اتخذت أنقرة في البداية موقفًا سلبيَّا من اتفاق الولايات المتحدة وروسيا بخصوص الحل السياسي في سوريا، فما الذي وراء "توافقها" مع موسكو عقب اجتماع سوتشي بين أردوغان وبوتين؟
بحسب ما علمته من خبراء متابعين للمنطقة وأوساط دبلوماسية فإن إدلب في وضعها الجديد ستكون محور سياسة أنقرة.
ونذكر أنه بموجب اتفاق تم التوصل إليه في أستانة بمبادرة من تركيا وروسيا وإيران تُقام أربع مناطق لخفض التوتر من أجل تحقيق الهدنة في إدلب، وتشرف البلدان الضامنة على إقامة مناطق للمتابعة والمراقبة.
وفي هذا الإطار من المقرر أن تنشئ تركيا نقاط مراقبة في 12 منطقة بحيث يصبح من الممكن منع وقوع اشتباكات بين قوات النظام والمعارضة ومتابعة وقف إطلاق والتدخل فورًا حال وقو ع خروق.
ويقوم مركز التنسيق المشترك بالتنسيق بين القوات المختلفة في منطقة سيعمل فيها 500 عسكري من البلدان الثلاثة.
استكملت تركيا اثنتين فقط من نقاط المراقبة، وتواصل العمل من أجل إقامة المناطق العشر الأخرى دون الاشتباك مع الفصائل المتمركزة في المنطقة.
كما أنها انتظرت إقامة روسيا منطقة عازلة بين إدلب وقوات النظام.
وضع جديد
وكأن الأطراف لم تتوصل لاتفاق في أستانة، بدأت حكومة دمشق تتهم القوات التركية بأنها "محتلة"، على نحو لم تفعله في عملية الباب. أعقب ذلك حملتان غير متوقعتان من روسيا.
قررت موسكو عقد "مؤتمر الحوار الوطني السوري" لجمع كافة المجموعات العرقية والدينية السورية في مدينة سوتشي يوم 18 نوفمبر بهدف الإعداد للحل السياسي، وهذا يعني مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي، ذراع حزب العمال الكردستاني، تحت اسم قوات سوريا الديمقراطية.
ولم تكتفِ بذلك، فأعلنت عن توصل رئيسها فلاديمير بوتين إلى اتفاق مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب حول "الحل السياسي في سوريا"، وذلك بينما كانت مفاوضات أستانة مستمرة.
واجهت تركيا هذا الوضع الجديد بينما كانت تنتظر من روسيا إقامة مناطق عازلة في إدلب.
أعرب أردوغان عن امتعاضه بصراحة قبيل توجهه إلى سوتشي، فقال: "إن لم يكن الأمر متعلقًا بالحل العسكري فليسحبوا قواتهم إذًا. العالم ليس أحمقًا. للأسف بعض الحقائق تُقال بطريقة، لكن تطبيقها يجري بطريقة أخرى" .
بناء على اعتراض أنقرة أخرجت موسكو قوات سوريا الديمقراطية من قائمة المدعوين إلى المؤتمر، واتفقت العاصمتان على أن تضطلع تركيا وروسيا معًا برعاية الدستور المدني والحل السياسي في الأزمة السورية.
وقال أردوغان عقب اجتماعه مع بوتين "اتفقنا على وجود أرضية تمكننا من التركيز على الحل السياسي في المرحلة الراهنة".
وخفف من حدة لهجته ففضل استخدام عبارة "حكومة دمشق" عوضًا عن "نظام دمشق"، التي كان يستخدمها دائمًا في خطاباته.
قراءة أنقرة لكل ما سبق تهدف إلى إكساب روسيا أريحية في كسر مناوئة دمشق لتركيا وفتح الطريق أمام تحركات أنقرة في إدلب...
وتبدو المنطقة مرشحة لتشهد تطورات جديدة في فترة تسعى خلالها الولايات المتحدة إلى حل مشكلة تنظيم داعش عن طريق نفيه إلى شمال أفريقيا وميانمار.
ومع ملاحظة مشاهد خروج التنظيم من الرقة، يتضح أن العالم سوف ينوء تحت وطأة مشكلة داعش لمدة طويلة.
قبيل توجهه إلى سوتشي مطلع الأسبوع انتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاتفاق الذي توصل إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترامب بخصوص الحل السياسي في سوريا.
وقال أردوغان في تصريح أدلى به في المطار إن على البلدين سحب قواتهما من سوريا بما أنهما لا يفكران بـ "الحل العسكري"، موضحًا أنه سيبحث الموضوع في سوتشي خلال لقائه ببوتين.
وبالفعل، ناقش الزعيمان القضية بكافة وجوهها، خلال اللقاء. وفي مساء اليوم ذاته، أعرب أردوغان عن ترحيبه باتفاق ترامب- بوتين بخصوص الحل السياسي في سوريا، وأعرب عن اعتقاده أنه يشكل أرضية لحل سياسي...
التناقض بين التصريحين قبل قمة سوتشي وبعدها كشفت عن التغير في الموقف التركي.
مع الأسد أم بدونه؟
اتفاق ترامب- بوتين، الذي عارضه أردوغان صباحًا ورحب به مساءً، ينص على بذل جهود جديدة من أجل "الحل السياسي" في إطار قرار سابق لمجلس الأمن الدولي.
وبناء عليه، سيتم إعداد دستور جديد يتبنى وحدة التراب السوري خلال عملية السلام، وتُجرى انتخابات حرة تمثل الأطياف السياسية المختلفة.. وفي الأثناء تشارك المجموعات المختلفة في سوريا بمفاوضات السلام.
هذا الاتفاق يعني قبول نظام الأسد على أنه حكومة مشروعة. والحقيقة أن النظام المدعوم روسيًّا وإيرانيًّا قويَ واستعاد جزءًا من الأراضي التي فقدها. وإدارة ترامب تخلت الآن عن أولويتها في "حل بدون الأسد"، وتبدو راضية بتحقيق مرحلة انتقالية.
تصريح أردوغان عقب مباحثاته مع بوتين يشير إلى أن أنقرة توافق حاليًّا على طريقة الحل هذه. ولذلك سوف تدعم بدء مفاوضات جديدة في جنيف، لكن هناك قضية لديها تحفظات جدية بخصوصها..
مع حزب الاتحاد الديمقراطي أم بدونه؟
خط أحمر تعلنه تركيا في الحل السياسي والمفاوضات المؤدية إليه، وهو عدم إشراك حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه المسلح وحدات حماية الشعب.
ينص اتفاق ترامب- بوتين على تمثيل جميع الأطياف السياسية في سوريا على طاولة المفاوضات. فهل هذا يشمل حزب الاتحاد الديمقراطي؟
تخشى أنقرة من تفكير الولايات المتحدة وروسيا بهذا الأمر، فمن المعروف أن الروس دعوا الحزب للمشاركة في "مؤتمر شعوب سوريا"، إلا أنهم أجلوا المؤتمر بناء على اعتراض تركيا.
هل قدم الجانب الروسي، خلال قمة أردوغان- بوتين ضمانات لتركيا في هذا الخصوص؟ ترحيب أردوغان عقب قمة سوتشي بالحل السياسي الذي نظر إليه أولًا بارتياب مؤشر على تغير في الموقف.
بيد أن تفاصيل من قبيل جلوس حزب الاتحاد الديمقراطي إلى طاولة المفاوضات لها مدلول مغاير، وعلينا ألا ننسى ضرورة عدم إهمال التفاصيل في المفاوضات...
في عامها السادس ما تزال الحرب السورية في قلب التوترات الجيوسياسية وتنافس القوى. ومن المفترض أن يتبع الهزيمة القريبة لداعش وغيرها من الجماعات الإرهابية في الأراضي السورية، حلٌ سياسي ينهي الحرب ويؤدي إلى إقامة حكومة ديمقراطية تشمل جميع السوريين. والسؤال الأهم في هذه المرحلة هو هل يمكن لعملية جنيف أو الأستانة أن توصل إلى هذا الحل، وكيف.
على مدى العامين الماضيين، أصبح جميع أصحاب المصلحة الإقليميين والعالميين الرئيسيين جزءا من الصراع السوري بطريقة أو بأخرى. ومع إخفاق إدارة أوباما في اتخاذ أي إجراء جدي ضد النظام السوري، حتى بعد استخدام الأسلحة الكيميائية، التي كانت توصف بالخط الأحمر، في الغوطة، رأى التحالف الروسي الإيراني فرصة جيوسياسية لدخول الأراضي السورية. ولم تكن النتيجة اتساع نطاق النزاع السوري فحسب، بل إطالة أمده المدمر بأعمال وحشية لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا، كما لا يمكن النظر إلى الارتفاع الصارخ لداعش في الأراضي السورية بمعزل عن هذا الإخفاق الهائل في وقف المذابح التي ارتكبها نظام الأسد.
يظهر الوضع الحالي على النحو التالي: يركز الأمريكيون على الحرب داعش وتسليح حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه المسلح وحدات حماية الشعب، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، من أجل هذه الحرب. والآن بعد أن هزموا داعش إلى حد كبير في الرقة وأماكن أخرى باستخدام ما أطلق عليه "السر القذر"، فإنهم يبحثون عن أعذار جديدة للالتزام بسياستهم الحالية، على الرغم من التأكيدات التي أعطوها لتركيا بأن علاقتهم مع حزب الاتحاد الديمقراطي - وحدات حماية الشعب هي علاقة مؤقتة وعابرة. وتكشف تفاصيل الصفقة التي عقدوها بالسماح لمئات من مقاتلي داعش الإرهابيين بالخروج من الرقة، تكشف مرة أخرى البؤس المطلق لسياسة دعم منظمة إرهابية لتحارب أخرى. والسؤال المثير للقلق الذي لا يريد أحد في واشنطن أن يطرحه هو من يمنع هؤلاء الإرهابيين الذين أطلقوا من الرقة من أن يصبحوا الانتحاريين المقبلين في إحدى العواصم العالمية الكبرى.
وعلاوة على ذلك، تتزايد التقديرات بأن الولايات المتحدة تستخدم كلا من داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي - وحدات حماية الشعب ذريعة للبقاء في شرق سوريا كقوة موازية محتملة في مواجهة الوجود الروسي الإيراني. ويشير بعض المحللين إلى كميات ضخمة من المعدات العسكرية المرسلة إلى شرق سوريا والعدد الكبير من المواقع العسكرية الأمريكية في المنطقة، ويستنتجون من ذلك أن الولايات المتحدة تسعى للبقاء في شرق سوريا على المدى الطويل. وأيا كانت نوايا الولايات المتحدة وخططها، فإن السياسة المضللة بدعم فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا لن تؤدي إلا إلى تفتيت وحدة أراضي سوريا ووحدتها السياسية التي يتوقع أن تتحقق في نهاية عمليتي جنيف وأستانا الحالية، كما أن هذه السياسة ما تزال تشكل تهديدا للأمن القومي للبلدان المجاورة. وما زلنا نرى أن تفي الولايات المتحد بوعودها بقطع العلاقات مع حزب الاتحاد الديمقراطي- وحدات حماية الشعب بعد تطهير الرقة من داعش.
لا يحارب الروس والإيرانيون داعش إلا بهدف الإبقاء على نظام الأسد في السلطة، ويرون أنهم هم المنتصرون في الحرب على مدى العامين الماضيين؛ لأنهم حموا نظام الأسد من الانهيار، وقضوا على تهديد داعش الإرهابي، وأضعفوا المعارضة المناهضة للأسد، وحققوا مكاسب جيوسياسية ضخمة في مواجهة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
كان موقف تركيا واضحا على الدوام ويمكن تلخيصه على النحو التالي: وجوب الحفاظ على وحدة الأراضي السورية في أي حل سياسي كبير، وضرورة تطهير الأراضي السورية من جميع عناصر الإرهاب، وفي الوقت نفسه يجب على جميع المقاتلين الأجانب سواء كانوا يقاتلون إلى جانب النظام أو حزب الاتحاد الديمقراطي - وحدات حماية الشعب وغيرهم أن يغادروا سوريا، ووجوب تشكيل حكومة انتقالية تشمل جميع أصحاب المصلحة السوريين وتمهيد الطريق لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، ووجوب صياغة دستور جديد يعكس إرادة جميع السوريين وآمالهم نحو الديمقراطية والحرية وسيادة القانون والمساواة للجميع.
ما تزال مسألة حزب الاتحاد الديمقراطي -وحدات حماية الشعب خطا أحمر لتركيا، ولا يمكن أن يكونا جزءا من أي حل سياسي؛ لأنهما الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وهي منظمة تصنفها تركيا والولايات المتحدة وأوروبا وغيرها منظمة إرهابية. ومن غير اللائق، على أقل تقدير، للشعب السوري تقديم هؤلاء بوصفهم ممثلين للأكراد السوريين. هناك كثير من الأكراد الذين لا ينتمون إلى حزب العمال الكردستاني ويعارضون أيديولوجيته وقمعه السياسي، وقد عانوا كثيرا منه ومن أجنحته في سوريا، ولكن لا يكاد يكون لهم صوت في المناخ السياسي الحالي. وينبغي أن يعطوا المكان الذي يستحقونه من أجل مستقبل سوريا.
يبقى مصير بشار الأسد قضية محل خلاف، ولكن من الواضح أنه ليس الشخص الذي يقود سوريا إلى حكم ديمقراطي وشامل. وبالنظر إلى جرائمه بحق الشعب السوري، فإنه لا يمكن أن يعهد إليه بمهمة لم شمل السوريين. يجب أن لا يكون للأسد مكان في مستقبل سوريا، ويجب على الروس والإيرانيين أن يدركوا أن إبقاء الأسد في السلطة ليس هو السبيل لحماية مصالحهم في سوريا.
ستتناول القمة الثلاثية التي تجمع بين الرئيس رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين وحسن روحاني يوم 22 نوفمبر فى سوتشي هذه القضايا الرئيسية. وهذه القمة امتداد لعملية أستانا ومكملة لجنيف وليست بديلا لها. وإذا كان على هاتين المنصتين، جنيف وأستانا، أن تحققا نتائج ملموسة ودائمة، فإن على جميع أصحاب المصلحة المساهمة بهدف حماية سلامة أراضي سوريا وتوفير الحرية والسلامة لجميع السوريين ضمن معايير قرار مجلس الأمن رقم 2254. لقد مر الشعب السوري بمعاناة لا توصف على مدى السنوات الست الماضية، ولا ينبغي أبدا نسيان هذه الملحمة البشرية في خضم التنافس الجيوسياسي.
بَيْن الظواهر الأكثر لفتاً لأنظار متابعي الثورة السورية ظاهرة مقلقة إلى أبعد الحدود، تتعلق بمحدودية القوى السورية التي تستخدمها الثورة، في ظل محدودية البنية المؤسسية لهيئاتها السياسية التمثيلية، وانفلاش تنظيماتها العسكرية، وتلك العاملة في حقل المجتمع المدني، ومحليتها وكثرة أعدادها التي تؤكد عجز الثورة عن بناء مؤسسات موحدة، تؤطر وتغطي نشاطاً سياسياً وعسكرياً منظماً، ووطنياً وشعبياً، تدير باقتدار علاقاتها الداخلية ومع السوريين، وتخدمهم من خلال أكثر طرق العمل العام وأساليبه فاعلية ونجاحاً.
بالأصل، لا يعود الافتقار شبه التام للبنى المؤسسية إلى عزوف السوريين عن الثورة، أو عدم مشاركتهم فيها، بل يرجع إلى ما صار يشوب سلوكهم من ميلٍ إلى الفردية، والتفلت من الانضباط، كظاهرة غدت ضرباً من المرض المجتمعي والسياسي، فلا عجبَ أن لا "تَمُون" المؤسسات القليلة القائمة عليهم، ولا يسعوا إلى الانخراط من جانبهم في مؤسساتٍ فاعلةٍ حقاً يصنعونها هم أنفسهم. ولا عجب أيضاً أن تسود علاقاتهم شحناتٌ وافرة من العشوائية والارتجال، تلعب دوراً مهماً في تعزيز ما يبدو أنه نفورٌ من العمل المنضبط والمتواصل، الذي حال دون قيامهم بأنشطة تنظيمية تغطي مجمل ساحتهم الوطنية، الداخلية والخارجية، ومن دون أن يكون هناك تمثيل حقيقي لهم، ينقادون له جهةً تعبّر عنهم، وتستمد قوتها من قبولهم الطوعي بها، وانخراطهم في الأنشطة التي تخدمها وتعزّز مواقعها، وتحترم رموزها وأشخاصها. في هذا الواقع، لا يرى المسؤول في نفسه ممثلاً للشعب، يلتزم بمصالحه ويلزمه في المقابل بالتعاون معه، ولا يرى الشعب في المسؤول شخصاً يمنحه ثقته، ويلتزم بإقامة علاقاتٍ دائمة معه، منظمة وطوعية، توحد جهودهما ضمن سياق وطني عام، يعد الخروج عليه خطأً غير جائز. لهذه الأسباب، تعيش الثورة وأنصارها غربة متبادلة تحول دون تنسيق أي عمل منظم ومديد بينهما، فلا يبقى إلا أن يغنّي كلٌّ منهما على ليلاه.
يفتقر ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، وحكومته، إلى جهاز مؤسسي متكامل، يتولى استقبال اللاجئين عند حدود وطنهم، فيدوّن معلوماتٍ تفصيلية عن حاجاتهم الطبية والإغاثية والسكنية والتعليمية، واختصاصاتهم وأعمالهم وخبراتهم، ويزوّد بها جهازاً خدمياً آخر يلبيها، ويتكفل بتوفير فرص عمل لهم، تعينهم على تجاوز مصاعب غربتهم، والقيام بأود أولادهم والمحافظة على أسرهم وروابطهم مع وطنهم.
بالنسبة إلى "الائتلاف"، ممثل السوريين السياسي، أبقاه ضعفه مؤسسةً هامشية التأثير على حاضنة الثورة المجتمعية ومشكلاتها، التي ترتبت على قيام النظام بتهجيرهم من وطنهم وداخله بقوة السلاح. وزاد من بؤسهم عدم وجود علاقة منظمة، وذات التزامات متبادلة بينه وبينهم، كقواعد شعبية مفترضة له، وتخليه عنهم لتنظيمات غير تمثيلية، لعبت دوراً فاعلاً في انقطاع أي تفاعل جدي مع من يمثلهم، الأمر الذي أقنعهم بتقصير الثورة تجاههم، وتجاهل تضحياتهم وقدراتهم، على العكس من منظمة التحرير الفلسطينية التي تدفع اليوم أيضاً رواتب شهرية لأسر فلسطينية في الشتات العربي، واستقطبت حتى الأمس القريب الفلسطينيين داخل وطنهم وخارجه.
لا تغطي مؤسسات الثورة السورية قطاعات مجتمعها، وليست تغطيتها من أولوياتها. لذلك فشلت في نيل اعتراف داخلي، يجعل منها قيادة ثورية لا منافس أو منازع لها، تستقطب حتى الخاضعين من السوريين للنظام، ومن يعيشون ويعملون منهم في الساحات الخارجية، فلا تتبعثر جهودهم الثورية في الداخل، أو ينشطون خارج أي صلةٍ مع مؤسسات الثورة الرسمية التي لا تمارس أي دور قيادي أو إرشادي في حياتهم، أو تتدارك افتقارها إلى تفاعل إيجابي ومتبادل معهم، هو من شروط انتصارهم على النظام ونيل حريتهم.
يزيد مرور الوقت، وانتقال الصراع من طوره العسكري إلى طور سياسي غالب من الحاجة إلى استخدام كثيف وعقلاني لقدرات الشعب السوري: المعطلة منها أو المحيّدة أو المؤيدة للثورة. وفي حين يقاتل النظام بـ 90% من قدرات مؤيديه، تقاتل الثورة بأقل من 20% من طاقات شعبٍ لا تقل نسبة مؤيديها فيه عن 70%. صحيح أن استنزاف جماعات النظام يعطل قدرته على إعادة سورية إلى زمن ما قبل الثورة، لكن تعطيل قدرات الشعب، والعجز عن تفعيلها، يزيد بدوره تكلفة الثورة البشرية، ويحتم بناء أجهزة ونظم مؤسسية لها، تدرب قطاعات واسعة من شبابها على إدارة مناطقهم، بطرق تتفوق على طرق النظام الفاسد، وتوسع حلقات المؤهلين لتولي السلطة، وتعزّز قدرتهم على إقامة نظام مشاركة ديمقراطي، حر وعادل.
أعلنت الخارجية السعودية عن عقد اجتماع موسع للمعارضة السورية من 22 إلى 24 من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بهدف التقريب بين أطراف المعارضة ومنصاتها، وتوحيد وفدها المفاوض لاستئناف المفاوضات المباشرة مع النظام تحت إشراف الأمم المتحدة، بناءً على طلب المعارضة، حسب نص الإعلان الذي لم يأت فيه أي ذكر للهيئة العليا للمفاوضات، بشكل يتنافى كليّاً مع عرض لجنة التوسعة في الهيئة، والذي قدّمته إلى الخارجية السعودية، ويوصي بزيادة أعضاء الهيئة لتعزيز قدراتها التفاوضية. ويعني عدم إتيان الخارجية السعودية في إعلانها عن موعد الاجتماع انتهاء دور الهيئة العليا للمفاوضات رسمياً، وولادة جسم جديد، يجمع بعض الأطراف المعارضة بمنصتي القاهرة وموسكو.
لم يكن القرار مفاجئا، بعد مطالب عدة جهات إقليمية ودولية المعارضة السورية بالواقعية السياسية، ومواكبة الوضع الدولي الجديد الذي تبلور في المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، على هامش قمة آسيا - المحيط الهادئ في فيتنام يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، والذي أظهر للعيان محاذاة إدارة ترامب موقف بوتين في سورية، والذي يتمثل باختزال الصراع على أنه حرب ضد الإرهاب، والحل السياسي بـ"إصلاح" دستوري، تليه انتخاباتٌ، يحق للدكتاتور بشار الأسد المشاركة فيها، والقفز فوق قرار مجلس الأمن 2118 الذي ينص على الانتقال السياسي، وتشكيل هيئة حاكمة انتقالية، باعتبار ذلك بداية أساسية لحل الأزمة سياسياً، ما يلغي عملياً أي معنى لتصريحات الإدارة الأميركية المتكررة بأنه لا دور للأسد في مستقبل سورية.
ومع بديهية عقم المقاربات الإقليمية عن إمكانية فصل الدكتاتور بشار الأسد عن الاحتلال الإيراني، فإن التحول في الموقف الإقليمي سيشكل، بلا شك، السقف التفاوضي لأي عملية سياسية قادمة برعاية دولية، خصوصا أن مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أعلن مسبقا في آخر إحاطه له لمجلس الأمن بأن اجتماع جنيف في 28 من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري سيتناول قضيتي الدستور والانتخابات، ما يعني أنه لن يكون هناك فرق، من ناحية المضمون، بين المؤتمر الذي أزمع بوتين عقده في سوتشي، بغرض إلغاء مطلب رحيل رأس النظام، وحصر الحل السياسي بتعديل دستوري، والمشاركة في انتخابات عامة محسومة النتيجة مسبقاً (وهو ما رفضته قوى الثورة على الأرض)، والمؤتمر المزمع عقده في حال تم تغيير ميثاق مؤتمر الرياض الأول الذي انبثقت عنه الهيئة العليا للمفاوضات، وإسقاط قرار مجلس الأمن 2118 ومطلب الانتقال السياسي أساسا للعملية التفاوضية. ويبدو أن الخلاف الذي حصل بين إدارتي ترامب وبوتين بشأن مؤتمر سوتشي قد زال، بعد الاتفاق على إخراج المضمون الذي يريده بوتين في جنيف.
لقد أولت الأجسام السياسية لقوى الثورة والمعارضة في سورية الدبلوماسية أهمية بالغة في تحركها، خصوصا مع ظهور مجموعة أصدقاء الشعب السوري. ومنذ تأسيس المجلس الوطني، مرورا بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، إلى الهيئة العليا للمفاوضات، جرت جهود مكثفة في عواصم عربية وعالمية، لجلب التأييد، الدولي والإقليمي، لمطالب الشعب السوري. والذي يميّز تلك الفترة أن هذه الجهود الدبلوماسية كانت تسند إلى شرعيةٍ مستمدة من الحراك الشعبي والقوى الثورية على الأرض. مع ظهور محور الثورة المضادة، بدأ التصدّع داخل نواة مجموعة أصدقاء الشعب السوري، وهي 11 دولة، منها خمس دول عربية، السعودية والإمارات ومصر والأردن وقطر، وخمس دول غربية، أميركا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وتركيا. تلا ذلك احتلال روسيا سورية الذي اعتبره المحور المذكور فرصةً يمكن من خلالها إضعاف إيران. واستناداً إلى تلك القراءة المغلوطة، بدأت جهود "هندسة" الثورة بقلب معادلة التوازن بين العمل الدبلوماسي والاستناد إلى شرعية الأرض التي اتبعتها المعارضة، بحيث عملت الدول الإقليمية على ربط شرعية المعارضة بالاعتراف الدولي من جهة واحتواء الثوار في الداخل بورقة الدعم من جهة أخرى.
وقد ساعد الزخم الثوري الأجسام السياسية للثورة بتجاوز أغلب عمليات التمييع التي تعرّضت لها، بدءاً من مبادرة "فورد – سيف"، نسبة إلى السفير الأميركي السابق روبرت فورد ورئيس الائتلاف الحالي رياض سيف، والتي استهدفت إنهاء المجلس الوطني، وتم تجاوزها بتشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في الدوحة، والذي ضم المجالس المحلية وشخصياتٍ ومكونات وطنية إلى المجلس الوطني، ثم عملية التوسعة التي فُرضت فيما بعد على الائتلاف، بإدخال كتلة أحمد الجربا وتنصيبه رئيساً للائتلاف، فتمت إطاحة الجربا، وإخراجه من "الائتلاف"، تبع ذلك استقالة أغلب أعضاء كتلته، وبعدها في مؤتمر الرياض 1، والذي عُقد باعتباره مُخرجا لمقرّرات مؤتمر فيينا الذي تميّز بدخول روسيا لاعبا دوليا أساسيا في الساحة السورية، تم تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات التي هبت رياحها على غير ما تشتهيه سفن بوتين.
إلّا أن قوى الثورة على الأرض فقدت، على مدى السنوات الخمس الماضية، أغلب قياداتها العسكرية الواعية، كما خسرت الأجسام السياسية في الخارج والحراك الثوري في الداخل كوادر وطاقات مؤثرة، وأضحى عبء الثورة يشتد على من يحمل همّ نصرتها، في مقابل محاولات الاختراق، وتصدّر بعض الفاسدين في اتخاذ قرارات مصيرية.
ولا بد من الإشارة إلى دور المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، في المساهمة في عملية تمييع المعارضة، وتحويل جولات جنيف من مفاوضاتٍ على أساس قرار مجلس الأمن 2118 إلى حوار "طرشان" بين وفود الهيئة العليا للمفاوضات ومنصاتٍ ساهم هو وفريقه في تشكيلها في موسكو والقاهرة، إلى جانب لقاءات تقنية في جنيف ولوزان، أخرجها إعلاميا على أنها توافقات سياسية بين أطراف المعارضة.
اللافت أن أغلب الشخصيات التي خرجت من اللعبة في عملية التدافع بين الإرادة الثورية والضغوط الدولية تم توجيه الدعوات إليها للمشاركة في مؤتمر المعارضة الجديد في الرياض، ما يعني أن مخرجات الهندسة الجديدة للمعارضة قد تتناسب مع الإطار الدولي الجديد، بشكلٍ غير مسبوق. لكن هل هذا هو الطريق الذي يؤدي إلى حلّ الأزمة؟
بدأ الدكتاتور بشار الأسد حملته ضد حراك الشعب السوري، ومطلب هذا الشعب في الكرامة، بمقاربة "الأسد أو لا أحد" و"الأسد أو نحرق البلد". ويُظهر المشهد في سورية اليوم للعيان أن الأسد فقد مقومات الدولة الأساسية التي تتمثل في الأرض والشعب والمؤسسات. وحملات القتل أرضا وجواً مستمرة، على الرغم من اتفاقيات خفض التصعيد، ولم يعد هنالك جيش سوري، بل مليشيات أجنبية ومرتزقة خارجة عن السيطرة تقاتل باسمه. والضامن في أي اتفاق هو المحتل الروسي نفسه الذي ينتهك حرمته في كل جولة محادثات، سواءً كانت في جنيف أو أستانة.
وتقتضي الواقعية السياسية أن الحل السياسي يكون بالقضاء على جذور الكارثة التي تتمثل في الأسد نفسه، وحلقة الإجرام حوله. وطالما بقي الدكتاتور على رأس السلطة، فإن القتل سيستمر، فلم يعد هناك نظام يمكن أن يعاد تأهيله، بعد أن قطع الأسد الحبل الذي كان يربطه بالشعب، بل عصابة يديرها الدكتاتور الهزيل، تحت إشراف المحتل الروسي الذي لا يرى حلا لأزمات الشعوب سوى بنموذج أرض محروقة مثل غروزني، وعميل مثل رئيس الشيشان رمضان قديروف، والبلد تقسمت إلى مناطق نفوذ بين دول لا يملك بوتين قدرة إزاحتهم عنها.
.. جاءت ثورة سورية تجاوبا طبيعيا مع ثورة الكرامة في المنطقة، وهي من الثورات الكبرى التي تغير عندها مجرى التاريخ، وأعيد رسم الخارطة الجيوبوليتيكية في العالم. إلّا أنها حالة فريدة لا يمكن لقوةٍ، مهما بلغ حجمها، أن تحتويها أو تتعامل معها. والعامل الأقوى في هذه المعادلة هو العامل الشعبي، على الرغم من الفارق الكبير في القوة المادية التي يمتلكها، مقارنة بالتي يستخدمها المحتل الروسي الذي يحاول فرض إرادته.
المقاربات المطروحة حالياً، والتي تتجاهل جذورالكارثة في سورية، وتعيد تأهيل منظومة الأسد، لن تساعد سوى في انتشار رقعة الفوضى، وربما تعجّل في انهيار المنطقة. ولا يمكن لأي معادلةٍ أن تفرض على الأرض، إذا غاب عنها العامل الشعبي. والشعب السوري الذي ضحى بالمال والنفس، لتنعم الأجيال القادمة بالحرية والكرامة، ما زال عند كلمته التي ردّدها منذ البداية: "الشعب يريد إسقاط النظام".
يشهد الشأن السوري، مطلع العام الجديد، أكثر من لقاء ومؤتمر واجتماع مصحوب بمفاجآت وتحولات سياسية وعسكرية ودستورية عديدة في المنطقة. وخلال الأشهر الثلاثة المقبلة ستتحرر سورية تماما من تهديد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ووجوده في المشهد السياسي والأمني للبلاد. وسيبدأ نقاشٌ ينتهي سريعا مع فصائل جبهة النصرة وامتداداتها، باعتبارها عقبة أمام الحل، عبر خيار تبني القوة ضدها أو اقتناعها هي بضرورة تفكيك بنيتها وإنهاء دورها كما هو قائم، والتوجه نحو الذوبان في تكتلات وتحالفات أكثر اعتدالا وليونةً واستعدادا لتقديم لغة الحوار على التصعيد والتحدّي.
ولن يكون هناك هذا التصعيد التركي الروسي ضد مجموعات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، كما تُمنّي أنقرة النفس بذلك، وستتم عمليات سحب مناطق كثيرة يسيطر عليها من يده إما لصالح النظام أو وضعها تحت تصرف حلفائه الأميركيين أو الروس، لينوبوا عنه في عمليات المساومة السياسية والدستورية، ريثما تتضح طريقة مشاركته في المفاوضات السورية السورية.
وسيتضح شكل خريطة الطريق الجديدة لقوى المعارضة السورية ومنصاتها وقواها السياسية والعسكرية، والتوجه في منحى توحيدها تحت سقف مشترك، يجلس في إطار وفد واحد على طاولة المفاوضات. وسيتقلص عدد منصات التحرك وقاعات الاجتماعات واللقاءات، وسيتقدم التفاهم على قالب حوار سياسي جديد، يدمج مساري أستانة وجنيف وما تريده روسيا أمام طاولة واحدة خارج الأمم المتحدة، ولكن تحت غطاء قراراتها، كما حدث في تفاهمات الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الغربية.
وستبدأ عملية تفعيل صيغة الحلول السريعة والعملية لملفات إنسانية واجتماعية وحياتية يومية، تأخذ بالاعتبار ملفات اللجوء والنزوح والإعمار والإفراج عن المعتقلين، وتقليص عدد خطوط التوتر بضمانات دولية. وستحسم مسألة مصير النظام الذي يريد ضمانات إقليمية ودولية بشأن وجوده أمام الطاولة، وعدم تعرّضه للمساءلة السياسية والقانونية، بعد المرحلة الانتقالية في أي ملفات جرائم أو قتل. هل سيحصل ذلك كله؟ هل أصبح الحل في سورية على الأبواب فعلا؟ وهل يتطلع الشعب السوري بكافة انتماءاته وميوله وتوجهاته إلى الأسابيع القليلة المقبلة لعقد اجتماعات إقليمية ودولية، تخرجه من أزمته ومعاناته بعد 7 سنوات من القتل والدمار والتهجير؟ هل يأتي الخلاص هذه المرة من فيتنام، حيث التقى الرئيسان، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، ودخلا في عملية مساومةٍ تنهي الأزمة السورية، حيث برز القلق الروسي من أخطار تقسيم سورية وتفتيتها، لتقابله قناعة أميركية بأن الفيدرالية هي الخيار الوحيد المتبقي، على الرغم من اعتراضات محلية وإقليمية، على أن الفدرلة ستكون، عاجلا أم آجلا، مقدمة للانفصال وإعلان الكيانات المستقلة؟ هل يمكن القول إن روسيا فشلت في تحويل أستانة إلى مركز الثقل في ملف الأزمة السورية على حساب جنيف، ولذلك تحركت نحو المنبر البديل الذي تروجه تحت عنوان "مؤتمر الحوار الوطني"؟ هل يأتي التفاهم الأميركي الروسي في سورية في إطار خطة حسابات ربح وخسارة إقليمية ودولية أم نتيجة مطلب من بعضهم في إطار صفقاتٍ لإضعاف قوى على حساب تعزيز نفوذ أخرى؟
الواضح أن روسيا نجحت في تعطيل فرض أية عقوبات دولية ضد النظام السوري، على الرغم من كل التقارير الأممية والدولية بشأن جرائم ارتكبها ضد الشعب السوري، لكنها نجحت أساسا في تعطيل أي عمل عسكري غربي أو إقليمي ضده. وتمكنت روسيا أيضا من تمييع قراراتٍ أممية كثيرة، وتفريغها من مضمونها، وتفعيل ما يناسب مصالحها في سورية ويفتح الطريق أمامها، للإمساك بمزيد من خيوط اللعبة هناك، وكان آخرها دعوتها إلى مؤتمر الحوار والمصالحة الوطنية السوري، ونجاحها في فرضه على الجميع، على الرغم من كل الاعتراضات والرفض والتحفظ من حلفائها قبل خصومها.
أما تركيا فتواصل رفضها الاعتراف بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، لكنها قد ترضى بمشاركة من يمثله من المعتدلين في صفوف قوات سورية الديمقراطية، فهي غير راغبة في التصادم مع روسيا مجدّدا بعد مصالحة مكلفة في أعقاب أزمة إسقاط المقاتلة الروسية، قبل عامين.
وبشأن إيران، فإنها تعرف أنها ستكون أول من يدفع ثمن التقارب الأميركي الروسي، خصوصا أن موسكو تسلمت الرسائل الأميركية بشأن إصرار واشنطن على التصعيد ضد طهران، ليس بطلب سعودي أو إسرائيلي فقط، بل لتقليم أظافر إيران وحلفائها في لبنان وسورية واليمن، ولإنهاء تشدّدها في قطع الطريق على صفقات سياسية إقليمية كثيرة، ستظهر إلى العلن مع تراجع ملف الأزمة السورية. وروسيا جاهزة للتفريط بشراكتها مع إيران في سورية، ما أن تتأكد من حسم أنقرة وواشنطن موقفهما باتجاه دعمها في الحصول على ما تريده في سورية. وفي العلن "الولايات المتحدة تريد سورية كاملة وموحدة، لا دور لبشار الأسد في حكمها"، كما يقول وزير الخارجية، ريكس تيلرسون. وفي الخفاء، هي تفاوض الروس على كل شاردة وواردة، خصوصا ما يتعلق منها بالموضوع الكردي.
بصورة أوضح، روسيا هي صاحبة الدور الأهم في قلب موازين القوى في سورية. وستتجاوز اقتراحاتها بشأن صناعة المشهد السياسي الجديد هناك وضع مسودة دستور فيدرالي لسورية، ومنح الأكراد حكما ذاتيا في إطار سورية موحدة. وستطالب موسكو أنقرة بتغيير سياستها السورية، سواء أكان ذلك حيال النظام ودوره في المرحلة السياسية والدستورية المقبلة، أو في موضوع قبول قوات سورية الديمقراطية لاعبا معترفا به على الأرض، وله ثقله ودوره في رسم معالم خارطة سورية الجديدة ومستقبل البلاد، ليس إرضاء لواشنطن، بل من أجل حسابات خط الرجعة في سياستها السورية. ولم يعد خافيا على أحد أن الحوار الروسي التركي والروسي الإيراني اليوم مرتبط مباشرة بحجم التفاهمات الروسية الأميركية ومسارها، وفرض خريطة الحلول، تمهيدا لترتيب طاولة تفاهمات نهائية روسية - أميركية. ولا بد أن يكون هناك ثمن دفعته واشنطن لموسكو مقابل حماية مصالح حليفها الكردي المحلي ودوره في سورية. لكن الأهم هو من هي القوى التي حرّكتها إدارة ترامب للضغط على بوتين، أو التفاوض معه في سورية، على إضعاف تركيا وإيران ومحاصرتهما، في مقابل ترك روسيا تتحرك كما تشاء في الجغرافيا السورية؟
تعرف موسكو وواشنطن جيدا أن أنقرة وطهران هما أبرز من يعرقل تقدم مشروعهما في سورية. لذلك يريدان إنجاح اجتماع الحوار الوطني السوري ولقاء جنيف الثامن المقبل، في إطار براغماتية جديدة تناقش الحل في سورية. العروض المغرية التي تقدمها واشنطن باستمرار لموسكو بشأن جهوزيتها لحوار ثنائي جديد أكثر فاعليةً، بدل رهانها على ما تقوله أنقرة وطهران ورقة تلعبها روسيا باحتراف في حوارها مع البلدين، سورياً وإقليمياً اليوم.
ستحصل روسيا، في نهاية الأمر، على ما تريده في سورية، سواء بعدم عرقلة مشروعها في المفاوضات السورية- السورية، وإبقاء النظام أمام الطاولة، حتى إشعار آخر، وإلحاق حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بالمباحثات، فهي تمسك اليوم بأكثر من ورقة محلية وإقليمية، في مقدمتها تضييق هامش التحرك التركي الإيراني في سورية، وتقدمها بفارق كبير على بقية اللاعبين في فرض رسم خريطة مستقبل سورية السياسية والدستورية والعرقية، كما تريد.
تعرف أنقرة أهمية حماية علاقاتها مع موسكو، خصوصا أن علاقاتها بواشنطن تتدهور وتتراجع يوما بعد آخر. وهي قد تحصل على جوائز ترضية روسية كثيرة، لناحية إنهاء النزاع الأرميني- الأذري في ناغورني قره باخ، وقبول الوساطة التركية في القرم بين روسيا وأوكرانيا، وإقناع موسكو بالشراكة الفاعلة في مشروع السكة الحديدية التي تربط آسيا الوسطى بمنطقة البحر الأبيض المتوسط أو آسيا بأوروبا. من المهم طبعا أن يلتقي الرئيسان، التركي أردوغان والروسي بوتين، ثماني مرات خلال 15 شهرا، لكن هناك حقيقة أخرى بشأن احتمال أن تكون المساومة الحقيقية في سورية، روسية أميركية بالدرجة الأولى.
يردد الأتراك والروس أنهما يتعاونان بشكل وثيق في سورية، لكن المقاتلات الروسية كانت تواصل غاراتها في غرب حلب، لحظة هبوط الطائرة التي أقلت أردوغان إلى منتجع سوتشي الروسي. ويقول نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، للأتراك، إن واشنطن ستواصل دعمها قوات سورية الديمقراطية، حتى بعد القضاء على "داعش" في سورية. ماذا يعني ذلك بالمقياس التركي للأمور غير التمسك أكثر فأكثر باليد الروسية الممدودة؟
الكرة في ملعب روسيا، ليس بسبب تمكّنها من سحب أوراق من يد طهران وأنقرة والنظام والأكراد والمعارضة، بل في نجاحها في طرح طريقة الحل التي تريدها هي في سورية وإقناع واشنطن بها كما يبدو، تاركة مصير لقاءات أستانة وجنيف تحت رحمتها مباشرة. وقد حصلت روسيا على ما تريده في سورية، وأصبحت بقدرة قادر الكفيل والمقرّر والموجه في الملف السوري، ورسم خريطة مستقبل "الشعوب السورية"، وهي اليوم من يدعو السوريين إلى المصافحة والعناق والجلوس حول طاولة التفاوض، تطالبهم بنسيان أسباب سقوط نصف مليون قتيل وتشرد عشرة ملايين نازح ولاجئ، يراد منهم العودة إلى أرضهم، حتى لو لم يعثروا على منازلهم وممتلكاتهم وقراهم فيها.
تعددت القراءات السياسية والإعلامية للبيان المقتضب الذي صدر إثر لقاءات عابرة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، على هامش اجتماعات منظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في فيتنام الأسبوع الماضي (11/11)، على رغم أنه نسج على منوال كل البيانات المتعلقة بالقضية السورية، التي صدرت عن الدول المتصارعة في سورية، حيث أعاد البيان تأكيد أولوية محاربة الإرهاب والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وأن الحل في سورية يجب ان يكون من خلال تسوية سياسية في إطار جنيف. وبغض النظر عن حرص البيان على أن يكون مجرد وثيقة تصدر بعد اللقاء الذي سعت إليه موسكو وترددت واشنطن في قبوله، إلا أن ما ذكر فيه ليس إلا محاولة روسية لتمرير مشهد توافقي بين دولتين عظميين تستفيد منه موسكو لتحسين موقعها في تفاهماتها مع حليفيها الإيراني والتركي اللذين أغفل البيان ذكرهما كما أغفل مسار آستانة.
إن تأكيد التسوية التي قبل بها رئيس النظام السوري عبر عملية جنيف، ينفي في مضمونه وجود التوافق على ما ينص عليه القرار الأممي الذي أشير إليه (2254) المستند إلى بيان جنيف -1، أي «الانتقال السياسي»، ما يعطي الفرصة الكاملة لروسيا لمتابعة جهودها في إعادة الاعتبار إلى النظام، من خلال عملية التسوية التي تترجمها روسيا بإقامة حكومة «وطنية» تشارك فيها المعارضة من خلال التغيير الدستوري، الذي لا تمانع روسيا في مناقشته سواء في جنيف، أو من خلال مسار آستانة، أو من خلال المؤتمر الذي تحاول شرعنته، والترويج له بأنه مؤتمر السلام السوري، في مدينة سوتشي الروسية أو أي مكان آخر، حيث ان التزام الأسد عملية جنيف ليس جديداً ليطرح في بيان على مستوى ترامب- بوتين، سيما ان وفد النظام يشارك في كل جولات جنيف منذ عام 2014، ما يجعل غياب تعبير الالتزام بالانتقال السياسي بناء على بيان جنيف -1 هو المقلق، وليس ما ذكر هو الجديد الذي يمكن مناقشته.
ولعل تجاهل البيان ذكر اتفاقات «خفض التصعيد»، عبر مسار آستانة، ومآلاتها على واقع العملية السياسية، يفيد بأن وجود الشريكين (تركيا وإيران) في العملية السياسية لا يزال غير مرحب به من الجانب الأميركي، ما يحرج موسكو من جهة، وفي الوقت ذاته يعطيها فرصة المناورة مع شريكيها لتحكم قبضتها عليهما، وبالتالي كي يقبلا بالحل الروسي الوحيد حالياً، لتأمين مشاركتهما وضمان حصتهما من الكعكة السورية، التي تكاد تقضمها أميركا جنوباً (اتفاق الجنوب) وشمالاً (الوجود الكردي) وشرقاً (التلاعب بمصير المعارك القائمة على الحدود مع العراق، إلى حين توقيعها على الخريطة النهائية للمنافذ الحدودية)، ويأتي ذلك على رغم الوجود الروسي الفاعل في الساحة السورية، سواء في العمليات القتالية التي تخوضها حتى اللحظة مع النظام ضد معارضيه، أو في قيادة النظام على الساحة التفاوضية، ما يعني أن أمام موسكو خوض معارك تفاوضية من جديد مع شريكتيها في آستانة لإعادتهما إلى حيز الرؤية الأميركية، والقبول بهما، ليس من بوابة الواقع القائم، ولكن من خلال خريطة حل روسية جديدة، تزيح فيها إيران من جنوب سورية وتركيا من شمالها.
على ما تقدم فإن ذكر البيان أن نهاية الصراع في سورية يجب أن تكون في إطار عملية جنيف، لا يعني بالضرورة أن هذا الصراع قد وصل إلى نهايته، فالعملية التفاوضية متداولة دولياً منذ أربعة أعوام، وهي قد تستمر ما لم يأخذ الحوار الروسي- الأميركي شكله الجاد وليس اللقاءات العابرة، والبيانات المفتوحة على التفسيرات المتضاربة بين الموقّعين عليها، حيث تنفي موسكو ما تعلن عنه واشنطن، والعكس (تصريحات واشنطن التي واجهتها تصريحات الكرملين حول تفسير بيان فيتنام المشترك)، لكن على رغم ذلك فالإشارة إلى إطار عملية جنيف تحمل بعض ما يمكن التعويل عليه، في أن البيان يمنح فرصة للسوريين في ترتيب بيتهم الداخلي على جانبي الضفة معارضة ونظاماً:
فمن جهة النظام، فقد سلم أوراقه كاملة إلى روسيا، التي تدير عملياته القتالية والتفاوضية، وتهيّء باستمرار لبدائل تربك السوريين والمجتمع الدولي، كما فعلت بخلقها مسار آستانة لشؤون العمليات القتالية ومحاربة الإرهاب، وربطت نتائجه في الميدان مع مسار جنيف الأممي، فهي اليوم تحاول الأمر ذاته ولكن على صعيد سياسي بالدعوة الى مؤتمر حوار مكونات الشعب السوري (حميميم سابقاً)، وعلى رغم فشلها في إقامته في الوقت الذي أعلنت عنه، بيد أن فكرته والعمل عليها لا تزال موجودة، وفرصة إقامته تكبر مع استشعار تركيا وإيران بخطر أن لا يراعي مسار جنيف مصالح وجودهما في سورية، وقد أشارت إلى ذلك دلالات تغييب البيان اتفاقات خفض التصعيد الذي عقدت في ظل جولات آستانة، والتركيز فقط على اتفاق الجنوب الذي رعته روسيا والإدارة الأميركية والأردن، ما يوحي بحجم خلاف الإدارة الأميركية مع الضامنين الآخرين (إيران وتركيا)، اللذين سارعا إلى التلطي وراء علاقتهما بروسيا.
أما من جهة المعارضة فهي تملك فرصتها- التي ربما تكون الأخيرة - من خلال مؤتمرها الموسع في الرياض، لتعيد بناء نفسها من جديد، وتنقلب على واقعها المرير وتبدأ بقراءة المجريات مبتعدة عن أخطائها وقراءاتها التي كانت في معظم الوقت مخالفة للوقائع ومتأخرة وقاصرة، ما أوصلها اليوم إلى حائط شبه مسدود، فتح لها المجتمع الدولي عبر الرياض-2 ثغرة فيه لتعمل من خلالها، مستفيدة من القرارات الأممية جنيف- 1 و2118 و2254، فإما أن توسعها وتجعل منها نافذة للعبور إلى حل سياسي ينجو من خلاله السوريون، الذين قدموا تضحيات لم يسبقهم إليها أحد منذ الحرب العالمية الثانية، ويجنبهم مزيداً من القتل والدمار والضياع، ويستعيد السلم والأمن والاستقرار، ويشرع الأبواب أمام تغيير سياسي حقيقي، يستعيد معه الشعب سلطته ويبني دولته على أساس المواطنة الكاملة للجميع، أو تجعل منها الفرصة الضائعة لمزيد من التشتت والانقسام والتشظي.
يدرك من سيكونون في اجتماع الرياض حجم مسؤوليتهم اليوم تجاه شعب يتعرض للموت يومياً، من خلال القصف مرة، ومن الحصار المفروض عليه مرات، ومن مواجهته للإرهابيين الذين يحيطون به ويحتلون أجزاء من مدنه، وعلى ذلك فالأولويات لديهم واضحة من وقف قتلهم وفتح المعابر امام المساعدات، ومحاربة الإرهاب، إلا أن ذلك لن يتحقق من خلال البيانات، فهو يتطلب إنهاء واقع نظام حالي، وبناء نظام سياسي مهمته تأمين الحياة الآمنة والكريمة لكل السوريين، ليحملوا سلاحهم في وجه الإرهاب المسلح منه والفكري، والأخير هو المهمة الأصعب على كل الأطراف السورية والدولية.
إن انعقاد مؤتمر موسع للمعارضة ما بين 22 و24 من هذا الشهر يجمع المكونات، وينهي عمل الهيئة العليا للتفاوض التي انبثقت عن مؤتمر الرياض-1، في حضور الكيانات بصفتها، وعديد من ممثلي منظمات المجتمع المدني، والضباط المنشقين والفصائل المسلحة، والمجالس المحلية، والشخصيات الاقتصادية والسياسية، والتمثيل النسوي فيه، هو فرصة ربما تكون الأخيرة، ليس فقط لإنتاج رؤيا تعبر عن مقاصد ثورة دفع السوريون أثماناً باهظة فيها، بل هي اللحظة المناسبة لنفكر جميعاً في إقامة الإطار الجامع الذي يمثل الثورة وينهي حالة الشتات في منصات وكيانات وعواصم وأجندات، وينتج منه وفد واحد بمرجعية هذا الإطار ومخرجاته.
السياسة الخارجية عمل طويل المدى ويتطلب الصبر، بيد أنه حافل أيضًا بالمفاجآت وحتى خيبات الأمل. والملف السوري أفضل مثال على ذلك...
بدأت الحرب السورية كآخر حلقة من سلسلة الربيع العربي، وأصبحت مشكلة عصية على الحل. كل الحسابات الموضوعة في البداية بخصوص هذه المشكلة باءت بالفشل، وبينما فقد بعض البلدان تفوقه، وجد البعض الآخر فرصًا لم يكن يتوقعها.
من الواضح أن الأمور لم تسر كما كانت تخطط تركيا والسعودية والولايات المتحدة والكثير من بلدان المنطقة. أسباب ذلك قضية مختلفة، لكن بالنتيجة مسار الأحداث في سوريا بعيد جدًّا عن المأمول.
المشكلة الأصلية هي أن أيًّا من البلدان التي لم تنل ما كانت تصبو إليه ليست مهددة بأضرار مباشرة بسبب الوضع الجديد في سوريا على خلاف تركيا.
كانت السعودية والولايات المتحدة ترغبان برحيل الأسد، لكن بقاءه بالنسبة لهما لا يحمل خطرًا داهمًا. وأكثر من ذلك، تعرض وحدة التراب السوري لأضرار قد لا يعد أمرًا مرعبًا بالنسبة لهما.
لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لتركيا... أولًا، إقامة منطقة على طول شمال سوريا لوحدات حماية الشعب، وتزويدها بأسلحة أمريكية مشكلة كبيرة. لم تتمكن تركيا من توضيح مشكلة حزب العمال الكردستاني، وحجم تهديد وحدات حماية الشعب المرتبطة به، للعالم.
ثانيًا، استمرار حكم زعيم معادٍ تمامًا لتركيا في دمشق، ينطوي على خطر أمني بقدر وحدات حماية الشعب على أقل تقدير.
الخطر الكبير الثالث هو دور موسكو وطهران اللتين تتفوقان في المعادلة السورية الجديدة عبر أطروحات مناقضة تمامًا لما تنادي به أنقرة.
وعلاوة على الأخطار الثلاثة، هناك أيضًا تحول الولايات المتحدة، التي تعاونت تركيا معها في البداية، لصالح المعسكر المواجه.
لا ندري بأي مشكلة من هذه المشاكل تتعلق الانتقادات التي وجهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بلهجة حادة، قبل زيارته روسيا، إلى البلدان "المنافسة" في الملف السوري بما فيها روسيا نفسها.
ومما لا شك فيه أن أردوغان يعترض على توجه الولايات المتحدة وروسيا إلى إبرام اتفاق لا يأخذ الأطروحات التركية في الاعتبار.
هل من الممكن إبرام الاتفاق بالفعل؟ وإذا أُبرم فإن تطبيقه مشكوك به، لكن هذا الوضع يشير إلى أنه حتى لو انتهت مشاكل الجميع في سوريا إلا أن مشكلة تركيا ستستمر.
وبما أن المبادرات البناءة لم تؤتِ أُكلها فإن القوة الدبلوماسية الوحيدة الباقية في يد أنقرة هي "إفساد" الأمور. يتوجب على تركيا أن تلجأ إلى أداة جديد تظهر للجميع أنه لا يمكن التوصل إلى اتفاق دون تركيا، ومن دون موافقتها، أي دون إزالة مخاوفها.
ولهذا أقول إننا دخلنا أصعب وأدق مرحلة في الملف السوري. مرحلة تقف فيها تركيا وحيدة، لكن لا بد لها من أن تكون قوية في نفس الوقت.
من سمع منكم يوماً مسؤولاً سورياً أو مستشارة «خرشانة» مفعوصة شمطاء يتحدث عن آلام ومعاناة ولقمة عيش المواطن السوري الذي أنهكه الاستبداد، وزاد عليه حرب السنوات السبع الجاثمة على صدره؟ لماذا يتعاملون معه بكل هذا الاستهتار واللامبالاة والصلف والغطرسة التي قل نظيرها، ولا يأبهون ولا يلتفتون لآلامه وعذابه؟ ألم يقل الأقدمون خيركم خيركم لأهله ولا بارك الله بشجرة لا تظل جذعها؟ أليس جحا أولى بلحم ثوره بدل توزيع البركات و»الحب» القومي الزائف المزعوم على دول مستقرة وتنمو وليست بحاجة لبركات وعطف بشار وبثينة وهلال هلال؟
لماذا لا يفكر بشار الأسد بتوحيد شعبه المشتت قبل طوباويته المرضية وأحلامه النرجسية لتطويبه زعيما قومياً وإطعام هذا الشعب الجائع الذي يُعد اليوم في ظل قيادته الحكيمة واحداً من أفقر شعوب الأرض المحاصر الذي يعيش في بلد لا يستطيع أي مواطن خارج نطاق العصابات والمافيات المتسلطة من القيام بأي عمل حتى على مستوى بيع البليلا والفول كبائع متجول دون أن يحظى موافقة أولي الأمر ورضا المافيات الجاثمة على قلبه؟ ولماذا لا يجهد بشار الأسد نفسه، ويكرس وقته و»فكره» السديد لسد رمق الملايين وإعادة ملايين المهجرين الذين فروا بالقوارب تحت جنح الظلام من بطش وتعسف وقهر وظلم نظامه واختاروا «هويات» أخرى ما دام تشدق وتمنطق وأسهب بالحديث وتفذلك عن الهويات في إطلالته الثقيلة المملة الأخيرة أمام القومجيين العرب؟
هل لدى بشار الأسد مستشارون سياسيون وإعلاميون؟ من الواضح أنه حتى لو كان لديه مستشارون، فهم يخدعونه ويضحكون عليه، أو يورطونه ويغرقونه أكثر مما هو متورط و»غرقان» على كل الأصعدة، ويجعلونه يبدو أضحوكة ومسخرة دائمة باتت تستخدم للتندر والهزء في عيون الداخل والخارج والصغير قبل الكبير على حد سواء؟ كيف تفكر هذه القيادة وبطانتها؟ أم أنها تعيش في عالم آخر لا يمت لعالمنا بصلة، أو أنها تعرف كل تفاصيل الكارثة السورية، لكنها تحاول أن تكابر، أو تستفز الآخرين بالقفز إلى عوالم سريالية كوميدية فاقعة، كما كانت تفعل باستمرار على مدى سنوات الكارثة السورية. ولا شك أن سخافات ومسرحيات النظام السوري تذكرنا بغرق سفينة التايتانك الشهيرة، فهناك مشهد صارخ في فيلم «التايتانك» تظهر فيه فرقة موسيقية على متن السفينة العملاقة وهي تستعد لإحياء حفلة موسيقية، فنرى الموسيقيين والعازفين يجربون آلاتهم، ويجرون البروفات على المقطوعات التي سيعزفونها، وبدروهم ينشغل منظمو الحفلة في توزيع الكراسي والمقاعد على الحضور، بينما كان ألوف الأشخاص في تلك الأثناء على متن السفينة إما يغرقون في غياهب البحر، أو أنهم يبحثون عن أي وسيلة للهرب من السفينة الغارقة. منظر صارخ بكل المقاييس، موسيقيون مبتهجون على متن سفينه سيبتلعها البحر، وآلاف الركاب في حالة مرعبة من الخوف والهيجان والعويل والصراخ يبحثون عن قشة تنجيهم من الغرق في عرض البحار.
تذكرت ذلك المشهد الرهيب في فيلم التايتانك وأنا أستمع إلى خبر يقول إن بشار الأسد ألقى خطاباً في مؤتمر بدمشق لتعزيز القومية العربية ودعم الفكر القومي والعروبي والنضال الفلسطيني وكأنه لم يبق من مشكلة وهم ودواء ناجع لأوجاع وكوارث السوريين سوى هذر وطنطنات وطقطوقات الأسد القومية ما دمنا نستذكر جوقة التايتانيك. يا إلهي! لا تعرف ماذا ستفعل ولأي جدار ستصوب رأسك المثقل بالوجع وأنت تستمع إلى هذا الهذر واللغط السريالي الكوميدي الهستيري في خطاب بشار: هل تبكي وتصرخ بصوت عال، أم تضحك بشكل جنوني، فمثل هذه الأخبار لا تدع لك مجالاً للتفكير بهدوء وروية، بل تدفعك إما باتجاه الضحك الجنوني، أو الصراخ الجنوني. هل هؤلاء القوم لديهم ذرة عقل وحصافة؟
لقد وصفت الأمم المتحدة الكارثة السورية بأنها أسوأ كارثة عالمية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد تسببت بتهجير نصف الشعب السوري تقريباً، هرباً من سورياليات آل الأسد وجموحهم القومجي وأحلامهم الإمبراطورية السيادية والتوسعية، وقتل أكثر من مليون وإعاقة ملايين آخرين، ناهيك عن تدمير شامل لمدن بأكملها. ولا يكاد يمر يوم إلا ونسمع ألاف القصص عن اللاجئين والمشردين السوريين في عموم العالم، وخاصة في دول اللجوء كلبنان. والمضحك في الأمر أننا لم نر السفير السوري في لبنان مرة واحدة يزور مخيمات اللاجئين السوريين كي يطلع على أوضاعهم، ولم نسمع منه تصريحاً واحداً ضد الذين يعتدون على اللاجئين في لبنان ويسيئون لسوريا والسوريين معاً، ويبدو أن كل هذه الآلام لا تستدر كلمة واحدة من الفيلسوف القومجي المفوه فريد عصره وأوانه. أما الغريب في الموضوع أن هذا السفير وأمثاله يأتون إلى دمشق لحضور مؤتمر لدعم الفكر القومي العربي ودعم الشعب الفلسطيني. كيف نصدقكم أيها الأفاقون بأنكم تغارون على العرب والعروبة وأنتم تشردون شعبكم العربي السوري بالملايين، وتدمرون بيوته وتنهبون أرزاقه، وتستولون على أملاكه، وتغتصبون حرائره، وتحرقون ألوف الأطفال يومياً بالغازات السامة، وتسحقون السجناء في زنازينهم، وتستعينون عليه بكل مرتزقة الأرض كي تخضعوه؟ أيهما أولى بالدعم، القومية العربية، والعروبة، أم شعبكم الذي أصبح رمزاً للتشرد والبؤس والإهانة في كل أنحاء العالم؟ ألم تسمعوا بالمقولة الشهيرة: الأقربون أولى بالمعروف؟ كيف تتشدقون بأنكم تريدون الدعم الشعب الفلسطيني، بينما تدوسون شعبكم وتسحقونه تحت جنازير دباباتكم؟ كيف سيأمن لكم الشعب الفلسطيني وأنتم لم تستأمنوا على بني قومكم وأهلكم، فسرقتم سوريا، ونهبتهم شعبها وأصبح هذا الشعب بفضلكم أفقر شعب بالعالم؟ ثم من قال لكم أن الفلسطيني والموريتاني والمغربي يرحب بكم وسمعتكم السوداء سبقتكم بعصور. لقد أسرّ لي بعض أبناء اللواء «السليب»، وهم بالمناسبة من طائفة الأسد نفسها، أنهم يفضلون البقاء تحت حكم تركيا وهم ينعمون بالخير ورغد الحياة مقارنة مع ما يرونه من بؤس وفقر وحرمان لأبناء الطائفة العلوية في القرى المجاورة لهم في سوريا والتي لا تبعد مئات الأمتار عنهم، ولا يريدون العيش بحال تحت ظل هؤلاء الطغاة وما فعلوه بالطائفة نفسها من تجويع وإفقار. ثم والأهم من فوضكم التكلم باسم شعوب وقوميات وأعراض وبشر في بلدان مجاورة ومصادرة قرارة ورأيها ومصيرها والتحدث عن تطلعاتها وأحلامها ورسم مستقبلها لاسيما بعد المصير الأسود المشؤوم الذي آلت إليه سوريا تحت ظل حكمكم الاستبدادي؟ أليست محنة الشعب الفلسطيني، وحتى تحت حكم إسرائيل، هي «محنة» خمس نجوم مقارنة بمحنة الشعب السوري؟ لماذا لم تعقدوا مؤتمراً واحداً لدعم الشعب السوري المنكوب بدل عقد مؤتمر لدعم العروبة والنضال الفلسطيني؟ كيف سيصدقكم الشعب الفلسطيني بأنكم تدعمون نضاله إذا كنتم تشردون شعبكم وتذبحونه يومياً؟ ألم تملوا من هذه المؤتمرات القومجية المبتذلة والسافلة؟ هل هذا وقت المؤتمرات القومية أيها الأنذال والأوباش؟ أليس تأمين بضعة منازل للسوريين المشردين أفضل من إنفاق ملايين الليرات السورية على بعض القومجيين العرب الذين شحنتموهم من بضع دول عربية إلى دمشق ليتسلوا في فنادق سوريا بينما ملايين السوريين لا يجدون لقمة الخبز في الغوطة على بعد كيلو متر واحد من مقر مؤتمركم القومجي الوضيع؟
سؤال أخير للقيادة القومجية في دمشق: أي انفصام سياسي وفكري وعقلي هذا، وكيف تدعون إلى دعم الفكر العروبي والقومي العربي وأنتم تجلسون في حضن إيران الفارسية التي كانت على الدوام ألد أعداء القومية العربية؟ أم إنها قومية عربية برعاية فارسية؟ لماذا لا توحدون الشعب السوري أولاً قبل التفكير بتوحيد شعوب الإقليم؟ ألم يـَدعُ حليفكم الروسي لمؤتمر لـ»الشعوب» السورية» وليس الشعب السوري؟
وحدوووووووه!
في الأيام الأخيرة يطرح عدد كبير من أصدقائي العرب الأسئلة عبر المراسلات بشأن كلمة يفغيني ساتانوفسكي أمام مجلس الاتحاد (مجلس الشيوخ الروسي) التي ألقاها ضمن برنامج «وقت الخبير».
يفغيني ساتانوفسكي هو رئيس معهد خاص وصغير، تحت تسمية الشرق الأوسط، وعادة ما يظهر على شاشات القنوات التلفزيونية وفي محطات الراديو. السؤال الرئيسي: إلى أي درجة يعكس يفغيني ساتانوفسكي في طرحه رأي المواطنين الروس؟ أستبق الجواب للقول: إنها شريحة صغيرة للغاية لا تكاد تذكر. لكن مع ذلك سأتطرق باختصار وبشكل عام لبعض «مصارحاته» المسرودة في كلمة هذا الخبير.
هذه الكلمة موجودة في مقطع فيديو مدته نصف ساعة، في موقع «يوتيوب» لمن يرغب في الاطلاع عليها.
أول مصارحاته هي: أنه في الشرق الأوسط نصف الدول لا وجود لها، فهذه الدول مقسمة إلى قبائل، وهي تحت سيطرة «تحالفات لقادة ميدانيين». لقد ألغى بكل بساطة نصف دول الشرق الأوسط من الوجود. نعم لدى السيد ساتانوفسكي ما يكفي من الجرأة كي يهين الجميع - أناساً كانوا أم دولاً بحد ذاتها.
أما مصارحته الثانية، فهي حول المملكة العربية السعودية: فحسب رأي هذا الشخص لا داعي لروسيا أن تقع في غرور تقاربها مع السعودية. عزاؤه الوحيد بحسب ما يتوهم به هذا الخبير، هو فقط تطابق مصالحنا في الحد من إنتاج النفط.
هنا ينتقل المتكلم إلى شمال القوقاز الروسي. وإليكم مصارحته الثالثة: 50 في المائة من الطوائف المسلمة في داغستان هي «راديكالية» أو لها «ارتباط وثيق بالراديكاليين».
أما الرابعة فهي بشأن سوريا، حيث يدعي أن تقييم القدرات القتالية للإيرانيين في هذه الدولة من قبل العسكريين الروس فيه بعض المراوغة. من غير المفهوم لماذا يأخذ ساتانوفسكي على عاتقه نقل تقييماتهم) – «الإيرانيون لا يتحركون ويعطون دور القتال للآخرين»، أما «حزب الله» فهو قوة لديها قدراتها القتالية.
المصارحة الخامسة، فهي وكما يقولون في روسيا «لا يمكن أن تدخل في أي باب»، لذلك أنا أتفهم امتعاض أصدقائي العرب من المراسلين. فهو يقول إن إسرائيل تعمل في سوريا في المناطق المحاذية لحدودها فقط، لكن في نفس الوقت لديها استخباراتها الفعالة.
في مصارحته السادسة، يقول المتكلم ما لا تعترف به إسرائيل نفسها (رغم أنها لا تنفيه). فلقد صرح بأن إسرائيل تعتبر دولة نووية منذ عام 1950، والأكثر من ذلك فإذا كان لدى باكستان ما بين 100 و120 رأساً نووياً، فإن إسرائيل – وألفت انتباهكم هنا إلى ما قاله! – تدخل ضمن الدول الثلاث الأولى في العالم التي لديها أحدث التقنيات النووية، بعد روسيا والولايات المتحدة.
فيما يلي بعض التصريحات المذهلة «بشأن الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط». ما يثير دهشة المراسلين هي تنبؤات هذا الخبير. وأي تنبؤات؟ مرة أخرى باختصار شديد.
ويقول عن السلطة في الجزائر بأنهم «ينظرون بغيرة إلى تعاوننا مع المغرب في المجال العسكري والتقني».
لقد تجاهل تونس. أما ليبيا فهي ببساطة لا وجود لها. يقول السيد ساتانوفسكي إن الإيطاليين يقفون خلف السراج والفرنسيين والإمارات العربية المتحدة ومصر خلف حفتر، و«نحن نقدم له شيئا ما». ما الذي يقصده هذا المتكلم الذي يعرف كل شيء؟ فكما هو معروف، روسيا ملتزمة بالحظر المفروض على توريد «شيء ما» إلى ليبيا. أما في فزان فيتصارع الإيطاليون مع الفرنسيين للسيطرة على الحدود. فهم حسب تأكيدات المتكلم، يستخدمون شرطة الجنجويد لقطع الطريق أمام المهاجرين الأفارقة، الذين ينوون الهجرة من الصحراء إلى أوروبا عبر ليبيا. وتبلغ أعدادهم مئات الآلاف من الأشخاص. وبأي طريقة يقومون بمنعهم. يبدو الأمر سهلاً جداً: فهم يقومون بقتلهم. هذا يعني أنهم يقومون بذلك طبقاً لطلب الأوروبيين. «أما نحن فنعمل هناك - ونعرف مدى أهميتنا حسب ما يشير إليه السيد ساتانوفسكي – عبر التعاون في المجال العسكري والتقني مع حفتر. هذا هو المكان الوحيد الذي يمكن الحصول منه على نتيجة نظراً لوجود النفط هناك».
أما مصر فهي الأخرى كان لها حصة في كلمته. فهو يرى مسترسلاً في مصارحاته: «إنها على أبواب كارثة جيوسياسية ومالية.
إن أكثر ما أدهش المراسلين العرب هي أقوال السيد ساتانوفسكي بشأن القضية الفلسطينية. في المقدمة كان قد صرح بأنه يدرس هذه القضية منذ سنوات عدة، ويدعي بأنه يعرف كل شيء «من داخل النخبة الفلسطينية». وما يتبع - هو أعمق!. الدولة الفلسطينية لم تتشكل، ولا يمكن تشكيلها، ولن يشكلها أحد، لأن كل الأموال تسرق. المنفذ الوحيد - هو تحويل فلسطين إلى ما يشبه بورتوريكو، التابعة للولايات المتحدة الأميركية، أما فلسطين فستكون في هذه الحالة تابعة لإسرائيل. «حتى حماس في غزة لا تعترف بأي عملات أخرى عدا الشيقل»، بحسب ساتانوفسكي. ويشتكي ساتانوفسكي من أن الأمم المتحدة تصرف أموالاً طائلة على الفلسطينيين المهجرين وعلى السلام وغيره، والبيروقراطية أيضاً تهدر أموالاً كبيرة. فليستمروا في هذه الحرب «الدبلوماسية التي لا معنى لها».
ومن ملاحظات ساتانوفسكي أيضاً - يقول: عمل معنا الجميع في الشرق الأوسط ومن ثم «سلمونا للأميركيين». لا يجوز إعطاء القروض إلى أحد في تلك المنطقة، فهم لن يسددوها، «هذا هو المتعارف عليه عندهم».
أما عن سوريا فيقول: «نحن قمنا بسحق عدد كبير من المسلحين» - وكأنه بنفسه شارك في ذلك - «وإلا لكان لدينا في شمال القوقاز حرب إرهابية خطيرة». وفي سياق كلمته يسمي الجولان «إسرائيل» (!) فلا يكترث هذا الخبير لا بالموقف الدولي ولا بالموقف الروسي الرسمي. وعبر عن رأيه تجاه الأسد أيضاً، فقد أعلن وبشكل قطعي: أن «الأسد يثير الامتعاض لدى الجنرالات السوريين الذين يحاربون على الجبهة» (من أين له هذه المعلومات؟) ويضيف أيضاً: «ومن عندنا يتابعون هذا الأمر باهتمام» (فمن يقصد عندما يقول: من عندنا؟).
أما آستانة، ومرة أخرى يستخدم ساتانوفسكي ضمير «نحن»، نحن أخرجناها خارج إطار جنيف. بوضعه آستانة مقابل جنيف يتجاهل هذا الخبير الإعلان الرسمي للرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف عن تمسك روسيا بالتسوية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة. وهو ما أكده من جديد الرئيس بوتين خلال قمة «أبيك» في فيتنام.
ومصارحته عن العراق. «مسعود بارزاني يسلم كل ما أمكن من أجل الحفاظ على السلطة». ويعلن ساتانوفسكي بشكل قاطع قائلاً: أما الإرهابيون فقد رُحلوا إلى منطقة الأنبار، التي يدعي أنها باتت مركزاً لـ«داعش»، وهم فيها سالمون ويتم نقلهم منها إلى سوريا، «لضرب القوات الروسية».
وتطرق الخبير إلى خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران قائلاً: «الأكيد أن ترمب سيلغي هذه الخطة في الكونغرس، وإيران سوف تصبح دولة نووية بعد عقدين، وعلينا أن نتعايش مع هذا الأمر».
ويطرح نفسه هنا سؤال آخر: هل يعقل أن كل هذا الهراء يقوله واحد من «الخبراء» الروس (هذا إذا أمكن اعتباره كذلك)، وزد على ذلك أين؟ في قاعة مجلس الاتحاد الفيدرالي (مجلس الشيوخ)؟ نعم إنه مبدأ تعدد الآراء - أحد مكاسب الديمقراطية.
لكن يبقى السؤال: ما الجهة التي يمثلها السيد ساتانوفسكي؟ ليكن أصدقائي العرب مطمئنين، مثل هذه الرؤية التي تحمل في طياتها الكراهية للعرب والإسلام لا يمكن أن تلقى دعماً في المجتمع الروسي، وإن لاقت من يدعمها فهي شريحة صغيرة للغاية. صغيرة إلى درجة لا تكاد تذكر.
ربما لا جدال في طبيعة المآلات العسكرية للحرب في سوريا، فقد صار لجماعة بشار الأسد أغلب الأرض والمدن الكبرى، ومن دون أن يضيف التطور في حرب السلاح قوة للنظام، فقد تحقق له ما تحقق، ليس بيده، ولا بقواته وحدها، بل بسبب تدخل روسيا العسكري الكثيف الذي قلب الموازين، وببركة جهد القتال البري الشرس لميليشيات إيران وحزب الله بالذات.
اختفت ممالك «داعش» أو كادت، وصارت الغلبة الحاسمة للحلف الداعم لبشار، وبيده ما قد يصل إلى سبعين في المئة من إجمالي مساحة سوريا، وحلت ما تسمى «قوات سوريا الديمقراطية ـ الكردية أساسا ـ في المرتبة الثانية، واقتنصت خمس سوريا في الشرق والشمال، وبدعم جوي وتسليح أمريكي مطلق، وفي المرتبة الثالثة تجيء تركيا، التي تحتل أجزاء واسعة من شمال سوريا على خط الحدود، ويتداخل نفوذها مع خرائط سيطرة هيئة تحرير الشام ـ النصرة سابقا ـ في إدلب بالذات، ومن دون أن يعنى ذلك رسما لخطوط فصل واضحة ونهائية، فلا تزال في الصورة قوى وجود هامشي، تخلى عنها ممولوها، وتركوها لمصائرها محاصرة، في غوطة دمشق، أو في الجنوب المتصل بالأردن، أو من حول قاعدة «التنف» الأمريكية، وكلها فصائل صغيرة، يدخل أغلبها في سيرة مناطق خفض التصعيد، وفي تفاصيل «الخريطة المبرقشة» التي انتهت إليها سوريا.
والمعنى ببساطة، أن الحرب في سوريا لم تضع أوزارها تماما بعد، وأن الذين انتصروا عسكريا بجلاء ووضوح، ليست لديهم القدرة المطلقة بعد على صياغة وصناعة مشهد ختام، فالأهم من سيرة الحروب، هو ما يحدث بعدها، أو على مشارف نهايتها، وكسب معركة السلاح لا يعني تلقائيا كسب حرب السياسة، خاصة أن كسب السلاح في سوريا ليس كاملا ونهائيا بعد، وكل ما جرى أنه تكون توازن قوى جديد على الأرض السورية، يعطى لروسيا إلى حين فضل الكلمة الأقوى، وهو ما شجع موسكو على حصار وتهميش مسار التفاوض الدولي في جنيف، وخلق مسارات أخرى موازية، وديناميكية أكثر، أهمها مفاوضات «أستانة» الكازاخية، التي ضمت إلى رعايتها شريكين أصغرين هما إيران وتركيا، وساعدت روسيا على نسج شبكه تواصل مع كافة الفصائل المسلحة المعارضة، إضافة للنظام طبعا، مع حرص موسكو على عزل جماعات «داعش» و»النصرة» القاعدية، أيا ما كان اسمها، واستخدام ثقلها لدفع طهران وأنقره إلى درجات من التوافق، والقيام بأدوار وساطة صارت مقبولة أكثر، خاصة مع انفتاح موسكو على علاقات قوية مع مصر، وتواصل سلس مع الأردن، ومد جسور اقتصادية وتسليحية مع السعودية، وبهدف تكوين إطار إقليمي حاضن لمشاريع حل سياسي، تضعها موسكو بمعرفتها، وعلى طريقة مؤتمر «سوتشي» الذي دعت إليه، وغيرت اسمه من «مؤتمر شعوب سوريا» إلى «مؤتمر الحوار الوطني»، وجعلت له مهام المصالحة الاجتماعية والسياسية، وإنجاز دستور لسوريا ما بعد الحرب، يفكك الطبيعة المركزية لحكم دمشق، ويعطى مزايا فيدرالية لأكراد سوريا بالذات.
ولا تبدو المهمة ميسورة، ولا الطريق سالكة تماما، فلم تكن الحرب صداما بالسلاح على جبهات متباعدة، بل تدميرا شاملا للبشر والحجر، ومقتلة وحشية، سقط فيها ما يزيد عن النصف مليون سوري، مع سحق لعظام وأجساد نصف مليون آخر في الاعتقال والأسر، وتشريد وتهجير في الداخل والخارج لنصف إجمالي سكان سوريا، وتطبيع الوضع، أو الاتجاه إلى تطبيعه، ولملمة جراحه، يحتاج إلى معجزة، وإلى مئات المليارات من الدولارات، لا يقوى على توفيرها الاقتصاد الروسي متوسط الحجم، رغم كون موسكو عملاقا عسكريا وتسليحيا، وقد لا تتحمس لها الصين العملاقة اقتصاديا، ولها مع موسكو شراكة دولية نامية، فللصين أولويات، ليس من بينها إعادة إعمار سوريا على نحو حاسم، والمعنى أن خراب سوريا قد يمتد لزمن، وأن ملايين اللاجئين السوريين قد لا يعودون سريعا، خاصة في ظل أحوال التداعي والحيرة التي تبدو عليها دول الغرب الكبرى اليوم، فلم تعد أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا ألمانيا تطالب بالرحيل الفوري لبشار الأسد، وإن كانت تمانع إلى الآن في بقائه على رأس صيغة الوضع النهائي، ويشترط الأوروبيون انتقالا سياسيا للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، بينما تبدو واشنطن في حالة انتظار مرتبك، فالرئيس الأمريكي ترامب صار «بطة عرجاء»، واحتمالات عزله تتزايد، والكونغرس بمجلسيه يميل إلى إحكام قبضته، ودوائر البنتاغون والمخابرات تعادي روسيا غريزيا، ولكن من دون المقدرة على شن حرب ضد روسيا النووية بالطبع، ولا على صياغة خطة متكاملة في سوريا بالذات، وهو ما يفسح المجال أكثر أمام روسيا، خاصة بعد تفاهمات موسكو مع تل أبيب الحليف الأول لواشنطن، وهو ما يجعل أمريكا أقرب إلى وضع المراقب الصامت، المراقب في السياسة، بالابتعاد عن الانخراط في خطط حكم بديل لسوريا، والمراقب على الأرض، تكتفي إلى حين بقواعد أقرب إلى نقاط ارتكاز عسكري في شرق سوريا وجنوبها، ودعم مجموعات أهمها «وحدات الشعب الكردية»، فيما لا تثق الأخيرة تماما بدوام الدعم الأمريكي إلى النهاية، خصوصا بعد تخلي واشنطن، أو بالأحرى عجزها عن فعل شيء، لمساندة ومنع انهيار أكراد العراق، بعد استفتاء الانفصال، وهو ما قد يدفع أكراد سوريا إلى خط تفاهم مع روسيا، تتبعه بالضرورة علاقات أوثق مع ما تبقى من نظام بشار الأسد بمعية الحليف الإيراني، وهو ما بدا أن جماعة بشار الأسد على استعداد لدفع ضرائبه، والتسليم بنوع من الحكم أو الإدارة الذاتية للأكراد، مقابل ضم القرى والبلدات والمدن العربية الخالصة في شرق سوريا إلى مناطق سيطرة النظام والحلفاء، وتلك تسوية قد يقبلها أكراد سوريا، ربما تجنبا لمصير مأساوي مشابه لما حل بإقليم كردستان العراق، وإن كانت التسوية ستؤدي إلى غضب مزاد من تركيا الهائجة، الخائفة من مصائر التفكك النهائي، بسبب تصاعد الطموح الكردي داخلها، وليس واضحا إلى أي مدى ستعرقل واشنطن جهد التسوية مع الأكراد، وإن كانت حيلها على قدر ملموس من الضعف، خاصة مع تزايد الضغط الإيراني في العراق وسوريا، وحرص طهران على «لي ذراع» أمريكا، ربما لردعها عن التفكير في دخول حرب شاملة معها، أو انتقال واشنطن من سياسة الحصار إلى فعل الدمار، الذي تحرض تل أبيب واشنطن عليه، فيما لم تعط واشنطن الضوء الأخضر بعد لإسرائيل، ولا تطلق يدها في شن حرب على الجبهة السورية ـ اللبنانية، تأمل أن تردع بها حزب الله، أو أن تنزع أسنانه وسلاحه، وهو ما يبدو كأمل إبليس في الجنة، غير قابل للتحقق مع توازنات الأرض الجديدة، تماما كما لم يتحقق في مرات حروب سابقة، كانت فيها قوة حزب الله أقل بمراحل مما صارت عليه الآن.
والخلاصة، أن حرب سوريا خفت أوارها، لكنها لم تنته بعد، وقد تكون قابلة للتجدد مع تدخلات عسكرية واردة من إسرائيل، فسوريا لم تعد دولة مغلقة عند حدودها، بل صارت خرائطها الداخلية نفسها، مسرحا لتوازنات حرجة، يديرها الروس بالكاد الآن، استنادا لثقل قواعدهم العسكرية البحرية والجوية الحاكمة في سوريا، ولكن من دون ضمان ألا تفلت اللعبة، وتنفجر المعارك في الداخل من جديد، بالذات في الشمال عند منطقة نفوذ تركيا و»هيئة تحرير الشام»، ومع أجواء حرب لم تنته، تصبح القسمة السياسية عسيرة، فلن تعود سوريا أبدا إلى ما كانت عليه قبل الحرب الوحشية، وقد يبقى بشار الأسد لوقت على رأس سلطة رمزية، ما دامت لروسيا كلمة الفصل، لكن «حكم الأسد» بصورته التي كنا نعرفها، مضى وقته، وقد تتحول سوريا الجديدة المرهقة المنهكة المحطمة، من «حكم الأسد» إلى «حكم الأسود»، ومع فارق ظاهر، هو أن «أسود» سوريا الجدد، ليسوا من ذوى الجنسية السورية، بل قوى انتداب عالمي وإقليمي تحكم وتتحكم من وراء أقنعة سورية، وتلك مأساة أخرى برسم الانتظار .
في أغلب الجلسات التي تجمعني بشخصيات غربية مهتمة بالشأن السياسي وشؤون الشرق الأوسط وعندما يبدأ الحديث عن إيران ودورها التخريبي في منطقة الخليج والمنطقة العربية تبرز كلمة واحدة على لسان أولئك الأصدقاء، وهي «الحوار»، فمن وجهة نظرهم أن على العرب أن يتحاوروا مع إيران، وأن ننهي مشاكلنا كلها مع النظام الإيراني بالحوار، دون أن يقولوا حول ماذا، و.... ماذا .. وماذا نتحاور!
وما أثار انتباهي في الجلستين اللتين عقدتا حول إيران، وحول تركيا يوم أمس، خلال أعمال ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الرابع الذي ينظمه مركز الإمارات للسياسات، هو الحديث أيضاً عن الحوار مع إيران، والتواصل مع تركيا.
فقد أشار المشاركون من إيران ومن تركيا ومختصون غربيون إلى ما سمّوه «تقصيراً» عربياً في الحوار مع جيرانهم.. وألمح أولئك وصرحوا بأن العرب اختاروا في السنوات الماضية الصراع مع جيرانهم بدل التواصل معهم، وأن النظام الإيراني استغل نقاط الضعف العربي ليتوسع في المنطقة.. وبغض النظر عن وجهة النظر الخليجية والعربية في هذا الموضوع، فإننا كدول خليجية وعربية بحاجة إلى أن نفكر في هذا الرأي الذي يتردد مراراً وتكراراً، وأن نعمل على تغييره وتصحيح هذا الاعتقاد، فمن غير الطبيعي أن نكون نحن من لا يتحاور ولا يسمع الآخر، فبلا شك إن الحوار مهم، واللقاء مهم، والاستماع إلى الآخر مهما كانت درجة الاختلاف معه في وجهات النظر والسياسات مهم.. فالإشكاليات والخلافات تحل بشكل أفضل وأسرع بالحوار.
ولكن في المقابل، ومع احترامنا لكل الآراء الغربية، فإننا لا بد أن نتساءل: هل العرب هم الذين لا يتحاورون مع الآخر، أم أن جارهم هو الذي اختار الاعتداء على جيرانه والتدخل في شؤونهم، وخلق ميليشيات طائفية في بلادهم؟
وهو الذي لا يقبل الحوار لأنه يعتقد أنه الطرف الأقوى في معادلة الصراع الحالي، فضلاً عن نظرته الفوقية واعتبار نفسه الأعلى شأناً تاريخياً وحضارياً، وبالتالي فإن الحوار مع الآخر لا يبدو مهماً بالنسبة إليه!
أما الحالة التركية، فتبدو مختلفة، فنحن بحاجة حسب المتحدثين الأتراك إلى تواصل أكثر وقنوات اتصال أكبر وجهد أكثر بكثير لتعريف - غير المؤدلجين - في الشارع التركي، بل وحتى النخبة السياسية التي تجهل الكثير من الأمور المهمة في الدول العربية.. ومن المؤسف أن نكتشف أن تركيا تحصل على معلوماتها من أفراد يتبعون دولاً وجهات ذات أجندات تتعارض مع أجندة ومصالح الدول العربية الكبيرة مثل مصر والسعودية.
فقط للتاريخ نقول إن العرب لم يرفضوا يوماً الحوار مع إيران، ولم يعتدوا عليها، بل هم من يبادر دائماً ويمد يده لإيران التي ترفض الحوار، وتدعي إعلامياً أنها تريد الحوار، وتختفي إذا ما بدأ الحوار! فكيف تقبل الحوار وصوت بنادقها ومدافعها وصواريخها يصم الآذان في العراق وسوريا واليمن ولبنان؟!