إيران تتخبط. ليست مقولة جديدة. فقد ظلت إيران فاقدة البوصلة منذ اندلاع ثورة الخميني في عام 1979. لكن تخبطها بدا أكثر جلاء خلال الفترة الأخيرة، بعدما اتضح أن مرشد النظام علي خامنئي، الذي يتحكم بكل قرار تنفيذي، وتشريعي، وقضائي، أضحى في عزلة شبه تامة، بسبب معاناته من مضاعفات سرطان البروستات كما تقول غالبية التقارير والتسريبات الصحفية. ولأن المرشد ليس حاضراً في جميع الأوقات، صارت الصراعات الداخلية، والتشرذم، والتشظي أمراً واقعاً في الحياة السياسية الإيرانية.
ويبدو كما يرى المتحدث الإعلامي باسم منظمة مجاهدي خلق الإيرانية موسي أفشار، أن الخلافات الداخلية وتفاقم صراع العقارب يعكس هزيمة نظام الملالي في مواجهة أزماته المتزايدة الداخلية والخارجية ومن المجتمع الإيراني المحتقن.
ومن الواضح ولعل أبلغ دليل على ذلك إقدام الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد على إعلانه ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في مايو القادم، منافسا لدمية المرشد الرئيس حسن روحاني، الذي يستغله خامنئي واجهة بزعم أنه إصلاحي، لـ «تسليك» العلاقات مع الغرب، بعد إخضاع إيران للاتفاق بشأن برنامجها النووي. وكان نجاد أعلن نيته الترشح للرئاسة في سبتمبر 2016، فسارع المرشد إلى توجيهه بعدم ترشيح نفسه.
غير أن نجاد قرر في 11 أبريل الجاري أن يتحدى المرشد، وهو المرشد نفسه الذي كان يتولى الرئاسة تحت إمرته. وقال الرئيس السابق إن تعليمات المرشد إليه ليست سوى «نصيحة». وهو يدرك جيداً أنه لن يفوز. ليس لأنه لا يستطيع تزوير الانتخابات مثلما فعل المرة السابقة في 2009، ولكن لأن التزوير يتم بتعليمات من خامنئي والدائرة المقربة إليه من «الملالي» المتشددين. كما أن فرص فوزه ضئيلة لأنه يفتقر إلى الشعبية، فقد شهد الإيرانيون كيف أشرف بنفسه على قمع المتظاهرين، والتدخل في الانتخابات النيابية والبلدية وخرجت في عهده حركة «المعاصم الخضراء» التي عمت كل المدن الإيرانية آنذاك. كما أن تصريحاته السياسية المتهورة الخالية من الدبلوماسية وضعت إيران على شفير صدامات مع دول عدة، ليزيد وضع الشعب الإيراني ضغثاً على إبالة، وهو الشعب الذي ظل يتجرع علقم العقوبات الدولية منذ 1979 بلا انقطاع. ولا يزال الشعب الإيراني (80 مليون نسمة) يكتوي بنار العقوبات الدولية والغربية تحديدا، على رغم تخفيف بعضها عقب الاتفاق النووي «المهزوز» في عهد الرئيس الأمريكي السابق أوباما.
لا شك في أن إعادة نجاد ترشيح نفسه للرئاسة لا تعدو أن تكون «رغبة» العودة لدائرة الضوء. لكن من المؤكد أنه دليل على أفول نجم المرشد الأعلى، وعلى أنه لم يعد قادراً على الإمساك بكل الخيوط داخل بلاده كما كان. كما أن الشارع الإيراني الذي تلظى بنيران العزلة، والعقوبات، والحروب الخاسرة في سورية واليمن ولبنان والعراق، لن يمنح صوته لرئيس سابق يتوهم القدرة على إلحاق الهزيمة بجميع الدول وهو «المكروه» في بلاده!
الأكيد أن سياسات نظام الملالي الإجرامية لن تنتهي بين يوم وليلة بموت الشيطان خامئني لأن أمثاله في النظام الإيراني كثر، والمنفذون لسياساته كثر أيضاً.. ولكن وفاته ستضعفه نفسياً وستضعف البناء الهيكلي للنظام وتشخيصه وستدب بين رؤوسه خلافات عدة!.
جاءت الضربة الأميركية للمطار بحمص رداً على الضربات الكيماوية بـ«خان شيخون» بجوار إدلب، لتغيّر في مسار النزاع المحلي- الإقليمي، ولتحوله إلى قضيةٍ عالمية. ويزعم الخبراء الاستراتيجيون الآن أنّ استعمال الكيماوي من جانب طيران النظام كان بالتنسيق مع الروس وربما مع الإيرانيين، لأنّ الأطراف الثلاثة أرادت اختبار ردّة فعل الرئيس الأميركي الجديد، وهل ستُشابه ردّة فعل أوباما عام 2013 أم تختلف(؟). وهذا ممكن لكنه غير مرجَّح، لأنّ الأميركيين كانوا قد صرّحوا بعدة ألْسنة أنهم لا يعتبرون إسقاط الأسد، أو تغيير النظام أَولوية، وإنما يريدون من روسيا أن تكون جادّةً أكثر في مسألة الحلّ السياسي بجنيف، ومسألة وقف إطلاق النار في اجتماعات أستانة. ثم إنّ الأميركيين بعد الضربة مباشرةً راحوا يخفّفون من وقعها، قالوا إنها ضد الكيماوي فقط لأنّ السوريين والروس زعموا أنه في العام 2016 ما عاد لدى النظام كيماوي(!)، بل وتوافق ذلك مع تقارير مشابهة من الأُمم المتحدة. وقالوا أيضاً إنهم ضربوا قسماً من المطار، وتجنبوا قسمين آخرين شكّوا في وجود تخزينات للكيماوي فيهما، ووجود جنود روس!
وعلى أي حال؛ فإنّ لهجة الأميركيين المنزعجة والمبرِّرة بعد الضربة، تغيرت وتصاعدت بعد اجتماع السبعة بروما، واستدعاء السعوديين والقطريين والأردنيين والأتراك للاجتماع إلى السبعة في اليوم التالي للتشاور بشأن الأزمة السورية. لقد تصاعدت اللهجة الأميركية والفرنسية والبريطانية في الاجتماع وبعده. أما الروس الذين استخدموا «الفيتو» في مجلس الأمن لمنع تكوين لجنة تحقيق في استخدام الكيماوي أخيراً، وكان ذلك للمرة الثامنة في أمرٍ يتعلق بالحرب في سوريا؛ فإنهم حملوا على وجه الخصوص على بريطانيا، واتهموها بالتحريض على الحرب، ومنْع التوافق بين الروس والأميركان على حلٍ للأزمة السورية!
وما دامت التصريحات القاطعة قد صدرت من «تيلرسون» وزير الخارجية الأميركي قبل الذهاب إلى موسكو فما كان متوقَّعاً أن تحدث انفراجات في المحادثات الأولى بين الطرفين. فقد امتنع بوتين عن الاجتماع به، وكان اجتماعه بلافروف ومُعاونيه عاصفاً، ومنهم من يقول إنه كان سلبياً وحسْب، فقد اتفقوا على العودة للتنسيق بالحدّ الأدنى حتى لا يحدث تصادُمٌ بين طيرانيهما فوق سوريا. لكنهم توقفوا عن التعاون الاستخباري حتى في ضرب «داعش». منذ عام 2013 صارت الأزمة السورية إقليمية، لأنّ إيران وميليشياتها بالمنطقة بل وعسكرها يشاركون فيها بقوة. ثم إنّ الإيرانيين يصرون منذ التدخل الروسي عام 2015 على أنهم هم الذين استدعوهم. بيد أنّ الفعاليات الروسية من جهة، والإسرائيلية والتركية من جهةٍ أُخرى، جعلت الأمور تتعدى حدودَ الإقليم بالطبع. وهي قد أصبحت الآن دوليةً تماماً بعد أن قالت الولايات المتحدة نحن هنا. ورغم كل انسحابات أوباما فإنّ الأميركيين ما كانوا غرباء عن الساحتين العراقية والسورية. فعندهم في العراق أكثر من ستة آلاف عسكري على الأرض فضلاً عن الطيران. وصار عندهم في سوريا زُهاء الخمسة آلاف، وقد كانوا يزعمون أنهم لا يفعلون شيئاً هناك إلاّ مقاتلة «داعش». أما وقد تدخلت الصواريخ الأميركية وللمرة الأولى ضد قوات النظام السوري وطيرانه وعلى مقربةٍ جداً من الروس؛ فإنّ النزاع صار دولياً بالفعل بعد أن كان دولياً بالنظريات والحسابات الاستراتيجية. ونحن نعلم الآن أنه يقف إلى جانب الأميركيين بريطانيون وفرنسيون وكلٌّ بعدة مئات على الأرضين العراقية والسورية.
يقول الخبراء الغربيون إنّ الأميركيين (أكثر من البريطانيين) ما كانوا يريدون أن يتدخل الأتراك بقوة لسببين: الاصطدام بالأكراد، وإمكان الاصطدام بالإيرانيين. بيد أنّ المصالحة بين الأتراك والروس أدخلتهم إلى شمال سوريا، ومنعتهم أميركا بعد استعادة مدينة الباب من داعش من التقدم نحو منبج، وما يزال الأكراد بمساعدة الأميركيين هم الذين يحاولون التقدم لمحاصرة الرقة. السبعة الكبار وعلى رأسهم الولايات المتحدة استدعوا تركيا وعدة أطراف عربية إلى الاجتماع بروما. وكان الواضح أنّ الغربيين يفكرون من أجل الضغط للحل السياسي بسوريا، وإخراج إيران من البلاد، بإعطاء دور أكبر للأتراك، والاستفهام عن دورٍ ممكنٍ للعرب وربما للتحالف العسكري الإسلامي. بل ويفكر البريطانيون بمهاجمة «داعش» مع الأردنيين من الجنوب على مقربةٍ من الحدود الأردنية – السورية، والأردنية – العراقية. ويعتقد الخبراء الاستراتيجيون البريطانيون والأميركان أنّ هذه هي الطريقة الأنجع للضغط على الروس من أجل السير بشكل جدي في الحل السياسي.
ماذا يعني هذا كلّه؟ هذا يعني أنّ النزاع طويل، مثل النزاعين الليبي والأوكراني. لكنه من ناحيةٍ أُخرى، وما دام قد صار نزاعاً دولياً؛ فقد يضطر الطرفان أو الأطراف ولتجنب أخطار الاصطدام العسكري، لإعطاء دورٍ أكبر للأُمم المتحدة ومجلس الأمن، بعد الاتفاق على الأقلّ على تثبيت وقف إطلاق النار.
الغارة الأميركية على مطار الشعيرات بداية لحل سياسي جديد في سورية. الضربة لن توقف الحرب على السوريين، لكنها ستضع حداً لتمادي روسيا وإيران في القتل والتهجير. الإدارة الأميركية الجديدة تريد وقف الحل العسكري الذي ينتهجه بوتين وحلفاؤه، والاتفاق على خطة سياسية استراتيجية تقوم على أسس مختلفة عن السابق. واشنطن ليست في وارد الدخول في حرب على الساحة السورية، فضلاً عن الوجود العسكري على طريقتها في العراق. وهي تدرك أن لروسيا مصالح في سورية، ومستعدة للتفاهم حولها.
روسيا وجدت في الغارة الأميركية مخرجاً محتملاً لورطتها في سورية، والتي بدأت آثارها تظهر على أمنها الداخلي، فضلاً عن أن تغوُّل الجيش الروسي والميليشيات الإيرانية في القتل، أفضى إلى تحويل سورية ساحة جاذبة للعنف والجماعات المتطرفة. الضربة الأميركية أوجدت ظروفاً من شأنها إنقاذ روسيا من ويلات الحرب السورية، وموسكو باتت مستعدة للجلوس إلى طاولة التفاهم مع واشنطن، لكنها تبحث عن ضمانات أميركية تسمح بحماية هيبتها، وبقاء قواعدها في سورية، وحصة شركاتها في إعادة الإعمار. هذا الثمن، في نظر الإدارة الأميركية، في حاجة إلى تنازلات، منها وضع حد للنفوذ الإيراني في سورية، وعدم التمسُّك بالرئيس بشار الأسد، مع التسامح ببقاء بعض أركان نظامه، غير المتورّطين بجرائم حرب.
الطرفان الأميركي والروسي يُدركان أن التعامل مع طهران بصفتها مرتزقاً انتهى دوره، غير ممكن. وإيران لن تتخلى عن مشروعها في تمكين «حزب الله» في لبنان، والتمسُّك بحبل- ولو كان قصيراً- يضمن لها استمرار دعم الحزب، ورعاية دوره في لبنان، وغيره من الدول العربية. لكن هذا الحل لن يرضي حلفاء أميركا في المنطقة. فاستمرار التواصل العسكري مع «حزب الله» ودعمه، يعني أن طهران أبقت أهم أذرعها في العالم العربي وخرجت منتصرة.
لا شك في أن القضية السورية دخلت منعطفاً جديداً، لكنه ليس حاسماً. فاختيار بديل من الأسد لن يكون سهلاً، والمعارضة السورية، أو ما تبقّى منها، لن تتفق على اسم محدد، وهذا يعني أن اختيار النظام البديل ربما عاود تفجير الوضع مجدداً.
الأكيد أن الغارة الأميركية محاولة جدّية لرسم طريق جديد للقضية السورية. لكن هذه المحاولة تسير على ألغام حقوق الأقليات، ومصالح دول الجوار، وستتم في النهاية على حساب مصالح الشعب السوري، فضلاً عن مصالح الدول العربية، الرافضة المشروعَ الإيراني في المنطقة.
يثير المشهد السوري الراهن الكثير من التساؤلات والاحتمالات التي تفرض ضرورة العودة لنقاش هادئ بهذا الصدد.
1- فأول ما يجب تذكره - مع التطورات الأخيرة بالضربة الأميركية ضد مطار الشعيرات، أنها أعادت التأكيد أو أعطت الانطباع بأن سورية كانت ولا تزال أحد الأبعاد الرئيسة للصراع في المنطقة، إلى الحد الذي يذكرنا ببعض ما كان يتردد في الخمسينات من القرن الماضي من أن السيطرة على سورية تعطي لصاحبها فرصة نفوذ أكبر في المنطقة - وفي الواقع أن هذا الطرح فيه قدر من المبالغة - فسورية كانت ترتبط منذ عقود بالنفوذ الروسي – بل كان من المفارقات أن انهيار الاتحاد السوفياتي كقطب دولي رئيس -لم يؤد إلى خروج روسي كامل من سورية - بل استمر الترابط والتفاهم الاستراتيجي بين البلدين في شكل جعل سورية أحد مظاهر أو بقايا الدور العالمي لروسيا أو لعله المظهر الوحيد حتى الآن، فالنفوذ الروسي في دول آسيا الإسلامية لا يختلف كثيراً عن ما تتمتع به دولة كجنوب إفريقيا في دول السادك وفي دول جنوب القارة الإفريقية في شكل خاص، أو على الأقل هو مشابه لهذا النمط من النفوذ لدولة كبرى أو متوسطة مع جيران أصغر مترابطين اقتصادياً وثقافياً. ما جعل سورية منذ البداية حالة خاصة بالنسبة لروسيا، والذي حدث بعد التدخل الروسي العميق في سورية أن العلاقة انتقلت من الترابط والتلاحم الاستراتيجي، إلى ما يؤهلها -أي سورية- لأن تكون مجالاً أكبر للنفوذ الروسي، ونقطة انطلاق محتملة لهذا النفوذ إقليمياً. وهنا أعود للمقولة التي بدأنا بها الحديث، وهي أن النفوذ والمكانة الروسيين اللذين لم يتوقفا في سورية لم يعطيا لموسكو أي فرصة حقيقية لنفوذ إقليمي شرق أوسطي أو عربي خلال هذه العقود السابقة، وقد لا يعطيانها في المستقبل حتى إذا نجحت في أن ترسخ من نفوذها في سورية.
2- إنه عبر كل مراحل الثورة ثم الحرب في سورية، كانت مفردات الصراع والتسوية في معظمها واحدة، بقاء الأسد مع استمرار النظام أو رحيل الأسد وبقاء النظام، أو رحيل الأسد والنظام معاً، توحيد المعارضة وتشرذمها، وأخيراً أيهما يجب التركيز عليه رحيل الأسد أم القضاء على التنظيمات الإرهابية المتشددة، ومن المسؤول عن ظهور هذه التنظيمات.
3- إنه لا يمكن إنكار أن مسؤولية ظهور هذه التنظيمات المتشددة – التي تتخذ من الإسلام شعاراً لها عن غير حق -أن مسؤولية بروز هذه الظاهرة تقع على عاتق كثير من الأطراف الدولية والإقليمية، فضلاً عن النظام السوري، فالمعلومات كثيرة حول تورط أطراف عدة في دعم هذه التنظيمات -في أكثر من مرحلة بتأثير وهم أنه دعم مرحلي حتى التخلص من هذا النظام المدان تاريخياً والملوث بدماء مئات الألوف من شعبه، أما مسؤولية النظام فواضحة سواء كان صحيحاً الاتهام بأنه في بعض المراحل أفسح الطريق لهذه العصابات لتغيير شكل الصراع وأبعاده، أو لأن استمراره وقسوته أثارا كثيراً من ردود الفعل المتطرفة واليائسة. وفي النهاية بصرف النظر عن المسؤولية تجاه هذه الظاهرة، فإنه لا يمكن استمرار تجاهل خطورة ما تمثله هذه الظاهرة ليس فقط سورياً وعربياً بل على البشرية كلها، وإنه لا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة للتعامل مع هذا التهديد والخطر الوجودي.
4- إن أخطار الأزمة السورية بسبب جملة التعقيدات والتطورات المحيطة بها، قد أصبحت تمتد إلى صلب وجود الدولة والمجتمع في سورية، وكلما استمر الصراع والقتال، وما يحيط بهما من حركة للبشر باتجاه النزوح والتهجير، زادت صعوبة إنقاذ كيان الدولة في سورية، فضلاً عن استمرار النزيف البشري غير المقبول.
5- إن الضربة الأميركية أعادت مواقف الأطراف إلى بعض وليس كل منطلقاتها الأولى، فاللغة الأوروبية التي كانت قد تأثرت بالواقع الجديد الذي سببه التدخل الروسي، فقبلت الحديث عن سورية بوجود الأسد -سواء كمرحلة انتقالية أو كأمر واقع، عاد أغلبها للحديث مجدداً عن ضرورة رحيل الأسد. والأطراف العربية التي تبنت هذا الاتجاه منذ البداية أيدت من دون تردد هذه الخطوة - وعارضت الدول الحليفة والمتورطة كإيران و «حزب الله» هذه الخطوة كموقف واضح بالنسبة لها، كما عارضت تلك الدول التي ترتاب في السياسات الأميركية كالصين وبعض دول أميركا اللاتينية، وواصلت تركيا سياساتها الانتهازية التي تمارسها منذ فترة، فبعد أن دعمت «داعش»، تركت حلفاءها وسايرت روسيا بعض الوقت، ثم أيدت هذه الضربة -لتثير كثيراً من التساؤلات لحلفائها قبل أعدائها عن مدى مصداقيتها ومدى جديتها.
6- إن التقييم الدقيق لآثار هذه الضربة سيتوقف من دون شك على ما إذا كانت هناك خطوات أخرى تالية أم لا، وهنا نلاحظ أنه بينما صدرت تصريحات من مسؤولين أميركيين بما في ذلك ترامب نفسه بأنه ربما تلى هذا عمليات عسكرية أخرى، فإنه من ناحية أخرى تم تداول مواقف نسبت لبعض أعضاء الكونغرس بتأييدهم لهذه الخطوة بشرط العودة للكونغرس قبل الإقدام على خطوة تالية، وفي الواقع أن الشواهد التالية بخاصة تبين أن تأثير هذه العملية المحدود نسبياً بسبب إخطار روسيا والتعبئة العسكرية الروسية، فضلاً عن استعادة تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية تشير كلها إلى عدم توقع تصعيد أميركي كبير، وأن ترامب كان في حاجة لتحويل الأنظار عن فشله في تنفيذ عدد من برامجه الانتخابية الرئيسة كما أشرنا في مقالنا السابق، وتوقعنا أنه قد يلجأ لتحركات خارجية تعويضاً عن إحباط سياساته الداخلية حتى الآن.
7- مع استبعادي تصعيداً أميركياً متواصلاً، وأن يتم الاكتفاء بهذا أو ببعض التدخلات المحدودة المتشابهة، فالمتوقع أن يتبلور هدف هذه الضربة حول مجرد إعادة التوازن للعملية السياسية بما يسمح باستيعاب الدور الأميركي في التفاعلات في شكل أكثر جدية، كما تزداد الاحتمالات أن يتم استثمار هذه الخطوة في تصعيد مخطط نحو إعادة شروط التسوية في ما يتعلق بمفردة بقاء الأسد أم رحيله، ويؤكد هذا نمط التفاعلات المحيطة بزيارة تيلرسون وزير الخارجية الأميركي لموسكو، رغم استمرار الحديث عن الخلاف بين الجانبين، وعموماً فإن هذا سيتوقف على مدى ثبات الموقف الأميركي في هذا الاتجاه، كما سيتوقف على حين بدء التراجع الحقيقي لتيارات العنف المتأسلم كلها. يبقى أن ما هو أكثر وضوحاً حتى الآن أن معاناة الشعب السوري الشقيق ستستمر، وأنه لم تتضح بعد معالم تسوية شاملة لمعاناته تشمل المفردات الأخرى التي لا تقل أهمية عن ما سبق ذكره، وهي إعادة الإعمار، وعودة النازحين والمهجرين، وتطبيق العدالة الانتقالية، وشروط كل هذه الأبعاد بما في ذلك إنهاء كل مظاهر الظلم والتجاوزات بحق هذا الشعب العربي.
أخيراً تحرك المجتمع الدولي. يبدو أن مناظر موت الأطفال هز العالم بالدرجة الأولى. في أميركا قال سيناتور أميركي لقد ولى عهد اللاحساب وعندنا اليوم رئيس. صدق فأوباما كان متردداً وإن كان يتقن الخطابة اللفظية. بالطبع بعد الضربة تعددت التعليقات، ومن يسمع حوار القوم وخصامهم وتهاترهم في مجلس الأمن، الذي يعطل ولادة العدل في كل مرة، لا يستطيع أن يمسك نفسه عن الضحك. يقول المثل شر البلية ما يضحك. ولكن يتقدم سؤالان: هل مسموح القتل بالبراميل، وممنوع بغاز الخردل والسارين؟ والثاني هل هي صفعة تحذير؟ أم هي بداية علاج حاسم؟
من التاريخ الأميركي نذكر قصة «مكنامارا»، وزير الدفاع الأميركي أيام كيندي، في أزمة كوبا. قال الرجل وقد اشتعل الرأس شيباً: إننا كنا على شفا حفرة من النار النووية، فالغواصات الروسية الأربع التي كانت تحوم حول جزيرة كوبا مثل سمك القرش، كانت تحمل الصواريخ النووية في بطنها، ومعها الأمر بالضرب إن هوجمت. قال لم تكن ثمة خطوط اتصال حمراء بين العملاقين، ونجونا مثل قصة الروليت الروسية!
ومضى بي الخيال في سيناريو مختلف لفضح ممارسات النظام. فهناك أيضاً احتمال ترتيب بين أميركا وحلفائها، أن يتم شراء ضابط من نظام الأسد، بحقيبة محشوة بمبلغ محترم من الدولارات الخضراء، يشتري بها فيلا في «ماربيلا» وتؤمن أميركا له هروبه! يقوم هذا الضابط العقائدي في حفلة إلقاء البراميل، أن يكون معها برميل مليء بغاز الخردل. وخاصة أن الروس زعموا أنهم سحبوا كل المخزون الكيماوي من ترسانة الأسد.
هو في الوقت نفسه اختبار لإدارة ترامب، هل تكون إدارة أوباما أخرى جديدة؟ سيكون هذا العمل مبرراً أمام العالم أن يتم صفع هذا المتنمر على إرادة أسياد العالم، كما حصل من قبل مع صدام فتم تأديبه ومسكه ومحاكمته ثم شنقه بيد أبناء جلدته، وهو ما سيحصل لبشار، مع فارق أن الأسد حارس جيد للحدود الإسرائيلية، فقد يشفع له هذا في الهروب، إلى قم ليلبس العمامة السوداء.
قال لي صديق مغربي، هناك أمران للتعليق: الأول الحسرة على وضع العالم العربي، وأننا نفرح بالخلاص على يد أميركي.
والأمر الثاني كيف سيتصرف نظام الأسد في المقابل؟ وكيف سيتصرف ترامب الذي تحدث إلى العالم بلغة إنسانية جداً وطلب العون من الله في حملته.
وثمة أسئلة أخرى كثيرة سيجيب عنها الزمن، طال الأمر أم قصر! هل سيسلح الروس الأسد بأنياب دفاع وعض أشد قوة؟ وهل سيقوم ترامب بتزويد المعارضة بأسلحة لإسقاط الطائرات؟ وأخيراً هل ستقع المواجهة بين الروس وترامب، فنكون على حافة حرب عالمية ثالثة مخيفة؟ تماماً كما هي في الأساطير.
حالياً على الأرض السورية يقاتل الكرد والعرب والعجم والروس والأميركيون والأتراك ومليشيات «الحقد الشعبي» ومقاتلو «النصرة» و«القاعدة» و«داعش» بعشرات الآلاف من المقاتلين. وتتعقد المسألة السورية كل يوم، وكان حلها في البداية أسهل بكثير. مثل الأمراض المختلطة، ومضاعفات العمليات الجراحية، فننتقل من ورطة إلى ورطة أبشع. فهل تخضع سوريا لقاعدة: اشتدي أزمة تنفرجي؟ أم أنها نار تأكل الجميع وتلتهب حرب عالمية في المنطقة؟
مرة أخرى قال صديقي المغربي، وهو يحاورني، في النهاية ماذا تتوقع؟ قلت: الأقرب هو بداية الحل، لأن المواجهة تعني الحرب النووية، وهذا يقول إنها نهاية العالم، والكل لا يريدها نهائياً وبشكل لا ريب فيه، فلا أحد يتمنى الفناء أبداً. والأقرب أن يركع نظام الأسد، ويتخلى عن المواجهة، وتبدأ مفاوضات التخلص من سرطان «البعث» السوري، كما تخلص العراق من «البعث» العراقي، فهما فردتا حذاء ووجهان لعملة واحدة. ومع هذا فحماقات البشر لا نهاية لها.
جاء في الأثر أن الفرات حيث المعارك اليوم، ويقال إن «داعش» قد جهزته للتفجير، يحسر عن كنز من ذهب يقتتل عليه الناس، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون، كلهم يقول هذا لي، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً!
كان اليسار الأمريكي، أو ما يمكن أن يطلق عليه "أيتام أوباما" في حالة نشوة كبيرة، فقد استطاع إعلام اليسار أن يرسم صورة قاتمة للرئيس الجديد، دونالد ترمب، وهي صورة مليئة بالمغالطات، والتسريبات، والسيناريوهات المتخيلة، وقد ساهمت بعض أخطاء ترمب، وتفاعله مع استفزازات اليسار في رسم تلك الصورة، وكانت أقوى ورقة في يد خصوم ترمب هي التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، والتي يصر اليسار على أنه حدث لخدمة ترمب، بل وبتنسيق معه، ومع أقرب مستشاريه، كما كان لتعجل ترمب في إصدار الأمر التنفيذي، بمنع مواطني سبع دول من دخول أمريكا، دور في تفاقم أزمته، خصوصاً بعدما تدخل القضاء الفيدرالي، وأصدر أمره بإيقاف هذا الأمر، ولكنه فاجأ الجميع، خصوصاً خصومه السياسيين، عندما أعطى أوامره، كقائد أعلى للقوات المسلحة، بضرب النظام السوري ضربة تأديبة، كانت رمزيتها كبيرة جداً.
اليسار الأمريكي صعق من هذا التحرك العسكري لترمب، لأنه كان يريد له أن يستمر رئيساً بلا فاعلية، ليتسنى له توجيه الضربات ضده، وكانت أقسى ضربة "ترمبية" لليسار هي أن تحركه العسكري ضد نظام سوريا نسف كل ادعاءات خصومه عن علاقته الودية مع روسيا بوتين، فصواريخ توماهوك المرعبة على قاعدة الشعيرات كانت صفعة قوية لروسيا، التي تحتل سوريا فعلياً، قبل أن تكون ضربة تأديبية لنظام بشار، وقد أدرك خصوم ترمب ذلك، فما كان منهم إلا اختلاق القصص "المؤامراتية" بخصوص الضربة، ولم أكن أتوقع أن يسقط معلق سياسي أمريكي كبير، مثل لورانس اودانيل، بمثل هذا الوحل، ولكن يبدو أن أيدولوجيته اليسارية تغلبت على المنطق، جراء نسف ترمب لنظريته بتورط ترمب في علاقة مشبوهة مع الروس.
تقول نظرية لورانس اودانيل المتخيلة إن ضربة ترمب العسكرية لسوريا قد تكون جراء اتفاق بينه وبين بوتين، وذلك لصرف الأنظار عن المشاكل التي يواجهها ترمب في الداخل الأمريكي، وعن التحقيقات التي يجريها الكونجرس، وأجهزة المخابرات، حول علاقته بروسيا، وهو الأمر الذي حدث، عندما تحول حديث وسائل الإعلام الأمريكية إلى القرار الجريء بضرب نظام بشار، عوضاً عن الحديث عن مشاكل إدارة ترمب، وهذا السيناريو لم يكن مقبولاً من معلق مبتدئ، ناهيك أن يصدر عن معلق له وزنه مثل اودانيل، ولكنها الأيدولوجيا التي تعمي الأبصار، وسيناريو اودانيل يشبه سيناريوهات بعض البسطاء، الذين يقنعون أنفسهم دوماً بوجود مؤامرة غربية ضد العرب والمسلمين، ولم يكن اودانيل وحده في هذا السبيل، فهناك معلقون غيره وقعوا في ذات المطب، وفات عليهم أن زعيماً قومياً طموحاً مثل بوتين، لا يمكن أن يسمح بمثل هذا السيناريو أن يحدث، والذي سيظهره بمظهر الضعيف، وهو الزعيم الذي يطمح بإعادة الأمجاد الروسية، ومناكفة الإمبراطورية الأمريكية، التي ساهمت في سقوط الاتحاد السوفييتي، وسنواصل الحديث عن كل ذلك، فالأحداث لا تزال في بدايتها!
منذ بدء تدخلها العسكري المباشر في سورية، نهاية سبتمبر/ أيلول 2015، اتسم سلوك روسيا بكثير من العنجهية واستعراض القوة، بما يشي بأنها جاءت إلى سورية بعد أن اطمأنت إلى أنها ساحةٌ لا أطماع لأحد من اللاعبين الدوليين الكبار فيها، وأن تدخلها العسكري مرحبٌ به من الأميركيين والأوروبيين، وإن كانت مواقفهم المعلنة تقول عكس ذلك. خصوصًا أنها راعت ألّا تصطدم بمصالح الغرب، ولا تركيا، في سورية، بل قدّمت نفسها بسلوكها على الأرض ضامناً لتلك المصالح، فأتاحت للأتراك قضم حصتهم في الشمال، وبنت علاقات جيدة مع الأكراد، حلفاء الأميركان، ونسّقت في عملياتها معهم، ولم تهدّد حرية الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية، وأبعدت قواتها عن مسرح العمليات الإسرائيلي- الأميركي- العربي في الجنوب، وحدّت من نفوذ إيران وأدواتها، وضمنت، في الوقت عينه، بقاء النظام، بعد أن كان على وشك السقوط قبل تدخلها، والذي يبدو أن الغرب لا يرغب بسقوطه، أو على الأقل لا يرغب أن يكون سقوطه غير منظم ومحسوب.
إلا أن الضربة الأميركية الأخيرة لقاعدة الشعيرات الجوية أربكت الروس بشكل واضح، وجاء الارتباك الروسي ليشي بأن تغيّرًا في الحسابات الأميركية والغربية كان وراء الضربة، لا مجرد رد فعل على التفجير الكيميائي في خان شيخون، ما يجعل موقفهم في سورية بالغ التعقيد، وعلى حافة الورطة. ومن أهم مظاهر الارتباك الروسي:
أولاً، بعد الهجوم الكيميائي على خان شيخون مباشرة، قال المتحدّث باسم وزارة الدفاع الروسية، اللواء إيغور كوناشينكوف، إنه "وفقا لوسائل الرصد الجوية الروسية، قصفت القوات الجوية السورية في الساعة 11.30 و12 ظهراً بالتوقيت المحلي أمس، مستودعًا ضخمًا للذخيرة تابعًا للإرهابيين في الأطراف الشرقية لبلدة خان شيخون في ريف إدلب، وكان المستودع يحوي ذخيرة ومعدات، فضلاً عن العثور على مصنع محلي لإنتاج قنابل محشوة بمواد سامة". وأضاف أن "المستودع احتوى على ذخائر أسلحة كيميائية تم نقلها إلى البلاد من العراق". وفي نهاية بيانه، أكد أن "المعلومات الواردة أعلاه موضوعية تمامًا وموثوق بها". وهي رواية صادق النظام السوري عليها على لسان وزير خارجيته، وليد المعلم.
وفي الثاني عشر من إبريل/ نيسان الجاري، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في حديث لقناة مير الروسية: "هنالك فرضيات عديدة بخصوص الكيميائي في خان شيخون، منها ما يرجّح أن تكون مسرحية أو أن الطيران السوري قصف ورشة لصناعة المواد السامة". أي أن "المعلومات الموضوعية تمامًا وموثوق بها"، بحسب وزارة الدفاع الروسية، قبل الضربة الأميركية أضحت فرضية من بين فرضيات، بحسب الرئيس الروسي بعد الضربة.
ثانيًا، تعدّد الروايات حول عدم اعتراض أنظمة الدفاع الجوي الروسي صواريخ توماهوك الأميركية. في البدء نقلت وسائل إعلام روسية عن محللين روس أن روسيا لم ترغب في اعتراض الصواريخ الأميركية تجنبًا لتطور الأمور نحو حرب مع الولايات المتحدة، بعد ذلك قالوا إن "توماهوك" عبرت الأجواء اللبنانية، ولا تستطيع الدفاعات الروسية التصدّي للصواريخ الأميركية فوق لبنان، لعدم وجود اتفاق مع هذا البلد، يسمح للروس بالعمل في أجوائه، وكأن حالات الدفاع القاهرة تتطلب تفاهمًا واتفاقيات دولية، ثم أين كانت حساسية الروس نحو السيادة الوطنية للبنان، عندما أغلقوا معظم مجاله الجوي ثلاثة أيام، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، بحجة قيامهم بمناورات عسكرية في البحر المتوسط؟
ثالثًا، بعد قصف مطار الشعيرات، نشرت وسائل إعلام النظام وإيران وحزب الله بياناً لما سمتها "غرفة العمليات المشتركة لروسيا وإيران والقوات الرديفة"، تتوعد فيه بالرد على أي عدوان أميركي جديد (كأن الوجود العسكري الأميركي على الأرض في شمال شرق سورية ليس عدواناً)، لم ينف الروس البيان، لكنهم ردّوا عليه وكذّبوه ضمنياً بتصريح لرئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي، فيكتور أوزيروف، قال فيه إن "قواتنا المسلحة منتشرة في سورية من أجل محاربة الإرهاب، وليس لحماية سورية من التهديدات الخارجية، وليست لدينا مثل هذه المهمة. ولذا لن نقوم باعتراض شيء".
ماذا بعد الارتباك الروسي؟
جاءت الهجمة الصاروخية الأميركية إعلاناً عن مرحلة جديدة، تتدخل فيها الولايات المتحدة مباشرة في الصراع المركزي على من يحكم سورية، وليس فقط في الصراع الهامشي ضد "داعش"، والذي يُتَّخذ ذريعة من كل الأطراف لإدامة الأزمة ومد وتأمين مناطق نفوذها داخل البلد المنكوب.
ويبدو أن الضربة الأميركية حققت هدفها الأساسي غير المعلن، وهو تحجيم الروس، وإفهامهم أن الوقت يمر، وهو ليس في صالحهم، وعليهم التجاوب مع المبادئ الغربية للحل.
وفي هذا السياق، حملت الضربة الأميركية تهديدًا ضمنيًا للوجود العسكري الروسي نفسه في سورية، لم يكن بالضربة الصاروخية بحد ذاتها، بل بعدد الصواريخ الكبير الذي تم إطلاقه. 59 صاروخًا في موجة واحدة كافية لإرباك أي نظام دفاع جوي، مهما كان مستوى تطوره، وجاء إطلاق هذا العدد الكبير استعراضًا للقوة النارية الهائلة للولايات المتحدة في الإقليم، وتذكيرًا للروس بها. يكفي أن نعلم أن القطعة الحربية الأهم في مجموعات السفن الحربية الروسية المرابطة قبالة سواحل روسيا في البحر المتوسط، الفرقاطة الأميرال غريغوروفيتش، تمتلك ثماني حاويات فقط لصواريخ كروز الروسية كاليبر، بينما الرشقة الصاروخية الأميركية جاءت من مدمرة أميركية واحدة هي "يو إس إس بورتر"، وهي واحدة من بين 32 قطعة حربية بحرية ضمن الأسطول السادس الأميركي المرابط في المتوسط بشكل دائم، والذي يشتمل على حاملتي طائرات و175 طائرة، ناهيك عن قدرات باقي دول حلف الأطلسي المتوسطية.
الآن، وفي ظل هذا الواقع المتغير، يبدو أن الروس في مأزق، عبّرت عنه حالة الإرباك في التعاطي مع القصف الأميركي، والمخرج منه بتقديمهم تنازلاتٍ قد يكون منها القبول بحل وفق الشروط الغربية، وهو أمر خطير، فعلى الرغم من كل الرفض والإدانة للتدخل الروسي في سورية، إلا أنه يجب الاعتراف بأنهم الطرف الوحيد الذي ظل ينادي بحل سياسي، يضمن وحدة سورية وسيادة الدولة المركزية الكاملة. أما الغرب وحلفاؤه الإقليميون فقد أعطوا إشاراتٍ كثيرة حول قبول مبدأ الفدرلة، أو المحاصَصَة الطائفية، في نظام الحكم بعد الحل وحتى التقسيم، وقدّم حلفاء النظام الإقليميون مثل تلك الإشارات بدورهم، ويمكن مراجعة تصريحين لنائب أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، عن إمكانية التقسيم، الثاني نهاية مارس/ آذار الماضي، والأول في أغسطس/ آب 2016.
من هنا، وبشيء من الاستطراد خارج عنوان هذا المقال، مِن المُلِح التأكيد على أن تهليل بعض السوريين والعرب للتدخل الأميركي العسكري ساذج وأرعن، ويدل على ضعف قدرات التعلم لدى هؤلاء. هذا إن افترضنا حسن النيات. الأميركان لا تعنيهم بشيء مصالح الشعب السوري بدولة ديمقراطية موحدة سيدة، فمصالحهم في سورية، وفي مقدمتها ضمان أمن إسرائيل الدائم، تتعارض مع هذا. على من ينتظر الخلاص في احتلال أميركي لسورية أن يشيح بعينه شرقًا نحو العراق، ليرى أين أوصل التدخل العسكري الأميركي هذا البلد العربي. إن حاضر العراق اليوم هو مستقبل سورية إن غزتها القوات الأميركية، وربما أسوأ بمراحل.
صحيح أنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لم يقم إلى الآن بإعادة النظر في الاتفاقية النووية الإيرانية التي تمّ إقرارها في عهد الإدارة الأميركية السابقة، وشكّلت في حينها تحولاً كبيراً وتاريخياً للمقاربة الأميركية تجاه المنطقة العربية، منذ العام 1979. لكن الإدارة الأميركية الجديدة تقوم بما هو أكثر من ذلك، بهدم مقاربة الرئيس السابق باراك أوباما تجاه إيران، وإعادة تعريفها بوصفها خطراً وعدوا للولايات المتحدة الأميركية، وجعل مواجهة نفوذها ضمن أولويات الإدارة الجديدة.
هذا التصوّر الجديد واضح تماماً فيما يتعلق بسورية، فالإدارة الأميركية أعادت تعريف أهدافها لتصبح، بدلاً من محاربة داعش وهزيمتها (كما انتهت الإدارة السابقة) ثلاثة؛ هزيمة داعش، وفي الوقت نفسه تحجيم دور إيران، ومنعها من إقامة مجال حيوي يمتد إلى البحر المتوسط، وثالثاً إنهاء حكم بشار الأسد.
تقتضي مثل هذه الأهداف، كما ذكرنا في المقال السابق ("العربي الجديد" 9/4/2017)، عملياً قلب قواعد اللعبة في سورية، بل في المنطقة، والدخول في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع إيران التي دفعت كلفة كبيرة للوصول إلى هذا النفوذ المتنامي في سورية، ودعمت الأسد، وماضية في الطريق إلى إقامة "سورية المفيدة".
لو فرضنا، جدلاً، وهذا مستبعدٌ تماماً، أنّ الإدارة الأميركية نجحت، فعلياً، في تفكيك تحالف الروس مع الإيرانيين خلال الفترة المقبلة، فهل ستكون قادرةً على هزيمة النفوذ الإيراني، وتمكين الأطراف الأخرى في سورية من تضييق الخناق على بشار الأسد، وإخراجه من الحكم، وتحجيم نفوذ إيران في سورية؟
المسألة أكثر تعقيداً من هذا التبسيط. لكن، مع المواقف الأميركية الجديدة، دخل الصراع السوري منعرجاً جديداً، يعتمد أولاً على موقف الروس، وهو مهم وأساسي في دعم النظام السوري، وثانياً على رد فعل الإيرانيين على المواقف الأميركية الجديدة، فيما إذا كانوا سيكتفون بإعادة خلط الأوراق في سورية أم سيوّسعون المتاعب الأميركية لتصل إلى العراق، وتهديد المصالح الأميركية هناك.
أيّاً كان الأمر، فإنّ من المهم إدراكه أنّ الإيرانيين يمتلكون اليوم شبكةً عريضةً وكبيرةً من التحالفات الإقليمية والداخلية في كل من سورية والعراق، ودول عربية أخرى، ليس من السهل تدميرها أو إضعافها، ويقفون على الأرض عسكرياً بقوة، عبر الأذرع العسكرية للحرس الثوري الإيراني في المنطقة، فيلق القدس، والمليشيات الشيعية العراقية، وحزب الله، والمليشيات التي تمّ تشكيلها في سورية، وأصبحت تحت الوصاية العملية الإيرانية.
لن يترك الإيرانيون الأميركيين يهدمون ما أنجزوه من نفوذٍ كبير خلال الأعوام الماضية من الأحداث في سورية، وبعد أن دفعوا كلفةً كبيرةً عسكرياً ومالياً. لذلك، لن تكون المواجهة مع إيران سهلةً، ولا في متناول اليد، من الرئيس الأميركي الجديد.
قد لا تظهر على المدى القصير نتائج وعلامات مباشرة وواضحة للمواجهة الأميركية- الإيرانية في سورية، خصوصا إذا فشل الأميركيون في إبعاد الروس عن طهران، فستركّز إدارة ترامب على بناء نفوذ داخلي وإقليمي في سورية، وتعزيز وجودها العسكري، سواء مباشرة في بعض القواعد العسكرية، وتدشين قواعد جديدة، أو غير المباشرة عبر التحالف مع الأكراد والقوى العشائرية السورية في الجنوب، وربما تحاول الإدارة الأميركية تعزيز ذلك عبر تحالفٍ مصغّر، يضم دولاً عربية وغربية تشارك الأجندة الأميركية.
لكن، على المدى المتوسط، فإنّ الصراع على "تركة داعش" سيظهر جلياً في المشهد السوري، فهنالك معارك الرقّة وريفها وريف حلب، ودير الزور وريفها وبادية الشام، حيث انحاز عدد كبير من عناصر "داعش"، في محاولة لإعادة بناء قوتهم في الصحراء السورية الممتدة.
بكلمة؛ لا تزال هنالك فجوة واسعة بين التحولات الأميركية الجديدة على صعيد الأهداف، وإمكانية تحقيقها وتنفيذها على صعيد الخطط الواقعية، والواقع الأكثر تعقيداً وتشابكاً بين مصالح الأميركان والروس والإيرانيين والأتراك والأكراد والعرب.
بلغت الرحلة محطتها الأخيرة، فالوضع الدولي لم يعد طوع بنان فلاديمير بوتين، زعيم روسيا الذي يرجّح أن يعجز عن إنقاذ الأسد، بعد الضربة الأميركية ضد مطار الشعيرات عقاباً للنظام على استخدام السلاح الكيماوي ضد أهالي بلدة خان شيخون، وبعد ما كشفته من حقائق حول محدودية قدرة روسيا على إنجاز هذه المهمة التي تبدو شبه مستحيلة، وصار على بوتين اتخاذ قرارٍ على درجة قصوى من الأهمية بالنسبة لبلاده ولسورية والعالم، يتعلق بخيارٍ لا يترك له غير أحد بديلين: الانفصال عن سفاح دمشق، والسعي إلى تسويةٍ متوازنةٍ للصراع على سورية وفيها. يحافظ بواسطتها على مصالح بلاده، بموافقة من المعارضة السورية، لأن التسوية ستستجيب لحقوق شعبها ومطالبه، وإلا فالاكتفاء بمراقبة الأسد وهو يغرق، وبرؤية روسيا وهي تغرق معه، من دون أن يكون باستطاعته فعل أي شيء له ولبلاده، فيكون عندئذٍ كمن أخبرنا شكسبير أنه ذهب إلى قص صوف غيره، فعاد وقد جزّ وبره.
منذ الضربة الصاروخية الأميركية، يحاول بوتين التكيف بطرق متنوعة مع نتائجها التي يعرف، أكثر من أي أحد آخر، كم أظهرت وضعه على حقيقته، ويعمل لإجراء تحول في دور جيشه، ينقله من طرفٍ يخوض الحرب بقواه الذاتية والخاصة إلى جهةٍ تحارب بالواسطة: من خلال إيران ومرتزقتها وجيش الأسد الذي قرّر تزويده بأنواع من الأسلحة يعتقد أنها ستمكّنه من الرد على أميركا في أثناء الفترة الضرورية لإقناعها بأن الحسم لن يكون رهن قرارٍ يتخذه البيت الأبيض بمفرده. بقول آخر: بينما تنتقل واشنطن إلى الانخراط المباشر في الحرب، بعد أن كانت تخوضها بالواسطة وبنصف قلب، تشير تدابير الكرملين إلى أنه سيعتمد، من اليوم فصاعداً، أسلوب الحرب غير المباشرة، وسيلجأ حتى إلى تنظيمات الارهاب التابعة لإيران، ليطيل أمد الحرب، ويضمن أن لا تكون كل ضربةٍ يتلقاها النظام على الصعيدين، العسكري والسياسي، صفعة شخصية له ولجيشه، ولا تغامر قواته بالصدام مع جيش اليانكي.
... وكان بوتين قد أعلن أن معركته ضد السوريين ستحسم خلال ثلاثة أشهر، أو ستة أشهر على أبعد تقدير، وظن أن واشنطن ستحافظ على سياساتها الانكفائية واللحاقية في الشأن السوري، الأمر الذي سيمكّنه من الانفراد بالموقع السوري، وبالقضاء على الثورة، وإنقاذ الأسد، فإن حصل وأفاقت واشنطن من غيبوبتها، وجدت نفسها أمام واقعٍ لا تستطيع تغيير مفرداته، فلا يبقى لها، عندئذ، غير الانصياع لما يريده سيد العالم الجديد، الرئيس بوتين، الذي سيحسم بهذه النتيجة الصراع، وسيفوز بالضربة القاضية على خصمه الصغير: شعب سورية، والكبير: أميركا، الجهة التي ستجد نفسها مرغمةً على تقديم تنازلاتٍ لطالما طالبها بتقديمها، في المجال الدولي، كما في أوكرانيا والقرم وشرق أوروبا.
فشلت حسابات بوتين السورية، وها هو يواجه التدخل الأميركي، فلا يرى بدّاً من إحداث نقلة تراجعية في تكتيكه العسكري، تمكّنه من خوض حربٍ غير مباشرة بالتعاون مع إيران والأسد والمرتزقة الطائفيين القادمين من عوالم مجتمعاتهم السفلية، عله يدخل الصراع في مديات زمنية طويلة، تتورّط أميركا خلالها في حربٍ ينسى هو خلالها ما ألحقته بجيشه من خسائر كبيرة، بلغت 172 قتيلا وجريحاً بين يومي 1 و19 فبراير/ شباط الماضي في تدمر وحدها.
من المستبعد أن تصح حسبة بوتين، فالأميركيون يتقدّمون لخوض حربهم المباشرة في سورية، وقد جعلوا هدفهم إطاحة بشار الأسد، لاعتقادهم الصحيح مائة بالمائة أن الحرب ضد الإرهاب لن تنجح ما دام هو في السلطة، فماذا سيفعل الكرملين حيال سياسةٍ كهذه، تبدو أميركا مصممةً على انتهاجها في المستقبل القريب؟ وهل سينجح في حماية دوره السوري عبر حربٍ بالواسطة، إن كان قد أوقع نفسه في الفخ السوري بقوى جيشه المباشرة؟
ويبقى السؤال المهم: هل تبلغ الحماقة ببوتين حداً يدفعه إلى الغرق مع الأسد، أم يتخلى عنه ويعمل لتسويةٍ سوريةٍ يحصل بواسطتها على ما تقدمه في العادة التسويات العادلة لأطراف تصارعت، ثم أقنعتها التطورات أن أفضل انتصار تحققه هو الحل الوسط الذي يخدم جميع أطرافه؟
وسط استمرار الادعاءات الكاذبة التي يدلي بها نظام الأسد عن عدم مسؤوليته عن الهجوم الكيماوي والمجزرة التي استهدفت بلدة خان شيخون في الرابع من الشهر الحالي، والتبريرات التي تقدمها روسيا يومياً عن عدم وجود مسببات ومسوغات عسكرية تدفع قوات الأسد لشن مثل هذا الهجوم، تنتشر العديد من التحليلات التي تجوب بها الأوساط الإعلامية الغربية لتفنّد هذا الادعاء، ولتضع العديد من السيناريوهات المحتملة لهجمات كيماوية أوسع قد تضرب محافظة إدلب المعقل الرئيسي للفصائل العسكرية المناهضة لنظام الأسد.
ويذهب مدير الأبحاث في جامعة "ليون 2 " الأمريكية"فابريس بالونش" ضمن تحليلاته التي تم نشرها بمقالٍ في موقع معهد واشنطن للدراسات بالقول:
من المرجح أن يكون هجوم خان شيخون الخطوة الأولى من هجومٍ واسع النطاق على محافظة إدلب، المعقل الرئيسي للفصائل المعارضة التي تقاتل قوات الأسد والميليشيات التي تقاتل في صفوفه، حيث يرى أن افتقار النظام للقوى البشرية بشكلٍ مستمر، سيدفع به إلى انتهاج أساليب أكثر عدائية ووحشية من تلك التي مارسها مؤخراً، تنتهك القانون الدولي، ويترتب عليها عواقب مدمرة على السكان المدنيين الأبرياء القاطنين هناك.
وحسب رأي الكاتب تضم الفصائل المعارضة في محافظة إدلب على تنوعها أكثر من 50 ألف مقاتل، معظمهم من الجهاديين والإسلاميين المتشددين، أما المعتدلون الباقون الذين يبلغ عددهم بضعة آلاف فقد تمركزوا بمعظمهم على طول الحدود التركية.
ومنذ عام 2014، عمد الفصيل السوري "لتنظيم القاعدة" إلى القضاء على الميليشيات المتمردة التي ترفض مبايعته بشكلٍ منهجي، وحصلت عملية تطهير مماثلة في أعقاب مؤتمر أستانا الذي عُقد في كانون الثاني/يناير 2017، متهمةً فصائل أخرى بالتعاون مع روسيا.
الضربات المضادة المحتملة لقوات الأسد
وسعياً منه في تحطيم المقاومة المحلية قامت قوات الإرهابي بشار الأسد باستخدام غاز السارين لقصف بلدة خان شيخون في الرابع من نيسان/آبريل الجاري، دون وجود أي مبرر يجيز استخدامه المتعمد لهذه الأسلحة الاستراتيجية ضد المدنيين الأبرياء.
ويبدو بأن القادة العسكريين المنضوين تحت قوات الأسد يستعدون حالياً لشن هجومٍ أوسع في إدلب، حيث أن الأسد لم يعد بمقدوره الوقوف مكتوف الأيدي في تلك الجبهة، لكن ما قد يقف عثرةً في وجه هجومهم المتوقع عدم موافقة روسيا عن شن مثل هذه الحملة في الوقت الراهن، على الرغم من فشل محاولات موسكو في إحداث انقسامات ضمن صفوف الثوار هناك.
ولتعويض النقص الشديد الذي يعانيه نظام الأسد في القوى البشرية، من المفترض أن تواصل قواته وحلفاؤه نهجهم القائم على استخدام القصف المكثف العشوائي لإجبار المدنيين على الفرار، وعزل الثوار، يمكن حينها بدء الهجوم البري.
وتُعد خان شيخون هدفاً استراتيجياً رئيسياً في الهجوم المضاد في حماة، حيث أن إعادة السيطرة عليها ستسمح للنظام بالقضاء على التهديد الذي يمثله الثوار والفصائل المناهضة له، في حماه والمنطقة المركزية بكاملها، بما فيها حمص.
ووفقاً للموقع الإلكتروني "المصدر" الموالي للنظام، فقد تم نشر قوات من «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني و «حزب الله» على طول جبهة حماة في وقت سابق من هذا الشهر، في حين أُرسلت القوات الروسية للدفاع عن محردة.
ولتضييق الخناق أكثر على الثوار الذين يقاتلون في ضواحي حلب، يواصل نظام الأسد سعيه للحصول على مساعدات من القوات الكردية في منطقة عفرين، حيث نشرت روسيا في الآونة الأخيرة، قوات في منبج وشمال عفرين الشهر الماضي، لحماية الأكراد من تدخل تركي محتمل، لكي يكونوا على استعداد لرد الجميل لهم من خلال دعمهم عمليات قوات الأسد في محافظتي حلب وإدلب.
هل تواجه تركيا موجة أخرى من اللاجئين؟
كما هو مبين أعلاه، لطالما انتهكت قوات "اتفاقيات جنيف" من خلال قصف المناطق عشوائياً لزرع الخوف وفصل المدنيين عن الثوار المقاتلين، مستهدفةً عمداً المستشفيات والأسواق والأهداف المماثلة. ومن المرجح أن يؤدي اتباع هذا النهج في محافظة إدلب، التي تضم 1.2 مليون نسمة، إلى نزوح جماعي كبير آخر إلى تركيا، وهو أمر غير مقبول بالنسبة لأنقرة.
وفي ظل غياب قرار من مجلس الأمن الدولي لإنشاء منطقة عازلة وآمنة في شمال سوريا، وتعنت الدول الغربية في التدخل العسكري الحازم، تبقى الخيارات التي يملكها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تواجه العديد من العقبات لتجنب مثل هذه النتيجة.
وتمتلك تركيا أيضاً قوات كافية لإنشاء منطقة آمنة خاصة بها شمال محافظة إدلب، تشمل ربما القرى التركمانية شمال شرق جسر الشغور وسكان المخيمات النازحين حول "باب الهوى" وأتيما"، من شأنها أن توفر أكبر قدر من الحماية للمدنيين الفارين، إلا أن أردوغان لا يعتزم التدخل عسكرياً في تلك المنطقة. وتتمثل أولويته في سوريا في منع إنشاء منطقة حدودية كردية تتمتع باستقلال تام، وبالتالي قاعدة جديدة لـ «حزب العمال الكردستاني» - التنظيم الذي يشن حرباً ضد الحكومة التركية منذ عقود.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فتواجه واشنطن حالياً قراراً بشأن ما إذا كان رحيل الأسد يشكل مرة أخرى أولوية بالنسبة إليها بعد هجوم خان شيخون، وفي هذه الحالة، مدى توافق هذا الهدف مع تركيز إدارة ترامب على استعادة الرقة وتدمير تنظيم الدولة الإسلامية.
إذاً لا تتوفر إجابات سهلة عمّا سيجري في إدلب، لكن يبدو أنّ النظام عازم على استخدام كافة الوسائل المتاحة له لإخراج المدنيين مهما كلف الثمن، وحتى الآن اقتصرت الإجراءات الأمريكية المباشرة في المحافظة على مجموعة من الضربات الجوية ضد أهداف تنظيم القاعدة في أواخر آذار/مارس.
ونظراً لصعوبة إيجاد شركاء على الأرض يشاركون الأهداف الأمريكية، قد يكون ذلك كل ما ترغب واشنطن في القيام به فور قيام نظام الأسد بشن هجومه على إدلب بشكل جدي، على الرغم من أن جميع الرهانات قد تسقط إذا ما استخدم الأسد الأسلحة الكيميائية مرةً أخرى.
على الرغم من العقوبات الدولية المفروضة على الطيران المدني الإيراني، لا تزال إيران تصر على استخدام شركان "ماهان" للطيران وغيرها من شركات الطيران لإرسال الأفراد والأسلحة إلى نظام الأسد في سوريا واستمرارها في تمويله وإمداده بشتى الوسائل الممكنة، مما يعرض هذه الصناعة للخطر.
وفي الوقت الذي تنصب فيه أنظار قطاع الطيران ووسائل الإعلام الدولية على طلبات شراء طائرات "بوينغ" وطائرات "ايرباص" العملاقة التي تجريها مؤخراً الخطوط الجوية الإيرانية، تواصل الأخيرة شراء الطائرات وقطع الغيار المستعملة، عن طريق شركات طيران أصغر بهدف التحايل على العقوبات الدولية المفروضة عليها وعلى أشخاص معينين، ساعيةً بذلك إلى تعزيز قدرتها الإقليمية على النقل الجوي في المنطقة من خلال الدمج بين المكونات العسكرية ومكونات الطيران المدني.
وكثيراً ما استعان "فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني بموارد وهمية ذات طابع مدني وذلك لمساعدة حلفاء إيران في سوريا، ومن أجل ذلك يقوم "الحرس الثوري" بإنشاء خطوطه الجوية وشركات خدمات خاصة يستخدمها للتمويه بغية تقديم المساعدة اللوجستية وزيادة إيراداته، إضافةً إلى الدعم الحثيث الذي يحظى به من شركة "ماهان" للطيران.
وعلى الرغم من تصنيف شركة طيران "بويا" الخطوط الجوية الرئيسية التي يديرها الحرس الثوري الإيراني وشركة طيران "بارس" التابعة إليه أيضاً ككيانات إرهابية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عام 2012 لاتهامهما بنقل الأسلحة إلى نظام الأسد، تدير اليوم شركة "بويا" للطيران ست طائرات شحن روسية الصنع يتم استئجارها من قبل القوة الجوية التابعة للحرس الثوري الإيراني.
ومؤخراً قام الأخير بشراء طائرتين إقليميتين برازيليتي الصنع من نوع "إمبراير إي آر جاي-145 إي آر" يصل مداهما إلى نحو ثلاثة آلاف كيلومتر، وتتسعان لقرابة الخمسين راكباً.
وقد تم تسجيل أولى هذه الطائرات في جنوب إفريقيا من قبل رجل أعمال إيراني يقيم في إسطنبول، يُدعى " حسين حافظ أميني"، وسُلِّمت إلى "شركة طيران بويا" في 31 آذار/مارس. ويشار إلى أن كلا الطائرتين شوهدتا لاحقاً في "مطار مهر آباد الدولي" في طهران وكانتا لا تزالان تحملان شارة التسجيل من جنوب أفريقيا والزي الرسمي لـ "شركة راي للطيران".
وبالإضافة إلى الإيرادات التي يجنيها "الحرس الثوري" من رحلات الركاب، يتمكن كذلك من ادّخار المال عبر استخدام طائراته الخاصة لنقل عناصره وعائلاتهم، والأهم من ذلك أن امتلاكه لأسطول جوي للشحن والسفر خاص به يتيح له نقل عناصره أو شحناته السرية تحت أدنى درجات الرقابة من سلطات الطيران المدني.
وظهرت مؤخراً شركة أخرى خاضعة للحرس الثوري، وهي "طيران فارس قشم" التي استلمت من الشركة الأفغانية "كام للطيران" طائرتي شحن عتيقتين من طراز "بوينغ 747-200 أف" عن طريق وسيط أرمني.
ومن غير الواضح ما إذا كان المسؤولون الأفغان يدركون الوجهة النهائية لتلك الطائرات، وقد تم على الفور استخدام أولى هذه الطائرات، وهي طائرة "إي پي-أف أي أي"، من خلال تسيير رحلات جوية يومية من طهران إلى دمشق، وتخضع الطائرة الثانية للصيانة في مركز "فارسكو" للصيانة والإصلاح في طهران، ويُقال أنَّ "شركة "ماهان" للطيران" هي التي تسيّر طائرات الـ "بوينغ" التي تم شراؤها حديثاً.
الجسر الجوي الإيراني السوري!
وفي الفترة الأخيرة شهد الجسر الجوي بين إيران وسوريا حركة ناشطة مع رحلات تسيّرها عدة شركات طيران مدنية وعسكرية، وهي: "ماهان" للطيران، و"الخطوط الجوية الإيرانية"، و"القوات الجوية الوطنية الإيرانية" /"طيران ساها" و"طيران «الحرس الثوري» /"طيران فارس قشم"/ "بويا للطيران"، و"الخطوط الجوية السورية" و"أجنحة الشام للطيران"، وهذه الأخيرة هي شركة طيران سورية خاصة تسيّر رحلات منتظمة بين طهران ودمشق، استهدفتها العقوبات الأمريكية في عام 2016.
والجدير بالذكر أن غالبية رحلات "الخط السوري السريع" التي تسيّرها هذه الشركات تجري ليلاً لإعاقة عملية رصدها عبر الأقمار الاصطناعية. وبالإضافة إلى هذا الخط الناشط بين طهران ودمشق، ثمة ثلاث خطوط جوية ("ماهان"، و"الخطوط الجوية الإيرانية"، و"الخطوط الجوية السورية") تحطّ في "مطار عبادان" بشكل متقطع، حيث تُنقل إليها عناصر الميليشيات الشيعية العراقية بالحافلات من النجف والبصرة لتستقل الطائرات إلى دمشق.
وبالإجمال، نقلت "الخطوط الجوية الإيرانية" و"السورية" نحو 21 ألف مسافر بين طهران/عبادان ودمشق خلال الشهرين الماضيين فقط، ومعظم هؤلاء المسافرين من القوات العسكرية أو شبه العسكرية، إضافةً إلى نقل إمدادات يفوق وزنها5,000 طن، وجميع هذه الرحلات تقريباً مستأجرة بالكامل من قبل «الحرس الثوري» الإسلامي وعادةً ما تكون غير متاحة لعامة الشعب.
مخاطر تجسدها شركة "ماهان" الإيرانية للطيران!.
في عام 1992، تم تأسيس شركة "ماهان" للطيران، من قبل "شركة مل مفاه الدين القابضة في "كرمان"، وهي ثاني أكبر شركة طيران إيرانية، بدأت كشركة صغيرة تسيّر رحلاتها على متن بضع طائرات روسية الصنع، وبعد فترة من عدم الاستقرار، قامت الشركة في عام 1998 بتكليف إدارة عملياتها لضابط سابق في "الحرس الثوري" يُدعى "حميد عرب نجاد"، وخلال الحرب بين إيران والعراق، عمل عرب نجاد نائباً لقائد إحدى أنشط الوحدات القتالية التابعة للحرس الثوري وهي "شعبة العمليات ثأر الله 41" بقيادة القائد الحالي لـ «فيلق القدس» قاسم سليماني. ثم تولى عرب نجاد لاحقاً رئاسة المكتب الإيراني للإعمار في البوسنة والهرسك، وهو منصب مرتبط على الأرجح بعمليات «فيلق القدس» في البلقان.
ويقيناً، أن توظيف ضابط سابق في الحرس الثوري الإيراني ليس بالضرورة بالأمر المقلق، لأن العديد من مدراء شركات الطيران الإيرانية الأخرى هم من قدامى «الحرس الثوري». لكن العلاقة الوثيقة التي تربط عرب نجاد بسليماني و«فيلق القدس» تبعث على القلق، كما أن أعمال "ماهان" غير المشروعة التي تنفذها بالنيابة عن «الحرس الثوري» قد وضعت الشركة على رأس قوائم العقوبات الدولية منذ عام 2011، وبالتالي فإن أي شركة تتعامل معها تكون معرضة لمخاطر كبيرة.
وعلى الرغم من التأثيرات المؤلمة التي فرضتها العقوبات على القيمة الجوية لطائرات "ماهان"، وجدت الشركة أساليب مبتكرة لاستيراد أسطول من الطائرات الغربية الصنع خلال السنوات الأخيرة، من بينها ثماني طائرات "إيرباص أي340" البعيدة المدى. وفي الواقع فإنّ الطائرات التي استحوذت عليها عبر الشركات الوهمية الأرمنية تجعل الخطوط الجوية الإيرانية الوحيدة التي تستطيع تسيير رحلات لمسافات طويلة.
فضلاً عن ذلك، استلمت "ماهان" مؤخراً الطائرة الأولى من بين ثلاث طائرات "إيرباص أي340" مستعملة من سريلانكا واليونان، مستخدمةً هذه المرة "شركة "بيك" الكازاخستانية للطيران كوسيط في العملية، وقد تم تسليم واحدة على الأقل من هذه الطائرات إلى "الخطوط الجوية السورية"،وقد قامت للتو برحلتها الافتتاحية الأولى إلى دبي.
وتفيد التقارير أن هذه الطائرة التابعة لـ "شركة ماهان" سوف تسيّر الرحلات إلى أمريكا الجنوبية وشرق آسيا أيضاً، لكن الجدوى الاقتصادية لهذه الطرق الجوية محل شك لأن "الخطوط الجوية السورية" تخضع لعقوبات الاتحاد الأوروبي منذ عام 2012 والعقوبات الأمريكية منذ عام 2013.
وعلى نطاق أوسع، صنّفت وزارة الخزانة الأمريكية عدة شركات مقرها في أرمينيا وقيرغيزستان وأوكرانيا وتايلاند وتركيا كشركات تغطية لـ "ماهان". وقد عملت هذه الشركات كوسيطة لشراء الطائرات والمعدات المرتبطة بها من قبل الكيانات الإيرانية الخاضعة للعقوبات.
وإذا احتسبنا هذه المعطيات مجتمعةً، فإن أسطول "ماهان" الحالي يضم أكثر من 37 طائرة كبيرة يبلغ متوسط عمرها 24 عاماً، وتقوم برحلات داخلية وخارجية تشمل آسيا وأوروبا. وتسيّر "ماهان" 15 في المائة من الرحلات الدولية في إيران، أي ما يقرب من ضعف حصة "الخطوط الجوية الإيرانية" (8.5 في المائة)، وليس هذا بالأمر المفاجئ نظراً إلى أن معظم طائرات الرحلات لمسافات طويلة لدى "الخطوط الجوية الإيرانية" كانت قد مُنعت من التحليق أو وُضعت تدريجياً خارج الخدمة قبل رفع العقوبات النووية.
وفي حين وضعت الولايات المتحدة "شركة ماهان للطيران" على لائحة الإرهاب في تشرين الأول/أكتوبر 2011 بسبب إمدادها «فيلق القدس» بالدعم المالي والمادي والتكنولوجي، فقد وجدت الشركة سُبلاً مختلفة للحفاظ على أسطولها في الخدمة.