لم يحتَجْ الجيش السوري إلى إذنٍ من الولايات المتحدة قبل البدء بالمعارك التي خاضها، على مر السنوات السابقة، من أجل إعادة فرض سيطرته على المدن التي كانت تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة، أو حتى تنظيم داعش الإرهابي. لكن، هذه المرّة، مع معركة إدلب، المحتملة، ومع معركة درعا التي سبقتها، قبل أشهر، أطلَّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ليُدلي بما يشبه الإذن لهذا الجيش من أجل البدء بعملياته العسكرية. كما تَبِعَ إطلالتَه صدور كلامٍ من مسؤولين أميركيين آخرين تندرج ضمن السياق ذاته. وكان اللافت، هذه الأيام، كلام ترامب عن أن الهجوم على إدلب يجب ألا يكون متهوّراً، ما يشبه التسليم بالهجوم المتوقع.
وكان ترامب قد قال، في تصريحه الذي حملته تغريدته على موقع تويتر، في 4 سبتمبر/ أيلول الجاري: "لا يجب على الرئيس السوري بشّار الأسد مهاجمة محافظة إدلب بتهور"، بمعنى ألا يستخدم في الهجوم الأسلحة المحرّمة دولياً، ما قد يُحرج الإدارة الأميركية. وهي مفارقةٌ، حيث إنه لم يصرِّح بما يدلّ على رفضه الهجوم، كما اعتاد أن يفعل. ولم يدلِ ترامب بهذا التصريح حين كان الجيش السوري يُعزِّز قواته على حدود المحافظة. وهي حشودٌ، يرى غير المختص، في ضخامتها وعديدها ملامح معركةٍ كبيرةٍ على وشك الوقوع، لكنه انتظر حتى بات الاستعداد تامّاً للبدء بالهجوم، فأطلق تصريحه ذاك، ربما ليوقف الشكوك لدى طرفي المعارضة والنظام، بشأن موقف إدارته منه، إذ يشكل غياب موقفٍ كهذا إرباكا لكليهما.
ولكن، ما الذي طرأ حتى يُطلق ترامب تصريحاتٍ على هذه الشاكلة؟ بل لماذا أتبعه رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية بالتوصية بتنفيذ عملياتٍ محدّدة، وعلى نطاق ضيقٍ ضد المتشدّدين في إدلب، لأن عملية عسكرية كبيرة ستؤدي إلى كارثة إنسانية، حسب قوله؟ إلا أن الاستغراب يزداد مع التصريح الأكثر إثارة، على لسان مندوبة واشنطن في مجلس الأمن، نيكي هيلي، في مؤتمر صحافي عقدته في الأمم المتحدة في اليوم نفسه. إذ بعد التوطئة بالكلام عن الإرهاب في سورية، قالت إن بإمكان قوات النظام المضي للسيطرة على كامل الأراضي السورية، شريطة عدم استخدامها السلاح الكيماوي.
وتعيد هذه التصريحات إلى الذاكرة تصريحات الإدارة الأميركية، وترامب نفسه، بشأن معركة درعا والجنوب السوري، وطريقة تعاطيهم معها التي لا تشبه طريقة تعاطيه مع معركة إدلب المحتملة. فبالنسبة إلى معركة درعا، بدايةً، حذَّرت الخارجية الأميركية في بيان لها، في 14 يونيو/ حزيران الماضي، النظام من القيام بعملية عسكرية تخرق الاتفاق الثلاثي الروسي الأميركي الأردني، الخاص بوقف إطلاق النار في المنطقة الجنوبية، وتوعَّدت بعواقب وخيمة. لكن، فيما بعد، امتنعت الخارجية عن إضافة أي معلوماتٍ إلى بيانها ذاك، أو أي تفصيلٍ بشأن نوعية الرد. ثم بعد أيام، أعرب ترامب عن قلقه حيال العمليات في المنطقة، محذِّراً من الدور الإيراني في سورية. وتزامنت تلك التحذيرات مع حشود الجيش السوري، وتتالت حين كان هذا الجيش يُحكم سيطرته على المنطقة، ويُجري المصالحات المعتادة.
يرى كثيرون أن هذا النوع من التصريحات والتحذيرات ليس سوى تخلٍّ رسميٍّ عن المعارضة السورية المسلحة، وعن المعارضة السياسية معاً، وهو ما كان أعضاء بارزون في هذه المعارضة يستنتجونه، ويلفتون النظر إليه، بعد كل معركةٍ يربحها الجيش السوري. وتأتي تلك التصريحات المتضاربة بعدما ثبت إيقاف واشنطن دعمها العسكري لعدد من الفصائل السورية، بداية هذا السنة، خصوصاً في الجنوب السوري. وربما يكون كلام نيكي هيلي عن الإرهاب في سورية تعبيراً عن عدم قدرة واشنطن على تطويع فصائل سورية معارضة والتحكّم بها، كذلك بسبب حاجة حليفتها، إسرائيل، إلى نظامٍ قويٍّ ينهي حالة الفلتان في البلاد، ويبعد إيران عن المنطقة.
ترافقت حشود الجيش السوري على تخوم إدلب بمساعٍ روسيةٍ من أجل عقد "مصالحاتٍ" تُجَنِّب المدينة معركة كبيرة لا يعرف أحدٌ عواقبها أو ارتداداتها، خصوصاً مع تمركز فصائل سورية كثيرة قصدت إدلب وتمركزت فيها، بعد مصالحاتٍ جرت في مدن سوريةٍ كثيرة، حتى باتت هذه المدينة المعقل الأكثر كثافة بالمقاتلين والنازحين في سورية. كما إنها تعدّ المعقل الأخير للمعارضة السورية، والتي قال عنها قائد هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي، إنها ستكون منطلقاً لـ "تحرير كامل سورية"، من دون معرفة القدرة الفعلية على تنفيذ أجندةٍ من هذا النوع. وإدلب التي إن تلقت ضرباتٍ من الجيش السوري فستكون الكثافة السكانية فيها سبباً في سقوط آلاف الضحايا، بل كان ترامب أكثر تشاؤما، حين تحدّث، في تغريدته تلك، عن عشرات الآلاف، فما بالك بهجوم واسع النطاق؟
طبعاً، ليست مسألة سقوط الضحايا في الحروب والمعارك، وخصوصاً معركة إدلب المحتملة، من أولويات ترامب، أو حتى مما يقلقه، ويبعد النوم عن عينيه. كما لا تقلقه عودة النظام السوري إلى فرض سيطرته على كامل أراضي البلاد. ما يقلقه هو تجذّر إيران في سورية التي تساعدها المعارك على تعزيز هذا التجذّر وتكريسه، وتشكيل وجودها في سورية تهديداً للكيان الإسرائيلي. لذلك من المحتمل أن تكون تغريدتُه بمثابة غضّ النظر عن معركة إدلب، إن لم تنجح القمة الثلاثية الروسية التركية الإيرانية في تجنيب المدينة إيّاها، وإدخالها في عملية المصالحات التي سبقتها إليها مدن ومناطق سورية أخرى.
الخامس من سبتمبر سنة ٦٣٥م كان يوما فارقا في تاريخ الإسلام وتاريخ الشام تحديدا، كان صاحبنا يتحرك في هذا اليوم دون تعب أو ملل في كل الاتجاهات يبحث عن ثغرة تمكنه من النصر وفتح درة الشام وتاجها، لم يكن ينام ولا يسمح لأحد بالنوم حتى يجد الثغرة ويبتكر الوسيلة ويحقق الغاية. ولأن النفوس العظيمة والهمم العالية تعرف طريقها جيدا، فقد تحقق له ما أراد بعون الله، ووجد الثغرة التي ينتظرها، والعجيب أن هذه الثغرة التي كانت السبب في النصر على الأعداء وقتها هي نفسها ثغرتنا التي نؤتى من قبلها اليوم من نفس العدو!
كان بطلنا خالد بن الوليد يحاصر دمشق من بابها الشرقي بعد أن استعصى على جيوش المسلمين فتحها فأضرموا الحصار حولها حتى يستسلم جيش الروم المرابط داخلها بقيادة توماس زوج ابنة الإمبراطور هرقل، والذي رفض الاستسلام للجيش الإسلامي معتمدا على تحصينات المدينة العالية والقوية والتي يصعب اختراقها ومنتظرا التعزيزات التي سيبعثها إليه إمبراطور الروم من حمص لتحاصر جيش المسلمين من الخلف ويقع الجيش الإسلامي في مصيدة الروم من الأمام برماة الرومان المتحصنين بالمدينة وأسوارها الشاهقة ومن الخلف بالجيش القادم من حمص.
وفهم سيدنا أبو عبيدة بن الجرّاح قائد الجيش الخطة التي يحيكها الروم فأمر بتحريك لواءات من الجيش لانتظار التعزيزات الرومية القادمة من حمص بعيدا عن دمشق وأسوارها، وفعلا وقعت معركة كبيرة بين الطرفين انتهت بانتصار المسلمين وتراجع الجيش الروماني أو من تبقى منه إلى حمص مرة أخرى. لكنّ دمشق لا تزال مستعصية على الفتح الإسلامي، ولا يزال قائدها تومس يناوش المسلين المحاصرين للمدينة بين الحين والآخر بالسهام والنبال ويخرج مع فرسانه مرة تلو الأخرى من أبواب دمشق ليشتبك مع الجيش الإسلامي وتقع معارك طويلة بينهما ينتصر فيها المسلمون ويعود الجيش الروماني أدراجه إلى داخل المدينة ويغلق أبوابها من جديد في وجه الجيش المسلم.
لكن خالد لا يهدئ ولا ينام وجعل عيونه ورجاله يستطلعون ما يحدث داخل المدينة يجمع منهم المعلومات ويحللها ويحدد بناءا عليها التوقيت المناسب للهجوم واختراق تحصينات المدينة، حتى جاءته المعلومة المنتظرة والثغرة التي يؤتي الجميع من قبلها "الغفلة واللهو" بلغه أن حامية دمشق مشغولة في حفل عند بطريرك المدينة الذي رزق بمولود جديد؛ فدعا الجميع إلى الاحتفال بتلك المناسبة، فأفرطوا في الشراب والسكر والعربدة وتخلى كثير منهم عن مواقعهم على الأسوار.
الإيمان المستعلي والحماسة المتقدة والتضحية بكل شيء في سبيل الله، هو وحده عربون النصر وحافظ بنيان هذه الأمة، فكم فينا من رجل لا ينام ولا ينيّم حتّى نعلي كلمة الحق والدين؟
وهنا اقتنص بطلنا الفرصة التي استعد لها من قبل فجهز السلالم والحبال وارتقى ورجاله إلى أعلى الأسوار في ظلمة الليل البهيم حتى نجحوا في الدخول الى المدينة بعد تسلق اسوارها وفتحوا باباها وارتفعت التكبيرات تشق سكون الليل وتبعث الحماسة في الجيش المسلم من جديد فينقض على المدينة ويشتبك مع حاميتها الغافلة اللاهية عن مهامها ويحقق النصر عليها وتفتح دمشق عروس الشام وتاجها في الخامس من سبتمبر سنة ٦٣٥م الموافق 16 من رجب 14 هـ.
دمشق التي يسكنها الآن جزّار سوريا بشّار الأسد وتعيث فيها ميليشيات الشيعة فسادا ومحوا لمعالمها الحضارية وتاريخها العريق ويتحول حاميها الى عبد ذليل لدى الرومان الجدد من الروس وغيرهم، هي خير شاهد على أن الثغرة التي فتحتها هي ذاتها الثغرة التي أسقطتها وجعلتها مرتع ومسكن للشيطان وأبالسة البشر.
دروس فتح دمشق لا تتوقف على هذه الثغرة التي أوتينا من قبلها، فسيدنا أبو عبيدة بن الجرّاح في بداية الفتح واجهته مقاومة شرسة من جيوش الروم قبل أن يصل إلى دمشق رغم أن السادة عكرمة بن أبي جهل ويزيد بن معاوية وعمرو بن العاص كانوا على رؤوس جيوشهم كذلك واختاروا أبو عبيدة أمير للجيوش الأربعة مجتمعة، ولمّا لم تكن القيادة والزعامة مطلب لذاتها فإن أبو عبيدة بعث في طلب خالد بن الوليد من العراق ليقود هو الجيوش ويحققون معه النصر.
وجاء خالد واستقر بجنوده على ضفة اليرموك نحو شهر ولم يتعرض لهم الرومان، لكن سيدنا أبوبكر رضي الله عنه انتقل إلى جوار ربه وجاء الفاروق عمر فكان أوّل ما أمر به هو عزل خالد وتعيين أبو عبيدة قائدا للجيوش مخافة أن يفتتن الناس بخالد بعد أن شاعت انتصاراته وبطولاته على ألسنة الناس. لكنّ أبو عبيدة حين جاءه خبر عزل خالد كتمه حتى لا يتسبب في ارتباك القيادة مع اقترابهم من معركة كبيرة وهي اليرموك والتي حقق فيها الجيش انتصارا عظيما على الروم، وحينما علم خالد بنبأ عزله لم يتأثّر أو يغضب فهو سيف الله المسلول وفارس من فرسان الحق لا يهمه أين موقعه مادام يعمل في سبيل رفع راية الإسلام ومادامت الشهادة لا المنصب غايته، واستمر الجيش بالتحرك مواجها الرومان في أكثر من موقعه حتّى وصلوا إلى ما بدئنا به قصتنا وهو حصار دمشق وفتحها على يد هذه الثلّة المؤمنة التي اختارت أن تعيش لدينها وأمّتها لا لنفسها وعالمها الخاص.
كانوا يحققون الانتصارات ويقوّضون الحصون بإيمان تشربت به قلوبهم، وتجرّد عمرت به أفئدتهم وقوة في الحق لا تلين ولا تستكين. إنّ هذه السمات هي أكثر ما نحتاجها اليوم لتحرير دمشق وسوريا وكل بلاد الإسلام من الرومان الجدد وأذنابهم، إنّ هذا الإيمان المستعلي والحماسة المتقدة والتضحية بكل شيء في سبيل الله، هو وحده عربون النصر وحافظ بنيان هذه الأمة، فكم فينا من رجل لا ينام ولا ينيّم حتّى نعلي كلمة الحق والدين؟
شارك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمس في القمة الثلاثية، التي اتجهت إليها أنظار العالم، وانعقدت في طهران بخصوص إدلب.
قبيل انعقاد القمة على مستوى الوفود، اجتمع أردوغان على انفراد بنظيريه الإيراني حسن روحاني أولًا، ثم الروسي فلاديمير بوتين.
يبدو من التصريحات الصادرة عقب القمة أن روسيا وإيران مستمرتان في تحفظاتهما "المعروفة" بخصوص النظام السوري.
موقف كلا البلدين بشأن إدلب يتمحور بشكل عام حول توسيع مجال نفوذهما في مواجهة الولايات المتحدة بسوريا.
أما موقف الجانب التركي على طاولة المباحثات فهو يولي الأهمية إلى "الوضع الإنساني" في المدينة التي يقطنها أكثر من 3 ملايين نسمة.
كما أن تركيا، التي تحملت عبء إقامة 12 نقطة مراقبة في إدلب، أظهرت أنها لن تتهرب من أي مسؤولية في سبيل تحقيق السلام الداخلي في سوريا.
***
من الملاحظ بوضوح أن عزم أردوغان في مسألة إدلب خفف جزئيًّا من لهجة تصريحات بوتين وروحاني.
فالزعيمان، وعلى الأخص روحاني، أشارا إلى "حق المدنيين بإدلب في الحياة"، خلال تأكيدهما على التفاوض مع الأسد.
لكن نعلم جميعًا أن التصريحات الرسمية لا تتطابق في معظم الأحيان مع ما يحدث في الميدان. وأعتقد أن قصف روسيا لإدلب قبل القمة كان أوضح مثال على ذلك.
علاوة على ذلك، فإن أخطارًا قريبة من قبيل أحداث إدلب وموجة النزوح الجديدة المحتملة لا تتعلق فقط بموقف البلدان الثلاثة المشاركة في قمة طهران.
ففي سوريا، وعلى الأخص شرقي الفرات، تقف أنشطة الولايات المتحدة، الداعمة علنًا لإرهابيي وحدات حماية الشعب، حجر عثرة أمام حل المشكلة.
وكان جديرًا بالملاحظة في قمة أمس الموقف المتفهم جزئيًّا لإيران إزاء مسألة أمن تركيا، والتحول الديمقراطي في سوريا.
***
أظهرت القمة الثلاثية في طهران مرة أخرى للعالم بأسره أن تركيا تلعب دورًا محوريًّا في مسألة مستقبل سوريا.
وما يقع على عاتق العالم المعاصر من الآن فصاعدًا هو دعم تركيا، التي تمثل القيم الإنسانية المشتركة في المنطقة، من أجل زيادة فعاليتها في سوريا كعنصر توازنن وإلا فإن أكبر تحرك ديموغرافي شهده التاريخ سوف يتزايد على نحو خطير، ويؤثر على أوروبا بأسرها، وبشكل غير مباشر على الولايات المتحدة..
ولن يكون من المفاجئ أن تلجأ تركيا، التي استنفذت قدرتها على استيعاب المهاجرين تمامًا، إلى "بدائل" في مواجهة هذا التحرك.
كان من اللافت للنظر في مظاهرات الشمال السوري الأخيرة، التي نظمت في مواجهة احتمال الحرب على إدلب، أن خص المتظاهرون المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ببعض هتافاتهم، كما خصوه ببعض اللافتات، التي رفعوها، وفي الحالتين اعترضوا على سياساته، كما انتقدوا تصريحاته، لا سيما تصريحه بإمكانية حضوره إلى إدلب لتأمين ما سماه «الممر الإنساني» لإخراج سكان إدلب البالغ عددهم قرابة أربعة ملايين نسمة إلى «منطقة آمنة» قبل اندلاع الحرب التي ينوي نظام الأسد بدعم روسي - إيراني شنها، متجاهلاً ما يقوم به النظام من إرهاب في تعامله مع سكان المناطق الخارجة عن سيطرته من قتل واعتقال، واعتبر بعض المشاركين في مظاهرات إدلب، أن تصريح دي ميستورا، مشاركة غير معلنة في الحرب المحتملة على إدلب، والعمل على إفراغ المنطقة من سكانها، وتشجيع النظام وحلفائه على المضي في حربهم هناك.
وللحق فإن موقف المتظاهرين من المبعوث الدولي في إدلب، لا يمثل سابقة في موقف السوريين منه، إنما هو موقف تكرر كثيراً في السنوات الأربع الماضية، التي أمضاها دي ميستورا حتى الآن في موقعه مبعوثاً للأمم المتحدة في سوريا، بل إن فعاليات سورية سياسية ومدنية وكتاباً سوريين، طالبوا مرات بإقالته، وتعيين بديل له بسبب ما يعتبرونه «خروجاً» عن مهمته كوسيط دولي، وانحيازه إلى جانب نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين في الصراع السوري.
وبطبيعة الحال، فإن عمومية موقف السوريين من دي ميستورا، تستند إلى تفاصيل في مسار الرجل وتعامله مع القضية السورية، لا سيما في الملفات الرئيسية فيها. وإذا كانت العملية السياسية، هي الأهم في الملفات، فإن دي ميستورا، لم يحقق أي تقدم فيها منذ توليه مهمته في يوليو (تموز) 2014، بل ساهم في تراجع الإجماع الدولي على مسار جنيف وأساسه بيان جنيف لعام 2012 وما لحقه من قرارات دولية. وتجاوز ما سبق إلى طرح مبادرات غير ذات جدوى، كما في مبادرته حول الهدنة في حلب عام 2014، التي أدت إلى ارتباكات في صفوف المعارضة، وزاد عليها لاحقاً تحوله إلى مسايرة النظام ومحاباة الموقف الروسي بعد تدخل موسكو العسكري في سوريا أواخر عام 2015، ودعمه سياسة روسيا، سواء في مسار آستانة أو في مؤتمر سوتشي اللذين يعكسان مساراً مختلفاً عن مسار جنيف، وقد تبنى في واحدة من خطواته المطلب الروسي في موضوع دستور سوري جديد، مما يقزم القضية السورية بعد ثماني سنوات من حرب كلفت السوريين مليون قتيل وملايين الجرحى والمصابين، وأكثر من ستة ملايين لاجئ موزعين في العالم.
ويأخذ السوريون على دي ميستورا وفريقه إهماله لقضية المعتقلين والمختفين قسراً في سجون النظام، وقد قتل منهم أكثر من عشرين ألفاً تحت التعذيب، وامتناعه عن إدانة استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي ضد المدنيين لأكثر من مائتي مرة، حسب ما أوردته تقارير سورية، وأثبتت كثيراً منها تقارير دولية موثقة، وكله يضاف إلى مشاركة فريق دي ميستورا بمفاوضات تحت القوة والحصار، أدت إلى ترحيل قسري لمدنيين سوريين من أماكن سكناهم، كما حدث في مفاوضات تبادل سكان الزبداني وكفريا والفوعة عام 2015 بما تعنيه من تغيير ديموغرافي، يصفه القانون الدولي بـ«الجريمة».
وثمة نقطة أخرى تتعلق بموقف دي ميستورا من المعارضة السورية، وهي الطرف الموازي للنظام في المفاوضات حول الحل السوري، وتركز جهد المبعوث الدولي في هذه النقطة على إضعاف دور المعارضة، ليس فقط عبر إضعاف دور كيانها الرئيسي ممثلاً بالائتلاف السوري الحائز اعترافاً دولياً واسعاً، بل في السعي إلى خلق أطر أخرى من قوى مصطنعة، كما حال منصة موسكو، التي صنعتها روسيا، وأخرى موالية لنظام الأسد، وقد تجاوز الأمر ذلك للسعي نحو توليد كيانات تمثل المجتمع المدني لإشراكها في مفاوضات مع النظام، كان من الواضح أنها لن تُعقَد، الأمر الذي كان يعني تشتيت المعارضة واستنزافها في موضوعات غير ذات جدوى ولا فائدة منها.
ويتبادل السوريون معلومات حول فريق دي ميستورا المعاون من العرب والأجانب وثيقي الصلة والارتباط المباشر وغير المباشر بنظام الأسد وحلفائه الروس، ويقارنون بين سياسة الرجل، التي يصفونها بأنها «إدارة للأزمة»، وسياسة سابقيه من مبعوثي الأمم المتحدة إلى سوريا كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي على التوالي، وكان همهما معالجة القضية السورية، وعندما عجزا، بادرا إلى إنهاء مهمتهما، فيما يصر دي ميستورا على الاستمرار في مهمته، رغم مطالبات سورية له بالاستقالة، وللأمين العام بإقالته، وهذا ما تضمنه بيان أصدرته مجموعة من منظمات المجتمع المدني في سوريا، وطالب به الكثير من الكتاب والسياسيين السوريين، بعد تصريحات دي ميستورا الأخيرة حول الحرب المحتملة على إدلب.
ويستعيد السوريون في هذه الأيام، تصريح الأمين العام للأمم المتحدة السابق بان كي مون عشية تعيين ستيفان دي ميستورا لمهمة المبعوث الخاص وقوله إن «المبعوث الخاص سيوظف نواياه الحسنة من أجل وضع نهاية للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا والدفع باتجاه التوصل إلى حل سلمي للأزمة السورية»، ويؤكدون أن مسيرة الرجل في سنواته الأربع السابقة، لم تتطابق مع ما كلف لإنجازه.
من المؤكد أن السياسة الأمريكية تتعامل مع روسيا في سوريا على أسس استراتيجية، ومنها أن روسيا عدو استراتيجي أولاً، والعلاقة بين الأعداء هي إلحاق الهزيمة بالعدو في الفرصة السانحة لذلك، ولو أدت إلى الحرب بينهما، ولكن التجربة تقول، من أيام الحرب الباردة، إن هزيمة الاتحاد السوفييتي تمت خارج الأراضي الروسية، وان ذلك تم باستغلال أخطاء الاتحاد السوفييتي باحتلال أفغانستان، فكانت هزيمته في أهم ميادينها في استنزاف الهيبة السوفيتية الروسية في حرب أفغانستان في نحو ثماني سنوات، حتى اضطرت القيادة الروسية إعلان الانسحاب من أفغانستان.
وكما استغلت أمريكا ودول الغرب هزيمة الاتحاد السوفييتي خارج أراضيه، فقد استثمرت أعداء الاتحاد السوفييتي المعادي للأديان بمحاربته بأيد مؤمنة، وأسلحة أمريكية تعتمد على النوعية والتطور العلمي، فعجز الاتحاد السوفييتي عن الانتصار عليها، وكان في استنزافه لثماني سنوات في أفغانستان ضمانة لهزيمته في النهاية.
هذه الاستراتيجية الأمريكية عادت روسيا لتقع فيها مرة ثانية في سوريا، فقد بقي وزير الخارجية الأمريكية الأسبق جون كيري سنوات وهو يحث روسيا على التدخل العسكري في سوري للهدف نفسه، وهو استنزاف روسيا الاتحادية وهزيمتها في سوريا، وربما استخدمت أمريكا ضغوطها على القيادة الإيرانية في مباحثات النووي قبل توقيعه في يوليو/تموز 2015 لإغراء الروس بالتدخل العسكري في سوريا، بحجة أنه لن يطول تدخلها العسكري الجوي أكثر من ثلاثة أشهر، ثم يتولى الجيش الإيراني الرسمي، وليس المليشيات الايرانية فقط بالسيطرة على الأرض وإنهاء الثورة، وبالأخص ان إيران كانت في تلك اللحظة قد فشلت بكل إمكانياتها وميليشياتها في تصفية الثورة السورية قبل بدء التدخل الروسي، وكانت ايران بحاجة لمن يخرجها من هذا المأزق في سوريا أيضاً، فالتقت المصلحة الأمريكية والإيرانية على توريط روسيا بوتين في سوريا، ولكن بدون تمكين بوتين من النجاح في تحقيق أهدافه، وهذا ما حصل حتى الآن، فبعد ثلاث سنوات كاملة وليس ثلاثة أشهر تجد روسيا نفسها غارقة في أزمة سوريا، وانها لا تستطيع الانسحاب في هذا الوضع السيئ، وأنها عاجزة عن إيجاد حل سياسي، مهما انتقمت وقتلت ودمرت فيها.
وروسيا لم تأت لكي تدخل في حرب لا نهاية لها، ولذلك تمارس اليوم كل انواع ضغوطها وجنونها وجرائمها ومجازرها لإنهاء مشاهد الثورة السورية، وادعاء نهايتها وانتصارها وتحقيق أهدافها فيها، وإلا فإنها سوف تنهزم داخل روسيا وأمام شعبها أولاً، وداخل سوريا وأمام العرب والمسلمين ثانياً، وأمام أمريكا والغرب والعالم ثالثاً، وهذا ما يرهق التفكير الروسي اليوم، ويجعله في حالة اضطراب حتى لو دمر سوريا كاملة، إن استطاع ذلك، وهو يعلم أن لكل إجرام ثمنا، ولكن ما الحيلة وهو في أزمة أكبر من أزمته في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.
أمريكا هي من خطط سياسيا وعسكريا لذلك، وقد استطاعت أن تجعل روسيا بوتين العدو الأول للعالم الإسلامي، بعد أن تربعت امريكا على هذا المقعد بعد حروبها في أفغانستان 2001 واحتلال العراق 2003، فأمريكا نجحت أولاً في وضع دولة روسيا الاتحادية على رأس قائمة الدول الكبرى التي تمارس القتل الجماعي وترتكب المجازر، ومع ذلك لا تزال أمريكا تشجع روسيا بوتين على اقتحام إدلب، والكرملين يقع في أخطائه التاريخية ضد المسلمين بتصوير الغرب أمام الشعب الروسي بانه يعرقل جهوده للقضاء على الارهاب في سوريا، فالكرملين ليس أمامه خيار آخر، إما أن يتورط بدماء المسلمين أكثر في سوريا أو يعلن هزيمته، ومحاولته في الاعتماد على إيران وتركيا في تخفيف هزيمته وإخراجها بصورة انتصار لن تنجح، بل دعوته لمؤتمر قمة رباعي تجمعه مع القيادة التركية والفرنسية والألمانية في اسطنبول لن تنجح أيضاً، فأمريكا لم تدعه إلى سوريا حتى يخرج بطلاً عالمياً، او حتى تصبح روسيا بوتين هي الدولة الأولى في العالم، وإنما دعته ليدخل المصيدة التي لا تسمح له بالخروج منها إلا مستسلما، ولكن ذلك لن يتحقق حتى يقوم بوتين بتحقيق أكبر وأكثر أهداف أمريكا وإسرائيل في سوريا، وهي تدمير الثورة السورية وتشتيتها أولاً، وتدمير مقومات الدولة السورية ثانياً، بدليل أن ترامب يهدد بالتعبير عن غضبه إذا قامت روسيا بارتكاب مجازر في إدلب، فهو يعرب عن غضبه لا أكثر، وهذه دعوة صريحة لبوتين كي يُغضب ترامب، فترامب لا يهدد روسيا بشيء غير الغضب لو قتلت عشرات الألوف من السوريين في إدلب، بشرط عدم استعمال السلاح الكيماوي، وقد قتلت روسيا عشرات الآلاف في سوريا ولم تغضب أمريكا منها من قبل، ولكن الاستراتيجية الأمريكية في سوريا هي عدم إنهاء الأزمة فيها لسنوات مقبلة وعقود أيضاً، وبناء أمريكا لأكثر من عشرين قاعدة عسكرية كبرى في شمال شرق سوريا شرق الفرات دليل على ذلك، فحتى لو تمكنت روسيا من إنهاء معركة إدلب لصالحها فلن تستطيع روسيا ادعاء نهاية الصراع في سوريا، والقواعد العسكرية الأمريكية تحتل أكثر من ثلث سوريا، وهي أغنى الأراضي السورية نفطاً وزراعة واقتصاداً.
لقد استطاعت أمريكا إيجاد مبررات تواجدها العسكري الكبير في سوريا، باستغلال التواجد الروسي فيها، وباستغلال ذريعة الحرب على الإرهاب باسم التحالف الدولي الستيني، وباستغلال ادعاء دعمها لحقوق الأكراد، وهي تدعم أحزاباً كردية إرهابية ولا تدعم الشعب الكردي، وهذه الأحزاب تقدم خدمات لوجستية لها على الأرض، مثل حراسة قواعدها العسكرية والانتشار العسكري في المدن السورية ومنع دخولها من ميليشيات أخرى، سواء من «داعش» او من ميليشيات ايران أو ميليشيات بشار أو غيرها، فمنطقة شمال شرق سوريا هي مناطق نفوذ أمريكي، لن تجرؤ روسيا التحرك فيها إطلاقاً، وهذا حجر عثرة أمام الحل الروسي، وحتى لا تفكر روسيا بهذه المنطقة، فإن أمريكا سوف تجعل من إدلب معركة مفتوحة لا نهاية لها، بل إن الأرجح أن تستغل أمريكا حرب روسيا على إدلب لإدخال روسيا في حرب استنزاف حقيقية وخطيرة، فروسيا تعول على الجنود والمليشيات الإيرانية أن تقوم باقتحام إدلب بينما الجيش الروسي سوف يستعمل مقاتلاته الحربية من الجو، وسيجنب جنوده الدخول في حرب عصابات أو ضد مقاومة شعبية.
فإذا وفرت أمريكا بطريقة ما أسلحة نوعية للمقاتلين في إدلب يتمكنون من خلالها إسقاط الطائرات الروسية وغيرها، فإن روسيا سوف تستخدم سفنها الحربية التي أتت بها إلى السواحل السورية لقصف إدلب من البحر، وفي كل الحالات لن تستطيع روسيا أن تحتل إدلب إلا وهي مدمرة، وهذا لا ينفي دخولها في حرب مرهقة مع المقاتلين السوريين داخل إدلب وخارجها، أي أن أمريكا قد لا تسمح لروسيا بالانتصار في إدلب، وبالأخص ان لدى امريكا أراضي واسعة لإمداد المقاتلين في إدلب، ولا يضير أمريكا أن تستمر المعارك في إدلب لسنوات مقبلة، فهذا يرهق روسيا وسوريا فقط، فالأمر في ادلب بخلاف القتال في منطقة جنوب سوريا ودرعا، حيث تخلت أمريكا عن دعمها لهم، لأن ذلك سوف يشعل الجبهة الجنوبية المحاذية لإسرائيل، وهو ما لم توافق عليه الدولة الإسرائيلية، وقد يضيف متاعب للدولة الاردنية، وأمريكا تفضل عدم ارهاقها فيه أولاً، مع عدم وجود رغبة أردنية لتبني معارك كهذه على حدودها أيضاً، وهي في النهاية ستؤثر على الأمن الاسرائيلي، وهو ما لا تراهن عليه أمريكا ولا الحكومة الاسرائيلية.
لا شك بأن في ضرب روسيا لإدلب تحقيقا لبعض الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، فكل إضعاف لمقومات الشعب السوري هو مكسب للمشروع الغربي والصهيوني العالمي والاقليمي، ولكن انتصار روسيا في إدلب سيعني تقوية الدور الروسي والايراني وحزب الله اللبناني في سوريا والمنطقة، وهذا خلاف منطق الأمن الاسرائيلي، بينما سيكون لإنكسار روسيا في إدلب، أو ابتزازها في حرب طويلة الأمد، أو بمواجهتها بمقاومة شعبية قوية حتى بعد تدمير إدلب أو القسم الأكبر منها، فإن ذلك سوف يرهق روسيا في سوريا اكثر من ذي قبل، وامريكا تعول كثيراً على إغراق روسيا في سوريا أكثر، بل إن أمريكا اعلنت منذ أيام أن روسيا غارقة في سوريا، وهو ما اعترض عليه متحدث باسم الكرملين، رافضاً هذا الادعاء الأمريكي، فروسيا تخفي انزعاجها من غرقها في سوريا، ولكن امريكا على يقين بأن روسيا غارقة في سوريا، وتسعى لإغراقها أكثر حتى تطلب حبل النجاة من أمريكا وليس من إيران ولا من تركيا ولا من فرنسا ولا من ألمانيا، فالسيناريو الأرجح لمعركة إدلب ان تستخدمها أمريكا لإغراق روسيا في سوريا أكثر، وعدم تمكينها من تحقيق النصر فيها، وإن كلف ذلك أمريكا تبنيها الدعم المباشر للفصائل المقاتلة، كما حصل في أفغانستان، فالأزمة السورية في الرؤية والاستراتيجية الأمريكية عنوانها هزيمة روسيا بوتين تحديدا، مع السماح لروسيا بتدمير سوريا وقتل شعبها خدمة للمشروع الصهيوني.
حسب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سيشهد عامنا الحالي نهاية الجانب العسكري من الصراع في سورية، وانتفاء الحاجة إلى ما اختلقته الدبلوماسية الروسية بموافقة (أو تغاضي) واشنطن من مسارات بديلة لمسار جنيف، مثل أستانة وسوتشي، وتركيز المجتمع الدولي على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، باعتباره مرجعية لحل سياسي، يتم بمشاركة واشنطن.
وبما أن نص اتفاقيات خفض التصعيد اعتبرها جزءا من هذا الحل الدولي، وقرّر إبقاء مناطقه خارج سيطرة الأسدية إلى أن تبدأ مفاوضات السلام، فإن بقاء منطقة الخفض في الشمال السوري تحت إشراف إدارة حرّة منتخبة من سكانها، وفتح الطرق الدولية الموجودة بإشراف روسي/ تركي، انطلاقا من مواقع محدّدة كمدينة جسر الشغور، يعني موافقة روسيا على عدم عودة مليشيا النظام إلى كل شبر من الأرض السورية، وانتفاء حقها في مهاجمة المناطق المشمولة بالاتفاقيات، لإرضاء الأسد ووليد المعلم الذي أعلن، من موسكو، وصول نظامه إلى المرحلة الأخيرة من تحرير الأرض السورية. وللعلم، لا يقصد المعلم أرض هضبة الجولان السورية المحتلة التي سلمها االأسد الأب لاسرائيل قبل واحد وخمسين عاما، ولم تطلق رصاصة واحدة منها ضد إسرائيل منذ عام 1947، كما قال نتنياهو، في معرض ترحيبه بعودة مليشيا الأسد إلى حدوده، كما لا يقصد ما تحتله روسيا وإيران أو واشنطن من أرض سورية، وإنما تحرير الشمال من فصائل دافع معظمها عن السوريين ضد الإجرام الأسدي.
وكانت روسيا قد مرّرت مسار أستانة بالشراكة مع إيران وتركيا وموافقة ضمنية أميركية، على أن يهتم بالقضايا العسكرية وحدها، وحين تحدّث أحد مسؤوليها عن تحويله إلى مسار سياسي، قاطعته واشنطن، وكرّرت مواقفها من ضرورة احترام مناطق خفض التصعيد خارج النظام، والسماح لها بالاحتفاظ بقدراتها العسكرية وإدارة نفسها بنفسها، حسب نص الاتفاقيات. لكن روسيا التي تعهدت بالمحافظة علي المناطق، ما لبثت أن انقضّت عليها في الغوطة وريف حمص الشمالي ودمشق الجنوبي وسلمتها للأسد، في مخالفةٍ صريحةٍ لتعهدها، ثم تفاهمت مع إسرائيل على دخول مليشيا الأسد إلى حوران، وسط تحذيرات أميركية، سرعان ما تخلت واشنطن عنها بطلبٍ من تل أبيب، ومقابل تعهد روسي بإبعاد إيران مسافة تقارب المائة كيلومتر عن حدود فلسطين، وفتح بازار الوجود العسكري الإيراني في سورية، وموافقة موسكو غير المشروطة على فتح إسرائيل النار عليه، لتقويض ما هو موجود منه فيها.
باختتام الجزء الرئيس من الصراع العسكري، يفترض أنه لن يبقى لمداولات أستانة ما تبحثه، وإن تواصلت اللقاءات الروسية التركية الإيرانية بعض الوقت، بطلب من روسيا التي ربما كان في خططها الاستقواء بالدولتين خلال فترة صراعات الحل المقبلة وتجاذباتها، وخصوصا إذا ما تمسّك البيت الأبيض بما حدّده وزير دفاعه الجنرال ماتيس من أهداف تتصل بتطبيق القرار 2254، أهمها إقامة وضع انتقالي محايد لا يقوده الأسد، سيكون تحقيقه نقيض الحل الذي يكرّس سيطرة موسكو على سورية، من خلال الإبقاء على نظامها الحالي الذي غزا جيشها سورية قبل ثلاثة أعوام لإنقاذه، بينما أعلن بشار الأسد، في المقابل، قبوله استمرار الاحتلال البوتيني الأراضي السورية إلى فترة غير محدّدة!
بتطبيق القرار 2254، لن يبقى هناك من مبرّر لالتفاف روسيا على القرارات الدولية عوض تطبيقها، وسترى موسكو أن حلّها العسكري سيضعها أمام تعقيداتٍ لن يكون في وسعها تخطّيها بمفردها، كإعادة إعمار ما دمرته، وعودة من هجرتهم إلى ديارهم، والتمسّك بالأسدية، وفرض نفسها قوة احتلال يرفضها السوريون. عندئذ، ستدرك موسكو مرغمةً أن ما حققته بالحرب كان الجزء السهل من "مهمتها" السورية، وأن تحدّيات السلام هي العقبة الحقيقية التي ستحول بينها وبين جني ثمار عدوانها الأحمق على سورية وشعبها!
لم يُكتب مصير إدلب يوم 7 سبتمبر 2018 مع انعقاد القمة الروسية- الإيرانية- التركية في طهران وجلسة مجلس الأمن الدولي لمتابعة الوضع في هذا الجزء من الشمال السوري، بل إن تطور مسار الحروب السورية منذ التدخل الروسي قبل ثلاثة أعوام، وميزان القوى الدولي والإقليمي، كانا يقودان نحو نتيجة لمصلحة المعسكر الداعم للنظام. لكن معركة إدلب لن تكون الأخيرة في حقبة تصفية الحروب السورية بل إن مصير المناطق التي تتواجد فيها قوات أميركية في شمال وشرق الفرات سيكون محور تجاذبات حساسة وأبرزها اختبار قوة بين موسكو وواشنطن.
ولذا فإن الفصل الجديد الذي سيدور في إدلب وجوارها يندرج في سياق رقصة الموت المتنقلة على الركام السوري منذ 2011، وسيزيد من انطباع المنظومة الحاكمة بتحقيق النصر الحاسم واستمرار بقائها إلى الأبد، لكن الانتصار في معركة السلام هو مسألة أخرى. أما مستقبل سوريا فيبقى مرهوناً بمسار إعادة تركيب الإقليم وعدم انتهاء الوظيفة الجيوسياسية للحروب السورية.
قبل قمة طهران وجلسة نيويورك، كانت كل الدلائل تشير إلى بدء العد العكسي لهجوم في جنوب وغرب إدلب، أو لترتيب روسي- تركي توافق عليه إيران، خاصة بعد إعلان أنقرة إدراج هيئة تحرير الشام على لائحة المنظمات الإرهابية.
ومع النجاحات في حسم معارك الغوطة والجنوب خلال هذا العام، بدأت روسيا في الاستعداد لما تعتبره المنازلة الأخيرة ضد آخر معاقل القوات المناهضة لبشار الأسد، ولهذه الغاية أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتجميع أكبر حشود جوية وبحرية قتالية تنشرها روسيا من أجل عملية واحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ويشكل ذلك رسالة لواشنطن وقفزة في مسعى فرض “الانتداب الروسي” وتحقيق إنجاز سياسي يترجم الإنجازات العسكرية. ومن جهة أخرى، أفادت مصادر سورية عن إرسال إيران، هذا الأسبوع، مجموعات إضافية من الحرس الثوري ومن الباسيج للمشاركة في معارك شمال غربي سوريا، وربما يمثل ذلك تطبيقاً لاتفاقية التعاون العسكري الإضافية التي وقعها وزير الدفاع الإيراني أمير خاتمي إلى دمشق في الأسبوع الماضي.
وهكذا تتماشى موسكو وطهران مع التزامهما السياسي والعسكري إلى جانب نظام الأسد لاستكمال الحسم العسكري. أما تركيا التي تعتبر أن أمنها القومي سيكون على المحك في حديقتها الخلفية في الشمال السوري فتوجد في الخط الأمامي، وتحاول معارضة هجوم واسع النطاق قرب حدودها ولكنها تحتفظ بموقف غامض، لا سيما في تعاملها مع الجماعات المتطرفة، وتبرر ذلك بسبب أولوية قتالها ضد الأكراد السوريين في حزب الاتحاد الديمقراطي (المرتبط بحزب العمال الكردستاني).
في مواجهة هذا الاستحقاق، تسعى أنقرة للاستفادة من اهتمام موسكو بزعزعة التزامها الأطلسي، ورغبة واشنطن في عدم خسارتها بالرغم من علاقاتها المتوترة مع أنقرة التي أثرت على الاقتصاد التركي. وكان من اللافت أن تصاعد الضغوط حول إدلب في الأيام الأخيرة أتاح استئناف الاتصالات الثنائية وقام الممثل الأميركي الخاص لسوريا جيمس جيفري بزيارة إلى أنقرة يوم الثلاثاء وأجرى محادثات مع وزير الدفاع التركي. ومن هنا يمكن لتركيا أن تراهن على تعزيز موقفها في قمة طهران في مواجهة الروس والإيرانيين لجهة اهتمام ترامب المفاجئ بالملف السوري وتغريداته التحذيرية حيال “مأساة في إدلب”، ودعوة واشنطن إلى عقد اجتماع خاص لمجلس الأمن الدولي في نفس يوم انعقاد قمة طهران. لكن لا يظهر أن موسكو سيلين تصميمها ويبدو كأنها لا تأبه بالتصريحات المشتركة أو المنفصلة لواشنطن وباريس ولندن، وتكرار توخي التدخل فقط في حالة استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل النظام السوري في الهجوم. وفي هذا السياق اعتبر الكثير من المعارضين السوريين أن التحذيرات الأخيرة تشبه نوعاً من ضوء أخضر لهجوم بالأسلحة التقليدية، وتأكيدا لتخل أميركي وغربي منذ معركة حلب أواخر 2016.
عشية اجتماعي طهران ونيويورك تسرب توصل الروس والأتراك إلى اتفاق على خمس نقاط:
– تولّي تركيا حل هيئة تحرير الشام ومنحها الوقت الكافي لإتمام ذلك.
– إنشاء نقاط عسكرية روسية في المناطق التي تتواجد فيها النقاط التركية ودخول النظام لها إداريا وليس عسكريا.
– تعهد تركيا بعدم استهداف القوى المعارضة الموجودة في المناطق التي تسيطر عليها باستهداف مناطق النظام أو قاعدة حميميم والقوات الروسية.
– فتح الطرقات الدولية بضمانات الدول الثلاث حيث تقوم كل دولة بتأمين الطريق في مناطق سيطرتها.
– إرساء تعاون استخباري تركي مع روسيا وإيران ضد القوى الإرهابية.
بغض النظر عن مجمل المناورات الدبلوماسية للأطراف المنخرطة، لا يبدو أن العامل الإنساني في الحسبان لأن محافظة إدلب التي كانت تضم أقل من 900 ألف نسمة قبل 2011، يسكنها اليوم أكثر من ثلاثة ملايين نسمة بعد تدفق النازحين من كل سوريا إليها، وكذلك المقاتلين من حلب والغوطة والرقة والقنيطرة والقلمون ودرعا وغيرها. والمريع اليوم في حال إتمام الهجوم لن تكون هناك إدلب أخرى بعدما أراد البعض جعل إدلب الحالية “تورا بورا جهادية” لإتمام مخطط التدمير المنهجي والتغيير الديموغرافي. لن يكون هناك من مكان آمن للبؤساء والهاربين من الجحيم لأن تركيا بنت جداراً محصناً تحميه جندرمتها، ولأن ما تبشر به الأمم المتحدة من نزوح ممكن لـ800 ألف شخص لا يبدو أنه يحرك ما تبقى من ضمير عالمي إزاء قتل الإنسانية ونفيها في سوريا.
هكذا يمكن للترتيبات بين أطراف اتفاقيات أستانا وسوتشي تقرير مصير الفصائل المقاتلة. وفي هذا الإطار يقول مصدر سوري إن تأخر أنقرة في معالجة وضع جبهة النصرة كان يعود إلى رغبتها في استخدامها شرق الفرات ضد الأكراد وربما الأميركيين. ومن المعيب أن يتنبه البعض في العالم إلى أن بعض أنحاء إدلب تؤوي أهم مراكز تنظيم القاعدة، وكأن الدول الأطلسية وروسيا وتركيا وإيران لم تراقب وتسمح -بشكل أو بآخر- بتجمّع أطراف “حرب الجهاديين” من متطرفين وميليشيات موالية لإيران على السواء.
ضمن هكذا عبث عنفي واستخدام للأرض السورية كمسرح تصفية حسابات وصعود قوى دولية وإقليمية، لا يهم مصير إدلب صناع القرار في العالم، ويبدو أن أمرها متروك لثلاثي قمة طهران وخاصة لتفاهمات وتجاذبات موسكو وأنقرة.
لا حرب بدون ذرائع، ولا هجوم يتحقق من دون أن تسبقه المبررات الكافية، التي تعمل الأنظمة السياسية على طبخها خلف الكواليس وتتولى الماكينات الإعلامية ترويجها عالميًا، فحين أراد هتلر احتلال بولندا لم يجد ما يدفعه للقيام بذلك من دون سبب حقيقي، لا سيّما وأن الهدف من غزوها هو تنفيذ سياسته التوسعية ليس إلا، فقام جهاز مخابراته بإرسال مجموعة من رجال القوات الخاصة بحرق محطة الإذاعة الألمانية في مدينة "غليفيتش" التي تقع على الحدود بين ألمانيا وبولندا حتى يبدو الأمّر كأنه دفاعًا عن الدولة، في حين أن باطنه هو التوسّع والسيطرة، ومن هنا بدأ الإعلام الألماني بالدعاية الكاذبة وحشد الرأي العام، وتعبئته تجاه الحادث بضرورة الرد والدفاع عن النفس تجاه هذا التجاوز، وأمر هتلر المركز النازي المسؤول عن الصحافة بعدم ذكر كلمة حرب نهائيا لإبعاد الشبهات عنها، وهكذا تشكّلت كل عوامل الرغبة والأرضية السياسية والدعائية في الهجوم على بولندا، وبالفعل تم الغزو عام 1939.
إن التاريخ تتشابه صفحاته وألاعيبه السياسية باستثناء الضحايا، فهم مختلفون باختلاف الجغرافيا ومناطق الصراع وحجم اللاعبين والمصالح، وفي هذا العصر تحولت منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة صراع مصالح وتقاسم نفوذ مشترك بين الدول الكبرى، الخاسر الوحيد فيها هم العرب.
تتخذّ روسيا عدة ذرائع من أجل ضرب إدلب وإعادة تسليمها للنظام السوري، أول تلك الذرائع هو الادعاء الذي تروّج له وسائل الإعلام والخارجية الروسية بأن قاعدة حميم العسكرية تتعرّض لهجمات بين الوقت والحين من قبل الإرهابيين بطائرات مسيّرة، بالإضافة إلى الرغبة الانتقامية في الأخذ بالثأر لإسقاط طائرة سخوي روسية ومقتل قائدها علي يد الثوار قرب مدينة "سراقب" بإدلب ما جعل الروس يزيدون من وتيرة الاستعداد والتجهيز لاقتحام إدلب وتسليمها للنظام من جانب، ومن جانب آخر توقف نزيف الخسائر العسكرية بالقضاء على أخر معقل ثوري بسوريا، وبما أن حسابات تلك المعركة معقّدة لتضارب المصالح بين روسيا وتركيا ساهمت وسائل الإعلام الموجهة من الروس والنظام بإثارة المخاوف لدي الجانب التركي، في محاولة للسيطرة على المدينة بشكل سلمي بعيدًا عن الحل العسكري، عن طريق دفع تركيا لإقناع هيئة تحرير الشام بتسليم أسلحة المقاومة، والخروج من المدينة بذريعة الخسائر التي سوف تلحق بالمدنيين وكميّة النزوح المقدّر عددها حوالي مليون إنسان، باتجاه الحدود التركية، إضافة إلى عدد القتلى، وهذا ما بدا واضحًا في تصريحات الرئيس التركي أردوغان لصحيفة "حرييت" فقال: "الوضع في إدلب مهمّ للغاية بالنسبة لنا إذا انهمرت الصواريخ، لا قدر الله، على هذه المنطقة سوف تحدث مجزرة خطيرة وموجة نزوح كبيرة، وهذا ما سنحاول منعه في قمة طهران المقبلة، التي تمثّل استكمالا لعملية أستانا، آمل أن نتمكّن من منع هذه النزعة المتطرفة في الهجوم على إدلب".
إن الاعتماد على الروس في منع الهجوم على إدلب مجرّد أمنية واهية فلا أمان لهم، وهناك تصريحات تؤكد أن المفاوضات مهما تم فيها من مخرجات تصبّ في صالح التهدئة، فإنها ليست مُلزمة لروسيا ففي تصريح لوزير الخارجية سيرجي لافروف قال فيه: "إن مخرجات أستانة لا تستبعد الهجوم علي الإرهابيين في إدلب ولدمشق الحق في تصفية هذه الفصائل المسلحة" لذلك على تركيا أخذ الحذر وتوقع كافة السيناريوهات المطروحة على مسرح الأحداث وأن تكون مستعدة لها، ولعل وجود ما يُعرف بمصطلح "توازن القوى الاستعماري" جعل الدول الكبرى تتجنّب الصدام المباشر وتنسّق فيما بينها، لوضح حلول سياسية تجنبهم الخسائر المادية والعسكرية والقطيعة الدبلوماسية وهذا ما ظهر أثره في قضية إدلب حتى الآن لا سيما مع تضارب المصالح وتباينها بين هذه الدول في الملف السوري بشكل عام.
لا حل إلا بالتفاوض، فهذا أضعف الإيمان، وإلا ستكون هناك كارثة إنسانية سنقف أمامها مكتوفي الأيدي كما حدث من قبل في حلب ودوما وغيرهما، وعلى الفصائل أن لا تعوّل على أي ضامن ويجب عليها إعادة إلمام الصفوف والاستعداد للمواجهة، فإن شرف الهلاك أفضل بكثير من نذالة الحياة.
تنشط الدبلوماسية التركية في ربع الساعة الأخير، للحيلولة دون انطلاق العملية العسكرية المرتقبة لنظام الأسد ضد إدلب، وفي هذا السياق شدّد وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو على أن بلاده أبلغت الجانب الروسي، بأن الهجمات الأخيرة على محافظة إدلب خاطئة، مشيراً الى أن هدف النظام السوري هو السيطرة عليها بذريعة وجود تنظيمات إرهابية.
ويؤمن الجانب التركي بأن هذا الهدف تم التخطيط له منذ البداية، من خلال دفع المجموعات الإرهابية من جميع المناطق السورية باتجاه إدلب، تمهيداً لعملية عسكرية، يكون هدفها القضاء على المعارضة والسيطرة على المدينة. ولتجنيب إدلب هذا المصير، أجرى الجانب التركي جولات مكوكية من المفاوضات مع المسؤولين الروس، على اعتبار انّ اتفاق خفض التصعيد يحكم العلاقة بين مختلف اللاعبين.
وبالرغم من أن الآمال بإيقاف العملية العسكرية المنتظرة تتضاءل مع مرور الوقت، فإن الجانب التركي لا يزال يأمل في إمكانية إقناع روسيا وإيران في الاجتماع الثلاثي، الذي سينعقد في طهران اليوم، بإيقاف العملية والانتقال الى أنماط أخرى لمعالجة المشكلة.
وفي هذا الصدد، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الهجوم على إدلب، سيتسبب في مجزرة، لكنه أبدى تمسّكاً بتفاؤله حيال أمكانية أن تخرج قمة طهران بنتائج إيجابية، يتم من خلالها تحييد ما سماه «النزعة المتطرفة للحكومة السورية».
من وجهة نظر أنقرة، الجميع متّفق على إخراج التنظيمات الإرهابية وفصل المدنيين عن المقاتلين، لكن البعض يريد استخدام هذا الموضوع سياسيا، والبعض الآخر يبحث عن حل يجنّب المدنيين والمحافظة ويلات العمل العسكري.
وترفض أنقرة العملية العسكرية لعدة أسباب، لعل أهمها العامل الإنساني، حيث من المنتظر أن تؤدي مثل هذه المعركة الى إيقاع عدد كبير من القتلى المدنيين، بالإضافة الى موجات نزوح ولجوء، في وقت تتعرض فيه الحكومة التركية لضغوط داخلية وأوروبية بالحد من تدفق اللاجئين الى البلاد، لا سيما في الوقت الذي تعاني فيه أنقرة من تحديات اقتصادية هي الأكبر على الاطلاق منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في عام ٢٠٠٢.
واندلاع عملية عسكرية كبرى من شأنه ان يهدد القوات التركية المتواجدة داخل إدلب، التي تنتشر في ١٢ نقطة للمراقبة، وقد تجد هذه القوات نفسها منجرّة الى مواجهة مع النظام السوري والميليشيات المساندة له بشكل مباشر أو غير مباشر. بهذا المعنى، ستفرض مثل هذه العملية مخاطر أمنية عالية على تركيا، وبما ان هدف نظام الأسد هو السيطرة الكاملة على إدلب، فهذا يعني ان القوات التركية ستكون مجبرة على المواجهة أو على المغادرة لتفادي ذلك.
ومغادرة القوات التركية ستعني بالضرورة انتهاء المعارضة السورية هناك، وتراجع النفوذ التركي، كما ان سيطرة الأسد على إدلب ستضع ضغطاً على المناطق التي قامت تركيا بتحريرها شمال سوريا في العامين الماضيين، لاسيما مدينة عفرين، وهو الامر الذي سيضعف من موقف أنقرة السياسي والعسكري في الملف السوري. فحصول عملية عسكرية كبرى رغماً عن معارضة أنقرة سيقوّض من مصداقيتها ودورها كضامن في أعين المعارضة السورية.
انطلاقاً من هذه المعطيات المفترضة، ستضع العملية العسكرية في حينه دور تركيا في الملف السوري، وقدرتها على حماية السوريين في المناطق التي حررتها، موضوع تساؤل: هل ستنجح تركيا عبر سياسة نزع الذرائع في إقناع موسكو بضرورة تجنّب الاعتماد على عملية عسكرية كبرى، واللجوء إلى خيارات أخرى تضمن سلامة المدنيين، وتحافظ على التوازنات في الملف السوري، في وقت ستكون فيه روسيا بحاجة الى دور تركي أكبر في الملف السوري؟
قمّة اليوم الثلاثية ستساعد على الأرجح في معرفة المسار، الذي ستسلكه المدينة ومصير العملية العسكرية.
اعتدتُ أن أقول لمحاوري الدوليين، منذ تأسيس المجلس الوطني السوري في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، إن القضية ليست مشاركة المعارضة في الحكم، مع الأسد أو من دونه، وإنما الرد على تطلعات الشعب، والانتقال به نحو حياةٍ ديمقراطيةٍ حرّة وعادلة. وإذا أمكن هذا الانتقال من دون مشاركة المعارضة، فالمعارضة في غنىً عنها. المهم أن تتغيّر قواعد الحكم الاستبدادي المدمّر السائد التي صمّمت لوضع الدولة والمجتمع معا ومواردهما في خدمة سلطة الحزب الواحد، ثم سلطة أسرة الأسد، والقائمة، بكل بساطةٍ، رسمياً وقانونياً، على الإقصاء العلني الكامل للشعب، والتعقيم السياسي الكلي للمجتمع والفرد، وحكم الإرهاب والإهانة والإذلال المتعمد لتحقير الفرد في نظر نفسه، وانتزاع روح السيادة منه، وتدجينه وتطويعه لقبول العبوديّة والتسليم للقوة الغاشمة. دور المعارضة التي لا تريد شيئاً لنفسها، ولا ينبغي أن تفعل، لا بوجود الأسد ولا بغيابه، هو اليوم أن تضمن للشعب توفير شروط ممارسته حقّه في تقرير مصيره بنفسه. وهذا يعني مساعدته على الوصول إلى وضعٍ يسمح له، من خلال انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، باختيار ممثليه الحقيقيين، وإرساء قاعدة قوية للحكم التمثيلي والديمقراطي في البلاد.
(1)
هذا يعني أن المعارضة ليست الموضوع، وليست الطرف المهم في المباحثات والمفاوضات القائمة، التي قبلت المعارضة الدخول فيها، منذ تأييدها مبادرة جامعة الدول العربية وبيان جنيف 1 في يونيو/ حزيران 2012، وبعثة كوفي عنان العربية الدولية. الموضوع والطرف هو الشعب السوري، وتطلعاته وحقوقه ومكانته، ودوره في النظام السياسي المطلوب إنشاؤه على أنقاض حكم الديكتاتورية الدموية. ومسؤولية المعارضة أن تواكب ثورة شعبها، وتثمّر تضحياته الغزيرة، والتي لم تتوقف منذ سبع سنوات، من أجل الخلاص والتحرّر من نيْر سلطةٍ تحولت إلى نظام احتلال داخلي، وواجبُها أن تسعى إلى تأمين الدعم العربي والدولي في سبيل تسريع عملية الانتقال، والتحول نحو نظام جديد يضع حدّاً للحرب وسفك الدماء، ويردّ على تطلعات السوريين نحو الحرية، ويليق بتضحياتهم وكفاحهم.
ولذلك، لم يكن هدف المفاوضات مع النظام، واليوم بالأحرى مع أسياده الروس، المساومة على حق الشعب السوري في الانتقال إلى نظام ديمقراطيٍّ يساوي بين جميع أبنائه، ويعترف بالمواطنة وحقوقها الواحدة للجميع، وإنما التفاهم على آليات وصيغ مرحلة الانتقال التي تنتهي مع تنظيم أول انتخابات تشريعية. وعندئذ، يكون الشعب حرّاً في تقرير مصيره، وانتخاب من يمثّله، ومن خلالهم، تحديد مضمون النظام الجديد النهائي، والتعديلات الدستورية، والتسويات السياسية، والتفاهمات الاجتماعية المطلوبة بالتأكيد لمعالجة آثار الحرب، وتطمين الأطراف والجماعات، أقليات قومية ومذهبية ونوعية ومهنية وغيرها، على مصيرها وضمان حقوقها وأمنها.
ولكن هدف الروس كان ولا يزال أن يضحّوا بقضية الشعب في الخروج من حكم الطغيان، لصالح فكرة حكومة وحدةٍ وطنيةٍ تحافظ على النظام مع بعض الإصلاحات الدستورية الشكلية، في الوقت الذي لا يعني الدستور شيئاً في مثل هذا النظام القائم على الهوى والعصبية والعلاقات الشخصية والسلطة الفردية المطلقة والمقدّسة. ولذلك لا يوجد هناك أي إمكانية للتسوية، أو للحل الوسط، بين المنطقَين، منطق الحفاظ على النظام بمشاركة المعارضة أو بشراء بعضها أو بخيانة آخرين، لا فرق، ومنطق تلبية مطالب الشعب وتطلعاتّه نحو السيادة والحرية.
منذ أول لقاء مطوّل، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، برز الخلاف العميق في التحليل والخيارات. وبدل أن يحاول أن يتقرّب من موقفنا أو أن يحاول تفهّمه، جاء ردّه تهكّماً بالثورة نفسها التي قال إنه هو الأكثر خبرةً بما تعنيه. وعلى الأغلب، كان صادقاً في مشاعره ورؤيته السلبية لأي حركة احتجاجية، وبالأحرى ثورية شعبية تهدف إلى التغيير الجذري لنظامٍ قائمٍ على العنف والإكراه والقهر. لم يفهم الروس معنى تطلعات الشعب وحقوقه، أو لم يريدوا أن يفهموا، وأرادوا إقناعنا بأن الغرب هو المسؤول عن كل شرور العالم. وربما اعتقدوا بالفعل أن ما يحصل في سورية يشبه ما حصل في عراق 2003، أو في أحسن الأحوال في ليبيا 2011، وراهنوا على أن تدخلاً قوياً منهم في مجلس الأمن والأمم المتحدة سوف يردع القوى الغربية الراغبة في التدخل في سورية، على حساب النفوذ الروسي.
وفي خطوةٍ لاحقة، اعتقدت الدبلوماسية الروسية أن بإمكانها، من خلال الرهان على التدخل العسكري الإيراني من جهة، ومغازلة المعارضة، أو بعض أطرافها، لتقريبها من موسكو من جهة ثانية، التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ سريعةٍ للأزمة السورية، وتذليل تعنّت الأسد الذي أصبح مديناً لها في الدفاع عن وجوده. وهكذا اعتقدت موسكو أنها تستطيع أن تحقّق النجاح الدبلوماسي الذي تحتاجه لتعيد تأهيل نفسها، وتسترجع صدقيتها ومكانتها الدولية، وهذا ما كانت بأمسّ الحاجة إليه لمواجهة الضغوط الأوروبية والأميركية المستمرّة عليها، سواء ما تعلق منها بالعقوبات الاقتصادية القاسية، أو بالضغوط العسكرية والاستراتيجية، في مجال نفوذها. وعندما شعرت بداية عام 2015 أن النظام يكاد ينهار، تدخلت هي ذاتها، وحاولت أن تضع كل ثقلها العسكري لحسم الصراع بأي ثمن، وبأسرع وقتٍ ممكن. وأتذكّر أنه بعد أيام من دخول القوات الروسية إلى سورية، التقيت الممثل الشخصي للرئيس بوتين ونائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، بدعوةٍ منه، في مقر سفارة روسيا الاتحادية في باريس، لينقل إلي رسالةً مفادها بأن روسيا لا تريد التدخل العسكري في سورية، لكنها دخلت فقط للقضاء على الإرهابيين الروس المشاركين في الحرب مع المتطرفين، والذين قدر عددهم بألفي شخص، ولن تقبل عودتهم أحياء إلى بلادهم، ولن تزيد فترة تدخلها عن شهرين. ضحكت طبعاً من فترة الشهرين، لكن بوغدانوف لم يتردّد في التأكيد عليهما، بينما كانت الصحافة الرسمية تتحدث عن ثلاثة أشهر. وها هم الروس يخطّطون للبقاء في سورية نصف قرن بعد انقضاء سنتين على تدخلهم القاتل في الحرب الدولية على السوريين.
(2)
أخطأ الروس أخطاء كبيرة، ولا يزالون يخطئون، بحق السوريين أولاً، لكن تجاه مصالح روسيا أيضاً والعلاقات الروسية السورية في المستقبل، ولأسباب عديدة. أول هذه الأسباب إنكارهم، مثل الأسد وطهران، حقيقة ما يجري في سورية منذ ثماني سنوات، وعمق تجذّر مطالب التحرّر من قبضة الحكم البدائي البهيم في وسط قطاعاتٍ واسعةٍ من الشعب السوري، وهذا خطأ جوهري نابع من رفضهم فكرة الثورة والاحتجاج الشعبي والتغيير نفسها، وامتناع منهج تفكيرهم على استيعاب هذا الأمر، حتى على مستوى الاحتمال. وهكذا تصرّفوا بالفعل على أساس أنهم يواجهون تدخلاً غربياً واسعاً ضدهم في سورية، لا حركة شعبية عميقة الجذور.
وأخطأوا ثانياً عندما عطّلوا، بشلّهم مجلس الأمن، أي تسويةٍ سياسيةٍ سوريةٍ، وغطّوا على تدخل المليشيات الإيرانية الطائفية، وهم يتحمّلون اليوم مسؤولية أخلاقية وسياسية وقانونية أساسية في المجازر وعمليات التهجير القسري والتجويع واستهداف المدنيين والإبادة الجماعية التي نجمت عن هذا التدخل، والتي ستنجم في المستقبل تحت حمايتهم وبرعايتهم وبمشاركتهم الكاملة، العسكرية والسياسية والدبلوماسية. وقد حرمهم غضّهم النظر عن هذه الأعمال الإجرامية التي دانتها تقارير المنظمات الدولية جميعاً من أي أملٍ في كسب ثقة الشعب السوري، أو بعض قطاعاته، حتى القريبة منهم، والتي راهنت، في فترةٍ ما، على روسيا لتحجيم التدخل الإيراني وعقلنة سياسة الأسد الانتحارية.
وأخطأ الروس ثالثاً عندما احتقروا المعارضة واستضعفوها واستهزأوا بها، واعتقدوا أن في وسعهم تدجينها والالتفاف عليها واستغباءها، لتحقيق مخطّطاتٍ مكشوفة الغاية الواضحة، منها تصفية مطالب الشعب السوري، وإخفاء وجه نضالاته ومعالم ثورته العظيمة، حتى تتحقق أطروحتهم الأولية المطابقة أطروحة الأسد، أي إنكار أي حركة شعبية داخلية ذات مطالب شرعية، والتمسّك بأطروحة المؤامرة الخارجية.
وأخطأ الروس رابعاً عندما كذبوا على السوريين، وربما على أنفسهم، وأعلنوا أن هدفهم المشاركة في القضاء على المنظمات الإرهابية، والإرهابيين الروس خاصة، ولم يلبثوا حتى نصبوا أنفسهم سلطة انتداب الأمر الواقع على سورية وشعبها، يستفردون بقرارها، ويهزأون من رجالاتها ومعارضاتها، يجمعونهم ويفرّقونهم منصّاتٍ ومجالس، حسب الطلب والحاجة، ما جعلهم يتماهون في سياساتهم مع سياسات الأسد، ويصادقون على تكتيكاته الإجرامية في الإبادة الجماعية والتجويع والترويع والتهجير القسري لتعديل البنية الديمغرافية، ويغطّون على خروقاته ونكثه عهوده بعد التوقيع على اتفاقات خفض التصعيد والمصالحات الزائفة الأخرى. وهذا ما حوّلهم، في نظر السوريين، بسرعة، من قوةٍ يمكن المراهنة عليها وسيطاً دولياً للمساعدة على ضبط المليشيات الإيرانية وعقلنة السياسة الأسدية والوصول إلى تسوية، حتى جزئية، إلى قوة احتلال بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وما تنطوي عليه سياسات الاحتلال الروسي، كما عرفته بعض شعوب القوقاز من عنفٍ ودمارٍ لا يُجارى.
وأخطأ الروس خامساً، عندما ورّطوا أنفسهم في تبني قضية الأسد شخصياً والمبالغة في الدفاع عن بقائه في الحكم، وحقه في الترشح لأي انتخاباتٍ رئاسيةٍ قادمة، وتبرئته من التهم التي كبّلته بها المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية، ولجان التحقيق الأممية، بما في ذلك استخدام السلاح الكيميائي، متحدّين بذلك مشاعر ملايين السوريين الذين فقدوا أبناءهم، وقضى الأسد على مستقبلهم، وخرّب وطنهم.
وسيخطئ الروس سادساً وأخيراً إذا اعتقدوا أن الأمر قد استتبّ لهم في سورية، وأن شعبها فقد نوابض المقاومة والقوة، أو أن العالم سحب يده منها، وسلّم بسيطرة روسيا وإيران عليها، أو قبل بتقاسمها بين القوى الإقليمية. ولعل بوادر الحرب المعلنة على الوجود الإيراني المليشياتي في سورية، منذ أسابيع فقط، تظهر هشاشة التموضع الروسي في الشرق الأوسط أيضاً، في غياب قوة برية مستقلة، على الرغم من المواقع الجديدة التي نجحت روسيا في كسبها.
ولا يوجد شكٌّ في أن خشية موسكو من تقويض الغرب الموقع الاستثنائي الذي احتلته في هذه المنطقة هو الذي يدفعها إلى الاستعجال في فرض تسويةٍ سياسيةٍ بأسرع وقت، تضمن بقاءها في المستقبل. كان هذا هو الدافع للاستعجال في الدعوة إلى مؤتمر الشعوب، ثم الشعب السوري، الذي أعلن عنه أولاً في حميميم، ثم نُقل باسم الحوار الوطني السوري إلى سوتشي في 30 يناير/ كانون الثاني 2018، وسبّب ولادته ميّتاً أيضاً، بعد رفض أطراف المعارضة الرئيسية حضوره والمشاركة فيه. وهذا هو السبب، أخيراً، في استعجال الروس حسم مسألة إدلب التي تلخص اليوم التراجيديا السورية بكل أبعادها، ولا تريد أن ترى مشكلة فيها، ولا مصير أربع ملايين إنسان، نصفهم من المهجّرين والمنكوبين بسببها، إلا من زاوية الحرب على الإرهاب، في الوقت الذي لم تبذل روسيا فيه أي جهدٍ حقيقيٍّ لمحاربة المنظمات المتطرّفة، ووجهت كل قوتها العسكرية ومناورتها السياسية للقضاء على فصائل المقاومة المعتدلة السورية.
وستفشل المبادرات الروسية القادمة جميعاً أيضاً، إذا استمر الروس في حصر تفكيرهم في القضية السورية في هذه الزاوية، وعلى هذا المنوال. فلم يقدّم الشعب السوري مليون ضحية وملايين المشرّدين واللاجئين وعشرات بل مئات المدن المدمّرة والمسوّاة بالأرض، من أجل أن "يزيّن" بعض المعارضين، كما يتوّهم القادة الروس، مهما كانت مواهب هؤلاء ومقدّراتهم وتاريخهم، حكومةً جديدةً للأسد، لن تكون سوى حكومة إدارة الكراهية والحقد والانتقام من الشعب السوري الذي انتفض على نظامٍ لم يتوقّف عن تدمير شروط حياته، واستعباده، وتحول في الحرب إلى عصابةٍ تعمل لحساب من يموّلها. لقد قدّم السوريون شهداءهم من أجل أن يسترجع كل سوري، صغيراً أو كبيراً، مسلماً أو غير مسلم، عربياً أو كردياً أو غيرهما، فقيراً أو غنياً، حاكماً أو محكوماً، كرامته، أي أن يكون سيداً، حرّاً، ولياً على أمره، حياً بضميره، ومشاركاً في تقرير مصير وطنه. أي أيضاً من أجل أن يكون للسوريين وطن، ولا تكون سورية مزرعة لأحد، لا للأسد وجلاوزته ومخابراته، ولا للروس، ولا لغيرهم مهما كانوا. وجوهر الكرامة وقوامها هو الاعتراف المتبادل والاحترام المتساوي، للذات والآخر.
بسياستها التصفوية الراهنة، لا تجرّد الدبلوماسية الروسية المعارضة من احترامها نفسها واحترام شعبها لها فحسب، وإنما تهين جميع السوريين الذين تتعامل معهم، كما لو أنهم لا يزالون في المزرعة العبودية ذاتها التي يحاول الأسد، بحرب الإبادة والدمار الشامل، منذ سبع سنوات، إعادتهم المستحيلة إليها.
لهذه الأسباب، فشلت روسيا في سورية، ولا يمكن لها إلا أن تفشل. بدل أن تكون صانعة سلام، كما أرادت، وتستعيد صدقيّتها على ساحة السياسة الدولية، ها هي تغرق أكثر في مستنقع الدم والبؤس والدمار الذي صنعته بيديها، ولا تزال ترفض أن تخرج منه. ولن يفيد فشلها للأسف أحداً، ولكنه، بمقدار ما يقود سورية إلى الاستيطان في النزاع والحرب، سوف يزيد من عذابات شعبها وآلامه، ويفرض عليه الاستعداد لحرب جديدة ومعقدة ثانية، من أجل حقوقٍ أساسيةٍ، تحصل عليها الشعوب اليوم من دون نقاش. تلك هي مشكلتنا مع روسيا وخياراتها.
يكشف الكتاب الذي سينشره الصحفي الأمريكي الشهير، بوب وودورد، عن إدارة الرئيس دونالد ترامب، مدى سيطرة الدولة العميقة في أمريكا على مجريات الأحداث. إذ رغم الصلاحيات الهائلة التي يقرها الدستور الأمريكي للرئيس، إلا أنه يبقى محكوما بدرجة كبيرة للبيروقراطية والدولة العميقة، وتقديراتهما، ومدى صلة قراراته بالمصالح الاستراتيجية بعيدة المدى، حسب رؤية تلك الدوائر.
ورغم ما عرف عن ترامب من تفرد بالقرار وسيطرة على مراكز صنع القرار، إلا أن كتاب وودور الاستقصائي؛ يكشف أن مفاصل الدولة العميقة لديها القدرة على التلاعب بخيارات الرئيس، وتمييع ما ترى أنه غير صائب، وجعل ما تعتقد أنه مناسب أولوية وضرورة استراتيجية مهمة.
من المعلوم أن أي صانع قرار يحيل القرار الذي بصدد إصداره إلى المستشارين، الذين في الغالب يتشكلون من جهات مختصّة لها علاقة بطبيعة القرار، فإذا كان القرار ذا طبيعة عسكرية، فبالتأكيد فإن الجهات العسكرية تصبح المسؤولة عن تقديم تقدير الموقف الخاص بالحالة وتقديم الخيارات للرئيس، مع توضيح مخاطر كل خيار وإمكانيات تنفيذه وتوفّر الموارد اللازمة، والرئيس يختار الأكثر ملاءمة للظروف والواقع.
فلنقتله، لنذهب إلى هناك ونقتل الكثير منهم.. هكذا قال ترامب لوزير الدفاع جيمس ماتيس، فور تبلغه نبأ ضرب الأسد لمدنيي خان شيخون بالكيماوي. وفي ذلك الحين، قيل إن ترامب تأثر بصور أطفال خان شيخون الذين يحتضرون من تأثير الكيماوي، وقرر معاقبة بشار الأسد بأقسى أنواع العقوبات.
لكن ماتيس، وبحسب كتاب بوب وودورد، وإن وافق ترامب على التصرف، لكنه ما أن وضع سماعة الهاتف حتى قال لأحد مساعديه، إن الولايات المتحدة ستتخذ خطوات "مدروسة أكثر" ضد سوريا، فكانت على شكل غارات جوية عقابية.
من يتذكر في ذلك الوقت، جرى تسريب من كواليس القرار الذي اتخذه ترامب بضرب مطار الشعيرات بـ59 صاروخا؛ أن من بين الخيارات التي وجدت على طاولة ترامب خيار اسمه" الرأس المقطوع"، وكان هذا الخيار يعني قتل بشار الأسد والدائرة المقربة منه، وقد تم عرضه على ترامب، لكن جرى استبعاده من دائرة الخيارات المحتملة.
لماذا استقر قرار ترامب على مجرد ضربات عقابية؟ بلا شك أن ذلك سببه تأثير وزير الدفاع ماتيس وجنرلات البنتاغون والمخابرات، الذين تلاعبوا بالتوصيات، وإبراز المخاطر والتداعيات التي يمكن أن ينتج عنها قرار قتل الأسد، والأهم من ذلك الأضرار السياسية. في وقت كانت دوائر البنتاغون تعتقد أن تدخلا عنيفا في الحرب السورية، من حجم قتل الأسد او تغيير موازين القوى ضده، من شأنه التأثير على الأمن الإسرائيلي حصرا، وأن أمريكا لن تستفيد كثيرا من تغيير نظام الأسد في سوريا، فرغم كل مساوئه يبقى الشيطان الذي تعرفه أمريكا وإسرائيل.
إن ترامب لديه فهم تلميذ في "الصف الخامس أو السادس"، أي طفل عمره 10 أعوام إلى 11 عاما. هكذا يقتبس بوب وودورد على لسان ماتيس، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن ترامب لا يفهم في الاستراتيجية والحيل الجيوسياسية والألعاب الاستخباراتية، فما يتم إعلانه للجمهور والفضاء العام من مواقف ضد الأسد بشأن المذبحة السورية، لا يشكل بالضرورة الموقف الأمريكي الحقيقي الذي يقوم على حسابات مختلفة تماما، وليس نتيجة انفعالات وتأثيرات آنية.
وطوال مرحلة الحرب السورية، لم يكن لرئيس الإدارة الأمريكية تأثير مباشر في مسار الحدث، بل تولت الأمر جهات طالما نظرت له من زوايا نظر عديدة، فعزلت التأثيرات الإنسانية نهائيا عن مجال صنع قرارها، وركزت على تفاعلات الحدث وتأثيراتها المستقبلية على مستقبل المنطقة، ومصالح أمريكا بعيدة المدى ومصالح إسرائيل. وليس من المستغرب تزامن صدور هذه المعلومات مع تسريبات عن مذكرات وزير الخارجية السابق جون كيري، بعنوان "كل يوم هو زيادة"، التي يؤكد فيها كيري توسيط بشار الأسد له لنقل رسالة إلى بنيامين نتنياهو؛ يؤكد فيها استعداده لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل مقابل تنازلات كبيرة يقدمها لنتنياهو.
لم يقتل ماتيس الأسد، أو رفض تنفيذ رغبة ترامب؛ لأن الحكاية السورية ما كان يجب لها أن تنتهي على هذه الشاكلة. قتل بشار الأسد لم يكن هدفا بحد ذاته، ولو أرادت أمريكا ذلك لفعلته قبل ذلك بكثير، الأسد وقع في المصيدة أكثر من مرّة، ووقع في دائرة القناص الأمريكي مرات عديدة، وفي كل مرّة كان يقال له، ابتعد لست أنت الهدف المقصود.
لم يقتل ماتيس الأسد؛ لأن الحرب السورية ما زالت تنطوي على إمكانيات كثيرة تخدم مصالح أمريكا البعيدة، ولعل واحدة من تلك الأهداف قمع الثورة في المنطقة لعقود طويلة، فشعوب هذه المنطقة إذا شعرت أنها انتصرت على أنظمتها الديكتاتورية، ستطوّر طموحاتها حكما لإنهاء علاقات التبعية مع القوى الكبرى، وستبحث عن طرق لتحرير فلسطين.
لم يقتل ماتيس الأسد؛ لأن بوتين هو من يجب أن يقتله، بعد أن بدأ يتحول إلى عبء ثقيل عليه، وكل يوم زيادة له في الحياة يخصم من رصيد أرباح روسيا، وبوتين سيصل إلى مرحلة يجد نفسه مضطرا للتخلص من بشار الأسد، بعد أن يكون قد استنفذ كل حاجة إليه، فلماذا يريحه ماتيس من هذه المهمة الصعبة؟
في شباط (فبراير) 2013، حين تولى جون كيري وزارة الخارجية الأمريكية، استعدتُ شخصياً صورة فوتوغرافية تجمعه وزوجته تيريزا هاينز، إلى طاولة عشاء في أحد المطاعم الدمشقية، ضيفاً على بشار الأسد وزوجته أسماء الأخرس؛ والصورة تعود إلى عام 2009، حين كان كيري يترأس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي. وكان غرض الاستعادة هو تأكيد قناعتي أنّ إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وسائر الإدارات الأمريكية في الواقع، تجمعها مع أنظمة الاستبداد العربية أنساق متعددة من الـ«بزنس»؛ ولن تنحاز، حكماً ومنطقاً، إلى أية انتفاضة شعبية عربية، خاصة إذا كانت ديمقراطية وسلمية، يمكن أن تنتهي إلى إسقاط تلك الأنظمة، وأقصد الإسقاط الفعلي وليس الاستبدال الكاذب والمخادع. وخلال الأسابيع التي أعقبت تسلمه وزارة الخارجية، قال كيري في شتم الأسد أكثر بكثير مما قال مالك في الخمر، ابتداءً من «السفّاح» و«القاتل»، وليس انتهاءً بـ«الوحش» وشتى المقارنات الهتلرية ؛قبل أن يبتلع لسانه، إلا حين يتصل الأمر بتوبيخ المعارضة السورية الاسطنبولية، أو التحذلق حول سياسات أوباما بصدد هذا أو ذاك من شؤون سوريا.
وأمّا اليوم، في مناسبة صدور كتابه «كلّ الأيام إضافية»، فإنّ كيري يكشف النقاب عن فصل من ثمار تلك العلاقة مع الأسد، يفيد أنه حمل رسالة من الأخير إلى أوباما حول استعداد النظام السوري لاستئناف المفاوضات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ وأنّ الرسالة وصلت، أيضاً، إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. الأخير أبدى دهشته وسعادته، وسيد البيت الأبيض أعطى التوجيهات لاختبار نوايا الأسد، والسياقات الإقليمية (سنة العسل مع السعودية في عهد الملك عبد الله، الوساطة التركية بين النظام وتل أبيب، ارتباك تكتيكات «حزب الله بعد «غزوة بيروت» والفشل في تأمين أغلبية برلمانية بعد انتخابات 2009 والعجز عن الثأر لمقتل عماد مغنية…) كانت تشجع على استبشار معقول. لكنّ المرء يعثر، في فقرات من كتاب كيري الجديد، على توصيفات لرأس النظام السوري تكاد توحي بأنّ كيري وعقيلته تناولا العشاء، في ذلك المطعم الدمشقي الحميم، مع مضيف آخر غير بشار الأسد! «الرجل الذي يكذب في وجهك وعلى مبعدة أربعة أقدام، يمكن بسهولة أن يكذب على العالم بعد أن خنق شعبه حتى الموت بأسلحة الغاز»، يكتب كيري اليوم في وصف شخص الأسد!
ولكن… هل كان الأسد بحاجة، حقاً، إلى ساعي بريد مع نتنياهو؛ لا يتمثل في شخص كوندوليزا رايس أو هيلاري كلنتون، لكي يبعث بالرسالة عن طريق كيري؟ سؤال يحمل بعض الوجاهة من واقع أنّ تعاطي النظام السوري مع الإدارة الأمريكية، بوش الابن ثمّ أوباما، لم يكن راكداً وشبه جامد ومعلّق، فحسب؛ بل كانت تحركات الأسد الإقليمية، وخاصة في المناورة بين الرياض وطهران، لا توحي بأيّ هامش عدائي يستحق عناء المبادرة؛ وكان العكس هو الصحيح، في الواقع. الخيارات الأمريكية ظلت تنطلق من قاعدة مركزية أشارت على الدوام إلى «فوائد» نظام آل الأسد، إبقاء الجولان هضبة آمنة هادئة مسالمة لا تُطلق في أرجائها بندقية صيد؛ أو في ضبط لبنان، ومنظمة التحرير، وإدارة حروب المخيمات وتل الزعتر وطرابلس، والانخراط في «عاصفة الصحراء»؛ أو في الإمساك بالعصا من المنتصف، بين حلفاء أمريكا في المنطقة وخصومها…
بوصلة اولى في ضبط هذه المعادلة بدت عابرة حتى للخلافات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كما في زيارة ربيع 2007 «التاريخية» إلى دمشق، والتي قامت بها نانسي بيلوسي، وكانت رئيسة مجلس النوّاب الأمريكي آنذاك؛ فأعطت، من جهة أولى، إشارة اختلاف الحزب الديمقراطي مع مقاربة بوش الابن، في «الضغط» على النظام؛ كما شددت، من جهة ثانية، على المطالب ذاتها التي يشترطها البيت الأبيض لتحسين العلاقة مع النظام السوري. وحين حرصت بيلوسي على الاجتماع مع رايس قبيل أن تقلع طائرتها إلى دمشق، كانت في حقيقة الامر تتسلم لائحة الرسائل الشفهية التي سوف تبلّغها إلى الأسد؛ تماماً كما فعل وزير الخارجية الأسبق كولن باول ومساعده ريشارد أرميتاج غداة اجتياح العراق.
كذلك فإنّ الأمر الرئاسي رقم 13338، الذي وقّعه بوش الابن في أيار (مايو) 2004 وقضى بوضع «قانون محاسبة سورية» قيد التنفيذ، كان أعلى تجسيد لما اعتُبر سياسة «الضغط» على النظام: «حصار» شكلاني شمل حظر تصدير الذخائر والموادّ ذات الاستخدام المزدوج، ومنع الطيران السوري من حركة الهبوط أو الإقلاع في المطارات الأمريكية، وإنهاء التعاملات بين وزارة الخزانة الأمريكية والمصرف المركزي السوري. وأمّا الجانب السياسي فقد تكفّل بتفريغه من مضمونه عدد من كبار النوّاب الأمريكيين (جمهوريين وديمقراطيين على حدّ سواء)، كلّما اقتضت المصلحة العامّة (للولايات المتحدة، ثمّ إسرائيل)، أو المصلحة الشخصية لهذا النائب أو ذاك (السناتور الديمقراطي بيل نلسون، مثل السناتور الجمهوري أرلن سبكتر، دون أن نغفل الإشارة إلى كيري نفسه بالطبع).
يُضاف إلى هذا أنّ رسائل النظام السوري كانت تذهب علانية إلى دولة الاحتلال، دون حاجة إلى ساعي بريد أو وسيط؛ كما في ذلك الاقتسام الفاضح والسقيم الذي طرحه وزير خارجية النظام، وليد المعلّم، في حوار مع غابرييلا رفكند من صحيفة الـ»غارديان» البريطانية في ربيع 2010: «يمكن للانسحاب من الجولان أن يتمّ على مراحل، تنطوي توقيتاتها على شكل من التطبيع. نصف الجولان يمكن أن يفضي إلى إنهاء العداء. ثلاثة أرباع الجولان، تفتح ممثلية لرعاية المصالح الإسرائيلية في السفارة الأمريكية. الانسحاب الكامل سوف يسمح بسفارة سورية في إسرائيل». وتسأله رفكند عن العلاقة مع إيران و«حزب الله»، فلا يقول إنها «خطّ أحمر»، على جري العادة في الرطانة الإعلامية الرسمية، بل يجيب بوضوح: هذه مسألة نتولى أمرها بعد الانسحاب!
أم أنّ الرسالة يمكن أن يحملها مبعوث لا يشبه أياً من سعاة البريد، مثل المخرج الأمريكي الشهير فرنسيس فورد كوبولا؟ في تلك الحقبة ذاتها، أواخر العام 2009، مُنعت طائرة كوبولا الخاصة من الهبوط في مطار بيروت لأن بعض قطع غيارها صُنعت في إسرائيل. أحد الأذكياء نصح صاحب «العرّاب» بإجراء اتصال من الجوّ مع الأسد، الذي أمر بأن تهبط الطائرة في دمشق، ثمّ انتقل كوبولا بعدها إلى بيروت في طائرة أخرى، بعد وليمة رئاسية دافئة. مكسب الأسد، في المقابل، كان خبراً في العلاقات العامة تناقلته بعض وسائل الإعلام الأمريكية، وتصريحاً منافقاً من كوبولا يشير إلى حرص الأسد على السلام، وأنّ «الطعام بديع»، والأسد و«عقيلته وأسرته، اتصفوا بالوضوح والأنس والقدرة على الحديث في مستويات عديدة. وبهذه الطريقة أقنعني أنّ الرؤيا التي يحملها عن البلد إيجابية».
أخيراً، خلال تلك الحقبة ذاتها دائماً، لم يكترث النظام بإخفاء أو نفي استئناف المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية برعاية تركية، وكان الغرض استثمار هذه الوقائع في إلهاء الشارع الشعبي عن مصاعب العيش اليومية، وكوابيس قسائم المازوت، ومطحنة شائعات رفع الدعم؛ وكذلك ترحيل خلافات أهل السلطة الداخلية، العائلية والأمنية والاستثمارية، إلى ملفّ استئناف التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي بوصفه منطقة محايدة إذا جاز التعبير؛ ليس دون توجيه رسالة جديدة إلى الحليف الإيراني، ومن خلفه «حزب الله» تحديداً، حول استعداد النظام لقلب المعطف…
فما نفع ساعي بريد مثل كيري، في نهاية المطاف!