الأسد في روسيا مرة أخرى. وبلاده أمام منعطف حاسم جديد. لم تختلف ترتيبات الزيارة كثيراً عن سابقتها قبل عامين. إذ نقل الرئيس السوري في شكل مفاجئ ليلاً ومن دون مرافقين، إلى سوتشي على متن طائرة عسكرية روسية. وأدخل وحيداً إلى قاعة لم يرفع فيها علم دولة الضيف. على رغم ذلك، وبعيداً من الشكليات البروتوكولية التي لم تعد موسكو توليها أهتماماً وهي تتعامل مع الرئيس السوري، فإن توقيت الزيارة ومجرياتها عكست توجهاً روسياً لوضع اللمسات الأخيرة على الجهود المبذولة حالياً لطي صفحة العملية العسكرية في سورية وإطلاق المسار السياسي.
في زيارته السابقة قبل عامين وضع الأسد أمام خيار صعب. التدخل الروسي لإنقاذ «السلطة الشرعية» ثمنه ترتيبات واسعة لوجود عسكري روسي دائم في سورية.
إضافة إلى أن موسكو أرادت فرض رؤيتها الخاصة لمسار الصراع الميداني. حتى لو تعارض أحياناً، كما ظهر لاحقاً في أكثر من موقع، مع خطط النظام والحليف الإيراني.
وعلى رغم أن العملية العسكرية الروسية أنجزت «غالبية أهدافها» في سورية وفق الكرملين، فإن الأسد بدا في زيارته الثانية أمام خيارات صعبة أيضاً. وعبارات الشكر التي ردّدها خلال لقائه «الجنرالات الذين أنقذوا سورية» لا تغطّي حقيقة انحسار نفوذه ودرجة تأثيره في تطورات الأحداث إلى أضيق مساحة منذ اندلاع الأزمة في سورية، إلى درجة أن تعليقات الخبراء ووسائل الإعلام الروسية قلما تذكر اسم الرئيس السوري عند الإشارة إلى «المنتصرين».
وتوقيت ترتيب الزيارة عشية القمة الحاسمة لرؤساء البلدان الضامنة وقف النار في سورية، عكس استعجال موسكو رسم ملامح المرحلة المقبلة التي سيكون عنوانها الأساسي الإعلان عن انتهاء الجزء النشط من العمليات العسكرية في سورية والانتقال إلى مسار سياسي.
المطلوب من الأسد إعلان موقف واضح يؤيد الترتيبات الروسية لعقد مؤتمر الحوار السوري، ويؤكد الاستعداد للتعامل في شكل إيجابي مع نتائجه. وهذا يوفر لموسكو مساحة أوسع للتأثير في إيران باعتبارها الطرف القادر على وضع عراقيل أمام التوجه الروسي.
في المقابل، لا تمانع موسكو في تقديم ضمانات بتقليص تأثير «اللاعبين الخارجيين» في مسار المفاوضات السورية- السورية. كما أنها ستواصل الضغط لتأجيل طرح ملف مصير الأسد خلال المرحلة الانتقالية.
والاستعجال الروسي لدفع الترتيبات المقبلة على رغم التعقيدات الكبرى التي تواجهها له أسباب داخلية ضاغطة. إذ يحتاج الكرملين بشدة وهو يستعد لإطلاق حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى الإعلان قبل حلول نهاية العام عن نصر حاسم على الاٍرهاب، وتقديم إنجازات كبرى تبرّر للناخب الروسي قرار التدخل في سورية.
لكن العقبات التي تسعى موسكو إلى تجاوزها وهي تضع ترتيبات المرحلة المقبلة، لا تقتصر على ضمان انخراط النظام في المسار المرسوم، إذ تبدو المهمة الأصعب الحفاظ على توازن العلاقات مع الشريكين التركي والإيراني. كما أن غياب التنسيق مع واشنطن يزيد من تعقيدات المسار الروسي للتسوية. ناهيك بغموض الفكرة التي تسعى موسكو إلى تثبيتها حول «تكامل» مسارَي جنيف وسوتشي. بهذا المعنى، فإن الطرف السوري بمكوّنَيه الموالي والمعارض بات الحلقة الأسهل في المعادلة الروسية مهما بدت هذه العبارة غريبة. إذ لم تخفِ روسيا وهي تستقبل الأسد بهذه الطريقة وهذا التوقيت، ارتياحها لما وصفته: ابتعاد «العناصر المتشدّدة» في المعارضة السورية عن تشكيلة الوفد المفاوض. المعضلة التي تواجه موسكو باتت تقتصر وفقاً لقناعة نخب روسية على آليات إدارة توازنات المرحلة المقبلة مع الأطراف الإقليمية والدولية.
في الشكل تبدو تركيا وروسيا وإيران في تحالف واحد، لعل الهدف منه هو كيفية إبعاد الولايات المتحدة عن الأزمة السورية عبر مسار إقليمي، انطلق من آستانة على أن يتوج في سوتشي، لكن في الجوهر ثمة تناقضات عميقة في رؤية كل طرف إزاء مستقبل الصراع في سورية، ولعل هذا التناقض استدعى قمة سوتشي ومن ثم مؤتمر سوتشي (للحوار الوطني السوري) لتحديد أدوار كل طرف في مرحلة ما بعد «داعش» وشكل الحل السياسي.
في تطلع موسكو إلى هندسة الحل السياسي تواجه عقبة كبيرة بعد دعوتها حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي لحضور مؤتمر سوتشي، إذ أظهرت هذه الدعوة خلافاً روسياً – تركياً، على شكل اختبار حقيقي للعلاقة بينهما، وقد كان لافتاً قبل فترة قول ميخائيل بوغدانوف إن هؤلاء الأكراد مواطنون سوريون وليسوا إتراكاً، وذلك رداً على إعلان تركيا رفضها حضور حزب الاتحاد الذي تصنفه تركيا إرهابياً بوصفه الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، وهو ما فجر جدلاً بين البلدين على شكل تصريحات متبادلة، بين تأكيد تركيا رفضها مشاركة الحزب المذكور في أي مؤتمر دولي وبين تأكيد موسكو على ضرورة أوسع مشاركة في مؤتمر سوتشي بما في ذلك هذا الحزب، ولعل تمسك تركيا بموقفها هذا له علاقة بقدرتها على إفشال هذا المؤتمر أو على الأقل إفراغه من تحقيق هدفه مسبقاً، نظراً إلى تأثيرها القوي على فصائل المعارضة السياسية (الائتلاف) والعسكرية (فصائل الجيش الحر) حيث يشكل حضور هذه الفصائل قيمة أساسية للمؤتمر، وقد أعلنت رفضها حضور المؤتمر بوصفه يعيد إحياء النظام ويجري خارج رعاية الأمم المتحدة ومرجعية جنيف والقرار الدولي رقم 2254.
الجدل الروسي – التركي بشأن مشاركة الأكراد أدى حتى الآن إلى تأجيل مؤتمر سوتشي أكثر من مرة، واللافت هنا هو أن إعلان التأجيل يأتي غالباً من أنقرة وليس من موسكو صاحبة الدعوة إلى عقده، وهو ما يجعل من مشاركة الأكراد عقدة سوتشي خلال القمة الروسية التركية الإيرانية، وبالتالي السؤال عن كيفية حل هذه العقدة.
الثابت أن روسيا وتركيا تشعران بلحظة ذهبية في علاقاتهما، فالأولى تشعر بأهمية استثمار التوتر في العلاقات الأميركية- التركية لإبعاد تركيا عن المنظومة الغربية وجلبها إلى حضن الدب الروسي أولا، وثانياً لأسباب اقتصادية لها علاقة بصفقات النفط والغاز والسلاح وبناء مفاعلات نووية، فيما تركيا المنزعجة جدا من الدعم الأميركي للأكراد في شمال شرق سورية تريد من وراء التقارب مع موسكو توجيه رسالة للغرب بشقيه الأميركي والأوروبي أن لديها خيارات أخرى، وأنها لن تقبل بتهديد أمنها القومي حتى لو اقتضى الأمر انقلاباً على خياراتها التقليدية. في الواقع، إذا كان الدعم الأميركي لأكراد سورية أصبح مساراً صدامياً مع تركيا، فإن الأمر مختلف بالنسبة إلى العامل الروسي، إذ تدرك تركيا ومنذ انقلابها على شعار إسقاط النظام صعوبة أي تحرك من دون أخذ هذا العامل بعين الاعتبار، فعلى الأقل جرت عملية «درع الفرات» في 24 آب (أغسطس) من العام الماضي في هذا الإطار، كما أن العملية التركية المستمرة في إدلب جاءت في إطار تفاهمات آستانة، ولعل هذا المسار يضع نفسه على طاولة سوتشي لحل العقدة الكردية، والسؤال هنا: هل سيكون ثمن موافقة تركيا على مشاركة الأكراد في سوتشي موافقة روسيا على عملية تركية في عفرين لضرب نفوذ حزب الاتحاد الديموقراطي ووحدات حماية الشعب؟ أم أن «القيصر» الروسي يعرف كيف ينزع صولجان السلطان المرفوع في وجه الأكراد؟ ربما لدى «القيصر» الكثير من الحجج لإقناع «السلطان» بذلك، ولعل أهمها أن فك التحالف بين الأكراد والإدارة الأميركية يمر عبر احتضانهم ودفعهم إلى الحوار مع النظام الذي لم تعد أنقرة تطالب بإسقاطه، بل ربما يكون ثمن قفز روسيا فوق مشاركة الأكراد في سوتشي عبر إلغائه مقابل قبول تركيا التعايش مع النظام شرط تهميش الأكراد وربما التحرك معاً ضدهم على غرار ما حصل في كركوك عقب الاستفتاء الكردي.
وإذا كان هناك من توافق روسي– أميركي حول الأزمة السورية، فبالتأكيد هو توافق غير كامل، بل هناك توافقات جزئية، تتفهم واشنطن بعضها، لكن حليفها الاستراتيجي الإسرائيلي لا يستطيع إغماض العين عن العديد منها، لا سيما تلك التي تتعلق بتواجد القوات الإيرانية وقوات حزب الله والميليشيات الطائفية الأخرى، القريبة قليلاً أو بعيداً من حدود الجولان.
فكل ما تسعى إليه روسيا اليوم سواء عبر استراتيجيتها العسكرية أو عبر تسويتها السياسية، أو بناء توافقات وتوازنات جديدة إقليمياً ودولياً، لا يتعدى تلك المحاولة المحمومة لإعادة إنتاج نظام الأسد مرة أخرى، والاحتفاظ به ذخراً لروسيا البوتينية وهي تستعيد بعض مجد غابر، في زمن يغادر فيه الأميركيون مواقع عظمتهم الامبراطورية فعلياً، مستبدلين إياها بنوع من جنون العظمة.
على أن غياب الثقة المتبادلة بين روسيا والمعارضة السورية، ستبقى تطرح العديد من علامات الاستفهام، وتعمق من شروخ التسوية الممكنة، المتنقلة بين استانة وسوتشي وجنيف، حتى أن مؤتمر الحوار الوطني الذي سوف يكون بديلا لـ «مؤتمر الشعوب السورية» الذي طرحته موسكو وتراجعت عنه قبلاً، لن يكون من اليسير انعقاده في ظل الخلافات والتباينات القائمة بين أطراف المعارضة نفسها، وبين الأطراف الراعية الإقليمية والدولية، طالما أن مهمة التسوية الروسية تناور في اتجاهات تعيد انتاج وترسيخ سلطة النظام الأسدي، وكأن شيئا لم يكن منذ سنوات الأزمة الأولى، سوى القتل المجاني من دون حساب أو عقاب.
من جنيف إلى سوتشي، تستمر المعارضات على حالها، ويستمر النظام في ظل حماته وداعميه على حال التواكل من قبل حلفائه لضمان استمراره وتواصل استبداده، وذلك خدمة لمصالحهم ولمصالحه في النهاية، فيما يستمر حال الانقسام الإقليمي والدولي، بانحياز كل طرف لمصالحه الخاصة، بعيداً من مصالح الآخرين، بينما التسوية الروسية تحاول التوصل إلى منطقة في الوسط تتيح لكل الأطراف الاجتماع تحت الخيمة الروسية، فهل تستطيع موسكو جمع الأكراد وتركيا والنظام وبعض المعارضة، وهل يمكن للإسرائيليين بلوغ الرضا عما يسعى إليه الروس من إبقاء شراكتهم مع الإيرانيين وميليشياتهم الطائفية قريباً من الجولان وفي سورية عموماً؟ وإلى أي حد يستمر التنسيق الروسي – الأميركي في تجاهل المطالب الإسرائيلية؟ وما مدى تأثير كل ذلك على تسوية الأزمة السورية بترتيباتها الروسية؟
هذا هو مربط الفرس، فهل يستطيع اجتماع قمة سوتشي أن ينجح في تفعيل مفاوضات مباشرة وفعلية بين النظام والمعارضة السورية، وبالتالي تقديم العون اللازم للتسوية الروسية التي تحاولها موسكو، في غياب العديد من قوى المعارضة السياسية، فهل تنجح؟
منذ البداية، أي منذ انطلاق الثورة السورية (آذار/ مارس 2011)، وعلى مدار ستة أعوام، شهد الصراع السوري تغيّرات، أو منعطفات عديدة، كان لكل واحدة منها سماتها وأدواتها وخطاباتها وتداعياتها الخاصّة، سيما أن الحديث يدور عن ثورة عفوية، وعن افتقاد السوريين كيانات سياسية جمعية، أو تجارب كفاحية سابقة، وعن واقع شديد التعقيد ومفتوح على مصراعيه على التدخلات الخارجية.
في هذا الإطار قد يمكن تعيين تحولات الصراع السوري بعديد من النقلات، التي تجسّدت: أولاً في التحوّل من الثورة الشعبية السلميّة ضد النظام، في الأشهر الأولى، ضمن معادلة شعب أو أغلبية الشعب ضد النظام، إلى حصر الصراع في المواجهات المسلحة، التي يتحمّل النظام مسؤوليتها بسبب إصراره على الحل العسكري، وإدخاله قوى خارجية (ميليشيا «حزب الله») في هذا الصراع، خاصة منذ صيف 2012. ثانياً، بدخول قوى أخرى، وخلق طبقات، ومعادلات أخرى للصراع، نتيجة بروز تنظيمات إرهابية، وذات أجندة خارجية تختلف عن أجندة الثورة السورية المتعلقة بالحرية والمواطنة والديموقراطية، مثل «داعش» و «جبهة النصرة» وأخواتهما من جهة، وقوات «الحرس الثوري» الإيراني و «حزب الله» اللبناني وألوية زينبيون وفاطميون ونجباء وعصائب الحق وأبو الفضل العباس وغيرها من ميليشيات طائفية ومذهبية عراقية وباكستانية وأفغانية من جهة أخرى. ففي خضم هذه المرحلة، التي تجسّدت منذ صيف العام 2014، تمت إزاحة أهداف الثورة جانباً، وتغليب الصراع العسكري، واضفاء طابع طائفي وديني على الصراع الدائر، بحيث نجم عن كل ذلك تشريد ملايين السوريين وتدمير عمرانهم. ثالثاً، بدخول روسيا مباشرة كطرف فاعل في الصراع العسكري في سورية (أيلول/ سبتمبر 2015)، الأمر الذي ساهم بمنع انهيار النظام وتعويمه، وتمييع مفاوضات جنيف، وكما شهدنا فإن هذا الوضع أدى، أيضاً، إلى تغير معادلات الصراع السوري، بإعادة تموضع القوى فيه، وهو ما تمثل بتوافق روسيا وإيران وتركيا على مسار آستانة وعلى خطة «المناطق المنخفضة التصعيد»، بدءاً من مطلع العام الحالي.
وربما أننا الآن إزاء المرحلة الرابعة من الصراع السوري، مع هزيمة «داعش» والمنظمات الإرهابية في سوريا (والعراق)، ومع التحول التركي نحو إيجاد توافقات مع روسيا وإيران بخصوص المسألة السورية، وهذا ما قد تفصح عنه نتائج القمة الثلاثية المرتقبة غداً (22 الشهر)، في سوتشي، والتي دعا إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسيشارك فيها الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني.
على ذلك، وبعد كل هذه التجربة، وكل هذه التحولات، قد يجدر التنويه هنا إلى بروز مسألتين: أولاهما، أن الوضع الصراعي في سورية لم يعد يشتغل وفق معادلة ثورة في مواجهة نظام، إذ باتت ثمة طبقات أخرى في الصراع. فحتى مع إزالة الطبقة المتعلقة بالصراع ضد القوى الإرهابية ثمة الطبقة الأخرى المتعلقة بالصراعات الدولية والإقليمية على سورية، التي باتت هي المقررة في مآلات الصراع الدائر، بحكم ضعف الثورة السورية، وغياب بعدها الشعبي (بعد تشرد الملايين)، وبواقع ارتهان أو اعتماد معظم كيانات المعارضة السياسية والعسكرية على الأطراف الخارجية. وثانيتهما، تغيّر تموضع الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في هذا الصراع، وخاصة التحوّل الرئيس، والمؤثر على المعارضة، وعلى مستوياتها، والمتمثل بانتقال تركيا من التخاصم أو التنافس إلى التوافق أو التنسيق مع كل من روسيا وإيران، سيما بعد أن أضحت المسألة الكردية هي الشغل الشاغل لتركيا، وليس دعم ثورة السوريين أو دعم المعارضة لإسقاط نظام الأسد، لأسباب رؤيتها لذاتها ومكانتها ومصالحها وأمنها.
القصد أن ما قبل التوافق الروسي- التركي- الإيراني، الذي قد يترتب في قمة سوتشي، ليس كما بعده، مع معرفتنا بمدى التأثير التركي على الثورة السورية، وعلى طابعها وأشكال عملها وتموضع كياناتها. والقصد أيضاً أن أوساط المعارضة السورية، بكياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، وبغض النظر عن العواطف والرغبات، معنيّة بعدم تجاهل المتغيرين المذكورين، أو الاستهانة بتأثيراتهما، بل إنها معنية بالتصرّف على أساس إدراكها لهما، مع محاولة إيجاد التقاطعات، وبناء المعادلات التي تخفف من وطأتهما عليها، باعتبار أنها معنية أساساً بتحقيق تطلعات الشعب السوري، وليس بأي اعتبارات أخرى لا تفضي إلى ذلك.
والفكرة هنا أن المعارضة السورية باتت إزاء وضع جديد ومعقد وحرج، فإما أن تراجع تجربتها، وتدرس التحولات الحاصلة فيها، بطريقة نقدية، لتأهيل ذاتها، وتطوير أوضاعها، ما يمكنها من تدارك ما يحصل، وهو ما لم تقم به حتى الآن. وإما أنها ستجد نفسها مضطرة، بإرادتها، أو رغماً عنها، للتكيف مع الواقع الجديد، ومسايرته، وهو ما حصل في تجربة سابقة، في رفض مسار آستانة ثم القبول به (لمن يتذكر)، وبالتالي المساهمة في إضعاف مسار مفاوضات جنيف (المتأسس على بيان جنيف -1)، وهو ما يخشى أن يتكرر مع مسار سوتشي في قادم الأيام، ما يعني الانزياح عن أهداف الثورة، وتقويض مكانة المعارضة، والتحول إلى مجرد أداة في لعبة إقليمية.
في الغضون يفترض الانتباه أيضاً، إلى أننا إزاء إعادات تموضع لمختلف الأطراف المنخرطة، أو المتورطة في الصراع السوري. فمثلاً، هذه روسيا التي باتت تتصرف وكأنها صاحبة الربط والحل في هذا الصراع، وفقاً لاعتقادها أنها هي التي أنقذت النظام من السقوط، وهي في ذلك باتت تنافس إيران على هذا الموقع، فبعد أن كانت تتوسل التوافق مع الولايات المتحدة، على الأقل في ما يتعلق بخفض التصعيد في جنوب غرب سورية (بالتوافق مع إسرائيل أيضاً)، فإذا بها تعلن تنصّلها من هكذا توافق، بل واعتبار الوجود الأميركي في سورية غير شرعي. وقد شهدنا تبعات ذلك في ثلاثة فيتوات روسية في مجلس الأمن في غضون شهر واحد، بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية، وفي دعوة روسيا إلى مؤتمر «شعوب سورية» أو مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، في محاولة لخلق بديل عن مسار التفاوض في جنيف، وكتتويج لمكانة روسيا الجديدة في سورية.
في المقابل، فإن الولايات المتحدة الأميركية، التي استثمرت في التورط الروسي والإيراني والتركي في سورية، تبدو وكأنها أقرب إلى وضع استراتيجية جديدة لها، الأمر الذي يتضح في استهدافها إيران، إن عبر التبرم من الاتفاق النووي معها، أو عبر الشروع في وضع قوات «الحرس الثوري» الإيراني والميلشيات التي تتبع به في قائمة الإرهاب، كما يتضح ذلك في تصريح وزير الدفاع الأميركي ماتيس الذي اعتبر أن الوجود الأميركي في سورية سيبقى حتى بعد انتهاء الحرب على الإرهاب («داعش»)، بانتظار تحقيق التسوية السياسية وفق مسار جنيف (وليس غيره)، كما يتمثل ذلك بوضع الولايات المتحدة خطوطاً حمراً لمنع اقتراب قوات إيرانية أو قوات حليفة لها نحو الجنوب أو نحو الشرق مع الحدود العراقية، كما يأتي ذلك ضمن المحاولات الأميركية لإضعاف النفوذ التركي في الصراع السوري.
وبديهي أن إعادة التموضع هذه تشمل تركيا، أيضاً، العضو في الحلف الأطلسي، وهو ما يظهر في تضعضع الثقة بينها وبين الولايات المتحدة، وفي محاباة هذه الأخيرة لـ «قوات سورية الديموقراطية»، التي يديرها حزب الاتحاد الوطني الديمقراطي (الكردي) ، والذي يعتبر عند تركيا امتداداً لحزب العمال الكردي (التركي)، والذي تتعامل معه كمنظمة إرهابية، كما أن التموضع التركي الجديد محاولة لإيجاد مقاربات سياسية للمسألة السورية مع روسيا وإيران. أما في ما يخص إيران فإن إعادة تموضعها في الصراع السوري يظل ثابتاً بالقياس لغيرها، باستثناء شعورها بالتنافس مع الوجود الروسي، وهذا يشمل محاولاتها خلق توافقات مع تركيا في الشأن السوري. ويستنتج من ذلك أن إعادة التموضع، الأكثر تأثيراً ربما في الصراع السوري، تتعلق بتحول تركيا نحو التوافق مع كل من روسيا وإيران، أي الدولتين الضليعتين في وأد الثورة السورية، وقتل الشعب السوري وتدمير عمرانه، من منظور رؤيتها لأمنها القومي، وبحسابات تخوفها أو ريبتها من تبعات الموقف الأميركي في الصراع السوري (والعراقي).
قصارى القول، أن الصراع السوري يدخل مرحلة جديدة، وفي تعقيدات مغايرة، من أهم علاماتها التوافق الروسي الإيراني التركي، وهو وضع لا بد سيفضي إلى تغيرات كثيرة، وإلى طرح تحديات غير مسبوقة على المعارضة والثورة السوريتين.
كان الله في عون السوريين...
ثمة شيء لم يُتنبه له في العاصفة السياسية التي تضرب لبنان هذه الأيام، والمتمثلة باستقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري من الرياض، ثم مغادرته إلى فرنسا ونيته العودة إلى لبنان في عيد الاستقلال. هذا الشيء هو انعدام تأثير النظام في سورية في هذا الحدث اللبناني والإقليمي. سورية هي أحد موضوعات الاستقالة، وأحد شروطها وظروفها، والنظام السوري هو أحد العوامل الدافعة إليها، إلا أن ذلك لا يعني أنه مؤثر فيها. أما القول إن طهران هي تقوم بالمهمة عنه، فلم يعد يخفى على أحد عدم صحته، ذاك أنها تقوم بالمهمة عن نفسها فقط، وهو أيضاً ما تقوم به في سورية أيضاً. لقد صار من الواضح أن الشرط الإيراني في الحرب السورية يتقدم في حساب طهران الشرط السوري، ويبدو أن ذلك يتم على كل المستويات، وصولاً إلى نوع الحضور «الثقافي» والمذهبي لإيران في سورية، وأكثر ما دل على ذلك عجز نظام البعث عن الحد من الحضور الطقسي الشيعي في شوارع دمشق خلال مناسبات عاشوراء والزيارة الأربعينية، وما ترافق مع هذه المناسبات من رغبة إيرانيه في الإمساك بالمشهد في دمشق.
النظام في سورية عديم التأثير في الحدث اللبناني الراهن. والقول إن «حزب الله» يمثله في التفاوض حول مستقبل الحكومة لم يعد دقيقاً على الإطلاق، بل إن علاقة النظام بأركان في السلطة اللبنانية مثل رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، لا يمكن تحويلها تأثيراً في الحدث. فالأرجح أن عون وبري إذ يديران التوتر والتفاوض تتقدم في حساباتهما الشروط الإيرانية، ولا يلوح شرط النظام بصفته حداً من حدود المشهد. وإذا كان من حضور للحساب السوري في الواقع اللبناني، وهو قتال «حزب الله» في سورية دفاعاً عن النظام فيها، فهذا يُعزّز فكرة انعدام تأثير النظام في هذا الحدث، ذاك أن لبنان، أو قواه الإقليمية، هي من صار لاعباً في مستقبل النظام، وليس العكس. لا يشمل هذا الاستنتاج سورية كبلد، ذاك أن لبنان ليس بحجم الحدث السوري، إلا أن النظام فيها تقلص إلى حد يمكن فيه رصد انعدام حضوره في الحدث اللبناني.
سورية بهذا المعنى وبصفتها حدثاً ومسرحاً صارت أكبر من نظام بشار الأسد. ليس الحدث اللبناني قرينة هذا الاستنتاج الوحيدة، فمشهد شوارع دمشق تجوبها المجالس العاشورائية التي ندبت الحسين باللغة الفارسية علامة أخرى على عجز النظام على ضبط النفوذ الإيراني فيه. وخريطة انتشار «حزب الله» في سورية أيضاً تحددها الحاجة الإيرانية، لا حاجات النظام الدفاعية والهجومية، وإذا كان من ضابط لهذه المعادلة فهو روسي وليس سورياً.
لكن انعدام قدرة النظام على التأثير في الحدث اللبناني يطرح تساؤلات أخرى. فهذا النظام نشأ بصفته قوة إقليمية، وهو ضبط التناقضات الداخلية السورية بعنف من خلال الوظيفة الإقليمية التي طرحها على نفسه. لبنان كان جزءاً من استقراره الداخلي كنظام، مثلما كان «العدو الإسرائيلي» أيضاً. واليوم إذ يبدو عاجزاً عن لعب دور في حدث لبناني، فهذا يعني أنه عاجز في سورية أيضاً، وأن من يدير الدفة في دمشق، وإن كان هو نفسه من يديرها في بيروت، إلا أنه هذه المرة ليس بشار الأسد، إنما قاسم سليماني.
النظام في سورية هُزم. ليست الثورة من هزمه، فالأخيرة هُزمت أيضاً. البحث عن هوية المنتصر وسط هذه الهزائم لا تتوافر شروطه في هذه اللحظة، فبين موسكو وطهران تلوح عواصم أخرى، واشنطن واحدة منها إذا ما وقعت المواجهة، وتل أبيب ليست بعيدة أيضاً. لكن الأكيد أن انكفاء نظام الرئيس بشار الأسد عن الحدث اللبناني يؤشر إلى أن هذا النظام يحتضر وأنه لم يعد يستطيع القيام بالمهمة المؤسسة لوجوده.
لو أن فكرة ادعاء احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية عُرضت على إبليس كسيناريو يتم من خلاله إلهاء اللبنانيين عن مضمون استقالته، فإنه -أي الشيطان- لم يكن «ليقبل بها»، وأظن أنه كان سينظر إلى صاحبها بشيء من الازدراء والاستغراب من التجرؤ ولو بالمزايدة على علاقة السعودية بالحريري، والعكس. إلا أن خبراً ملفقاً كهذا أخذ في الواقع حيزاً كبيراً من الزخم السياسي والإعلامي خلال الأيام الماضية، بعد أن استغلت فئة ترتيب السعوديين بيتهم الداخلي لتضرب ضربتها التي لم تكن في الحسبان، متخذة من تلك العلاقة الممتدة، بتاريخيتها ورمزيتها، ذريعة لوصم السعودية بالمراوغة، الشيء الوحيد الذي يعلم حتى «ألد» أعدائها بأنها لا تجيده، فلا أتصور أن الإيرانيين -على سبيل المثال- وهم يستمعون لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حين قال: «سننقل المعركة إلى أرضهم»، أنهم فهموا شيئاً آخر، سوى أن السعودية عاقدة العزم على دحر مشروعهم وفي عقر دارهم.
بالعودة إلى الرئيس الحريري، الذي كان يشير في خطابه إلى لبنان، فيما كان هناك من ينظر إلى يده بحثاً عن ساعته! فإنني شخصياً لا ألومه عندما بكى في لقائه التلفزيوني، فالذي «سُلب» من لبنان هو الحكمة، والعقل، وذلك أكبر من محاولات التعافي التي سعى إليها الحالمون. لذلك، فإن السياسة السعودية الحالية تجاه لبنان تبدو واقعية جداً بالنظر إلى منحنى الأحداث التصاعدي، الذي دعا السعوديين إلى أن يقرروا أخيراً رفع أيديهم بشكل كامل عن الذي لم يعد يسبب «وجع راس»، بل تعدى إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. لبنان اليوم أصبح مبضعاً في غرفة جراحة إيران التي تقطّع جسد الدول العربية! لقد حوّل الإيرانيون تلك الشمعة التي كانت تضيء عتمة المنطقة برمتها إلى مكب للأحقاد، بإشراف مباشر من «حصان طروادة» أو «حزب الله» الذي استطاع الهرب إلى الأمام عبر نافذة الفهلوة السياسية التي يجيدها، فلم يبدُ مضطراً للإجابة عن دوافع استقالة الحريري، وأهمها أن الدولة تم اختطافها بسلاح الحزب الإرهابي الجاثم على صدر لبنان.
إن محاولات شيطنة السعودية التي يتبنّاها لبنان الرسمي هذه الأيام، لن تضرها في شيء، والأزمة القطرية خير شاهد، لكنها نكأت جرح الجحود العميق، الذي سعى السعوديون على مدار تاريخ العلاقة التي تربطهم بلبنان إلى تضميده، على رغم مدلولاته المهمة، وأبرزها أن النيات الحسنة لا مكان لها بين ألاعيب السياسة والمصالح الضيقة.
مثّلت استقالة الرئيس سعد الحريري طوق نجاة للسياسيين اللبنانيين، لو أنهم تعاملوا معها بعيداً من حظوظ النفس، التي من الواضح أنها تأتي عند أولئك في مرتبة أعلى من مرتبة لبنان، بلدهم! لقد أرادها الحريري أزمة انعتاق للبنان من طغيان «حزب الله»، وأدارها رسميو الدولة بعيداً من المسؤولية وفي شكل أزمة احتجاز، قبل أن يُسقط في أيديهم، عندما طار الحريري بملفات لبنان المثخنة إلى العالم أخيراً، بحثاً عن «التسوية» بمفهومه هو، وبدعم مباشر من السعودية، نحو لبنان جديد، منزوع المخالب الإيرانية.
اختلفت تقديرات المحللين والمعلقين حول الهدف من دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى عقد قمة تجمعه إلى نظيريه التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني في مدينة سوتشي على البحر الأسود يوم الأربعاء في 22 الجاري. ففي حين ذهبت تقديرات إلى القول إن الهدف من عقدها هو تطمين تركيا وإيران بعد صدور البيان الرئاسي الأميركي الروسي الذي لم يأت على ذكر دوريهما على الساحة السورية، ما يعني أن وجودهما هناك غير مرغوب فيه، عبر مناقشة الملف السوري معهما على الصعيدين الميداني والسياسي، واعتبار ذلك خير دليل على الاعتراف بدورهما ومتانة التنسيق الثلاثي ورسوخه، ذهبت تقديرات أخرى إلى أن الهدف من عقدها تعزيز الموقف الروسي في مواجهة التوجهات الأميركية الجديدة على الساحة السورية، التي عكستها إشارات عدة عبرت عن رغبة واشنطن في لعب دور وازن على الساحة السورية، عبر حصر الحل بمسار جنيف للمفاوضات، والإعلان عن بقاء قواتها هناك حتى يتحقق السلام، واقتراح آلية للحل تبدأ بنزع السلاح منطقة فمنطقة كي يسود الأمن والاستقرار، وفق إعلان وزير الدفاع الأميركي، عبر الاستقواء بهذه القمة ونتائجها.
لكن، وبغض النظر عن الهدف الحقيقي للدعوة إلى عقد هذه القمة، فإن مشكلتها ونقطة ضعفها ليست في طبيعة الهدف الكامن وراء الدعوة إلى عقدها بل في ضعف فرص الاتفاق على نتائج قوية وصلبة في ضوء الخلافات العميقة التي تخترق التفاهم الظاهر وتجوفه، والتي عكستها المواقف المعلنة للأطراف الثلاثة. موسكو، صاحبة الدعوة، القوة الرئيسة في الميدان، والموجه الفعلي لمسار آستانة، تناقش الوضع على الساحة السورية مع شريكيها وعينها على واشنطن، حيث الهدف الإستراتيجي إقناع الأخيرة بالقبول بروسيا دولة عظمى شريكة في إدارة الملفات الإقليمية والدولية، وهذا يدفعها إلى التعاطي مع شريكتيها بذرائعية وانتهازية فجة، تستخدمهما في ساحة المساومة مع واشنطن وتعمل على تحجيم دوريهما وتقليص حصتيهما من الكعكة السورية، إن لم يكن إخراجهما خاليي اليدين منها، لذا اتفقت مع واشنطن على إبعاد القوات الأجنبية، الإيرانية تحديداً، عن جنوب غربي سورية، وأنكرت ذلك عندما أعلنت واشنطن فحوى الاتفاق. اتفقت مع تركيا على خطة خفض التصعيد في محافظة إدلب وتصرّ على دعوة حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي) إلى مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، يوم 2 كانون الأول (ديسمبر) المقبل وفق وكالة سبوتنيك، وهي تعلم أنها خطوة مرفوضة تركياً، وإن تركيا قد ارتضت تحمّل تبعات الانتشار في محافظة إدلب لأنها تمنحها فرصة تطويق قوات حماية الشعب في عفرين. تريد منهما موقفاً قوياً ضد الانتشار العسكري الأميركي على الساحة السورية، وهذا مغزى مشاركة رؤساء الأركان في الدول الثلاث في القمة، كي تصبح القوة الرئيسة والمقرر فيها.
تركيا بدورها تريد استثمار مسايرة شريكيها، وبخاصة روسيا، ولعب دور في موازنة الحضور والدور الأميركي في سورية في الحصول على ضوء أخضر روسي- إيراني في مهاجمة قوات حماية الشعب في عفرين ومنبج، وفق تصريحات الرئيس التركي والناطق باسمه إبراهيم كالين، والضغط عليهما في آن، لذا أشهرت في وجهيهما أوراقاً قوية بالدعوة إلى خروج كل القوات الأجنبية من سورية، وتحفظها على طبيعة دوريهما على الساحة السورية، قال الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين: «إن كلاً من موسكو وطهران تحاربان «داعش» بهدف ضمان بقاء نظام الأسد في الحكم»، و«إنه لا يعد شخصاً قادراً على منح السوريين حكومة ديموقراطية تمثل الجميع»، هذا إضافة إلى عملها على تقليص الهامش أمام روسيا في استثمار القمة عبر الإعلان عن «أنها امتداد لمحادثات آستانة، وليست بديلاً عن محادثات جنيف، ويجب تقييمها بوصفها عنصراً مكملاً لها»، وفق تصريح كالين، وذلك رداً على تلميحات روسية ببحث اعتماد مسار سياسي خاص بالدول الثلاث.
أما إيران، المتوجسة من تفاهم أميركي روسي يحد من دورها على الساحة السورية، تمهيداً لإخراجها منها، فتريد استمرار تنسيقها الميداني مع روسيا للحفاظ على زخم عملياتها العسكرية الذي يوفره الغطاء الجوي الروسي، من جهة، وتريد إضعاف مفاعيل اتفاقات خفض التصعيد، لأنها تضرب توجهها نحو حسم عسكري للصراع، بإطلاق عمليات عسكرية في تخومها أو عمقها، العملية العسكرية الواسعة في المثلث شرق سكة حديد الحجاز والغوطة الشرقية، أو الالتفاف على بنودها عبر تشكيل قوات مقاتلة تعمل تحت إمرتها في هذه المناطق مثل اللواء 313 في درعا، من جهة ثانية، وضرب فرص التفاهم الأميركي الروسي عبر التلويح بشن عملية عسكرية ضد قوات سورية الديموقراطية المدعومة أميركياً في الرقة، من جهة ثالثة، توافق على تحرك تركيا ضد حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي) لأن مشروعه يحد من هيمنتها على سورية، وتلوّح بالقيام بعملية عسكرية في محافظة إدلب وتسابقها على منطقة سنجار، من جهة رابعة، وهذا سيجعل الاتفاق مع شريكي القمة سطحياً وهشاً.
في بعض الأوقات يكون اندهاش المؤسسة الإخبارية، ببساطة، من الأشياء التي لا تخطئ. حصل ذلك قبل يومين عندما نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية وللمرة الأولى إعلان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأن الوجود الإيراني في سوريا "شرعي" جنبا إلى جنب، بطبيعة الحال، مع الوجود الروسي هناك – على النقيض من تواجد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في سوريا، والذي بحسب ما صرح به لافرورف، لا يعتبر شرعيا. أضفى إعلان لافرورف ذاك نوعا من المصداقية على فكرة أن السيناريو المهدد الذي حذر منه المعلقون الإسرائيليون في السنوات الأخيرة بات الآن يتحقق أمام أعيننا على الأرض.
وبذلك يكون المحور الذي يبدأ في إيران وينتهي على ساحل المتوسط في لبنان، والذي تسيطر عليه قوى طالما وصفتها إسرائيل بأنها أعداء شيطانية تسعى لتدميرها – إيران وحزب الله ونظام الأسد وغيرها – قد حصل الآن على ختم شرعية رسمي وعلني من قوة مثل روسيا. يصعب من وجهة النظر الإسرائيلية تخيل سيناريو أسوأ من هذا السيناريو.
يأتي التهديد المباشر والآني من طرف حزب الله. لم تتبدد بعد ذكريات حرب لبنان الثانية التي وقعت في عام 2006. حينها، وعلى مدى ما يزيد على شهر، لم يتمكن عشرات الآلاف من الجنود الإسرائيليين من التغلب على ما يقرب من ألف من مقاتلي حزب الله لمنعهم من الاستمرار في إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل وشل القطاع الشمالي بشكل كامل.
صحيح أن هناك في إسرائيل اليوم من يحاول تصوير تلك الحرب على أنها تكللت بالنجاح، بدليل أن حزب الله منذ ذلك الوقت لم يتحرك ضد إسرائيل عبر الحدود الشمالية، ولكن لا يعرف على وجه التأكيد ما إذا كانت القيادات العسكرية العليا في إسرائيل تعتقد ذلك بالفعل.
إلا أن المؤكد أن حزب الله، خلال ذلك الوقت، أصبح أقوى وأقدر. صرح مؤخراً وزير الإسكان يواف غالانت، الذي كاد أن يصبح رئيسا لهيئة الأركان، بأن حزب الله يمتلك مائة ألف صاروخ جاهزة للإطلاق، وهناك تقديرات أخرى تشير إلى أن العدد وصل إلى مائة وخمسين ألفاً. ما من شك في أن هذا رقم ضخم جدا.
من الواضح أنه حتى لو تمكنت الأنظمة الإسرائيلية المضادة للصواريخ من اعتراض بعضها، فإن كثيراً من هذه الصواريخ، فيما لو نشبت حرب حقيقية، سيصل إلى أهداف حيوية داخل إسرائيل. ويذكر أن حماس، التي تملك عدداً أقل بكثير من الصواريخ وبجودة أدنى بكثير، تمكنت من إغلاق مطار بن غوريون لمدة ثمانية وأربعين ساعة خلال الحرب الأخيرة على غزة في عام 2014. لا يحتاج المرء لأن يكون متشائما حتى يفترض أنه فيما لو نشبت حرب حقيقية مع حزب الله الآن فإن النتيجة ستكون أسوأ بكثير.
عندما تورط زعيم حزب الله حسن نصر الله في القتال في سوريا لإنقاذ نظام الأسد، شعر المحللون الإسرائيليون بالارتياح. كانوا حينها يقولون: دعوه يبلي نفسه بنفسه، حيث أنه بذلك سيخسر مقاتليه ويفقد شعبيته، وبذلك لن يعود مصدر خطر على إسرائيل.
جاهز للحرب
ولكن يبدو اليوم أن النتيجة جاءت معاكسة تماما لما توقعوه أو تمنوه. صحيح أن حزب الله فقد ما يقرب من ألف مقاتل، وخسر بعضاً من الدعم الشعبي الذي كان يتمتع به في مختلف أرجاء العالم العربي حينما كان يقاتل إسرائيل، ولكنه يخرج من الحرب الأهلية السورية قوة عسكرية مجربة وقادرة على شن حرب حقيقية، وليس فقط مجرد قتال من النوع الذي يخوضه الفدائيون.
طفا على السطح قبل شهرين ما يمكن أن يعتبر دليلاً على أن حزب الله يُنظر إليه في إسرائيل على أنه "جيش صغير". وذلك حينما أجرى الجيش الإسرائيلي مناورات عسكرية وصفها بأنها "الأكبر خلال العشرين عاما الماضية"، بحسب ما جاء في وسائل الإعلام الإسرائيلية، بمشاركة عشرات الآلاف من الجنود الذين كانت مهمتهم في تلك المناورات التعامل مع وضع افتراضي ينفذ فيه حزب الله اجتياحاً داخل الأراضي الإسرائيلية سعياً منه لاقتحام بعض البلدات الإسرائيلية.
نقل موقع واي نيت الإخباري عن ضابط إسرائيلي كبير القول بأن إسرائيل لن تسمح أبداً لحزب الله بأن يسيطر على أي أراض داخل إسرائيل. إلا أن مجرد أن يناقش الجيش الإسرائيلي مثل هذا الاحتمال يثبت مدى الجدية التي يتعاملون بها مع التهديد الذي يشكله حزب الله.
إلا أن المشكلة من وجهة النظر الإسرائيلية تكمن في أن ذلك لا يقتصر على حزب الله. فمنذ سنوات، ما فتئت إسرائيل تحذر من أن إيران هي مصدر الخطر الأكبر الذي لا يهدد وجود إسرائيل فحسب وإنما يهدد السلام في العالم بأسره.
هذا هو المنطق الذي اعتمده رئيس الوزراء بنجامين نتنياهو طوال حياته المهنية، بل وحوله إلى حجر الزاوية في سياسة إسرائيل الخارجية وفي سياستها الدفاعية. والآن، وبعد إخفاقه في المحاولات التي بذلها لإفشال أو إبطال الاتفاق النووي مع إيران، يجد نتنياهو نفسه أمام قوات إيرانية تتواجد على مسافة لا تبعد عن حدود مرتفعات الجولان أكثر من خمسة كيلومترات.
مع ذلك، مازال لا يوجد داخل سوريا انتشار ذو بال للقوات العسكرية الإيرانية، ولم ينشئ سلاح الجو الإيراني قواعد له فيها. إلا أن نظرة خاطفة على الخارطة، وخاصة بعد أحدث انتصارات حققتها قوات الأسد في شرق سوريا وبعد سقوط تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل، تظهر خطاً مباشراً يمتد من إيران عبر العراق إلى سوريا ثم إلى لبنان.
لا يفوت معلقو القنوات التلفزيونية الإسرائيلية الفرصة كلما أمكنهم ذلك لاستعراض هذه الخارطة وشرح ما فيها من تهديد. وبدلا من أن يبقى نظرياً ومقتصراً في وجوده على خطابات نتنياهو في الأمم المتحدة، ها قد أصبح التهديد الإيراني واقعاً ملموساً وعلى مرمى حجر.
فشل الصداقة مع بوتين
رأي نتنياهو هذه المشكلة تقترب، ويبدو أنه اعتقد بأنه سينجح في موازنة قوة إيران المتزايدة من خلال روسيا. ولذلك استثمر في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر مما استثمر في أي زعيم آخر في العالم، حيث اجتمع به ما يزيد عن ست مرات خلال العامين المنصرمين.
وعلى الرغم من أن العلاقة الشخصي بين الرجلين قد تكون جيدة، وهذا ما تفاخر به نتنياهو في كل فرصة سانحة، إلا أن ذلك لا قيمة له من الناحية السياسية. لا يملك المرء إلا أن يخمن ما الذي شعر به نتنياهو وهو يسمع وزير الخارجية الروسي يتحدث عن "شرعية" الوجود الإيراني في سوريا. لربما أفضل وصف لذلك هو ما يتولد لديك من شعور حينما يبصق أحدهم في وجهك.
وخلاصة القول هي أن الخيار الذي تواجهه إسرائيل الآن ليس بسيطا. الانطباع السائد هو أن ائتلاف حزب الله وإيران مصدر خطر حقيقي، وحينما تستقر أوضاع نظام الأسد، وكل المعطيات تشير إلى أن ذلك حاصل لا محالة، فسوف يصبح الجيش السوري عاملاً آخر يضاف إلى هذه المعادلة التهديدية. ثم تأتي المظلة الروسية لتعزز من قوة هذا المحور. في هذه الأثناء، يمكن للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يستمر في التغريد عبر تويتر، وبشكل متزايد، حول إيران، إلا أن تهديداته لا أثر لها إطلاقاً في عالم الواقع.
بحسب ما يمليه المنطق البسيط، ينبغي على إسرائيل أن تتصرف الآن، وقبل أن يستمد هذا المحور مزيداً من القوة والتمكين. ما فتئت إسرائيل ترسل إشارات تفيد بأن ذلك بالضبط هو ما تنوي فعله. وكانت تلك هي الرسالة المقصودة من عشرات الهجمات التي نفذها سلاح الجو الإسرائيلي ضد أهداف سورية على مدى العامين الماضيين.
أعلن وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان فقط هذا الخميس بأن إسرائيل لن تسمح لإيران بأن تبقى في سوريا ولن تسمح لسوريا بأن تتحول إلى موقع متقدم ضد إسرائيل. لم يعط ليبرمان تفاصيل حول الآلية التي ستمنع إسرائيل هذه العملية من خلالها، مع أن التهديد باستخدام القوة واضح في كلامه.
فهل إسرائيل على طريق شن حرب ضد حزب الله في لبنان أو ضد القوات الإيرانية في سوريا؟ بناء على ما يرد في التغطية الإخبارية للتلفزيون الإسرائيلي، هذا ما ترغب المملكة العربية السعودية في أن تقوم به إسرائيل، وتلك هي الطريقة التي فسر بها المعلقون الإسرائيليون التهديدات السافرة التي صدرت عن المملكة العربية السعودية ضد حزب الله وضد لبنان بعد "استقالة" سعد الحريري من موقعه كرئيس لوزراء لبنان. فالجيش السعودي، الذي يتكبد الهزيمة في اليمن المجاورة، ليس بإمكانه في الواقع أن يشكل أي تهديد للبنان عن بعد. أما إسرائيل، فبإمكانها أن تفعل ذلك خدمة للسعوديين.
ما يوجد لدينا هنا في الظاهر هو عبارة عن فرصة نادرة: حرب إسرائيلية ضد بلد عربي بدعم كامل ومكشوف من المملكة العربية السعودية، ومن الدول الخليجية وربما أيضاً من مصر.
يندر لمثل هذه الحالة أن تتكرر. في عام 1982، ظن رئيس الوزراء مناحيم بيغن أنه كان يملك الحرية الكاملة في أن يعمل ضد الدول العربية الأخرى كيفما شاء، وكان ذلك أحد الأسباب التي سمحت له بشن حرب على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. أما في الظرف الحالي، فلا يبدو مؤكداً ما إذا كانت إسرائيل على وشك استغلال هذه الفرصة.
مع كل التقدير والاحترام لأهمية العلاقات مع المملكة العربية السعودية، لا تجد في إسرائيل من يتحمس لسفك الدماء خدمة لمصالح ولي العهد محمد بن سلمان. كما أن نتنياهو يدرك جيداً أنه حتى لو لم تكن الحكومة السعودية تأبه في واقع الأمر بالفلسطينيين إلا أن الرأي العام في المملكة العربية السعودية وفي العالم العربي قاطبة لن يسمح للسعوديين بإبرام تحالف وثيق مع إسرائيل دون أن تقدم الأخيرة تنازلات من نوع ما، حتى لو كانت شكلية ورمزية، لصالح القضية الفلسطينية. وبالنظر إلى وضعه السياسي الحالي في إسرائيل، لا يملك نتنياهو دفع مثل ذلك الثمن في الوقت الراهن.
إنهاء السلام
ومن وجهة نظر سياسية، هناك شيء آخر لا يقل أهمية عن ذلك. إن من أبرز إنجازات نتنياهو – فيما يتعلق بالرأي العام الإسرائيلي - الوضع الأمني الهادئ نسبياً الذي تحقق لإسرائيل خلال السنوات الثمان الماضية، أي منذ أن استلم السلطة للمرة الثانية.
ففيما عدا عملية الجرف الواقي في عام 2014، أحجم نتنياهو طوال فترات حكمة على مدى أحد عشر عاماً (بما في ذلك فترته الأولى ما بين عام 1996 وعام 1999)، عن القيام بأي حملات عسكرية واسعة النطاق. ولنقارن ذلك بما فعله سلفه في رئاسة الوزراء، إيهود أولمرت، الذي شن حربين كبيرتين خلال عامين، إحداهما في لبنان عام 2006 والأخرى في غزة عام 2008، وتمخض عنهما مقتل ما يزيد عن 2500 لبناني وفلسطيني وإسرائيلي.
وكما تم التنويه به، من شأن أي مواجهة عسكرية مع حزب الله أن تضر بسجل نتنياهو، وليس فقط لأن حزب الله طور قدراته وعزز من إمكانياته وليس فقط لأنه تمكن من الحصول على عشرات الآلاف من الصواريخ.
وإنما لأن التقديرات في إسرائيل تشير إلى أنه إذا ما هوجم حزب الله في لبنان، فإن رد الفعل لن يأتي فقط من لبنان بل وأيضاً من سوريا حيث يتواجد حزب الله هناك بكثافة. ولعله لهذا السبب لم تعد إسرائيل تتحدث عن "الجبهة اللبنانية" وإنما عن "الجبهة الشمالية"، أي لبنان وسوريا معاً.
إذن، نعود ونكرر التأكيد على أن المعضلة ليست بسيطة. فرغم كل المصاعب والأخطار، تتمتع إسرائيل حاليا بتفوق عسكري واضح على حزب الله، طالما أن الجيش السوري بقيادة الأسد لا يكاد يتواجد هناك، وطالما أن إيران لم تنشئ بعد قواعد لها في سوريا. إلا أن هذا الوضع يمكن أن يتغير خلال العامين أو الثلاثة أعوام القادمة لغير صالح إسرائيل، وبناء عليه فثمة منطق في اغتنام الفرصة والتحرك على المدى القريب.
والعامل الآخر الذي يؤثر في صناعة القرار هو الاحتمال الكبير بأن تنظم انتخابات خلال النصف الأول من عام 2018 بسبب التحقيقات الجنائية التي تجري ضد نتنياهو، الأمر الذي قد يدفعه إلى المجازفة وخوض مواجهة عسكرية، ظنا منه بأن الرأي العام سيتوحد من ورائه وسيدعم الحكومة أثناء الحرب. ومع كل ذلك، ولو كان للمرء أن يخمن، فالأغلب أن إسرائيل ستختار الانتظار، فالمراهنة على الحرب في هذا الوقت بالذات يمكن أن تكون تكاليفه باهظة.
تبرق وترعد إسرائيل، لكن المطر في حالة احتباس. ومرّت فصول كثيرة ما بين صيف وربيع كانت إسرائيل خلالها تضرب مواعيد الحرب القادمة ضد إيران وحزب الله، وكانت في كل مرة توحي بأن الأمر لم يعد يحتمل التأجيل، فالخطر الإيراني صار محدقا، بل إنه بات يقرع أبواب إسرائيل الشمالية.
إسرائيل لم تعد دولة حروب كبيرة. عسكرها ومجتمعها تغيرا كثيراً، وجيل الحروب رحل ولم يبق منه أحد يروي للأجيال الجديدة حماس ذلك الجيل لتوسيع مساحة إسرائيل وإخضاع العرب المجاورين.. حينذاك كان الإسرائيلي يعمل بأكثر من محرك، ديني وقومي واستعماري، ومحرك إثبات تفوق الشعب اليهودي عن غيره، وربما استنساخ تجربة الرجل الأبيض الذي كان يحارب من أجل تحضير الشعوب المتخلفة وتطويرها.
يدفع فائض القوّة، أو فائض الضعف لدى الخصم، إلى ترف البحث عن مبررات لشن الحروب، حيث تصبح المبادرة بحد ذاتها دلالة تفوّق. وعلى العكس من ذلك، يدفع الضعف إلى البحث عن معوقات المبادرة ومبررات القعود وتضخيمها إلى أبعد الحدود، ثم التلطي خلفها بانتظار أن تتغير المعطيات وتنحرف المقادير.
نعم إسرائيل ضعفت، ولم تعد قادرة على حمل أعباء حرب أو الالتزام بالاستحقاقات التي ترتبها. ثمّة أعطاب كثيرة بنيوية أوصلتها إلى هذه المرحلة؛ تبدأ من المتغيرات الإيديولوجية وانخراط المجتمع الإسرائيلي بمجتمع العولمة العالمي وشبكاته المتداخلة واندماجه في هموم وطموحات هذا المجتمع، ولا تنتهي عند المتغيرات الإقليمية والدولية في ساحة الصراع الشرق أوسطية.
ولا يمكن القياس على نشاط إسرائيل، في السنوات السابقة، عبر تنفيذ ضربات هنا وهناك ضد مواقع حزب الله وقوافله، ذلك أن إسرائيل كانت تدرك ان نسبة الأمان تتجاوز نسبة الخطر بكثير، كما أنها كانت تعرف أن تحالف إيران يخوض حربه المقدسة الحقيقة في قتل خصومه الإيديولوجيين في سوريا والعراق. وليس المقصود هنا تنظيم الدولة الإسلامية، بل شعوب سوريا والعراق التي ثارت ضد الأنظمة التي تدعمها إيران. وبكلام أدق: الأنظمة القريبة من العقيدة الدينية لإيران.
ولا يعني ضعف إسرائيل وترددها أن الطرف الخصم بات أكثر قوّة منها. على العكس من ذلك، فجميع الأطراف التي انخرطت في الحرب السورية مستهلكة ومستنزفة إلى حد بعيد، وهي تتجنب أي صدام مع إسرائيل في الوقت الراهن، وربما بعد سنوات، ذلك أن قوتها باتت بحاجة إلى إعادة ترميم طويل المدى لتصبح قادرة على إستيعاب أي هجوم إسرائيلي محتمل وتقليل خسائرها بمواجهته. لكن الفارق أن هذه الأطراف ليست مضطرة لخوض حرب على إسرائيل، وهي تجد البدائل من خلال تعزيز وجودها في سوريا وزيادة هواجس إسرائيل ودفعها إلى وضعية الاستنفار الدائمة. ووفق هذه المعادلة، فإن إسرائيل تصبح خاسرة ومستنزفة فيما وضعيتها الاستراتيجية تتراجع، ومعها تنخفض قوّة ردعها.
لم تخف إسرائيل، سواء عبر تقديراتها الاستراتيجية أو من خلال تحليلات صحفها، هذه الحقائق، وتعرف أن كل يوم زيادة في البقاء ضمن هذه المعادلة هو خسارة كبرى لها، حيث يتم قضم مساحة الأمان التي كانت تمتلكها وتضييقها إلى أبعد الحدود. ويقوم الطرف الآخر (إيران وحزب الله) بهندسة مسرح العمليات السوري بشكل ممنهج وتراكمي، عبر تشكيل ألوية وكتائب جديدة، وبناء خطوط دفاعية وقواعد عسكرية، والتي من الممكن تحوّلها إلى معطيات ثابتة في الجبهات المقابلة لإسرائيل.
ومن الواضح، أن إسرائيل، وبالإضافة للمعوقات الداخلية التي تمنعها من شن حرب لتغيير المعادلة؛ حيث لم تعد الغارات المنفردة كافية لتغيير هذه المعادلة بعد أن وسّع تحالف إيران نشاطاته في سوريا، تراهن أو تنتظر تحقّق أمرين لا يبدوان متاحين في التحليل الواقعي:
تنتظر إسرائيل تحقّق أمرين لا يبدوان متاحين: تكفّل أمريكا باستحقاقات الحرب، دبلوماسيا وعسكريا، والحصول على مكافأة إقليمية من الدول العربية
- تكفّل أمريكا باستحقاقات الحرب، أو الجزء الأكبر منها، دبلوماسيا وعسكريا، وحتى بشريا إن أمكن، عبر المشاركة بألوية عسكرية، وذلك لسد النواقص والثغرات الموجودة في قطاعات الجيش الإسرائيلي، والتي كشفت عنها المناورات الأخيرة، وخاصة قطاع السلاح البري وقوّة الاقتحام. وهذا أمر لا يبدو ممكناً في الظروف الحالية، وفي ظل انشغال أمريكا بأزمات عديدة، وحالة الفوضى التي تضرب نظامها السياسي، فضلا عن المزاج الأمريكي الذي لم يعد يفضل الحروب، وبات يبحث عن أي ذريعة للابتعاد عنها، حتى لو مع خسائر معنوية وسياسية.
- انتظار حصول إسرائيل على مكافأة إقليمية من الدول العربية، كأن يتنازل لها العرب بشكل نهائي عن المطالبة بحقوق الفلسطينيين والاعتراف لها بالسيادة عن الجولان، وهو أمر لا يستطيع أحد من العرب التعاطي معه بالبساطة التي تطرحها إسرائيل. وبالرغم من تحمّس نخب وقطاعات عربية كثيرة لقمع التمدد الإيراني في المنطقة، لكن شرط ألا يكون ثمن ذلك إطلاق يد إسرائيل في المنطقة.
على ذلك، فإن حال المراوحة في المنطقة باقية لأجل طويل، وقد تتكيف جميع الأطراف مع حالة الصراع المضبوط بدرجة كبيرة ولا تنزلق إلى حرب ساخنة، إلا في حال وقوع أحد الأطراف في خطأ تقديري أو حصول حادث خارج عن السيطرة.
حققت إيران انتصارات كثيرة في عدة ساحات عربية، خصوصا منذ عام 2000، الذي سجل انسحابا إسرائيليا من جنوب لبنان بعد عقود من الاحتلال، قبل أن تتصاعد هذه الانتصارات، سواء في مناطق نفوذ تقليدية لطهران مثل لبنان وسوريا والعراق، أو في مناطق باتت محط الاهتمام الإيراني حديثا مثل اليمن، بينما خسر العرب، وعلى رأسهم الدولتان الكبيرتان مصر والسعودية، في هذه المناطق نفوذا تقليديا، فضلا عن الفشل في إقامة علاقات استراتيجية تعمل لصالح العرب، ما يدفع للتساؤل عن أسباب التقدم الإيراني والتراجع العربي في هذا الصراع المستمر بين طهران وجيرانها العرب.
ثمة أسباب كثيرة لهذا الاختلال في موازين "التنافس" العربي الإيراني، ولكننا سنركز على عنوانين أساسيين: الأول هو "مقاربة" السياسة الإيرانية والعربية بالعلاقة مع الغرب، والثاني هو السياسة المتعلقة بالتعامل مع الحلفاء من كلا الطرفين.
سياسة "راديكالية" مقابل سياسة "محافظة"
تبنت طهران منذ "الثورة الإسلامية" عام 1979 سياسة راديكالية أو "ثورية"، كما يطلق عليها في الخطاب الإيراني مع الغرب، ما منحها القدرة على التحرك في حقل ألغام كان ضروريا لتحقيق إنجازات في غالبية الساحات التي نشطت فيها إيران خارجيا. لم تلتزم إيران بحدود الخطوط المرسومة دوليا وأمريكيا، ولعبت دائما على الخط الفاصل بين "العقلانية" و"التهور"، فلم تتماش مع السياسة الأمريكية ولكنها في نفس الوقت مارست "الواقعية" السياسية في بعض المحطات عندما شعرت بأن استمرارها بنفس النهج قد يؤدي إلى مخاطر وجودية كما حصل عند توقيعها اتفاق النووي مع القوى الغربية.
بالمقابل، ارتضت الدول العربية المنافسة بحدود اللعبة الأمريكية، ولم تتزحزح عنها أو تحاول توسيع هوامشها على الأقل، وبالتالي فقدت قدرة المناورة التي امتلكتها إيران.
ويبدو هذا الفرق واضحا في المثال السوري، حيث دخلت إيران بكل قوتها إلى الساحة لدعم حليفها الاستراتيجي نظام بشار الأسد، وقدمت له كل أنواع الدعم المالي والفني والأمني والعسكري سواء عبر الحرس الثوري أو الميليشيات الشيعية من لبنان والعراق وأفغانستان، ولم تتراجع بسبب الموقف الأمريكي أو الغربي المعلن ضد النظام الدموي في دمشق، بينما التزم العرب -وحتى تركيا- بقواعد اللعبة الأمريكية من حيث طبيعة الدعم العسكري والتسليحي للقوات المعارضة، ما أعطى تفوقا جويا مستمرا للنظام على المعارضة طوال وقت الصراع.
وهكذا استطاعت إيران أن تكسب في سوريا، على الرغم من خسارتها لسمعتها لدى غالبية الشعب العربي، لكنها حافظت -بدعم روسي- على بقاء النظام، وذلك "بفضل" تجاوزها للحدود الأمريكية، بينما خسر العرب وتركيا بسبب التزامهم بحدود اللعبة، كما ساهموا عمليا بخسارة حلفائهم من المعارضة لمعظم مواقعهم.
الأمر ذاته ينطبق على لبنان، إذ استطاعت إيران بتبنيها الكامل لحزب الله ماليا وعسكريا أن تجعله الحاكم الفعلي للبلاد، برغم المعارضة الإقليمية والدولية لهذا الدور الإيراني في الساحة اللبنانية، ولكن تفلت طهران من حدود اللعبة الإقليمية واستمرار الدعم العسكري واللجوء لاستخدام سلاح الحزب في محطات معينة مكنها من تبوء هذه المكانة الكبيرة في السياسة اللبنانية. بالمقابل فقد تخلى العرب عن لبنان، واكتفت بعض الدول بالتأثير عبر القوة الناعمة المتمثلة بالدعم المالي المحدود، الذي لا يوازي حجم الدعم الذي يتلقاه حزب الله من طهران.
في هذه الحالة، كان مؤكدا أن القوة العسكرية لحزب الله وقوته المالية ستؤهله للانتصار على كل الخصوم، وستجعله "صانع الملوك" حتى على صعيد المناصب المحسوبة على "السنة" وعلى المسيحيين، وليس فقط على مستوى تشكيلة البرلمان والحكومة.
دعم مستدام للحلفاء مقابل سياسات عربية ملتبسة
لم تخض إيران أي حرب مباشرة بعد حربها المنهكة مع العراق، التي انتهت عام 1988، ومع ذلك فهي تمتلك نفوذا واسعا، أو "تسيطر" بحسب بعض التصريحات الإيرانية المتغطرسة على أربع عواصم عربية: بغداد، وبيروت، ودمشق وصنعاء. ولم يكن هذا النفوذ ليتم دون حرب مباشرة إلا بسبب حلفاء طهران، و"بفضل" سياستها في التعامل مع هؤلاء الحلفاء.
قامت السياسة الإيرانية لبناء الحلفاء على أسس مهمة، أهمها: النفس الطويل في بناء التحالفات للاستفادة منها عند الحاجة، والدعم السخي الذي يؤهل طهران لفرض نفوذها وقوتها "الناعمة" وأحيانا "الخشنة" في ساحاتها الخلفية، ومنح الحلفاء الاحترام الذي يعطيها هامشا للمناورة في داخل بلادها و"إخراج" السياسة التي تصب في مصلحة طهران بطريقة تتناسب مع الحليف وتوازناته الداخلية.
وقد التزمت إيران بهذه الأسس في كافة أوقات الهدوء السياسي، وإن كانت تلجأ لفرض نفوذ "مفضوح" وأكثر وضوحا عندما تضطر لذلك كما حدث مع توريط حزب الله في الساحة السورية، برغم ما عناه ذلك من القضاء على صورة الحزب كجماعة مقاومة وتحويله إلى قوة طائفية تعمل بشكل واضح ومباشر لمصلحة إيران، ومع ذلك فقد أعطت للحزب الحرية لإخراج هذا التدخل وكأنه حاجة لبنانية وليست إيرانية، وإن فشل ذلك في إقناع غالبية العرب لهذه الرواية.
وبمقابل سياسة النفس الطويل الإيرانية، فقد تعاملت الدول العربية الكبيرة مع حلفائها بشكل موسمي، وتنقلت هذه الدول في تحالفاتها بشكل سريع ومتردد وملتبس في كثير من الأحيان كما حدث في سوريا مثلا، حيث دعمت الدول العربية بعض الفاعلين على الأراضي السورية لفترات مؤقتة قبل أن تتخلى عنهم بل وتحاربهم أحيانا. وظلت سياسة النفس القصير تحكم تعامل بعض الدول العربية مع حلفائها خلال العقود الماضية، وهو ما يفسر فشل السعودية مثلا، وهي الفاعل الأكبر تاريخيا في اليمن، من الحفاظ على تحالفاتها في هذا البلد المهم لأمن المملكة، بل تحول بعض هؤلاء الحلفاء إلى خصوم تخلت الرياض عنهم في وقت الشدة ما أدى إلى سقوط صنعاء ومعظم المحافظات اليمنية تحت سيطرة حلفاء طهران من الحوثيين.
تكررت سياسة النفس القصير العربية الملتبسة تجاه الحلفاء أيضا في العراق، بحيث أصبح هذا البلد ساحة خلفية تعمل بشكل مباشر لمصلحة إيران، فيما افتقد العرب السنة أو الشيعة العلمانيين لحلفاء أقوياء مستدامين من الدول العربية الكبرى، وأصبحوا بذلك الفاعل الأقل تأثيرا وحضورا والأكثر تهميشا ومعاناة في السياسة العراقية.
وبينما "احترمت" إيران حلفاءها وأعطتهم هامشا للمناورة في بلدانهم طالما كان ذلك ممكنا، تعاملت الدول العربية بتهميش وفوقية تصل إلى حد الإهانة مع حلفائها، ولعل آخر الأمثلة وأوضحها في السنوات الأخيرة تعامل مصر والقوى القريبة منها مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومحاولة فرض خيار محمد دحلان عليه، إضافة إلى التعامل السعودي المهين مع سعد الحريري الذي ظهر كأنه مجبر على الاستقالة من رئاسة حكومة بلاده من الرياض في سابقة تاريخية، وهو ما أتاح لخصومه في لبنان اتهام السعودية باحتجازه، لدرجة أن الرئيس اللبناني ميشيل عون اعتبر التعامل السعودي معه "عملا عدائيا".
الانتصار الإيراني في أكثر من ساحة عربية ليس قدرا محتوما إذن، بل هو ناتج عن سياسات إيرانية مدروسة، في مقابل تخبط عربي في التعامل مع الحلفاء غير الحكوميين، والتزام عربي كامل بحدود اللعبة الأمريكية، فيما تلعب إيران بهوامش السياسة المتاحة، وتعمل على توسيعها ما أمكن ذلك.
من سمع منكم يوما مسؤولا سوريا أو مستشارة "خرشانة" مفعوصة شمطاء يتحدث عن آلام ومعاناة ولقمة عيش المواطن السوري الذي أنهكه الاستبداد، وزاد عليه حرب السنوات السبع الجاثمة على صدره؟ لماذا يتعاملون معه بكل هذا الاستهتار واللامبالاة والصلف والغطرسة التي قل نظيرها، ولا يأبهون ولا يلتفتون لآلامه وعذابه؟ ألم يقل الأقدمون خيركم خيركم لأهله ولا بارك الله بشجرة لا تظل جذعها؟ أليس جحا أولى بلحم ثوره بدل توزيع البركات و "الحب" القومي الزائف المزعوم على دول مستقرة وتنمو وليست بحاجة لبركات وعطف بشار وبثينة وهلال هلال؟
لماذا لا يفكر بشار الأسد بتوحيد شعبه المشتت قبل طوباويته المرضية وأحلامه النرجسية لتطويبه زعيما قوميا وإطعام هذا الشعب الجائع الذي يُعد اليوم في ظل قيادته الحكيمة واحدا من أفقر شعوب الأرض المحاصر الذي يعيش في بلد لا يستطيع أي مواطن خارج نطاق العصابات والمافيات المتسلطة من القيام بأي عمل حتى على مستوى بيع البليلا والفول كبائع متجول دون أن يحظى موافقة أولى الأمر ورضا المافيات الجاثمة على قلبه؟ ولماذا لا يجهد بشار الأسد نفسه، ويكرس وقته و "فكره" السديد لسد رمق الملايين وإعادة ملايين المهجرين الذين فروا بالقوارب تحت جنح الظلام من بطش وتعسف وقهر وظلم نظامه واختاروا "هويات" أخرى ما دام تشدق وتمنطق وأسهب بالحديث عن وتفذلك عن الهويات في إطلالته الثقيلة المملة الأخيرة أمام القومجيين العرب؟
هل لدى بشار الأسد مستشارون سياسيون وإعلاميون؟ من الواضح أنه حتى لو كان لديه مستشارون، فهم يخدعونه ويضحكون عليه، أو يورطونه ويغرقونه أكثر مما هو متورط و "غرقان" على كل الأصعدة، ويجعلونه يبدو أضحوكة ومسخرة دائمة باتت تستخدم للتندر والسخرية في عيون الداخل والخارج والصغير قبل الكبير على حد سواء؟ كيف تفكر هذه القيادة وبطانتها؟ إما أنها تعيش في عالم آخر لا يمت لعالمنا بصلة، أو أنها تعرف كل تفاصيل الكارثة السورية، لكنها تحاول أن تكابر، أو تستفز الآخرين بالقفز إلى عوالم سريالية كوميدية فاقعة، كما كانت تفعل باستمرار على مدى سنوات الكارثة السورية.
ولا شك أن سخافات ومسرحيات النظام السوري تذكرنا بغرق سفينة التايتانك الشهيرة، فهناك مشهد صارخ في فيلم "التايتانك" تظهر فيه فرقة موسيقية على متن السفينة العملاقة وهي تستعد لإحياء حفلة موسيقية، فنرى الموسيقيين والعازفين يجربون آلاتهم، ويجرون البروفات على المقطوعات التي سيعزفونها، وبدورهم ينشغل منظمو الحفلة في توزيع الكراسي والمقاعد على الحضور، بينما كان ألوف الأشخاص في تلك الأثناء على متن السفينة إما يغرقون في غياهب البحر، أو أنهم يبحثون عن أي وسلة للهرب من السفينة الغارقة. منظر صارخ بكل المقاييس، موسيقيون مبتهجون على متن سفينة سيبتلعها البحر، وآلاف الركاب في حالة مرعبة من الخوف والهيجان والعويل والصراخ يبحثون عن قشة تنجيهم من الغرق في عرض البحار.
تذكرت ذلك المشهد الرهيب في فيلم التايتانك وأنا أستمع إلى خبر يقول إن بشار الأسد ألقى خطابا في مؤتمر بدمشق لتعزيز القومية العربية ودعم الفكر القومي والعروبي والنضال الفلسطيني وكأنه لم يبق من مشكلة وهم ودواء ناجع لأوجاع وكوارث السوريين سوى هذر وطنطنات وطقطوقات الأسد القومية ما دمنا نستذكر جوقة التايتانيك.
يا إلهي! لا تعرف ماذا ستفعل ولأي جدار ستصوب رأسك المثقل بالوجع وأنت تستمع إلى هذا الهذر واللغط السريالي الكوميدي الهستيري في خطاب بشار: هل تبكي وتصرخ بصوت عال، أم تضحك بشكل جنوني، فمثل هذه الأخبار لا تدع لك مجالا للتفكير بهدوء وروية، بل تدفعك إما باتجاه الضحك الجنوني، أو الصراخ الجنوني. هل هؤلاء القوم لديهم ذرة عقل وحصافة؟
لقد وصفت الأمم المتحدة الكارثة السورية بأنها أسوأ كارثة عالمية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد تسببت بتهجير نصف الشعب السوري تقريبا، هربا من سورياليات آل الأسد وجموحهم القومجي وأحلامهم الإمبراطورية السيادية والتوسعية، وقتل أكثر من مليون وإعاقة ملايين آخرين، ناهيك عن تدمير شامل لمدن بأكملها. ولا يكاد يمر يوم إلا ونسمع ألاف القصص عن اللاجئين والمشردين السوريين في عموم العالم، خاصة في دول اللجوء كلبنان.
والمضحك في الأمر أننا لم نر السفير السوري في لبنان مرة واحدة يزور مخيمات اللاجئين السوريين كي يطلع على أوضاعهم، ولم نسمع منه تصريحا واحدا ضد الذين يعتدون على اللاجئين في لبنان ويسيئون لسوريا والسوريين معا، ويبدو أن كل هذه الآلام لا تستدر كلمة واحدة من الفيلسوف القومجي المفوه فريد عصره وأوانه. أما الغريب في الموضوع أن هذا السفير وأمثاله يأتون إلى دمشق لحضور مؤتمر لدعم الفكر القومي العربي ودعم الشعب الفلسطيني.
كيف نصدقكم أيها الأفاقون بأنكم تغارون على العرب والعروبة وأنتم تشردون شعبكم العربي السوري بالملايين، وتدمرون بيوته وتنهبون أرزاقه، وتستولون على أملاكه، وتغتصبون حرائره، وتحرقون ألوف الأطفال يوميا بالغازات السامة، وتسحقون السجناء في زنازينهم، وتستعينون عليه بكل مرتزقة الأرض كي تخضعوه؟ أيهما أولى بالدعم، القومية العربية، والعروبة، أم شعبكم الذي أصبح رمزا للتشرد والبؤس والإهانة في كل أنحاء العالم؟ ألم تسمعوا بالمقولة الشهيرة: الأقربون أولى بالمعروف؟ كيف تتشدقون بأنكم تريدون الدعم الشعب الفلسطيني، بينما تدوسون شعبكم وتسحقونه تحت جنازير دباباتكم؟ كيف سيأمن لكم الشعب الفلسطيني وأنتم لم تستأمنوا على بني قومكم وأهلكم، فسرقتم سوريا، ونهبتهم شعبها وأصبح هذا الشعب بفضلكم أفقر شعب بالعالم؟ ثم من قال لكم أن الفلسطيني والموريتاني والمغربي يرحب بكم وسمعتكم السوداء سبقتكم بعصور.
لقد أسرّ لي بعض أبناء اللواء "السليب"، وهم بالمناسبة من طائفة الأسد نفسها، أنهم يفضلون البقاء تحت حكم تركيا وهم ينعمون بالخير ورغد الحياة مقارنة بـما يرونه من بؤس وفقر وحرمان لأبناء الطائفة العلوية في القرى المجاورة لهم في سوريا والتي لا تبعد مئات الأمتار عنهم، ولا يريدون العيش بحال تحت ظل هؤلاء الطغاة وما فعلوه بالطائفة نفسها من تجويع وإفقار. ثم والأهم من فوضكم التكلم باسم شعوب وقوميات وأعراض وبشر في بلدان مجاورة ومصادرة قراراتها ورأيها ومصيرها والتحدث عن تطلعاتها وأحلامها ورسم مستقبلها لاسيَّما بعد المصير الأسود المشؤوم الذي آلت إليه سوريا تحت ظل حكمكم الاستبدادي؟
أليست محنة الشعب الفلسطيني، وحتى تحت حكم إسرائيل، هي "محنة" خمس نجوم مقارنة بمحنة الشعب السوري؟ لماذا لم تعقدوا مؤتمرا واحدا لدعم الشعب السوري المنكوب بدل عقد مؤتمر لدعم العروبة والنضال الفلسطيني؟ كيف سيصدقكم الشعب الفلسطيني بأنكم تدعمون نضاله إذا كنتم تشردون شعبكم وتذبحونه يوميا؟ ألم تملوا من هذه المؤتمرات القومجية المبتذلة والسافلة؟ هل هذا وقت المؤتمرات القومية أيها الأنذال والأوباش؟
أليس تأمين بضعة منازل للسوريين المشردين أفضل من إنفاق ملايين الليرات السورية على بعض القومجيين العرب الذين شحنتموهم من بضعة دول عربية إلى دمشق ليتسلوا في فنادق سوريا بينما ملايين السوريين لا يجدون لقمة الخبز في الغوطة على بعد كيلو متر واحد من مقر مؤتمركم القومجي الوضيع؟
سؤال أخير للقيادة القومجية في دمشق: أي انفصام سياسي وفكري وعقلي هذا، وكيف تدعون إلى دعم الفكر العروبي والقومي العربي وأنتم تجلسون في حض إيران الفارسية التي كانت على الدوام ألد أعداء القومية العربية؟ أم إنها قومية عربية برعاية فارسية؟ لماذا لا توحدون الشعب السوري أولا قبل التفكير بتوحيد شعوب الإقليم؟ ألم يـدعُ حليفكم الروسي لمؤتمر لـ"الشعوب" السورية" وليس الشعب السوري؟
قبيل مغادرته تركيا، قال السفير الأمريكي في أنقرة جون باس، في مؤتمر صحفي، "منذ تسعة أشهر ونصف لم يقع هجوم إرهابي في تركيا. ليس لأن تنظيم داعش تراجع عن الهجمات، وإنما بفضل تعاوننا".
البعض علق على هذا التصريح بأن السفير "هدد تركيا وهو يغادرها"، واعتبرت هذه التعليقات مبالغ فيها. أعتقد أنه لا يمكن ربط دولة قانون بعمليات أحد التنظيمات الإرهابية، وحتى إن حدث الأمر لا يمكن التصريح به على لسان سفير.
من المعروف أن بعض الاستراتيجيات الأمريكية ساعدت على تمدد تنظيم داعش في سوريا، لكن تغاضي الولايات المتحدة عن أي نشاط لداعش لا يبدو لي معقولًا.
لأن تنظيم داعش يعني بالنسبة للولايات المتحدة تنظيم القاعدة. وهذا الأخير يعني هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهذا ما يعرفه العالم بأسره وليس الأمريكان فقط.
لكن أمس الأول، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" خبرًا تحت عنوان "سر الرقة القذر"، كشفت فيه أنه تم إجلاء 250 مقاتلًا من داعش مع أسرهم من الرقة بشكل آمن تحت إشراف قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة وبريطانيا.
أي أن قوات سوريا الديمقراطية، المكونة بنسبة كبيرة من عناصر قوات حماية الشعب، ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا، أبرمت اتفاقًا مع تنظيم داعش تحت رعاية الولايات المتحدة وبريطانيا.
وبموجب الاتفاق فإن مجموعة مكونة من مقاتلي داعش وأسرهم، قوامها 4 آلاف شخص، خرجت بسلام من الرقة. ومن بين هؤلاء 250 مقاتلًا يحملون بنادقهم بأيديهم ويرتدون أحزمتهم الناسفة، خرجوا في عشر حافلات مع الأسلحة والذخائر.
وبينما انتشر قسم من المقاتلين في أنحاء مختلفة من سوريا، توجه البعض الآخر منهم إلى تركيا، بحسب الخبر.
900 عنصر من داعش في تركيا
ذكّرني هذا الخبر بتقرير صدر عن مركز سوفان البحثي ومقره في الولايات المتحدة أواخر الشهر الماضي، تحت عنوان "التهديد الناجم عن المقاتلين الأجانب والعائدين إلى أوطانهم".
وبحسب التقرير فإن 5600 مقاتل أجنبي في صفوف داعش، من بينهم 900 تركي، عادوا من سوريا والعراق إلى أوطانهم.
تساءلت حينها من أين حصل هذا المركز الأمريكي على أرقام مفصلة إلى هذا الحد، لكن بعد سماعي خبر هيئة الإذاعة البريطانية أصبحت متأكدًا أن الولايات المتحدة تتابع مقاتلي تنظيم داعش عندما يغادرون الأماكن التي يوجدون فيها.
والأهم من ذلك أنني أدركت مغزى تصريح السفير الأمريكي بأنقرة جون باس حول داعش.
بمعنى أنكم تكونون في مأمن من داعش في حال إقامتكم تعاونًا مع الولايات المتحدة، التي تعلم ما يقوم به التنظيم.
إذًا خروج داعش من الرقة يتم تحت إشراف الولايات المتحدة التي أوجدت تنظيم القاعدة وحولته إلى تنظيم داعش الأكثر دموية وغضت النظر عن تمدده في سوريا لمحاصرة الأسد، وسلّحت وحدات حماية الشعب.
وعلى الأغلب فإن سوريا تتحول إلى مستنقع للإرهاب بالنسبة للولايات المتحدة، التي لا تتورع عن التعاون مع التنظيمات الإرهابية.