٦ مايو ٢٠١٦
أصبحت حلب مفترق طريق لمستقبل سورية. باتت المعركة على حلب مصيرية لطرفي الحكم والمعارضة ورئيسة في اعتبارات اللاعبين الإقليميين والدوليين، العسكرية منها والجغرافية - السياسية، بغض النظر عما إذا اتفقت الدول الفاعلة، بالذات روسيا والولايات المتحدة، على هدنة أو وقف النار الآن، فإن محور روسيا - ايران - دمشق - «حزب الله» عازم على حسم المعركة عسكرياً لمصلحته عاجلاً أم آجلاً، لأنه يريد إملاء ما يريده على المعارضة السورية بعد دفعها إلى الاستسلام عبر بوابة حلب. قد تبدي موسكو مرونةً هنا وهناك حرصاً على الإمساك بخيوط اللعبة مع إدارة باراك أوباما، وذلك إما للحصول على مزيد من التنازلات الاستراتيجية مقابل «اللاإحراج» لواشنطن في سورية، أو لإخماد أي اندفاع أميركي - تركي - خليجي باتجاه زخم جدي في تسليح نوعي للمعارضة السورية المعتدلة. حذاقة موسكو الممزوجة بالحنكة الإيرانية تضع في الحسابات كيفية ونوعية وتوقيت تفكيك المعارضة السورية بتفاهم مع إدارة أوباما ووزير خارجيتها جون كيري الذي بات أداة رئيسة لموقع إبرة بوصلة التفاهمات حول سورية وما يتعداها. وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي بات محرّكاً للبوصلة وإبرتها يسعى اليوم إلى فرض الأمر الواقع على أكثر من محطة في المأساة السورية، بدءاً بشروط إدراج حلب في جغرافية رقعة الهدنة والتهدئة، وصولاً إلى نوعية «الانتقالية» في الحكم في سورية. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُلهي نفسه بالجبهات الاستراتيجية وترابطها بتوقيتات ذات معنى ومغزى، وعينه دائماً ثابتة على الولايات المتحدة حيث «اللاخصم» باراك أوباما سيُستبدل قريباً إما بـ «اللاصديق» هيلاري كلينتون من الحزب الديموقراطي أو بالجمهوري «اللاخصم اللاصديق» دونالد ترامب الذي يعي بوتين أن غزله معه موقتٌ. وفي أثناء التموضع الدولي والإقليمي، ليس مصادفة ربما تزامن التصعيد والمواجهة في حلب مع انحسار التقدم في المفاوضات اليمنية الجارية في الكويت بين الحكومة والحوثيين ومع اندلاع الفوضى المرعبة في العراق التي استدعت من واشنطن تجديد دعمها لرئيس الحكومة حيدر العبادي.
ثورة أنصار مقتدى الصدر في العراق ما لبثت أن انضوت تحت لواء زيارته إيران ورافقها غسل الأيادي من شعارات «مندسّين» هتفوا ضد الراعي النافذ «إيران برّا برّا»، قبل أن يقتحموا المنطقة الخضراء ومبنى البرلمان لربما برسالة «أين أنا؟». أدى ذلك إلى اندفاع واشنطن لتأكيد دعمها لحيدر العبادي بتزامن مع إنذار طهران ألا يجرؤنّ أحدٌ على المس بالصيغة التي ارتأتها للحكم في بغداد، لا سيما أنها منشغلة برسم صيغة حكم تريدها وتصرّ عليها في دمشق. هاتان العاصمتان أساسيتان في الطموحات الإقليمية لطهران. وواشنطن لا تعارض تلك الطموحات، ذلك أنها فعلياً توافق السياسة الإيرانية في العراق، ولا تعارضها في سورية عملياً عبر سكوتها الرهيب مثلاً على إعلان طهران أن لواء من الجيش الإيراني يقاتل لمصلحة النظام في سورية وصمتها المرعب على صناعة الميليشيات التي يديرها قاسم سليماني المدرج على قائمة العقوبات الأميركية.
في العراق، وعلى صعيد ردود الفعل على ثورة الصدر، تبدو الدول الخليجية في توافق مع ردود الفعل الأميركية دعماً للعبادي في وجه الفوضى واقتحام البرلمان.
الأمر مختلف تماماً في سورية حيث إن إيران على ثقة تامة بأنها منتصرة ليس فقط عبر معركة حلب، وإنما في كامل المعركة على سورية بشراكة واضحة مع روسيا وضمنية مع الولايات المتحدة. فواشنطن وضعت الحرب على «داعش» عنواناً لها هناك، وسارت في الخطى التي رسمها المحور الموالي للنظام في دمشق باختزاله المسألة السورية في حرب على الإرهاب.
الآن، أمام الدول الخليجية أن تتخذ القرار الحاسم في المعركة الحاسمة على حلب. بعضهم يعتقد أنه فات أوان تأهيل المعارضة السورية المعتدلة عسكرياً، بما يمكّنها من قلب الموازين ميدانياً. وآخرون يصرّون على أن تسليح هذه المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات السورية - وليس الطائرات الروسية التي تحلق على ارتفاعات لا تطاولها هذه الصواريخ - سيؤدي إلى تعديل ضروري للمعادلة العسكرية الميدانية وسيمنع المحور الموالي لبشار الأسد من تحقيق الإنجازات التي يرمي إليها.
أصحاب هذا الرأي ينادون بعدم انتظار المباركة أو الفيتو الأميركيين ويشيرون إلى صواريخ صينية مكدّسة في المستودعات جاهزة للتصدير رهن القرار السياسي. يقولون أن أي تلكؤ سيؤدي إلى هلاك المعارضة السورية كلياً، عسكرياً ومعنوياً وسياسياً، بعد سقوط حلب في أيادي النظام. يقولون أن خسارة المعارضة في حلب ستؤدي إلى خسارة في اليمن. من يقولون ذلك خليجيون، يعتبرون سورية الفيصل في مستقبل العلاقات مع إيران.
آخرون في منطقة الخليج يراهنون على إيقاف واشنطن مسيرة موسكو وطهران إلى سورية عبر حلب. يعتقدون بأن واشنطن جاهزة لتسليح المعارضة السورية المعتدلة فور وضوح السياسة الروسية العازمة في الصميم على عدم السماح بأن يخسر النظام في دمشق امتلاك آخر المدن الكبرى، ففي حلب يبدأ الانهزام التام للمعارضة الذي يليه الاستسلام. ويرون أن واشنطن لن تسمح بذلك، أقلّه لأنها لا تريد أن تفقد السيطرة أو السلطة على القرارات الخليجية أو التركية التي ستؤثر جذرياً في العلاقة الأميركية - الروسية.
روسيا تقول للولايات المتحدة أنها لا تعتبر بشار الأسد حليفها، وإنما تدعمه لمحاربة الإرهاب وهي تراهن على تلك الأولوية لدى إدارة أوباما، فيما تلمّح إلى أن العلاقة بين موسكو ودمشق اليوم ليست تحالفية كتلك التي بين واشنطن وأنقرة. والقصد من ذلك هو الإيحاء بأن موسكو تفهم مقاييس نفوذها ونفوذ واشنطن مع كل من دمشق وأنقرة، ومقاييس الالتزامات مع الحكم في البلدين. إنها تحاول أن تطمئن إلى أن تصعيدها مع تركيا له حدود يمكن الولايات المتحدة أن تضبطها بحكم علاقة التحالف معها في حلف شمال الأطلسي. فموسكو تحاول أن تصعّد ضمن ضوابط عدم التورط المباشر مع تركيا، تجنّباً لأزمة مع حلف شمال الأطلسي. وهي تطالب واشنطن بأن تسيطر على حليفها في أنقرة، مقابل ممارستها نفوذها مع «اللاحليف» لها في دمشق. أن تطالب بإغلاق الحدود التركية - السورية في إطار التفاهم على التهدئة في حلب، فإن ذلك منطقي من وجهة النظر الروسية.
المطلب الآخر لروسيا هو الفصل بين المعارضة التي تصف نفسها بأنها معتدلة على نسق «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» وبين «جبهة النصرة» التي صنّفها قرار مجلس الأمن بأنها «إرهابية». سيرغي لافروف طالب بانسحاب القوات «التي تصف نفسها بأنها معتدلة» من مناطق «جبهة النصرة» وإعلان «انفصال تام عن الإرهاب»، ودعا إلى إغلاق الحدود التركية - السورية التي اعتبرها أهم قنوات دعم الإرهابيين. بذلك الطرح، كان لافروف يدعو واشنطن إلى أمرين: أولاً، حسم المعركة من حلب «ضد الإرهاب» بما ينطوي على انتحار شق المعارضة المعتدلة التي لن تتمكن بعد معركة حلب من خوض أي معركة عسكرية. وثانياً، كان لافروف يدعو كيري إلى إضعاف المعارضة العسكرية المعتدلة لدرجة إخضاع العناصر العسكرية فيها للالتحاق بالجيش السوري، ليس على أساس مطالبها، وإنما على أسس اضطرارها. تلك هي عملية التوازن في الجيش التي تريدها موسكو تحت عنوان أولوية مؤسسات النظام.
فموسكو ليست في وارد الكشف عن تفاصيل التزاماتها مع بشار الأسد أو عن مشاريعها لإحياء النظام السوري بتعديلات لا تشمل بقاء الأسد. إنها تترك ذلك للتخمينات. الواضح من مواقفها أنها دفنت مبادئ إعلان جنيف القائم على إنشاء هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية. بات ذلك خبر كان في استراتيجيتها السورية. والأرجح أن الأمم المتحدة لن تخوض تلك المعركة ضد موسكو، طالما أن واشنطن غير جاهزة لها، بل غير راغبة فيها.
واشنطن أوباما لن تتورط في سورية بغض النظر عن تهديد وإنذار وتوعد كيري بخطة «باء»، فتلك الخطة ستبقى في الأدراج طالما الثنائي لافروف - كيري يتفاهم. وسيتفاهم. لربما يُؤجل الحسم في معركة حلب إلى حين احتواء الغضب من استهداف المستشفيات، ومما تخلّفه يوميات سورية من لاجئين يطرقون الأبواب الأوروبية. ولربما وصل موسكو كلامٌ من الدول الأوروبية بأن تصعيدها مع تركيا لا يناسب تلك الدول التي تتلقى اللاجئين إليها. ولربما تكون هناك تهدئة في ضوء الوصاية الأميركية - الروسية العسكرية للتفاهمات حول سورية وفي ضوء ضم حلب إلى فكرة التهدئة.
لكن هذه قرارات حرب وقرارات حسم مؤجلة وليست قاطعة. فحلب مفترق طريق مستقبل سورية. والطريق إلى المفترق مُشبع بالمآسي وبالدماء ولفترة غير قصيرة.
٦ مايو ٢٠١٦
لنفترض جدلاً أن الذين أرادوا أن يعكسوا حركة الدومينو، ويقلبوا الثورات في الاتجاه المعاكس، كما توعد بشار الأسد في بداية الثورة، لنفترض أنهم نجحوا في إفشال الثورات وتحويلها وبالاً على الشعوب. لكن هل هؤلاء المتآمرون من الطواغيت والانقلابيين والعرب والغرب والدول الإقليمية: هل هم في وضع أفضل الآن بعد نجاحهم المزعوم في إحباط الثورات؟ بالطبع لا. إنهم في وضع أسوأ بكثير. ومن كان يعتقد أن العملية بسيطة وسهلة، وأن الشعوب ستعود إلى زريبة الطاعة كان مخطئاً من رأسه حتى أخمص قدميه. ومن كان يعتقد أنه يستطيع إعادة تأهيل الشعوب بالعصا الأمنية نسي شيئاً مهماً جداً، وهو أن الذي يريد أن يزرب الحيوانات في الحظيرة لا بد أن يكون قادراً على توفير العلف والعليق لها على أقل تقدير. وإلا فإن حتى الكلاب الجائعة يمكن أن تأكل أصحابها. ليس صحيحاً أن تجويع الكلاب يمكن أن يحميك من شرها. لا أبداً، فالمثل يمكن أن يكون معكوساً. بدل أن تقول: «جوّع كلبك يتبعك»، يمكن أن تقول أيضاً:» جوّع كلبك يأكلك».
لا يكفي أبداً أن تكون قادراً على استخدام العصا الأمنية والعسكرية في وجه الشعوب. هل لديك ما يُسكت جوع الشعوب؟ صحيح أنك تستطيع ترويض الوحوش بقطعة لحم. لكن هل لديك لحم؟ هل تستطيع أن تؤمن أبسط متطلبات الناس كي تجعلهم ينسون الثورات، ويطالبون بالاستقرار والسلام والانصياع للقيادة «الحكيمة»؟ بإمكانكم أن تعيدوا الشعوب إلى بيت الطاعة لفترة، لكنها ستطالب بقوتها لاحقاً، وستعود وتنفجر في وجوهكم ثانية، ليس فقط من أجل لقمة عيشها، بل أيضاً لأننا نعيش في زمن التواصل الاجتماعي الذي لم تعد تقبل فيه الشعوب فقط بالعلف، بل رأت كيف تعيش الشعوب الأخرى، ولا شك أنها ستطالب أيضاً بحريتها وإنسانيتها التي صادرتموها منذ عقود.
يا أصحاب الثورات المضادة: لن تفلحوا في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لا في مصر ولا في تونس ولا في ليبيا ولا في اليمن ولا في سوريا. الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة ستحرق الأخضر واليابس مهما توحش كلاب الأمن والجيوش اللاوطنية ضد شعوبها. ومن يراهن على الوصفة الجزائرية التي يقترحها الرئيس الجزائري الخارج من القبر بكفالة لسوريا وغيرها، فهو واهم. فالمشلول لا يمكن أن يساعد المنكوب.
تستطيع روسيا أن تحمي النظام السوري من المعارضة لفترة عسكرياً. لكنها لا تستطيع أن تحميه من الشعب فيما بعد، لأن هناك استحقاقات كثيرة لا يستطيع النظام الوفاء بها. وروسيا تعلم جيداً أن كل اسلحة الاتحاد السوفييتي لم تستطع حماية البلاد عندما جاع الشعب وانتفض. بعبارة أخرى القوة لا تحقق الاستقرار لا في روسيا ولا في سوريا. وحتى المساعدات الخارجية لا يمكن أن تحمي مصر أو غيرها. هل نجحت مليارات المساعدات أن تحمي مصر؟ أم إن الأوضاع في البلاد تغلي من جديد لأنه لم يتغير شيء على الأرض، لا بل زادت الأوضاع الحقوقية والاقتصادية سوءاً. وحتى تونس التي اجتازت الثورة بأقل الخسائر أصبحت على كف عفريت بسبب الثورة المضادة.
أيها الطواغيت العرب يا من تحاولون إعادة الشعوب إلى تحت نعالكم الأمنية والعسكرية: حتى أسيادكم وحماتكم في الغرب باتوا يخشون من تبعات الثورات العربية وحركاتكم الانقلابية على أحلام الشعوب. هل سمعتم ما قاله وزير الخارجية البريطاني الأسبق وليام هيغ قبل أيام فقط؟ لقد قال حرفياً إن الفوضى والاضطرابات الرهيبة في الشرق الأوسط مازالت في بدايتها، وهي مرشحة لمزيد من التدهور. لماذا؟ لأن كل الظروف التي أدت إلى الثورات مازالت موجودة. ويذكر الوزير في مقال له نشرته صحيفة «التليغراف» البريطانية، تحت عنوان «لا نستطيع تجاهل الفوضى بالشرق الأوسط»، أن عدة عوامل ستؤجج الفوضى مثل تزايد الكراهية الدينية والانهيار الاقتصادي وزيادة نسبة الشباب وصغار السن في هذه المجتمعات، علاوة على ضعف الحكومات وفسادها. ورأى هيغ أنه إذا أضفنا إلى ذلك عدم الاستقرار الموجود في أغلب بلدان القارة الإفريقية، فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى زيادة موجات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. بعبارة أخرى، حتى الغرب بدأ يحصد ثمرة سياساته الكارثية ودعمه للديكتاتوريات في العالم الثالث. إنه مرعوب الآن من موجات الهجرة الرهيبة التي ترهب أوروبا. هل تعلمون أيضاً أن أزمة اللاجئين على وشك أن تفكك الاتحاد الأوروبي والقضاء على اتفاقية شينيغن؟
أما العرب الذين تآمروا على الثورات فمخطئون إذا اعتقدوا أنهم نجحوا في تخريبها. ها هم الآن يحصدون نتيجة تآمرهم ضد الشعوب في مصر واليمن وسوريا وليبيا والعراق. إن إحباط ثورات الشعوب الأخرى لا يمكن أن يحميكم من شعوبكم. لن يبق أحد بمنأى عن تداعيات الثورات العربية في البلدان الأخرى. ها أنتم أيها العرب الآخرون تتورطون في صراعات البلدان التي ثارت شئتم أم أبيتم. ها أنتم تستنزفون خزائنكم في شراء السلاح لحماية أنفسكم من تبعات التطورات في المحيط العربي. ومن كان بيته من زجاج فلا يرمي بيوت الآخرين بالحجارة. كان من الأفضل لكم أن تقفوا مع أحلام الشعوب الأخرى، بدل الخوف من ثوراتها. إذا كان جارك بخير فأنت بخير. والمثل الشعبي يقول: إذا حلق جارك بل ذقنك.
٦ مايو ٢٠١٦
" ما عاد بدنا حل يا كل السجن يطلع يا مستحيل ..." قد تظن للوهلة الأولى أن لديهم سلاح ودبابات وقوات مساندة و خط امداد مفتوح ولامحدود، بينما الواقع هم عبارة عن معتقلين لا يملكون من الحول و القوة إلا ايمان عميق بأنهم أصحاب حق، و قادرين على مواجهة كل شيء ممكن أن يتخيله عقل، بأجساد عارية و مرهقة من الاعتقال و السجن، و بأرواح منهكة من انتظار الموت البطيء أو الإعدام الميداني أو النسيان في الزنازين.
في اضراب سجن حماه الحالي، تظهر روح الثورة بأجلى صورها و أكثرها وضوحاً، و تعيدنا إلى النشأة الأولى عندما خرجنا عراة الصدور أمام الرصاص والنار، محاطين بالمعتقلات و السجون، وشبح الموت جاثم على كل ذرة هواء أو تراب تلاصق أجسادنا، و رغم ذلك أصرينا و تابعنا و واصلنا.
و يتابع المعتقلين ارسال رسائلهم، و يمدوننا بمزيد من الإصرار لمتابعة المشوار، و فك القيود عن معاصمهم، و خذلانهم اليوم هو خذلان أخير للثورة السورية الطاهرة الأبية، التي عانت و تعاني و ستعاني من الخذلان و النكران و التهميش، و الأهم التلوين بأشنع الأقذار بغية نفيها و مقاتلتها علناً، بعد أن أضناهم القتال الخفي، الذي باء بالفشل طوال السنوات الماضية.
عشرات الصور و التسجيلات و الرسائل الصوتية و المكتوبة التي وجدت طريقاً لها للوصول إلى من هم بالخارج، تستنجد بالجميع علها تجد صوت، لحنجرتهم المجروحة و المخنوقة من شدة الظلم و الظلام الذي عاشوه، دون أن يجدو من يدافع عنهم أو يتمكن من تخفيف سياط واحد من الآلاف التي تنهال عليهم.
بضع رشقات من الصواريخ على خزانات النظام البشرية، كانت كافية اليوم لإيقاف الحملة التي بدأت مساء وانتهت بإصابات وحالات اختناق، لكنها لن تكون الأخير، وفق ما ينقله لنا المعتقلين.
الانتظار و التكلم عن تحرك دولي أو انساني من أي أحد، هو مخاطرة كبيرة، و عبث إضافي بأرواح من هم لو كانوا بالخارج لفدوا السوريين بأرواحهم، فالنار بالنار، و الموت بالموت.
و لعل استخدام مشايخ السلطان كوسيط في هكذا مفاوضات، هو دليل على وجود خطة قذرة يراد تنفيذها، و لذا جاء رد المعتقلين، الذين صعدوا من مطالبهم المحقة، ووصلوا إلى حقهم الكامل بالخروج الجماعي للجميع دون استثناء لأحد، أو يبقون جميعاً يواجهون الموت بلا أي درع أو حماية، و هو درس إضافي يمنحنا إياه المعتقلون في الايثار و التوحد و العمل كيد واحدة، فيما عجزنا و نحن نجلس على وثير الفراش الاتفاق على نسق واحد في المساندة الإعلامية.
٥ مايو ٢٠١٦
للمرة الأولى يتحدث مسؤول من كردستان العراق عما كان قاله العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قبل أكثر من عشرة أعوام، وهو أن إيران تسعى لإقامة قوس أو هلال عنوانه شيعي وحقيقته فارسية، يبدأ طرفه الأول باليمن وينتهي طرفه الثاني بالجنوب اللبناني، مرورًا بدول الخليج العربي والعراق وسوريا، وصولاً إلى لبنان. وحقيقة أنه لولا «عاصفة الحزم» التي اتخذ قرارها الشجاع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لتم إنجاز الجزء الأكبر من هذا الهلال الذي هدفه استعادة ما يعتبره هذا النظام الإيراني: «أمجاد فارس القديمة»، والذي لا علاقة له بتاتًا لا بالتشيع ولا بالطائفة الشيعية الكريمة، خاصة أتباعها من العرب الذين يعودون بأصولهم إلى أبطال ذي قار والقادسية.
اعتبر هذا المسؤول (العسكري) من قوات «البيشمركة» الكردية أن زج إيران بوحدات عسكرية نظامية، إلى جانب فيلق القدس وحراس الثورة والحشد الشعبي الذي يقوده هادي العامري، وبعض التنظيمات المذهبية الأخرى التي من بينها ما يسمى: «عصائب الحق»، في معركة طوز خورماتو هدفه أن تكون القفزة الأخرى في اتجاه إقليم كردستان - العراق لاستكمال هذا الهلال العسكري – الديموغرافي الذي استكمل الإيرانيون بعض أجزائه الرئيسية والأساسية بإحراز كل هذا التمدد الاحتلالي في العراق، وفي سوريا، وفي لبنان أيضًا، من خلال حزب الله الذي كان زعيمه حسن نصر الله قد أعلن بأنه «يفتخر» بأنه جندي في فيلق الولي الفقيه.
وهنا، فربما أن كثيرين لا يعرفون أن بدايات محاولات إيران إنشاء ممر عسكري «كاريدور» عبر إقليم كردستان – العراق يربط بينها وبين سوريا يعود لنحو منتصف تسعينات القرن الماضي، عندما رتب جلال الطالباني هجوما على مدينة أربيل مع الإيرانيين، شاركت فيه قطاعات عسكرية إيرانية «مُجوْقلة» تقدر بفرقة كاملة، لانتزاعها من قوات «البيشمركة» التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة مسعود البارزاني، نجل القائد التاريخي الملا مصطفى البارزاني، وزير دفاع أول دولة كردية، التي هي دولة «مهاباد» التي كانت نهايتها عاجلة، بعدما أطبقت عليها أضلاع المؤامرة الدولية في تلك الفترة المبكرة.
وكانت قوات مسعود البارزاني قد استعادت هذه المدينة (أربيل)، في بدايات تسعينات القرن الماضي، وبادرت إلى الربط بينها وبين مدينتي دهوك وزاخو على الحدود العراقية – التركية، وبعمق مُعتبر في اتجاه الشمال يصل إلى منطقة بارزان، ويلامس جبال قنديل الشهيرة، مع امتداد نحو الحدود الإيرانية يصل إلى حاج عمران التي كانت تشكل أحد مراكز الملا مصطفى البارزاني العسكرية الاستراتيجية، وهذا عنى بالنسبة للإيرانيين استحالة إنشاء الممر الأرضي الذي كانوا يسعون إليه منذ بدايات انتصارات الثورة الإيرانية في عام 1979، الذي يربط بين إيران وبين سوريا عسكريًا واقتصاديًا، والمعروف أن «القطر العربي السوري» كان قد انحاز إلى الدولة الخمينية، إلى جانب جماهيرية القذافي خلال حرب الثمانية أعوام العراقية - الإيرانية.
المهم أن مسعود البارزاني كان على رأس بعض وحداته العسكرية في منطقة جبل «حسن بيك» للانطلاق في اتجاه منطقة حرير على الطريق بين داهوك وأربيل، عندما تمكنت القوات الإيرانية الغازية من اقتحام هذه المدينة التاريخية والسيطرة عليها، ليس بتواطؤ من جلال الطالباني الذي كان يسيطر على مدينة السليمانية وفقط، بل ومشاركة عسكرية (وإنْ محدودة جدًا منه)، مما أكد أن الخطوة الثانية للإيرانيين ستكون الوصول إلى الحدود العراقية - السورية بالقرب من: «معبر إبراهيم»، وتحقيق الربط الأرضي بين إيران وسوريا.. هذا الهدف الذي لا يزال منشودًا حتى الآن، والذي يبدو أن طهران غدت تسعى لتحقيقه عبر منطقة طوز خورماتو في اتجاه شمال الموصل وصولاً إلى الأراضي السورية.
لقد كان مسعود البارزاني في تلك اللحظة التاريخية يواجه خيارات صعبة بالفعل، فأوضاعه العسكرية في كردستان العراق، التي كان قد عاد إليها توًّا ومعه مئات الألوف من أبناء شعبه الذين كانوا غادروا وطنهم بعد محرقة «حلبجة» الشهيرة وقبل ذلك، لم تكن قد استقرت بعد... وهكذا فقد كان عليه أمام كل هذه التحديات والتطورات الخطيرة إما أن يتراجع ويعود إلى خيار المنافي أو يستعين بصدام حسين وعلى أساس أن هذا هو «العدو» الذي ليس من صداقته بد وإن مؤقتًا فكان لا بدَّ مما لا بُدَّ منه بُدّ.
وهنا فإن الأمانة تقتضي الكشف عن حقيقة لا بد من الكشف عنها بعد كل هذه السنوات الطويلة وهي أن البارزاني قد أخذ بمشورة أهم قادة المعارضة السورية في ذلك الحين الذي كان معه في الميدان في تلك الظروف الخطيرة والصعبة، فتم إجراء اتصال هاتفي بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، رحمه الله، لطلب المساعدة العسكرية من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لدحر الغزو العسكري الإيراني الذي كان هدفه، بعد احتلال أربيل، الوصول إلى الحدود السورية – العراقية وربط إيران برًا بسوريا وتحقيق ما كان هدفًا استراتيجيًا للإيرانيين منذ انتصار الثورة الخمينية... وحقيقة أن ما طلبه الزعيم الكردي قد تحقق على الفور وإن دحر القوات الإيرانية الغازية قد تم خلال ساعات قليلة وحيث عادت قطاعات الجيش العراقي إلى مواقعها السابقة تحاشيًا لأي ردات فعل إقليمية ودولية.
إن هذا هو ما حصل في أغسطس (آب) عام 1996، لكن الإيرانيين ظلوا يحاولون ويضغطون ويسعون لإنشاء ممرهم البري الآنف الذكر لكن مسعود البارزاني بقي يصر على رفض هذا الطلب التعجيزي أولاً لأن تحقيقه سيشكل انتهاكًا للسيادة الوطنية الكردية وثانيًا لأنه سيؤدي إلى إشكالات أمنية كثيرة وبخاصة مع تركيا وبعض الدول العربية التي لن تقبل بأن تحقق إيران كل هذا التمدد العسكري في هذه المنطقة التي ازداد استهداف طهران لها بعد انتصار الثورة الخمينية.
وهكذا فإن السؤال في النهاية هو: لماذا يا ترى تحاول إيران مد «كاريدورها» الأرضي هذا من طوز خورماتو في اتجاه سوريا مع أنها غدت تحتل العراق كله احتلالاً كاملاً باستثناء إقليم كردستان؟ والجواب هو: إنها لا يمكن أن تطمئن إلى المناطق التي أكثرية سكانها من العرب السنة، ولذلك فإنها قد لجأت إلى كل هذا التحشيد العسكري والمذهبي في هذه المنطقة العراقية الآنفة الذكر لتحقيق «كاريدورها» الأرضي هذا، وهنا فإن ما تجب الإشارة إليه ونحن بصدد الحديث عن هذا الأمر أن جميل الأسد، شقيق حافظ الأسد، كان قد شكل في سبعينات القرن الماضي ما سمي: «جمعية الرضا» بطلب من وكيل الإمام الخميني السابق في دمشق محمد حسن أختري لتحويل سكان الحدود السورية – العراقية السنة إلى المذهب العلوي الذي بات يرتبط طائفيًا بـ«قم» الإيرانية!!
٥ مايو ٢٠١٦
مناظر القتلى والجرحى، خصوصًا من الأطفال، في حلب، أعادت معاناة السوريين إلى الواجهة، وحركت اللقاءات والاتصالات الدبلوماسية للنظر في كيفية توسيع الهدنة، وإعادة تحريك العملية السياسية المتوقفة. لكن التصريحات الصادرة عقب هذه اللقاءات، وتحديدًا عقب لقاء وزيري الخارجية الأميركي والروسي، ثم الاجتماعات مع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، لا تبعث على التفاؤل بنهاية قريبة لمعاناة المدنيين، ناهيك بالقول بأي نهاية محتملة للأزمة السورية في المستقبل القريب.
مشكلة سوريا أن أزمتها وقعت في عهد رئيس أميركي جعل مسألة سحب القوات الأميركية من مناطق النزاع، وعدم الزج بقوات برية في مهام قتالية، ما لم يكن هناك تهديد مباشر لأمن أميركا ومصالحها، من بين أولويات استراتيجيته الخارجية وعقيدته السياسية. أضف إلى ذلك أن الأزمة السورية احتدمت في وقت كان تركيز أوباما منصبًا على التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، مما جعل الحسابات من أجل هذا الاتفاق تتداخل مع الحسابات في الأزمة السورية. لذا بدت السياسة الأميركية إزاء الأزمة السورية مترددة أحيانًا، وسلبية أحيانًا أخرى، وممانعة في كل الأحوال لأي تدخل مباشر يضطرها للدفع بقوات قتالية برية.
عندما تحدث وزير الخارجية الأميركي جون كيري، عقب لقائه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، هذا الأسبوع، عن مناطق آمنة، كأحد الخيارات لحماية المدنيين في سوريا، سارع البيت الأبيض للرد عليه والقول إن أوباما يرفض هذا الخيار لما يتضمنه من مسؤولية الدفع بقوات برية لحماية مثل هذه المناطق. هذا الكلام يشير إلى أن الجهود ستنصب بالأساس على توسيع الهدنة لتشمل حلب أيضًا، وذلك على الرغم من أن كيري اعترف بأن الهدنة كانت هشة وعرضة للخروقات والانتهاكات، وهو ما يعني ضمنًا أنها ستبقى كذلك في ظل عدم وجود اتفاق ملزم، وقوات لمراقبة التنفيذ ومنع حدوث انتهاكات.
مركز التنسيق العسكري الأميركي - الروسي الذي تحدث عنه كيري ولافروف لمراقبة الهدنة، لن يكون حلاً، خصوصًا مع التباين في الأهداف والاستراتيجيات بين واشنطن وموسكو، وتعدد الفصائل على الأرض، وعدم وجود توافق حول تعريف وتحديد «الإرهابيين» الذين تستهدفهم الغارات. فأميركا تركز في عملياتها واستراتيجيتها على محاربة «داعش»، والتعاون مع الأكراد، وتبقى مترددة حيال مسألة دعم المعارضة «المعتدلة» بأسلحة متطورة، خصوصًا بعد فشل تجربتها في تدريب وتسليح معارضين، إثر قيام بعض هؤلاء بتسليم أسلحتهم لجبهة النصرة أو اختفاء أثرهم بعد دخولهم إلى سوريا. أما روسيا، فإنها تعمل على دعم النظام السوري وتمكينه من استعادة مناطق مهمة خسرها في السابق، لتعزيز موقعه في المفاوضات، إذا بقيت هي المسار للحل، وليس الحسم العسكري الذي يبدو مستحيلاً في الوقت الراهن، وفي ظل موازين القوى الحالية، والتجاذبات الدولية، والصراع الإقليمي المحتدم.
كذلك، فإن موسكو ودمشق تستخدمان تعريفًا واسعًا للحرب على الإرهابيين، يشمل إضافة إلى جبهة النصرة فصائل معارضة أخرى تعتبرها واشنطن ضمن «المعتدلين». من هنا كان إصرار لافروف في تصريحاته عقب لقائه مع كيري ومع دي ميستورا على أن توسيع الهدنة وضم حلب إليها لا يعني وقف الغارات على «الإرهابيين». كذلك كان لافتًا مطالبته للفصائل المعتدلة بالانسحاب من مناطقها في حلب، والابتعاد عن مواقع جبهة النصرة.
المذهل أن لافروف تحدث عن أن 90 مجموعة مسلحة أعلنت انضمامها للهدنة، مما يعطي لمحة عن حجم المشكلة التي تواجه أي اتفاق لوقف العدائيات. فبعض التقديرات تضع عدد المجموعات المسلحة في سوريا في حدود الألف، أغلبها مجموعات صغيرة تعمل في نطاق محلي ضيق. لكن حتى بعد التحالفات التي عقدت بين المجموعات المختلفة، فإن عدد الفصائل المعارضة يظل كبيرًا جدًا، كما يبقى عاملاً معرقلاً لسريان أي هدنة، هذا إذا اقتنعنا أصلاً بأن «نظام التهدئة» المعلن يشكل هدنة ذات معنى.
الكلام عن الهدنة يجعل أميركا تبدو وكأنها تفعل شيئًا حيال الأزمة السورية والمعاناة الفظيعة التي يعيشها المدنيون سواء في حلب أو في غيرها من المناطق التي تشهد عمليات، في حين أن السياسة الأميركية الراهنة هي «الانسحاب» من أزمات المنطقة. ولأن أوباما لن يبدل في استراتيجيته، خصوصًا في هذا الوقت المتأخر من عمر إدارته، فإن وزير خارجيته كيري لجأ إلى التركيز على التعاون مع روسيا لتحقيق ما يمكن تحقيقه، رغم التباينات الهائلة في الأهداف بين الطرفين.
أميركا ستدخل قريبًا، إن لم يكن قد دخلت بالفعل، في فترة «البيات الانتخابي» التي تتوجه فيها الأنظار نحو معركة انتخابات الرئاسة والكونغرس (كل أعضاء مجلس النواب و34 من أعضاء مجلس الشيوخ)، والأزمة السورية ستتراجع أكثر في سلم أولويات الإدارة التي تستعد لترتيب أمورها استعدادًا للرحيل في يناير (كانون الثاني) المقبل. روسيا تدرك ذلك، وقد تعمل مع نظام الأسد لفرض حقائق جديدة على الأرض، مما يعني تصعيدًا في الحرب، ومعاناة أكبر للسوريين.
٥ مايو ٢٠١٦
استقالة رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو يوم أمس لم تكن صدفة , و لم تكن مفروضة عليه او حتى معد لها منذ زمن , يبدو ان أوغلو لم تلائمه سياسة ما، أو مسعى باتجاه لا يرغب به ، فقرر أن يتنحى بهدوء , و اعتبر أن مهمته قد انتهت , هذا لا يمنع وجود بعض الحزن و بعض الخلافات بين أوغلو و أردوغان ,
و لكن الجميل في استقالة المفكر أوغلو و عدم تصريح رئيس الدولة "طيب رجب أردوغان" بأي كلمة ضد أوغلو , و حرص كليهما على انتهاء مهمة مطروحة لازدهار "الدولة التركية" , و خلاف واضح زينه هدوء رزين , فالأول اعتبر سيطرة الثاني مفترق طرق ليعود الى كتبه و فكره و الثاني اعتبر استقالة الاول انتهاء مرحلة , لمواصلة الحلم في دولة يحلم بها مرتقبة
ما لفتني ليس سبب خلاف الاثنان أو كيفية استقالة أوغلو , و ماذا سيحدث في تركيا بعد الخلافات , لان الاجابة ببساطة أن احدا لن يعرف تفاصيل الخلافات الدقيقة , و لن يسمحا لأحد ان يدخل في هيكلية و قوانين حزبهما , و الدولة التركية ستبقى في قبضة حزب العدلة و التنمية , انها الفكرة التي نطمح بها كسوريون منذ خرجنا في ثورتنا فكرة "الايثار" , و التي لم نتوصل لها حتى الان.
ماذا لو حصل الخلاف ذاته بين أعضاء الائتلاف أنفسهم على منصب لدولة لم تقم بعد من حالة حرب ؟ ، ماذا فعلت الفصائل في الغوطة الشرقية كي لا تقع في براثن قهقهات نظام الاسد وايران؟ .
لا يقل لي أحدكم انتهى الخلاف و هذا تأجيج خلاف, فالمرآة التي تنكسر محال أن تعود , و ما كسره الاقتتال الداخلي في وقت تحرق فيه حلب, سبقها اقتتالات داخلية في ادلب و في حلب ذاتها و في كل منطقة محررة , الأمر الذي لن يجعل الغرب يغفر لنا ما قام به قادة الفصائل التي تمثل ثورتنا التي من المفترض أن تقوم على "الايثار" و مصلحة الجميع مقابل منصب.
تمنيت لو أن يكون لاستقالة أوغلو , و ذوقه في تعبيره عن استقالته , و الذي كان وسط هدوء اعلامي تركي واضح , لو أنه كان درساً لنا كسوريون , ثرنا و شردنا و قتلنا و اعتقلنا لكي نتبنى مصطلح "الايثار" , لكن يبدو ان ما زرعه فينا الأسد الاب و الابن ل 40 عاماً من فكرة "فرق تسد" لم نتخلص منها و لن نتخلص منها في القريب العاجل , بل على العكس وجدنا من خلافات حزب العدالة والتنمية صيداً ثميناً , لنتناقله عبر صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي , لنتساءل ماذا سيحصل في تركيا و لماذا حصل الخلاف و ما هي النتائج , و بقى تفكيرنا سطحياً , و نسينا العبرة من خلاف رئيس وزراء و رئيس دولة واحدة انتهى بإيثار الوطن على منصب زائل
٥ مايو ٢٠١٦
تشكل العبثية السياسية التي وصلنا إليها كسوريين، للاقتناع أن أي شيء يحدث في العالم بأسره من قطبه الشمالي إلى ذلك الجنوبي، يعود بطريقة أو بأخرى إلى الملف السوري، ويستتبع أيضاً أن يكون هناك تغيير في الملف السوري، و تغير وجهة النظر و طريقة التعامل مع السوريين.
و ما إن أعلن رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو استقالته من رئاسة الحزب الحاكم في تركيا، حتى بدأت الأفكار تأخذ السوريين ليبحثوا عن الأسباب و المسببات، و هل للسوريين وجود في ذلك الأمر أم أنهم ستضررون منه، و كيف يمكن عكس القرار على الملف السوري، و ماذا لو قرر المتخاصمون ليكون السوريين الكرة التي يتقاذفونها في صراعهم.
بين لحظات الاستقالة، و ظهور أسبابها و كشف خلفيتها، نعيش في أروقة التحليل المعنّف للذات، و الشاتم للمجرة التي بها نعيش، و كذلك نبدأ بالاصطفاف في على الجبهات المتقابلة، و نطلق شرارة الصراع الذي لا يغني و لا يسمن، و كل ماهناك أنه يرضى عبثية الخلاف، و يشبع رغباتنا بالظهور كفوقيين و قادرين على التحكم بخيوط و اتجاهات اللعبة، في حين أننا عاجزون عن فهم تفكير أصغر متحكم في سوريا، كيف يعمل و ماذا يهدف.
ولا نستغرب أن نترك كل الجبهات المشتعلة، و النيران لم تعرف الهدوء في سوريا، واذا ما قصّرنا النطاق و خصصنا "حلب"، و نجد في استقالة "أوغلو" سبيلاً جيداً للنقاش و زيادة الخلاف، على اعتبار أننا محور الأرض و مركز دورانها، و كل مافيها يدور في فلكنا، في حين أن كل ما حدث في سوريا لم يكلف أحد أن يتجاوز حدود التصريح للوصول إلى ما يشبه الفعل.
"أوغلو" عندما أعلن استقالته من رئاسة حزبه، لم يرمق السوريين نظرة تهديد أو وعيد، و لم يتوعدهم بتغير السياسة اتجاههم، فالمنصب الذي تخلى عنه، حزبي و ليس تنفيذي، و قد وجد فيه البعض أن السبب خلافاً متفاقماً مع الرئيس التركي |رجب طيب أردوغان"، أو لعبة تكتيكية داخل حزب يرغب بمواصلة التواجد في السلطة، والزج بوجوه جديدة، علّله يحظى بالتجديد الخارجي ضماناً لاستمرار الحزب كايدلوجية عامة بعيد عن التعلق بشخص أو شخوص بعينها.
و من المتوقع أن يكون السوريين أكثر المحللين للخبر و مفاعيله و خلفياته، و نتائجه و انعكاساتها على الملفت كافة، سياسية و اقتصادية و اجتماعية، و مدى تأثيرها على الشعب التركي و التطورات التي ستلحق صغار الكسبة و العمال، إضافة لتلك الأمور المتعلقة في السياسية الجمعية المعقدة لتركيا مع العالم الخارجي، فهنا المساحة شاسعة و متشعبة بشكل تحتاج اسبوعاً يزيد أو ينقص من التمحيص وتبادل الآراء المتضاربة و شن الهجومات السريعة، بانتظار حركة مشابهة في بوركينافاسو أو برازيليا، فالعالم كما أسلفنا يدور في فلك المجرة السورية، و لا هم يقض مضجع العالم و لا شعوبه و سياسيه و لا حتى سلطاتهم التنفيذية إلا الملف السوري.
ليتنا نتابع بنفس الرتم و البحث و التمحيص مسببات الخلاف السورية – السورية، و نكتفي في حدود جغرافيتنا المتهالكة.
٤ مايو ٢٠١٦
ماذا ينتظر العالم بعد ليغير طريقة تعامله مع الحرب السورية؟ ما الذي يتوقعه ستافان دو ميستورا بعد من محادثات سلام ذات أهداف فضفاضة وعناوين مطاطة تراوح مكانها بينما آلة القتل تشق طريقها آمنة لترفع حصيلة ضحاياها بتقديرات المبعوث الدولي نفسه إلى ما يقارب 400 الف قتيل؟
صارت السياسة الأميركية لسوريا تكراراً مملاً. لقاءات جون كيري مع سيرغي لافروف باتت مشهداً مألوفاً: تنديد بالعنف واتفاق على انهائه من طريق النظام بمساعدة الروس والإيرانيين، ليحقق مكاسب جديدة بذريعة محاربة الإرهابيين.
بنبرة لا تخلو من الأسف، وصف رئيس الديبلوماسية الروسية الهجوم على مستشفى القدس في حلب بأنه عمل "عديم الضمير" ويجب أن يتوقف. لكنه قال إنه لا يريد قطع أي وعود لا يمكن الوفاء بها. وهو ربما كان يشير ضمناً إلى الخطة البديلة التي كان لوّح بها إذا أخفق وقف النار.
في آذار الماضي، أثار كيري تكهنات كثيرة عندما أشار في شهادة له أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي إلى "نقاشات مهمة" مع ادارة الرئيس باراك أوباما في شأن "الخطة ب" في سوريا. وزاد تلك التكهنات تصريح "مسؤول رفيع المستوى" لشبكة "سي بي أس نيوز" بأن الخيارات المقترحة تشمل إجراءات عسكرية تمنع النظام وحلفاءه من مواصلة الهجوم على المدنيين والمعارضة المدعومة أميركياً.
في حينه، أكدت مصادر في وزارة الدفاع الأميركية أن "الخطة ب" هي فكرة أكثر منها مسار محدد للتحرك، أي أن مسؤولي الأمن القومي في الإدارة الأميركية يعتقدون أنه يجب القيام بتحرك ما في سوريا، وإن كانوا غير متأكدين من الخطوات المحددة.
ثلاثة خيارات طرحت للتداول، هي زيادة القوات الأميركية الخاصة على الأرض وزيادة المساعدات العسكرية لقوات المعارضة التي تقاتل النظام وفرض حظر طيران.
ونشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" قبل أسبوعين أن الخطة الأميركية البديلة تشمل تزويد مقاتلي المعارضة أسلحة أشد فتكاً، بما فيها ربما صواريخ مضادة للطائرات والهليكوبتر، فيما أشارت تقارير أخرى الى أن كيري نفسه يضغط لتزويد المعارضة مزيداً من المساعدت العسكرية لمنحها تفوقاً على قوات النظام والقوات الروسية. ولكن ماذا نفّذ من كل ذلك بعدما انهارت الهدنة وسالت الدماء مجدداً؟ في الواقع لا شيء. أما كيري فاكتفى بالاستنكار والتنديد ، وسارع الى موسكو مجدداً لتتدخل لدى الأسد.
ثمة من يجادل بأن زيادة السلاح للمعارضة السورية لن يؤدي إلاّ إلى مزيد من القتل والدمار، وأن التدخل الأميركي سيجعل الأمور أسوأ ويزيد الحرب تفاقماً. قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن صحيح أيضاً أن ترك السلاح في أيدي فريق واحد يقصف المستشفيات ويستبيح أرواح المدنيين لن يؤدي في أي شكل من الأشكال الى السلام. وصحيح أيضاً أن أي هدنة أخرى لن يكون مصيرها أفضل من سابقتها ما لم يعتمد العالم مقاربة جديدة لهذه الحرب القذرة.
٣ مايو ٢٠١٦
ليس بشّار الأسد أوّل طاغية في التاريخ، وليس تدمير حلب على فظاعته، وهو ما يُستكمَل بهمّة منقطعة النظير، أوّل تدمير لمدينة عظيمة، عربيّة كانت أو غير عربيّة.
وقد يقال إنّ مستبدّاً كصدّام حسين كان، في شخصه وشكله وتماسكه، أقدر على تمثيل الاستبداد وشخصنته قياساً بالخفّة والبعثرة اللتين تنمّ عنهما شخصيّة المستبدّ السوريّ.
مع ذلك فإنّ مزايا الاستبداد البشّاريّ تنبع من زمنها. فمثلما قيل إنّ الزمن الصناعيّ أكسب المحرقة الهتلريّة خصوصيّتها، يصحّ القول في يومنا الراهن إنّ العولمة وانتهاء الحرب الباردة يكسبان البشّاريّة، بوصفها طريقة في القتل المعمّم، خصوصيّتها وتميّزها.
ذاك أنّ الرئيس العراقيّ السابق دفع مرّتين ثمن عدم التكيّف مع مفاعيل الزمن العالميّ بسلمه وانفتاحه وانتعاش حقوق الإنسان فيه: المرّة الأولى، حين غزا الكويت فيما النظام الدوليّ القديم يتداعى وينهار، فأُخرج منها ضعيفاً ذليلاً يباشر احتضاره. أمّا المرّة الثانية، وهي بمعنى ما استكمال متأخّر لإخراجه من الكويت، فكانت إسقاطه في 2003. أمّا الرئيس السوريّ، في المقابل، فنجح في إخراج بلده من مفاعيل الزمن العالميّ، بقدر ما نجح هذا الزمن العالميّ نفسه في إشاحة وجهه عن مأساة السوريّين والتفلّت من مسؤوليّتها. وفي هذا كُتب للنظام الأسديّ، في امتداده من حافظ إلى نجله، عمران: عمر التوافق مع الحرب الباردة والعزلة الاقتصاديّة والتوتاليتاريّات، ثمّ عمر التوافق مع ما بعد سقوط تلك الحرب وقيام الديموقراطيّات الجديدة وانفتاح الأسواق ممّا وُجد من يسمّيه «نهاية التاريخ».
وقد يكون الأقرب إلى بشّار، في هذا المعنى، طوطم كوريا الشماليّة كيم جونغ أون الذي، هو أيضاً، ورث أباه كيم جونغ إيل، الذي ورث بدوره أباه كيم إيل سونغ، أحد أبرز المصادر التي تأثّر بها الأسد الأب. لكنّ الفارق بين بشّار وجونغ أون أنّ الثاني مبدئيّ يقاوم الزمن الجديد وينجح حتّى إشعار آخر في مقاومته، مستنداً إلى التركة الصلبة التي ورثها عن والده وعن جدّه. أمّا بشّار فمارس نوعاً من التكيّف الرخيص ساعده فيه تنظيم «داعش»، حيث ترقى وحشيّته إلى شرط ضروريّ لموضعة بشّار في زمن العالم، بقدر ما ساعدته الميوعة الضاربة أطنابها في هذا العالم نتيجةً لظروف انتقاليّة تكاد تطاول كلّ العلاقات والمعاني، بما فيها السياسيّ منها. هكذا يبدو الرئيس السوريّ حصيلة جمع بين قوّة «داعش» ومكامن الضعف والتردّد في هذا العالم.
فهو، مثلاً، يدمّر حلب، جرياً على النهج القديم وتطويراً له. إلاّ أنّه، في الوقت ذاته، يُرسَم مدافعاً عن الأقلّيّات والتعدّد، بل عن الحضارة والحضاريّ، لا سيّما بعد استعادته السيطرة العسكريّة على تدمر التي تُرك لحجارتها الرومانيّة أن تحجب سجنها الرهيب.
لكنْ مثلما كانت النازيّة ومحرقتها وصمة على جبين الحضارة الصناعيّة وعقلنتها، وصمةً دفعت بعض أكبر العقول في أوروبا إلى الشكّ بالتقدّم التقنيّ ذاته، فإنّ التساهل مع بشّار الأسد يرقى إلى وصمة على جبين عالم العولمة والانفتاح وما بعد الحروب الكونيّة.
وليس مبالغة بالتالي أن يُعدّ الأسد انتكاسة لإنجازات إنسانيّة رائعة من نوع التدخّل الإنسانيّ ضدّاً على مبدأ السيادة القوميّة. بل ليس مبالغة أن يبدو هذا الطوطم السوريّ سبب يأس بتقدّم العالم وبشفافيّة انعكاس هذا التقدّم على إنسانيّته وعلى وحدة الزمن العالميّ.
فسوريّة اليوم، بعنف الأسد وما يستجرّه من عنف مقابل، هي الامتحان الأوّل لعالميّة العالم. وحتّى إشعار آخر، يبدو أنّ الفشل لا يزال يتفوّق على النجاح.
وفي هذه المعاني جميعاً سوف يحتلّ بشّار موقعاً مؤكّداً في تاريخ ينتابه الخجل بأنّه التاريخ.
٢ مايو ٢٠١٦
في شدة من الحزن تأخذنا وأيدينا مكبلة بأشد من السلاسل والحديد، فإذا عقولنا في مخاض عسير بين مجازر وسفك للدماء في حلب الشهباء، وبين تثبت وتأقد في الفكر ونحن نشاهد طبيب الأطفال "محمد معاذ" في ذلك المقطع المصور الذي بثته القناة- 4 البريطانية، نشاهده وهو في أرقى التزامه الطبي في لباسه وتألق مظهره، يمشي في خطى سريعة نحو مهامه الإنسانية التي كان يقضي فيها ليله في قسم الطوارئ في مستشفى القدس، وفي نهاره في مستشفى الأطفال في حلب. ترك عائلته في تركيا، وأصر على البقاء يعالج المرضى والمصابين من وحشية نظام مجرم فاجر دموي.
ويزداد المشهد تمايزا وأنت تراه في لحظات بسيطة وهو يرفع جزءا من سرواله الطبي الأخضر من ناحية قدميه الكريمتين حتى يحافظ على عدم انتقال الجراثيم من أرضية المستشفى إلى ملابسه، وفي الوقت نفسه يرتب نفسه حتى لا يعيقه نزول سرواله إلى قدميه عن سرعة حركته.
وكلما عايشت المشهد من قبل ومن بعد وفاته (ندعو له وإخوانه أن يقبلهم الله عنده في الشهداء والأبرار)، وتأبى "وعجلت إليك رب لترضى" في الآية الكريمة (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى?) - طه 84 - إلا أن ترتسم في الآفاق. هذه الآية تمثل تأدب موسى عليه السلام مع ربه عندما سأله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى؟) - طه 83.. تعجل موسى عليه السلام قومه لموعد ملاقاة ربه، وكله بتقدير من الله عز وجل، فكان رد موسى عليه السلام لربه، أن قومه في أثره قريبون، ولكنه تعجل شوقا إليه - وهو القريب إلى نفسه - ملتزما بما أمره به ليحضر في الميقات المحدد. وهكذا يأخذها أهل العلم أن "وعجلت إليك رب لترضى" تعلمنا المبادرة الحثيثة للعبادة وعمل الخيرات قبل فوات الأوان، وليس التعجل في ذاتية عمل العبادات نفسها.
هكذا - ولا نزكي أحدا على الله سبحانه - استشعرنا مما رأينا ومما شهد له إخوان الطبيب معاذ، وكيف رأيناه كذلك حثيث الخطى ملما بكل جوانب الجاهزية لعمله من لبس ومظهر، في مشهد تكاملي مع كفاءته الطبية المرموقة في طب الأطفال.
ابن حلب الزكية بدماء شهدائها، ذلك الطبيب النطاسي المعطاء هو وإخوانه، مثال ليس لكل من يمارس الطب فقط، بل لمن ينوي دراسة الطب وعلومه أيضا، حتى يدقق في أهليته لما هو مقبل عليه. إنه مثال لمن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفي أشد الأوقات وأحلكها يعطي وقته وجهده، بل يقدم روحه فداء للآخرين.
لقد تعلمنا أن العمل الصالح لوجه الله عبادة، وقد رأيناه - والله أعلم - متمثلا في الطبيب معاذ وإخوانه. لقد كان - رحمه الله - مثالا للإنسانية والتواضع والمودة والرحمة. كان يدفع بنفسه أسرة المرضى وينزل بهم لأقبية المشفى الذي يعمل فيه اجتهادا منه ومن إخوته ليبعدوا حاضنات الأطفال الرضع عن القصف الروسي الوحشي وآلة النظام الوحشية الدموية.
وقد وصفت ميريلا حديب، الطبيب معاذ، وهي المتحدثة باسم "مكتب منظمة أطباء بلا حدود في بيروت" الذي يقدم دعما ماليا لمستشفى القدس الذي يعمل فيه، قائلة: "إن الطبيب معاذ كان مندفعا جدا، واختار المجازفة بحياته لمساعدة سكان حلب، رافضا مغادرة مدينة حلب".
هنا تكون الإنسانية والمهنية والإيثار على المحك، بل إن الأسمى والأعز والأكرم هي البراءة لله ورسوله، كيف لا؟ وآية البراءة في سورة “براءة” أو “التوبة” تؤسس لعقيدة الولاء والبراء (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) - التوبة 24.
الطبيب معاذ وإخوانه - الذين لحقوه والذين لم يلحقوا به بعد- يستبشرون بنعمة من الله وفضل، قد رأوا بأم أعينهم إزهاق الأرواح بأعتى آلات نظام يحكم بالوحشية الدموية على مرأى ومسمع من العالم بجميع أطيافه، وقد أيقن معاذ وإخوانه أنه لا مناط لتحريرهم من الظلم والفساد وازدواجية المعايير الدولية إلا بتركهم كل تجارة يحبونها ومساكن يرضونها وكل زينة الحياة الدنيا لله وحده سبحانه، وقد أدركوا كذلك أنه عندما تخص الإنسانية بلادهم، فإنك ترى كلا يلهث وراء مصلحته، ولكن وفق مصلحة عليا تقود لتفتيت المفتت وتجزئة المجزأ من أنقاض "سايكس بيكو"، فتعزز الصهيونية بجميع أشكالها، وتغرس الطائفية المقيتة بين أبناء الشعوب الواحدة في المصير المشترك.
أهلنا في حلب - كما في كل سوريا - يربطنا بهم رابط لا انفصام له، ماذا فعلنا لها؟ ولا بد لكل منا أن يسأل نفسه: هل تغير المشهد كثيرا بين ما حدث في حلب ويحدث في سوريا، وبين ما حدث في فلسطين وما فعلته عصابات الهاغاناه التي تأسست في عام 1921 في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين، والتي كان من رموزها المجرمون الإرهابيون الهالكون في الدنيا والآخرة، إسحاق رابين وآرئيل شارون ورحبعام زئيفي؟
اليوم نتذكر دير ياسين - لا حصرا - ونتذكر 360 ضحية (نحتسبهم عند الله) على أيدي عصابتي آرغون وشتيرن اللتين انبثقتا - وليس انشقتا كما يؤرخون لذلك - عن العصابة الإرهابية المجرمة الهاغاناه. ما الفرق بين هؤلاء وبشار، ومن في جوقتهم، والدب وأعوانهم في الشرق والغرب، والصفوية الحاقدة التي تطلق دعوات في قنواتها الفضائيه لتجنيد الأطفال للدفاع عما يسمونه “أضرحة مقدسة” في سوريا والعراق؟
الطبيب معاذ - رحمه الله - وإخوانه ليس كل منهم مثالا في مهنته للطبيب فقط، بل وللممرض والصيدلي وفني الأشعة والتخدير.. أيضا.
الطبيب معاذ - رحمه الله - وإخوانه أمثلة يحتذى بها في كل مهنة .. رحم الله الطبيب محمد معاذ وإخوانه، وأجزل الله في العطاء لوالديه ومن قاموا على تربيتهم في مدارسهم منذ نعومة أظفارهم، ونسأل الله عز وجل أن يعوض أهليهم وذويهم خيرا في الدنيا والآخرة.. اللهم آمين.
بالطبع الطبيب محمد معاذ وإخوانه لم تتكون شخصياتهم وتربيتهم فجأة، بل إنك ترى - مثلا في الطبيب معاذ - سنوات تلك التربية واضحة في معالم وجهه، في تواضعه، في مودته وفي رحمته بمرضاه، في التزامه وتضحيته في ليله ونهاره.
ندعو الله عز وجل أن يكون أطباؤنا وكل أصحاب المهن ممن يحذون حذو الطبيب محمد معاذ؛ فيربون أجيال الغد التي تقود شعوبها إلى الحرية بكل تفان، لترفع الظلم والبغي والفساد من الأرض.
اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، في كل من ظلمنا وأزهق أرواح أهلنا وهتك أعراضنا وفتت وحدة أمتنا.. اللهم آمين.
٢ مايو ٢٠١٦
لخص مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي الأسبق كل ما يحدث بجملة واحدة تكاد تكون شاملة، و معبرة عن الحال الذي وصله الأمة العربية و الإسلامية، بقوله :" سنرد عليهم بخطاب يدمر آلياتهم ووعيد وشجب يسقط طائراتهم .".
طغى اللون الأحمر الافتراضي على ساحات مواقع التواصل الاجتماعي، و اكتست الوجوه باللون الأحمر، و كذلك وُجدت رقعة أو ساحة هنا و هناك قد صبغت نفسها باللون الأحمر، كل هذا الكم الهائل من الحمّار، لم يتجاوز حدود الافتراض، فجاء باهتاً مقززاً أما صلافة الدم الذي اكتسح حلب، كمثال حي و آني، عن مجمل سوريا.
لاشك أن الضغط الإعلامي و التحشيد الشعبي نحو أمر ما يعطي نتائج، من حيث سوق الرأي العام نحو هذه القضية، و منحها حق الانتباه، وبالتالي تسّهل على متخذي القرارات الهامة، أن يسيروا واضحين واثقي الخطى صوب حلها.
لكن في الحال السورية، وصل الأمر إلى أن تتحول قضيتنا إلى بوسترات، وصبغة ألوان تغرق الفضاءات الالكترونية، وبعض الأماكن التي لم و لن تعرف معنى هذه الفعالية أو تلك، و بات المتنفس الأفضل لتفريغ الكمية الهائلة من الحنق و الغضب، عبر حملات متواترة تتغير بحسب الحدث، من حصار مميت إلى قصف مبيد، أو قتالٍ بلا سنيد.
و لم نعد نعلق على الفعل، أو ننتظر رد فعل من أي أحد مهما كان قريب مننا أو مناصر لقضيتنا، و في الحقيقة أن هذا الحد من التفكير، يمثل أكثر من الوصول إلى قمة العجز، فهو لا يتجاوز حدود الثغاء من حمل يتابع قطيعة و هو يذبح.
في حلب مع كل قطرة دم أُهدرت، و كل صرخة صدرت من مكلوم أو مجروح، كان هناك بقايا قطع اللحم الذي تغطي هياكل الآفكين، الذين بنوا على جثامين شهدائنا مصالحهم و خططهم، وجودوا فيها ملاذاً جيداً لإخفاء هفواتهم، و أخطائهم.
مع سقوط حلب صريعة الموت، نشاهد دول وشعوب تتساقط في قاع بات جداً مزدحم من كثرة الساقطين.
لا استثناء لأحد، عشرة أيام من الموت لم تحرك أحد اللهم ببعض الكلمات العابرة، و الدعوات الخجولة لقمم و مؤتمرات و مناقشات، لن تحصل و إن حصلت لن تغني مستصرخه من حرائرنا، مع حلب سقط الجميع بمن فيهم نحن المكتفين بالبكاء و العويل.
١ مايو ٢٠١٦
حلب لا تحترق وإنما هي تحرق، هذا ما يجري حقا، وهذه هي وظيفة القصف بالصواريخ الفراغية والبراميل المتفجرة، من قبل طيران النظام السوري والطيران الروسي، والهدف هو تشريد أهالي حلب، وتفريغ المدينة من سكانها، كما جرى ويجري في مناطق أخرى في حمص والزبداني، لأغراض تتعلق بعمليات التغيير الديمغرافي لهذا البلد، لأغراض طائفية، ولتثبيت نظام بشار الأسد، كي تتطابق مع الشعار المشين: “سوريا الأسد إلى الأبد”.
ما ينبغي الانتباه إليـه، أيضـا، أن القصف الجاري يستهدف تحديدا الأحياء الشعبية كثيفة السكان، مثل أحياء الكلاسة وبستان القصر والسكري والنيرب، بمعنى أنه لا يستهدف، البتّة، مناطق سيطرة تنظيم “داعش”، في ريف حلب الشمالي والشرقي وإلى حدود تركيا، ما ينقض كل الادعاءات حول هذا الموضوع، والتي تتوخّى التغطية على الجريمة الجارية، أو تبريرها.
علما أن “داعش”، في هذه الأثناء، تحاول التوسّع في ريف حلب الشمالي، بمعنى أن جماعات “الجيش الحر” والمدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تجد نفسها في هذه الظروف في مواجهة حربين، في آن واحد، أي حرب النظام (وروسيا) وحرب “داعش”.
إضافة إلى ذلك مازالت “داعش” هذه تتحرك بسهولة بين باديتي العراق والشام دون أن يستهدفها أحد، لا بقصف جوي ولا بمواجهة برية، وما جرى في الرقة وتدمر كان بمثابة تسليم واستلام تقريبا مع بعض حركات مسرحية، للتغطية، تماما مثلما حصل في صيف (2014) حين استولت “داعش” على الموصل، واستولت معها على أسلحة أربع فرق، تركها الجيش العراقي (جيش نوري المالكي)، ومعها مئات ملايين الدولارات في خزانة المصرف المركزي في المدينة، الأمر الذي مكّن “داعش” وأسهم في تغولها منذ تلك الفترة.
ليس القصد من كل هذا الكلام محاولة الإيحاء بأن “داعش” هي وليدة النظام، أو تابعة له، وإنما القصد من ذلك القول أن النظام (ومن ورائه إيران) يشتغل على التسهيل لهذا التنظيم الإرهابي بغرض تشويه الثـورة السوريـة أمام العالم، والإظهار للدول الكبرى أن القصة لا تتعلق بثورة ضد نظـام الاستبداد، وإنما بنظام يواجه الإرهاب، فيما هو بواسطة طائراته ودبـاباته شرّد المـلايين ودمـر عمران سوريا.
ما ينبغي قوله هنا هو أن الحديث عن سوريا، ومن ضمنه الحديث عما يجري في حلب، بتعبيرات محايدة، أو بنسب الحرق والتدمير والقتل للمبني للمجهول، كما يفعل البعض عن نية حسنة أو سيئة، إنما يخدم النظام، ويسهم في التغطية على الجريمة، مرة بالتنكر للضحايا ومرة ثانية بإنكار الجريمة ومرة ثالثة بتجاهل القاتل، وهو موقف ينم عن مخاتلة وتلاعب، تماما مثلما يحصل في محاولة المساواة بين ما يقوم به النظام وما تقوم به بعض الجماعات المسلحة، هنا وهناك في إطار الصراع السوري.
وقد يجدر التأكيد هنا أن النظام الذي حكم، وتحكّم بسوريا وبالسوريين، طوال نصف قرن تقريبا، عن طريق سيطرته على المدارس والجامعات ووسائل الإعلام وقطاعات الاقتصاد، ومنعه الحياة الحزبية والسياسية، هو الذي يتحمل المسؤولية الأساسية عن كل ما يجري. وضمن ذلك يتحمل مسؤولية اندلاع الثورة السورية، بسدّه أبواب التغيير السلمي والديمقراطي، وهو المسؤول عن التحول نحو الصراع المسلح، بانتهاجه الحل الأمني وبفتحه البلد على مصراعيه لقوات إيران، وميليشياتها الطائفية العراقية واللبنانية، كما للطيران والقصف الروسيين. وهو أيضا المسؤول عن صعود جبهة النصرة وداعش في المشهد السوري، لأنه في العام الأول للثورة السورية استخدم كل قواته في مواجهة السوريين المتمردين على سلطته، ولأنه هو الذي سهل لهذه التنظيمات، في البداية، لإضعاف الثورة وتشويه صورتها، ولإظهار الأمر كأنه حرب ضد الإرهاب. وأساسا فإن هذا النظام هو المسؤول عن ذلك بسيطرته على موارد البلد، وهيمنته على السوريين، وبتحويله الجمهورية إلى ملكية وراثية، وإلى مزرعة خاصة بعائلة الأسد.
سلامة أهلنا في سوريا وسلامة أهلنا في حلب، سوريا لكل السوريين.