المحنة السورية وغياب التضامن العالمي
تحوّل الوضع السوري إلى محور لقاءات دولية لا تنتهي، وليس مؤكدا أنها ستنتهي قريبا. وبعد حقبة أولى، كان موضوع هذه اللقاءات التعبير عن دعم الشعب السوري والصداقة له، ضد نظامه المتوحش، تتمحور المفاوضات اليوم بشكل صريح بشأن تأكيد كل طرف إقليمي أو دولي مصالحه القومية. وتدّعي دولٌ تبعد آلاف الكيلومترات عن حدود سورية مصالح استراتيجية كبرى ومصيرية فيها. لكن أحدا من هذه الأطراف لم يعد يسأل أو يتساءل عن مصالح السوريين الوطنية، ولا عن معاناتهم الهائلة، ولا من باب أولى عن حقهم في تقرير مصيرهم، أو تمكينهم منه.
لا أعتقد أن السؤال الصعب الذي تطرحه هذه المفاوضات الدولية على اقتسام جلد الحمل السوري يكمن في معرفة لماذا لا تتردّد الدول في سحق شعب، واستباحة حقوقه، عندما تبدو لها الفرصة سانحة لذلك. فهذه هي سنة الصراع بين الأمم منذ أقدم العصور. السؤال الأهم والذي يساعدنا على توسيع مداركنا حول ما يجري حولنا وفي العالم هو السؤال المعاكس: ما الذي يحفز دولا، قادرة ولديها القوة للتوسع وزيادة مواردها ومصالحها ألا تفعل ذلك على حساب الشعوب الضعيفة أو المنكوبة؟ والأكثر أهمية سؤال ما الذي يدفع بعض الدول القوية إلى تقديم العون لشعوب زلت قدمها أو اعتدي عليها، من قوى داخلية أو خارجية، إلى الشعور بالمسؤولية تجاهها، وبذل الجهد لمساعدتها للخروج من نزاعات داخلية أو خارجية مدمرة، حتى لو اضطرها الأمر أحيانا لمواجهة دول طامعة فيها، ومصممة على احتلالها أو الفتك بشعبها؟ باختصار، ما الذي يجعل السوريين يعتقدون أن المجتمع الدولي قصّر في حقهم، لأنه لم يبادر إلى نجدتهم ووقف عمليات القتل المنظم وأعمال الإبادة الجماعية والتهجير القسري الذي مورس بحقهم، ومن أين يأتي هذا الحق، وهل يمكن المراهنة بالفعل على التضامن الدولي في المستقبل، وما الخيار إذا لم تعد لهذا التضامن أسس قوية أو نوابض حقيقية؟
تدخل هذه التساؤلات في إطار البحث في موضوع المجتمع الدولي، من حيث هو مجال منظم نجحت فيه الدول والمجتمعات في أن تخضع سلوك الدول المكونة للمجموعة الدولية قواعد وقوانين وقيم أخلاقية، تساهم في ضبط ديناميات القوة التي تتحكّم في النظام الدولي، من حيث هو توازنات للقوى، حتى لا يظل محكوما بقانون الغاب الذي يأكل فيها القوي الضعيف، من دون تردّد ولا رحمة. وهي تبطن إمكانية التوفيق، إلى هذا الحد أو ذاك، بين السياسة التي توجهها المصالح الخاصة أو الوطنية، والأخلاق التي تطمح إلى وضع حدودٍ لاستخدام القوة، لغاية الحفاظ على المجتمع الدولي وضمان التعايش بين شعوبه ومجتمعاتها القوية والضعيفة. وهو ما نجم عنه مفهوم المجتمع الدولي الذي يشير إلى فضاء دولي منظم حسب قواعد ومبادئ، لا حقل صيد مفتوح من دون حدود لمن يملك القوة. وهذا هو أساس قيام النظام المجتمعي أيضا.
(1)
ولد المجتمع الدولي القائم، كما تمثله مواثيق الأمم المتحدة ومنظماتها، والذي نشهد كل يوم تراجع صدقيته وتفكك بنيانه، من رحم الحرب العالمية الثانية. وكان الدافع إليه مشاعر الأسى التي نجمت عن الكارثة الإنسانية التي خلفتها حربان عالميتان، دمرتا حياة عشرات ملايين البشر في القارة العجوز وخارجها، وزرعتا الخراب في أوروبا ومحيطها، وقسم كبير من آسيا التي دخلت في الحرب، أو أدخلت فيها. فقد نشأت عن هذا الخراب، وبسببه، إرادة قوية لدى النخب السياسية والرأي العام الغربي، لوضع حد لهذه الحروب التي كانت جميعها حروبا استعمارية، محورها الصراع على تقاسم مناطق العالم من الدول الأكثر تقدما صناعيا وعسكريا وحضاريا في أوروبا وآسيا والأميركيتين. وهكذا أقرت الدول الخارجة من الحرب إقامة منظومةٍ من المؤسسات والقواعد والأعراف، تضبط سلوك الدول، وتهدف، كما ينص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة، إلى ضمان السلم العالمي، وحل النزاعات بالوسائل السياسية. وحلت منظمة الأمم المتحدة محل عصبة الأمم التي سقطت في الحرب، وبسببها بمقدار ما أظهرت، في الصورة التي شكلت عليها، عجزها عن بناء التفاهم بين الدول، والمساعدة في حل النزاعات فيما بينها، قبل أن تتفجر في حروب دموية وانتحارية.
لم يكن التوقيع على اتفاقية دولية تجربة جديدة في العلاقات الدولية، حتى بالنسبة للغرب الذي تحول، منذ القرن السابع عشر، بما كان يشهده من تحولاتٍ علميةٍ وسياسيةٍ وعسكريةٍ واقتصاديةٍ جديدة ومجدّدة، في الوقت الذي بقيت فيها المدنيات الكبرى القائمة في آسيا والشرق الأوسط تكرّر نفسها، إلى أهم مسرح لحركة التاريخ العالمي، فقد سبقتها اتفاقات ويستفاليا التي أنهت دورة حروب قارية طويلة عصفت بأوروبا في القرن المذكور ذاته. وقامت حقبة السلم التي أعقبت التوقيع عليها على وضع حد لمبدأ التوسع الإقليمي، بصرف النظر عن الذرائع، دينية أو ثقافية أو استراتيجية، والاعتراف بالحدود القائمة للدول حدودا نهائية. وكان ذلك أول محاولة لوقف العمل بما كان يسمّى حق الفتح الذي ساد خلال القرون السابقة، وفي كل القارات، حيث لا يرسم حدود الدولة إلا قوة سلاحها ومقاتليها، والذي قام عليه قيام الإمبراطوريات والسلطنات الكبرى، والاعتراف بها في جميع أنحاء العالم. وحل محل حق الفتح إقرار مبدأ سيادة الدولة التي تشكل المقوم المعنوي والسياسي الأول لها، واعتبار المساس بها تقويضا لوجودها، وخرقا للاعتراف المتبادل بمساواة الشعوب في حقوق الحماية والاستقلال والحفاظ على هويتها ومواردها ووجودها.
ولم يعد يعترف بالدولة ناقصة السيادة كدولة، وإنما بوصفها مستعمرة أو محمية أو إمارة.
لكن اتفاقيات ويستفاليا التي يعتبرها علماء العلاقات الدولية أحد الأركان المؤسسة للدولة القومية وللنظام العالمي الحديث، لم تحترم كثيرا بعد توقيعها. وكما يحصل اليوم في منظومتنا الأممية، عادت الدول الأقوى في القرون الثلاثة التالية إلى استخدام تفوّقها الاستراتيجي والعسكري من أجل فرض خياراتها على العالم، أو على الدول القريبة منها. وشنت الحروب بالوكالة من أجل إضعاف هذه الدولة أو تقسيم تلك، أو قطع الطريق على هذا الشعب أو ذاك على استكمال تحرّره الوطني، وممارسة حقوقه التي تعترف له بها المواثيق الدولية. ومع ذلك، استمر درء الحروب، والحفاظ على السلم العالمي الدافع الرئيسي لاتفاقيات دولية متجدّدة، والمبرّر لها، وبموازاتها عرف القانون الدولي تطوراتٍ مهمة في اتجاه إخضاع العلاقات بين الدول لقوانين وأعراف وقواعد، تحمي الضعيف من القوي، وتشيع مناخا من الأمن والسلام العالميين بين الشعوب التي تعيش في ظلها.
كانت فترات الحروب الطويلة تنتهي دائما بمعاهدات سلام مشابهة للتي وقعتها دول أوروبا والعالم بعد الحربين العالميتين، وبترتيبات قانونية ضرورية من أجل توطيد الأمن وإعادة إعمار المناطق المنكوبة وحفظ حياة ما تبقى من سكانها قبل العودة من جديد، في حقبة تالية، إلى جدلية الحرب والنزاع: في الماضي، لتوسيع رقعة أراضي الملك أو السلطان، وبالتالي تعظيم قوته وقدراته العسكرية مد حدود الإمبراطورية، وفي الحاضر للهيمنة الإقليمية أو الدولية التي تترجم، تماما كما كان الأمر في حروب التوسع الإمبراطورية، بتحقيق فوائد ومنافع وأفضليات اقتصادية واستراتيجية تعزّز موقف الدولة وموقعها في المنظومة الدولية، وبالتالي نصيبها من التحكّم في الموارد العالمية والسياسات الدولية التي تمس مصير المعمورة بأكملها.
ما ميز سلام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي نشأت في ظله منظمة الأمم المتحدة عن سابقاتها ليس الهدف، وإنما أمران: الأول طموحها إلى جعل معاهدة السلام الأوروبية الأميركية اليابانية معاهدة دولية مفتوحة تشمل جميع الدول، تلك التي دخلت الحرب وتلك التي لم تدخلها، والدول القائمة بالفعل وتلك التي سوف تقوم في ما بعد، أي نزوعها العالمي. والثانية ضمان تطبيقها من خلال آليات ومؤسسات تعمل في اتجاهين: تعزيز التقارب بين الدول على الصعد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ثم إرساء قواعد تضمن ضبط القوة، وتقييدها بقوانين ومواثيق، والحيلولة دون استخدامها بغير حق وخارج القانون الدولي، والتشجيع على حل النزاعات بالوسائل السياسية. وهذا ما تشير إليه تعدّدية مؤسسات الأمم المتحدة المتخصصة في الشؤون الثقافية والاجتماعية والقانونية والإنسانية، وكذلك الدور المركزي الذي يلعبه مجلس الأمن الذي احتفظت الدول المنتصرة في الحرب باحتكار الحق في تعطيل أعماله، إذا لم تتطابق قراراته مع مصالحها.
بعد أقل من سبعة عقود، تبدو تجربة الأمم المتحدة أكثر تخييبا للآمال من سابقاتها، فقد أدى التعطيل المنهجي لمجلس الأمن، وهو المؤسسة السياسية الرئيسية للمنظمة، إلى القضاء نهائيا على مفهوم حكم القانون في العلاقات بين الدول. وتكاد هيئاتها القيادية تعلن إفلاسها وفشلها في إيجاد حل سياسي وسلمي لمعظم النزاعات القائمة. والسبب واضح: إذا كانت المنظمة الدولية قد أقرّت حكم القانون بين الدول، وجسّدته يبقى السؤال: ما الذي يضمن تطبيق القانون نفسه، أو كما نستخدم بالنسبة للدولة، سيادة القانون في العلاقات الدولية؟ لا شيء بتاتا سوى إرادة الدول الأقوى، منفردةً أو متكتلة. فهي تملك وحدها إمكانية تطبيقه من عدمه. غياب القوة لتطبيق القانون بشكل مستقل عن أصحاب العلاقة، قوّض معنى القانون الدولي تماما. ولم يكن هذا أكثر وضوحا مما هو عليه اليوم.
وراء التطلع إلى منظمةٍ ترعى سلاما عالميا ودائما، كما تنص مواثيق الأمم المتحدة كانت تكمن ثقافة الأنوار التي أحيتها كوارث الحربين العالميتين، الأولى والثانية. وهي ثقافة كونية أو إنسانية تقدم قيم كرامة الفرد وحريته إنسانا على حساب قيم التعصب القومي والتفوق العرقي أو الحضاري التي سيطرت على المجتمعات السياسية التي أشعلت نار الحروب، وشجعت عليها، في عموم دول القارة الأوروبية. وكانت هذه الثقافة قد نمت في سياق ترشيح شعوب أوروبا نفسها لقيادة العالم منذ القرن الثامن عشر، بعد أن أسست لفكر الحقوق الفردية والأخلاق المدنية.
والحال أن تراجع أثر هذه الثقافة لدى النخب الحاكمة في عموم البلاد أو أكثرها، وعودة ثقافة التفوق العرقي والثقافي والتمييز ضد الشعوب والأمم الضعيفة، وفي مقدمها العرب والمسلمون عموما، وتفاقم الاعتقاد بأن الشعوب أو الأمم ليست متساوية، وأن هناك الصالحة للمدنية منها وأخرى يحسن تهميشها وتحييدها، أو أن هذا الشعب متخلفٌ لا يرقى إلى مستوى ممارسة قيم الحق والقانون والحرية والكرامة، أو همجي لا يصلح معه الحل السلمي والحوار، ولا يمكن التعامل معه إلا بالقوة والعنف، أقول تراجع هذه الثقافة عند النخب الحاكمة، بما فيها الديمقراطية والليبرالية في الغرب، قد قوّض الأسس الفكرية والأخلاقية التي تقوم عليها فكرة المجتمع الدولي القائم على حكم القانون والشرعية الدولية، والذي يعني تضامن القوي والضعيف في تطبيق القانون، وضمان الحقوق المتساوية للدول والشعوب السيدة. لم يعد هناك حافز للتعاون على تطبيق القانون، بل يزداد الميل اليوم عند الدول القوية أساسا إلى التحلل من الالتزامات والعهود الدولية السابقة، كما تفعل واشنطن وروسيا اليوم، أكبر قوتين عسكريتين في العالم.
(2)
بانهيار مفهوم التضامن العالمي، وهو ليس مفهوما سياسيا، ولا يرتبط بالدول والحكومات فحسب، ولكن قبل ذلك، وأكثر من ذلك، بوعي الرأي العام العالمي وثقافته، أي بالشعوب والمجتمعات، وتراجع فاعلية الضمير المرتبط بقيمه، لا يبقى هناك أساس يرتكز إليه احترام القانون الدولي.
وبتقويض الأساس الأخلاقي الرئيس الذي يقوم عليه المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، يزول الحافز لاحترام حق الشعوب الأخرى، أو حتى التضحية بأي جهد، مهما كان ضئيلا، من أجل حماية حقوقها الأساسية، ويحل البحث عن الأمن والسلام الداخليين، الوطنيين، محل شعار الحفاظ على الأمن والسلام الدوليين الذي قامت على أساسه منظمة الأمم المتحدة.
وكما قاد التطلع العالمي في فترة ما بعد الحرب الثانية إلى منظومة دولية تضمن السلام والأمن الدوليين، في سياق أجندة إعادة الإعمار للدول التي أنهكتها الحرب إلى تخفيف القبضة عن الشعوب والأقطار المستعمرة، وفتح لها نافذة كبيرة لانتزاع استقلالها وإعادة تنظيم نفسها، وفي ما وراء ذلك تغيير البنية الجيوسياسية العالمية، وإعادة بناء مسرح السياسة العالمية، مع تشكيل دول قومية جديدة، وتقدم بعضها إلى مصاف دول مؤثرة ومستقلة بالفعل، يقود النكوص الذي نشهده اليوم إلى الثقافة الشعبوية والخصوصويّة وقيمها الأنانية والشوفينية، بل والعنصرية الفاقعة، إلى تخلّ كامل عن أي فكرة للتضامن العالمي، والقبول بإبادة شعوب واستخدام المحارق كما حصل في الأربعينيات من القرن الماضي، من دون اكتراث كبير من أحد. وهذا هو السقوط الأخلاقي بحد ذاته. وتقدم منطقة الشرق الأوسط، وفي قلبها المحنة السورية، النموذج الأكثر تجسيدا لهذا السقوط، وانهيار أخلاقيات التضامن الذي قام عليها.
لا تتعلق المشكلة، إذن، بطبائع شخصية أو بأشخاص "مصروعين"، أو مستهترين بالأعراف والقواعد المرعية والأصول، من دونالد ترامب إلى فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون وحتى بشار الأسد. المشكلة بنيوية تتعلق بانهيار التوازنات الدولية، وشعور الأقوياء بأنهم محتكرون للقوة، وقادرون على فعل أي شيء من دون عقاب أو مساءلة، ولا قوة أخرى تستطيع ثنيهم عن قراراتهم، أو أخرى تحدّ من جنون القوة.
وهذا الاختلال الكبير في موازين القوة هو الذي ينتج الجنون الدولي، ويحوّل "العقلاء" إلى شاذين وساديين ووحوش. وهذا ما حصل بالضبط، ولا يزال يتفاقم، بعد زوال توازنات الحرب الباردة ونظام ثنائية القطبية، من دون أن يحل محله أي نظام يحفظ الحد الأدنى من التوازن الدولي. أما تكتل معسكر عدم الانحياز فقد كان لانهياره أثر أكبر من زوال الحرب الباردة على مصير الدول المتوسطة والصغيرة التي تشكل أكثرية دول العالم. وهي التي تفتقر اليوم لوسائل الدفاع، بل وشروط الاستقرار، وربما بالنسبة لكثير منها، البقاء في المستقبل.
لا أعتقد أن النتائج ستكون أفضل لو حصل تفاهم بين الكبار، أميركا والصين وأوروبا وروسيا، عليها. بالعكس سوف يزيد هذا التفاهم من فرص تسلط هؤلاء القادة وجنونهم، ويحولهم إلى وحوش تتقاسم فرائس سهلة، لاحول لها ولا قوة ولا معين. والواقع أن زعماء دول كبرى كثيرين يتصرفون منذ الآن كقبضايات الحي ويتنازعون، كما كان الحال في الحقبة الاستعمارية، على اقتسام موارد المعمورة، وعلى مناطق النفوذ فيها من دون خوفٍ ولا خجل.
ما هو مطلوب لتغيير سلوك الدول والحكومات المستأسدة ليس الاستسلام لها، ولا مواجهتها الانتحارية. إنه تماما عكس ما فعلته إيران الخمينية في السنوات العشر الماضية. بدل السعي إلى تقليد الدول الكبرى ومواجهة ضغوطها القوية بالفتك بالدول الصغيرة، وانتزاع مواردها وميزاتها منها، ينبغي العمل على لمّ شمل الدول المتوسطة والصغيرة، وإعادة بناء قطب عالمي قوي منها، يحل محل كتلة عدم الانحياز البائدة، يحمي مصالحها، ويحدّ من تغول القوة على القانون والحق. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا ببناء روح التضامن المعدومة بينها وبناء قواعد الدعم المتبادل، والتقريب بين وجهات نظر دولها، وحل الخلافات التي تفرّق صفوفها. وهذا يحتاج تطوير ثقافة ما فوق قومية، أو عالمية جديدة، وتجديد المهمل والمتهالك من قيمها، وتظهير وحدة المصالح ووشائج القربى وحوافز التعاون والتكافل بين الشعوب الضعيفة والمستضعفة، وتوسيع دائرة التبادل الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والحوار بين نخبها، في سبيل إنشاء فضاء حي وفاعل للمجتمعات الضعيفة، موازٍ لفضاءات الدول الكبرى المهيمنة على الاقتصاد والسياسة والقانون والفكر العلميين.