“ليس في السياسة صديق دائم ولا عدو دائم”، مقولة من الثوابت لا يشذ عنها “القيصر الجديد” فلاديمير بوتين، وكذلك “السلطان – الرئيس” رجب طيب أردوغان الذي أقر، ولو متأخرا، بغلبة الواقعية السياسية على الأيديولوجيات. وهكذا فإن تسريع استئناف العلاقات بين تركيا وإسرائيل، والتطبيع التركي مع روسيا، يثيران تساؤلات مشروعة حول دوافع الانقلاب الأردوغاني ومكاسب أنقرة وإسرائيل وإنجازات روسيا في خلط الأوراق والتحالفات الإقليمية. ومما لا شك فيه أن الترتيبات الإقليمية الجديدة ستنعكس على المسألة السورية والطموحات الكردية والمصالح الاقتصادية للأطراف المعنية.
للوهلة الأولى، يظهر أن الرئيس التركي أخذ يخشى خطر العزلة وأن تكون بلاده مستبعدة من الحلول التي سترتسم في المرحلة القادمة أو لإعادة تركيب الإقليم. أردوغان المسكون بالتاريخ سعى للتحكم بقطار “الربيع العربي” بعد حذر في بداياته، وكان يريد بعث “العثمانية الجديدة” ولعب الدور القيادي في المنطقة من خلال “منظومة الإسلام السياسي” التي برزت في 2011 – 2013، لكن التطورات في مصر وسوريا وبروز داعش والرهان الأميركي على الأكراد، ووصول الفوضى التدميرية إلى تركيا، دفعت بالسياسي العنيد الحماسي أن يعود إلى أرض الواقع بعدما حلق عاليا مع سحر الكلمات والرهانات الخائبة، إذ اتضح له أن الانتقال من طموح تركيا الأوروبي إلى مسعى ممارسة الزعامة الإقليمية وتقاسم النفوذ في العالم العربي “الرجل المريض” (لقب السلطنة العثمانية منذ قرن من الزمن) لهذه الحقبة ليس مضمونا. وكان الأدهى عدم وقوف حلف شمال الأطلسي إلى جانب أنقرة بعد حادث الطائرة الروسية، وخيبة الأمل التركية من الموقف الأميركي المتباين، والذي لا يعنيه في المقام الأول الحفاظ على مصالح تركيا أو بالأحرى زعامتها الإقليمية.
إزاء تغيير موازين القوى في النزاع السوري وتهافت الكبار على لعب الورقة الكردية ضد داعش، ومع تبلور التقاطعات الروسية مع إسرائيل وإيران تحت عين واشنطن، أدرك أردوغان أنه لا بد له من لعب كل أوراقه خاصة وأن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين والصلة مع ألمانيا لا تعيدانه إلى المربع الإقليمي الأول بسبب أخطاء التقدير والنهج التي ارتكبها إن في المسألة السورية (عدم دعم الجيش الحر في اللحظة المناسبة) أو في تحويل وجهة الربيع العربي كي يصبح إسلامي الطابع، أو بالنسبة إلى العلاقات مع إيران، والأهم كان في عدم استيعاب أهمية العنصر الكردي في المعادلة الإقليمية. وإضافة إلى كل ذلك ساد عدم الثقة مع واشنطن ووصل الرئيس التركي إلى الحائط المسدود. بالرغم من أن البعض يريد أن ينسب إخفاقات السنوات الأخيرة والتشدد إلى أحمد داود أوغلو رئيس الحكومة السابق، فإن في ذلك مجافاة للحقيقة في ظل هيمنة أردوغان الذي يبدو أنه قرر الاستغناء عن رفيق دربه وتحقيق هدف داخلي لأنه لا يتحمل وجود شخصية قوية تلجم سعيه لتركيز نظام رئاسي. وفي نفس الوقت تم تقديم داود أوغلو صاحب نظرية “صفر مشكلات” مع الإقليم بمثابة القربان أو الضحية كي يبرر الرئيس التركي تراجعاته أو يمهد لنهج تكتيكي جديد بدأه عبر البوابة الإسرائيلية.
منذ خمسينات القرن الماضي تعاونت إسرائيل وتركيا، وهما قوتان إقليميتان غير عربيتين في الشرق الأوسط، وتصرفتا كأنهما في حلف طبيعي،غير أن سياسة أردوغان في الانخراط مع العالم العربي وإيران، وموقفه من اجتياح غزة في العام 2009 وحادث سفينة مرمرة في مايو 2010، أدت إلى قطع العلاقات بين شريكين استراتيجيين سابقا في الإقليم. لكن في موازاة حصاد سلبي في المجمل لتركيا منذ 2011، تحسنت علاقات إسرائيل مع مصر واليونان وقبرص وهي دول في شرق البحر الأبيض المتوسط وكلها متخاصمة مع تركيا.
إن هذا الواقع، بالإضافة إلى التوتر مع روسيا والحذر من الغرب والخوف من العزلة، حفز الرئيس التركي على تقديم التنازلات اللازمة والتوقيع على الاتفاق. استغرقت المفاوضات وقتا طويلا لأن أردوغان كان يطالب باعتذار إسرائيل والتعويضات وفك حصار غزة، وقد نال فقط المطلبين الأوليْن واهتزت صورته بشدة لأنه أراد تقديم نفسه للعالم الإسلامي باعتباره المدافع القوي عن الشعب الفلسطيني، والمنافس لإيران في لعب دور البطل بالوكالة عن العالم العربي.
كل هذا لا يعني أن كل الملفات الخلافية أغلقت بين إسرائيل وتركيا إذ لا يزال هناك حذر في إسرائيل بسبب علاقات حزب العدالة والتنمية مع حركة حماس، وإزاء التعاون الأمني الكبير بين أنقرة وطهران في مناسبات عديدة، ولذلك ستتطلب عودة التعاون الأمني والعسكري مرحلة اختبار بين الجانبين. بيد أن أهم الخلاصات الاستراتيجية لهذا التحول تتمثل في التفاهم على احترام مصالح الطرفين في الساحة السورية، والتوافق على إيصال أنابيب الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى تركيا.
إنها الحاجة المتبادلة بين الدولتين على ضفاف المتوسط، التي فرضت النقلة الجديدة وتليين جموح نتنياهو وأردوغان لأن الأيديولوجيا السياسية تسقط أو تتوقف أمام مصالح الدول ومستقبلها، وهذا درس يتوجب على اللاعبين العرب تأمله مليا للحفاظ على مصالحهم وإنهاء زمن الانكشاف الاستراتيجي العربي.
في استكمال التحولات، قام السلطان وطرق على باب القيصر وهنا أيضا كانت الحاجة متبادلة بالرغم من شدة لهجة الخطاب السياسي بين أنقرة وموسكو في الأشهر الأخيرة. وهنا شرب أردوغان “كأس السم” واعتذر عن حادث إسقاط الطائرة، ويبدو أن خصم الأمس نتنياهو هو الذي سهل إخراج اللحظة الأخيرة من التطبيع التركي – الروسي كي تتكامل لعبة المصالح بين أطراف تشعر بقوة تأثيرها في غياب سطوة القوة الأميركية المتراجعة في الإقليم. ربما ترتسم أمامنا صورة متكاملة تبين مكانة الموقع التركي، إذ أن خط الغاز الإسرائيلي التركي إلى أوروبا، يوازيه خط روسي تركي ومرور للطاقة الإيرانية عبر تركيا، وهكذا فإن إيران وإسرائيل وروسيا بحاجة للممر التركي، وبالتالي يتضح أن الجغرافيّتَيْن السياسية والاقتصادية تفرضان وقائع لا بد من أخذها بعين الاعتبار، ولذا ستبذل أنقرة ما بوسعها لإعادة العلاقات مع دول البحر المتوسط والبحر الأسود.
بالنسبة إلى الانتعاش مع موسكو، هناك مصلحة سياسية اقتصادية وأمنية لكلا الطرفين؛ إذ أن بوتين الذي يخوض مبارزة مقننة مع حلف شمال الأطلسي، يرى في هذا التحول التركي فرصة للغمز من قناة واشنطن. واقتصاديا عانى البلدان من القطيعة إذ كانت روسيا في 2011 أول شريك تجاري لتركيا وبلغ حجم المبادلات بينهما 30 مليار دولار. وعلاوة على ذلك، تحتاج أنقرة إلى موقف روسي معتدل من المسألة الكردية، وفي المقابل تحتاج موسكو إلى التعاون الأمني مع تركيا بخصوص الحركات الجهادية في الجمهوريات الإسلامية في الجوار الروسي، خاصة أن آخر الأخبار تشير إلى نجاح تنظيم داعش في المزيد من تجنيد المقاتلين في آسيا الوسطى والقوقاز وجوار روسيا.
ستنعكس النقلات النوعية لأنقرة على المشهد الإقليمي وفيها تهميش للاعبين العرب، ووضع إسرائيل في قلب اللعبة الشرق أوسطية، واحتكاك غير مباشر مع المصالح الإيرانية وحماية في المقام الأول لطموحات أردوغان ومصالح أنقرة. وبالطبع، لن تكون هناك مصالحة بين أردوغان وبشار الأسد فهي ليست على جدول أعمال صناع القرار، بل في حال تعذر تركيب الحل الروسي ربما يبدأ تقاسم النفوذ بين مناطق مكونة عمليا في سوريا، وهنا يكمن كل جهد أردوغان في السعي لتحطيم الحلم الكردي.
من المبكر إعطاء أجوبة حاسمة لأن مخاض ولادة المشهد الإقليمي الجديد ستنتظر الرئيسة القادمة أو الرئيس القادم إلى البيت الأبيض، وكذلك نتائج الصراع المفتوح على أكثر من جبهة. في المختصر، لملم أردوغان أوراقه للبقاء لاعبا مؤثرا، ونجحت إسرائيل في تسجيل اختراق، وجرى التسليم لبوتين في موقعه الجديد في المشرق، واستمر الكسوف الأوروبي. ويتضح أن إنهاك القوى العربية الفاعلة بالصراعات من العراق إلى اليمن وليبيا سيحرمها، إن لم تبلور حلف الضرورة بينها، من الجلوس على طاولة التفاوض وإعادة التركيب الإقليمية في مرحلة لاحقة.
يشكل اطلاق جبهة النصرة اليوم دعوتها إلى محاربة من وصفتهم بـ"المشاريع المشبوهة" ، في اشرة إلى فصائل الجيش الحر الذين سبق و أن أنهت وجودها، معتبرة أن هذه المهمة شبيهة تماماً بمحاربة "مشروع الخوارج" في إشارة إلى داعش، في خطوة تبدو في غاية الخطورة و تشكل تهديداً لكافة فصائل الجيش الحر التي توجد على قائمة الازالة التي نفذت منها جبهة النصرة حتى اليوم ١٤ فصيلاً.
بيان جبهة النصرة الذي جاء ظاهرياً رداً على دعوة تشكيل محكمة للفصل في اعتداء النصرة على جيش التحرير و اعتقال قائده، حمل في طياته أمور توضح الخطة التي تعمل النصرة على تطبيقها و التي يبدو لن تستثني أحداً، و أنها تتم تحت بند "حماية الجهاد الشامي" ، الأمر الذي يمنحها صلاحيات كبيرة دون أي مراجعة من أي جهة ، و كما قال البيان "دون أن يثنيه ما سيقال عنه طالما كان الحق حاديه"، وطبعا لكل من يقف معها في الحق الذي تراه النصرة وحدها بشرعييها و قضاتها و أمرائها.
لم توفق جبهة النصرة ، كما هي العادة ، في بيانها اليوم الذي جاء بأسلوب استعلائي و وصائي على الجميع ،حيث تسرد جهودها في توحيد القضاء ، و القصد القضاء التابع لها و وجوب خضوع الجميع له، كما هو الحال في المناطق التي تتواجد بها ، وهو مشهد سبق و أن شاهدناه عند داعش قبيل إعلانها الحرب على الجميع تحت مبدأ "أنا على حق و الجميع عبارة عن باطل يجب أن يزهق".
تجارب جبهة النصرة الـ١٣ و التي اشتهر منها جيش ثوار سوريا و حركة حزم و مؤخراً الفرقة ١٣ و أخيراً جيش التحرير ، لم تفضي إلى أي شيء مفيد للثورة ، بل على العكس تماماً فانهيار تشكيلات بأكملها ، و تبعثر عناصرها بين داعش و الفصائل الكردية الانفصالية ، إضافة لهروب الآلاف من سوريا ليس خوفاً من القتال دفاعاً عن الأرض ، و لكن خوفاً من القمع و الانهاء و الاقصاء.
لايمكن تبرير انضمام الكثير من عناصر الفصائل المنحلة إلى داعش و الفصائل الكردية ، و لكن في الوقت ذاته لايمكن قبول فرض مشروع عليهم و وصاية تحمل طابع "ديني" متحجر رافض لكل شيء أو فكر، و حتى رافض لأي نقاش أو حوار ، و أعيد تكرار المبدأ المسيطر "أنا على حق و الجميع عبارة عن باطل يجب أن يزهق".
نظرة الاستعلاء و رفض الاعتراف بالخطأ و الأهم عدم قبول أي محكمة أو محاكمة لها ، أمر في غاية السوء و المفضي إلى افراغ القاعدة الشعبية من جهة ، كذلك الشريك في المعارك ، فالغريب هو قتال النصرة إلى جانب الفصائل التي تتهما بأنها تنفذ "مشاريع مشبوهة"، و في الوقت ذاته تخطط لإنهائها، والأكثر غرابة هو تنصيب النصرة لنفسها كحكم و في حين أنها خصم ، و أعود لسؤال طرحته منذ أيام : من يردع النصرة إذا بغت !؟
في ظل انتشار الإعلام غير المحدود، وعبر سنوات الثورة السورية، كُتبت عشرات الآلاف من المقالات والتحليلات التي تعبر عن موقفها المتوافق أو المعادي للثورة، وهذه مسألة طبيعية، ما دام هناك طرفان معاديان يتصارعان، فلا بد أن تقف الأقلام إلى جانب هذا أو ذاك، لكن القارئ يتوقف أحياناً أمام بعض ما يُكتب، فيحرضه على التساؤل والتفكير بالرد المناسب..
وهذا ما حدث معي حينما قرأت مقالة بعنوان " مصير داعش يحسم في سوريا… وكذلك مخططات شركائه " للدكتور عصام نعمان الوزير اللبناني السابق، والقانوني البارز، وحالياً والرئيس الحالي للمجلس المركزي للحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي "..
المقالة قرأتها في شبكة شام الإخبارية، وهي منقولة عن جريدة القدس العربي.. وأقول الحق إنني تفاجأت وتساءلت، كيف أن الشبكة، وهي المشهود لها بمواقفها الثابتة ضد النظام السوري، والمؤيدة للثورة السورية، بل تُعد جزءاً من الثورة في المجال الإعلامي.. كيف قامت بنشر المقالة، مع أنها تحمل بشكل موارب فكراً معادياً للثورة السورية، ومتعاطفاً مع نظام الأسد والمحور الذي يقف إلى جانبه ويساهم معه بقتل الشعب السوري من روسيا إلى إيران وحزب الله والميليشيات الأفغانية والعراقية المذهبية.. لكنني التمست العذر للشبكة، ففي زحمة المتابعة والعمل المتواصل، لابد من الوقوع أحياناً في مطب السهو والتقييم غير السليم.. وهذا ما يحدث مع مئات الجهات الإعلامية..
على كل حال، بعد تجاوز هذه المسألة، والالتفات إلى مقالة د. عصام نعمان، فقد ظهر لي أولاً أن المقالة ضعيفة في صياغتها الحِرفية، وتعتمد في إصدار الأحكام على مواقف مسبقة، مع أن كاتبها يُعد من الشخصيات السياسية والحقوقيين البارزين.. والملفت هو أن المقالة نشرت في العديد من الصحف والمواقع، وربما يعود السبب يعود في جزء منه إلى أن د. عصام نعمان شخصية لبنانية معروفة، وحقوقي على مستوى عربي وعالمي..
ولكن الملفت أيضاً أن أغلب الجهات الإعلامية التي نشرت المقالة تنهج منهج الأحزاب القومية واليسارية والمذهبية التي وقفت موقف المعادي من ثورة الشعب السوري، ومنها جريدة البناء اللبنانية التي لا تختلف في توجهاتها الحاقدة على الثورة السورية عن قناة الميادين أو أية جهة إعلامية رسمية تابعة للنظام..
والمعلوم أن ناصر قنديل يكتب مقالاً أسبوعياً في هذه الجريدة " البناء "، وأظنه يرأس تحريرها.. والكل يعلم من هو ناصر قنديل، فهو عبارة عن بوق عالي النبرة يستخدمه النظام السوري في كل مناسبة وكل حين، وقد كتب قنديل مقالاً في الجريدة المذكورة منذ نجو أسبوع، عنوانه " العثمانية والاتحاد الأوروبي جناحان مكسوران للإمبراطورية الأميركية "، وهي مقالة تتقاطع في بعض مضمونها مع مضمون مقالة نعمان.. من هنا يمكن القول: إن مقالة نعمان ليست بريئة على الإطلاق من وجهة نظر الشعب السوري المنكوب..
يبدأ الكاتب مقالته بصياغة فقرة تذكرنا بأسلوب الأساطير أو الكتب الوضعية المقدسة عند بعض الشعوب، حيث يقول: لفظ فلاديمير بوتين حكمه على «داعش»: حسم مصيره في سوريا ميدانياً. حيثيات الحكم الضمنية وفيرة: كَبُر «داعش» وتجبّر وأصبحت له ذراع طويلة تطاول كبرى العواصم والمرافق في شتى أنحاء العالم " .
ثم يقرر الكاتب " أن التعاون قائم ومتفاقم بين داعش والولايات المتحدة وتركيا.. هؤلاء باتوا شركاء في توليف وتنفيذ مخططات وعمليات في عمق سوريا والعراق.. " .. أما أدلته وبراهينه على التعاون المزعوم فهي تحوّل " الحدود التركية – السورية على مدى نحو 900 كيلومتر مدخلاً لإمرار الرجال والسلاح والعتاد لتنظيمات شتى.. "
وهذه التنظيمات الإرهابية المدعومة من تركيا، كما يقرر الكاتب، جاءت " لتقاتل جيشيّ سوريا والعراق.!!. ويتوقع أو يتنبأ.!! بأنه سيَحدثُ انخراطٌ روسي متزايد في معمعة الحرب في سوريا وعليها، سياسياً وعسكرياً، وتعاونٌ أوسع على هذين الصعيدين مع سائر أطراف محور المقاومة "..
وهنا يتبين أن الكاتب ينتمي بشكل شبه صريح إلى " محور المقاومة والممانعة " الذي يتشكل من إيران وحزب الله والنظام السوري، ومن معهم من الأحزاب اليسارية والقومية، كالحزب الشيوعي والقومي السوري، والذين انخرطوا بشكل فاضح إلى جانب الحرب ضد الشعب السوري وثورته.. من هنا لا نستغرب أن نشاط د. عصام نعمان الذي يرأس المجلس المركزي لـلحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي، يتجسد في الداخل اللبناني على التلاقي والتحاور مع الحزب الشيوعي والحزب الناصري بقيادة اسامة سعد وغيرهم، ممن يقفون علناً مع للنظام السوري، ويرفعون راية المقاومة والممانعة، هذه الراية التي استُهلت حتى تمزقت وتمزقت، ولم تعد تقنع أحداً سوى حامليها..
أما قناعة الكاتب بأن الولايات المتحدة تقف ضد نظام الأسد فهي عنده قناعة راسخة ومؤكدة، مع أن القاصي والداني يعرف جيداً أن إدارة أوباما وقفت من ثورة الشعب السوري موقفاً خبيثاً، فهي لفظياً تدعي الوقوف إلى جانب المعارضة، أما عملياً وعلى أرض الواقع، فهي التي أطالت عمر النظام وشجعته على تدمير سورية وقتلِ مئات الآلاف وتشريد الملايين، وهي الآن أشد وضوحاً في وقوفها إلى جانب الأسد وتريد أو تسعى مع روسيا وغيرها لكي يبقى على العرش السوري إلى الأبد، إن لم نقل إنها تعمل على تمزيق سورية إلى كانتونات هزيلة، تتصارع فيما بينها..
وللتأكيد على وقوف أميركا ضد الأسد يأتي الكاتب بحجة لا تغني ولا تسمن من جوع، فهو يرى أو تبين له " ان السبب الرئيس، وليس الوحيد، لوقوف ادارة اوباما موقفاً معادياً لحكومة الاسد هو رغبتها في تعويض اسرائيل خسائرها جرّاء اتفاقها النووي مع ايران ومخاطره على أمنها القومي " أما تعويض إسرائيل الذي يراه نعمان فـ " يكون في محاولة إضعاف حلفاء ايران، سوريا وحزب الله اللبناني، بطريق إدامة الحرب في بلاد الشام لاستنزاف مكوّناتها الوطنية والاقتصادية والعسكرية.. "..
ومع احترامنا للدكتور عصام نعمان، فإن هذا البرهان على إثبات عداء أميركا للأسد، لا يقنع أحداً، لا سيما وإن الكاتب نفسه يتمنى متسائلاً في نهاية مقاله بعد أن يتحدث عن الشراكة العسكرية الجديدة بين أمريكا وروسيا، " هل يتشارك القطبان الدوليان لحسم مصير «داعش» في سوريا؟ "..
لا شك أن هناك العديد من الملاحظات على مقالة نعمان التي تستدعي التوقف عنها، ولكن حسبنا إشارات مختصرة التالية:
يتبين للمطلع على المقالة أن الصراع في سوريا هو بين محورين اثنين: محور المقاومة والممانعة ضد العدو الصهيوني..!!.. ومعهم روسيا، والمحور الثاني يتكون من الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج وداعش.. نعم داعش..!!.. أوليس نعمان هو القائل: إن التعاون قائم ومتفاقم بين «داعش» والولايات المتحدة وتركيا.." أوليس هو الذي يقول عن داعش " له شركاء دوليون وإقليميون أقوياء وأثرياء يزودونه المال والسلاح والدعم السياسيين " ويقصد بذلك أيضاً بعض الدول العربية ومنها دول الخليج
الملاحظة الثانية، أن الكاتب لم يشر لا من قريب أو بعيد إلى دخول ميليشيا حزب الله وقوات إيرانية من الحرس الثوري، مع ميليشيات أفغانية وعراقية، لأن هذه الميليشيات في رأيه هي من قوى محور المقاومة..
والملاحظة الثالثة: في نظر الكاتب، لا وجود للشعب السوري ولا المعارضة ولا يوجد قصف بالأسلحة الفتاكة، ولا قتل وتدمير وتشريد.. فقط في سورية يوجد محور الشر المتمثل في داعش وجبهة النصرة والفصائل المتعاونة معها، ومحور الخير المتمثل في قوى المقاومة والممانعة، والذي يضم نظام الأسد وإيران وحزب الله وأحمد جبريل و " قيادته العامة " ولواء القدس الفلسطيني الذي يقاتل في حلب إلى جانب النظام.. هذا المحور يهدف لمحاربة إسرائيل وتحرير فلسطين ولكن لكي يتحقق النصر المبين، لابد أن يمر هذا المحور عبر القصير والزبداني وحلب وغيرها من المدن السورية المدمرة.!!!..،
والملاحظة الرابعة: يؤكد الكاتب، اعتماداً على ثقته العمياء بقوة روسيا وقوى محور المقاومة، أن مصير داعش سيحسم في سورية، ونحن نتمنى ونعتقد أن مصير داعش ونظام الأسد وروسيا وغيران وحزب اللهن سيحسم في سورية، ولكن بإرادة الشعب السوري وصبره وتصميمه على النصر..
لا قبح يضاهي قبح "الانسانية" التي يدعيها العالم ككل و ذلك المتحضر و كذلك الذي يضع نفسه في مرتبة المثقف، فهنا للإنسانية كل الأسماء المشينة و ليس لها من حروفها أي معنى إلا "المذمة" و "الاهانة"، فالمشهد ذاته يتغير و يتلون تبعاً للمصالح و البرستيج لا تبعاً للحالة و الحاجة.
أثار قبل زمن صورة لرجل سوري حاملاً لطفلته النائمة على كتفه وهو يبيع الأقلام باحثاً عن ما يسد به رمق عائلته، أثارت موجة من التعاطف العابر للقارات و تم التجييش و التجميع للأموال ، في مشهد انساني مهيب و مجلل أعطى ثمراته من خلال انتقال الرجل من باحث عن لقمة عيش تسد رمق الحياة إلى مانح لها، في وقت تناطحت الرؤوس بحثاً عن ظهور في لوحة الإنجاز وكمشاركين في صورة التخليد، في وقت لم تجد هذه الرؤوس مكاناً لها إلا تحت التراب أمام مشاهد أخرى من القسوة ما تجعل قضية بيع الأقلام عبارة عن "سياحة" هادئة على شاطئ الرغد.
اليوم و أمام صورة أحد رجالات حلب و هو حامل لابنته المذعورة و التي وصلت لأطراف الموت نتيجة القصف، أمام هذا المشهد الذي ينتزع قلوب الفقراء و المستضعفين المشتركين في ذات المصاب ، بينما يغيب المشهد تماما أمام أؤلائك الذي استنهضوا جيوشهم الإعلامية وملأوا صفحاتهم ندباً و ألماً على مشهد من القسوة قد نشهده في أي زمان و مكان و بات اعتياد على الشعب السوري، و لكن مشهد الموت مهما بات روتينيا يبقى غير اعتيادي و يحتاج لنقل دائم و متصاعد لا يعرف التباطؤ أو التراجع ، أو الانشغال عنه بأمور تخف أهمية كمشهد سحب فلذة كبد من فك موت فتك بمئات الآلاف دون رحمة أو شفقة و الأهم دون وجود أو إيجاد رادع، بل دائما المحفز هو الحاضر.
أمام مشهد بائع الأقلام و هذا الذي يحمل ابنته ماراً من بين أسنان الموت، تتكشف الانسانية "القذرة" للعالم أجمع الذي قرر أن يصم آذانه و يعمي عيونه عن الأسباب و يركز على البكاء على الأسباب و يعمل على تخفيفها بشكل مؤقت و جزئي دون أن ينهيها أو يوقف أسبابها.
ونعود لسؤالنا الذي بات هو المؤرق الأكبر لنا ماذا لو كان هذا مشهد حامل ابنته اليوم في حلب قد حدث في انقلاب لشاحنة في احدى الدول الأوربية، و ما ذا لو كان هذا الرجل من طائفة ما أو دين ما ، وطبعاً لا أقترب اطلاقاً من "السنّة" خصوصاً و "المسلمين" عموماً و "العرب" بعموم أشمل.
لم يكذّب النظام السوري خبراً حين اعتمد الخديعة بموازاة إعلانه هدنة الـ72 ساعة والتي بدأت أول يوم من عيد الفطر، أي الأربعاء الماضي وتنتهي اليوم، بعدما وافق عليها «الجيش السوري الحر» وفصائل أخرى.
أعلن النظام الهدنة لكنه واصل هجومه في ريف حلب الشمالي لقطع الطريق الوحيد الذي يربط المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بمناطق سورية أخرى، لإحكام الحصار الذي يسعى إليه منذ أشهر على حلب. وتبين أمس أن المعركة للسيطرة على المعبر الوحيد للمعارضة هي معارك كر وفر.
ولم تكن الفصائل المسلحة أقل استعداداً لخرق الهدنة لأنها كانت تتوقع أن يبادر النظام إلى الإفادة منها لتحسين مواقعه.
جاءت هدنة اللاهدنة هذه بعد مستجدات ميدانية وسياسية، لتزيد من حال الفوضى والتناقضات في الحرب اللامتناهية التي دمرت سورية، وأبرزها التقارب الروسي- التركي، الذي سيؤثر في الطموح الكردي باقتطاع إقليم في إطار فيديرالي لسورية، وليعيق هذا التوجه بعدما كانت موسكو فتحت باباً لقبول هذا الطموح الكردي في مشروع الدستور الذي أعدته على أساس فيديرالي. وزاد الأمر تعقيداً حين أعلنت التشكيلات الكردية في شمال شرقي سورية عن مشروع دستور للإقليم الكردي، فتقاطعت مصلحة المعارضة السورية مع مصلحة النظام في رفض الاستقلال الذاتي الكردي على طريقة كردستان العراق. بل أن هذا التقاطع شمل إيران التي اندلعت اشتباكات بين قواتها وبين المسلحين الأكراد الإيرانيين الذين يلوذون بكردستان العراق، وأخذت موقفاً حاسماً بقطع الطريق على انتقال عدوى الاستقلال الكردية إليها.
لكن الأهم في ما سبق الهدنة أن مواجهة «داعش» بعد الهجمات غير المسبوقة التي نفذها من لبنان إلى إسطنبول والمدينة المنورة وجدة، وقبلها أورلاندو في أميركا مع المخاوف من اعتداءات في أوروبا، أخذت تثقل على المجتمع الدولي الحاجة إلى تسريع إنهاء دور التنظيم المتوحش، بعدما باتت الدول الكبرى متهمة بالتلكؤ في القضاء عليه، في العراق وسورية، إضافة إلى ليبيا واليمن وغيرها.
باتت غرفة العمليات الدولية التي تأسست لاحتواء التنظيم ثم القضاء عليه تحتاج إلى خطط مختلفة. ومع أن بعض الجهات الأوروبية، ومنها إيطاليا، تعتقد أن أولوية القضاء على «داعش» تتطلب تنسيقاً مع بشار الأسد مثلما ترى موسكو، فإن دولاً أخرى ما زالت على قناعتها بأن الأسد برهن أنه يقوم بالقليل في مواجهة التنظيم، وأن الدول المصرة على بقائه في السلطة في المرحلة الانتقالية تريد مقايضة تشريع وجوده بالحرب الفعلية على «داعش». ولطالما طرحت روسيا المعادلة القائلة بأن المناطق التي يطرد منها «داعش» يتسلمها النظام لا المعارضة، على رغم مشاركة الأخيرة في الاصطدام بالتنظيم في مناطق عدة بعضها استفاد منها النظام. لكن ظهور أسلحة متطورة في يد الفصائل المعارضة في ريف دمشق والتي أسقطت 5 طائرات للجيش النظامي في غضون زهاء 10 أيام، يدل إلى أن انفتاح أجهزة أمنية أوروبية على النظام لا يعني التسليم بأرجحيته على المعارضة. وفي المقابل يدل سجل العمليات العسكرية التي تخوضها إيران و»حزب الله» إلى أن معظمها يطاول فصائل غير «داعش» على رغم رفعها شعار محاربته.
باتت أولوية محاربة «داعش» تفرض نفسها على إدارة باراك أوباما خشية أن يستفيد من هجماتها المرشح الجمهوري دونالد ترامب في السباق بينه وبين المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. وثمة من يعتقد أنه خلافاً للاعتقاد السائد بأن الأشهر الأخيرة لأوباما في البيت الأبيض تكبله وتحول دون اتخاذه قرارات كبرى، فإن باستطاعته اعتماد خطوات حاسمة لمصلحة الإدارة المقبلة التي يؤيدها بقوة، بدلاً من أن يثقل عليها عبء التخلص من «داعش» في السباق الانتخابي الذي قد يستغل ترامب أعماله، كما أظهرت الاستطلاعات بعد عملية أورلاندو في فلوريدا الشهر الماضي.
كيف تلائم الدول الكبرى بين هذه الأولوية وبين إعادة إطلاق الحل السياسي الذي أبرز استحقاقاته إعلان الدستور الجديد لسورية في آب (أغسطس) المقبل وقيام سلطة انتقالية، وفق سعي الأميركيين مع موسكو؟ فإنهاء سلطة «داعش» الميدانية في سورية (في وقت هناك توافق دولي على السلطة التي تتولى المهمة في العراق، على هشاشتها) يتطلب تحديد ماهية السلطة التي تحل مكانها، بموازاة السعي إلى المرحلة الانتقالية السورية.
باتت هذه الملاءمة تفرض الأخذ بالاقتراح السعودي اشتراك قوات سعودية وعربية، تحت عباءة التحالف الدولي، لتساهم في التخلص من التنظيم في شرق سورية وغرب العراق. ألا تحقق هذه الخطوة الملاءمة بين ضرب «داعش» وبين التمهيد للحل السياسي السوري، إذا كان بين مفاعيل التقارب الروسي التركي، الحد من نفوذ طهران؟
بعد أن عاشوا فترة طويلة في نشوة الثورة والانتصار على خوفهم، وفي الأمل المنعش بالتحرّر والانعتاق من أسر نظمٍ وحشيةٍ لا تعرف معنى الإنسانية، يعيش السوريون اليوم، على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم، حالةً من الإحباط الجامع الذي يولّده الشعور المتنامي بانعدام آفاق الخلاص، وخطر ضياع الأهداف والرهانات التي ضحّوا من أجلها، وتزايد المخاطر التي تهدّد وطنهم، والمخططات التي تتحدث عن تقسيمه، وعمليات النهش المستمرّة من هؤلاء وأولئك في جسده المريض.
وينعكس هذا الإحباط على موقفهم من الدول الصديقة والحليفة التي تتعرّض، أكثر فأكثر، للانتقاد والتشكيك بما قدّمته، أو يمكن أن تقدّمه. لكنه يتجلى أيضاً في التهجم المتزايد على المعارضة، بمختلف تياراتها، ويتحوّل شيئاً فشيئاً إلى نفي للذات، وتشكيكٍ متزايدٍ بهويتهم، وفي ما إذا كانوا بالفعل شعباً واحداً أو موحداً، ومجتمعاً منسجماً قادراً على العمل المشترك، وبناء الدولة، والنهوض من جديد من الكارثة التي أصابت البلاد والعباد.
وأول من يحاول استغلال مناخ الإحباط هذا، ويسعى إلى الاستفادة منه، القوى الدولية التي تحاول أن تقنع السوريين، اليوم، أنه فات الوقت، لكي يتمكنوا من إعادة توحيد أنفسهم كشعب، وأن يستعيدوا ملكة العيش المشترك، وأنه لم يعد أمامهم من سبيلٍ للوصول إلى الحد الأدنى من السلام والأمن سوى التسليم للدول الأجنبية بتقرير مصيرهم، حتى صار من الطبيعي والعادي والمسلم به تداول وثائق وخرائط ومسوّدات دساتير، عم انتشارها في وسائط التواصل الاجتماعية، صادرة عن بعض الأوساط الدبلوماسية، أو عن جمعيات ومؤسسات بحثية، لم يكن لها في الأصل أي علاقة بالبحث بشأن سورية، وربما لا يعرف معظم باحثيها، قبل ثورة مارس/ آذار 2011، موقع هذا البلد على الخريطة.
يكاد هذا الشعور يطمس، للأسف، الإنجاز الأول والأروع لهذه الحقبة، وأعني ما سطره السوريون من ملاحم، وما أظهروه من بسالةٍ وصمودٍ أسطوريين، في قتالهم من أجل حريتهم وكرامتهم، وما كبّدوه من هزائم متواصلة لأربعة جيوش نظامية: جيش النظام الانكشاري، ومرتزقة حزب الله، والحرس الثوري الإيراني، وجيش الخلافة الداعشية المزعومة، بالإضافة إلى المليشيات الطائفية الدولية المستشرسة، والمدفوعة بغلٍّ مذهبي دموي لا يرتوي، من دون أن ننسى الدعم اللوجستي والعملياتي المباشر والقوي من سلاح الجو الروسي، فلا يعادل غدر الأسد بشعبه وخيانته التزاماته بوصفه رئيساً للجمهورية، وإصراره على حرق البلاد تمسكاً بالسلطة، سوى إيمان الشعب السوري بحقه في الكرامة والحرية، وإصراره على الاستمرار في القتال حتى النهاية. وربما لن يحتفظ التاريخ من هذه الحقبة بصورةٍ أخرى غير إرادة الحرية التي ألهبت حماس السوريين، وحولت نضالهم إلى أسطورةٍ ومثالٍ أعلى لكفاح الشعوب من أجل سيادتها واستقلالها وتقرير مصيرها بيدها.
هذا بالضبط ما تهدف إلى تغييبه الحملة الدعائية والنفسية المنظمة التي يشارك فيها، منذ أكثر من خمس سنوات، النظام وجميع الدول والتيارات المناهضة لولادة سورية حرّة جديدة، تعكس حرية السوريين وسيادتهم على أرضهم، فهي تستغل التطورات، وتزيد من حجم التعقيدات التي أنتجها تدخل القوى المتعددة، للحيلولة دون انتصار ثورة الشعب، من أجل تيئيس السوريين من مستقبلهم ومصيرهم، وتحويل كارثة الحرب العدوانية التي شنتها الطغمة الحاكمة عليهم إلى مناسبةٍ للقضاء على الدولة السورية، ومن خلالها على استقرار المنطقة المشرقية بأكملها.
ولا شك أيضاً في أن المعادلة الدولية التي فرضت على الثورة، والقائمة على منع الحسم العسكري، وتجاهل شروط الحل السياسي من جهة، وما رافق هذه المراوحة في المكان من قتلٍ وتشريدٍ ودمارٍ من جهة ثانية، تضغط بقوة على الرأي العام السوري، على مختلف اتجاهاته، وتفقده أكثر فأكثر الأمل بإمكانية الخلاص القريب، وتدفع قطاعاتٍ متزايدةً من مؤيدي الثورة، للتشكيك بسلامة قرارهم في الخروج على النظام، على الرغم من جوره وخيانته مصالح شعبه. وما يزيد من هذه الضغوط انزياح مركز القرار بشكل مضطرد من يد السوريين إلى الدول الداعمة لهذا الطرف أو ذاك، حتى ساد شعور عميق، اليوم، بأن السوريين لا يملكون أدنى تأثيرٍ على مصيرهم، وليس لهم سوى الاستسلام لقرار الدول الأجنبية المنقسمة هي نفسها في دعم هذه الفريق أو ذاك. وهذا ما يفسّر تزايد تداول الخرائط والبيانات والتصريحات المتعلقة بتقسيم سورية والمنطقة، أو إعادة تشكيل دولها وكياناتها، وربما هويتها أيضاً حتى عند السوريين.
أخطر ما يعيشه السوريون اليوم هو فقدان الثقة بأنفسهم، والاستسلام لفكرة عجزهم عن التوصل إلى حلول لمشكلاتهم بإرادتهم، والتسليم للدول الأجنبية، العربية وغير العربية، بالقرار، وإيجاد حل للقضية، مع الأمل بأن لا يخذل حلفاؤهم ثقتهم، وأن يبقوا عند حسن ظنهم بهم. وهذا ما يؤكده، للأسف، ويبرهن عليه كل يوم سلوك كثير من فصائل المعارضة وشخصياتها التي تتسوّل الدعوات من الدول والمؤسسات الأجنبية، وتربط أي قرارٍ يُفرض عليها اتخاذه بقرار الدول الصديقة ورأيها، ولا تفكر في طرح أي خطةٍ أو استراتيجيةٍ مستقلة للنقاش، وللإمساك بقضيتها، وتنتظر دائماً ما تقرّره هذه الدول بمصيرها ومستقبلها.
لن تحل الدول الأجنبية المسألة السورية، حتى لو كانت قوى كبرى، بل إنها هي التي عقدتها وقطعت عليها طريق الحل، وإذا حلّتها، فلن يكون ذلك لصالح سورية والسوريين، مهما كانوا وإلى أي فريقٍ انتموا، وإنما لحسابها، ومن أجل تقاسم المصالح فيها، حتى لو اضطر الأمر إلى تقسيمها جغرافياً وسياسياً. وهذا ما يحصل الآن في تعزيز الاعتقاد عند السوريين بأنهم ذئابُ بعضهم لبعض، وعشائر وقبائل وطوائف متناحرة لا تستطيع التفاهم، ولا شيء يجمع بينها، لا قومية ولا عقيدة ولا دين. وفي هذه الحالة، لن يكون الحل إلا عن طريق تفتيت الخريطة السورية وتقسيمها، ولن يعني أبداً إنهاء الحرب والنزاع، وإنما إيجاد أسبابٍ إضافيةٍ لاستمرارهما، ولو أن رهاناتهما وأشكالهما سوف تختلف، على حسب طبيعة القوى المتلاعبة والمتنازعة على اقتسام السوريين، ورسمها أو تقديرها لمصالحها في هذه المنطقة، أو الكيان، أو ذاك.
لن يكون هناك أملٌ في التوصل إلى حلٍّ للقضية السورية، أي إلى صيغةٍ للحل، تحقق مصالح السوريين جميعاً، وتضمن السلام والأمن والعدالة في بلادهم، وتسمح باستعادة الدولة والسيادة والوحدة السورية، إلا باستعادة السوريين ثقتهم بقدراتهم، وعودتهم إلى تحمل مسؤولياتهم، والمراهنة على حسّهم الوطني والإنساني وإرادتهم الحرة، ورفضهم أي قرارٍ يُفرض عليهم، مهما كان نوعه ومن أي طرفٍ جاء. وهذا يعني ضرورة الكفّ عن انتظار الحل من الخارج، والتسليم للدول بحقها فيه، أو العمل في إطار استراتيجياتها المتعدّدة والمتباينة أيضاً.
ولن يستطيع السوريون استرجاع قرارهم وحقهم في تقرير مصيرهم، ما لم ينزعوا روح الاحتلال النفسي والانقسام والتبعية التي فرضتها عليهم القوى الغاشمة، عقوداً طويلة، بل قروناً، وعزّزتها سياسات الدول المتنازعة على السيطرة، وضراوة الصراع الذي يدور حول بلادهم ووطنهم بين الدول الإقليمية والخارجية.
وهذا يستدعي يقظة ضمير سياسي وإنساني عند السوريين جميعاً، والالتفاف حول قيادةٍ وطنيةٍ تقف موقف الاستقلال والندية مع القوى الخارجية المعنية، والتي أظهرت الأحداث فشل سياساتها القائمة على تحييد الشعب السوري، والانفراد بحل القضية على حسابه. وهذا هو جوهر برنامج الكرامة والحرية الذي نزل الشعب السوري بالملايين إلى الشوارع السورية لتطبيقه، وهتف له تحت البراميل المتفجرة والجوع والحصار، وبذل أبناؤه من أجله دماءً زكية، لا تزال تجري كالأنهار في طول البلاد وعرضها.
هي وثيقة أميركية، لكنها ليست رسمية، وقد صدر جزؤها الأول في سبتمبر/ أيلول من عام 2015، والثاني في منتصف العام الحالي عن "وقفية راند"، المقربة جدا من أوساط الخارجية الأميركية، والتي جعلت لوثيقتها عنواناً مثيراً هو "خطة سلام من أجل سورية". ومع أنها صدرت قبل أشهر قليلة، فقد تم تحديثها قبل أسابيع قليلة، في إشارة إلى اهتمام واضعيها بما ترتّب على ما اقترحوه من نتائج بعد سبتمبر. ويقترح نواب وزير الخارجية الثلاثة السابقون، الذين كتبوا الخطة:
أولاً، التخلي التام عن "جنيف" ووثيقته التي أقرها الخمسة الكبار، وعن قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وخصوصاً منها القرار 2118 الذي يرسم آلية تنفيذ ما اتفق الخمسة الكبار عليه في جنيف، بمن في ذلك أميركا، الدولة التي ينتسب إليها كتّاب الخطة، فلا هيئة حاكمة انتقالية، ولا تراض بين الطرفين، ولا انتقال ديمقراطي.
ثانياً، الانطلاق من أولوية مطلقة، هي ضرورة وقف أعمال العنف عبر هدنةٍ تتوافق عليها روسيا وأميركا، وتلتزم بها أطراف الصراع، على أن يجري تحويلها إلى وقف إطلاق نار دائم، يتيح أجواء مناسبة لبدء البحث عن حلول.
ثالثاً، المحافظة على ما هو قائم ميدانياً من أوضاع بين الأطراف المتقاتلة، وتشمل منطقة النظام الأسدي، بين دمشق والساحل، مروراً بحمص ومناطق من حماة، وهي ستبقى في يده، وسيديرها تحت قيادة بشار الاسد، على أن ترابط فيها قوات روسية. والمنطقة التي سيطرت عليها قوات "البايادا" الكردية في الشمال والشمال الشرقي من سورية، والتي سترابط فيها قوات أميركية. ومنطقة سيطرة المعارضة في الشمال والجنوب، حيث سترابط في أولاهما قوات تركية، وفي ثانيتهما أردنية. أما المنطقة الخاضعة لـ"داعش" فستوضع تحت إشراف دولي، بعد طردها منها، وستبقى خاضعةً للإشراف الدولي، إلى أن يتقرّر مصيرها النهائي في التسوية النهائية.
الرابعة، انتشار قوات دولية في مناطق مختلفة من سورية، لكي تشرف على وقف القتال، وإيصال الإغاثة إلى السوريين، ريثما تتفق أميركا وروسيا على الحل النهائي الذي تقول الخطة، بكل وضوح، إنه لن يستعيد دولة سورية المركزية، وسيفرض أشكالاً جديدة من الحكم والإدارة في المناطق الثلاث، على أن تكون مداولات الأطراف السورية بشأنها هي المفاوضات الجديدة التي ستقرّر مصيرها، وبالتالي، شكل الدولة السورية المقبلة، وعلاقات أطرافها وصلات مكونات المجتمع السوري ببعضها، وهل ستكون فيدرالية، أم إدارة ذاتية موسعة، أم لا مركزية سياسية ... إلخ.
لا تسمّي "الخطة" فترة زمنية لتطبيق ما تقترحه، بل تترك الأمر القائم الحالي، الذي تكرّسه باعتباره أساس أي حل، وتبقيه مفتوحاً على مدى زمني غير محدد، وتشحنه باحتمالاتٍ تقسيميةٍ، تناقض جذرياً ما قبلته واشنطن وموسكو في وثيقة جنيف ومقدمة القرار 2254 الذي صدر قبل أشهر، وحمل تعهداً صريحاً منهما بضمان وحدة الدولة والشعب في سورية.
ليس هذا كل ما يثير القلق في الخطة، المقلقة جداً، ما يثير القلق والغضب حقاً يرد في فقرة تؤكد أن "الخطة" لم تجر أية تعديلات ذات أهمية أو شأن على الثوابت التي اعتمدها البيت الأبيض سياسة حيال الحدث السوري منذ عام 2011، وتمسّكت بها طوال السنوات الخمس الماضية. هذا الاعتراف المذهل ينقل الخطة من حيز السيناريوهات التي ترسمها مراكز الأبحاث والدبلوماسية لمواجهة احتمالات تطور أو حدثٍ ما، ويجعل منها كشفا لـ"ثوابت"، عمرها نيف وخمسة أعوام، كانت جوهر سياسة واشنطن تجاه ثورة سورية التي أطلق الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في حينه عشرات التصريحات المؤيدة لها، لكنه أقرَّ، أخيراً، في أحاديث متعدّدة، مع صحافي اسمه غولدبرغ، أصدرها تحت عنوان "عقيدة أوباما"، بأنها لم تكن مهمة إطلاقاً بالنسبة له، ولم تحتل أية أولوية في سياساته. تقول الخطة إنها التزمت بهذه الثوابت في ما اقترحته، وإنها تقوم على مواقف واشنطن الحقيقية، عديمة الاكتراث بحق الشعب السوري في الحياة والحرية، وبمجازر النظام. لذلك، قامت على مساراتٍ متكاملةٍ، مهد لها تأجيج الصراع والصمت على عنف النظام وإيهام السوريين بقرب اتخاذ موقفٍ أميركي حاسم من بشار الأسد، بينما شجعوا على تصعيد الصراع، ليستخدموه في تصفية حسابات إقليمية ودولية، تمت بدماء جميع السوريين، من كان منهم مع النظام أو ضده، ولإيصالهم، في النهاية، إلى ما تفصح "الخطة" عنه: حل يضع مناطق النظام و"البايادا" والمعارضة تحت احتلال دول وجيوش أجنبية وإشراف دولي، ويترك مصير نصف مساحتها الذي تحتله "داعش" اليوم معلقاً، محولاً وطننا السوري الذي نعرفه، ونريد تجديده بالديمقراطية والنهج المدني/ السلمي، إلى وطن افتراضي، يرهن مصيره بصراعات الأميركيين والروس وتفاهماتهما، وبإرادة الأميركيين بالأحرى الذين لعبوا دوراً خطيراً في تحويل ثورةٍ طالبت بالحرية إلى ساحة صراعٍ متشعب ومفتوح، أمسكوا بها بكل قوة، كي يروّضوا من خلالها إيران وروسيا، كما تقر الخطة، وهي تذكر الفوائد التي يعود حلهم بها على واشنطن.
هذه "الخطة" التي تقول، في جزئها الثاني، إن الهدنة التي تم الاتفاق عليها، وطبقت بهذا القدر أو ذاك من النجاح، كانت الخطوة الأولى على طريق تطبيق ما اقترحته في جزئها الأول. لذلك، يجب أن تكون موضوع دراسة وتأمل عميقين، ما دام تطبيق بقية بنودها يعني نهاية وطننا، وفشلنا في نيل حريتنا، والقضاء على ثورتنا، وبقاء ملايين السوريات والسوريين مشرّدين في المنافي والمغتربات، وفوز الأسد بالمساحة الأكبر من سورية، وبساحلها الذي ستمكّنه سيطرته عليه من خنق بقية مناطقها، وإركاع سكانها بالتجويع والحصار، ويعني أن هيئات المعارضة وتنظيماتها أضاعت تماما الطريق التي يمكن أن تمكّنها من بلوغ أهداف الشعب والثورة، وأنها تتابع وهماً لم يعد له أي مرتكز أو مكان في الواقع الدولي والوطني، يسمونه "الحل السياسي وفق وثيقة جنيف والقرارات الدولية". ويعني، أخيراً، أن "صديقنا الأميركي المخلص" نجح في الضحك علينا وخداعنا، طوال السنوات الخمس الماضية التي كنا في أثنائها في غفلةٍ أوقعتنا في حال من الغباء وسوء التقدير والفهم، ساقتنا إلى هاويةٍ تقدم لنا الخطة بعض تفاصيلها، لن نخرج منها بما ننتهجه اليوم من سياسات، ونقيمه من علاقات، ستأخذنا إلى ما بعد سورية، وليس إلى ما بعد النظام.
ماذا علينا أن نفعل لمواجهة ما يدبّر لنا منذ سنوات على يد دولةٍ اعتقد معظمنا، معظم الوقت، أنها صديقة لنا، لن تسمح بهزيمة ثورتنا المطالبة بالحرية؟. علينا الإجابة على هذا السؤال في أقرب الآجال، كي لا نخون شعبنا وأنفسنا.
أتوقع أن يكون إحياء مسيرة الحل السياسي أهم ما سيشغل المعنيين بها بعد عطلة العيد، فقد مرت فترة طويلة دخلت فيها المفاوضات في سبات، وبدا أن الهوة واسعة بين فريقي التفاوض (النظام وهيئة التفاوض العليا المنبثقة عن مؤتمر الرياض). فالنظام يرفض الحل السياسي شكلاً وموضوعاً، وقد جدد رفضه لتشكيل هيئة حكم انتقالي في خطاب بشار الأخير أمام مجلس الشعب، وهو يفتح المجال فقط لحكومة ائتلافية، ربما تضم بعض المعارضين الذين يختارهم وعلى الغالب سيختار أقربهم إليه، متجاهلاً كل ما حدث في سوريا، ومعتقداً أن القضية الوحيدة التي يواجهها هي الإرهاب وحده، وأما أسباب الانتفاضة السورية والحل الأمني الذي اختاره لمواجهة الشعب وقتل مليون مواطن واعتقال مئات الآلاف الذين مات كثير منهم تحت التعذيب في المعتقلات، وتهجير ملايين السوريين، وهدم منازلهم، وتدمير العديد من المحافظات السورية، فضلاً عن المجازر التي ارتكبها، فهي في نظره أمور ثانوية يمكن حلها بتوزير بعض المعارضين الذين هم موالون له في الحقيقة، ولكنه ألبسهم لبوس المعارضة كي يقدم منصات جديدة للسيد «ديمستورا» الذي لا يخفى عليه أن الهدف من وفرة المنصات هو خلط الأوراق وتمييع الحل السياسي، وهو الذي قال لأعضاء هيئة التفاوض في لقائه الأول بهم في الرياض (أنتم الوفد الوحيد الذي يمثل المعارضة، وهذا هو امتيازكم)، لكن روسيا سرعان ما صنعت معارضة دخلت ساحة المفاوضات لتؤيد النظام باسم المعارضة أيضاً، وهي ما تزال تعطل القرار الدولي، والمعارضة الوطنية تتمسك ببيان جنيف وبالقرارات الدولية التي تكررت ومنها القرار 2118/2013 والقرار 2254/2015 الذي حدد فترة ستة أشهر للوصول إلى حل، وقد بدا مؤسفاً أن يخفق مجلس الأمن في تنفيذ قراراته، وأن تكون روسيا التي أسهمت في القرار معطلة لتنفيذه.
ولقد كان مفجعاً أن يتم تجاهل مقترح الهيئة العليا للتفاوض حول هدنة في شهر رمضان وفي أيام العيد، فقد تصاعدت الهجمات على المدنيين، وبخاصة في محافظتي إدلب وحلب، وقضى مئات المواطنين تحت الأنقاض إثر القصف الذي استخدمت فيه روسيا قنابل عنقودية وفراغية وفوسفورية فضلاً عن عودة النظام إلى استخدام البراميل المتفجرة، وخلال الفترة الأخيرة تعطل إدخال المساعدات للمناطق المحاصرة، وتم التزييف حتى على الأمم المتحدة، وظهرت فضائح مخجلة، بل إن بعض قوافل المساعدات وصلت فارغة.
وما تزال بنود مرحلة ما قبل التفاوض التي حددها القرار الأممي في البعد الإنساني معطلة، فلم يطلق سراح المعتقلين ولم يفك الحصار، بل زاد عدد المناطق المحاصرة، كما أن النظام وروسيا وإيران وحزب الله تجاهلوا اتفاقية الهدنة الموقعة بين روسيا والولايات المتحدة، واستخدموا ذريعة مكافحة الإرهاب لتبرير قصفهم اليومي على المدنيين.
ولكون المنطقة تمر الآن بتحولات جديدة في خارطة العلاقات السياسية، ولاسيما بعد أن أعلنت تركيا عن مراجعة لسياساتها الخارجية وبخاصة مع روسيا وإسرائيل وربما مع مصر قريباً، فإن المشهد السياسي قد يشهد نوعاً من الحيوية إذا تمكنت تركيا من تخفيض حدة التوتر في المنطقة عامة، وإذا تمكنت من ترويض الجموح الروسي الذي وصل إلى طريق مسدود، وقد آن أن تدرك روسيا أن مغامرتها ضد الشعب السوري لن تحقق سوى مزيد من الجرائم ضد الإنسانية، وأن القضاء على الإرهاب، يبدأ بإنهاء مسبباته، فمن أطلق الحل العسكري فتح الساحة لكل من بيده سلاح، وجعل الدم وحده المباح، ولا حل لمشكلة الإرهاب إلا بتمكين السوريين من الاستقرار عبر حكم عادل يحافظ على بقايا الدولة السورية وعلى وحدة الوطن والشعب، ويحفظ للمواطنين حريتهم وكرامتهم، ويحقق العدالة الانتقالية، عندها سيتكاتف السوريون جميعاً لمقاومة الإرهاب، وهم يدركون أنه مصنوع للتعمية على قضيتهم.
غير معروف٬ حتى الآن ما هو الصحيح وما هي الحقيقة٬ فالروس يؤكدون أنهم تلقوا عرًضا أميركًيا٬ من الرئيس باراك أوباما نفسه٬ للتنسيق المشترك بين البلدين٬ روسيا والولايات المتحدة في سوريا٬ وخصوًصا في مجال مواجهة التنظيمات الإرهابية٬» داعش» و«النصرة» على وجه التحديد٬ والأميركيون بادروا إلى النفي وبصورة معلنة ورسمية٬ وكل هذا مع أَّن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أجرى فعلاً اتصالاً هاتفًيا مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري لا يمكن إلا أن يكون قد تناول هذه المسألة آنفة الذكر٬ التي يبدو أنها باتت مطروحة بالفعل٬ ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أَّن الثقة بين واشنطن وموسكو ليست غير متوفرة وفقط٬ وإنما معدومة وبصورة نهائية!!
والمثير للتساؤل بالفعل هو أَّن هذا التطور٬ الذي لا يزال غير مؤكد والذي من الممكن أن يكون مجرد مناورة روسية٬ بهدف مزيد من ابتزاز هذه الإدارة الأميركية التي دخلت مرحلة عِّد أيامها الأخيرة٬ قد جاء في ذروة الخطوة التصالحية الـ«دراماتيكية» التي أقدم عليها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أولاً تجاه إسرائيل ثم تجاه روسيا٬ حيث كانت العلاقات بين موسكو وأنقرة قد وصلت٬ كرِّد فعل على إسقاط طائرة الـ«سوخوي» الروسية في تلك الحادثة المعروفة٬ إلى حدود المواجهة العسكرية الشاملة٬ وهذا يعني أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات يسعى للاستفراد بسوريا٬ باستدراج الأميركيين إلى اتفاق شكلي يكرس الوضعية التي بقيت قائمة بالنسبة للأزمة السورية خلال الثلاثة أعوام الأخيرة٬ والتي هي في حقيقة الأمر لا تزال قائمة حتى الآن٬ وقد تستمر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.
إنه لا يمكن الوثوق لا بهذا الرئيس الروسي ولا بوزير خارجيته فالتجارب٬ تجارب الثلاثة أعوام الماضية٬ أثبتت أنه بينما أَّن قدمي فلاديمير بوتين في هذا العصر وفي هذه المرحلة٬ فإن رأسه لا يزال هناك في مرحلة صراع المعسكرات٬ بين الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية (الشيوعية) من جهة٬ والولايات المتحدة والمنظومة الرأسمالية من جهة أخرى٬ وهذا بالطبع ينطبق على سيرغي لافروف الذي بقي يحاول «تقليد» وزير خارجية المرحلة السوفياتية السابقة أندريه غروميكو٬ ولكن دون إحراز أي نجاح يذكر٬ وذلك لافتقاده إلى هيبة واتزان و«كاريزما» ذلك الرجل التاريخي الذي كان أحد رموز مرحلة تاريخية تختلف كثيًرا وفي كل شيء٬ عن هذه المرحلة التي هناك حيرة مربكة لدى كبار المؤرخين بالنسبة لتحديد مكانها في المسيرة الكونية التاريخية.
وهنا فإن ما يعزز وجهة نظر الذين لا يثقون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذين يعتبرونه مناوًرا غير بارع في بعض الأحيان٬ أَّن روسيا التي التقطت مبادرة رجب طيب إردوغان بفرح غامر لم تبادر إلى أي تغييٍر إيجابي٬ وإن على نطاق محدود وضيق٬ فعملياتها العسكرية٬ بدل تخفيفها ازدادت عنًفا وشمولاً٬ وانفتاحها على تركيا لا يزال يراوح مكانه٬ إذ إن كل شيء لا يزال على ما هو عليه٬ وإن حزب العمال الكردستاني التركي الـ«K.K.P «الذي استخدمه الروس كأحد أسلحتهم الفعالة ضد أنقرة لم يطرأ عليه أي جديد٬ وهو لا يزال مستمًرا بعملياته «الإرهابية» بالوتيرة السابقة نفسها وأكثر.
وهكذا فإنه لم يبدر عن الروس ما يدُّل على أنهم جادون فعلاً في التفاهم مع الأميركيين ومع غيرهم٬ لوضع نهاية مقنعة للأزمة السورية٬ وذلك مع أن المفترض أن يبادر بوتين من قبيل إبداء ولو قليل من حسن النيات إلى التحقيق من هجمات سلاح الجو الروسي على المدن والقرى السورية وعلى مواقع المعارضة «المعتدلة».. إَّن هذا لم يحصل إطلاًقا والواضح أنه قد لا يحصل أبًدا٬ والسبب هو أن الرئيس الروسي متمسٌّك بإصراره على بقاء بشار الأسد قبل المرحلة الانتقالية وخلالها وبعدها٬ وإَّن أقصى ما يطرحه هو تشكيل «حكومة وحدة وطنية»!! يشارك فيها «المعارضون» مجرد «ديكور» لا يقدم ولا يؤخر٬ وليس له أي دور فعلي لا في حاضر سوريا ولا في مستقبلها.
وهنا أيًضا.. فإَّن ما يزيد الأمور ضبابية وارتباًكا هو أن الروس لم يطرحوا أي جديد يمكن البناء عليه والاعتداد به بالنسبة للأزمة السورية٬ وأن التقاطهم المبادرة الأميركية آنفة الذكر٬ التي نفتها واشنطن رسمًيا٬ قد يكون مجرد مناورة كمناورات الرئيس فلاديمير بوتين الكثيرة السابقة٬ وهذا يعني أنه قد لا يكون هناك أي جديد يمكن الاطمئنان إليه بالنسبة للأزمة السورية المستفحلة٬ وهكذا وبالتالي فإنه لا يزال من المبكر جًدا الحديث عن حٍّل معقول لهذه الأزمة٬ التي باتت هناك قناعة في العالم بأسره بأن موسكو هي التي أوصلتها إلى هذه الوضعية المأساوية التي وصلت إليها.
إن المفترض أن جزًءا من المصالحة التركية الروسية قد أُعطي للأزمة السورية وحلها وعلى أساس القرارات الدولية واتفاق (جنيف1(٬ ويقيًنا أنه إْن بقي الروس يعملون في سوريا ما عملوه منذ بدايات غزوهم العسكري وحتى الآن٬ فإن تركيا بدورها ستدفع الثمن غالًيا وخصوًصا إْن واصل حزب العمال الكردستاني التركي الـ«k.p.p «عملياته العسكرية التي كان استأنفها بعد تردي العلاقات الروسية التركية٬ وحقيقة أنها ستكون بمثابة مصيبة كبرى إن ثبت أن الرئيس بوتين قد قبل بالمصالحة مع رجب طيب إردوغان كمناورة من مناوراته الكثيرة المعروفة. لقد أعلن الروس أنهم مع أي حٍّل للأزمة السورية يضمن لهم أولاً الحفاظ على مصالح روسيا الحيوية في سوريا٬ وثانًيا أن يكون اختيار البديل لبشار الأسد بموافقتهم وموافقة كل الأطراف المعنية. وحقيقة أن حتى الأطراف الأكثر تشدًدا٬ إن بالنسبة للمعارضة السورية وإن بالنسبة للدول العربية المعنية وأيًضا إْن بالنسبة للولايات المتحدة والغرب كله٬ لا تنكر هذه المصالح الحيوية الروسية المشار إليها٬ وأيًضا لا تعارض التفاهم بشأنها وبشأن الحفاظ عليها٬ فهي مصالح قديمة تعود لما بعد انقلاب حسني الزعيم في عام ٬1949 وهي بقيت يتم التعامل معها كحقيقة من حقائق علاقات دمشق الخارجية٬ وذلك رغم تقلبات الأوضاع في نحو نصف قرن وأكثر.
وبالطبع فإن الروس الذين يتابعون وجهات نظر المعارضة السورية وحلفائها وداعميها يعرفون أَّن هؤلاء جميًعا لا يمكن أن يتصوروا مستقبلاً لسوريا مطمئنة ومستقرة دون الحفاظ على المصالح الحيوية الروسية هذه٬ وبالصورة التي من المفترض أن يتم الاتفاق عليها لاحًقا٬ ودون مشاركة كل المكونات الدينية والمذهبية والقومية٬ وأيًضا الاجتماعية في مستقبل هذا البلد الذي هو لكل أهله ومن بينهم الطائفة العلوية الكريمة٬ التي ربما لا يعرف كثيرون أن غالبية رموزها وأبنائها ضد هذا النظام منذ عام 1970 وحتى الآن٬ وذلك لأنهم كانوا وما زالوا الأكثر تضرًرا من هذا النظام العائلي٬ الذي أساء إلى هذه الطائفة بمقدار إساءته إلى الشعب السوري كله.. وهكذا وفي النهاية فإنه لا بد من القول إن هذا الموقف الروسي آنف الذكر سيتأثر حتًما بتطورات الأحداث التي استجدت في إيران في الأيام الأخيرة٬ وخصوًصا في «أصفهان» وأيًضا في منطقة «مهاباد» التي شهدت في عام 1948 قيام أول دولة كردية في التاريخ.
لن يُعرف مدى التغيير في السياسات التركية في المدى القريب، وإنْ كان ما ظهر منه أخيراً يشير الى انعطاف كبير، بعضٌ منه يُفهم بمنطق المصلحة القومية بما فيها من سياسة وأمن وتجارة، وبعضٌ آخر بضرورات الحفاظ على تركيا في المعادلة الاقليمية. ومع افتراض أن أنقرة كانت مبدئية مئة في المئة في مقاربتها لقضية الشعب السوري، وفي مطالبتها برفع الحصار عن غزة، وفي سعيها الى إيجاد توازن داخلي عراقي يخفف من وطأة الهيمنة الإيرانية الفاقعة، إلا أن طبيعة الاستقطابات الدولية في المنطقة لم تسعف تركيا كما لم تسعف العرب من قبلها. أكثر من أي قوة إقليمية أخرى وجدت تركيا نفسها محكومة بشروط لا تبدو إسرائيل أو إيران مكبّلة بها، ربما بسبب إرث تركي تاريخي انطبع بالسلبية وتبِعه قرنٌ من الانكفاء عن الشرق العربي، أو لأن ازدواجية تركيا بعلمانيتها وإسلاميتها أربكت عودتها الى ذلك الشرق بعدما كانت إسرائيل وأميركا أمعنتا في إحباطه، فيما قطعت إيران شوطاً في نخره بسوسة «تصدير الثورة» وعسكرة الشحن المذهبي.
المؤكّد أن المسألة السورية هي التي ستحدّد ملامح الوجه الآخر للسياسات التركية الجديدة. فبعد الشروع في تطبيع العلاقة مع روسيا، وإنهاء الخلاف مع إسرائيل، وقبل ذلك وقف تدهور العلاقة مع إيران مع إقرار الدولتين باستمرار خلافهما على سورية، ومع التلميح الى احتمال حصول خطوة باتجاه إصلاح العلاقة مع مصر، لم يبقَ أمام أنقـــرة سوى نقلة واحدة: الاتصال بدمشـــق. قد تبدو هذه المبادرة صعبة لكنها لن تكون مستحيلة، إذا أمكن تركيا أن ترى الـــمصلحة وتلمسها. كانت آفاق التبادل مع روسيا رحبة وواعدة ولا تـــزال، ومجالات التعاون مع إسرائيل كبيرة ومتنوعة ولا تــزال، كذلك مع إيران، وكانت بلغت مستوى متقدّماً جداً خلال سنوات العسل مع النظام السوري... لذلك لم يكن عسيراً على رجب طيب اردوغان أن يفرمل اندفاعاته السلطانية ليعكف على ترميم الصورة واستعادة المشهد السابق رغم كل المتغيّرات العميقة التي استجدّت عليه.
لم يتوقّع أحد أن ترفع إسرائيل حصارها عن قطاع غزّة من أجل التطبيع مع تركيا. فحتى العرب لم يطلبوا رفع هذا الحصار مقابل التطبيع بل وضعوه في اطار تسويةٍ شاملة لا أحد يدري إذا كانت ستتم يوماً. ولو أُخذ في الاعتبار أن المصالح الرئيسية بين تركيا وإسرائيل لم تتأثّر بتداعيات حادث سفينة «مافي مرمرة»، بل إن جانبها التجاري شهد نمواً، فإن الحلول الوسط كانت متوافرة في انتظار الظرف السياسي الملائم. راح هذا الظرف يتبلور بعد أسابيع قليلة من تفجّر العداء الروسي لتركيا والعقوبات التجارية والسياحية التي فرضتها موسكو غداة إسقاط الـ «سوخوي 24»، فأعادت أنقرة تنشيط القناتين الإيرانية والإسرائيلية، الأولى لتجديد الفصل بين التعاون التجاري والخلافات السياسية وخصوصاً لحاجتها الى ضمان استمرار التزوّد بالطاقة بعد خسارة المصدر الروسي، والثانية لحل الخلاف القائم في شأن غزة لكن أيضاً للمساهمة في استثمارات الغاز الإسرائيلي.
استشعرت إيران كما إسرائيل أن اردوغان بات مستعدّاً للنزول عن الشجرة، لكن طهران لم تشأ أن تساعده بل كانت مرتاحة الى أن المسار الذي اتخذته روسيا من شأنه أن يضعف تركيا ويشطبها من المعادلة الإقليمية، أما بنيامين نتانياهو فوجد الوقت مناسباً لانتزاع تسوية لمصلحته لكنه لعب ورقة المصالحة مع اردوغان على الطاولة الروسية واستطاع من جهة إقناع فلاديمير بوتين باجتذاب تركيا الى دور مختلف في المسألة السورية، ومن جهة اخرى إقناع اردوغان بالتنازل لروسيا كي يحافظ على دور تركي موازٍ للدور الإيراني في سورية. قبل أكثر من شهرين بدأت مصادر تركيا وإسرائيل تؤكد توصّلهما الى اتفاق، وتردّد مراراً أن توقيعه وشيك، ثم تبيّن أن اعتراض موسكو هو ما أخّره، خصوصاً أنها وإسرائيل كانتا في صدد تطوير تنسيقهما العسكري في شأن سورية.
كان الإعلان في يوم واحد عن ذلك الاتفاق، وعن رسالة اردوغان الاعتذارية الى بوتين، رسالة بالغة الدلالة الى واشنطن، تحديداً الى باراك اوباما. فالأخير كان أنجز خطوة أولى عندما أقنع نتانياهو (أواخر آذار- مارس 2013) بمهاتفة اردوغان لإحاطته بـ «أسف - اعتذار» إسرائيل وإبداء الاستعداد لحل الخلاف. لكن اوباما الذي بدأ هذه المبادرة بـ «دوافع استراتيجية» اميركية لم يستطع إكمالها لانتفاء أي استراتيجية لديه، فتولّى بوتين إنجازها للدوافع نفسها، لكن لمصلحة استراتيجية روسية. صحيح أنه يمكن المجادلة بأن مجمل ما حصل لا يخرج عملياً عن إطار المعادلة الإقليمية التي تريد اميركا هندستها قبيل «مغادرتها» المنطقة. غير أن طريقة بوتين في ممارسته «القيادة» لا تنفكّ تكشف تراجع نفوذ اميركا وتقضم من «هيبتها».
لا شك في أن الخذلان الاميركي هو ما دفع تركيا باتجاه محور روسيا - إسرائيل. كانت أنقرة نسّقت مع واشنطن مقاربتها للأزمة السورية وقطيعتها مع نظام بشار الأسد، ومثلها فعلت الدول العربية الداعمة للمعارضة، وطوال الأعوام الخمسة تعرّف العرب والأتراك الى سياسة اميركية بوجوه متعددة وخطاب تضليلي منعدم الرؤية ودعم كاذب لقضية الشعب السوري. وفي أزمتها مع روسيا لمست تركيا أن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي غير معنيين بدعمها، وهو الموقف نفسه الذي أدركته السعودية ودول خليجية أخرى عندما بلورت مع تركيا صيغة مبادرة للمشاركة في محاربة الإرهاب، اذ فضّلت واشنطن التعاون مع ميليشيا كردية ومجموعات مسلحة متفرقة رغم علمها بأنها تثير مخاوف تركية بعبثها بالورقة الكردية وبأنها تطلق رسائل خاطئة في ما يتعلّق بالحرب على تنظيم «داعش».
اتسم اللقاء الأول، بعد القطيعة، بين وزيري الخارجية الروسي والتركي، باستعداد للتعاون في سورية، وبأنهما لا يختلفان حول تعريف الإرهاب. كيف ذلك وموسكو انفتحت على الأكراد وتنسّق معهم، فيما تسمّي أنقرة الإرهاب «بي كي كي» (حزب العمال الكردستاني) أولاً، ثم فرعه السوري «بي يي دي» (حزب الاتحاد الديموقراطي) ثم «داعش». فالأخير لا يهدد الكيان التركي ومصيره الى الزوال مهما طالت الحرب عليه، أما الخطر الكردي فيمثّل الخطر كل الخطر لتركيا، وبات مقلقاً لطهران مع بروز بنيته العسكرية في المناطق الكردية وذهاب إيران في مواجهاتها مع «البيشمركة» المحلية الى حدّ قصف مناطق حدودية في كردستان العراق. أقلّ ما يمكن أن يهدّئ هواجس أنقرة أن تحصل على «ضمانات» روسية لمنع أكراد سورية من إقامة اقليمهم الخاص، وهو ما لم تتمكّن من انتزاعه من اميركا رغم عراقة العلاقة وعمقها بينهما. قد يستجيب الروس، صدقاً أو كذباً، لكنهم سيطلبون ثمناً لذلك.
فجأة، وبلا مقدّمات، أعلنت إيران بلسان المرشد أنها رفضت عروضاً اميركية للتنسيق في شأن سورية، وكانت طهران طمحت دائماً الى تنسيق كهذا لكن بشروطٍ ليس أولها وأهمّها بقاء الأسد في الحكم كما قد يتبادر الى الأذهان، بل ضمان استمرار وجودها المباشر (وعبر «حزب الله» وسائر الميليشيات) لحماية ما تدّعيه من «مصالح». لذلك تفضّل طهران مع موسكو وإنْ كانت تفرض عليها تعايشاً مزعجاً مع الوجود الروسي في سورية. في المقابل، يحاول اردوغان وأركان حكومته فتح تطبيع العلاقة مع روسيا على أفق «حل» للأزمة السورية. ولأن الخيارات التركية محدودة، بسبب الممنوعات الاميركية والروسية، وحتى الإسرائيلية والإيرانية، التي اختبرتها تباعاً، فإن أنقرة قد تكتفي بأي ضمان لكبح الاندفاعات الكردية كي تقول وداعاً لسياسة ظلّ «رحيل الأسد» و «إزالة نظامه» عنوانها المعلن والمبطن. أما العنوان الجديد - «الواقعية» - فباتت تحدّده المصالحة مع الروس والإسرائيليين، المتوافقين على بقاء الأسد ونظامه في انتظار ايجاد بديل منه. لكن التبشير بـ «الحل» مرفقاً باستعداد غير واقعي وغير عملي لتوطين اللاجئين السوريين وتجنيسهم، فيعني أن هذا الحل لا يزال بعيداً.
كثيراً ما لعبت ايران الدور الأبرز في اثارة القلائل في المناطق العربية، من خلال اختلاق الحروب و زرع الميلشيات و دعم الأنظمة الاستبدادية و التحالف مع كافة شياطين الأرض، بغية تدمير الدول العربية، التي لا تربطها معهم إلا حالة تعرف بـ"انتقام حضاري" تم اسباغها السبغة دينية حتى تلقى التبجيل و الحقد اللازمين لضمان الاستمرار بها حتى الرمق الأخير.
و لكن في الوقت ذاته لم نشهد من أي دولة عربية استغلالها لتركيبة ايران التي تهددها بالانهيار و التفتت في صورة تشكل انتقاماً حقيقاً من دولة لم ترع أي شيء إيجابي في المنطقة بل كانت اللاعب الأبرز و الأقذر في خلق بؤر و منظمات إرهابية، ترسل الموت لكل المنطقة باستثنائها.
اليوم ايران تقف على شفا انفجارات قد تكون دفينة من ناحية الظهور الإعلامي، و لكنه فعلية و واقعية ، و تشبه سيلان الحمم الصادر من عدة براكين ،التي تأتي بطيئة بعض الشيء لكنها حارقة و مدمرة.
و لعل أبرز البراكين يأتي البركان "الكردي" الذي عاد للثوران من جديد مع تحسن أوضاع نظرائهم "الأكراد" في العراق الذي باتوا اقليماً مستقلاً شبيه بدولة متكاملة، فيما يقف الأكراد السوريين على أعتاب فيدرالية ، صحيح أنها من النوع الغريب و الغير متوازن أو ضامن الاستمرار، ويشعر ( الأكراد الايرانيون) بنوع من الحسرة فقد كانوا سباقين لنظرائهم و كانوا أول من أعلن دولتهم في "مهباد" عام ١٩٤٦ التي لقيت دعماً روسياً مؤقتاً استمر لقرابة العام إلا شهر ، لتنهار الدولة الكردية الأولى و يعدم رئيسها القاضي محمد، و اليوم النشاط الكردي تصاعد ووصل لحد الاشتباك من جديد بعد سنوات من الهدوء سبقتها قرابة ربع قرن من الحروب في الجبال الفاصلة بين ايران و العراق، انتهت حينها بنصر إيراني وأدت خلاله الحلم الكردي بالعودة للظهور مجدداً.
التقارير و التصريحات و القصف الذي بدأته ايران في الأسابيع القليلة الماضية، ينذر بأن الامور التي تجري على تلك الساحة غاية في الخطورة ، ووصلت حد لا مكان لاثنين، فإما نظام الملالي ينتصر و يواصل خنق كافة المكونات ، إما ينجح الاكراد في تكرار التجربة الأصل، حيث يقال أنها المنطقة التي ينتمي إليها أكراد المنطقة و شردوا منها بفعل الشاه و من ثم نظام الملالي.
أما البركان الثاني الذي لا يقل أهمية عن ذلك "الكردي"، فهم العرب الأحوازيون الذين لازالوا يدينون لعروبتهم و اسلامهم السني في غالبيتهم، و يعانون من الاضطهاد ما يفوق الشرح أو الوصف، و ظهور نضالهم المسلح للسطح منذ فترة عبرة جيش العدل، يدل على أنهم قرروا المواجهة .
بالإضافة إلى ذلك كله ، يوجد داخل المجتمع الفارسي الايراني وحتى الشيعي حالة من التملل و إضافة لظهور أجيال حالية ، والتي تشكل نسبة عالية من الشعب الايراني تعتبر أجيال ما بعد الثورة ، فهي لم تعاصر الشاه لتبغضه ، و لم ترى من الملالي إلا القمع و الاستبداد، و هي قنبلة بدأت بالظهور وتهديد أمن و سيطرة ، و ما حدث في أصفهان قبل أيام و خروجهم في مظاهرة رفضاً للتدخل الايراني في سوريا، ليس حالة عابرة ، إذ حالة التفلت الخلقي و عدم الانضباط داخل شوارع ايران التي غاب عنها اللباس المحافظ و بات نادراً بعد تأثر الجيل الجديد بالثقافات الغربية التي كشفت زيف الأحاديث التي يخوض بها المراجع الشيعية الهادفة لإخضاع العقول لمندوب "الله " على الأرض.
ففي ظل هكذا ظروف يقف العرب اكثر المتضررين من النشاط الايراني المؤذي و المضر و الذي وصل في سوريا و العراق إلى حد الإبادة و الاحتلال، يقف العرب متفرجين و مكتفين بتصريحات لا تغن و لا تسمن من جوع، رغم يقينهم التام أن ايران لن تهدأ أو تكف عن أفعالها الإرهابية ، مالم تنشغل بمشاكلها الداخلية.
و يبقى السؤال يبقى العرب متفرجين ، منتظرين هلاكهم !؟
اكثر من عشرة ملايين يناضلون من اجل حكم ذاتي كردي منذ عقود طويلة
وكانت لهم دولتهم جمهورية مهاباد الديموقراطية عام 1946 وكانت مدعومة سوفياتيا وتم افشالها بعد 11 شهراً واعدام القاضي محمد.
الان
نشاط مسلح كردي يتصاعد وصل حد الاشتباك و القصف العابر للعراق
حركة تحرير الاحواز العربية التي خرج منها جيش العدل و حركة التحرير الوطني الاحوازي
والمظاهرات التي
تململ داخل الطائفة و مظاهرات اصفهان في يوم القدس ضد تورط الملالي في سوريا
الذين يتحدثون عن قرب هزيمة "داعش" عليهم أن يعيدوا حساباتهم لأن التنظيم الإرهابي كثّف في الأسابيع الأخيرة من عملياته الإنتحارية العابرة للحدود، في سياق تصاعدي يمكن إعتباره حرباً خارجية تضرب بطريقة متتابعة في أكثر من جبهة وبلد، لهذا يمكن القول ان "داعش" بدأ حربه العالمية.
من منطقة الرقبان على الحدود الأردنية الى بلدة القاع اللبنانية، الى مطار أتاتورك في اسطنبول، الى دكا في بنغلادش، الى منطقة الكرادة في العراق، ثم الى القطيف حيث نجا مسجد شيعي من كارثة، فجدة حيث نجت القنصلية الأميركية، فالمدينة المنورة التي نجت ايضاً من مذبحة بربرية لو تمكن الإنتحاريون من الوصول الى حشود المصلين في هذه الأيام المباركة عشية عيد الفطر.
في القاع كان التتابع في الإنتحاريين وفي السعودية كان في العمليات، وكما تمكنت القاع من إحباط الدواعش تمكن رجال الأمن في السعودية من إحباط خطط الإنتحاريين، لكن هذا لا يحجب مدى إرتفاع نسبة الخطر والإجرام التي وصلت اليها عمليات "داعش"، الذي يبدو أنه قادر على الضرب في عشرات الدول من الولايات المتحدة الى بنغلادش مروراً بالدول الأوروبية وصولاً الى دول المنطقة، وهو ما يطرح السؤال هل إقتربت نهاية "داعش"؟
السؤآل الأهم : ماذ سيفعل اولئك الذين إستولدوا "داعش"، من مذهبية المالكي في الأنبار قبل إنسحاب الأميركيين وبعده، الى كيميائيات الأسد في الغوطتين، وماذا سيفعل الذين رعوا "داعش" وحضنوه ودربوا رجاله وسلّحوهم ثم هرّبوهم الى سوريا والعراق عبر حسابات السلطنة الأردوغانية؟
وماذا أيضاً سيفعل الذين تفرجوا طويلاً على الوحش ينمو ويكبر، سواء عبر الإستمتاع الأوبامي بفخار إسلامي يكسّر بعضه بعضاً بين سنة وشيعة، وسواء عبر الإصرار البوتيني على حماية النظام السوري والبطش بالمعارضة، بما سيعطي الداعشية مسوّغات سياسية تساعد شركة أردوغان للسفريات الإسلامية على إستقدام المزيد من الإنتحاريين، لتسرّ واشنطن وموسكو وتل ابيب وقد تحولت سوريا مصيدة دولية للإرهابيين؟
لم يكن أحد يتصوّر ان "داعش" سينصب المصائد الدموية من أورلاندو الى دكا ومن سرت الى تونس مروراً بباريس وبروكسيل وصولاً الى ذقن اردوغان، الذي يتحدث الآن عن التعاون مع روسيا لمحاربة "داعش" بعدما تحدث سابقاً عن تعاون مع أميركا للغرض عينه!
ولم يكن أحد يظن ان إنشاء تحالف دولي من ٦٤ دولة بقيادة أميركا سيكون ضحكاً على الذقون، بدليل ان "داعش" الذي زعموا أنهم يشنّون عليه حرباً دولية، هو الذي يشن عليهم هذه الحرب الإرهابية الدولية، التي طالما إستهدفت السعودية وقد سبق لها ان إنتصرت فيها، والتي تستهدف روح الإسلام عبر الجريمة المدوية حتى في المدينة المنورة... لهذا يبقى السؤال: من ينتصر العالم أم أبو بكر البغدادي؟