الكرامة السورية أنهكت الجميع
بدا واضحاً من الأحداث التي جرت أخيراً في غوطة دمشق، وتجري الآن في درعا جنوب سورية، أن الدول التي كانت تساند فصائل المعارضة المسلحة قد تخلت عنها، وتنصلت من وعودها لهذه الفصائل. والواضح أكثر أن هذا التخلي لم يكن لأسباب سياسية، كما قد يرى بعضهم، وإنما يتعلق الأمر بتعب اقتصادي حقيقي لهذه الدول، وفي مقدمتها السعودية، ذلك أن سبع سنواتٍ ونيف من شراء الأسلحة والملابس والرواتب، ناهيك عن الدعم اللوجستي، وكذلك الصرف لشراء مواقف دول وحكومات، أرهق ذلك كله ميزانيات الدول الممولة، إذ تقول الأرقام أن نسبة مستوردات السعودية من السلاح بلغت 225% في السنوات الخمس الماضية، أي حتى عام 2017، وفقاً لأرقام صادرة عن معهد استوكهولم لأبحاث السلام. وبالتأكيد، لم يتم شراء كل تلك الأسلحة لأجل دعم الثورة السورية، فالسعودية تخوض حرباً في اليمن، طال أمدها، وترهق كاهل الخزينة، وتدفع بها نحو كارثة اقتصادية، ويريد ولي العهد، محمد بن سلمان، الانتصار في اليمن، وتحقيق إنجاز هناك، وهذا المطلب عنده أهم بكثير من مشروع إسقاط النظام في دمشق.
قالها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بكل وضوح، إن على السعودية أن تدفع تكاليف بقاء قوات بلاده في سورية، وذلك رداً على طلب بن سلمان بقاء القوات الأميركية في سورية مدة أطول، ما يعني أن تكاليف الثورة لا تقتصر على تمويل الفصائل، بل مستلزمات البقاء، وإنما يتعدّى الأمر ذلك إلى دفع تكاليف بقاء قوات عسكرية لدول أخرى، ويبدو أن هذا هو الظاهر على السطح، وما خفي قد يكون أعظم بكثير.
وتعاني دول الاتحاد الأوروبي من أزمة اللاجئين، وتتصاعد الخلافات بينها، وكذلك في كل دولة على حدة، فأزمة اللاجئين (معظمهم سوريون) تكاد تعصف بحكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي وافقت على استقبال مليوني لاجئ سوري خلال أشهر في العام 2016، وهي الآن تدفع ثمن موقفها ذاك، إذ تهدد الأحزاب المتحالفة معها بإنهاء التحالف، وإسقاط الحكومة، كما تواجه ميركل غضبةً شعبيةً ليست قليلة، وما ينطبق على ميركل ألمانيا ينطبق على دول أوروبية أخرى، يتداعى قادتها إلى عقد اللقاءات الثنائية، أو في إطار الاتحاد الأوروبي، بهدف التوصل إلى حلول لأزمة اللاجئين. وما زاد في طين الأوروبيين بلّة ما أعلنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن نيّته في عدم جعل بلاده مستعمرة للاجئين. وسلوكياته واضحة في عدائها لهم، بحجة حماية الولايات المتحدة، وتلقى تصريحاته في أوروبا آذاناً تصغي إليها.
على الجانب الآخر، يظهر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، سياسياً محنّكاً يجيد اللعب بكل الأوراق التي في يده، وبطريقة تخدم مصالح بلاده، وتؤثر على أعصاب الأوروبيين، وتثير توترهم، وأحياناً حقدهم على الرجل الذي تستقبل بلاده نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري. وهو لا يوفر فرصة لاستثمار ورقة السوريين في أي مفاوضات مع الجانب الأوروبي، وقد فعلها سابقاً، حين سمح لأفواج اللاجئين في تركيا بركوب البحر، أو عبور الحدود نحو الدول الأوروبية، ما أثار حينها حالة من الاستنفار في الأوساط الأوروبية، وبلغ عدد اللاجئين في موسم الهجرة ذاك ما يزيد عن الثلاثة ملايين.
أسهمت تلك الخسائر في إقناع الممولين والأوربيين بأن تكاليف إسقاط بشار الأسد ونظامه باهظة للغاية، في ظل دعم روسيا وإيران غير المحدود، وإصرارهما على بقائه مهما كانت التكاليف، فالحكومة الإيرانية قد تُسلم باليمن على حساب الانتصار في سورية، ويبدو أن هذا العرض كان مغرياً لبن سلمان الذي أوقف دعم بلاده الفصائل المسلحة في سورية، وركز جهده العسكري على تحقيق إنجاز في اليمن. فإيران تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، بسبب تدخلها في سورية، وشهدت إضرابات ومظاهرات واحتجاجات تطالب الحكومة بالانسحاب من سورية، والتركيز على الشأن الداخلي الذي أصبح على شفا الكارثة. وفي المقابل، لا تبدو روسيا بعيدة عن الهزّات الاقتصادية، فهي الأخرى تعاني من ضغوط شعبية كبيرة، بسبب نقلها العتاد الحربي الحديث وجيوشها إلى سورية، مع كل ما يتطلبه ذلك من تكاليف مرتفعة للغاية، يقدرها الخبراء الاقتصاديون بعشرات المليارات.
كان لانخفاض أسعار النفط تأثير بالغ الأهمية على مواقف الجميع، سواء أكانوا في الطرف الداعم للمعارضة، أو الداعم للنظام، ما أوجب على الجميع التداعي لإيجاد مخرج من هذه الأزمة، ويبدو أن الاتفاق كان على حساب دماء السوريين، وكرامتهم.