مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٨ أكتوبر ٢٠١٧
سوريا... اقتراحات روسية مربكة والحل في المبادرة الفرنسية!

غريب جداً أن يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مواقفه المستجدة تجاه الأزمة السورية متناقضاً مع نفسه ومُرْبكاً بالنسبة إلى الذين بقوا يتابعونه ويتابعون وزير خارجيته سيرغي لافروف، فالمعروف أنه ومنذ بدايات انفجار هذه الأزمة الطاحنة، التي مع الوقت تحولت إلى أزمة إقليمية وأيضاً إلى مشكلة دولية، بقي يتمسك بوجهة نظر واحدة تقريباً وبقي يدور حول حلٍّ واحد أحاطه بمناورات كثيرة لا حصر لها هو «تنفيس» قوى المعارضة وإشغالها بالمشكلات والإشكالات الجانبية، وبأنَّ الأولوية هي لمواجهة «الإرهاب» و«داعش» وليس لإسقاط نظام بشار الأسد الذي سيؤدي سقوطه، حسب الرئيس الروسي، إلى انهيار سوريا كدولة، وإلى فوضى عارمة في الشرق الأوسط كله!

كانت روسيا قد وافقت على «جنيف1» وعلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، لكنها بقيت تحول دون حوارٍ مباشر بين المعارضة ونظام بشار الأسد، والأخطر أنها في غياب الأميركيين الفعلي، إنْ في عهد باراك أوباما وإنْ في عهد الرئيس دونالد ترمب، بقيت تحتكر هذه الأزمة بكل ما فيها وبكل ما عليها واستطاعت أن تنقل التفاوض الذي كان عملياً بين المعارضين والمبعوث الدولي ستافان دي ميستورا من هذه المدينة السويسرية الآنفة الذكر إلى آستانة في طاجيكستان، وحيث بقيت المفاوضات حواراً عَدَمياً وبلا نهاية، وكل هذا مع أنه ترتب على التدخل العسكري الروسي في سبتمبر (أيلول) 2015، خلل في موازين القوى على الأرض جعل النظام السوري يبدو كأنه منتصر، وجعل قواته الممزقة والمتردية تبدو كأنها قد كسبت الحرب والمعركة وحسمت الصراع بصورة نهائية.

لقد كان واضحاً ومنذ البدايات أن هدف الروس، الذين استخدموا معادلة «إما الإرهاب وإما بشار الأسد» استخداماً جيداً ومتفوقاً، هو إفشال الثورة السورية، وهو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل مارس (آذار) عام 2011، ولكن مع بعض الرتوش واللمسات التجميلية، والأخطر هنا هو أنهم في ظل التقاعس الأميركي في عهد باراك أوباما وإدارته واستخدام حزب العمال الكردستاني - التركي الـ«P.K.K» ضد رجب طيب إردوغان استخداماً عسكرياً وإرهابياً فعالاً، قد تمكنوا من إخراج تركيا من عضويتها «الأطلسية» عملياً، ونقلها من الدائرة الأميركية إلى الدائرة الروسية، ثم إن الأكثر خطورة هو أن الرئيس التركي، الذي كانت قد تزعزعت جبهته الداخلية حتى حدود الانهيار، وبخاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي اُتهم بها المعارض التركي القديم فتح الله غولن الذي كان قد لجأ إلى الولايات المتحدة مبكراً، قد وجد نفسه مضطراً إلى مواجهة النزعة الانقسامية الكردية إلى التحالف مع إيران التي - إذا أردنا قول الحقيقة - استطاعت بسبب عوامل كثيرة أن تصبح لاعباً يحظى بدور كبير في الشرق الأوسط.

المهم أن فلاديمير بوتين، الذي يعتبر صاحب فكرة المناطق الأقل توتراً، مع أن المعروف والمؤكد أن هذه الفكرة هي لوزير خارجيته سيرغي لافروف، قد فاجأ العالم بإبداء مخاوفه من احتمال تقسيم سوريا على أرضية مناطق خفض التصعيد، لكنه ما لبث أن أعطى انطباعاً واضحاً بأنه بطرحه لهذا الاحتمال قد قصد التخويف والإثارة، عندما كشف النقاب خلال مشاركته في منتدى «فالداي» الدولي للحوار الأخير في سوتشي الروسية عن ملامح تصور بديل للعملية السياسية الحالية لحل الأزمة السورية، المتمثلة بـ«جنيف 1» والقرار الدولي 2254 والقرارات الدولية الأخرى، يستند إلى عقد مؤتمر وطني أطلق عليه اسم «كونغرس شعوب سوريا»! تشارك فيه كل المجموعات العرقية والدينية والحكومة والمعارضة... «وفي حال تمكنّا من تنفيذ هذه الفكرة بمساعدة الدول الضامنة والقوى الإقليمية الكبرى مثل السعودية ومصر، فإن هذا سيمثل خطوة إضافية تالية لكن غاية في الأهمية في التسوية السياسية ثم صياغة الدستور الجديد».

ولعل ما يشير إلى أن الروس يتبعون سياسة القفز فوق حبل مشدود الطرفين، أنهم كانوا قد تحدثوا قبل اقتراحات بوتين هذه آنفة الذكر عن ضرورة دعوة المؤتمر للنظام والمعارضة في قاعدة «حميميم» الروسية، يتبعه مؤتمر عام آخر ينعقد في مطار دمشق الدولي بـ«ضمانة روسية» وذلك من دون أي ذكر لا للمرحلة الانتقالية ولا لـ«جنيف1» ولا للقرار الدولي رقم 2254 والقرارات الأخرى، وكل هذا على أساس استمرار بشار الأسد في موقع الرئاسة حتى عام 2021، حيث بعد ذلك تُجرى انتخابات رئاسية جديدة لن يتم استبعاد هذا الرئيس الحالي منها لا بصورة واضحة ولا بصورة خفية.

ولعل الأخطر في هذا كله أن الروس بمجرد انتهاء معركة «الرقة» قد بادروا، متناسين هذه الحلول آنفة الذكر كلها، إلى المناداة بتسليمها لنظام بشار الأسد، وذلك مع أن تحرير هذه المدينة وهذه المنطقة قد تم على أيدي قوات سوريا الديمقراطية وبمشاركة عسكرية مباشرة وفاعلة للولايات المتحدة، مما يوضح ويؤكد أن ما تقوم به روسيا الاتحادية منذ البدايات وصولاً إلى تدخلها العسكري في سبتمبر (أيلول) 2015 هو مجرد «تكتيكات» ومناورات هدفها تفريغ المعارضة السورية من محتواها، والقضاء على مكتسباتها العسكرية والسياسية كلها، والعودة بالأمور إلى ما كانت قبل انفجار انتفاضة درعا في عام 2011.

فهل يا ترى سينجح الروس في كل هذا الذي مرَّ ذكره، ويستبدلون كل الحلول السياسية المدرجة على جدول أعمال الدول الكبرى والأمم المتحدة وأهمها «جنيف 1» وقرار 2254، ويعيدون سوريا إلى ما كانت عليه قبل عام 2011... كأن أي شيء لم يكن؟!

وهنا فإنه بالإمكان اعتبار أن الجواب عن هذا السؤال يكمن في الوعد الذي قطعه الرئيس الأميركي على نفسه وعلى إدارته بأن واشنطن، وقد تم القضاء عملياً بعد الانتصار في الرقة على تنظيم داعش، سيكون لها تصورها الجديد في سوريا، والمعروف أن واشنطن كانت قد دعت إلى تحالف دولي ضد حزب الله اللبناني، أي ضد إيران وضد نظام بشار الأسد... وربما أيضاً ضد روسيا الاتحادية إنْ هي واصلت عملية خنق الحلول السياسية للأزمة السورية التي أساسها «جنيف1» وقرار مجلس الأمن رقم 2254 والقرارات الأخرى.

إنه لا يمكن للروس، الذين يعانون مشكلات اقتصادية وسياسية فعلية وجدية كثيرة، أن يفرضوا حلولهم بالنسبة إلى الأزمة السورية على الآخرين، وبخاصة أن الأميركيين - كما يبدو - جادون في إخراج إيران من العراق وسوريا، وهكذا فإن المطلوب أميركياً وأوروبياً وعربياً هو دعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اقتراحه الذي دعا فيه لأن تكون هناك مشاركة دولية فعلية في حل الأزمة السورية ممثلة بالدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي (الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية وفرنسا والصين وبريطانيا) ومعها ألمانيا كدولة عظمى... والمشكلة هنا أن الروس يحاولون إقحام إيران في هذا الاقتراح، وذلك مع أنها متهمة بعلاقات مؤكدة مع الإرهاب، وأنها تمثل عنصراً رئيسياً في كل هذا الذي يجري في سوريا وفي العراق وفي اليمن.

والمؤكد أن المقصود بـ«المشاركة الدولية» هو الإشراف الدولي الملزم على محادثات النظام السوري والمعارضة السورية المفترضة، وأن يكون القرار النهائي لهذه الدول الدائمة العضوية، لكن يبقى أنَّ الروس، إنْ هم لم يتعرضوا لضغوط جدية، سيواصلون سياسة التعطيل التي اتبعوها منذ بداية هذه الأزمة التي أصبحت في غاية التعقيد، والتي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه!

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٧
بين العقوبات والتغيير الميداني

تضيف العقوبات الأميركية على «الحرس الثوري» الإيراني و «حزب الله» بذريعة مخالفة البرنامج الصاروخي الباليستي لطهران ودورها في زعزعة الاستقرار الإقليمي، والتي ستأخذ طريقها إلى النفاذ قريباً، عنصراً جديداً في المواجهة الدولية مع حكم ولاية الفقيه وتمدده الخارجي، لكن الأرجح أنها لن تفعل فعلها في ثني «الحرس الثوري» عن مواصلة استراتيجيته في المنطقة.

العقوبات قد تفرض عليه جهداً للتحايل عليها ومواربتها بمساعدة دول أخرى (العين على قطر ولبنان...)، وتدفعه إلى التشدد أكثر في الداخل إزاء احتجاجات الإصلاحيين على إنفاقه أموال البلد الغني، على التسلح والتوسع الإقليمي، وتجاهل حاجات مجتمع فتي يعاني البطالة في المدن، وفي أرياف غارقة في الفقر والتخلف... لكنها لن تعدّل الطموحات الإيرانية.

إذا كان هدف العقوبات كما قال وزير الخارجية ريكس تيلرسون التأثير في الداخل لإحداث التغيير في النظام، فإن انضمام الرئيس حسن روحاني إلى المفاخرة بأنه «لا يمكن في العراق وسورية ولبنان وشمال أفريقيا والخليج الفارسي القيام بأي خطوة حاسمة» (بعض الترجمات استخدم عبارة مصيرية) من دون الدولة الفارسية، يدل إلى أن على واشنطن أن تنتظر طويلاً قبل حصول التغيير. فموازين القوى الداخلية تجبر أمثال روحاني على الالتحاق بـ «الحرس» طالما أن وظيفة وجوده لم تتحقق: إراحة الاقتصاد برفع العقوبات.

الأسئلة كثيرة عما إذا كان نهج إدارة دونالد ترامب مختلف في العمق والجوهر، عن نهج سلفه باراك أوباما حيال طهران. فالأخير، حين برر أمام الأميركيين توقيعه الاتفاق النووي عام 2015، (لمن يتذكر) أبقى العقوبات المتعلقة ببرنامجها الصاروخي، وزعزعتها استقرار جيرانها وتدخلاتها الإقليمية، وخرقها لحقوق الإنسان... فهل يختلف قول ترامب ومستشاره للأمن القومي الجنرال هربرت ماكماستر «أينما تحل المشكلات وتشتعل الفتن بين المجتمعات وتدور رحى العنف المدمرة، ترى أيادي الحرس الثوري الإيراني»، عن موقف أوباما؟

مشكلة الموقف الأميركي هي في الانطباع الدائم الذي يطرحه ديبلوماسيون أميركيون سابقون ومنهم موفد واشنطن السابق إلى سورية السفير روبرت فورد: تأخرنا في مواجهة نفوذ طهران. ولا يقتصر استنتاج خبراء غربيين على القول إن العقوبات قد تزيد من نفوذ «الحرس الثوري» على الوضع الاقتصادي بحجة مواجهة هجمة واشنطن العقابية، بل يتخطاه عند المتابعين للسلوك الأميركي إلى الحقائق الواقعية: أي تعديل في نفوذ طهران يفترض أن يتم ميدانياً أولاً وأخيراً. وعلى واشنطن أن تغادر السياسات التي تعاقبت عليها الإدارات في العقود الماضية، والتي غضت الطرف عن توسع «الحرس» في المنطقة، فكانت ترفض الإقرار بأن طهران تتدخل في اليمن لدعم الحوثيين، قبل أكثر من 10 سنوات. وحين انكشف التدخل اعتمدت نظرية الإفادة من تقاتل الحوثيين مع «القاعدة». وواشنطن هي التي أخلت الساحة لإيران في العراق، وتركت لها أن تتغلغل في سورية بذريعة قتال «داعش»، وبالتالي أن تمتّن دورها في لبنان. وحسن النية قد يدفع إلى القول أنها فعلت كل ذلك من دون تحسب لمرحلة ما بعد «القاعدة» و «داعش» ولمن يملأ الفراغ بعد انحسارهما. لكن الحقيقة هي أن واشنطن ارتكزت إلى هدف ضمني خبيث عبّر عنه أوباما حين أمل بإحداث توازن بين القطب الشيعي وبين الدول السنّية في المنطقة، بإضعاف الأخيرة، فكان مآل هذه السياسة خراب الإقليم وإضعاف الدول العربية، وتهشيم النسيج الاجتماعي في العديد منها، وتقدم إيران على حسابها. وإذا كان حسن النية يفترض أن هناك «صحوة» أميركية إزاء الأضرار الهائلة لتلك السياسة، فإن تصويب الأمور يحتاج أكثر من العقوبات. فماذا فعلت واشنطن، ميدانياً، لإخراج إيران من اليمن؟ وماذا ستفعل عملياً لسحب ميليشيات إيران من العراق بعد أن اعتبرتها شريكاً في قتال «داعش» وبعد أن جرى تشريعها؟ وهل يمكن أي متابع أن يجد تعريفاً مفهوماً لخططها في سورية؟ قد يستثني المرء السؤال عن سياستها في لبنان طالما أن «التسوية» فيه جنبت البلد الصغير الحرب الدائرة في الدول الثلاث الأخرى، وجعلت منه «ملتقى» لخدمات تلك الحروب، وما دامت تدعم تقوية الجيش اللبناني والمؤسسات، لأن المعادلة فيه تخضع لموازين القوى في دول أكثر أهمية.

امتنعت طهران سابقاً عن الاستجابة لمحاولة أوباما التفاوض معها على أزمات المنطقة، برفض البحث في أي أمر غير الاتفاق على النووي، مستقوية بحاجته إلى إنجازه. وإذا كان ترامب يأمل من العقوبات جرها إلى التفاوض، كيف يمكنه ذلك من دون تعديل الواقع الميداني، في أي من الدول المحورية، أو على الأقل من دون اتفاقه مع اللاعب القوي الجديد، روسيا؟

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٧
سورية بين حلول التقسيم و «الفدرلة» الروسية

تتطور لغة الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا من جلسة إلى أخرى في مجلس الأمن، خلال تقديم إحاطته حول العملية التفاوضية بين الأطراف السورية، فقد انتقلت من الآمال العائمة بداية، إلى وضع السيناريوات لاحقاً، ومن ثم بعد تسليم واشنطن الملف السوري إلى موسكو أصبحت لغة تقرير واقع واستحقاقات مستقبلية، قد تتأخر أحياناً في الظهور إلى حيز التنفيذ، لكنها في وقت لاحق تصبح أهم البنود التي على الطرفين السوريين مناقشتها، وإيجاد الآلية لتنفيذها. مثال ذلك ما طرحه دي ميستورا بداية توليه الملف السوري (2014) عن تقسيم العمل إلى ورشات، ثم أصبحت سلالاً، انشغلت جولات جنيف التفاوضية بها، وهي تعالج قضايا الحكم غير الطائفي والإرهاب والدستور والانتخابات، بعد الاستفادة من هدنات محلية اقترحها ولم يوفق في الحصول على الموافقة عليها، إلا أن النظام استفاد من اقتراح الوسيط الدولي، وعمل مع إيران على عقد تلك الهدنات التي أنتجت توسعاً للنظام في أكثر من مكان، منها منطقة الريف القريبة من دمشق وحمص.

وفي خطوات لاحقة، وبعد إعلان «الهيئة العليا للمفاوضات» من لندن، رؤيتها للحل في سورية، سارع دي ميستورا إلى طرح اقتراح جديد، مرة عبر المفوضية الأوروبية، ومرة من خلال لقاءاته المباشرة مع قيادات المعارضة، وهو ينقلب على رؤية لندن من حيث شكل الحكم من رئاسي إلى برلماني، ومن لا مركزي إلى حكم المجالس المحلية (فيديرالية مخففة). واليوم بعد تحرير الرقة من «داعش» على يد «قوات سورية الديموقراطية»، المدعومة أميركياً، وذات الصلات الوثيقة بروسيا، يعود الحديث عن المجالس المحلية لحكم المناطق، عبر تصريحات من أعلى المسؤولين الدوليين، مثل الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وعلى رغم أن مقدمات دي ميستورا للمعارضة كانت واضحة بضرورة إعادة النظر في ما قدمه رياض حجاب المنسق العام لهيئة التفاوض في لندن، (وتم الاعتراض عليه رسمياً من المجلس الوطني الكردي المنضوي في الائتلاف وفي الهيئة العليا للتفاوض التي صاغت الرؤية)، فإن المعارضة مضت في تقديم نفسها من خلال مشروعها الذي يتناقض مع مبدأ تغيير النظام، لتكون شريك النظام في الاستراتيجية الحاكمة ذاتها، من حيث تدري أو لا تدري.

وتشير اليوم نتائج الاتفاقيات التي عقدتها روسيا من خلال مفاوضات آستانة، أو عبر اتفاقيات منفصلة للغوطة، تحت مسمى «المناطق المنخفضة التصعيد»، وكذلك المعارك التي أدارتها الولايات المتحدة في الشمال ضد تنظيم «داعش»، من خلال كرد سورية، إلى أن مرحلة العمل بدستور النظام 2012، أو وفقاً لرؤية المعارضة (أيلول- سبتمبر 2016)، قد انتهت حيث لا يمكن العمل بنظام المركزية المتشدد للنظام، ولا بإقصاء مكون الكرد من معادلة سورية الجديدة للمعارضة. ولعل هذا يستدعي إيجاد رؤية سياسية جديدة، متوافق عليها بين كل الخصوم، ومتحللة في الوقت ذاته من مركزية العاصمة لمصلحة مناطق حكم ذاتية، تحت مسميات لا يزال كل من النظام والمعارضة يستصعب الاعتراف بها، وهي في شكل أو آخر تندرج في مستويات وأشكال متعددة من النظم الفيديرالية المعمول فيها في دول عدة.

لا شك في أن ما قامت عليه اتفاقيات آستانة من حلول جزئية، وتقسيم سورية إلى مناطق نفوذ دولية (روسيا- إيران- تركيا- الولايات المتحدة الأميركية) لم يكن بعيداً من رؤية متكاملة للحل في سورية، كانت وضعته الديبلوماسية الروسية، وحاولت فرضه مراراً، قبل آستانة من خلال دخولها في الصراع المسلح رسمياً في سورية (في أيلول 2015)، أو من خلال جملة لقاءاتها مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين، وصاغته عبر دستور أعدت نسخته في موسكو، وتم الترويج لرفضه من فصائل المعارضة في آستانة، علماً أن مضامين الاتفاقات الحاصلة تؤسس قاعدة لقبول سورية فيديرالية غير مركزية، وأن الآليات التي تعتمدها الفصائل العسكرية المعارضة في سيطرتها في مناطق نفوذها («المناطق المحررة») تتوافق مع ذلك.

هكذا فإن خشية روسيا من تقسيم سورية، التي عبر عنها بوتين، هي مقدمة للعمل على الحل الذي يتوافق مع إرادة ترامب في دعم مناطق الحكم المحلية، والتي تتساوى في الفهم مع المطلب الأوروبي في «فدرلة سورية»، أو «حكم المجالس المحلية»، وهو ما يعبر عنه بوضوح مصطلح «سورية المفيدة» للنظام، وما تنفذه فعلياً الفصائل المسلحة التي تسيطر على مناطق متفرقة من سورية، حيث تتخذ قراراتها كسلطة مفوضة غير مرتبطة ببقية المناطق المحررة، بينما تصرخ في بياناتها رافضة الفيديرالية، تحت ذريعة أنها مطلب أكراد سورية، وأن هدفها انفصالي، في الوقت الذي ترفض هي العودة إلى مرجعيتها السياسية في الهيئة العليا للتفاوض، والتي أصبح عملها لاحقاً لعمل الفصائل وليس متكاملاً معها.

وأمام استحقاقات مفاوضات آستانة، أي المسار الموازي الذي ابتدعته موسكو منذ مطلع هذا العام، ومفاوضات جنيف، التي مهد لها الوسيط الدولي بخريطة طريق وفق المفهوم الروسي- الأميركي للحل السوري، يبقى استحقاق المؤتمر الوطني للمعارضة السورية، الذي ترحب به موسكو، وتتجاهله واشنطن حالياً، وتحتفظ به كخط رجعة لها إلى الملف السوري عبر مفاوضات جنيف. يبقى هو خط النهاية الذي يجب أن تقف المعارضة عنده، لتحدد هويتها ومطالبها وخريطة الطريق إليها بعيداً من الدعاية الإعلامية التي عودتنا عليها.

وبينما تقدم روسيا من خلال جولة آستانة المقبلة بادرة حسن النية، بفتح ملف المعتقلين ولو نظرياً، للتلويح بقدرتها على فرضه على النظام السوري، تبدو مناطق خفض التصعيد في أسوأ حالاتها، حيث الاختراقات من جهة والجوع يحاصرها من جهات عدة، والغوطة مثال، وتقدم روسيا للتداول مساراً آخر تستثمر فيه جهودها في العامين الماضيين في إنشاء «الهيئات المحلية»، التي قامت عبر قاعدة الهدنات التي عقدتها في بعض مناطق المعارضة، وتضعه كفزاعة أمام المعارضة الحالية تحت مسمى «مؤتمر الشعوب السورية».

مع الانتباه إلى توقيت إطلاق هذا التصريح وفي خضم كل التعقيدات، لا بد من الاعتراف أولاً أنه بات من الصعب تجاوز واقع تقاسم مناطق النفوذ في سورية. ثانياً، أن المعارضة السياسية والعسكرية هي الطرف الأضعف في هذه المعادلة، وأن عليها أن تدرك ذلك وتواجه واقعها الذي تتحمل مسؤوليته. وثالثاً، وهو الأهم أن الولايات المتحدة لم تقل كلمتها بعد، لذا فلا شيء محسوماً، لكن أيضاً لا شيء حتى الآن يخالف إرادتها. رابعاً، لم يعد ترقيع النظام مجدياً، بعد فقدانه سيادته وتآكل قدرته على السيطرة واستنزاف موارده، لذا لا بد من تغيير سياسي في سورية حتى ولو كان بهذا القدر أو ذاك، لاستعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي واستعادة السوريين بلدهم، ومن ثمّ استعادة مقاصد ثورتهم والعمل عليها في مساحة من الأمان والاستقرار.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٧
ترامب يبدأ «جردة حساب» مع «حزب الله»

أعادت الولايات المتحدة فتح سجلات أعمال إرهابية لـ «حزب الله» مرّ عليها أكثر من ثلاثة عقود، بعدما ظن هو وإيران أنها طويت الى الأبد، فأمعن طوال هذه الفترة في تكرارها، لاعتقاده أنه خارج المحاسبة وأبعد من أن تطاوله يد الدول المستهدَفة، بل انتقل بارتكاباته الى مستوى إقليمي أوسع.

ومن الواضح أن تذكّر المسؤولين الأميركيين، بعد كل هذا الوقت، عملية تفجير مقر المارينز في بيروت في 1983، والتي سبقها قبل أشهر قليلة تفجير مقر السفارة الأميركية في العاصمة اللبنانية، جزء من تغيير جذري في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بعد الانسحاب الطوعي من المنطقة الذي نفذته إدارة باراك أوباما على مراحل، وتلاه خصوصاً زحف إيران لملء الفراغ وفرض قوى الأمر الواقع الموالية لها.

ويبدو أن «فترة السماح» الأميركية لإيران وميليشياتها، ولا سيما «حزب الله»، انقضت، وحان الوقت لإجراء «جردة حساب» لتسديد «دَينها» للمنطقة وللعالم، بعدما عاثت فيهما تخريباً من دون رادع، وتفتيتاً لا يقف عند حدود، ونجحت الى حد كبير في تقسيم العرب والمسلمين، مستغلة تبني الدولة العظمى الوحيدة عقيدة انكفائية، وتسليمها طوعاً بـ «القدر الإيراني» الذي لا يردّ، تاركة حلفاءها يواجهون وحدهم آلة تخريب جهنمية لا تتورع عن أي عمل لبسط نفوذها.

وكانت سياسة المهادنة مع إيران التي اعتمدها أوباما وصلت الى حد توجيه تعليمات صارمة الى القوات الأميركية في المنطقة بتجنب أي مواجهة مع «الحرس الثوري» وأذرعه، على رغم استفزازاتهم المتعمدة والمتكررة لها. أما رسائل التطمين التي بعث بها الى خامنئي مؤكداً أن إدارته لا تسعى الى تغيير نظام طهران، فلم تفعل سوى زيادة عنجهية «المرشد».

اليوم تعود الولايات المتحدة الى رشدها، لأن سياسة دفن الرأس في الرمال ألحقت بمصالحها خسائر فادحة، وقلصت حلقة أصدقائها ودفعتهم الى التشكيك في صدق التزاماتها. لكن هذه العودة لن تكون عملية سهلة، فقد تغلغلت إيران عميقاً في العراق وسورية ولبنان واليمن، وتتطلب رداً بمستوى الخروقات التي أحدثتها، وربما هذا ما جعل إدارة ترامب توسّع مروحة هجومها المضاد ليشمل إيران ذاتها و «حرسها الثوري» و «الحشد الشعبي» في العراق، و «حزب الله» في لبنان وسورية، بالإضافة الى سائر التنويعات الميليشياوية المذهبية المؤتمرة بأوامرها.

وهذه المواجهة تستلزم خطوات مدروسة قابلة للتطبيق، وقد تكون البداية في التصويت المرتقب للكونغرس على معاقبة إيران على مواصلة برنامجها الصاروخي، وعقوبات أخرى على «حزب الله» لدوره في سورية.

لكن، ما الذي يمكن أن يفعله الحزب رداً على السياسة الأميركية الجديدة؟ الكلام يدور عن إعادة تجربة العام 2006 عندما افتعل حرباً مع إسرائيل، هدفها تمكين الجيش السوري من العودة الى لبنان بعد خروجه الذي تلا اغتيال رفيق الحريري.

هذه المرة سيكون هدف الحزب الهروب الى أمام، وإعادة تلميع صورته التي بهتت كثيراً بسبب تورطه في سورية، وليس مهماً ما قد يلحق بلبنان من دمار في حرب جديدة، فالحزب «ينتصر» كلما كان الدمار أوسع والخسائر البشرية أكبر. وهو في ذلك يتفق مع إسرائيل ونظام الأسد على أن لبنان ليس وطناً قائماً بذاته، بل ساحة لتصفية الحسابات بين إيران ومنافسيها.

إدارة ترامب تبدو مقتنعة بأن النظام الإيراني لا يمكن أن يتخلى طوعاً عن طبيعته العدائية، ويتراجع من تلقائه عن سياسته التوسعية التي تمليها تركيبته المذهبية، لكن عليها أن تواجه بجدية تهديدات الإيرانيين للمصالح والقوات الأميركية في المنطقة، لأن أي تراجع ولو بسيط قد يؤدي الى انهيار سياستها الجديدة بأكملها.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٧
ثلاثية أميركا في المشرق العربي

ما بين الحقيقة والإشاعة دعوة روسية إلى مؤتمر وطني سوري في قاعدة حميميم، ومثل ذلك دعوة أميركية إلى اجتماع معارضين سوريين في واشنطن. والمحصلة تراجع الثقة في جدوى مؤتمر جنيف السوري في دوراته المتلاحقة. لقد أثبت مؤتمر آستانة برعاته الثلاثة، الروسي والتركي والإيراني، وبحضور أميركي أشبه بالشاهد الصامت، أنه استطاع إحداث تغييرات على الأرض أسكتت إلى حد كبير أصوات الرصاص وحدّت من أعداد الضحايا ومن خراب قرى ومدن.

سبق لفلاديمير بوتين الإعراب عن تخوّفه من تحول مناطق خفض التصعيد إلى كيانات تهدد وحدة سورية. تخوّف يشبه التحذير، لكن لا أحد من كبار الإقليم والعالم يرغب في تحوّل سورية سوريات متصارعة، كل ما في الأمر أن الحل لم ينضج لأن القوى المتدخّلة لم تستكمل مناطق هيمنتها. ويمكن استقراء خريطة هذه القوى بالعودة إلى استراتيجية باراك أوباما في المشرق العربي التي لا تزال تحكم السلوك الأميركي على رغم تغريدات دونالد ترامب وتهديداته، والقوى الثلاث المعنية: إسرائيل وتركيا وإيران. وقد رأى أوباما في استرضائها، عراقياً وسورياً، ما يحقق التوازن المنشود في المشرق العربي.

أحدث التطبيقات هو استفتاء كردستان العراق الذي نصح الأميركيون بتأجيله ثم حيّدوا أنفسهم مثلما فعل الروس. وحدها إسرائيل بشخص رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، رحّبت بالاستفتاء ونتيجته، وانتهى الأمر إلى تحالف تركي إيراني أنهى مفاعيل الاستفتاء بإقفال الحدود البرية والجوية وبتشجيع زحف القوات العراقية إلى حدود الإقليم عام 2003. لقد تحالفت قوتان من ثلاثية أوباما فتحقق لهما ما تريدان ولم تستطع القوة الثالثة، إسرائيل، منعهما. وبالعودة إلى الثلاثية، فالأرجحية لتركيا لأنها تحظى بعلاقة جيدة، ديبلوماسية وغير ديبلوماسية، مع طهران وتل أبيب، في حين تقف إسرائيل وإيران على طرفي نقيض، ما يجعلهما في حاجة إلى التنسيق التركي في تقاطعات المصالح.

سينتظر السوريون طويلاً بلورة حل سياسي لحربهم «الإقليمية الدولية»، ولم تتح لهم الظروف المعقّدة، نظاماً ومعارضة، أن يعتمدوا خطاباً سياسياً قابلاً للاستمرار، فالطرفان المتصارعان، مبدئياً، مرتهنان بحلفاء يتغير خطابهم تجاه القضية السورية بحسب مصالحهم. والآن، جيش موالٍ للأميركيين في الرقة وما جاورها يأتمر بقيادة كردية علمانية، ومشروع جيش تعمل تركيا على تأليفه يعتمد سياستها كيفما تحرّكت مستنداً إلى إيديولوجية إسلامية براغماتية، وفق ما كانت أوروبا والولايات المتحدة تتصور «الإخوان المسلمين». أما جيش النظام فيستمر في رفع شعار سورية العروبة مستنداً إلى الدعم الروسي ومتحالفاً مع المسلحين الموالين لإيران على رغم خلافه الإيديولوجي معهم.

جيوش لملء الفراغ الذي خلّفه «داعش» وستخلّفه «النصرة»، وفي خلفية الجيوش مدنيون يلتقطون أنفاسهم بصعوبة ويحاولون، بعدما فاتهم قطار اللجوء إلى أوروبا وأميركا، المحافظة على حدّ أدنى من شروط الإقامة: العمل والصمت والتكيّف مع خطابات تتغير بين قوة إقليمية مهيمنة وأخرى.

رحلة سورية الطويلة نحو سلامها ستترك تأثيراً في لبنان والأردن وأكراد المنطقة. وحتى إذا أدت الأحداث إلى توسيع ثلاثية أوباما (إسرائيل وتركيا وإيران)، ستبقى تل أبيب المشكلة التي لن تجد حلاً إلاّ بسلام إسرائيلي- عربي. أنظر إلى الصدام غير الظاهر بين إسرائيل وإيران في أجواء سورية تحديداً. لقد حدّدت تل أبيب لطيرانها الحربي ممرات جوية آمنة في سورية بموافقة روسية- أميركية. وهي تشترط لسلام سورية أن تكون الخريطة السياسية والعسكرية الموعودة آمنة للكيان الإسرائيلي، بما في ذلك شمال إسرائيل- جنوب لبنان.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٧
معارك سورية الأخيرة

أفاض محللو النزاع السوري في الحديث عن «سباق» لاهث للسيطرة على محافظة دير الزور في شرق سورية، وعما وصفوه باقتطاع القوى مناطق نفوذ متنافسة في أنحاء البلاد. كما افترض كثيرون أن الإدارة الأميركية تنوي استخدام الأراضي التي استحوذت عليها الجماعات المسلحة التي تدعمها، كورقة ضغط للحصول على صفقة سياسية مواتية من روسيا ونظام الرئيس بشار الأسد. في حين كان آخرون يُبدون ثقة أقل بنوايا الإدارة الأميركية، لكنهم يرومون إقناعها بأن استخدام النفوذ أمر ميسور، على أن يستهدف تحقيق أهداف سياسية أكثر تواضعاً، مثل تعزيز ما تبقى من المعارضة السورية المعتدلة.

لكن، ليس هناك مؤشرات الى أن لدى الولايات المتحدة أي نية للدفع نحو تغيير سياسي في سورية، أو حتى أن لها أصلاً سياسة تجاه سورية. وبالتالي ستُسفر معارك سورية المقبلة عن نوع مختلف من النتائج عن تلك التي تصوّرها بيان جنيف في حزيران (يونيو) 2012، أو حتى إطار فيينا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015. هذان الاتفاقان رسما لوحة لعملية ديبلوماسية بإشراف دولي تقود إلى تقاسم السلطة بين الحكومة السورية والمعارضة. لكن، لن يحدث في الحقيقة تقاسم للسلطة أو عملية انتقال سياسي في دمشق، ولا تخلٍ للأسد عن الحكم.

بدلاً من ذلك، سيكون الفعل الأكبر لمحادثات آستانة التي ترعاها روسيا، إن لم يكن المخطط المدروس لها دفع أجزاء أساسية من المعارضة المسلحة (بامتعاض) إلى الانضمام الى مسار يُتوَّج بإعادة دمجها في الدولة السورية، تحت مظلة الحكم الراهن. وكان الرئيس الروسي بوتين صريحاً حين قال في خطاب أمام منتدى دولي في 19 الشهر الجاري: «حالما تتشكّل مناطق خفض التوتر، سيبدأ الناس الذين يسيطرون عليها بإجراء اتصالات مع دمشق، مع الحكومة».

لقد تم قطع العديد من المراحل نحو هذه النتائج. وبالتالي، ستحدد المعارك المقبلة في سورية طبيعة العلاقة النهائية بين الحكومة والأكراد السوريين، وإن لم يكن هذا هو الهدف الفوري أو الوحيد لهذه المعارك.

المعركة الأولى تُجرى الآن بالفعل، وهي تتمثّل في طرد تنظيم «داعش» مما تبقى من معاقله على طول القطاع الأوسط لنهر الفرات في محافظة دير الزور. ويفترض بعض المراقبين أن هذه المنطقة ستشهد أيضاً تسابقاً للسيطرة عليها، استناداً إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستسعى إلى إحكام قبضتها على المنطقة الحدودية، بهدف منع إيران من شق ما رُوّج له كثيراً (وليس له أساس من الصحة) على أنه «ممر برّي» إلى البحر المتوسط. فالولايات المتحدة تدعم تقدُّم «قوات سورية الديموقراطية» ذات الأكثرية الكردية إلى تلك المنطقة. بيد أن بسط النظام سيطرته على مدينة الميادين سد الطريق أمام اندفاع تلك القوات لتحقيق المزيد من التقدم، وأتاح لقوات النظام نقطة ارتكاز تزحف منها، تحت غطاء جوي روسي، على البوكمال في الطرف الجنوبي من وادي الفرات. ومثل هذه المحصلة لن تُواجه باعتراض أميركي.

المعركة الثانية هي تلك المؤجلة في محافظة إدلب. والأهم هنا هو تصميم الحكومة التركية على منع حزب الاتحاد الديموقراطي، الكردي السوري، وهو فرع من «حزب العمال الكردستاني» المحظور في تركيا، من خلق ما وصفه الرئيس رجب طيب أردوغان «الممر الإرهابي الذي يبدأ في عفرين ويمتد إلى البحر المتوسط». بيد أن التكهنات بأن تركيا ستلتزم مهمة تهدئة إدلب، التي تسيطر «هيئة تحرير الشام» على معظمها، في مقابل إطلاق يدها لاستئصال الجيب الكردي، ليست في محلها.

إن القوات التركية لن تشن معركة برية كبرى ضد خصوم مُحصنين جيداً، سواء في إدلب أو عفرين، من دون دعم جوي، وهو الدعم الذي تسبّب غيابه في تكبّد القوات التركية خسائر فادحة خلال تقدمها إلى بلدة الباب شمال حلب أوائل هذا العام. وفي حين أن روسيا عرضت استخدام سلاحها الجوي لحماية مراقبي الهدنة الأتراك المُنتشرين في إدلب، إلا أنها لا تسمح لسلاح الجو التركي بالقيام بمهمات قتالية في المجال الجوي السوري. ومع المحاصرة التامة لعفرين من جانب القوات التركية أو فصائل المعارضة المسلحة الحليفة لها، سيكون على أنقرة تأجيل أي عمل عسكري كبير، بما في ذلك العمليات ضد «هيئة تحرير الشام» التي سيتم احتواؤها بدلاً من مواجهتها، على الأقل حتى إشعار آخر.

علاوة على ذلك، يتوقف توقيت ومسار العمليات العسكرية المستقبلية في إدلب على المعركة الثالثة المتعلقة بالصراع بين النظام والأكراد، حول درجة الحكم الذاتي الذي سيتمتعون به حين تضع الحرب أوزارها. بالطبع، نجاح «قوات سورية الديموقراطية» في انتزاع السيطرة على الرقة ومناطق في المحافظات الشرقية، من يد «داعش»، سيشد من أزر حزب الاتحاد الديموقراطي الذي يسيطر على المكوّن الكردي الأكبر لتلك القوات. بيد أن قدرة الحزب على التفاوض مع النظام وانتزاع التنازلات منه تعترضه عقبات. إذ إن الاستفتاء على الاستقلال الذي أُجري في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي في كردستان العراق أجج مشاعر القلق لدى تركيا من النوايا الكردية في سورية، كما أنه جعل من الصعب على الحكومات الغربية الدفاع عن نصرة القضية الكردية في سورية. وقدّم مسؤولون حكوميون سوريون إشارة مهمة الى نواياهم حين دانوا الاستفتاء بكونه خطوة «انفصالية»، وهنأوا الحكومة والقوات المسلحة العراقية على نجاحها في «الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً»، من خلال انتزاعها السيطرة على مدينة كركوك المتنازع عليها من يد حكومة إقليم كردستان.

التهديد الضمني في ثنايا هذا التصريح جلي للعيان، ويتمثّل في إعادة فرض سلطة الحكومة السورية على المناطق التي تُسيطر عليها راهناً «قوات سورية الديموقراطية». لعل النظام يكتفي بداية بالمطالبة فقط بتسليمه الرقة وباقي المناطق غير الكردية، ولكن يمكنه بسهولة أن يوسّع هذا المطلب ليشمل القامشلي، عاصمة محافظة الحسكة، ونقاط عبور حدودية في قلب المنطقة الكردية مثل تل أبيض. صحيح أن هذا التهديد لن يرى النور طالما أن الولايات المتحدة لا تزال تعمل على إلحاق الهزيمة بـ «داعش»، لكن حالما يتم إنجاز هذه المهمة، لن تتدخّل لحماية حلفائها السابقين. وهذا كان واضحاً في مقال أخير نشره السفير الأميركي السابق لدى دمشق روبرت فورد، قال فيه صراحة أنه سيكون على الولايات المتحدة «التخلّي عن أي آمال تتعلّق بدعم منطقة كردية منفصلة»، في مواجهة تصميم الحكومة السورية على «استعادة كل البلاد».

صحيح أن المواجهة العسكرية بين نظام الأسد وبين الأكراد ليست حتمية. إلا أن أي حل سلمي سوف يعتمد على قدرة روسيا على ردم الهوة بين أقصى حكم ذاتي يكون النظام مستعداً لمنحه للأكراد، وبين أدنى حكم ذاتي يطالب به هؤلاء. وهذه مهمة شاقة نظراً للعداء الذي يكنّه النظام لفكرة اللامركزية التي سبق لروسيا أن حبذتها منذ أوائل العام 2016، كإطار لحل الخلافات. يضاف إلى ذلك أن أي صيغة يتم التوصل إليها، يجب أيضاً أن تهدئ من روع تركيا ومخاوفها من الحكم الذاتي الكردي، إذا كانت ستوافق على القضاء على «هيئة تحرير الشام» في إدلب، وتشجّع المعارضة السورية المسلحة على المضي قدماً بمسار آستانة حتى نهاية مطافه بالانخراط تحت لواء الدولة المركزية، والانسحاب من سورية.

ربما كانت هذه التحديات هي التي دفعت بوتين إلى الإعلان عن «خطة تقريبية» في 19 الشهر الجاري، لعقد «مؤتمر للشعب السوري يلم شمل كل المجموعات الإثنية والدينية، والحكومة والمعارضة». وهو في تحديده التسوية السياسية بصفتها حصيلة وفاق وطني بين السوريين، يكون قد تبنّى السردية الرسمية للنظام الذي طالما رفض الحاجة إلى وساطة الأمم المتحدة وإلى حل ديبلوماسي خارجي للنزاع.

إن مختلف سيناريوات المعارك لن تحدث بدقائق تفاصيلها. فروسيا تفتقد ما يكفي من النفوذ لإجبار نظام الأسد على قبول تسوية سياسية وفق شروط قد يعارضها بقوة، لكنها سوف تسعى إلى لجم اندفاعه إلى حرب مع «قوات سورية الديموقراطية». وهذا سيكون أمراً سهلاً طالما أن النظام لا يزال يقاتل لاستعادة وادي الفرات من قبضة «داعش»، بخاصة أنه قد يُيمم وجهته بعد ذلك صوب المجابهة مع «هيئة تحرير الشام» في إدلب. لكن، في مرحلة ما من السنة المقبلة، سيلجأ النظام إلى تكتيكه المعتاد: إجراء حوار سياسي عبر الضغط العسكري، في حواره مع الأكراد. في ذلك الوقت، قد تجد «قوات سورية الديموقراطية» نفسها عُرضة للخطر بسبب تمددها الزائد جغرافيا. والأخطر أنها قد تُواجه تحديات لتماسكها الداخلي من جانب مكوناتها العربية أو من جانب المنافسين الأكراد لحزب الاتحاد الديموقراطي، بخاصة حين يدفع تقاطع المصالح المعادية للأكراد بين تركيا والنظام إلى تغيير صورة التحالفات السياسية في الشمال السوري.

إن الأخطار عالية وعاتية. ويتعيّن على حزب الاتحاد الديموقراطي أن يتعلّم من أخطاء استفتاء الاستقلال في كردستان العراق المُجاورة، إذا أراد إنقاذ الأمل بنيل حكم ذاتي ذي معنى في سورية.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٧
«شعوب سورية» هل تشمل اللاجئين ... اسألوا بوتين!

لو كان مَن تحدّث عن «شعوب سورية» أحداً آخر غير فلاديمير بوتين لأمكن القول أن هذا تخريف خالص، أما وأن الرئيس الروسي هو القائل، بل يريد تنظيم مؤتمر للحوار بين هذه «الشعوب» في قاعدة حميميم العسكرية، فهذا ليس سوى محاولة روسية جديدة للتلاعب بعناصر الحلّ السياسي المتوافق عليه دولياً، وخطوة أخرى نحو تهميش المعارضة الأكثر تعبيراً عن طموحات الانتفاضة الشعبية السورية، وقبل كل شيء استعراض برسم الراغبين في إعادة الإعمار لإظهار أن الوضع يعود إلى طبيعته. فموسكو تشتغل على مَن وما تسيطر عليه، وتسعى إلى استقطاب ما ومَن لا تسيطر عليه، لكنها دائبة البحث عن «معارضة موالية» لا مشكلة لديها مع استمرار بشار الأسد ونظامه. هذا المعيار ينطبق على «معارضين مزيّفين» جُمعوا في منصّتَي موسكو وحميميم، وكذلك على أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي»، إذ إن هؤلاء لا يهمهم مَن يحكم في دمشق طالما أنه لا يعرقل إقليمهم «الفيديرالي».

إمّا أن «الشعوب» مصطلح اعتباطي ومتسرّع، أو أنه استُخدم خطأً فأوحى بغير ما قُصد به، أو أنه ببساطة لا معنى له. إذا كان بوتين يقصد بـ «شعوبـ»ـه السورية التنوع العرقي، فإنها موزّعة بين 92 في المئة من العرب و8 في المئة من الكرد والأرمن والسريان والشركس والتركمان والآشوريين. وإذا كان يشير إلى التعدّد الديني فهذه طوائف ومذاهب وليست «شعوباً». وحتى لو عنى القبائل والعشائر، أو تنوّع اللغات، أو التوزّع الجغرافي - الجهوي، أو أخيراً الانقسام السياسي... فإنه لن يتوصّل إلى جماعات بالمواصفات المتّبعة لتصنيف «الشعوب»، كما هي حال شعوب الاتحاد الروسي، لكن مصطلحه غير المدروس أثار ارتياباً مشروعاً في مفهومه بأن هناك شعوباً وليس شعباً سورياً، وكذلك في رؤيته إلى مجمل الأزمة السورية التي عُهدت إليه إدارتها ومواكبتها إلى حلول سلمية - سياسية. فكيف يمكن أن يصدّق العالم أن تقطيع الخريطة السورية إلى «مناطقَ خفضٍ للتصعيد» والحديث عن «شعوب سورية» ليسا مسودةً تمهيدية للتقسيم. الأرجح أن «مؤتمر الشعوب» يرمي خصوصاً إلى استيعاب الأكراد لئلا يبقوا في كنف الأميركيين الذين سلّحوهم وكلّفوهم مقاتلة تنظيم «داعش» لمصلحتهم.

لم يقل الرئيس الروسي أياً من هذه الشعوب يمثله نظام الأسد، أم إنه في نظره يمثّلها جميعاً، وأين مجتمع الأسد «الصحّي» و «الأكثر تجانساً» من هذا التصنيف، وفي أي شعب يمكن إدراج «المستوطنين» غير السوريين الذين استقدمتهم إيران وعملت على تجنيسهم؟ لكن هناك أيضاً أكثر من ثمانية ملايين لاجئ ونازح. والنازحون ماذا عنهم وعن نحو خمسة ملايين مهجّر في الداخل؟ الأسد والإيرانيون يعتبرون أن ثلث السكان الذي أصبح في الخارج أمكن التخلّص منه ولا يريدون البحث في عودته أو تمكينه من العودة، أما المهجّرون فالأفضل أن يبقوا حيث توطّنوا. ولا أحد يعرف ما الذي يفكّر فيه الروس بالنسبة إلى هذا الملف، فهم لا يختلفون كثيراً عن النظام والإيرانيين عندما يتعلّق الأمر بقضية إنسانية. لكنهم يواجهون جميعاً هذا الملف عندما يقاربون استحقاق إعادة الإعمار. كيف؟

تبدي موسكو ودمشق استعجالاً واضحاً لتحريك إعادة الإعمار، فيما تحاول طهران مقاربته على نحو التفافي. لكن هذا الثلاثي واقع تحت عقوبات دولية، فنظام الأسد مفلس وروسيا وإيران غير قادرتَين، ويعتقد كل طرف أن لديه فرصاً وحوافز يعرضها على الدول المموّلة أو المانحة. يريد النظام إعادة الإعمار مصيدة للأوروبيين ليقايض الصفقات والعقود بـ «التطبيع» معه لإحياء «شرعيته»، ويتخذ منها الروس وسيلةً لمساوماتٍ في كل الاتجاهات. وإذ يعتبرها الإيرانيون نقطة ضعفهم، فإنهم يحاولون التذاكي للإمساك ببعض أوراقها من خلال الإيحاء بل الإيهام بأنهم يتفهّمون الشروط الأوروبية ويريدون التعامل معها. هذه الشروط تُختصر بانتهاء الصراعات المسلّحة والاتفاق على عملية سياسية توضح معالم العودة إلى الاستقرار، إضافة إلى إيجاد خطة ذات صدقية لمشاريع إعادة الإعمار. وتعتمد طهران على علاقتها الوثيقة برأس النظام لتطرح عبر قنوات خاصة صيغاً سياسية ووعوداً بصفقات يمكن أن تكون مغرية للأوروبيين إذا أعادوا علاقاتهم رسمياً مع النظام، لكن حتى لو كان الأوروبيون مستعدّين للتنازل عن الجوانب السياسية، فإنهم لا يُلقون بأموالهم عشوائياً ولا يستطيعون التهاون في شروط الحوكمة والضمانات.

في أي حال، لم يعد أحد يجهل أن الكلمة الأولى والأخيرة في سورية باتت لروسيا، لا لإيران ولا للنظام. ومَن كان يعتقد غير ذلك، فقد شكّلت زيارة الوفد الذي ترأسه وزير خارجية النظام إلى سوتشي رسالة إلى الدول كافةً بأن ملف إعادة الإعمار في يد روسيا. كل ما استطاعه وليد المعلم هو أن يصرّح بشكوى النظام من استيلاء أكراد «قوات سورية الديموقراطية» على حقول النفط في دير الزور. وهي شكوى إيرانية أيضاً، ليس تضامناً مع الأسد وإنما احتجاجاً على تقاسم دير الزور في «التفاهمات» الروسية - الأميركية. غير أن الشكاوى الإيرانية من سلوكات روسيا تتزايد باستمرار، سواء مع تركيا في شأن إدلب أو خصوصاً مع إسرائيل ورسم الخطوط الحمر للوجود الإيراني في جنوب سورية. ومن الواضح أن بوتين لا يكترث للاحتجاجات، بل ينظر فقط إلى التقدّم الذي تحرزه الخطط الروسية، فبعد «مناطق خفض التصعيد» ستكون الخطوة التالية، وفق ما قال «مؤتمر شعوب سورية لمصالحة الحكومة والمعارضة». وبالتالي، فإنه يعمل حصرياً على اختتام مسار آستانة لينتقل إلى مسار حميميم، وكلاهما خارج إشراف الأمم المتحدة، وإذ تهيمن موسكو على مسار جنيف وتدير عقمه ومراوحته، فإنها تستخدمه للتمويه ولتسهيل مسارَيها الآخرَين.

هل من علاقة بين فكرة «مؤتمر الشعوب» وبين إعادة الإعمار؟ بطبيعة الحال، فكلّ الملفات مترابطة، بما في ذلك إنهاء الصراع المسلّح والقضاء على جيوب الإرهاب والعملية السياسية. وقد برهنت روسيا أنها قادرة على إحداث تغيير بالقوة العسكرية مستغلّة ركاكة موازين القوى على الأرض، أما قدرتها على التغيير الآخر المطلوب بالقوة السياسية فلا تزال موضع تساؤل واختبار، نظراً إلى ميلها إلى لَيّ الحقائق والتلاعب بها والتعامي عن الأسباب الواقعية للأزمة. وإذ توحي روسيا حالياً بأنها باشرت فعلاً تنشيط ملف الإعمار، فإن مقارباتها الأولية مع «رجال أعمال النظام» أظهرت لها أن هؤلاء لم يأتوا لعرض مساهماتهم المحتملة، وإنما لاستكشاف ما إذا كانت لديها تمويلات، ثم إنهم بحكم العادة يبحثون عن مكاسب سريعة وسهلة. وفيما تفتح روسيا تفاوضات مع حكومات أوروبية لرسم خرائط الصفقات، فإنها تريد فرض معاييرها على الإعمار الذي يفترض أن يكون جهداً دولياً، وتحاول تعويض عجزها عن الإعمار بقوّة احتكارها توزيعَ العروض، لكنها لم تبدِ مثلاً أي اهتمام بقضية اللاجئين التي تعرف أنها مثار قلق للدول المموّلة، ولم تقدّم أي تعهّد بأن تشمل نشاطات التنمية والإعمار جميع «الشعوب» السورية المنكوبة، خلافاً لرغبات نظام الأسد في توجيهها إلى «شعوبـ»ـه ومناطقه.

لكن المهمّ أن صيغة الحل السياسي الذي تعمل عليها روسيا تبقى أقرب إلى صيغة محورها الأسد ونظامه، أي أبعد ما تكون عن إقامة سلام داخلي يطمئن «الشعوب» إلى مستقبلها. وتبدو مقاربتها لاستحقاقات ما بعد الحرب مكشوفةً بتمحورها على مصالح «روسيا أولاً» وليس مصالح سورية والسوريين، والمؤكّد أن حساباتها السورية والأوكرانية والإقليمية ستتخذ منحًى ابتزازياً في إدارة ملف إعادة الإعمار. لذلك، استفزّها مثلاً أن الولايات المتحدة ودولاً أوروبية سترسل «مساعدات إنسانية» إلى الرقة، حتى إنها اعتبرتها محاولة لـ «إخفاء آثار القصف الوحشي» كأن القصف الروسي لحلب كان أقلّ وحشية. أما الأهمّ فهو أن موسكو أصبحت مدركة أن المجتمع الدولي قد يتقبّل «السلام الروسي» في سورية ولو بوجودٍ مشروط للأسد، لكنه لا يمكن أن يدعم «سلاماً» كهذا بوجود الأسد وإيران معاً. وطالما أن السلام بعيد، فإن «شعوب سورية» سئمت الجميع: النظام وإيران، وكذلك روسيا.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٧
أوجلان طليقاً في الرقة

قال ونستون تشرشل قوله الشهير: «ليست هناك صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة» ولم نصدقه، لأننا شعوب عاطفية يصعب إقناعها بالحقائق. وهي لا تصدق أن هذه حقائق، بل «مفاجآت». وأقرّ بأنني أول المفاجئين بانتقال تركيا من إسقاط السوخوي الروسية على حدودها مع سوريا، إلى هذا الحلف مع موسكو. ولم تكن مفاجأة، بل صاعقة عندما رأينا قوات عبد الله أوجلان، الماركسي - اللينيني، تسيطر على الرقة بالتحالف مع قوات الدعم الأميركية.

والذين يفاجأون، من أمثالي، تلامذة غير نجباء للتاريخ. فقد أدخل روزفلت بلاده الحرب العالمية الثانية ضد جميع قناعاته ومشاعره السابقة. فهو كان معجباً بالفاشية وإن كان ضد هتلر. وكان يقدر الديكتاتور الإيطالي موسوليني، كما أنه ساعد المارشال بيتان في فرنسا ولم يصغ إلى ديغول.

ولم يكن معروفاً عن روزفلت أي تفكير أو عمق استراتيجي، بل العكس. وبعد وصوله إلى الرئاسة (1932) بقليل، قال لأحد أصدقائه: «إنني أتابع بإعجاب ذلك السيد الإيطالي» (موسوليني). وبعد خمس سنين سأله سفير أميركا في روما إن كان لديه أي اعتراض على الديكتاتوريين، فقال: «أبداً، ما داموا لا يخرجون عن حدود بلدانهم». وهكذا، كان أول من ساعد الجنرال فرنكو في إسبانيا.

لكن المصالح الأميركية لم تخضع لعواطف رئيسها. فقد خاضت واشنطن الحرب ضد جميع الذين أعجب بهم وإلى جانب الذين ازدراهم ورفض لقاءهم مثل شارل ديغول. وما كان مذهلاً، وليس فقط مفاجئاً، أن نرى أميركا ليس فقط بعيداً عن بارزاني، بل قريباً من أوجلان الذي أسهم الغرب في تسليمه إلى تركيا بعدما أبعدته سوريا إلى كينيا، بناء على تهديد أنقرة لدمشق بالحرب.

أوائل الحروب ليست مثل نهاياتها، على ما يبدو. وأكراد كردستان العراق معزولون من الصداقات التاريخية بينما أكراد الرقة - سوريا يتمتعون بصداقات جديدة. أما الرقة نفسها، فتعطى إلى «إدارة مدنية»، وهو مصطلح غامض فيه من «العسكرية» والعسكر، أكثر بكثير مما فيه من «المدنية». ويعني أيضا، فيما يعنيه، الحكم الذاتي والبعد عن السلطة المركزية.
قال تشرشل قوله ومشى، وترك العالم يتأكد من صحته حرباً بعد أخرى.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٧
روحاني ـ بنس وصندوق البريد اللبناني

مرة جديدة - ولكنها الأخطر - تُستخدم الجمهورية اللبنانية حيزاً جيوسياسياً لإيصال الرسائل أو تبادلها، ولكن هذه المرة على مستوى غير مسبوق من التصعيد، رسائل توحي بأن شيئاً ما يُعدّ، أو أُعِدّ ولكن تنفيذه بات مرهوناً باكتمال ظروفه المحلية والإقليمية والدولية، التي ستسمح للاعبين بالتقاط الإشارة بأن قواعد الاشتباك تغيرت، وعليهم إعادة ترتيب أوراق قوتهم التي سيلجأون إليها عندما يجدون أنفسهم مضطرين إلى استخدام الحيّز اللبناني جزءاً من أدوات الصراع في سبيل حماية مصالحهم التوسعية.

منذ أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب استراتيجيته الجديدة للتعامل مع إيران، وأنظار المجتمع الدولي متجهة نحو لبنان، حيث يتضاعف القلق من عدم استطاعة الدولة اللبنانية التكيف مع المتغيرات الدولية وتجنب تداعياتها على لبنان الرسمي، فهي على مسافة أسابيع تقريباً من جلسة الكونغرس الأميركية المخصصة لفرض حزمة عقوبات اقتصادية ومالية جديدة على تنظيم حزب الله، وعلى الكيانات السياسية والاقتصادية التي تدور في فلكه، وتشكل جزءاً من دورة إنتاجه الاقتصادية وسط بيئته الحاضنة، وهي في أغلبها من أبناء المسلمين الشيعة التي ستكون أكثر المتأثرين بالعقوبات، ومن المرجح حسب المعلومات الواردة من واشنطن ونيويورك أن تأثيرها سينعكس سلباً على السوق المالية اللبنانية، وستتسبب بصعوبات اقتصادية كبيرة لا يمكن الالتفاف عليها، وذلك في لحظة يزداد فيها السؤال الداخلي حول قدرة اللبنانيين على الحفاظ على استقرارهم السياسي في بلد منقسم عامودياً منذ 14 فبراير (شباط) 2005، وكادت محكمة استمرت لأكثر من ثلاثة عقود أن تتسبب بانفجار نزاع أهلي، بين جماعات لبنانية فاضت أدبياتها السياسية والاجتماعية والثقافية بشعارات كانت تؤكد دائماً على تجاوز الماضي، وأن لا رجعة للحرب الأهلية.

لم يكد الجدل الداخلي الحاد والمتوتر حول الحكم في اغتيال الرئيس اللبناني الأسبق بشير الجميل أن يمر دون أضرار جانبية، حتى فجّر تصريح الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي اعتبر فيه «أن لا أحد يستطيع اتخاذ قرار في لبنان دون الرجوع إلى إيران»، جدلاً جديداً أكثر حدة داخل الطبقة السياسية، خصوصاً أن خطورة كلام روحاني يأتي في لحظة تشتد فيها الضغوط على إيران، من أجل تغيير سلوكها الإقليمي، والكف عن التدخل في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وبالنسبة لواشنطن ولعواصم إقليمية، فإن روحاني يقطع الشك باليقين، ويؤكد للمجتمع الدولي أن الجمهورية اللبنانية تخضع للانتداب الإيراني، وهو عكس ما حاول أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في كثير من خُطَبه نفيه، عندما كان يُصر على أن إيران لا تتدخل في الشأن اللبناني، وأن ليس لديها مطامع في لبنان، وتزامن تصريح روحاني في الوقت الذي أقامت فيه الإدارة الأميركية في واشنطن نهار الاثنين الماضي حفل تأبين للجنود الذين قضوا في تفجير مقر مشاة البحرية الأميركية «المارينز» في لبنان سنة 1983، والتي اتهمت فيها واشنطن جماعة إرهابية لبنانية تابعة لإيران بتنفيذه، وقد قال نائب الرئيس الأميركي مايكل بنس إن «تفجير المارينز في بيروت كان الشرارة الأولى لانطلاق الحرب ضد الإرهاب»، مشدداً على أن «الإدارة الأميركية تضاعف جهودها لتقويض حزب الله»، مذكّراً بأن «حزب الله هو جماعة إرهابية وكيلة لراعي الإرهاب الأساسي، أي إيران، ولن نسمح لإيران بزعزعة استقرار دول المنطقة». الأخطر في كلام مايكل بنس هو قوله إن بلاده ستنقل المعركة إلى أرض الإرهابيين وحسب شروطها، أي في المكان والزمان والشكل الذي سوف تحدده واشنطن، لحظة اتخاذها قرار التصدي المباشر لمن تتهمهم بزعزعة استقرار المنطقة ودعم الجماعات الإرهابية، ما يمكن تفسيره بأن عهد الاستقرار في بعض الدول قد انتهى، وفي مقدمتهم لبنان الذي على ما يبدو سيتحول إلى مساحة سيستخدمها الكبار في مرحلة تصفية الحسابات المقبلة.

أغلب التحليلات الغربية والإسرائيلية والإقليمية لا تستبعد حدوث خلل في الوضع اللبناني، حيث طبول الحرب تقرع من جنوبه إلى بقاعه، وعلامات التصدع السياسي تلوح من داخل العاصمة بيروت، فيما الضغط الإيراني - الأميركي على لبنان يتفاقم ويوحي بأنهما يستعدان لفتح دفاترهما القديمة، ونبش فواتير اعتقد الطرف الذي تهرب من دفعها أنها أسقطت بفعل الأقدمية، فأعيدت حدود لبنان الجنوبية إلى الواجهة الإيرانية، حيث العدد الهائل من الصواريخ التي تلوح طهران من خلالها بأن قرار الحرب والسلم بيدها حصراً، وفي المقابل حشد أميركي - إسرائيلي غير مسبوق يستخدم لغة انتقامية هدفها الثأر لأحداث مضت، معطيات كفيلة بأخذ لبنان نحو جحيم سيحرق ما تبقى من هيكل الدولة، ويضعه بين فكي كماشة الطموحات الإيرانية ورد الاعتبار الأميركي.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٧
اكتشاف جمهورية إيران السرية

كلنا نفهم إيران، النظام الطموح للهيمنة والنفوذ، لكننا في الحقيقة لا نعرفه جيداً. عنده الغاية تبرر الوسيلة، من بيع السجائر إلى تزوير العملات، والمتاجرة بالمخدرات، وغسل الأموال. جمع وتوجيه أموال الخُمس الدينية لأغراض حربية، وتأسيس شبكات معقدة من الشركات في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، من إرسال رجال الدين المحملين بطلب الولاءات إلى مدربي القتال على السلاح. هذه نشاطات الإمبراطورية الإيرانية التي لا تظهر على السطح، تحاول تسخير كل ما تضع يدها عليه لخدمة غاياتها. وهي من خلال الخلايا، وشبكات التهريب السرية، بنت مشروعها النووي ولا تزال تفعل.

ومع أن بث النزاعات هوايتها الرسمية فإنها لا تحارب بنفسها. آخر حرب خاضتها القوات المسلحة الإيرانية كانت أمام العراق، وانتهت عام 1988. في تلك الحرب، رمى النظام الجديد بما تبقى من قوات الشاه المهزومة للتخلص منها. بعد الثورة صار الجيش النظامي الإيراني يقاد من قبل آيات الله المرتابين فيه، الذين لا يعترفون بالرتب العسكرية، ولا يحترمون إلا التراتبية الدينية. بعدها أصبحت كل معارك نظام طهران توكل إلى الخلايا والشبكات والمندسين؛ «حزب الله» لبنان، «حزب الله» العراق، «أنصار الله» اليمن، «الفاطميّون» الأفغان، وعشرات غيرها نشرت في أنحاء المنطقة تحارب من أجل رفعة دولة آية الله.

إيران لم، وربما لن، تخوض مواجهات عسكرية بالبوارج وأسراب المقاتلات، فهي، رغم بنائها، الذي لا يكل، لأسطولها البحري والبري بأفضل الأسلحة، تتحاشى المواجهات الكبرى. ترسل سفنها حاملة السلاح تبحر سراً إلى موانئ المناطق المضطربة. كما يتولى جنودها على الأرض حراسة قوافل «فيلق القدس» العابرة لبلاد الرافدين، لتعزيز قدرات الميليشيات الأجنبية التي تقاتل تحت إمرتها هناك.

وفِي آخر مواقفها الرسمية، أعلنت الحكومة الأميركية أنها تنوي تنسيق الجهود بين مؤسساتها الرقابية والأمنية، وتستعين بحكومات دول المنطقة المتحالفة معها للتعرف أكثر على شبكات التهريب والتدريب، وكيف تدير طهران حروبها السرية في أنحاء العالم. تقول إنها ستذيع المعلومات التي بحوزتها عن شركات طهران السرية، وستفضح المتعاملين معها. وتقول إنها ستكشف عن الأدلة التي تبرهن على علاقات إيران بتنظيم القاعدة. وهي كانت من المفاجآت الغريبة التي قلبت كثيراً من مفاهيمنا عن إيران في عام 2003. ففي تلك السنة هزت العاصمة السعودية انفجارات من تنفيذ تنظيم القاعدة، كنا نعتقد أنهم إرهابيون سعوديون على أرض سعودية. وكانت المفاجأة أن اتصالات التكليف الهاتفية جاءت من إيران إلى تلك الخلية في الرياض. تفجير مايو (أيار)، من ذلك العام، تم بأمر هاتفي من مساعد بن لادن القيادي المصري الهارب سيف العدل المختبئ مع رفاقه الإرهابيين في ضيافة إيران. وهو نفسه الذي دبّر قتل 18 أميركياً في العاصمة الصومالية عام 1993، ويعتقد أن له دوراً في التخطيط لهجمات سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة!

قبل تلك الحادثة لم يخطر ببالنا أبداً أن يلتقي العدوّان؛ نظام طهران وتنظيم القاعدة، ويعملان معاً فوق الأرض نفسها وضد الهدف نفسه. بعدها أصبحنا نرى إيران بلد الألغاز، أكثر غموضاً مما كنا نظن ونعتقد. ومعرفتها جيداً ستتطلب من قوى المنطقة العمل المشترك، من أجل تفكيك ألغازها والكشف عن شبكات التهريب والتخريب والمعلومات. قبل الانخراط في أي عمل ضده بات التعرف أكثر على النظام الإيراني ضرورة أولى.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٧
العراق الجديد: الرياض تبني ما قوضته طهران

نقلة نوعية في العلاقات السعودية العراقية لا يمكن أن تخطئها العين، وكانت لكلمة خادم الحرمين الشريفين في توصيف العلاقات خارج إطار الدبلوماسية السياسية، بأنها علاقة جيرة وروابط إخوة، دلالة على أن المأمول يتجاوز مجرد رأب الصدع السياسي الذي شهدته العلاقات خلال السنوات الماضية، بعد الاستلاب الذي مارسته إيران لهويّة العراق العربية، وتقزيم بلد عريق بحجة الحرب ضد الإرهاب.

التدخل الإيراني في الشأن العراقي كان إيذاناً بتكريس المحاصصة السياسية الطائفية، والولاءات مع أيديولوجيا ولاية الفقيه التي تحاول إيران تدويلها، كبديل لتصدير الثورة المباشرة، في العراق ولبنان واليمن، وتحويل ساحات النفوذ إلى مصادر لإنتاج الفوضى السياسية، وتقويض استقرار الدول وخرق التوافقية بين المكونات السياسية المختلفة. وبالطبع عادة ما يجد هذا التدخل قبولاً عند الشخصيات الانتهازية، كما هو الحال في بعض التيارات السياسية في لبنان، ونظام المخلوع صالح في اليمن، وبعض التيارات السياسية من أنصار الإسلام السياسي الشيعي في الخليج؛ لكنه ولاء مشروط بالبحث عن دور وليس عن قناعة بجدوى السلوك الإيراني في المنطقة الذي هو سلوك تقويضي هدمي لا يمكن أن يساهم في بناء دولة قدر أنه قادر على مفاعيل التدمير للدول المضطربة.

العراق يتعافى من منطق الميليشيا بعد أن مضت سنوات طويلة والفوضى تلازمه كجزء من تبعات الانتقال إلى منطق الدولة الذي يتشكل الآن، وبحاجة إلى مساندة المجتمع الدولي ودول الجوار. وهنا يمكن أن نقرأ الاستباقية السعودية في العلاقات الخارجية، والمبادرة بمد يد التعاون والشراكة المبنية على الاحترام والمصالح المشتركة للعراق، وبسلوك ولغة ترفض الطائفية، وكان جزءاً من التأكيد على ذلك هو الدعمُ الكاملُ للحرب على تنظيم داعش ومباركة العراق بالتخلص من آفة الإرهاب، على الرغم من المخاوف والتحفظات المشروعة حول آليات ذلك، وتبعاته، والأخطاء التي قد تقع بسبب الانحراف عن سلوك الدولة والارتهان، ولو مؤقتاً، لسلوك الميليشيا.

يمكن القول إن جزءاً من الإرادة العراقية وُلد بعد محاصرة سلوك إيران في المنطقة، وأبرزها أصوات النقد العالية من قبل الإدارة الأميركية، التي من المفترض أن تعقبها مرحلة جديدة في ضبط هذا السلوك. الإدارة الأميركية الجديدة انتقدت هيمنة ملالي طهران، بل واعتبرت النظام الإيراني هو الراعي الرئيس للإرهاب في المنطقة في أهم ثلاثة ملفات؛ العراق وسوريا واليمن.

في الملف العراقي انتهت مرحلة المالكي الذي كان ممانعاً لأي أدوار غير إيرانية في النهوض بعراق عربي غير طائفي، وفي سوريا يبدو أن التخلص من «داعش» مرتبطٌ بشكل أساسي بخروج الميليشيات الشيعية المسلحة التي تبعثها إيران وحزب الله، الذراع الأكثر التصاقاً بها. وفي اليمن فإن النزاع بين أنصار الله والحوثي، وكل القوى السياسية في اليمن، هو مسألة وقت، حيث انتقل من حالة الانتهاك للشرعية في اليمن إلى احتلال شمال البلاد، واللعب في مقدراته وهويته على كل المستويات، وآخرها تجريف الهوية الثقافية عبر مناهج التعليم والمساجد وملاحقة الصحافيين، وحتى الشخصيات السياسية في حزب المؤتمر للمخلوع الذي بات ظلاً تابعاً لهيمنة الحوثيين، وهو ما يفسر أيضاً في خصوص الحالة اليمنية توجهاً أميركياً جديداً بالضغط على إيران ووكلائها بالخروج من ملف اليمن، والتعامل مع الحوثيين في إطار الحرب على الإرهاب، بدءاً بمنع وصول الإمدادات الإيرانية للأسلحة عبر القوارب البحرية والتهريب.

الرياض تمد يد البناء في العراق بعد أن أنهكته يد الهدم والهيمنة الإيرانية، وهذا ما يفسر تشكل قوى شيعية سياسية بتوجهات تصالحية مع عمقها التاريخي في منطقة الخليج، وعلى رأسه المملكة التي كان لها اليد الطولى في ترميم خرائب الربيع العربي، وانعكاساته على منطق الدولة في مصر وليبيا وتونس، مع الحفاظ على سيادة تلك الدول من أي مساس. وكانت للحرب على تنظيم داعش عبر التحالف الدولي بدعم الولايات المتحدة نتائج ملموسة على الأرض، وكانت زيارة مقتدى الصدر ثم العبادي والتصريحات القادمة من بغداد مؤشراً إيجابياً على مرحلة جديدة في المنطقة، هي مرحلة بناء وشراكات فاعلة، ومن هنا كانت المبادرة في الاتفاقات الاقتصادية وعودة آمنة للصادرات النفطية العراقية وازدهار الاقتصاد، وكل ما ينفع الناس على الأرض، بعيداً عن الشعارات والصخب الإيراني والميليشيات المنتجة للفوضى.

السعودية على المستوى السياسي يمكنها أن تلعب دوراً مهماً في طمأنة المكونات السنية في العراق، وإعادة إدماجها وتعافيها من الانحياز الطائفي الذي مارسته حكومة المالكي سابقاً، لا سيما في المدن ذات الأغلبية السنية في محافظة الأنبار والموصل ومحافظة صلاح الدين... هذا الدمج السياسي سيجد صداه بشكل سريع متى ما أثمر التعاون الاقتصادي عودة العراق كقوة اقتصادية في المنطقة، وقوة سياسية قادرة على التخلص من النفوذ الإيراني بولادة هويّة جديدة قائمة؛ عراق يسع الجميع على أساس المواطنة ونبذ الطائفية؛ هوية جامعة تعيد العراق إلى عمقه العربي، وهو الأمر الذي دعمته السعودية برفضها لأي تحيّزات طائفية ودعمها لحكومة العبادي وإصلاحاته السياسية في وقت يتنفس العراق هواءه الوطني بعيداً عن فزاعة «داعش» التي كانت تستغلها إيران، أو شبح التقسيم بعد أن وقفت الرياض مع العراق في المسألة الكردية، والمطالبة بوحدة العراق باعتبارها خطاً أحمر لا يمكن التنازل عنه.

والحال أن نقطة التحول الكبيرة التي مهدت لها يد الرياض التي صافحت بها الرغبة العراقية الجديدة في التحول، ستؤتي ثمارها قريباً مع موعد الاستحقاق السياسي المقبل عبر الانتخابات البرلمانية في أبريل (نيسان) عام 2018، ومن المرجح أن تبدأ مرحلة من التحالفات الانتخابية وتحول في خريطة التحالفات القديمة وحراك أكثر تنوعاً من قبل التيارات المدنية، يجب أن تعقبها نقلة نوعية أخرى على مستوى الإصلاح السياسي والاقتصادي.

صحيح جداً أن التخلص من إرث الطائفية الذي تم تأسيسه منذ سقوط نظام صدام حسين يحتاج إلى سنوات طويلة، لكن الخطوات الأولى في الاتجاه الصحيح قد بدأت بالفعل، وآن للعراق الجديد أن يتعافى من ارتباكه نحو عراق واحد عربي يمثله كله أبناؤه الذين دفعوا الكثير من الأثمان للتخلص من نظام البعث ومن الإرهاب، وآن الوقت لأن يضحوا بالطائفية والتغلغل الإيراني للاستقلال الحقيقي وسيادة منطق الدولة في أرض السواد والأمجاد.

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٧
أنقاض الرقة تذكِّر بالقوة العسكرية الأميركية

مطالعة صور الشوارع الخربة المدمرة لما كانت في يوم من الأيام عاصمة «داعش» يذكّرنا بالقوة العسكرية القاسية، والفاعلة، والساحقة للولايات المتحدة الأميركية.

ولعلها تعد تقديراً للطبيعة الحتمية للقوة الأميركية، في حالة من أبرز حالات الإعلان عن ذاتها، لدرجة أن سقوط مدينة الرقة بهذه الطريقة لم يحرك إلا أقل القليل من المناقشات العامة خلال الأسبوع الماضي. وفي حين ركز المعلقون آراءهم حول ما إذا كان الرئيس دونالد ترمب قد هوّن من شأن آباء وأمهات المقاتلين الأميركيين الذين سقطوا في ميدان القتال، بيد أنه، وبالكاد، قد لفت انتباههم أن جيش بلادهم قد نجح في إنجاز هدف كان يبدو قبل ثلاث سنوات كغاية مضطربة وبعيدة المنال.

إن أكوام الركام وأنقاض المنازل التي كانت ذات يوم مأوى الإرهابيين وجلاوزة التعذيب تبعث برسالة واضحة وتنقل للأفهام درساً لا ينقصه الصواب، وهو حق وحقيقة مثل ما كان الأمر في عام 1945: من الخطأ والعبث استفزاز الولايات المتحدة. قد يستغرق الأمر من البلاد قدراً من الوقت للرد على تهديد من التهديدات، ولكن بمجرد دوران عجلات الآلة الأميركية العملاقة، فما من سبيل قط لإيقافها، ما دامت هناك إرادة سياسية فاعلة وراسخة تمهد لها الطريق وتفتح لها الأبواب.

إن حملة الرقة تذكرة ماثلة لشيء نادراً ما نبصره في هذه الأيام المثيرة للتشرذم والانقسام، ألا وهو استمرار احترام الولايات المتحدة لالتزاماتها المعلنة من عهد الإدارة السابقة إلى الإدارة الحالية. وبكل تأكيد، كان الأمر برمته مشروعاً مشتركاً وممتد الأثر والمفعول. ويستحق الرئيس ترمب نسب الفضل إليه في تسريع وتيرة الحملة ضد تنظيم داعش الإرهابي ومنح قادة الجيش الأميركي المزيد من السلطات والصلاحيات. بيد أن الاستراتيجية الأساسية - والإرادة الماضية لمقاومة ومحاربة الإرهابيين في المقام الأول- يُنسب الفضل فيها إلى الإدارة السابقة.

ولسوف يقوم الرئيس ترمب، الواثق من ذاته للغاية، بدعوة الرئيس السابق أوباما إلى البيت الأبيض للالتقاء مع القادة العسكريين والضباط والجنود العائدين من ساحة المعركة. ومن شأن هذه الاحتفالية أن تذكّر العالم بأسره أن الولايات المتحدة الأميركية قادرة على الوفاء بكلمتها رغم اختلاف الإدارات الحاكمة للبلاد. والرئيس ترمب، الذي لا يزال يساوره بعض القلق بشأن سلطاته، يبدو غير قادر - على نحو تام - على التحلي بهذا القدر من السخاء والكرم.

وبالنظر إلى بداية الحملة يمكننا أن نتذكر كيف كانت الأوضاع في منتهى الهشاشة في بادئ الأمر. كان اجتياح «داعش» مريعاً في صيف عام 2014، من اكتساح الموصل والاندفاع مثل الإعصار الأهوج عبر المناطق السُّنية في سوريا والعراق، حتى انهارت خطوط الدفاع وقتذاك، وبدت العاصمة الكردية أربيل في خطر داهم ومحدق، وكذلك كانت بغداد.

وطالب الرئيس السابق أوباما، كشرطٍ وضعه قبل التدخل العسكري الأميركي في المنطقة، أن تحصل بغداد على حكومة جديدة تكون أكثر مقدرة على كسب ثقة وولاء السكان السُّنة في البلاد. ولقد كان على حق في ذلك، ثم تحقق له ما أراد باستبدال حيدر العبادي بنوري المالكي في منصب رئيس وزراء العراق، والذي كانت قبضته تبدو أكثر رسوخاً وثباتاً عما توقعه المراقبون العراقيون في بداية الأمر.

ولما أعلن الرئيس أوباما عن هدفه بتحطيم ثم تدمير تنظيم داعش تماماً، بدا الأمر كأنه هدف حرب مشروطة وبليدة. ولم يساعد وقتها أنه لم يوافق أحد قط على مسمى العدو الذي يُعرف إعلامياً باسم «داعش» اختصاراً. وكانت الولايات المتحدة في أدنى درجات الحماس العسكري لشن هذه الحرب الجديدة بعد المعارك المطولة والمحبطة التي خاضتها ضد جماعات التمرد الإرهابية في كلٍّ من العراق وأفغانستان.

وواجهت الحملة بداية بطيئة وغير مشجعة على الإطلاق. وطالبت العشائر العراقية الكائنة في وادي نهر الفرات بمساعدات من الولايات المتحدة، وكانت المساعدات متثاقلة في أول الأمر. وكانت الفوضى عارمة في صفوف الجيش العراقي حتى بدأ البرنامج الأميركي للتدريب على مكافحة الإرهاب في إظهار القوة القتالية الحقيقية. لكن، وعلى نحو تدريجي، وخفيٍّ في أغلب مراحله، تغيرت ملامح المعركة تماماً؛ إذ تمكنت القوات الجوية الأميركية من القضاء على عشرات الآلاف من جنود «داعش» وعناصره على الأرض، مع الطمس التام لكل من حاول إثارة أي إشارة ولو كانت رقمية. وكانت البيانات العسكرية الأميركية شحيحة ومقتضبة للغاية بشأن هذه الحملة القاسية، غير أن المقاتلين السوريين والعراقيين عاينوها معاينة المبصر الواعي، ولحق الناس كعهدهم بجموع المنتصرين.

وعبر مشاهدتي لمختلف ملامح هذه المعركة وهي تتبدى منكشفة خلال العديد من زياراتي إلى العراق وسوريا، وضعت إصبعي على عاملين مهمين كان لهما أبلغ الأثر في تغيير مجريات القتال: أولاً، وجود الحلفاء الملتزمين الذين اعتمدت عليهم الولايات المتحدة هناك. وكان الأكراد من أشرس المقاتلين وأكثرهم تمرساً، وأعني مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وميليشيات البيشمركة بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، إلى جانب وحدات الحماية الشعبية الكردية في سوريا. لقد حافظوا ودافعوا عن مواقعهم وواصلوا القتال وسقط منهم الكثير من الرجال (وهذا الولاء الكردي جدير بالذكر والثناء الآن، في خضمّ متاعبهم وآلامهم الراهنة). ولقد توسعت رقعة التحالف المناهض لتنظيم داعش الإرهابي مع تعزيز قوات الجيش العراقي، فضلاً عن تجنيد المزيد من المقاتلين السُّنة على أيدي وحدات الحماية الشعبية الكردية، وضمهم إلى التحالف الموسع الذي حمل مسمى قوات سوريا الديمقراطية.


وتمخض النصر عن التحام هؤلاء المقاتلين مع القوة النيرانية الأميركية المهلكة. ويمكن للولايات المتحدة توجيه مختلف الضربات عبر مختلف المنصات: الطائرات الحربية المسيَّرة، والمقاتلات الحربية ثابتة الأجنحة، مع وحدات المدفعية المتقدمة. وخراب الرقة يجعل الأمر يبدو كأننا قد قصفنا كل شيء هناك، ويتعين على الولايات المتحدة إجراء تحليل ذاتي للخسائر المدنية في الأرواح خلال تلك الحملة الشعواء. ومن أفضل جسور العبور للمستقبل القادم هو اعتماد حد الأمانة والصدق مع الذات في تقدير التكاليف البشرية لهذه الحرب، ومسؤولية الولايات المتحدة عن الأخطاء التي لا بد أنها ارتُكبت في ضباب المعارك الضروس.


وتكمن المشكلة الحقيقية مع هذه الحملة في أنها منذ البداية كانت تستند إلى الهيمنة العسكرية المشيدة على أسس غير راسخة من القرارات السياسية. وهذا الأمر لا يزال صحيحاً حتى الآن. لم تكن هناك استراتيجية سياسية واضحة المعالم لدى الرئيس باراك أوباما لإقامة نظام إصلاحي ممتد في سوريا والعراق لما بعد سقوط «داعش»، ولا يملك الرئيس الحالي ترمب هذه الاستراتيجية كذلك. إن مؤسستنا العسكرية ذات فعالية فائقة في مجالات عملها من دون شك، غير أن مشكلات الحكم الدائمة على أرض الواقع، لا يمكن دوماً حلها بالوسائل العسكرية فحسب.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان