تقرير حقوقي يسلّط الضوء على “الفرع 300” في المخابرات العامة ودوره في منظومة القمع السابقة
أصدرت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان تقريراً بعنوان “الفرع 300 في إدارة المخابرات العامة: أداة مركزية للقمع والمراقبة والملاحقة في منظومة بشار الأسد السابقة” قدمت فيه قراءةً تحليلية معمّقة لطبيعة هذا الفرع التابع لإدارة المخابرات العامة، باعتباره حلقة محورية في الجهاز الأمني الذي مارس القمع الممنهج ضد المدنيين خلال عهد النظام السابق.
اعتمد التقرير على وثائق ومراسلات أمنية وشهادات ناجين وذوي ضحايا، محلّلاً هذه المصادر وفق المعايير الدولية للتوثيق ومرجعيات القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان. ويأتي هذا التقرير ضمن جهود الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان لتوثيق ممارسات الفروع الأمنية الأقل شهرة، استكمالاً لتقارير سابقة عن فروع مثل الفرع 215، بهدف الكشف عن الانتهاكات المنهجية للنظام الأمني السابق.
الخلفية العامة للأجهزة الأمنية في سوريا
استعرض التقرير البنية الهيكلية للأجهزة الأمنية في سوريا، المؤلفة من أربعة أجهزة استخبارات رئيسة تتفرع عنها عشرات الفروع في جميع المحافظات، وتخضع مباشرةً لمكتب الأمن الوطني في دمشق الذي يرفع تقاريره إلى رئيس الجمهورية، ما يمنحها نفوذاً واسعاً يتجاوز السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ورغم اختلاف تسمياتها واختصاصاتها، فإنَّها تشترك في حماية النظام ومراقبة المجتمع والسيطرة على النشاط السياسي والإعلامي والاقتصادي، وتشمل:
المخابرات العامة
المخابرات العسكرية
المخابرات الجوية
الأمن السياسي
أبرز الانتهاكات الممنهجة التي اضطلعت بها الأجهزة الأمنية بعد عام 2011
أوضح التقرير أنَّ الأجهزة الأمنية في سوريا ارتكبت منذ عام 2011 انتهاكاتٍ واسعة وممنهجة طالت مختلف فئات المجتمع، وتتمثّل أبرز أنماط الانتهاكات فيما يلي:
1.الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري
وفقاً لبيانات الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان، ما لا يقل عن 160,123 شخصاً، بينهم 3,736 طفلاً و8,014 سيدة، ما يزالون قيد الاختفاء القسري منذ آذار/مارس 2011 حتى تشرين الأول/أكتوبر 2025 في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السابق. وقد تصدرت محافظة ريف دمشق القائمة من حيث عدد ضحايا الاختفاء القسري، تلتها حلب، ثم دمشق، ثم حماة.
2. التعذيب المنهجي
أوضح التقرير أنَّ الأجهزة الأمنية في سوريا مارست تعذيباً ممنهجاً في مراكز الاحتجاز، شمل الصعق الكهربائي، الضرب، التعليق المؤلم، الحرمان من النوم والطعام والماء، والاعتداءات الجنسية والتهديد بها.
وبحسب قاعدة بيانات الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد قُتل ما لا يقل عن 45,032 شخصاً بسبب التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السابق منذ آذار/مارس 2011 وحتى تشرين الأول/أكتوبر 2025، بينهم 216 طفلاً و95 سيدة. ويشير التقرير إلى أنَّ محافظتي درعا وريف دمشق تتصدران قائمة المحافظات التي سجلت أعلى عدد من الوفيات نتيجة التعذيب، تليهما محافظتا حماة ودمشق.
3. استخدام القوة المفرطة والقتل خارج نطاق القانون: أطلقت الأجهزة الأمنية النار على المتظاهرين السلميين والمشيّعين في الجنائز تنفيذاً لأوامر مركزية، ما أدى إلى مقتل آلاف المدنيين.
4. سياسات الترهيب والرقابة: فرضت الأجهزة رقابة شاملة عبر شبكات من المخبرين، ونفّذت مداهمات ليلية للمنازل، واستهدفت الكوادر الطبية والمسعفين.
فرع مكافحة التجسّس (الفرع 300): الهوية والدور في المنظومة الأمنية
أوضح التقرير أنَّ الفرع 300 يتبع مباشرة لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، التي أُنشئت رسمياً بموجب المرسوم التشريعي رقم 14 لعام 1969. وعلى الرغم من تصنيف الإدارة رسمياً كجهاز مدني، فإنَّ معظم قيادتها من الضباط العسكريين المنتدَبين من وزارتي الدفاع والداخلية، وتتكون الإدارة من فروع مركزية وإقليمية منتشرة في جميع المحافظات، ومن أبرزها:
فرع المعلومات (255): يجمع المعلومات من القطاعات المختلفة ويصدر قرارات مثل منع السفر.
فرع التحقيق (285): يتولى التحقيق مع الموقوفين المحالين من باقي الفروع.
فرع مكافحة الإرهاب (295): ينفّذ المداهمات والاغتيالات تحت شعار “مكافحة الإرهاب”.
فرع مكافحة التجسّس (300): يراقب الأجانب والمشتبه بتعاملهم مع جهات خارجية.
الفرع الداخلي (251): يركّز على الاستخبارات داخل البلاد ويراقب المؤسسات الحكومية والسياسية.
الفرع الخارجي (279): يدير محطات الاستخبارات في الخارج ويتابع شؤون المغتربين.
الفرع الفني (280): مسؤول عن التنصت والمراقبة التقنية.
الفرع الاقتصادي (260): يحقق في القضايا المالية والاقتصادية.
فرع التدريب (290): يتولى تأهيل وتدريب عناصر الجهاز.
النشأة والاختصاص في سياق القمع الأمني
يشير التقرير إلى أنَّ الفرع 300 (فرع مكافحة التجسّس) تأسس على الأرجح أواخر السبعينيات أو مطلع الثمانينيات لتعزيز قدرات النظام على مراقبة النشاط السياسي والاجتماعي المرتبط بالخارج. وقد ركّز الفرع عملياً على تتبع السوريين ذوي العلاقات الخارجية، وملاحقة المعارضين، وتوظيف اتهامات التخابر كذريعة للاعتقال التعسفي والتعذيب.
الإشراف: يعمل تحت توجيه مدير الإدارة الذي يرفع تقاريره إلى مكتب الأمن الوطني، ما يربطه بالقيادة العليا للنظام.
المستوى: فرع مركزي أعلى من الفروع الإقليمية، ويملك صلاحيات واسعة على مستوى الدولة.
أبرز الأقسام: التحقيق المركزي، المتابعة الخارجية، التحليل والمراسلات، التوقيف والتحقيق/الاستجواب.
القيادة: يُدار عادةً من ضابط برتبة عميد أو عميد ركن، بالتنسيق مع فروع أخرى مثل الفرع 251 (الداخلي)، الفرع 285 (التحقيق المركزي)، والفرع 279 (الخارجي).
الموقع الجغرافي: يقع المقر الرئيس في دمشق، حي كفرسوسة الأمني، بالقرب من مقرات «أمن الدولة».
البنية المادية: يضم الطابق السفلي زنازين فردية وجماعية، وغرف التحقيق والتعذيب. في حين يشمل الطابق العلوي مكاتب الضباط والمحققين، وأقسام الأرشفة والاتصالات.
السرية والعزلة المؤسسية: يتميز الفرع 300 بالغموض والسرّية العالية، إذ نادراً ما يُذكر في وسائل الإعلام الرسمية أو تقارير الأمم المتحدة، وتعتمد المعلومات المتاحة غالباً على شهادات موقوفين أو موظفين سابقين قبل عام 2011. كما يتسم مبناه بالانغلاق التام وارتفاع الجدران، وغياب اللافتات الرسمية.
الدور الفعلي للفرع 300 في منظومة القمع
وفقاً للتقرير فقد لعب الفرع 300 دوراً مركزياً في منظومة القمع الأمنية بعد عام 2011، ومن أبرز مهامه:
مراقبة الأجانب والمغتربين والمؤسسات المتصلة بالخارجمتابعة الدبلوماسيين والعاملين في المنظمات الدولية والمغتربين.
رصد دخول الأجانب وتحركاتهم داخل البلاد.
مراقبة المؤسسات الحكومية والخاصة ذات الصلات الخارجية.
ملاحقة أنشطة الأحزاب والشخصيات السياسية المرتبطة بالخارج، بما في ذلك رصد اجتماعات الحزب الشيوعي اللبناني والمعارضين السوريين في بيروت.
ملاحقة النشاط الإعلامي والحقوقي الخارجيمتابعة السوريين المتعاملين مع منظمات دولية وحقوقية وإعلامية خارجية، واقتراح اتخاذ إجراءات عقابية ضدهم.
جمع المعلومات والتنسيق مع الفروع الأخرىالتنسيق مع فروع مثل المعلومات (255)، الخارجي (279)، والداخلي (251) لتحليل النشاط المدني والسياسي وتحويل الموقوفين إلى فروع التحقيق المركزية.
استخدام أدوات مراقبة تقنية متقدمة، مثل تتبع الاتصالات الدولية وتحليل التحويلات المالية، لتوسيع الرقابة الأمنية العابرة للحدود.
رفع تقارير لاتخاذ إجراءات اعتقال ومنع سفر ومصادرة أمواللعب دوراً محورياً في حلقة التنسيق الاستخباراتي–الأمني، من خلال ربط الفروع الداخلية والخارجية.
أنماط الانتهاكات الناتجة عن عمل الفرع 300
وفقاً للتقرير فقد تميزت ممارسات الفرع 300 بعنصرين رئيسين:
الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري
اعتمد الفرع على اعتقالات واسعة من دون مذكرات قضائية، طالت ناشطين وصحفيين وموظفين حكوميين، كثير منهم مرّ عبر الفرع قبل تحويلهم إلى فروع أخرى أو سجن صيدنايا. كما لعب دوراً في توجيه الفروع الأخرى لتنفيذ هذه الاعتقالات. وقد وثّقت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 17,438 حالة اعتقال تعسفي تسبب بها الفرع 300، بينهم أشخاص من جنسيات أجنبية.
التعذيب والمعاملة القاسية والوفيات:
وفقاً للتقرير فقد ركزت جلسات التحقيق على التمويل الخارجي والعلاقات مع الإعلام والمنظمات الحقوقية، وغالباً ما ترافقت ممارسات تعذيب جسدي لإجبار المعتقلين على توقيع اعترافات معدة مسبقاً، وقد وثقت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 2,463 حالة تعذيب تسبب بها الفرع 300 من بينهم أشخاصٌ من جنسيات أجنبية.
انتهاكات إضافية:الحرمان من الرعاية الصحية: ترك بعض المعتقلين يعانون من نزيف أو التهابات دون علاج.
الحرمان من المحاكمة العادلة: معظم المعتقلين لم يُعرضوا على قاضٍ، وأحيل بعضهم بعد أشهر إلى محاكم عسكرية أو محاكم الإرهاب، فيما أفرج عن آخرين بعد أيام أو أسابيع.
الابتزاز المالي: طلبت أموال كبيرة من عائلات المعتقلين مقابل معلومات أو وعود بالإفراج.
مراقبة الاتصالات دون إذن قضائي: تابع الفرع المكالمات الهاتفية والاتصالات الدولية.
المسؤولية القانونية والقيادية للفرع 300
يتبع الفرع 300 بشكل مباشر لإدارة المخابرات العامة، والتي تولى قيادتها منذ عام 2011 ثلاثة ضباط فقط: اللواء زهير حمد (2011–2012)، واللواء محمد ديب زيتون (2013–2019)، واللواء حسام محمد لوقا (2020–2024). وتشير الوثائق الواردة في التقرير كذلك إلى تبعية الفرع إدارياً لمدير إدارة المخابرات العامة وإلى خضوعه لمكتب الأمن الوطني ورئاسة الجمهورية.
الاستنتاجات القانونية
الطابع الممنهج للانتهاكات: لم تكن الانتهاكات المرتكبة في الفرع 300 ذات طابع فردي، بل جاءت في إطار سياسة النظام الممنهجة الرامية لقمع المعارضة السياسية.
المسؤولية القيادية: يتحمّل قادة الفرع وقيادات إدارة المخابرات العامة مسؤولية مباشرة عن الانتهاكات، سواء عبر إصدار الأوامر أو التغاضي عنها أو المشاركة في التخطيط والتنفيذ، وفق مبدأ المسؤولية الجنائية القيادية والمتسلسلة.
تجاوز الصلاحيات القانونية: مارس الفرع احتجازاً وتحقيقاً خارج القضاء، مخالفاً العهود الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
الدور المركزي في شبكة القمع: شكل الفرع 300 حلقة أساسية ضمن شبكة مترابطة من الفروع الأمنية.
استمرار جريمة الإخفاء القسري: لا يسري التقادم على هذه الجرائم طالما ظل مصير الضحية مجهولاً.
عدم حجية الأوامر العليا: لا تُبرر الأوامر الصادرة من الرؤساء الانتهاكات الجسيمة، ويُنظر في الإكراه فقط كظرف مخفف.
عدم مشروعية الأدلة المنتزعة تحت التعذيب: أي اعترافات أو معلومات حصل عليها الفرع عبر التعذيب تُستبعد قضائياً.
عدم جواز العفو أو المصالحة دون محاسبة: التسويات السياسية لا تسقط الحق في الملاحقة أو الانتصاف للضحايا.
الحق في معرفة الحقيقة: للضحايا وذويهم الحق في معرفة الحقيقة، مع واجب السلطات في حفظ السجلات ومنع إتلافها، بما يشمل أرشيف الفروع الأمنية.
التوصيات
إلى السلطات السورية والسلطة التنفيذية:
المساءلة القضائية: توثيق الانتهاكات وربطها بالمسؤولين، وملاحقة الضباط والمديرين والمرؤوسين المتورطين في الاعتقالات التعسفية، التعذيب، والإخفاء القسري وفق القانون الوطني والدولي.
تعزيز الشفافية والمؤسساتية: إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، إخضاعها لمراجعة قضائية ورقابية، وتوثيق جميع الملفات السابقة وإتاحتها للجهات الحقوقية.
حماية الضحايا والشهود: برامج حماية سرّية، ودعم قانوني ونفسي للناجين والشهود.
تعزيز العدالة الانتقالية: تضمين انتهاكات الفرع 300 في التحقيقات الرسمية ولجان تقصي الحقائق، واستخدام التوثيق لضمان عدم الإفلات من العقاب.
آليات الرقابة على الأجهزة الجديدة: خضوع أي جهاز استخبارات جديد للرقابة البرلمانية والقضائية.
إلى السلطة التشريعية:
سنّ قوانين تجرّم الاختفاء القسري والتعذيب بوضوح، وإنشاء لجنة دائمة للرقابة على الاستخبارات، وإقرار قوانين لحماية الشهود والبيانات الشخصية والأرشفة.
إلى السلطة القضائية والنيابة العامة:
تخصيص دوائر للجرائم الجسيمة، منع استخدام الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب، وإصدار بروتوكولات للتحقيق في الانتهاكات التاريخية، مع تفعيل المراجعة القضائية لجميع أوامر التوقيف والاحتجاز.
إلى وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية:
تبني سياسات للتحقق المتعدد المصادر، وتجنّب الوصم ونشر معلومات حساسة عن العائلات.
إلى الأمم المتحدة والآليات الدولية:
تعزيز الموارد والولاية للآليات المعنية بالتوثيق والدعم القضائي، وتوسيع برامج الدعم النفسي والقانوني، وتمويل البحث عن المفقودين وبناء القدرات الوطنية في الطب الشرعي.
إلى المانحين والمؤسسات التمويلية:
دعم طويل الأمد لإدارة المعلومات والأدلة، إنشاء مختبرات طب شرعي وطنية، برامج حماية الشهود، وتعزيز التوعية المجتمعية بالحقوق والإجراءات القانونية.