييد “قاطع البادية” وإعلان مبايعة شكلية من قائده أبي البراء معرشمارين للهيئة، وهو يضم ريف إدلب الجنوبي وريف حلب الجنوبي، وكان أحد أكبر كتل أحرار الشام، وفرض الجولاني بذلك سيطرته على الطريق الدولي، وعزل جبل الزاوية وسهل الغاب وشحشبو عن إرسال مؤازرات نحو الشمال.
في مناطق ريف إدلب الشمالي، والتي تعتبر تقليدياً من معاقل أحرار الشام وقوتها البشرية، فقد شهدت معظم البلدات عملية تحييد للمنطقة وعدم إدخالها في الاقتتال سواء باتفاق معلن أو ضمنياً، رغم وجود مجموعات صغيرة لهتش مقارنة بأحرار الشام في معظمها، مثل بنش وتفتناز وطعوم وكللي وغيرها، بينما شهدت مناطق أخرى معارك معزولة عن البقية مثل حارم (من أهم مراكز النصرة ومعسكراتها هجم الأحرار عليها ولكن انسحبوا) وسلقين (اقتحمتها النصرة مع التركستان وطردوا الأحرار) وبلدتي معرة مصرين ورام حمدان (معقل لواء بدر في الأحرار واستطاعوا منع هتش من اقتحامها ولكن سيطروا عليها بعد الاتفاق).
وفي ريف حلب الغربي، أحد أهم معاقل الجيش الحر المناهضة للطيف الجهادي، كان انشقاق حركة الزنكي عن هتش (وهو أكبر فصيل فيها بعد النصرة) عامل قوة معنوي لصالح الأحرار، كما أن قسماً كبيراً من مجموعات الفصائل التي هاجمتها جبهة النصرة -وقت الأستانة يناير 2017- كان قد انضم إلى أحرار الشام، خاصة ثوار الشام ومجموعات من جيش المجاهدين والشامية، وكان هناك محاولة من هتش لاقتحام بلدة الأتارب (معقل حركة حزم سابقاً) واجهتها مظاهرات مدنية، ولكن لم تتمكن أحرار الشام من حشد مجموعاتها هناك (سواء الأصلية أو التي انضمت إليها بداية العام أو مجموعات الجيش الحر المناهضة للنصرة) لمؤازرتها في إدلب ولا للهجوم على مواقع هتش في الريف الغربي، رغم توقعها الهجوم مسبقاً، كانت تحالفاتها في المنطقة هشة، وربما لم تحاول أن تجعلها متينة حتى.
ولم يكن هذا أول التحالفات الفاشلة التي عقدتها الأحرار، ففي وقت سابق انضم تجمع فاستقم وجيش الإسلام في الشمال إلى أحرار الشام أيضاً بعد الهجوم الذي تلا الأستانة، وكانت مقراتهم في بابسقا ولديهم تجارب قتالية سابقة ضد الجهاديين (داعش، جند الأقصى، جبهة النصرة)، ولكن بعد تهديد الجولاني لقيادة الأحرار بأنه سيهجم على بابسقا بسبب عدم قناعته أن هذه المجموعات من الأحرار، تولت أحرار الشام بنفسها الهجوم على هذه المجموعات وتفكيكها والسيطرة على مقراتها وطرد قياداتها إلا قسما من جيش الإسلام فقط بقي في بابسقا، فساعد ذلك الجولاني في السيطرة على المنطقة لاحقاً.
بعد قطع طريق سهل الغاب وجبل الزاوية وتحييد ريف إدلب الجنوبي وقرى ريف إدلب الشمالي و إشغال المؤازرات المحتملة بمعارك معزولة، تركز هجوم الجولاني على المنطقة المحيطة بباب الهوى، حيث تمثل بلدتا الدانا وسرمدا شريان المعبر، وتمثل عقربات وبابسقا التلال الحامية له، فبعد سيطرة الأحرار على الدانا وسرمدا في اليوم الأول (18 تموز)، تمكنت هتش في اليوم الثاني من السيطرة على الدانا بسهولة، وتمكنت بعد اشتباكات من السيطرة على سرمدا، البلدة الملاصقة للمعبر، وبدأت بهجومها نحو التلال المحيطة بالمعبر يوم 20 تموز، واستمرت محاولاتها السيطرة على التلال طيلة الليلة لتسقط المواقع تباعاً حتى صباح 21/7 (عقربات، نقطة 106، جبل ومعسكرات بابسقا)، وانحصر وجود الأحرار في معبر باب الهوى، لتبدأ مفاوضات التسليم.
إدارة الجولاني للمعركة
رغم انشقاق الزنكي عن هتش يوم الهجوم على الأحرار وتعليق مجموعات أخرى عملها قبل ذلك، خاصة المنشقين من أحرار الشام إلى هتش، وكذلك رفض قطاعات ضمن هتش المشاركة في القتال ضد الأحرار سابقاً، مثل قسم كبير من مقاتلي المنطقة الشرقية، وتعليق الشرعي السعودي عبد المحيسني أنه لا يقبل فتوى قتال الأحرار الصادرة عن المكتب الشرعي في هتش، وهو ما بدا تفككاً مركباً ينخر مشروع الجولاني، إلا أنه تمكن من المضي في معركته الأكبر حتى الانتصار فيها وفرض شروطه.
في الحقيقة فقد كانت رأس حربة الجولاني في حملته ضد أحرار الشام هو “جيش النصرة”، وهو تنظيم عسكري صلب داخل جبهة النصرة، يقوده أبو حسين الأردني، وهو طبيب شاب أردني من أصل فلسطيني اسمه محمد حسين الخطيب، مع تعبئة شرعية من الشرعيين المصريين المنشقين عن أحرار الشام، طلحة المسير وأبو اليقظان المصري وأبو الفتح الفرغلي، إضافة لـ “الزبير الغزي” والشرعي العام عبد الرحمن عطون (سوري)، واستعان الجولاني بمجموعات من المقاتلين الأجانب كانت هي رأس الحربة في الحملة المضادة على ريف إدلب في اليوم الثاني (من سراقب وحتى سرمدا)،وخاصة الصينيين التركستان الذين اقتحموا سلقين، مستغلاً المخزون الأيديولوجي الأكثر صلابة لديهم والتخويف من أن أحرار الشام والفصائل الأخرى تنوي طردهم بسبب العملية السياسية، وربما يقدّر عدد القوة التي حركها الجولاني في حملته ضد أحرار الشام بأقلّ من 1500 مقاتل.
استطاع الجولاني إدارة المعركة على مساحات واسعة، عبر تحييد مناطق تعتبر حواضنا للأحرار عن القتال لأسباب مناطقية غالباً من المجموعات التي فيها، أو عبر علاقات مع وجهاء المنطقة والتخويف من حصول اقتتال داخلها، خاصة في قطاع البادية وريف إدلب الشمالي، وتمكن من السيطرة على عقد الطرق في سراقب ودارة عزة وحارم لتسيير قوته، وإشغال مناطق قوة الأحرار بمعارك معزولة عن مركز المعركة الذي أراده –وأراده الأحرار للمفارقة- في معبر باب الهوى حيث قيادة أحرار الشام، مستفيداً بلا شك من العمل الأمني السابق واختراق الأحرار أنفسهم.
إدارة أحرار الشام للمعركة
بالمقارنة، فإن أحرار الشام رغم الامتداد الجغرافي الكبير والأعداد الكبيرة التي كانت تتباهى بها الحركة، وتأييد الحاضنة الشعبية لها بوجه النصرة، لكنها بقيت مجموعة من الكتائب المناطقية يربط بينها اسم الحركة، ولم تعمل الحركة على قوة عسكرية مركزية حرة الحركة شبيهة بـ “جيش النصرة” لدى الجولاني، فيما عدا القوة التي تمركزت في منطقة باب الهوى وتكونت من مقاتلين من الغاب ولواء الإيمان حماة وكتيبة المعبر (حوالي 800 مقاتل)، ولم تتمكن أحرار الشام من دمج فصائل الجيش الحر المنضمة إليها في بنيتها ولا الاستفادة من عداوتها للنصرة، بقدر ما قضت بنفسها على بعضها في مناطق هي الهدف الأول لجبهة النصرة مثل بابسقا، أو أبقت تحالفات اسمية مثل مجموعات ريف حلب الغربي، ولا استطاعت تحريك مجموعاتها أو مجموعات مناصرة أيضاً، وافتقدت للقيادة العسكرية المركزية التي تستطيع الحشد والتعبئة وتحريك المجموعات، بدت أحرار الشام في المعركة مجموعة غير مترابطة من الكتائب لا تعمل باستراتيجية موحدة، وتحمل عبء القتال مجموعة الصقور في جبل الزاوية الشرقي ومجموعات سهل الغاب في ريف حماة، وهم الذين أصبحوا الهدف القادم للجولاني بعد هزيمة الحركة.
بعد أعوام من صراع الصبغتين الثورية والجهادية في هوية الأحرار ومواقفها، حسمت هويتها الثورية المحلية والمعتدلة على مستوى الخطاب، ولكن دون أن تتحول لمؤسسة صلبة تنظيمياً أو أن تبني قوة عسكرية مركزية، أو أن تستفيد حقاً من حلفائها وتشارك فصائل الجيش الحر التي انضمت إليها أو شبكات المناصرين الثورية، واقتنعت بتفوقها حسب الامتداد الجغرافي والعدد الكبير دون تنظيمه وقيادته، لقد ماتت الأيديولوجية القديمة مع التباسها ولكن دون بناء المشروع الجديد تنظيمياً أو على مستوى قواعد الحركة وحلفائها، ما سهّل القرارات المنفردة والمناطقية وغياب التنسيق والحياد، وكان فشل القيادة الرهيب في المعركة تتويجاً لمسيرة طويلة من تردد الحركة وهويتها القلقة وخسارة الحلفاء المحليين أو الإقليميين.
مؤازرات الدرع
كان مطروحا منذ يوم الهجوم الأول أن تنتقل مجموعات من فصائل الجيش الحر في ريف حلب الشمالي والشرقي (مناطق درع الفرات) إلى إدلب لتؤازر الأحرار في معركتها، وأبلغت الإدارة التركية الفصائل بذلك، والتي جهزت أعدادها وآلياتها للمؤازرة، ولكن لم تذهب سوى مجموعة من أحرار الشام في جرابلس، مع بقاء المجموعات الأخرى تنتظر الإذن التركي مع اقتراب المعارك من معبر باب الهوى، ولكن السقوط السريع لمعبر باب الهوى حسم موضوع إلغاء (أو تأجيل) المؤازرات، وهو ما فسره البعض بموقف أحرار الشام الرافض للأستانة رغم الطلب والضغط التركي، ما لم يشجع تركيا على إنقاذ الأحرار، أو أن انتهاء الأحرار قد يكون مبرراً أكبر للتدخل لاحقاً.
ما بعد الاتفاق
في 21 تموز تم توقيع اتفاق بين أحرار الشام وهتش، وقيل إن الجولاني حضر الاجتماع، قضى الاتفاق بخروج أحرار الشام من معبر باب الهوى وعدم عودتهم للمناطق التي انسحبوا منها ووقف إطلاق النار والإفراج عن المعتقلين بين الطرفين، ورغم أن الاتفاق هو أشبه باستسلام فعلاً، إلا أنه بدا أقلّ مما يمكن للجولاني فرضه بعد انتصاره في المعركة بتحييد أغلب مجموعات الأحرار أو عزلها مناطقياً وحصار قيادتهم في المعبر، كان الجولاني مهتماً أكثر بتثبيت مكتسباته والتقدم بمشروع “الإدارة المدنية” للشمال تحت مظلته العسكرية، وإن تنازل عن حلّ الأحرار علنياً فقد استمر بتطبيق حلّها عملياً، حيث سيطر على معبر أطمة وخربة الجوز بعد باب الهوى وتقدم على مناطق ومستودعات الأحرار في ريف إدلب الشمالي تباعاً بعد الاتفاق، في رام حمدان ومعرة مصرين ودارة عزة وكفروما وترمانين وغيرها، رغم حصول اشتباكات عنيفة في رام حمدان قبل التسليم، وحصول اشتباكات وسلسلة انفجارات في مدينة إدلب، إلى حين توقيع اتفاق آخر بدأ بعده خروج قيادة أحرار الشام إلى مناطق في إدلب وحماة أو إلى مناطق درع الفرات، ولكن دون أن يعني ذلك توقف تمدد الجولاني على ميراث أحرار الشام والمؤسسات المدنية التي كانت محمية منها، ولا تخليه عن استكمال حملته ضد رأس الحربة التي قاتلته حقاً في سهل الغاب وجبل الزاوية.
خاتمة
في 1 آب، أعلن مجلس شورى أحرار الشام تعيين حسن صوفان في منصب القائد الجديد لحركة أحرار الشام الإسلامية، كان حسن صوفان معروفاً طيلة السنوات السابقة باسم “شادي المهدي” على موقع تويتر، وخرج من السجن بصفقة تبادل نهاية 2016م بعد قرابة 12 عاماً في سجون نظام الأسد، وكان مشاركاً في أحداث سجن صيدنايا ومعروفا في الوسط الجهادي، وكان يحظى باحترام واسع من قبل قيادة أحرار الشام الأولى، ورغم مؤهلات الرجل الشرعية وموقعه المحترم و”المعتدل” ضمن الوسط الجهادي وموقفه النقدي المبكر من تنظيم القاعدة وداعش، إلا أنه يبدو بمثابة عودة خطوة للخلف لدى أحرار الشام ومحاولة لتمتين الجانب الأيديولوجي واستعادة الشرعية والتحصين الشرعي ووجود قيادة كاريزمية (…الخ)، ولكن الحركة بكل الأحوال تبدو -كما كانت- تلعب بالأوراق القديمة بزمن جديد تجاوز هذه الأوراق وربما تجاوز الحركة أيضاً.
لقد كانت ثلاثة أيام غيرت خارطة إدلب ومستقبلها، وكتبت تحولاً مفصلياً في مسيرة الصراع الفصائلي والأيديولوجي في المشهد السوري، وكان 21/7/2017م ضربة أخرى لمشروع حركة أحرار الشام الإسلامية قد تكون أقسى من التي تلقتها يوم 9/9/2014م وقامت بعدها، ولكن هل تقوم الآن؟
هل سقط لبنان نهائيا في الفخّ الذي نصبه له “حزب الله”، ومن خلفه إيران؟ يطرح السؤال نفسه بجدّية عندما يجد المواطن العادي نفسه أمام ظاهرة لا سابقة لها في البلد تتمثّل في تمجيد ما قام به مقاتلو الحزب، الذين يشكلون ميليشيا مذهبية، في جرود عرسال. لعلّ أخطر ما في الأمر أن هناك بين اللبنانيين، من المسيحيين خصوصا، من يعتقد أن “حزب الله” يخوض حربا على الإرهاب، وأنه يحمي المسيحيين، في حين أنه موجود في سوريا من منطلق ارتباطه بالاستراتيجية الإيرانية ولا شيء آخر غير ذلك.
مرة أخرى، من المناسب تذكير اللبنانيين بما هو “حزب الله” وطبيعة تكوينه ودوره في تغيير طبيعة قسم كبير من أبناء المجتمع الشيعي في البلد، بما في ذلك تغيير أسلوب حياة هؤلاء وطريقة تعاطيهم في ما بينهم ومع اللبنانيين الآخرين. هل كان تمييز بين السنّي والشيعي في لبنان قبل صعود نجم “حزب الله” وقبل دخوله في مواجهات مع أهل بيروت.
لا حاجة إلى التذكير في أي وقت أن “حزب الله” استهدف التغلغل في بيروت. اعتمد في البداية الحلول مكان المسيحيين في بيروت الغربية التي كانت فيها دائما أحياء مختلطة في المصيطبه والمزرعة والوتوات وزقاق البلاط والخندق الغميق ورأس بيروت، على سبيل المثال وليس الحصر. لم يترك فجوة إلا وتسلل الحزب منها كي يصبح له وجود طاغ في بيروت السنّية، وذلك تمهيدا ليوم مثل يوم السابع من أيار- مايو 2008، حين شنّ غزوة بيروت التي ترافقت أيضا مع غزوة الجبل، مع تركيز خاص على الدروز.
منذ اليوم الأول الذي ظهر فيه “حزب الله”، كانت هناك مواجهة بينه وبين الدولة اللبنانية، بل بينه وبين لبنان وفكرة لبنان تحديدا. ليس سرّا أن الحزب عمل كل شيء من أجل تقليص حجم حركة “أمل” وتحويلها إلى ما هي عليه الآن. تبقى معارك إقليم التفّاح خير شاهد على ذلك. ليس سرّا أيضا أن الحزب كان في مواجهة دائمة مع الجيش اللبناني. ليس ما يدعو إلى تكرار ما يذكره ضباط في الجيش عن طبيعة هذه المواجهة وعدد ضحاياها، وصولا إلى اغتيال الضابط الطيّار سامر حنا في العام 2008 بحجة أنّه حلق بطائرته في منطقة لبنانية محظورة على الجيش اللبناني!
هذا غيض من فيض ممارسات “حزب الله” وما قام به وما زال يقوم به. ولكن يبقى الأهمّ من ذلك كلّه أن الحزب عمل دائما على تقويض مؤسسات الدولة اللبنانية وعلى عزل لبنان عن محيطه العربي. لا ينفع كلام السيّد حسن نصرالله، الأمين العام للحزب، عن الكويت وعن حرص الحزب ومن خلفه إيران، على هذا البلد العربي الخليجي. يظل “حزب الله” متورطا إلى ما فوق أذنيه في لعبة إيرانية تقوم على إثارة الغرائز المذهبية وتشجيع الشيعة الخليجيين على أن يكونوا مختلفين عن المجتمعات التي يعيشون فيها.
من حسن الحظ أن في الكويت أميرا حكيما وعاقلا هو الشيخ صُباح الأحمد لا يفرق بين مواطن وآخر ويعتبر الكويت لكل الكويتيين. أمّا السبب الذي يدعو “حزب الله” إلى الإشادة بالشيخ صُباح وإلى التبرّؤ من دوره في ما يسمى “خلية العبدلي”، فهو عائد إلى الرغبة في استغلال الخلافات الخليجية – الخليجية القائمة حاليا إلى أبعد حدود. الأكيد أن مناورات “حزب الله” لن تمرّ على الكويتيين الذين يعرفون من حاول اغتيال أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد في منتصف ثمانينات القرن الماضي.
من ضرب مؤسسات الدولة اللبنانية الواحدة تلو الأخرى، إلى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه ومحاولة اغتيال مروان حماده قبل ذلك بأربعة أشهر ونصف شهر، ثمّ الاغتيالات الأخرى، تتضح المهمة التي يقوم بها “حزب لله” وسلاحه غير الشرعي الذي ورث السلاح الفلسطيني بعد العام 1982.
ليس ما يدعو إلى السقوط مرّة أخرى في لعبة تبسيط الأمور وإطلاق شعارات من نوع أنّه لولا “حزب الله”، لكان “داعش” في جونيه. لم يحم “حزب الله” المسيحيين يوما. لو كان المسيحيون بخير، لما كان رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، أقام في الرابية الواقعة في المتن في السنوات التي تلت عودته إلى لبنان من منفاه الفرنسي في العام 2005. كان طبيعيا أن يقيم ميشال عون في حارة حريك التي هي مسقط رأسه. هل يسأل المسيحيون اللبنانيون المتحمسون لـ“حزب الله” أنفسهم في لحظة يستعيدون فيها بعض الوعي، لماذا كان ميشال عون من سكان الرابية وليس من المقيمين في حارة حريك القريبة من بيروت قبل انتخابه رئيسا في تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي؟
بدل الدخول في لعبة حدّد “حزب الله” ومن يقف خلفه شروطها ومواصفاتها، من المفيد للبنانيين عدم الاكتفاء بالعودة إلى تاريخ الحزب وما قام به، خصوصا عندما افتعل حرب تموز – يوليو من العام 2006 لتغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري التي كانت كارثة على لبنان واللبنانيين.
في المقابل، يفترض باللبنانيين، خصوصا بالمسيحيين منهم، السعي إلى فهم معنى تورط الحزب في حرب على الشعب السوري خدمة لإيران. من أخطر ما أسفر عنه هذا التورّط إلغاء الحدود المعترف بها دوليا بين دولتين مستقلتين هما لبنان وسوريا. الصحيح أنّ “حزب الله” تجاوز ما يسمّى خط الحدود الذي رفض النظام السوري تثبيته يوما بسبب أطماعه في لبنان، وقرر تكريس أمر واقع. يتمثل هذا الأمر الواقع في ربط أراض سورية معينة بأراض تقع تحت السيطرة المباشرة لـ“حزب الله” في لبنان من منطلق مذهبي بحت. هناك سابقة في غاية الخطورة تعمل إيران على تعميمها وصولا إلى تحقيق ما يسميه المسؤولون فيها “البدر الشيعي”. تتمثل هذه السابقة في جعل الرابط المذهبي يتجاوز كل ما عداه في المنطقة، بما في ذلك الحدود المعترف بها دوليا بين الدول.
ليس معروفا أين مصلحة لبنان في دخول لعبة من هذا النوع في وقت يعاد فيه تشكيل المنطقة وفي وقت لم تحدّد الإدارة الأميركية بعد سياستها السورية، على الرغم من مضي سبعة أشهر وأكثر على دخول دونالد ترامب البيت الأبيض.
يواجه لبنان في هذه المرحلة مخاطر عدّة. يمرّ البلد بسبب الظروف الإقليمية وبسبب سعي إيران إلى عزله عن محيطه العربي، خصوصا الخليجي، وتوريطه في سياسات لا علاقة له بها، بمرحلة في غاية التعقيد. لذلك، من الضروري أكثر من أي وقت التنبه إلى المخاطر. يبدأ ذلك بعدم الاستخفاف بتجاوز “حزب الله” الدولة اللبنانية وتنصيب نفسه حاميا لتلك الدولة وللمسيحيين اللبنانيين.
ارتكب المسيحيون في العام 1969 جريمة القبول باتفاق القاهرة. كان في استطاعتهم، عبر زعمائهم ونوابهم، تسجيل موقف اعتراضي على الأقلّ. ما يمرّ به البلد حاليا أشد خطورة من مرحلة ما قبل اتفاق القاهرة. هناك فخّ إيراني ينصب للبنان. وحده الموقف الواضح من السلاح غير الشرعي الذي تحمله ميليشيا مذهبية معروف لمن هو ولاؤها يمكن أن يكون نقطة بداية لاستعادة بعض الوعي والتنبّه لما يدور في المنطقة وما هو المحكّ فعلا. على المحكّ مستقبل لبنان، كدولة مستقلّة، واللبنانيين بكلّ بساطة.
كان لافتاً لدى ساسة المسيحيين اللبنانيين، وقواعدهم الاجتماعية، شبه الإجماع على دعم حزب الله الشيعي في حربه على جماعات سورية راديكالية على الحدود اللبنانية - السورية.
حتى الزعيم اللبناني الأعلى صوتاً في مناهضة المشروع الإيراني، سمير جعجع، تراجع خطوة إلى الخلف، ولم يواصل ذا الخطاب الحادّ ضد حزب الله ودولته الحاضنة؛ الجمهورية الإيرانية التي أسسها رجل الدين الراديكالي الثوري، السيد الخميني، حسب ملاحظة الزميل والإعلامي اللبناني نديم قطيش بهذه الجريدة.
أن يدعم أشخاص مثل جبران باسيل أو سليمان فرنجية أو الرئيس عون، حروب حزب الله «الطائفية» الخادمة للمشروع الإيراني، فهذه «شنشنة نعرفها من أخزم»، كما يقال، لكن أن يصل هذا الحماس لقواعد مسيحية حامية للجمهورية، تقليدياً، باعتبارها «أم الصبي» ومن أجل ذلك ترفض المشاريع الإقليمية المخترقة لسيادة لبنان، ومنها المشروع الإيراني، فهذا تطور جدّ خطير، وجدّ مثير.
خطير في دلالاته على يقظة المشاعر الطائفية الرثّة، وعلى فكرة سيئة هي الأخرى، نبعت حين حاول التيار العوني ومن ينظر له، الترويج لها، وهي فكرة «تحالف الأقليات»، ضد من؟ بوضوح ضد أهل السنة.. حتى لو كانوا من قماشة رفيق الحريري أو فؤاد السنيورة.
كتب أخيراً المفكر اللبناني رضوان السيد واضعاً يده على هذا المنحنى الكارثي واصفاً إياه بالوهم، وقال: «الأوهام لا تتعلق فقط بوهم أنّ الحزب يقاتل من أجل لبنان. بل هناك وهمٌ آخر مستجد لدى كثرة من المسيحيين اللبنانيين. فهم لا يزالون متمسكين بالجيش، لكنهم متمسكون أيضاً بـ(حزب الله)، لأنه يقاتل الإرهاب السني الذي يتهدد المسيحيين خصوصاً!».
ولاحق مظاهر هذا الهلع المسيحي اللبناني الغرائزي لدى «جملة» من مسيحيي لبنان، وفي مقدمهم الموارنة، حماة الجمهورية والكيانية اللبنانية، فقال: «كان المسيحيون اللبنانيون هم الأكثر تمسكاً بالدولة وبالجيش وبالقرارات الدولية. وهم اليوم، وقد سيطرت عليهم ذهنية (تحالف الأقليات) التي تحميها إيران، لا حرج عندهم في استتباع الجيش للميليشيا الإيرانية، ونسيان الدولة والدستور!».
بقي تعليق ضروري، وتكريره أصلاً سخيف، وهو أنه لا جدال في أن جبهة النصرة وتنظيم القاعدة، وطبعاً «داعش»، كلها منظمات إرهابية يجب الخلاص منها بكل السبل، هذه قضية الشعوب المسلمة «السنيّة»، وهي غالب المسلمين، قبل أي شعب آخر صوناً للمسلمين وحماية للسلام على الأرض بين خلق الله.
لكن من قال إن ورثة عماد مغنية ومصطفى بدر الدين وقاسم سليماني وأبي مهدي المهندس وصادق خلخالي، هم رسل السلام وأنصار العلمانية والقيم الحديثة للدولة العصرية!؟
شقّ التعنيف الاجتماعي طريقه بقوة إلى حياة السوري. وتحت مسمّى "اللجان الشعبية" أو "الدفاع الوطني"، أصبح التجنيد في الفصائل المسلحة العشوائية العاملة لدى بشار الأسد من أكثر مهام حزب البعث حساسية وأولوية في سورية. هناك في أحد الأحياء العشوائية جنوب العاصمة دمشق، كانت الحسابات القديمة بين أبناء الحيّ هي التي تدير الصراعات بين حين وآخر.
كانت الدراسات الاستخباراتية التي تُجرى على مستوى الأحياء يوميا، عَبر عناصر يعتبرون مصدر ثقة لدى الناس هناك، كالبقّال وبائع الخضروات والفرّان وبعض موظفي الدرجة الخامسة والمستخدمين في "الدوائر الرسمية"، قبل الثورة السورية، تكوّن لدى النظام أرضية خصبة للملفات والدراسات، وفرز الولاءات التابعة له.
وبعد اشتعال المظاهرات، راح النظام يصفّي ويعتقل، حسب ما يرده من تفاصيل عن وجود المتظاهرين، على الرغم من أن بعض من كانوا يتظاهرون أصبحوا اليوم في صفوف "كتائب البعث"، وتحولت المناطق الفقيرة في جنوب دمشق إلى محجّ للنازحين، وتابت الحارات الثائرة بفعل "مخبري النظام" وتقاريرهم، وبقي السؤال: إلى أي درجةٍ استطاع النظام جعل العنف مادة أولية، يعتمد عليها المجتمع السوري، لتأسيس مجتمعٍ خائفٍ أغلبه من الأسر ذات المستوى المعيشي المتوسط والفقير، والتي دون خط الفقر، بعد الثورة السورية؟
الخوف المنظم، القادم من حرص الحزب الحاكم على تدجين الناس، اعتمد على أمرين أساسيين، للإمساك بعصب الطبقة المتوسطة التي تشكل العمود الفقري لمليشيا الدفاع الوطني التابعة للنظام. أولهما: ضمان الضرب بسيف السلطة عبر اللباس الدائم "المموّه" الذي تتجول به تلك المليشيا، حيث يعتبر مفتاحاً لتجاوز الدَور على مؤسسات الخدمات العامة، والقفز بين زحام الحواجز والانتظار الطويل، بالتالي سوف تشعر هذه المليشيا بامتيازاتٍ تعوّض مؤقتاً عن الفقر مقابل بعض السلطة! وثانيهما: الدفاع المزعوم عن المحتاجين والمسحوقين ضد تشبيح تلك المليشيات، من النظام، وهذا ما يحدث الآن في أحياء جنوب دمشق قرب حي الميدان، حيث تم الاعتماد على النساء العاملات في حزب البعث، بعد إلغاء الاتحاد النسائي (على قلتهن) انتقلن إلى مكاتب "القيادة القطرية" للحزب. وتعتبر الأخيرة من أكثر سلطات النظام وصولاً إلى مركز القرار. ثم بدأن إعداد تقارير أمنية ملحقة بدعاوى قضائية ضد عدد كبير من عناصر "الدفاع الوطني - اللجان الشعبية"، بداية من القادة والمدعومين، وصولاً إلى من لديهن معهم انتقاماتٍ قديمة من أبناء الحيّ!
تفيد الأخبار القادمة من هناك بأن تلك التحركات النسائية تقوم على دعاوى تهم تحرّش جنسي، يُمارس ضد نساء في القيادة "البعثية"، وبالتالي لا مخرج إلا السجن، وكسر شوكة تلك المليشيات، والتخلص من وجودها بين المدنيين، ليظهر النظام مخلّصاً من بطش "الدفاع الوطني" وتشبيحه.
وتماهياً مع تصريحات رأس النظام عن "محاربة" الفساد، أعلن في أحياء عديدة من العاصمة، منع التجول أو البقاء باللباس العسكري لغير عناصر "جيش النظام" حصراً، بينما تراجعت شعبية "كتائب البعث والدفاع الوطني" الذين هم بالأساس أصحاب سوابق في البلطجة الأهلية، وحان موعد بترهم ببساطة التعقيم والتحجيم المنظم، إياه، الذي أوجد الفقر، ودعا إلى التطوع في صفوف "المليشيات الرديفة". ولكن، ليس على الجبهات ضد فصائل المعارضة، فقط لأنهم عناصر غير مضمونة، وقد يبيعون أنفسهم لأول فصيل معارض، يدفع جيداً.
بل تم جعلهم عين الأسد للتخلص من أكبر عدد ممكن من التيارات السياسية، والأشخاص الذين يعملون بعيداً عن منطق السلاح في الانتفاضة السورية، من ناشطين وداعمين للحراك الشعبي. أمّا الآن، بعد ويلات الموت اليومية التي استخدمها النظام مناهج لتربية المنتفضين ضده، سوف يتحدّث بدبلوماسية "القضاء على الإرهاب" و"محاربة الفساد"، وتغيير الجلد كثعبان متجذّر في النفوس السورية.
لقد أخذ التعامل مع البسطاء في مناطق الطبقة المتوسطة مبدأ عودة "الابن النادم"، ذلك أن خدمات عامة (كالماء والكهرباء والنظافة) فُقدت طوال أعوام الثورة الماضية، وأصبحت الآن في المتناول، ومع تسهيلات مفاجئة للناس في الداخل، خصوصاً في دمشق، الأمر الذي يعكس تبسيطاً سياسياً للموت في المجتمع السوري، ودفعه إلى الخنوع حتى يقول لنا بعضهم: "أموت ألف موتة ولا أنسى هويتي الشخصية في البيت".
لم يمر وقت كثير على الدخول الأميركي على الخط السوري لمزاحمة الروس على رسم المشهد الجديد في البلاد، لتعود روسيا إلى الهيمنة، لكن هذه المرة بالتفاهم مع الولايات المتحدة التي عادت إلى الانسحاب التدريجي، والاكتفاء بالتنسيق من بعيد، بشكل يخدم، بالدرجة الأولى، المصالح الروسية، وهو الأمر الذي يثير تساولات كثيرة بشأن ما حققته الولايات المتحدة من أهداف من دخولها السريع، وأي تفاهمات جرت مع روسيا في شأن الملف السوري.
لا يترك وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، مناسبة إلا ويشير إلى التفاهم مع الروس في سورية، وترك الملف في عهدة موسكو، سواء في ما يخص الوضع الميداني أو الملف السياسي لاحقاً. حتى عندما تطرق إلى مصير الرئيس السوري بشار الأسد، لم يقدم موقفاً حاسماً، فالواضح أن لا موقف للولايات المتحدة في الأمر، واكتفى بالإشارة إلى أن بلاده لا ترى درواً للأسد في المستقبل. والمستقبل هنا مفتوح على المجهول، ومن دون سقف زمني محدّد لذلك، قد يكون شهوراً أو سنوات، غير مهم بالنسبة للولايات المتحدة، فالتفاهم مع موسكو، على الرغم من غموضه، يبدو أنه يريح واشنطن ويعفيها من التدخل في سورية، إلا عبر توجيهات من بعيد.
مؤكد أن التسليم الأميركي للروس بإدارة الملف السوري ليس مجانياً، غير أن مكاسب هذا التنازل المفاجئ لا تزال غير واضحة. ما هو واضح إلى الآن هو الاستفراد الروسي بالوضع السوري بالمجالات كافة، فسورية بمجملها باتت منطقة نفوذ لموسكو، لا أحد ينازعها عليها، حتى من نظام بشار الأسد والإيرانيين. ففي طهران، لا ينظرون بعين الرضا إلى التفاهم الروسي الأميركي الجديد، وخصوصاً أنه جرى استبعاد المسؤولين الإيرانيين عن تفاصيله. الأمر نفسه بالنسبة إلى نظام الأسد الذي لا يستطيع القيام بأي خطوة من دون نيل الرضا الروسي. ولعل الحديث أخيرا عن معركة إدلب ونية النظام تسريعها خير دليل، إذ عمدت موسكو إلى الوقوف في وجه رغبات النظام، على اعتبار أن الوقت لم يحن بعد، أو أن التفاهم مع واشنطن ينص على ذلك، بانتظار الاتفاق على دور تركي في هذه المعركة، وهو أيضاً دور غير واضح بعد.
حتى بالنسبة إلى تركيا التي تربطها حالياً علاقة جيدة مع روسيا، تمنع موسكو إشراكها في الملف السوري، إذ جرى أخيراً استبعاد أنقرة كلياً من اتفاق منطقة خفض التصعيد في ريف حمص، على الرغم من أن هذه المناطق كان مفترضا أن تكون تحت الإشراف الثلاثي الروسي التركي الإيراني، وهو ما لم يحصل، فالروس يتعاملون مع كل منطقة وفق ظروفها الاستراتيجية، وما يخدم مصالحهم وقدراتهم. والاتفاق في حمص، أخيرا، كرّس الهيمنة الروسية على القرار في سورية، بالتفاهم مع الولايات المتحدة التي فوّضت موسكو إدارة مصالحها في البلاد، وهو ما يمكن أن نراه مستقبلاً في الرقة، بعد نهاية المعارك ضد "داعش"، وأي دور سيكون لروسيا بالتعاون مع قوات سورية الديمقراطية.
بالمحصلة، قد لا تنتهي الحرب في سورية إلا وقد تحولت البلاد إلى محميةٍ روسية بالكامل، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. قد يبقى اسم الجمهورية العربية السورية موجوداً، في حال تم الإبقاء على وحدة أراضي البلاد، لكن لا بد من أن يكتب تحته "بإدارة روسية حرّة".
يقال إن العالم لم ولن يجد بديلا لبشار الأسد غير بشار أسد آخر. بعد إعلانات مكثفة، استمرّت أعواما، وتحدثت عن "قرب، وحتمية، وضرورة، وشرعية، وقانونية... إلخ" رحيل بشار، مجرم الحرب الذي لا يقارن حتى هتلر به، "كوّع" العالم، وقرّر أن لا بديل للمجرم بشار الأسد غير مجرم من طينته. هذا الاكتشاف، أعلن بأصوات متنوعة قالت للسوريين: "مبين بشار متمسّك بالكرسي، هلكنا ونحنا نطالبو بكل لطف إنو يترك الحكم ويرحل. ما قبل، نحنا شو فينا نعمل أكتر من هيك مع واحد متلو، العمى بعيونو ما أيبس راسو، اللي خلانا بالآخر نطبق عليه الحكمة اللي بتقول: اللي ما بيجي معك تعا معو. لا تظنوا العملية كانت سهلة علينا، يشهد الله هلكنا من الدوارة، بس ما لقينا حدا، فاتفقنا كممثلين للشرق وللغرب إنو ما فيه حدا غيرو. ومع هيك، ما قرّرنا نقبلو إلا بعد ما حلف بشرفو إنو ما يعود هوي نفسه، ويصير بديل حالو، يعني حدا تاني. شو رأيكم تعتبروه، إنتو السوريين، كمان واحد تاني وترتاحو؟ ليش ما بتقبلوه إذا حط إيدو على شارب كبير لواحد من الحرس الجمهوري، وحلف بشاربه إنو طلع من جلد هداك المجرم اللي قتل أولادكن ونسوانكن. لا تجبروا بشار الجديد يكرّر اللي عملو بشار القديم، ترى بعدين منزعل منكن نحنا وهوي، وإنتو ما إلكن مصلحة إنو يزعل منكن. ما هيك؟".
هدف هذا النص العبثي الاعتراض على واقع يصعب تصديقه، هو قبول العالم، منذ عام ونيف، بقاء بشار الأسد في كرسي الرئاسة، خلال مرحلة انتقالية لم يحدّد أحد مدتها، سيكون خاضعا خلالها لرقابة دولية. اعتقدنا أول الثورة أنه المشكلة، وحين تبين لنا أن نظامه مرتبط به شخصيا، وأن الفوضى ستطيحه، بما سيترتب عليها من إضرار بمصالحنا، قرّرنا أنه صار هو الحل، ولاسيما أن نظامه كالدودة الوحيدة، ينتج نفسه من رأسه، من رئيسه. عندئذ، تذكّرنا حكمة "من تعرفه أفضل ممن تتعرّف عليه"، ونحن نعرفه، نعرف أنه حريص على إسرائيل، وأنه أسرف في قتلكم، بعد اكتشافه أنكم لا تريدون الحرية، ولو كنتم تريدونها لمنعتم الإرهابيين من سرقة ثورتكم وأخذها إلى نقيضها، فهل نرحّل صديق إسرائيل، لأنه يقتلكم، ونعاقبه لأنه كان على صواب؟ بشار ما بعد الثورة سيكون خادمنا، نحن الذين سنضع أيدينا عليه، وسنلقنه أفكاره، ونشرف على أفعاله. وإذا رفض أن يكون في جيبنا، سيجد نفسه تحت أقدامنا، فلا تبلغن الغفلة بكم حدا تصدّقون معه أننا ننقذه، لأنه لا بديل له أو لأنه بديل ذاته. بشار عمل كأبيه تحت جناح إسرائيل، ولم يزعجها أو يُثرْ حفيظتها يوما.
بدورها، لم تتوقف عن تزكيته دوليا وحمايته محليا، وأقنعت الغرب والشرق بوقائع جولانية دامغة أنه عازف عن أي أمر آخر عدا السلطة، وليس رجل قيم وطنية أو قومية أو إنسانية، فهل بعد هذا تعتقدون أننا سنراه بأعينكم، ومن خلال أعداد قتلاكم ومهجّريكم على يديه وأيدي أجهزته وجيشه وشبيحته. أو سنخاصمه، لأنه دفن عددا كبيرا من السوريين أو أحرقهم أحياء؟
في نظرنا، لا تناقض بين أن يكون بيدقا بيدنا وجلادا يكبّلكم بقيود جدل حبالها ببحارٍ من دمائكم، فلا تظنوا خطأ أننا نقبل ما يرفضه: أن تكونوا شعبا حرا ومستقل الإرادة، يقرّر شؤونه بنفسه، وينظم حياته تحت سماء العدالة والمساواة، وتوقير الكرامة الإنسانية وحفظها. قد تغريه حريته بإقامة نظام ديمقراطي يعادي إسرائيل وبعض نظم الخليج. لن يلبث أن يثير القلاقل، ويعمل لإرغام إسرائيل على التخلي عن أطماعها الفلسطينية الراهنة، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الحرة، والسيدة على كامل الأراضي التي احتلتها عام 1967، ولتوظيف تفاعلاته في المجال القومي، لتحريض بعض العرب على الخروج من العصر الحجري، والدخول إلى زمن العدالة والكرامة والحرية الذي نرفضه كجنون لن نسمح به، دواؤه عند بشار.
سيبقى بشار بديل نفسه، ما دمتم عاجزين عن إرغامنا على ترحيله، أو عن ترحيله بأنفسكم. والدول، كما قد لا تعلمون، ليست مؤسسات عمل خيري، ولا تتردّد في ذبح كل من يسلمها عنقه بأخطائه، مثلكم أنتم.
(1)
منذ بدأت الثورة السورية في درعا، مارس/ آذار 2011، كانت التحولات العنوان الأبرز والمستمر في سورية والمشهدين، العربي والدولي، والتيارات الأيديولوجية والسياسية والتنظيمات المسلحة المختلفة، الفاعلة أو المتأثرة بالمشهد السوري. وعلى الرغم من الصلابة الأيديولوجية للتنظيمات الجهادية السلفية، فإنها لم تكن في معزل عن هذه التحولات، بقدر ما كانت أوضح مظاهرها والمؤثرين فيها، وطغت عناوين حرب الإرهاب تدريجياً على مطالب التغيير السياسي والديمقراطي الشعبية، كما طغت صدامات التنظيمات الجهادية ضد الجيش السوري الحر وقوى الثورة المدنية على المشهد الميداني، بديلاً عن صراع الثورة والنظام.
تعامل نظام الأسد مع الانتفاضة السلمية بالعنف الأعمى منذ البداية، إلا أن الزخم الشعبي للثورة الشعبية، وامتدادها على مساحات جغرافية ومجتمعات محلية واسعة ومتنوعة، دفعه إلى بناء استراتيجية أزمة طويلة الأمد، لتقليل الخسارات ومحاولة تفكيك هذه الثورة، وتفريغها من شرعيتها الشعبية والقيمية، ومطلبها السياسي نحو نموذج الفوضى وحرب الإرهاب.
أفرج النظام منذ مايو/ أيار 2011 عن مئات (وربما آلاف) من المعتقلين الجهاديين في سجن صيدنايا الشهير، والذين انتقلوا فيما بعد إلى المناطق التي خرجت عن سيطرته لصالح كتائب الجيش السوري الحر المحلية، وأنشأوا بدايات الشبكات الجهادية والتشكيلات السلفية منذ نهاية 2011، في مقابل الاعتقال المستمر للآلاف من شباب الانتفاضة السلمية، الجامعيين والمثقفين الذين قُتلوا تباعاً تحت التعذيب.
تنامت هذه الشبكات تدريجياً ضمن الطيف الجهادي الواسع، ما بين الجهادية المحلية "المعتدلة" والجهاديات السلفية والعراقية والمعولمة، مع توافد متطوعين عرب إلى هذه التنظيمات، عبر الحدود الشرقية والشمالية. واقتصرت جبهة النصرة، في بدايتها، على ضربات أمنية ونوعية ضد النظام، وعلى أدبيات الخطاب السلفي الجهادي التعبوي، من دون الاحتكاك بالمجتمعات المحلية والفصائل المسلحة، ما دفع كثيرين إلى الدفاع عن جبهة النصرة، حين أدرجتها الولايات المتحدة على لائحة الإرهاب نهاية 2012. وشهدت هذه الفترة صعود تشكيلات وتحالفات إسلامية محلية، بالتأثر والتوازي مع التنظيمات الجهادية المعولمة، وكان أبرزها حركة أحرار الشام الإسلامية (نشأت الكتائب نهاية 2011 وتحولت مع اندماجاتٍ إلى حركة آذار 2013)، والتي مثلت طويلاً الموقع الوسط والقلق بين الهوية الثورية والجهادية، وتعتبر الحالة الدراسية الأمثل لتحولات هذا الصراع.
اجتذبت هذه التنظيمات الجهادية والإسلامية شبابا سوريين عاديين غير مؤدلجين سابقاً، بسبب خطابها العاطفي والصلب، مع تنامي حدّة القمع والحساسيات الطائفية، وتوافد المليشيات الشيعية إلى سورية، ولكن تأثيرها الأخطر كان على الفصائل المحلية التي تأثرت بهذا الخطاب، واتهاماته المتصاعدة تجاه قوى الثورة السورية، المدنية والمسلحة، ومطالبها المتعلقة بالحرية والديمقراطية والدولة الوطنية، وهو ما ظهر جلياً خلال عام 2013 الذي شهد ظاهرة هيمنة الخطاب المتشدّد على الفضاء العام في الثورة السورية، وتحول الفصائل السورية إلى موقع ردّ الفعل، والدفاع ضد المزايدات والاتهامات الجهادية التي أثرت على عناصر هذه الفصائل أنفسهم، فتخلى عديد منها عن رفع علم الثورة السورية، لما يمثله من رمزية وطنية (مقابل الدعاية العالمية)، وعن مطالب الدولة المدنية والحرية ووحدة السوريين إلى خطاب تطبيق الشريعة والساحة الشامية والأدبيات الجهادية. وتم تقويض المرجعيات المؤسسية والرمزية للثورة السورية، بدءاً من علم الثورة إلى المؤسسات السياسية وهيئة الأركان، بدعوى علمانيتها والبحث عن بدائل إسلامية. وكان هذا الانزياح نحو الخطاب المتشدّد استجابة للضغط الجهادي، ومحاولة من بعضهم للتحصين ضد انتقال شبابهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو جبهة النصرة، وأبرز أمثلة ذلك "الجبهة الإسلامية" (نوفمبر/ تشرين الثاني 2013) كتحالف بين سبعة فصائل كبيرة، وميثاقها "مشروع أمة" الذي جاء ردّ فعل واستجابة لاتهامات "داعش" و"القاعدة"، وليس بعيداً عن خطابهما.
بعد انفصال جبهة النصرة وتنظيم داعش (9/4/2013)، شن الأخير هجمات على الجيش السوري الحر وحركة أحرار الشام، واعتقل نشطاء الثورة الشباب من المناطق التي وجد فيها، وأعدم عشرات منهم بشكل جماعي لاحقاً. واستطاع، بسبب وجوده داخل المناطق المحرّرة والهشاشة التنظيمية والأيديولوجية لخصومه، أن يتوغل ويبتلع أكثر، إلى حين إعلان الجيش السوري الحر في حلب وإدلب الحرب عليه، وطرده خلال أيام إلى ريف حلب الشرقي والمنطقة الشرقية من سورية بداية 2014، ليسيطر التنظيم منفردا على مناطق واسعة شرقاً وشمالاً، كانت بيد الجيش السوري الحر سابقاً.
(2)
بعد الحرب الموسعة والتمايز الجغرافي بين مناطق الثوار ومناطق "داعش"، أصبحت جبهة النصرة ممثل السلفية الجهادية وتنظيم القاعدة في المناطق المحرّرة. وعلى الرغم من انتقال عناصر متشددة وأجنبية كثيرة إلى تنظيم داعش، إلا أن الجبهة بدأت وقتها فعلياً مشروعها للسيطرة و
الصراع المباشر مع القوى الثورية المحلية بشكل أكثر مرونةً وذكاء من تنظيم داعش، بالتوازي مع الصراع الدموي والاستنزاف الطويل لهذه القوى ضد التنظيم.
في نهاية يوليو/ تموز 2014، ظهر تسجيل صوتي لزعيم جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، يعلن فيه إقامة إمارة إسلامية تطبق الشريعة وتحارب المفسدين، وبدأت بذلك حملة الإمارة ضد فصائل الجيش الحر، والتي بدأت بجبهة ثوار سورية، وتتوجت، بعد ثلاثة أعوام، بالهجوم على حركة أحرار الشام الإسلامية وانهيارها أيضاً، بعد قرابة 15 فصيلاً.
شهدت إدلب عدة مراحل من التحولات في المشهد الفصائلي، وفي الصراع ما بين جبهة النصرة وحلفائها من الجهاديين من جهة، وما بين تشكيلات الجيش السوري الحر، وإلى جانبها أحياناً حركة أحرار الشام الإسلامية، بدأت بحملة (يوليو/ تموز 2014 – مارس/ آذار) كسلسلة معارك ضد فصائل من الجيش الحر، بدأت بجبهة ثوار سورية، وانتهت بحركة حزم، وفرضت سيطرتها على إثرها قوة رئيسة ضاربة في ريفي إدلب، الشمالي والجنوبي، وقامت بحملة مشابهة في مارس/ آذار 2016 ضد الفرقة 13 في معرّة النعمان ثم ضد جيش التحرير (ينتمي قواعده إلى منطقة سهل الغاب في ريف حماة)، لكنها لم تنجح في استئصالهما، وشهدت معارضة شعبية واسعة وتنامي المقاومة. وكانت الحملة الثالثة والأوسع على إثر عقد مؤتمر أستانة في يناير/ كانون الثاني2017، ضد مجموعة من الفصائل التي حضرت المؤتمر (الجبهة الشامية، تجمع فاستقم، جيش المجاهدين، جيش الإسلام، صقور الشام)، والتي انتهت بإعلان غالبيتها الانضمام إلى حركة أحرار الشام الإسلامية. أما الحملة الرابعة فكانت منتصف يوليو/ تموز 2017 ضد حركة أحرار الشام الإسلامية، وانتهت بالانهيار السريع للحركة، وسيطرة الجولاني على معبر باب الهوى الحدودي، وفرض الهيمنة على إدلب.
كان هجوم جبهة النصرة على الفرقة 13 في معرّة النعمان، مارس/ آذار 2016، تحولاً مهماً في الصراع الثوري الجهادي، حيث ظهرت المقاومة المدنية ضد جبهة النصرة وأثبتت فعاليتها، على الرغم من فشل الفصائل في التصدّي عسكرياً، وأصبحت معرة النعمان، كالأتارب قبلها، أيقونة ثورية في مواجهة المشروع الجهادي، وألهمت هذه التجربة المناطق التي اقتحمتها جبهة النصرة لاحقاً، مثل سراقب وحزانو، ليقاوم السوريون، بمظاهراتهم ضد التطرّف، كما فعلوا من قبل ضد الاستبداد.
وعلى الرغم من تحولات جبهة النصرة الكثيرة في المظهر والخطاب، إلا أنها حافظت على النهج العدواني نفسه تجاه الخصوم والمنافسين على النفوذ، خصوصا مع قدرتها على السيطرة والتفكيك المستمر، ففي 28/7/2016، أعلن الجولاني فك ارتباطه بتنظيم القاعدة، وبدء العمل باسم جبهة فتح الشام، في محاولة للتقرب من المجتمع والفصائل المحلية والاندماج بها، منعاً لتصنيفه إرهابيا، وسعياً إلى الحصول على شرعية سياسية، وهي المحاولة التي لم تنجح، فشنّ حملة جديدة ضد الفصائل وقت مؤتمر أستانة بداية 2017، تتوجت بإعلان "هيئة تحرير الشام"، بالاندماج مع حركة الزنكي وفصائل أصغر. وبدأ استعماله مصطلحات القاموس الثوري المحلي التي كانت محرّمة في الأدبيات الجهادية، وليستكمل خطته بالسيطرة وفرض سلطة أمر واقع لنيل الاعتراف، وهي المحاولة التي لم تنجح بكسب شرعيةٍ ثوريةٍ محليةٍ، ولا سياسية دولية، ولا نجحت بدمج القوى الموجودة ضمن الهيئة، لكنها انتهت أيضاً بالهجوم الكبير على "أحرار الشام" وانهيارها. وتحول الجولاني، بعد ثلاث سنوات من حملة الإمارة، إلى زعيم القوة المهيمنة على إدلب، بعد دحر خصومه في يوليو/ تموز 2017، ما عنى مزيدا من تفكيك قوى الثورة السورية، وتهجير نشطائها ومقاتليها، وهيمنة اللون الأسود على إدلب، وسحب ورقة إدلب من أيدي الثورة وحلفائها، لتصبح ورقة ضغط بيد النظام وروسيا.
(3)
ساهمت في تضخم النموذج الجهادي والمؤدلج على حساب الثورة الشعبية، ومطالب التغيير السياسي، عوامل موضوعية، تتمثل بدعم نظام الأسد هذا النموذج، وبتنامي حرب الهويات والطوائف، مع توغل المشروع الإيراني في العراق وسورية، والحاجة إلى السرديات الصلبة، والتوحش القمعي والانتقامي في مذابح النظام وحلفائه، وتراجع الموجة الثورية العربية عامة، بعد انكسارها في مصر، وغياب الإرادة الدولية الحقيقية بدعم التغيير الديمقراطي في المنطقة (...إلخ)، ولكن هذا التوسع الجهادي امتلك عوامل قوة أيضاً من ضعف منافسيه الثوريين المحليين.
كانت الهشاشة التنظيمية والثغرة الفكرية والصراعات البينية وتقويض المرجعيات عوامل ضعف مشروع الثورة السورية ونماذجها التطبيقية، فصائل أو سياسيين أو حتى مثقفين، ولم تستطع "النخب" المختلفة أن تجاري الانفجار الشعبي الكبير، ولا أن تدافع أو تؤسس بنفسها لمشروع التغيير على الأرض، فظهرت الانقسامات وتسارعت في جسد الثورة السورية، ما بين السياسي والعسكري والإسلامي والعلماني والداخل والخارج.. إلخ، وظهرت هذه الهشاشة أكثر مع الوقت، ورحيل النخب وغياب الثوريين الأوائل، وتناقص أعمار المقاتلين في مقابل الصلابة الأيديولوجية والتنظيمية للجهاديين.
وتكرّست ردة الفعل الانهزامية لدى الفصائل المحلية مقابل الجهاديين، خصوصا خلال 2013 و2014، والتي ساعد عليها الموقع المتردّد للسلفية المحلية، مثل حركة أحرار الشام الإسلامية، وبدرجة أقل جيش الإسلام، والتي منحت الشرعية لاتهامات الجهاديين نحو الحركة الثورية الوطنية، ومنعت التوافق على المرجعيات المؤسسية والرمزية للمشروع الثوري. وشكلت هذه الحركات جسر العبور لتنظيم القاعدة وفكره نحو الثورة السورية وشبابها لينتشر المرض من الداخل. وكان هذا التردّد الطويل والهوية القلقة من الأسباب المهمة في تغول جبهة النصرة وقدرتها على تحييد قواعد "أحرار الشام" أنفسهم، حتى انهيار الحركة في يوليو/ تموز 2017.
وساعد تفرّق تشكيلات الجيش السوري الحر، وتحوله إلى مظلة واسعة من دون هيكلية وأيديولوجية صلبة، وظهور التجاوزات، على هشاشة هذه الكيانات الفصائلية وضعف انتماء القواعد إليها، والدفاع عنها لدى التهديد. كما تكرّس الفصل ما بين المؤسسات السياسية والنخب الثقافية من جهة وبين الفصائل المسلحة من جهة أخرى، لكن الأخطر كان تكريسه بين هذه المؤسسات والداخل السوري، نتيجة التخوف من تهديد الجهاديين، أو الفصائل المحلية المتأثرة بهم. وبدلاً من الانخراط في التحدّي والبناء على الحاضنة الشعبية المعارضة للجهاديين، والأقرب إلى النفس الوطني والمعتدل، حاولت شراء الولاءات، أو الاستثمار السياسي الشكلي، بينما تُركت قواعد الفصائل للخطاب والنموذج الجهادي الفاعل على الأرض.
مثلت الثورة السورية، منذ البداية، انتفاضة المجتمعات المحلية بوجه السلطة، وبقيت الحواضن الاجتماعية الأولى للثورة الشعبية هي الحواضن المعارضة للجهاديين في الآن نفسه، وهي المتبنية النموذج الأخضر والوطني الذي تعرّض لحربٍ مشتركة من نظام الأسد والجهاديين. وفي السيطرة الأخيرة لهيئة تحرير الشام على إدلب، على الرغم من هزيمة أكبر الفصائل المحلية التي كان يعوّل عليها في التصدّي لمشروع الجولاني، والمقصود أحرار الشام، إلا أن نماذج المقاومة المدنية والإصرار على رفع أعلام الاستقلال في مناطق ريف إدلب كانت ملهمة ومتفوقة كعادتها على مؤسسات الثورة وفصائلها ونخبها، إن هزيمة الفصائل أمام هيئة تحرير الشام، ومن قبلها جبهة فتح الشام وجبهة النصرة، لا تعكس هزيمة المجتمعات المحلية، ولا تحول المقاتلين المحليين نحو التطرّف، بقدر ما يعكس المشكلات البنيوية المتراكمة لمؤسسات الثورة وفصائلها.
ولم يقتصر تأثير التنظيمات الجهادية على تفكيك قوى الثورة السورية المدنية والمسلحة وإضعافها، وإنما أثر أيضاً على التأييد الشعبي والتضامن العربي والدولي معها، كما ساعد على دعاية السلطوية العربية بأن بديلها هو الفوضى أو الإرهاب، وساعد على ذلك تأخر المفاصلة ما بين قوى الثورة السورية والتنظيمات الجهادية وخطابها، وضعف تمسّك نسبة منهم بمشروع الثورة الشعبية، والإطار الوطني والديمقراطي للتغيير، أمام الدعاية المضادة للجهاديين. وكان هذا مرتبطا بما يمكن دعوته أزمة النخب في الحراك الثوري السوري، وهي الأزمة التي يتحمّل مسؤوليتها الطرفان بشكل مشترك، وأعني قوى الحركة الثورية والنخب.
كان نموذج إدلب، ونموذج الرقة ودير الزور قبله، المفضل لدى نظام الأسد، لإثبات نظرية حرب الإرهاب في سورية مكان الثورة الشعبية ومطالب التغيير السياسي، ومنذ اتفاقية حمص القديمة (مايو/ أيار 2014) شهدت المناطق المحاصرة تباعاً اتفاقيات تهجير نحو إدلب التي تحوّلت إلى ملجأ المهجّرين، ومنطقة ذات أمان نسبي أفضل من البقية، خصوصا بسبب اتفاقيات كفريا والفوعة التي حمت مدينة إدلب والمنطقة المحيطة بها من القصف الجوي للنظام.
بينما كانت الحرب الأعنف التي شنّها نظام الأسد والمليشيات الشيعية والطيران الروسي لاحقاً ضد مناطق سيطرة الجيش السوري الحر والنماذج الثورية المدنية، حيث يقلّ حضور الجهاديين، مثل مدينة حلب ودرعا البلد وداريا والغوطة الشرقية، وإن كان شعار التدخل الروسي نهاية سبتمبر/ أيلول 2015 هو حرب الإرهاب، فقد كان لافتا أن روسيا بدأت بقصف تجمعات الجيش السوري الحر ومقرّاته، واستمرت بالاستهداف المركّز على مناطق وفصائل "خضراء".
كما شهدت مناطق سيطرة داعش الشاسعة، والجبهات الممتدة بين التنظيم والنظام من حلب وعبر البادية إلى السويداء، هدوءاً لافتاً على مدى سنوات، فيما عدا بؤر معارك متقطعة، قبل التوجه الإيراني أخيرا نحو المنطقة الشرقية، بينما انتفض النظام للهجوم على هذه المناطق نفسها، وقصفها فور سيطرة الجيش الحر عليها، وتحريرها من تنظيم داعش، كما يحصل في البادية السورية منذ بداية العام.
استكمل النظام في معركته الميدانية والجغرافية ذات الاستراتيجية التي استعملها بداية الثورة السلمية، باعتقال الشباب الثوريين والمثقفين، والإفراج عن الجهاديين السلفيين، وتسهيل عمل الشبكات الجهادية بين العراق وسورية، حيث حارب ودمّر بوحشية النماذج الثورية المدنية، ومناطق سيطرة الجيش السوري الحر، بينما ترك للجهاديين مهمة ابتلاع قوى الثورة من الداخل، وإثبات نموذج الإرهاب مع الأمان النسبي في مناطقهم، والتمويل الجيد الذي يساعد بنفسه عليه.
(4)
خلاصة القول إن الجهادية السلفية مثلت ظاهرة "الغزو من الداخل"، وأداة الثورة المضادة التي أسهمت بفعالية في إضعاف قوى الثورة السورية، وخسارة مناطقها وكوادرها وجمهورها، وأن الأزمات التنظيمية والفكرية لهذه القوى الثورية كانت العامل الأهم في تغوّل التنظيمات الجهادية، كما أن نظام الأسد وحلفاءه عملوا على تشجيع نماذج التطرّف في مقابل تدمير النماذج المدنية والوطنية، سواء على مستوى النشطاء أو فصائل الجيش الحر، أو المدن التي هيمن عليها اللون الأخضر، باعتبارها تمثل منافسه الشرعي والشعبي الحقيقي، وأن عدم تحقّق مطالب الربيع العربي بالحريات والديمقراطية والحقوق السياسية والكرامة الإنسانية سيبقى الحاضنة الأهم للتطرّف والعنف وقلق المشرق العربي، بينما يستمر الشعب السوري في دفع ثمن التطرّف والاستبداد والفوضى، وغياب الإرادة الدولية بالتغيير، وتستمر المجتمعات المحلية بتقديم نماذج ملهمة وأيقونية في مقاومة التطرّف والاستبداد والحلم بالحرية، وسط كل هذا الدمار.
يؤكد أحد القادة السابقين للمعارضة السورية، وهو فوق ذلك مفكر وأكاديمي معروف، في مواقفه المختلفة، على عَرض مرضي، أصيب به كثيرون من "قادة" المعارضة، إذا افترضنا وجود قادةٍ لها، يتمثل بذاكرةٍ مثقوبة، أو انتقائية، أو استعلائية، وبعقدة إلقاء اللوم على الغير، وادّعاء طهرانية في غير محلها، وإنكار أدوارٍ لا تتمحور حول شخصه.
فهذا القيادي، أو المفكر، لم يعثر "على مساهماتٍ حاولت فيها النخب السورية أن تطرح سؤالا عن مسؤولياتها، ولم تقم أيٌّ منها بمراجعة للسياسات التي طبقتها خلال سنوات طويلة ماضية"، بحسب مقال مطول نشره برهان غليون: "في الثقافة السورية والمراجعة وثقافة المسؤولية" ("العربي الجديد"، 29/7).
ومع التأكيد على أهمية المراجعة النقدية والمسؤولة والموضوعية وضرورتها، إلا أن المقال المذكور مليء بالتعميمات، ويدير ظهره لمراجعات مهمةٍ كثيرة، حصلت في الفترة الماضية.
أي متابع منصف، من أي درجة، للشأن السوري يمكن أن يلاحظ أن الكاتب أصيب بداء الاستعلاء، وتجاهل ما تطرحه شخصيات عديدة في المعارضة، وبادعائه أن خيار الاعتراف بالأخطاء لم تنتهجه أي مجموعة عمل أو شخصية من تلك "النخب" التي لا نعرف كيف يصنفها.
في هذا الموقف، يكون الكاتب قد تعمد تجاهل جملة اعترافاتٍ ومراجعاتٍ ونداءاتٍ تجاوزت الاعتراف بالأوهام الخطيرة والخاطئة التي كانت المعارضة السورية قد راهنت عليها، منذ اللحظة التي تولى هو نفسه قيادتها، (رئيسا للمجلس الوطني الذي لبس عباءة "أخوّة المنهج" ومايزال)، على الرغم من خروجه من تلك القيادة، فيما بعد، واعتبار أن كل من جاؤوا، ومن أتوا بعده، مسؤولين عن انهيارات واقع المعارضة الذي لم يتجرأ هو نفسه على اتخاذ موقف جاد وعلني ممن يمثلها، أو يديرها، أو يحدّد خطاباتها، إذ بقي حتى اللحظة أحد أعضاء مجلس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أي واحدا من المسؤولين عن واقع هذا الكيان الممثل للمعارضة. فوق ذلك، يرمي الكاتب من فعل ما يريده، أي المراجعة، قبل سنة أو سنتين أو أكثر، بأن هذا الفعل لم يأت من باب المراجعة، وإنما في أغلب الحالات للتهرّب من المسؤولية (بحسب رأيه)، وإلقائها على الطرف الآخر، من دون أن يحدّد من هو الطرف الآخر الذي يحاول الدفاع عنه!
السؤال هنا: هل المقصود الجماعات الإسلامية التي انحرفت بخطاب الثورة، وأخذته بعيداً عن مقاصدها في طلب الحرية والكرامة وحق المواطنة في دولة ديمقراطية، أم جبهة النصرة بكل تسمياتها، التي حاول، مرّة، أن يدينها على صفحته في "فيسبوك"، بعد اعلانها تغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام، قائلاً "لا تختلف توبة جبهة النصرة عن توبة الثعلب عن أكل الدجاج"، إلا أنه سرعان ما حذف منشوره، ليكتب أن ما حصل "خطوة في الطريق الصحيح، على شرط أن تستمر بنبذ فكرة بناء إمارةٍ على الطريقة الداعشية، والانضمام إلى ثورة الشعب". وكلنا يعرف أن بيان أمير النصرة لم يتضمن أي إشارة إلى هذه النيّةّ، بل أكد على تواصله مع أمير "القاعدة" الذي سمح له بهذا التغيير في الاسم، والإعلان عن فك الارتباط، فقط، وليس تغيير (أو مراجعة) الهدف الذي تسعى إليه "النصرة"، وهو إقامة الإمارة الإسلامية على "أرض الشام".
هكذا، فمن يطلب من المعارضة مراجعة الأخطاء يريدها في الآن نفسه أن تحذر من "التهرّب من المسؤولية في تحويل بعض الأشخاص، أو التيارات، إلى كبش فداء، ترمى عليه جميع الأخطاء، ويمكن من خلال شيطنته التخلص السهل من الشعور المؤلم بالفشل، وربما الذنب"، فعن من يدافع هنا الكاتب، ومن هو الذي خرّب الثورة السورية حقاً؟ ومن أخذها إلى مساراتٍ فوق قدرتها، وقدرة شعبها على التحمل؟ ومن هو الذي حرف خطاباتها نحو الخطابات الطائفية والمذهبية والدينية؟ ومن هو الذي تحكّم بكياناتها السياسية والعسكرية والمدنية؟ ولماذا لا يسمي الكاتب الكبير الأمور بأسمائها، وهو الذي يعرف الكثير.
من تجربتي الشخصية، وقد شغلت منصب نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، عاما، كانت نقطة الخلاف الرئيسية بيني وبين الهيئة السياسية والرئاسية اعترافاتي وكتاباتي عن الأخطاء التي ارتكبت بحق السوريين، طوال فترة تمثيل كيانات المعارضة الثورة السورية، الأمر الذي اضطرّني لاحقاً للاستقالة، أسوة بنخبة من أعضاء الائتلاف الذين يمثلون "التيار الديمقراطي" داخله، وتعبيراً عن ضرورة قرع ناقوس الخطر الذي يحيط بعمل المعارضة السورية، وتراخي "الائتلاف" عن دوره في الوقوف بوجه التيارات المتشددة، ومنها جبهة النصرة.
وقد كانت النخبة في "الائتلاف"، من ميشيل كيلو وأنور بدر ونغم الغادري وفايز سارة، وتيار مواطنة الذي كان يمثله موفق نيربية وآخرون، قد عملت بكل جهد لأخذ "الائتلاف" نحو المشروع الوطني الديمقراطي الذي ينبذ التطرّف، ورفعت أصواتها في كل المنابر الإعلامية، بضرورة ترك الرهانات الخاطئة، والالتفات إلى صوت المشروع الوطني الجامع الذي يبحث عنه كل السوريين، ليكون البديل الواقعي للنظام الاستبدادي، ولمعارضةٍ غرقت في فساد خياراتها السياسية، وحتى العسكرية. ولكن، يبدو أن الباحث الأكاديمي والقيادي الأول في المعارضة كان في واد آخر، لا يسمح له بالاطلاع على ما يكتب وينشر ويعلن ويقرر.
من يقرأ ما كتبه المعارض الأكاديمي، برهان غليون، من الخارج، والذي لم يتكبّد ما تكبّده غيره من السوريين، من تضحياتٍ وعذاباتٍ وأثمان باهظة، يوقن أنه (أي الكاتب) يعرف كيف يعزف على وجع الناس وآلامهم، كأن السوريين "الذين فقدوا الآلاف من أبنائهم، ودمّرت بلادهم وضاعت ممتلكاتهم" لم يعد لديهم مشكلة سوى البحث في دوافع المنشقين عن النظام، وعددهم بضعة آلاف لا أكثر، بينما "تصفح" المعارضة عن كل من بقي داخل صفوف النظام عسكراً يقتلون، أو سياسيين يمرّرون سياساته، أو مسؤولين يتمتعون بعطايا المناصب والفساد. مع العلم أن هؤلاء هم أنفسهم الذين يجلسون إلى طاولة التفاوض مع المعارضة، ليتقاسموا معها السلطة ولاحقاً المزايا، وليسوا المنشقين الذين يتوعدّهم الأكاديمي المرموق بأن لا يأملوا بأي دور لهم، لأنهم لو كان انشقاقهم بدافع البحث عن دور ومزايا لكان الأولى بهم البقاء في الجهة المقابلة الآن للمعارضة، في جنيف وأستانة، وما بينهما من اتفاقات.
وعليه، الانشقاق سواء أدى الوظيفة التي يطلبها المقال المكتوب، ربما بهدف تعطيل أو استباق المشروع الفرنسي، الذي تتوارد أخباره عن مجلسٍ مشترك، قد يكون لأحد المنشقين الذي لم تتلوث يده بالدماء منذ انطلاقة الثورة السورية في عام 2011، أو كان ردة فعل على تولي بعض المنشقين مهام في التفاوض، فإن المقال الاستعلائي يريد من المنشقين أن يحصلوا على صكّ "الوطنية" من كاتبه، غير مدركٍ هذا الكاتب، أستاذ العلوم السياسية، أن فعل الانشقاق بحد ذاته فعل سياسي، وحالة وطنية، وبديهية، تؤكد انتماء هؤلاء لشعبهم الذي قرّر أن ينال حريته، وساروا معه في خياراته بإرادتهم، على الرغم من الأثمان الباهظة، في وقت لم يكلف فيه الكاتب نفسه حتى أخذ إجازة من وظيفته، حينما تسنّم موقع القيادة رئيسا للمجلس الوطني، في أنبل وأصعب ثورة شهدها العالم.
في النهاية، هؤلاء المنشقون، على اختلاف مواقعهم، هم جزء من الشعب، لا يحتاجون صك براءة من أحد، بقدر ما يحتاجون إلى قيادة معارضة تستوعب قدراتهم، وتعمل معهم على مأسسة الكيان المعارض الذي ترأسه الكاتب، من دون أن يأخذه إلى حيث تأمل به الشارع السوري خيراً، فتركه، أي الكيان، مرتهناً لإرادة من يموّله. بل ثمّة تصرفاتٌ يخجل المرء من ذكرها حول هذا الأمر، هذا في وقت كان المنشقون فيه يتعثّرون في إيجاد لقمة عيشهم، أو فرصة عمل تحفظ كرامتهم، بعد انحيازهم الأخلاقي والسياسي لثورة الحرية والكرامة التي آمنوا بها ولايزالون، على الرغم من أخطاء لا تغتفر لقياداتٍ معارضة، رضخت للتلاعبات والتوظيفات الخارجية للثورة، وسلمتها لمشاريع وهمية تتغطّى بالإسلام، وهي التي طالما تشدّقت بالوطنية وبالعلمانية والديمقراطية.
ومع كل الاحترام للأستاذ في العلوم السياسية، فإنه لم يذهب في النقد إلى آخره، نقدٍ مسؤول ونزيه وموضوعي، إذ انتقد اتجاها معيناً، وليس له أي تأثير عملي، في حين أنه، عن قصد أو من دونه، يغطي على الاتجاه الذي خرّب الثورة السورية وحرفها ورهنها في أجندة الأخرين. وفوق ذلك، غاب عن باله أن أحد أهداف الثورة، أو تجلياتها، هو حدوث تصدّع أو تفكيكات أو تناقضات في جبهة النظام، وأن هذا ما ينبغي للثورة أن تشتغل عليه، لاستقطاب مزيد من الفئات، الأمر الذي لم تنجح فيه المعارضة السورية، بسبب هذا النمط من التفكير الضيق، والساذج. ثمّة أشياء كثيرة في المقال المذكور، لكن أكثر ما افتقده هو المراجعة النقدية وثقافة المسؤولية الأخلاقية والسياسية.
طمأننا وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، الى أنه على تفاهم مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في موضوع سورية، فيما كانت وزارة الدفاع الأميركية تنتهج استراتيجية استعادة الأسلحة من «الجيش السوري الحر» بعدما رفضت فصائل منه الشروط الأميركية لمواصلة الدعم، وفي طليعتها عدم قتال القوات النظامية السورية والتركيز حصراً على محاربة «داعش». حروب العقوبات والانتقامات الديبلوماسية المتأججة بين واشنطن وبين موسكو وإيران لن تثني تيلرسون ولافروف عن الاجتماع الأسبوع المقبل في مانيلا على هامش اجتماعات رابطة جنوب شرق آسيا حيث ستكون الحرب على «داعش» و «جبهة النصرة» أولوية قاطعة تُملي السياسات كافة. روسيا ثابتة على سياساتها، بقليل من التأقلم، كي لا تخسر شراكتها مع الولايات المتحدة في المسألة السورية إنما دون أن تتخلى عن أسس ومبادئ تحكَّمت بعلاقاتها مع كل من إيران والنظام السوري. الولايات المتحدة متقلبة، لا تقلقها سمعة الاستغناء عن الأصدقاء والشركاء حين تقتضي ذلك المصالح الأميركية، وإدارة دونالد ترامب تتخبط في تناقضاتها وتأقلمها مع البراغماتية الروسية.
بكثير من الاعتباطية كلاهما يزعم ان التفاهمات على مواجهة الإرهاب وعلى مناطق «خفض التوتر» سيليها إحياء عملية سياسية لمستقبل سورية بدستور وانتخابات ومشاركة المعارضة في الحكم بدلاً من استفراد النظام بالسلطة. وكلاهما يدرك تماماً أن لا تعايش بين حكم حزب «البعث» الذي لا يطيق ولا يتحمل تقاسم السلطة وبين عملية ديموقراطية فعلية تُنتج بديلاً من فكر «البعث» ونهجه. المعارضة السورية المعتدلة المسلحة خضعت الآن لواقع الحال بعدما خانت نفسها تارة وخانها الحلفاء والأصدقاء تارة أخرى. فهي أساساً لم تكن مهيّأة أو قادرة على محاربة محور عسكري يضم روسيا وإيران و «حزب الله» وميليشيات «الحرس الثوري» الإيراني والنظام في دمشق. وهي وقعت ضحية استغناء أميركا عنها تارة وتضليلها تارة إلى جانب تجيير قوى عربية خليجية الحرب السورية لخدمة مشاريعها الإقليمية. وارتكبت المعارضة المعتدلة عدة أخطاء مصيرية، من بينها الاعتقاد أن في وسعها محاربة العدوين، النظام في دمشق و «داعش» و «النصرة» وأخواتها، فوجدت نفسها كما هي اليوم، مُطالبة بأن تحارب حصراً من كان يحارب النظام بموازاتها وان كان لغايات وأجندة لا علاقة لها بالمعارضة المعتدلة. وها هي المعارضة المسلحة، بالذات «الجيش السوري الحر»، تخضع لإملاءات أميركية وروسية وإيرانية فيما تصوغ واشنطن تراتب التكتيك تلو الآخر وبينما يحاول المخضرم نفطياً، ريكس تيلرسون، الإمساك بخيوط اللعبة الاستراتيجية التي يتقنها لافروف بحنكة، فيهرول وراءه سورياً، ويتصرف بسذاجة سهواً أو عمداً عراقياً، ويتأخر بالمبادرة خليجياً على صعيد الأزمة القطرية، ويعارك أشباح إدارة أميركية بدائية.
فوضوية إدارة ترامب لا تعني بالضرورة أنها وحدها المسؤولة عن السياسات الأميركية، لأن تلك السياسات بمعظمها تتخذها الولايات المتحدة على المدى البعيد وعلى أساس المصلحة القومية، لذلك هناك خيوط استمرارية بين ما فعله الرئيس جورج دبليو بوش عبر حربه على الإرهاب في العراق، وما ترتب على ذلك من استدعاء الإرهابيين الدوليين إلى المشرق العربي، ومن تقديم العراق على طبق من فضة إلى إيران، ومن حذف العراق كلياً من المعادلة العسكرية الاستراتيجية مع إسرائيل، وبين ما لم يفعله الرئيس باراك أوباما إزاء المجازر في سورية متشبثاً بايران وبدعم صعود الإسلاميين إلى السلطة في مصر وغيرها لخلق الفوضى.
ريكس تيلرسون هو الواجهة الديبلوماسية لإدارة رئيس غير عادي أتى في فترة مؤرقة للدول الخليجية في أعقاب العقيدة الأوبامية التي قزّمت عمداً العلاقة الأميركية معها لصالح إحداث نقلة نوعية في العلاقة الأميركية– الإيرانية. ما حمله ترامب قبل بضعة أشهر إلى قمة الرياض من طمأنة بقلب الصفحة الأوبامية لتحل مكانها العقيدة الترامبية ما لبث أن اهتز بسبب مواقف أميركية ميدانية ازاء المشاريع الإيرانية الممتدة من العراق إلى سورية إلى لبنان اتسمت بالتهادنية والصمت والقبول بالأمر الواقع. اهتز أيضاً بسبب غموض الأدوار والمواقف الأميركية من الأزمة الخليجية بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر من جهة أخرى.
تلكأ تيلرسون في ما كان يجب أن يفعله عند اندلاع الأزمة القطرية. كان يجب أن يتحرك فوراً على صعيدين متوازيين: بتدخله شخصياً، وبتعيينه مبعوثاً رفيع المستوى. لم يفعل. عندئذ كان في الإمكان ضبط الأمور على أسس واضحة. الآن، وبعد مضي شهرين على الأزمة، باتت المهمة أصعب حتى مع تكليف تيلرسون هذا الأسبوع موفدين للقيام بها. فقد بعثت الإدارة الأميركية مؤشرات إلى كل من طرفي الأزمة جعلت كلاً منهما يفسرها لمصلحته على رغم تناقضاتها. وهذا بالتأكيد يساهم في سلبية التطورات في الخليج بمساهمات أميركية خطيرة، مقصودة كانت أو غير مقصودة.
جزء مما آلت إليه الأزمة فعلياً هو انعكاسها على مستقبل مجلس التعاون الخليجي الذي لمَّ شمل الدول الخليجية الست أمنياً واقتصادياً وسياسياً بالرغم من التباين أحياناً.
قد يقال ان تحوّل مجلس التعاون من عضوية سداسية إلى عضوية خماسية من دون قطر لن يؤدي إلى تفكيك المجلس أو حلِّه، بل قد يقال ان محور السعودية– الإمارات بحد ذاته هو بذلك الوزن الضخم إلى درجة لا يتأثر معها بتصدع أو تفكيك مجلس التعاون. واقع الأمر هو ان تفكيك مجلس التعاون الخليجي يخدم ايران ومشروعها الأمني في المنطقة القائم على تولي طهران مهمة القيادة الأمنية الخليجية، فهي التي تقرر ان كانت الشراكة الأساسية أميركية أو روسية. وهي التي تتحكم بالمنطقة الخليجية لأنها تمتلك الأدوات الأمنية في هذه الحال.
فليس صدفة ولا هو قرار إدارة عابرة أن يتم طي العداء والقطيعة بين واشنطن وطهران طبقاً لعقيدة أوباما وعلى أساس إقراره بشرعية النظام الحاكم في طهران وهو حكم ثيوقراطي يفرض الدين على الدولة ونظام يؤمن بولاية الفقيه وبحقه في تصدير ثورته. وليس مطمئناً ما تشهده المنطقة الخليجية من تلكؤ وتردد أميركي في احتواء الأزمة مع قطر كما يجب –وأميركا قادرة لو شاءت الاحتواء– بما يؤدي إلى تفريق الدول الخليجية وتفكيك عقد التكامل الأمني والاقتصادي والسياسي بينها. وليس منطقياً غض نظر أركان إدارة ترامب عمداً عن الإنجازات الإيرانية الميدانية الأساسية في مشروع «الهلال الفارسي» الذي يترسّخ في الأراضي العراقية والسورية واللبنانية.
فليس كافياً أن يصرح ريكس تيلرسون ان استمرار تواجد العسكريين الإيرانيين في سورية «أمر غير مقبول»، ذلك ان مطالبة الدول العظمى في العالم بإنهاء الوجود الإيراني العسكري في سورية يجب أن تكون لها آلياتها وبرامجها التنفيذية ضمن اطار زمني. ما نشهده الآن هو طأطأة الرأس الأميركي أمام قيام «الحرس الثوري» و «حزب الله» بفرض الأمر الواقع عسكرياً ميدانياً في الخريطة السورية، بلا أي جهد لإيقاف مشروع «الهلال الفارسي» الذي تزعم إدارة ترامب أنها تقف ضده وستمنع قيامه. أركان هذه الإدارة تعهدوا بمنع استيلاء إيران المباشر أو غير المباشر على الأراضي التي يتم تحريرها من «داعش» و «النصرة» في العراق وسورية، إنما ما يحدث ميدانياً يفيد بأنهم تراجعوا عن التعهدات باسم الأولوية الأميركية المعنية بـ «داعش».
يطمئننا ريكس تيلرسون إلى أن هذا الأمر الفائق الأهمية سيكون ضمن التفاهمات مع روسيا التي أوضحت تكراراً ومراراً أنها لن تتخلى عن حلفائها وأصدقائها في سورية. فهي تفتخر بأنها نجحت في كسب سمعة الاتكال عليها وصدق تعهداتها مقابل السمعة الأميركية بسرعة الاستغناء عن الأصدقاء والحلفاء العابرين ما عدا الحليف الإسرائيلي الذي هو حليف عضوي للولايات المتحدة وجزء من التركيبة الداخلية. ثم ان الغايات الروسية في سورية ثابتة بينما الأميركية متقلبة.
بالرغم من كل ذلك، ليس أمراً هامشياً أن يعلن وزير الخارجية الأميركي ان انسحاب القوات الإيرانية من سورية يمثل شرطاً ضرورياً لتسوية النزاع. عسى أن تكون مواقف تيلرسون جدية وان تمثّل مواقف السياسة الأميركية البعيدة المدى الدائمة وليس مجرد سياسة الاستهلاك اللفظي العابر. كذلك الأمر في ما يتعلق بوعود التسوية السياسية في سورية بعد الانتهاء من معركة الرقة ضد «داعش» ومن عملية مناطق «خفض التوتر» التي تقودها روسيا. لا يكفي ان يقول تيلرسون إن لا وجود لبشار الأسد في مستقبل سورية وهو يدرك تماماً أن روسيا تختلف معه في الأمر جذرياً. فإذا أرادت واشنطن أن تؤخذ بجدية عليها إثبات الجدية فعلاً.
الوزير المخضرم سياسياً، سيرغي لافروف، لن يفرّط بعلاقة يريد ترسيخها مع الوزير المخضرم نفطياً ريكس تيلرسون، ولذلك ستكون السياسة الروسية أكثر حذراً ودقة بالذات مع بشار الأسد. موقع «بلومبرغ» الاخباري نقل عن الروس ان موسكو تريد أن يقبل بشار الأسد بـ «تقاسم رمزي للسلطة» مع المعارضة. هذا ليس أبداً ما نص عليه «بيان جنيف» وما تلاه من بيانات سياسية في آستانة أو غيرها. موسكو دعمت الأسد منذ البداية ورسخته في السلطة وكسرت شوكة المعارضة السورية وهي لن تتخلى عنه ما لم تكن هناك صفقة أميركية– روسية ضخمة تتطلب مثل هذا الثمن. هذه الصفقة بعيدة جداً الآن فيما بشار الأسد يزداد تصلباً في رفضه التنازلات وتقاسم السلطة بعدما أحرز الإنجازات العسكرية الميدانية بشراكة إيرانية وبغطاء عسكري جوي روسي، فهو يعتبر أنه انتصر، وعليه سيمسك حزب «البعث» زمام الأمور بكل حدة واستفراد وعزم على تلقين الدروس للذين تجرأوا عليه بكل أدوات الانتقام.
نُقِل عن رئيس «مجلس الشؤون الدولية» الروسي، اندريه كورتونوف، المقرب من الكرملين، قوله ان تعمّد الأسد تعطيل العملية السياسية خلق «توتراً» في العلاقة بينه وبين روسيا. وزاد: «روسيا ليست مستعدة لخوض الحرب حتى تحقيق الأسد النصر». هذا أيضاً كلام مهم، إنما ليس واضحاً ان كان جدياً أو لمجرد الاستهلاك.
الواضح ان روسيا تملك أدوات الضغط والتأثير على كل من بشار الأسد ونظامه وإيران وميليشياتها من الغطاء الجوي الذي ما زال ضرورياً للعمليات العسكرية لكليهما إلى العلاقات الثنائية مع كل منهما. موسكو لن تستعمل هذه الأدوات ما دامت السياسة الأميركية تتسم بالضعف والتردد والاستلقاء.
الغامض هو ما إذا كانت السياسة الأميركية البعيدة المدى على تلك الدرجة من الدهاء الذي يحرِّك عمداً ذلك الانطباع بأنها في المقعد الخلفي لروسيا، بينما هي واقعياً مُشبعة بالبراغماتية ضماناً للمصالح الاستراتيجية الأميركية على حساب الأعداء والأصدقاء على السواء.
يرى الكاتب السوري راتب شعبو، في مقاله "هل من سبيل لمعارضة علمانية في سورية" ("العربي الجديد" 31/7/2017) أنه "ضاعت دائماً تضحيات المعارضين العلمانيين في الهوة القاتلة بين قمع النظام والخيار الإسلامي المتربّص". ويخلص إلى أن نضالهم "لم يحقّق أي تراكم مؤثر في سياق مسعى المجتمع السوري إلى الخروج من وهدة الاستبداد والانحطاط السياسي". وفي هذه الخلاصة، لم يجانب شعبو الحقيقة التي أظهرتها سنوات الزلزال السوري، لكن ليس واقع الاستبداد وبطش النظام بمعارضيه اليساريين والعلمانيين وحدهما ما أوديا بتضحياتهم إلى الهوة القاتلة تلك، ولا إلى عجزهم عن ترك بصماتهم التي تؤدي إلى تراكم مؤثر في الوعي العام، ودفع الحراك الشعبي في المسارات التي انطلقت الانتفاضة الشعبية السورية فيها إلى الوصول إلى الأهداف المرجوّة، لتحقيق شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وتداول السلطة، والوصول إلى دولة القانون والمؤسسات.
في التاريخ الحديث لسورية، خصوصاً في العقود الخمسة الأخيرة، كانت جماعة الإخوان المسلمين أكثر تعرضًا لملاحقة النظام، بل دخلت في مواجهة عسكرية في أوائل الثمانينات، وكان رد النظام عنيفًا شرسًا، ولوحق المنتسبون إلى الجماعة، أو من يشتبه بهم، مع أقربائهم وعائلاتهم وبيئتهم الضيقة، ومن لحقته شبهة صداقة مع أيٍّ من أعضاء الجماعة، وغصّت السجون بهم، ومنهم من تمت تصفيتهم في السجون، أو غُيّبوا بطرق مجهولة. ومع هذا، بقي للتنظيم الإسلامي هذا من الفاعلية ما جعله يؤسس لمستقبلٍ ما في المجتمع السوري. نجح التنظيم في التأصيل للإسلام السياسي في المجتمع، ونجح في إعداد كوادره، كما إعداد خاماتٍ تكون بمثابة بيئات حاضنة له في صراعه ضد النظام السوري، بأي طريقةٍ تفرضها الوقائع على الأرض، ونجح أيضًا في تمكين مفهوم للدين ينبثق من رحم الإسلام السياسي، وإحلاله محل العقيدة الدينية الشعبية التي عاش المجتمع السوري بروحها منذ عقود طويلة.
باستحضار هذه القرينة، ووضعها على الطاولة مع الراهن الذي آلت إليه الحالة السورية، وسياقاتها خلال السنوات الست الماضية، منذ انطلاقة الانتفاضة، أخمن أن الأوان قد آن للنقد الذاتي الشفاف، والصارم في الوقت ذاته، فإذا كانت التكهنات تفيد أن صوت السلاح بدأ يخبو في الميادين السورية، وأن هناك إرهاصات اتفاقات أو تسويات للدول صاحبة المصالح والتأثير والفاعلية في الصراعات الدائرة، يصبح من الضروري والملح جدًّا التفكير في المرحلة المقبلة، بغض النظر عن شكل سورية المقترحة، أو التي سيفاجئنا بها أصحاب الشأن، باعتبار أن شأننا لم يعد بيدنا منذ مدة ليست قصيرة، حتى لو عادت سورية إلى حدودها الجغرافية التي سبقت الانتفاضة، أو لو صارت فدرالية أو غيرها. هناك استحقاقاتٌ على القوى المجتمعية والنخب الثقافية والسياسية المنتمية إلى اليسار أو العلمانية أو دعاة الديمقراطية الالتفات إليها والتفكير ببرامج يمكن الشروع بها من أجل حماية الشعب المنهك. ما تداولته صفحات التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية من خبر مصوّر عن اتفاقات منتظرة قريبًا، وعن وقف الحرب في نهاية العام الجاري (2017)، وإعلان دستور وتشكيل حكومة جديدة بأسماء وزرائها، قائمة على المحاصصة الطائفية، لهو أمر ينذر بكارثةٍ أخرى، حتى لو كان أداة للتضليل الإعلامي فقط، بما يضمر في بنيته من طائف جديد.
على من كانوا معارضين يساريين، أو علمانيين وديمقراطيين سابقًا، و"ضاعت تضحياتهم"، على الرغم من صدقها وحقيقتها، أن يفيدوا من تلك التجربة القاسية، أن يتلمسّوا مكامن الضعف أو الخلل التي أقصتهم عن القاعدة الشعبية، أو جعلت نشاطاتهم وحراكهم السياسي مثل الحفر على الرمال، لم تترك أثرًا في الوعي الشعبي، وإلا لماذا كان التحول الباكر في عمر الثورة إلى الأسلمة؟ ابتداءً من أسماء الجمعات أيام التظاهرات الشعبية، مرورًا بأسماء الكتائب التي ظهرت باكرًا بعد التحوّل إلى العسكرة، ثم إلى ما آلت إليه الأوضاع بسيطرة عسكرية وسياسية على الصراع؟ هذا لا يعني إغفال الأسباب الأخرى، والتي في مقدمتها الرد الباكر للنظام بالعنف على التظاهرات السلمية، ودخول أطرافٍ مساندة له، وأخرى داعمة للفصائل المعارضة، كلها سعت إلى تحويل الحراك الشعبي الطامح إلى الديمقراطية إلى عنف مسلح بدوافع طائفية، كذلك السعي الخارجي إلى أسلمة الثورة.
العنف غير المسبوق، والشراسة التي أديرت بها الحرب السورية، والأثمان الباهظة على الصعيد الإنساني التي دفعها الشعب السوري، لا بد أنها تركت براكين في الصدور على أهبة الانفجار، وهذه النيران التي تحرق الصدور، من الصعب أن تترك الوعي سليمًا من لسعتها.
كيف يمكن الإمساك بيد الشعب لإرشاده إلى طريق الدين الشعبي الإيماني، بطقوسه التي مارسها عقوداً، تشاركت فيها كل مكونات الشعب الدينية والمذهبية، كيف يمكن استئصال الشكل الإسلاموي الذي فرضته الحرب على الشعب السوري، المرتبط بالإسلام السياسي، بأطيافه المتدرّجة من العنيف إلى الأكثر عنفًا؟
ليس فقط الإسلام السياسي، بمفهومه الخاص المرتبط بالتنظيمات الإسلامية، بل الدين السياسي الذي خلّفته الحرب، صارت غالبية المكونات السورية المنتمية إلى طوائف ومذاهب متنوعة ومختلفة تمارس الدين بطريقة متعصبةٍ إقصائية، وصار التديّن أبعد ما يكون عن الإيمان، ارتبط بالصراع الوجودي المسيّس، وصار اللوثة الأخطر في وعي الغالبية. لا يمكن لوم البشر المكلومين المنكوبين المهجّرين المطرودين المشرّدين المهدّدين بوجودهم على تردّي وعيهم الوطني، فالوطن هو الأمان، أمان الحياة، هو الملجأ هروبًا من الموت، والزلزال السوري أسّس للموت الجبان المتغوّل الذي هان ورخص على الضمير العالمي.
مثلما كان هناك افتراق بالإكراه والعنف والبطش من جهة، وبعثرات التجربة من جهة أخرى في نضالات العلمانيين والديمقراطيين واليساريين قبل الحراك، كان افتراق بين المعارضة ومتطلبات الشعب الثائر. انفصال القوى العلمانية والديمقراطية عن القاعدة الشعبية، في لحظات معاناتها من الظلم والقمع، وبعدها العنف والقتل، ترك الشارع للتنظيمات الإسلامية، فأحلّت الدين السياسي محل الدين الشعبي، وصارت المهمة أصعب. إنها المهمة الأكثر احتياجًا لها، إذا أرادت القوى المنوط بها الأخذ بيد الشعب إلى بداية الدرب الذي يؤدي إلى بناء صحيح لوطنٍ دفع الشعب السوري أثمانه باهظة، ليست مسؤولية النخب العلمانية المعارضة فقط، بل النخب المصنّفة موالية، أو التي صمتت تحت ظل خيبتها. إنه استحقاق الوطن والمواطنة.