التقارب التركي الايراني في مواجهة الاستفتاء الكردي حول الانفصال واعلان الدولة في اقليم شمال العراق لا يعني بالضرورة انه سيتحول الى حلف ثنائي باتجاه حماية المصالح في التعامل مع الملفات الاقليمية.
التفاهم بين انقرة وطهران في العراق لا يتعدى حدود اقليم كردستان لا بل حدود اربيل ربما، حيث التقت المصالح في رفض ما أراد مسعود البارزاني فرضه عليهما. فسياساتهما متضاربة في كركوك وقنديل وسنجار وفي العلاقات مع اكراد السليمانية وشكل العلاقة مع بغداد وطرق بناء العراق الجديد.
الحديث عن احتمالات حصول تنسيق تركي ايراني في الملف السوري كما حدث في اربيل مؤخرا ليس من المبكر الحديث عنه فقط، بل من المستحيل توقعه، بسبب حجم نقاط التباعد والخلاف رغم النجاح الجزئي لتجربة تفاهمات الاستانة حول مناطق تخفيض التوتر. طهران ما زالت الحليف الاول والاقوى للنظام في سوريا وتركيا ما زالت تتصدر قائمة المناوئين. موسكو قد تكون نجحت في جمعهما أمام طاولة واحدة لكن مصالحها هي العامل الاساسي في فرض ترتيب الجلسات وتحديد مواد جدول الاعمال واختيار الحضور.
ايران تراهن دائما على عدم اكتمال مشروع اي تقارب تركي روسي في سوريا وهي كماعرقلت انجاز خطة درع الفرات في الباب تستطيع ان تكرر ذلك في جبهات التقاطع التركي مع النظام ووحدات سوريا الديمقراطية.
المساومات التركية الروسية في شمال سوريا حول ادلب وعفرين وتل رفعت سيكون لها ارتداداتها على السياسة الايرانية التي قد تتحرك للرد باتجاهين اذا ما شعرت ان ذلك يتم على حسابها : الضغط على النظام السوري ليقاوم المطالب الروسية ومحاولة لعب ورقة اكراد سوريا عبر تقريبهم اكثر الى النظام في اطار صفقة سياسية دستورية تعرقل الخطط الروسية.
ايران قادرة على تحريك اكثر من ورقة ضد انقرة أيضا اذا ما شعرت ان تقارب الاخيرة وانفتاحها على موسكو سيضر بحساباتها ومصالحها هي في سوريا. بين ما تستطيع طهران فعله مثلا تحريك مجموعات حزب العمال الكردستاني في قنديل وسنجار وكوباني لتفجير الوضع الامني على الحدود التركية العراقية والتركية السورية.
الخطط التركية الاخيرة حول توحيد قوى المعارضة السورية عسكريا قد تكون استجابة لمطلب روسي بهدف فتح الطريق امام الحوار والتمثيل السياسي امام طاولة المفاوضات المرتقبة بعد الاستانة المقبل. نتائج وقرارات اجتماعات الاستانة لناحية المشاركة وملفات البحث ستساعدنا على معرفة مسار ومستقبل العلاقات التركية الايرانية في سوريا لكنها ستكشف اكثر عن مواقفهما واوراقهما المستورة وطريقة تعاملهما مع سيناريوهات ومناورات روسية لا تنتهي حول الفدرالية والكونفدرالية والحكم الذاتي في سوريا. لكن هناك ما ينبغي قبوله والتسليم به ايرانياً وتركياً كذلك وهو ان المصالح الروسية في سوريا وما ستقوله موسكو هو الذي سيحدد شكل ومسار العلاقة بين انقرة وطهران في صناعة المشهد السوري الجديد أيضا.
بعد مرور عامين على انطلاقة الاستانة يدور النقاش حول بديل جديد تحت مسمى "مؤتمر الشعوب السورية " وهو اقتراح روسي يتعارض كليا مع اهداف ايران في سوريا وصلب مشروعها هناك وقد ترفضه انقرة كونه يفتح الطريق امام اشراك حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المستبعد عن اية طاولة حوار بسبب الفيتو التركي. موسكو هي المحرك الاول في الملف السوري ومقولة انه كلما ازداد وترسخ التقارب التركي الروسي في سوريا كلما انعكس ذلك سلبا على مسار العلاقات الروسية الايرانية لم تعد مقبولة كثيرا لدى الروس. موسكو تريد الطرفين الى جانبها خلال بحث خطط اجتماع الاستانة المقبل الذي بدأ ينتزع دور لقاءات جنيف والانتقال بالمناقشات من المسائل الامنية والعسكرية الى التمهيد للحوار السياسي بين قوتين سوريتين محليتين احداهما تمثل النظام الذي يحمي حصة ايران والاخرى تنوب عن المعارضة المقبولة روسياً وايرانياً وتنسق مع تركيا من دون اهمال جوائز الترضية لبعض اللاعبين الاقليميين.
توحيد قوى المعارضة السورية في جيش واحد سيعقبه حتما تشكيل الجبهة العريضة لقوى المعارضة في وفد واحد تناقش موسكو بعيدا عن الاضواء تفاصيل تشكيله بما يرضي الشريحة الواسعة من حركات وتجمعات وهيئات المعارضة ولا يهمل ما يقوله بعض اللاعبين الاقليميين والدوليين.
كلما كرر الرئيس رجب طيب اردوغان أن المرحلة الثانية في خطة التحرك العسكري التركي في شمال سوريا ستكون عفرين بعد ادلب كلما زاد من غضب واشنطن ودفعها للتصعيد اكثر فأكثر ضد تركيا. مكسر العصا في العلاقات التركية الايرانية يكاد يكون الضغوط التي تتعرض لها انقرة من قبل الادارة الاميركية بهدف دفعها لتغيير سياستها الايرانية وهو ما ترفضه القيادة التركية حتى الان، خصوصا وان واشنطن تعتمد سياسة سورية تتعارض كليا مع الاهداف والمصالح التركية هناك.
كثر هم من يريدون أن يعرفوا كيف ستتصرف تركيا، والى جانب من ستقف، ومن ستختار في سيناريو المواجهة الاميركية الايرانية المتوقع ؟ هل ستمنحها الظروف والمعطيات فرصة الوقوف على الحياد عندما يتغير مسار الامور على الارض؟ هل سيكون بمقدور تركيا اللعب على التوازنات لعدم اغضاب الجانبين والدفاع عن مصالحها على طريقة لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم ؟ ام ان التصعيد التركي المتزايد ضد واشنطن في الاونة الاخيرة مقدمة لتبرير اسباب القطع مع ادارة ترامب والانحياز التدريجي الى الجانب الروسي ؟
ما قد يتحول الى مفاجاة اخر لحظة ويتعارض تماما مع تهديدات الرئيس الاميركي لايران وما يقال حول محاولات اميركية مستمرة لتوريط ايران في المصيدة السورية هو احتمال ان تتقارب المصالح الايرانية الاميركية اكثر في سوريا كلما تقاربت المصالح التركية الروسية هناك وولادة سيناريو اعادة تجربة سبق وشاهدناها في العراق بعد عام 2005 وانتهت بخروج عسكري وسياسي اميركي من هناك لصالح ايران. لمَ لا يتكرر المشهد نفسه في سوريا هذه المرة عندما تشعر طهران وواشنطن بخطر التنسيق التركي الروسي المتزايد على الارض سياسيا وعسكريا بما يتعارض كليا مع مصالحهما في سوريا؟
انقرة تعرف جيدا ان القيادة السياسية الايرانية تريد امتلاك الكثير من الاوراق في ملفات حساسة لتلعبها لاحقا امام طاولة المساومات والصفقات مع واشنطن وموسكو لذلك هي لن تفرط بابسط ما تملكه من فرص غير حماية علاقاتها مع الكرملين، تمتين علاقاتها بحلفائها المحليين المحسوبين عليها في المشهد السوري.
في سوريا، تلتقي أحياناً وجهات النظر الروسية والتركية حول تقييد الطموحات الإيرانية هناك. لكن ما يجمع بين أنقرة وموسكو ويدفعهما إلى التعاون هو السياسة الاميركية السورية الجديدة أيضا.
في الوقت الراهن، يتم مناقشة الوضع السوري والدور التركي على شبكات التواصل الاجتماعي العربية والكردية. وتشير النتائج بوضوح إلى أن تركيا ستعلن في الأيام القليلة المقبلة أو حتى الساعات المقبلة استئناف عملية "درع الفرات" المتعلقة بتصفية منطقة الحكم الذاتي الكردية في شمال سوريا.
ما يزيد الوضع تعقيدا تركيز وحدات الشرطة العسكرية الروسية في عفرين الواقعة شمال محافظة حلب السورية، وذلك باتفاق مع نظام الأسد في أيلول/ سبتمبر. علاوة على ذلك، تم نشر نقاط مراقبة في هذه المنطقة لضمان الامتثال لنظام وقف الأعمال العدائية في ما يسمى مناطق "وقف التصعيد".
في الوقت نفسه، ربما تتعارض الأعمال العسكرية التي تقوم بها القوات التركية حاليا، بشكل مباشر مع الجنود الروس. إلى حد الآن لم تحصل أي تجاوزات، إلا أن من المتوقع أن تتأزم الأوضاع أو تخرج عن السيطرة.
وتجدر الإشارة إلى أن الجيش التركي والجيش السوري الحر قد شنوا هجوما على قرية إيسكا التابعة لريف عفرين. وفي السياق نفسه، ذكرت وسائل إعلام رسمية أن الالجيش الحر شرع في عملية استطلاع في منبج في الجزء الشرقي من حلب. وتخضع هذه المنطقة لسيطرة القوات الكردية التي يدعمها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. وفي الأثناء، حذرت الطائرات التركية السكان المحليين من خطر وشيك.
في الواقع، وضعت أنقرة خططا للتوسع في اتجاه الجزء الشمالي من سوريا، وذلك وفقا لما أكده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بيان له. وقد صرح أردوغان بوضوح، أن "القوات المسلحة التركية نفذت مهامها في إدلب السورية، وهي على استعداد في أي لحظة لمهاجمة الجيوب الكردية في عفرين".
في هذا الصدد، من الممكن القول إن ثقة الزعيم التركي تستند إلى العديد من المعطيات، لعل أهمها تمكن القوات المسلحة التركية من السيطرة على إدلب. وفي الوقت الراهن، تمكنت القوات التركية من بسط نفوذها على عفرين وعلى مناطق واسعة محيطة بها، باستثناء شريط صغير في جنوب شرق المنطقة تسيطر عليه قوات بشار الأسد والميليشيات الداعمة له.
من جانبه، اتهم نظام الأسد من جديد تركيا باحتلال البلاد، كما طالب بسحب قواتها من الأراضي السورية، فيما لم تصدر القيادة العسكرية والسياسية الروسية إلى حد الآن أي بيان رسمي فيما يتعلق بالعملية التركية. فضلا عن ذلك، التزمت واشنطن الصمت. ومن المفارقات الغريبة أن الجانب الأمريكي يغض الطرف عن تحركات أنقرة من ناحية، ومن ناحية أخرى يوفر الدعم للأكراد.
وكما هو معلوم لدى الجميع، تعد الجماعات المسلحة الكردية الحليف الرئيسي للقوات الأمريكية، التي تمكنت من السيطرة على أهم حقول النفط في محافظة دير الزور شرق البلاد. وقد تفوقت بذلك حتى على قوات نظام الأسد. ووفقا لما أكدته وسائل إعلام محلية، فقد استولى الأكراد على أهم حقول النفط على غرار العمر والتنك، بالإضافة إلى قرى أخرى بالقرب من الميادين.
وبناء على هذه المعطيات، يعتبر الوضع بالنسبة لنظام الأسد والدول الداعمة له روسيا وإيران، مثيرا للقلق. وبعد أن بدأت تركيا حربها في شمال البلاد ضد الأكراد، ستحاول القوات الموالية لنظام الأسد منع التوسع التركي. وقد يؤدي ذلك إلى عرقلة عملية تحرير دير الزور بشكل تام من الإرهابيين. علاوة على ذلك، سيساهم هذا الأمر في تمهيد الطريق أمام الولايات المتحدة لإنشاء قاعدة عسكرية أخرى في منطقة البوكمال على الحدود مع العراق، باعتبارها مركزا هاما لجُل التحركات عبر الحدود. وبالتالي، سيمكن ذلك واشنطن من لعب دور استراتيجي في هذا المجال.
قد يكون من الصعب فيما بعد التصدي لخطط الولايات المتحدة وغيرها من الدول، فيما يتعلق بتقسيم سوريا. فعلى سبيل المثال، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل واشنطن أن الرقة ستكون بداية مشروع "سوريا اللامركزية". وتفسر هذه المعطيات، في الوقت الراهن، غض واشنطن الطرف عن العملية التركية التي تعتبر بمثابة تمهيد للأرضية المناسبة التي سترتكز عليها شروط التقسيم الفعلي للبلاد.
الولايات المتحدة الأميركية "لن تسمح لإيران بالسيطرة على سورية"، هذا ما أعلنته رئيسة الوفد الأميركي في الأمم المتحدة، نيكي هيلي. وعلى الرغم من أن سياسة واشنطن تجاه طهران شهدت تحولاً كبيراً منذ دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، إلا أن امتداد هذا التحول إلى الملف السوري لم يكن واضحاً، فقد خصص ترامب قدراً كبيراً من هجومه على إيران للملف النووي. لذا يمثل الموقف الذي أعلنته هيلي مرحلة أكثر تقدماً في التوتر بين واشنطن وطهران. بل إنها المرة الأولى التي تعلن فيها واشنطن موقفاً إزاء الدور الإيراني في سورية، على الرغم من أنه دور فاعل ومؤثر منذ ست سنوات.
يتسق ذلك التطور في الموقف الأميركي، مع إشارات أخرى صدرت من واشنطن تعاكس الحسابات الإيرانية، وتضرب في الصميم التحالف بين طهران ودمشق. ومن أبرز تلك الإشارات تصريح وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، الذي أكد فيه أن حكم بشار يقترب من نهايته، وبالتالي "لا مستقبل في سورية للأسد ولا لعائلته". وعلى الرغم من أن تيلرسون استدرك أن "كيفية تحقيق ذلك" هي القضية المطروحة حالياً، إلا أن الإصرار على رحيل بشار، ولو بعد حين، أو بطريقة لم يتم تحديدها بعد، يعد منحنىً جديداً في السياسة الأميركية تجاه سورية. بعد أن ظل موقفها من بشار مقصوراً على خطاب رافض لبقائه، من دون أي تحرك فعلي، قبل أن يتطوّر سلبياً، في العام الماضي، نحو قبول بقائه في الفترة الانتقالية. ولم يبتعد تصريح تيلرسون كثيراً عن هذا السقف، لكن تجنبه الإشارة إلى أي مدى زمني لبقاء بشار يوحي بأن رحيله قد يكون أقرب مما كان مقبولاً أميركياً حتى أشهر قليلة مضت. ويجب التوقف هنا عند شمول "عائلة بشار" بالرفض، وليس شخصه فقط، ما يرجح أن لدى واشنطن تصورا محددا للمستقبل القريب في سورية، بما في ذلك طبيعة السلطة الحاكمة وشخوصها في المرحلة الانتقالية. ولا يمكن فهم هذا الطرح الأميركي، بخصوص مستقبل السلطة الحاكمة في سورية ومصير بشار الأسد وعائلته، من دون النظر إلى التحالف السوري الإيراني عالي المستوى، والتنسيق المتزايد بين الجانبين. فعلى الرغم من أن التدخل الروسي المباشر قلب الموازين العسكرية والسياسية، ومنع سقوط النظام أمام المعارضة و"داعش" وغيرهما من الفصائل المسلحة، إلا أن التنسيق بين دمشق وطهران لم ينقطع يوماً، وتلعب إيران دوراً مهماً في دعم دمشق بشار، سواء الاستشارة والتنسيق السياسي، أو بخبراء عسكريين، أو بقوات ومليشيات جلبتهم إيران من خارج سورية.
هنا، يصبح منطقياً التساؤل عن طبيعة العلاقة بين موسكو وطهران في سورية، فهي أحد المفاتيح المهمة في رسم حدود التفاهمات والتباينات الروسية الأميركية هناك. ما يستحق الإشارة إليه في هذا الخصوص أن حسابات طهران وموسكو في سورية تتقاطع معاً في حدود الحفاظ على الدولة السورية بشكلها الحالي أطول وقت ممكن، وعدم إطاحة بشار بشكل مفاجئ، من دون استعدادات مسبقة وتحضيرات لما بعده. مع قبول تغيير طبيعة الدولة وشكلها، وبالطبع السلطة الحاكمة، إذا ما توفرت مساحة مناسبة من النفوذ، تضمن تحقيق مصالح مباشرة لكل منهما. سواء كانت امتيازات اقتصادية أو تسهيلات عسكرية. وهنا، يظهر الاختلاف بين موسكو وطهران، فالأخيرة تعتبر بقاء عائلة الأسد في الحكم أكبر ضمانةٍ لاستمرار نفوذها مستقبلاً. بينما ترى موسكو أن تحالف طهران ودمشق عقبة كبيرة أمام سورية مقبولة روسيا وأميركياً أيضاً.
لذا، يمكن بسهولة ملاحظة ارتفاع وتيرة التفاهمات الأميركية الروسية بشأن سورية، ربما ليس بشكل معلن صريح، لكن الإشارات والتحركات الصادرة من الطرفين تشي بأن ثمة توافقاً كبيراً بينهما، ليس بشأن مستقبل سورية ومصير بشار الأسد فحسب، لكن، وهو الأهم، بشأن تحجيم النفوذ الإيراني هناك، وضرورة عدم تحويل سورية إلى عراق جديد إيراني.
حسب ما يخبرنا به مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نحن نقترب من نهاية الأعمال العسكرية في سورية، وننتقل إلى مرحلة جديدة، ستبدأ معها الحقبة السياسية حقبة الحل الدولي والسلام، فهل صحيح أننا ذاهبون، أخيراً، إلى سلام، وهل سنذهب إلى سلام جنيف وقرار مجلس الأمن 2118، أم إلى قراءتهما الروسية، كما صاغتها موسكو في قرار دولي يحمل الرقم 2254، لم تعد منصتها تقبل غيره، لاعتقادها أنه ألغى القرارات الدولية الأخرى جميعها، خصوصاً منها جنيف والقرار 2118.
ثمّة سلامان ينتظراننا في الحقبة المقبلة، إن صدق القائلون بنهاية رحلة العمليات العسكرية طوراً قائماً بذاته.
هناك سلام وثيقة جنيف والقرار 2118 الذي يقول: يبدأ الحل السياسي بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية، لها صلاحيات تنفيذية كاملة (صلاحيات بشار الأسد الذي لا يكون لهذا السبب مرجعية لها)، على أن تقوم بتراضي الطرفين المتصارعين، ويكون مهمتها نقل سورية إلى النظام الديمقراطي. في هذا التصور الدولي للسلام، هناك تحديد اسمي وصريح للأداة (الهيئة الحاكمة) وللوسيلة (التراضي) وللمسار وهدفه (الانتقال من الأسدية إلى الديمقراطية)، وضمانات دولية مشتركة لهذه السيرورة التي يخدم كل بند فيها الثورة ومطالب شعب سورية.
وهناك السلام الروسي الذي يحذف الهيئة الحاكمة الانتقالية لصالح "حكومة وحدة وطنية"، تنجز انتقالاً داخل النظام، وليس إلى نظام بديل، لذلك يكون بشار الأسد مرجعيته، وليس وثيقة جنيف.
هذا "السلام" هو ما سيعرض علينا في جنيف، وما يرجح أن يقر في حال اجتمعت المعارضة السورية في الرياض، وتبناه وفدها الموحد، في حال تم تشكيله بمساعٍ روسية/ أميركية/ إقليمية/ عربية. إنه سلام مخالف لصيغة السلام الدولي الذي أقرّه الخمسة الكبار، ووضعوه في وثيقة جنيف1 والقرار 2118 بآلياته التنفيذية التي يجعل نصها الحرفي الصريح الحل يبدأ بتشكيل "هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، تنقل سورية إلى النظام الديمقراطي"، فهل حذف هذا النص الواضح واستبداله بنص حول تشكيل "جسم حكم انتقالي" يعرف باعتباره حكومة وحدة وطنية، يمكن أن يأخذنا إلى السلام المنشود، أم أنه يلغيه لصالح رؤية تنقذ الأسد ونظامه، أعد الروس كل ما يلزم لفرضها أمراً واقعاً، لا مهرب منها إن رفضتها بعض الهيئة العليا الموسعة قبلها بعضها الآخر، خصوصاً المرتبطين بموسكو ارتباط تابع بسيد، ويرون سورية بأعين موسكو، ويعتبر سلامها واقعياً والسلام الدولي وهمياً، وغير قابل للتحقيق.
هل سيقبل السوريون استبدال سلام دولي، يخدمهم بحلٍّ يلتف على قرارات دولية، وافقت موسكو عليها، وعلى إرادة الشعب السوري، هدفه الوحيد تقويض السلام وإبطاله، وحق السوريين في تقرير مصيرهم، عبر إبقاء الأسد واحتواء التمرد الوطني المجتمعي الهائل عليه داخل نظامه.
هل سيأتي الحل الروسي بالسلام، ويضع حداً لنظام قتل أكثر من مليون سوري، إن كان سيعيد السوريين إلى بيت طاعته، بتهمة قيامهم بثورة إرهابية لا بد أن يعاقبوا عليها، بتمكين الأسد من استعادة سيطرته عليهم، وجعل إبادتهم مسألة سيادية، التدخل فيها عدوان على الشرعية الوطنية والقانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة، ستتولى قوات الاحتلال الروسي ردعه، إنقاذاً لحاكمها "الشرعي" من شعبه غير الشرعي، بل الإرهابي الذي استحق ما أنزل به من عقابٍ، أوصله إلى أعمق نقطة في هاوية الفناء.
هل سيقبل السوريون حلاً يعيدهم إلى وضع أسوأ بكثير من الوضع الذي ثاروا عليه، يبقي على سلطة بلادهم الهمجية، والقاتل الذي لو كان في أي بلد آخر من عالمنا لوصل، منذ أعوام، موجوداً إلى محكمة مجرمي الحرب التي حاكمت، عامي 1945 و1946، النازيين على جرائم ليست أشد فداحة مما ارتكبه ضد آمني سورية وعزلها: شيباً وشباناً؟ وهل سيقبل السوريون بقاء الغزاة الإيرانيين والروس في وطنهم، بموافقة نظام ضمن استمراره عبر بيعهم وطناً ليس له، ولا يمت إليه بصلة.
لسنا ذاهبين إلى السلام. نحن ذاهبون إلى فترة صراع يعتقد الروس أنهم سيجنون من خلاله العائد السياسي لخيانةٍ أسدية سلمتهم سورية على طبقٍ من ذهب، بعد أن أضعفوها إلى حد يجعل استسلامها حتمياً لهم، باسم سلامٍ ألغوا قراراته الدولية التي كانوا قد وافقوا عليها، ويستبدلونها الآن بحلٍّ يعيد السوريين إلى نظامٍ لطالما قال إنهم لا يستحقون الحياة، وحكمهم كما يحكم أسرى ينتظرون موتهم في معسكر إبادة.
من قال إن الضابط في الجيش السوري، عصام زهر الدين، الذي انقتل قبل أيام، كان مجرما وقاتلا؟ كيف تأتّى لكم أن تقولوا هذا عنه؟ ظلمتموه، وعليكم أن تعتذروا. بل عليكم أن تمحضوه ما يستحق من صفات الشجاعة والبسالة. كيف لا، وقد ارتقى شهيدا، وهو في ميدان البطولة ضد المتآمرين على بلده، الإرهابيين الوهابيين وغيرهم، بين جنودِه وناسه السوريين الشرفاء. هو الآن بين الصدّيقين الأبرار، مخلدٌ هناك كما كل شهداء سورية الذين بذلوا الدم الغالي من أجل صمود وطنهم قدّام الغزاة والمتآمرين. هذا هو القائد "أبو يعرب". هو لا يريد من أحدٍ إطراءً أو مديحا، لأنه بنفسه من أقدم على محاربة الأعداء في ساحات الوغى مقاتلا مُهابا، من أجل سورية، لا من أجل أحد.
.. هذا إيجازٌ شديد الاقتضاب، وبالمفردات نفسها، من كثيرٍ كتبه مولعون بالقاتل المجرم، عصام زهر الدين. ليس الحديث هنا عن شبّيحةٍ في مليشيات بشار الأسد، ولا عن ممانعين يلهجون بانتسابهم إلى ما يصنعه الأسد من انتصاراتٍ، ضد قوى التآمر والإرهاب، بعون حلفائه الروس والإيرانيين الصناديد. وليس الحديث أبدا عن ناسٍ من العموم العريض. إنه عن كتّاب أدب، شعراء، قصّاصين، فنانين.. عن هؤلاء فقط، ولا أحد معهم. أي عن أفرادٍ ليسوا مثقفين فحسب، وإنما أيضا هم من أهل الإبداع الأدبي والفني، ينجزون قصائد ورواياتٍ وقصصا ومسرحيات. أي أنهم، بأيِّ تعريفٍ اخترناه للفنون والآداب، مشغولون بالجمال. دعك من الحرية والعدالة والديمقراطية، هذه شواغلُ أولى لأهل الفكر والناشطين. أما الجمال، والتجديد في صنعه، والإنجاز المبتكر فيه، فهو مما يقيم في أنفس الأدباء والفنانين، وفي أرواحهم ووجدانهم. .. يصلح هذا الكلام الكلاسيكي شديد العادية في مسألتنا هنا مع أولئك، بشأن قاتل السوريين في دوما وعين ترما، وفي دير الزور ودرعا وبابا عمرو، وفي مطارح أخرى، عصام زهر الدين.
شاعر سوري، معروفٌ وذو إسهام طيب في التجربة الشعرية في بلده منذ أزيد من أربعين عاما، يرى زهر الدين نجما جديدا يشرق زاهيا في سماء الوطن. ويعطي لذكراه الوضّاءة وروحه الطاهرة عطر الكلمة وسدرة الخلود. ويكتب إن أبناء سورية الأوفياء فُجعوا برحيل زهر الدين، مشعل النور هذا، فلهم جميل الصبر والعزاء. قاصٌّ وروائيٌّ أردني، له اسمه المحترم في الكتابة السردية في بلده، يرفع الطوبى للقائد الشجاع، الذي قضى شهيدا في الميدان، وهو يقاتل الإرهابيين والوهابيين الظلاميين، ويرفع المجد والخلود لذكراه العطرة. روائيٌّ وقاصٌّ فلسطيني معروف، مخضرمٌ أطال الله عمره، يخلع على عصام زهر الدين صفة البطل الأسطوري العروبي، ويكتب إن اسم هذا الرجل ارتبط بالصمود، وقد رفعه أبطال الجيش العربي السوري عاليا على أكفّهم، وهم يهزجون للشهادة والبطولة.
ثمّة كتّاب أدب، سوريون وفلسطينيون وأردنيون، غير هؤلاء، شاركوا في المناحة التي أُغدق، في أثنائها، على مجرم الحرب المشهود، من الشمائل والسجايا ما قد تجعلك تظن أنهم يتحدّثون عن واحدٍ من مغاوير الفداء التي لا تجود بها الأزمنة إلا بين قرون وقرون، وأن سورية محظوظةُ بهذا المقدام، ما يجعل على شعبها أن يغتبط بنعمة رب العزة أنه وهبهم إياه. ويكون من مكارم شعوب الأرض أن تحسُد السوريين على ما تفضّلت به الأقدار عليهم، لمّا أودع الله فيهم هذا المخلوق، وأناط به حمايتهم، وصيّرهم في أنفةٍ وسؤددٍ وفخار. هذا بالضبط ما أوحت به قرائح أصحابنا أولئك، وهم ينثرون على اسم عصام زهر الدين ما أبدعوه من رفيع الكلام، وجميل الإنشاء. وقد بزّوا، في صنيعهم هذا، محبين آخرين لهذا الرجل، لم ييسّر لهم خالق الأكوان والأرضين موهبة الأدب، ممن كتبوا في حيطانهم في "فيسبوك" وفي جرائد سورية، عن الحناجر التي غصّت، والعيون التي ذبلت، لما ارتفع زهر الدين إلى العلا بطلا هُماما، غضنفر استحقّ من نائب أردني (مثلا) دمعاتٍ حرّى، وسكب نظراءُ له لبنانيون مثيلاتٍ لها مدرارا.
قصارى القول، هنا، إن الفضيحة المشهودة التي أسقط فيها أنفسَهم مثقفون عرب، كتّابُ أدبٍ ورأي مثلا، من ضفاف اليسار والهوى القومي وغيرهما، منذ هتاف التونسيين ضد بن علي، قبل ست سنوات، هذه الفضيحة عرفت واحدةً من تنويعاتها المخزية في واقعة قتل عصام زهر الدين، إلى جهنم حطبا.
تحاول روسيا حشد التأييد الشعبي لاتفاقات أستانة بشأن سورية، وذلك بترويج عناوين الملفات التي تناقشها الجولة السابعة، وهي ملف الأسرى والمعتقلين والرهائن، حيث بقي هذا الملف معتقلاً نحو سبع سنين، بعيداً عن أي جهد دولي فعال، على الرغم من قرارات دولية، ومنها قرار مجلس الأمن 2254 في فقرته 12: "يدعو الأطراف إلى أن تسمح فوراً بدخول الوكالات الإنسانية السريع والآمن ومن دون عراقيل، على امتداد سورية من خلال أكثر المسارات مباشرة، والسماح بالمساعدات الإنسانية الفورية للوصول إلى كل الأشخاص المحتاجين إليها، ولا سيما في كل المناطق المحاصرة والتي يصعب الوصول إليها، وبالإفراج عن كل الأشخاص المحتجزين اعتباطياً ولا سيما النساء والأطفال، ويدعو الدول الأعضاء في المجموعة الدولية لدعم سورية لاستخدام نفوذها فوراً لتحقيق هذه الأهداف". وعلى الرغم من أن روسيا كانت معنية بإلزام النظام السوري بتنفيذ القرار المذكور، إلا أنها مارست تعطيلا متعمداً لتنفيذ كل القرارات الدولية، بدءاً من بيان جنيف 1 مروراً بكل ما يتعلق بالصراع السوري الداخلي، والصراع الدولي على سورية.
ويأتي ترويج مباحثات أستانة 7 بشأن ملف المعتقلين في وقت تعرف روسيا مأزقا بشأن مصداقيتها في تنفيذ استحقاقات مناطق خفض التصعيد، فما زالت قوات النظام تستخدم سلاحها ضد الأهالي في هذه المناطق، من ريف دمشق إلى حوران إلى وسط البلاد وشمالها، بل، وتستعين بالطيران الروسي، كما تمنع دخول المساعدات الإنسانية، ما تسبب في استمرار مأساة الغوطة الإنسانية للسنة الرابعة على التوالي، على الرغم من توقيع "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن" (الفصيلين الأكبر في الغوطة) اتفاقيات ثنائية مع الجانب الروسي تنص على الانضمام إلى مناطق خفض التصعيد، ودخول المساعدات كان أحد البنود الأساسية حسب ما تم إعلانه من كل الجهات، إلا أن الغوطة لا تزال محاصرة من النظام، ويعيش أهلها واحدة من أسوأ المأسي إنسانية.
ولعل آمال المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، من جولة أستانة 7، والتي يتم فيها طرح موضوع الأسرى والمعتقلين والمفقودين بجدية، موضع ترحيب من السوريين، إذ يعلم المجتمع الدولي أن ما فات من نقاشات، سواء في مفاوضات أستانة، أو قبلها في جنيف منذ عام 2014، بشأن أهم ملفات القضية السورية، وربما هو أساس الثورة وسبب انطلاقتها، وهو ملف المعتقلين، لم يكن موضع مفاوضات جادة حتى أستانة 7 المأمولة، ما يعني أن كل ما يحدث داخل السجون والمعتقلات، وما تسرب من صور عن مقتل 11 ألفا منهم تحت التعذيب، لم يسهم في وضع هذه القضايا على طاولة مباحثات جدية، على الرغم من وجود قرارات دولية، ما يجعل التساؤل مشروعاً بشأن مصداقية طرح الملف بغرض المعالجة الصادقة، وفتح الزنازين لإطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المغيبين.
التعاطي مع ملف المعتقلين كحالة تسويقية شعبية، تطرحها موسكو في هذه الجولة التي تسبق مؤتمر حميميم الذي تروجّه روسيا، ولم يتجاهله الوسيط الأممي في تصريحاته في جنيف الأسبوع الماضي، ما يستدعي أن تقف عنده كل أطياف المعارضة، والتي يمكن أن تقاد من جديد لحملة توسيع وفدها، بحيث يستوفي تمثيل هذا المؤتمر أيضاً، في خطوة روسية استباقية ليست جديدة عليها، فقد اختبرتها المعارضة سابقاً عند ترويج قرار مجلس الأمن 2254، بيد أن هذه المرة تقدمها موسكو في إطار زمني، تستعد فيه المعارضة لتوحيد صفوفها في مؤتمر الرياض 2، لإطلاق جولة جديدة من مباحثات جنيف نهاية الشهر المقبل، وهو ما يمكن أن يكون أكثر من تلويح لتخريب هذه الجهود، في حال سارت الأمور داخل أروقة المؤتمر في العاصمة السعودية خلافاً للرغبة الروسية، في الوصول إلى وفد تفاوضي بكامل المرونة المطلوبة دولياً.
وعلى الرغم من ذلك، ما يعني الشارع السوري اليوم هو أن تكون مفاتيح زنزانات المعتقلين فعلياً موجودة في أستانة 7، وأن القدرة على إدارتها داخل أقفالها موجودة عند الدول الضامنة للمباحثات، بيد أن التفاؤل بهذا الأمر مرهون بمجريات المباحثات الروسية الأميركية التي لا تزال طي الكتمان، فيما يتعلق بالصراع على سورية، وتوزيع الغنائم بما يتوافق وتصريحات واشنطن عن سورية ما بعد عائلة الأسد، وعن محاسبة المسؤولين عن مجازر الكيميائي في خان شيخون وغيرها.
ليس من باب التفاؤل القول إن الوصول إلى حل في ملف المعتقلين وإطلاق سراحهم، ومعرفة مصائر الآلاف من السوريين، يعني تمهيد الطريق نحو واقع تفاوضي مبني على جسور من الثقة بأن نهاية عهد الاستبداد بدأت، سواء كان النظام يعي ذلك، ويتفهم ما عليه من مسؤوليات، أم أنه يعتبر كل ما يجري فرصة لاستمهال المجتمع الدولي، بينما يعيد مناطق خفض التصعيد إلى سيطرته، ويعيد سورية إلى ما قبل رياح التغيير والحرية التي عصفت بها، وتحمّل السوريون من أجلها أثمن التضحيات، ولا يزالون.
يبدو أن روسيا نجحت نسبياً في تبريد جبهات القتال في سورية، وجعلتها مناطق "منخفضة التصعيد" بعد أكثر من عامين من تدخلها العسكري المباشر لصالح النظام، وعقدها سلسلة من الاجتماعات في العاصمة الكازاخية، أستانة، بمشاركة ممثلين عن النظام وعن بعض فصائل المعارضة العسكرية، وتنسيقها مع كل من تركيا وإيران اللتين جعلتهما راعيين معها لمخرجات مسار أستانة.
وتبرز عشية الذهاب إلى اجتماع "أستانة 7"، المزمع عقده الأسبوع الجاري (30 و31 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري)، تساؤلات بشأن المخرجات المنتظرة منه، وعمّا إذا كان بالفعل سيسهم، حسب بيان وزارة الخارجية الكازاخستانية، في العمل على "إطلاق سراح المعتقلين والمحتجزين والرهائن، وتسليم جثث القتلى، والبحث عن المفقودين".
ويشكل ملف المعتقلين ثقباً أسود، يسم تاريخ النظام الأسدي وطبيعته، بنسختيه الأب والابن، إذ شكل الاعتقال السياسي والاختفاء القسري المعلم الأبرز لهذا النظام الديكتاتوري الإجرامي، منذ جثومه على صدور السوريين، حيث زجّ النظام، وخصوصا بعد اندلاع الثورة، مئات آلاف السوريين في زنازين أجهزة استخباراته وسجونه السرية والعلنية، التي تذكر بمعسكرات الاعتقال النازية. وهي أشبه بمسالخ بشرية، يتم فيها تعذيب المعتقلين بطرق وحشية وبربرية، وتجويعهم حتى الموت في حالات كثيرة، حيث أظهرت صور قيصر "سيزر" جزءا يسيراً منها، فيما لا يزال عشرات آلاف المعتقلين يعانون الأمرّين فيها، ومن ينجو منهم تكتب له حياة جديدة، ويصبح في عداد الناجين من الموت. وقد شكل "الناجون من المعقتلات السورية" طيفاً واسعاً من السوريين الذين حملوا خطاب الحريات والحقوق والعدالة، وما زالوا يحملونه، وباتوا يشكلون، حسب مجموعة من السوريين حملت الاسم نفسه، "كل من دخلوا المعتقلات وخرجوا منها أحياء بالصدفة ولم يلينوا"، و"كل الذين ركبوا البحر والبر والجو تفادياً من الاعتقال"، بل و"كل الذين خافوا من المشاركة في الثورة خشية الاعتقال".
ومنذ بداية الثورة السورية، أنكر النظام الأسدي وجود معتقلين في زنازين معتقلاته، على الرغم من آلاف التقارير والوثائق والفيديوهات والصور والشهادات التي توثق اعتقال مئات آلاف السوريين، وتصفية عديدين منهم. وطالبت منظمات حقوقية عديدة الدخول إليها، لكنه رفض، على الدوام، السماح لأي منظمة دخول معسكرات اعتقاله. وخلال جولات مفاوضات جنيف العديدة، كان النظام يتهرّب من مجرد مناقشة قضية المعتقلين، وبالتالي من الصعب التهكن أن اجتماع "أستانة 7" سيحدث اختراقاً ما في قضية المعتقلين في زنازين النظام، خصوصا وأن الراعيين، الروسي والإيراني، يقفان على الدوام في صف الدفاع عن النظام، ليس عسكريا وسياسياً فقط، بل يدافعان عن جميع الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين، ولا يسمحان لأي جهةٍ حقوقيةٍ أو قانونيةٍ أممية إدانة ممارسات النظام وجرائمه، لأنها ستشكل إدانة لهما أيضاً.
ولعل منع نظام الأسد المنظمات الدولية من دخول معتقلاته يعود إلى أنه حوّلها إلى مسالخ تسم قوام نظامه القمعي، حتى باتت بمثابة كابوس يهدّد كل سوري، يحلم بالخلاص من استبداده، وقد انتهك فيها، على الدوام، حرمة الجسد البشري الذي يعتبر احترامه معياراً لوحدة البشر حول القيم الإنسانية المشتركة، حيث ينتهك ما يحصل في معتقلات النظام تلك الحرمة، من خلال ممارسات تؤكد السيطرة الجسدية لأجهزته التي لم تكتف بتقييد حرية حركة المعتقل لديها في حيّز صغير قد لا يتجاوز المتر المربع الواحد في الزنازين المنفردة، بل راحت تمارس مختلف فنون التعذيب الوحشي وطرقه، ولجأت إلى وضع الأجساد الهزيلة للمعتقلين في ما يشبه الأقفاص، كي تكتمل مشهدية الأجساد المكبلة والمهانة التي يكمن معناها في خصوصية التعذيب الجسدي الذي يولّد نوعاً من لذّة لدى السجان الأسدي بالاستمتاع في التسبب في الألم لجسد المعتقل، وهي خصوصية تتجسّد في كراهيته والحقد عليه، وتكشف مركب نقص تعويضي عن عمليات التحقير والإهانة والإذلال.
وإن كانت اجتماعات أستانة قد نجحت نسبياً في تبريد جبهات القتال في عدة مناطق من سورية، فذلك يرجع إلى اعتبارات عديدة، لا مجال لذكرها هنا، لكن قضية المعتقلين في زنازين النظام مختلفة تماماً، لأنها أبرز القضايا التي تشكل إدانة دامغة على الممارسات اللاإنسانية لنظام الأسد. لذلك سيعمد وفد النظام إلى اجتماع "أستانة 7" إلى إنكار القضية برمتها، وفي أحسن الأحوال، قد يلجأ إلى حصرها في قضية أسرى بعض مجموعات المعارضة السورية المسلحة، وطمس قضية عشرات آلاف المعتقلين، والأخطر أن يرضى وفد المعارضة بحصر قضية المعتلقين ببعض أسرى الفصائل لدى النظام، خصوصا وأنه قدّم تنازلات عديدة في اجتماعات أستانة السابقة، تجاوباً مع ما تريده أجهزة القوى الدولية الراعية هذه الاجتماعات.
والواقع أن "مسار أستانة" الذي بات يغطي على مسار مفاوضات جنيف، ويحرّكه، يريد الطرف الروسي، ومعه الإيراني، تحويله إلى مسار لإعادة إنتاج نظام الأسد، وتلميع صورته أمام العالم، حيث بات المشهد السوري تختصره مماحكات "خفض التصعيد" التي تتم تحت حراك تقاسم النفوذ في سورية ما بين القوى الدولية والإقليمية، ويصحبه ما يطمح إليه الروس عبر "المصالحات" الإجبارية، التي ستؤسس ما أعلن عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تحضيرات لمؤتمر "الشعوب السورية" الذي ينم عن النظرة الروسية لسورية المقسمة، والمؤلفة من عدة شعوب وقوميات بينها، والخوف من أن يطاول ذلك ملف المعتقلين الذي ستعمل كل من روسيا وإيران والنظام على مسخه وطمسه، وبما يؤسس كل ذلك لتكريس التنسيق والتفاهمات بين القوى الدولة والإقليمية، لتطبيقها على الأرض، وفق منطق تقاسم البلد، وتحويله إلى دويلات فاشلة، تتحكّم بها تلك القوى، والضحية الكبرى في ذلك كله هو الشعب السوري وثورته.
تعالت أخيرا في لبنان أصوات تطالب بترحيل اللاجئين السوريين، وحتى إيجاد حلّ "لوجود اللاجئين الفلسطينيين"، وحمّلتهم أزمات لبنان الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الأمنية، في حملة تبدو مبرمجة، وفي تصرّف ينمّ عن عنصرية دفينة، تحت عنوان أنّ لبنان لم يعد يحتمل وجود اللاجئين على أراضيه. وقد بدأها "التيار الوطني الحر"، عندما راح يحمّل اللاجئين معظم أزمات لبنان، وراح يحرّض عليهم إعلامياً، ويحاصرهم بقوانين وإجراءات اتخذت على مستوى الدولة، وكان له شركاء في اتخاذها. وقد دفع اللاجئون ثمن هذه الإجراءات والحملات، فتمّ طرد بعضهم من بلدات لبنانية كثيرة لإشكالات بسيطة. وتمّ التضييق عليهم بدعوى منافسة اللبناني في أعمال وأشغال كثيرة. وتمّت شيطنتهم من خلال التوقيفات التي تحصل بحقهم لأبسط المخالفات، فيتم سجنهم بتهم الإرهاب، وتتم مصادرة أموالهم وممتلكاتهم المتواضعة، أو تتلف عمدا بحجة عدم قانونيتها. وتمّ أيضاً استغلالهم، أحيانا كثيرة، من دون دفع أجور ومستحقات لهم على أعمال يقومون بها. وفضلاً عن ذلك كله، فُرضت عليهم ضرائب لا يحتملها حتى اللبناني. وقد جرى ذلك كله ويجري تحت عنوان أن اللاجئين السوريين في لبنان تسبّبوا بأزمات كبيرة، يعاني منها اللبناني. وقد تعرّض اللاجئون الفلسطينون سابقاً إلى الحملة نفسها، والإجراءات نفسها، ويعانون اليوم من ظلم اجتماعي كبير، إذ لا يتمتّع اللاجئ الفلسطيني في لبنان بحقوق الإنسان العادية، لا سيما حق تملك مسكن أو فرصة عمل لائقة ومحترمة.
بلغت الحملة على اللاجئين أن استدعى رئيس الجمهورية سفراء الدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وطلب منهم العمل مع دولهم لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم. كما حمل بطريرك الموارنة في لبنان مسألة اللجوء في معظم رحلاته وسفراته الخارجية، محمّلاً اللاجئين أزمات البلد. والحقيقة أن المسبب الرئيسي لأزمة اللاجئين، وأزمة لبنان من اللجوء (كما يظنّ بعضهم) هو من دفع السوريين إلى ترك بيوتهم ومدنهم قسراً بفعل المدفع والقتل والاعتقال والتصفية والاعتداء على الأعراض. فكيف يُطلب من هؤلاء الذين فرّوا بأنفسهم من الموت والاعتقال العودة إلى المكان الذي لا يأمنون فيه على أرواحهم وأطفالهم وأعراضهم، وقد سمع العالم كله تهديد الضابط الذي توعدهم بالذبح حال عودتهم؟ وهل من الحكمة والضمير إعادة هؤلاء إلى المسالخ البشرية؟ والسؤال الأبرز أساساً: من قال إن هؤلاء مسؤولون عن كل أزمات اللبنانيين؟
هل يعلم الذين يطالبون بترحيل اللاجئين أن جزءاً كبيراً من الدورة الاقتصادية اللبنانية يعتمد اليوم على الأموال التي تدخل إليها باسم اللاجئين من الأمم المتحدة في غياب العون الخليجي الذي كان يسهم برفد تلك الدورة بشيء من المال، بعد تعثّر القطاع السياحي في البلد؟ هل يعلم هؤلاء أن جزءاً كبيراً من عمل المستشفيات والمدارس والسوق الغذائية يتحرّك بفضل الأموال التي تصرف فيه باسم اللاجئين؟ أم يريد هؤلاء أن نذكّرهم بالفضيحة التي كشفها وزير التربية والتعليم، مروان حمادة، عن سرقة جزء من أموال اللاجئين المخصصة للمدارس في القطاع الرسمي، ثمّ تبخّرت، ولا يدري أحد أين صارت وصُرفت؟ وربما يكون الأمر نفسه حاصلا في القطاع الصحي وسواه؟ وهل يعلم هؤلاء حجم الأموال التي ترسل إلى اللاجئين عن طريق الجمعيات غير الحكومية، والتي تنفق كلها في السوق اللبنانية؟ هل يعمل هؤلاء أن ذوي اللاجئين الفلسطينيين في الخارج يرفدون الدورة الاقتصادية المحلية سنوياً بملياري دولار ترسل إلى أهلهم في مخيمات لبنان؟ أسئلة كثيرة توجّه إلى الذين ضاقوا ذرعاً باللاجئين، وراحوا يحرّضون عليهم ويحملونهم مسؤولية أزمات البلد.
أزمات البلد الحقيقية، أيها السادة، هي في حجم الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وإداراتها، والمحمي من القوى الممسكة بتلابيب القرار اللبناني. سبب الأزمات منطق المحاصصة والهدر والمحسوبية، وكأن البلد شركة كل شريك يريد أن يربح منها ما يستطيع قبل إعلان إفلاسها! سبب الأزمات الروح العنصرية الطائفية البغيضة التي تميّز بين لاجئ ولاجئ، وبين حق وحق، وحتى بين مواطن ومواطن. وهذا ليس مجرد اتهام، بل ما راقبه وتابعه الرأي العام اللبناني في جلسة مجلس النواب قبل أيام، عندما تبادل المسؤولون وممثلوهم الاتهامات بالهدر والفساد وغيرهما، فكفى عنصريةً، وقليلاً من المسؤولية التي تعالج الأزمات بروح الجدّية، بعيداً عن منطق الكيدية التاريخية المشبعة بالكراهية والبغض.
تتجاوز معارك ريف حماة الشرقي، حدودها الجغرافية الضيقة من حيث الأهمية، وتصل حد الصراع المباشر بين النظام و من خلفه روسيا وإيران من جهة وتركيا وجميع المكونات الموجودة في اكبر رقعة محررة في سوريا، ألا وهي إدلب ومحيطها من أرياف حلب و حماة و اللاذقية.
تتصاعد الحرب على ريف حماة الشرقي بشكل كبير جداً، بعد أن فشل البديل "تنظيم الدولة" في تحقيق الأهداف المرجوة في تلك المنطقة، وبات لزاماً التدخل من القوى المفعّلة للقضية، و إن كان هذا بدور أكثر ضبابية عبر إرسال قوات النظام منفردة اللهم مع بعض التشكيلات الحديثة و التي تكفلت المصالحات بتشكيلها درع القلمون و مقاتلي مصالحات القابون وبرزة.
ريف حماة الشرقي، الذي يعد وفق لبنود الاستانة 6، منطقة منزوعة السلاح الثقيل، لا تواجد فيه لتشكيلات عسكرية من جميع الأطراف، ووفقاً للأستانة دوماً، فإن الإدارة في هذه الرقعة (التي تشبه نقاط العزل بين بلدين متحاربين)، تتم من خلال أهالي المنطقة وعبر مجالس محلية مستقلة .
هذا البند يجعل نقاط ارتكاز أساسية في إدلب ومحيطها خارج سيطرة روسيا و النظام، وبالتالي فإنها ستكون باكورة لتشكيل قوة مستقبلية قد تكون مزعجة على مر الزمان من ناحية، وتمنع تنفيذ مخطط روسيا الأساسي بالسيطرة على الطريق الواصل بين دمشق و حلب، وتفرعاته للمدن الرئيسية من ناحية ثانية.
قد يطول الشرح الذي يحيط بمنطقة ريف حماة الشرقي، و لكنها تعد نقطة في غاية الأهمية، إذ مواصلة تقدم النظام يعني أن مطار "أبو الضهور" بات في عهدة النظام، وهذه العهدة التي ستتسع لتفتح شهية إيران لإعادة الكرّة باتجاه كفريا و الفوعة من جديد بعد مايقارب العامين على الفشل، وهذا كله سيكون مناسباً لروسيا بأن تصل للأوتوستراد المباشر من حلب إلى حماة فحمص وصولاً لدمشق، وهو تنفيذ دقيق لخطة "M5"، التي جرى الحديث عنها سابقاً بشكل مطول.
إذا محاولات النظام في ريف حماة الشرقي، تدار بناء على تعليمات ودعم لا محدود من كل من روسيا و إيران، و تعليمات تضر بشكل كبير الطرف المقابل الذي تقوده تركيا أو تشارك فيه، وهنا يبدو أن تركيا قد قررت مواجهة هذا الأمر بتحرك من قبلها، بدأته بتسريع عمليات الإنتشار في إدلب، وعقد إتفاق عاجل مع هيئة تحرير الشام، الأمر الذي يمنح الأخيرة حرية أكثر في تحويل قواتها من جبهات عدة نحو خاصرة المناطق المحررة والتي فيما يبدو انها الضعيفة مع غياب الإمكانيات الجغرافية في الدفاع و التمركز.
هل سنشهد بداية إعادة التعاون بين الجيش الحر و هيئة تحرير الشام، بعد فترة إنقطاع مقصودة ومبنية على خلافات إيديولوجية وأخرى تتعلق بصراع السيطرة والبقاء، وهل سيكون في القريب العاجل هناك نوع من غرفة عمليات أكثر اتساعاً قد تستوعب المتشابكين في الماضي و تجمعهم في خندق واحد، كما حدث في معارك حلب و قبلها إدلب..
و يبقى للحديث بقية ...
غلب الترغيب على علاقة حزب الله اللبناني مع بيئته الشيعية، لاستدراج أبنائها، خصوصاً القاطنين في الأطراف، ضحايا وقرابين، لمشاريع إقليمية تديرها ولاية الفقيه في إيران، توسعاً ونفوذاً واستيطاناً، لتعميق الخراب في سوريا والعراق واليمن. والترغيب، إذ تمثل في منظومة خدمية مؤسساتية تشمل كافة مناحي الحياة، وتستوعب أكبر عدد من أبناء الطائفة، كثمن مدفوع مسبق لموتهم المحتمل، انطوى كذلك، على فساد وتأمين الخارجين عن الدولة، بتدرج مستوياتهم، بدءا من المخالفات البسيطة، وصولاً إلى تجارة المخدرات وعصابات الخطف.
وإذا كان الجانب المؤسساتي قليل التعرض للضعف، بحكم الأموال التي تضخ للحزب من إيران، فإن الفساد، شديد الهشاشة والانفضاح بحكم ارتباطه بما هو أهلي وأيضاً، بعلاقة الحزب مع الدولة، فهو عادة ما يرشي الأخيرة بمنحها سيادة مؤقتة تتسبب بانفجارات اجتماعية. وهذا ما حصل الأسبوع الماضي في حي السلم وسط الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل «حزب الله»، إذ اقتحمت القوى الأمنية فجراً المكان وأزالت «أكشاك» تجارية مخالفة، ما ولّد «ثورة» من قبل المتضررين، ترجمت غضباً وحرقاً وشتائم، نالت من أمين عام الحزب حسن نصر الله. وزاد من أثر الحدث، توثيقه تلفزيونياً، واختلاط النقد بين المعيشي والأخلاقي والسياسي، فقد اعترض أحدهم على إرسال الشباب الشيعة للقتال في سوريا، فيما تجرأت امرأة على فضح بعض قيادات الحزب، الذين يرهنون مساعدتهم للنساء المحتاجات بعقود متعة.
تصدّع صورة الحزب التي جرت على الهواء مباشرة، ومن داخله هذه المرة، وشاهدها معظم اللبنانيين، وتسربت على مواقع التواصل، مقاطع فيديو قصيرة لتصل إلى عموم العالم العربي، لاسيما الناقم على «المقاومة»، حرّضت لدى قيادة الأخيرة نازع الترهيب، لاستعادة ما فقد من معنى وهيبة. فسارع النائب عن الحزب في البرلمان والمعروف براديكاليته في الدفاع عن «الشيعية السياسية»، علي عمار إلى استرداد «هالة» نصر الله التي مرّغها المستاؤون من تضرر مصالحهم، رافعاً إياه إلى مصاف القديسين، مستعيداً حادثة تقبيله حذاء «السيد» حيث شعر بالخروج من «الناسوت» والدخول إلى «الملكوت»، كما قال.
وإن صح أن تأليه أمين عام الحزب ليس جديداً على الماكينة السياسية والإعلامية للحزب، فإن رابط ما بين كلام عمار، وحادثة حي السلم يرتسم بوضوح ليحدد مسار الترهيب الذي أعلنته «المقاومة» ضد جمهورها. فقد أراد النائب أن يوصل رسالة إلى الأهالي «المنتفضين» بأن غضبهم ممنوع تصريفه ضد «السيد» القابع في «الملكوت»، فذاك كفر، والكفر يستوجب العقاب.
وبعد ساعات قليلة على كلام عمار الذي يعيد تثبيت صورة نصر الله بوصفه أعلى درجة من البشر، خرج الذين قادوا حملة الشتم والاستياء ضد الحزب وأمينه العام ليعلنوا توبتهم، في إخراج تلفزيوني لا يقل رداءة عن ذاك الذي نراه على شاشات التلفزة البعثية في سوريا الأسد. بأصوات مبحوحة ومنكسرة وبروح ذليلة، قدموا جميعها اعتذارهم لـ»السيد» متلمسين العذر منه. ولتكتمل دائرة الترهيب، سُرب على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو تعذيب لشاب يدعى جعفر، متهم بإهانة أحد رموز الشيعة (السيدة زينب). الشاب العشريني صفع وضرب وأهين، وأجبر على الغناء والرقص وهو معصوب العينين. الفيديو الذي قيل إن تصويره تم عام 2014 داخل أحد مراكز «حزب الله»، لا يدل توقيت إخراجه إلى العلن سوى أن «المقاومة» أرادت أن تظهر لجمهورها، كيف يكون عقاب من يهين الرموز، وزينب هنا معادل لحسن نصر الله.
هكذا أصلح الحزب صورة أمينه العام، عبر كلام علي عمار، ثم أخضع المتطاولين عليه بإعادة صياغة تصريحاتهم، ليصار أخيراً إلى كشف عقاب من يكرر الفعلة عبر شريط فيديو مقزز.
صحيح أن مراحل صناعة الترهيب هذه، لا تغير شيئاً في علاقة الحزب بجمهوره، الذي ينظر إلى حسن نصر الله كأب إذا أراد، فمن حقه أن يعاقب، لكن في السياسة، يأتي ما حصل في توقيت خاص. إذ إن الحزب سيصبح قريباً في مواجهة فراغ وظيفته. فالإرهاب الذي صاغت «المقاومة»، مؤخراً، دورها على وقع محاربته، انتهى في لبنان بعد معارك الجرود، ويكاد ينتهي في سوريا والعراق. أما الداخل، الذي لجأ إليها الحزب في السابق، بعد الهدنة الصامدة مع إسرائيل، متفرغاً للاغتيالات، فمضبوط بتسوية محلية، وبقرار دولي بعدم التوتير، ما يعني أن الحزب سيعاني من العطالة مجدداً، ولن يجد بسهولة، معنى لوجوده. هذا ما سيعزز ارتفاع مستوى الترهيب من قبل «المقاومة» ضد جمهورها، وسيعزز أيضاً، وهو الأهم، إعادة النظر بصورة الأب لدى جمهور الحزب، ألم يكن من ألقاب حافظ الأسد «الأب القائد»؟
ارتبطت صورة السياسة الروسية على مدى عقود في أذهان الكثيرين بالدب الروسي الغبي. وهو مصطلح يطلق على روسيا على الدوام، ويستخدم في رسوم الكاريكاتير ليشير إلى الروس في الشرق والغرب، وقد استعير هذا الاسم ليطلق على روسيا من ذلك الحيوان القطبي الشهير الأبيض الفراء، الضخم الجثة، العظيم الأنياب، والذي لا يهمه إلا اصطياد فرائسه بأي وسيلة كانت بكل بطش وشراسة. ويبدو أن أوجه الشبه بين هذا الدب والحكم الروسي كثيرة، فهو يتسم بالعدوانية ـ تماماً كالدب الروسي- إضافة إلى التسلط والاعتداء على الشعوب الأخرى بدءاً بعهد القياصرة ووقوفًا عند الثورة البلشفية وتأملًا فيما فعله السوفييت بالجمهوريات المستقلة التي ضموها إلى معسكرهم ومصادرتهم لحريات شعوبها وطمسهم لهوياتها وفصلهم لها عن أديانها ومعتقداتها.
لكن هل يا ترى مازالت روسيا تعمل بعقلية الدب الروسي، أم إنها بدأت في عهد بوتين تجمع بين عقلية الدب والثعلب، لا بل إن عقلية الثعلب صارت أكثر وضوحاً في السياسات الروسية منذ وصول الرئيس بوتين إلى السلطة، فوجه الرئيس نفسه أقرب إلى وجه الثعلب الذكي منه إلى وجه الدب الذي امتاز به القادة السوفيات على مدى القرن الماضي. ولو قارنا بين وجه بوتين ووجوه القادة الروس الذين حكموا الاتحاد السوفياتي على مدى أكثر من سبعة عقود في القرن العشرين، لوجدنا أن السياسة الروسية لم تتغير فقط في الجوهر، بل أيضاً في المظهر، فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي بدأت تتغير طبيعة الوجوه التي تحكم روسيا. صحيح أن باريس يلتسن الذي حكم البلاد بعد انهيار الاتحاد لفترة قصيرة كان أقرب في شكله إلى العهد الماضي بملامحه الدببية، إلا أنه قد يكون آخر زعيم روسي ينتمي إلى الشكل الدبي شكلاً ومضموناً.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لم يتغير شكل القائد الروسي فحسب، بل تغير جوهر السياسة الروسية، على الأقل حسبما نرى من خلال سياسات الرئيس فلاديمير بوتين على مدى العقد الماضي، فقد تخلص من الكثير من صفات الدب الروسي الجلف الذي لا يعرف سوى العدوانية والوحشية.
صحيح أن الروس لم يصبحوا حملاناً وديعة، وصحيح أنهم مارسوا أفظع أنواع العدوانية والوحشية التي يتسم بها الدب الروسي، وخاصة في سوريا ومن قبل في الشيشان، لكن هذه الوحشية لا تقتصر فقط على الروس، فالأمريكان مارسوا مثلها وأبشع في أفغانستان والعراق وحتى سوريا. لكن الذي بدأ يميّز الاستراتيجية الروسية البوتينية الجديدة أنها لم تعد تعتمد فقط على الوحشية والعدوانية المرتبطة بالدب الروسي، بل بدأت تمارس السياسة الماكيافيلية على أفضل وجه. لقد أصبح الروس يلعبون الشطرنج، خاصة وأن لديهم أفضل وأمهر اللاعبين في هذه اللعبة على مستوى العالم. من لا يعرف كاسباروف بطل الشطرنج الأسطوري؟ لم يعد لاعب السياسة الروسي يبدو كالحيوان القطبي متجهم الوجه الذي يسير في خط مستقيم باتجاه فريسته ليلتهمها بعدوانية ووحشية، بل صار أقرب إلى كاسباروف الذي يحرك أحجاره في كل الاتجاهات ليربك الخصم، وليستولي على أكبر مساحة من رقعة الشطرنج. ويكفينا أن ننظر إلى هذا الاجتياح الروسي العسكري والدبلوماسي للعالم على مدى السنوات الماضية، إلى حد أن بريطانيا القطب الغربي الأهم باتت ترى في التمدد الروسي خطراً على أمنها القومي تحديداً، خاصة وأن الطيران الروسي اقترب من الأجواء البريطانية أكثر من مرة، وشوهد حول الفضاء الاسكتلندي. والأخطر من ذلك أن مصادر بريطانية تتهم الروس بتحريض الاسكتلنديين على الانفصال عن المملكة المتحدة. ولا شك أن معظمنا سمع عن التحرش الروسي المستمر بالدول الاسكندنافية. وعندما هدد الرئيس الكوري الشمالي الأمريكيين في الأسابيع الماضية بصواريخ نووية، فلا شك أنه فعل ذلك بإيعاز وضوء أخضر روسي.
ولو ركزنا على الاستراتيجية الروسية الجديدة في الشرق الأوسط لاتضحت السياسة الثعلبية الروسية أكثر فأكثر في مواجهة الغباء الأمريكي. وهنا نحن لا نتهم أمريكا بالحمرنة، بل الأمريكيون أنفسهم يتخذون من الحمار شعاراً للحزب الديمقراطي العريق. لاحظوا كيف بدأ الشرق والغرب يقترب من روسيا، ويبتعد عن أمريكا، خاصة في عهد ترمب الذي بات يعادي ويستفز الحلفاء قبل الخصوم. لاحظوا كيف تقف أوروبا في المعسكر الروسي الإيراني فيما يخص الاتفاق النووي مع إيران. لاحظوا كيف تقترب أمريكا من مواجهة نووية مع كوريا الشمالية، بينما تستخدم روسيا البعبع الكوري لإرهاب الأمريكيين. لاحظوا كيف تجمع روسيا القوى الكبرى الناشئة تحت جناحها في مجموعة البريكس، ولاحظوا كيف تخسر أمريكا حلفاءها الواحد تلو الآخر. حتى العرب المحسوبون على الحلف الأمريكي بدأوا يتوافدون على روسيا، ويعقدون معها صفقات مليارية كالسعودية وبقية دول الخليج.
ويقول الحكام العرب القريبون من أمريكا في لقاءاتهم الخاصة مع المسؤولين الروس إن روسيا صارت موثوقة أكثر من أمريكا لأنها لا تخون حلفاءها. وبينما تخسر أمريكا أصدقاءها، نجد أن روسيا تمكنت من التقارب مع حلفائها وخصومها ببراعة واضحة في الفترة الأخيرة. لقد فرضت روسيا نفسها، كما يرى الباحثون، كلاعب دولي أساسي «على مسارح الشرق الأوسـط وجبهـاته عبر اختراقها الاستراتيجي في سوريا، وعلاقاتها المرسخة أو الجديدة مع الدول العربية في الخليج ومصر وشمال أفريقيا، بالإضافة لحلف المصلحة مع إيران والتنسيق المرن مع إسرائيل والصلة المستعادة مع تركيا. عبر هذه العلاقات المتكاملة أو المتضاربة أحياناً، نسجت روسيا شبكة تضمن توسع نفوذها ومصالحها على حساب بعض اللاعبين الدوليين والإقليميين».
هل صار الدب الروسي فعلاً أذكى وأكثر حنكة بكثير من الحمار الأمريكي، أم إن الأفخاخ التي ينصبها الأمريكي للروسي في أكثر من منطقة ستنفجر في وجهه في قادم الأيام، وستثبت مرة أخرى أن الدب الروسي ما زال دباً؟
أدلى وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون الخميس الماضي بتصريح لافت حول اقتراب نهاية حكم الرئيس السوري بشار الأسد، معيدا مقولة أمريكية وأوروبية تكررت على مدار السنوات الست الماضية، وهي إن لا مكان لأسرة الأسد في مستقبل سوريا.
التصريح جاء بعد لقاء تيلرسون بالمندوب الأممي إلى سوريا ستافان دي ميستورا وفي سياق التعليق على إعلان الأخير أن مفاوضات جنيف بين المعارضة السورية والنظام ستستأنف في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، غير أن معاني التصريح يمكن أن تفيض عن هذه الواقعة المحددة وتتشعّب في اتجاهات أخرى لا تقتصر على الوضع السوري بل تمتد إلى مجريات الأوضاع السياسية والعسكرية في المنطقة والعالم.
يجيء التصريح بعد فشل الولايات المتحدة في تمرير قرار قدّمته لمجلس الأمن الثلاثاء الماضي لتمديد تفويض لجنة التحقيق في استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا بعد استخدام روسيا لحق النقض «الفيتو» ضده، وتوازى ذلك مع اتهام واشنطن لموسكو عبر حلف الأطلسي (الناتو) بتضليل الحلف بشأن نطاق مناوراتها الحربية الشهر الماضي ما اعتبر انتهاكا لقواعد تستهدف «خفض التوتر بين الشرق والغرب» وبأن قواتها حاكت هجوما على الغرب. وحسب الأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ فإن «عدد القوات المشاركة في المناورات تجاوز بصورة كبيرة العدد المعلن قبلها والسيناريو كان مختلفا والنطاق الجغرافي أكبر مما سبق الإعلان عنه».
هاتان الحادثتان مثالان على المناوشات الجارية بين البلدين، وكان التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وردود الأفعال المتصلة عليه، من تخفيض أعداد الدبلوماسيين وإغلاق القنصليات ومنع الإعلانات الروسية في وسائل التواصل أحد أشكال هذه المناوشات.
ورغم أن تيلرسون لم يتطرق لكل هذه الوقائع التي سبقت تصريحه لكنّ تتبع آثار ذلك ممكن من خلال الرابط في قوله إن السبب الوحيد في نجاح قوات الأسد في تحويل دفة الحرب المستمرة منذ أكثر من ست سنوات هو «الدعم الجوي الذي تلقته من روسيا».
وإذا كانت الرسائل المتبادلة بين واشنطن وموسكو على الساحة السورية، وارتباطها بأشكال النزال العسكري والدبلوماسي بين الطرفين واضحة للعيان، فإن التصعيد اللفظي الأخير يرتبط أيضاً ومن دون شك بالتحركات الأمريكية والإقليمية لاحتواء النفوذ الإيراني في سوريا والمشرق العربي وكانت آخر المستجدات في هذا الموضوع العقوبات التي أقرها مجلس النواب الأمريكي (الكونغرس) على «حزب الله» في لبنان، ورعاية واشنطن للتقارب السعودي ـ العراقي، وملامح التوجه السياسي الأمريكي فيما يخص المنطقة بعد الانتهاء من تنظيم «الدولة الإسلامية» واستيعاب النقلات التي ترتّبت على إعلان الاستفتاء الكردي وهجوم «الحشد الشعبي» على كركوك ومطالبة تيلرسون بخروج «الميليشيات الإيرانية» من العراق.
وإذا نظرنا إلى تصريح وزير الخارجية الأمريكي حول «اقتراب نهاية الأسد» ضمن هذا السياق فإن المقصود منه قد يعتبر تهديداً لدكتاتور قصر المهاجرين لدفعه للابتعاد عن إيران أكثر من كونه اشتغالا أمريكياً فعلياً على تحقيق تلك «النهاية». فالإدارة الأمريكية على مدار السنوات الستّ الماضية (باستثناء الضربة المختصرة التي تلقّاها النظام على مطار الشعيرات بعد قصفه بلدة خان شيخون بالسلاح الكيميائي)، ساهمت، خلال إدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب، هي أيضاً في الإبقاء على النظام السوري، رغم كل الإعلانات الصاخبة المستمرة عن انتهاء أيامه وضرورة رحيله.
ففي شهور الثورة السورية الأولى مارست واشنطن ضغوطاً هائلة لقولبة المعارضة ضمن أجندتها، ومنعت إنشاء حكومة انتقالية تلغي شرعية النظام، ثم انشغلت بترتيب الاتفاق النووي مع إيران، ولاحقاً بلعت «خطوطها الحمر» للنظام وركّزت على تفكيك ترسانته الكيميائية. لتسلّم بعدها أوراق اللعبة للروس وتخذل تركيا حين حاولت التصدي لهم.
وفي مرحلة أخرى، حاولت أمريكا تمويل معارضة تتفرغ لقتال حركات الجهادية المسلحة وتتحاشى قتال النظام، وقوّت خصوم أنقرة اللدودين من واجهات حزب العمال الكردستاني في سوريا الخ. وعليه، فإن دعم روسيا وإيران للنظام لم يكونا السبب الوحيد في عدم سقوطه.
التصعيد الأمريكي، بهذا المعنى، محدود، بحدود معارك واشنطن الدبلوماسية والاستخباراتية مع روسيا، وبمحاولتها تقليم أظافر طهران في المشرق العربي.
ما يعني أن التصريحات عن «نهاية الأسد» لن يكون لها تأثير سريع على مجريات الأحداث في سوريا (ناهيك عن تأثيرها على مفاوضات جنيف المقبلة) ما لم تحصل تغيّرات حقيقية في المنطقة العربية أو العالم تضعف دعم روسيا وإيران للنظام السوري ورئيسه.