تدور في أوساط سورية معارضة متنوعة حوارات يومية عن الجهة التي ستفيد من ضرب "داعش". هناك رأي يقول إن النظام وإيران ستفيدان وحدهما من ذلك، بينما يقول رأي آخر إن الضربة ستكون محكمة سياسيّاً وعسكريّاً، كي لا يفيد منها أحد غير المشاركين فيها كالتحالف الدولي، وفي الوقت الملائم: الجيش الحر.
إذا كان من الصعب تحديد الجهة التي ستفيد من ضرب "داعش" في سورية، فإن هناك جهات عراقية أفادت من الضربات التي أصابت التنظيم الإرهابي، وغطتها عراقيّاً المرجعية الشيعية وهيئة علماء المسلمين، وأيدها الكرد، ومعظم أحزاب البرلمان والجيش.
أما في سورية ، حيث المعركة ضد الإرهاب تالية في أهميتها للمعركة ضده في العراق، كما قال أوباما، فثمة غموض في خطط التحالف والأحداث الميدانية، وهناك بلبلة ترتبت على سياسات أميركية تنتقل من الركود والسلبية إلى وضعٍ، يختلف في طبيعته وأبعاده ومقاصده، من غير المعلوم بعد إلى أين سيصل، وخلال أي زمن، مع أن مجرد دخول أميركا النشط إلى الصراع السوري يغير أدوار المنخرطين فيه، فكيف إن كان يثير الانطباع بأن سياساتها ستتحول من قوة عطالة إلى قوة عصفٍ، يرجح أن تبدل، أيضاً، أدوار الفاعلين ورهاناتهم في الساحة السورية: شاركوا في الحرب ضد الإرهاب، أم لم يشاركوا فيها.
ثمّة ملاحظة عن هوية من سيفيد من ضربات التحالف، هي أن "داعش" حاضر بقوة في المناطق التي كان الجيش الحر قد حررها، وأخرجه من معظمها، وغير موجود أو ضعيف الوجود في مناطق النظام. والآن: هل يفيد ضرب "داعش" في مناطق قوته النظام، الذي أخرج منها، أم الجيش الحر الذي يقاتل "داعش"، ويفضي إضعافه إلى تقويته؟ وهل ضربه في مناطق النظام، حيث هو ضعيف، سيفيده مع أنه بالكاد موجود فيها! منطقيّاً: ستضعف ضربات التحالف "داعش"، وتقوي الجيش الحر، إذا عرفت قياداته وقواته كيف تبقى بعيدة عن صراعات الائتلاف والمعارضات السياسية، وبادرت إلى تنظم صفوفها وتعزيز أوضاعها، وعرفت كيف تفيد من الحرب ضد الإرهابيين، لكي تستعيد المناطق التي انتزعوها منه، وتسترد، أيضاً، من انضموا إليهم من عناصره. إذا ما حدث هذا، يرجح أن تتغير معادلات الصراع، وإن بصورة تدريجية، وأن يتراجع دور "داعش" بانحسار مساحات ومناطق سيطرته، وأن يبرز من جديد التناقض الذي كرسته الثورة بين البديل الديمقراطي والنظام، الذي تلاشى مع تراجع الجيش إلى 10% من مجمل الأرض السورية، يقع بين جيش النظام في الوسط والجنوب، و"داعش" في الشمال.
من المستبعد، في الوقت نفسه، ذهاب عائد الحرب ضد "داعش" إلى النظام الذي تحالف معه، واستخدمه في مناطق وقع طرده منها، فطرد الجيش الحر من معظمها، وفرض عليه قتالاً يوميّاً على جبهتين، أرهقه وأضعفه. ثم، كيف يمكن لنظامٍ رفض العالم مشاركته في الحرب ضد "داعش" الإفادة من ضربه، إذا كانت أنشطته وأهدافه تتكامل، اليوم، أيضاً مع أنشطته وأهدافه، وكان إضعافه يعد بالضرورة إضعافاً له؟ وفي النهاية، كيف يقوي ضرب "داعش" النظام، إذا كان سيسقط رهانه الاستراتيجي على الإرهاب، لتبييض صفحته الدولية، وجعله خياراً إجباريّاً بالنسبة إلى العالم؟
هناك، أخيراً، مشروع دولي لتسليح الجيش الحر وتدريبه، لن يتحقق في حالتين: إذا شارك النظام في الحرب ضد الإرهاب، أو أحبطت قيادات المعارضة المشروع الدولي، بنقل صراعاتها إلى صفوف الجيش الحر، وإبقائه أسير ضعفه وانقساماته، بدل توحيده وتقويته.
أعلنت الثورات العربية، كحدث تاريخي، حضور الشعوب العربية. فعبرها، تحوّل الشعب من لفظ وشعار ورمز واستعارة إلى جماعات فاعلة عينية من الأفراد، يصنعون شعباً بفعلهم السياسي. لقد صدم دخول الناس الفضاء العمومي عديدين ممن كانوا يتزينون بالشعب، لفظاً أو شعاراً، فوقفوا ضده حين تحول إلى كائن عيني، حقيقي فاعل في السياسة.
يهمنا، هنا، أن حركة الشعب هذه من أجل الحرية والكرامة ضد الظلم، ولا سيما قمع المواطن، كإنسان، بواسطة أذرع الأمن الموجهة ضده، وليس لحمايته، والفساد كرمز لمعوقات العدالة الاجتماعية والتنمية، صرح وطني أصيل، شكّل نقيضاً لظاهرتين، شغلتا المنطقة العربية. هما: أولاً، التدخل العسكري الأجنبي الانتقائي، والذي غالباً ما موّه مصالحه الاستراتيجية والسياسية بشعارات الديمقراطية وبناء الأمة. وثانياً، الإرهاب، ولا سيما الذي تلصق به صفة الإسلام، ويتخذها بدوره لقباً. فالأخير لاذ بالصمت مدة عام وأكثر، وكأن حركة الجماهير السلمية للتغيير السياسي والاجتماعي السلمي أدهشته، هو أيضاً. ففي حينه، سحرت الثورات العربية، بسلميتها وعفويتها وألوانها، العالم أجمع، على الرغم من التضحيات والشهداء.
جاءت الثورات العربية بدون تصور حزبي سياسي لطبيعة المرحلة المقبلة، كما أنها لم تُستغل لإمساك طليعة سياسية منظمة بمفاصل الحكم، لتكسر النظام القديم وتفرض غيره، كما في حالتي الثورتين، البلشفية والإيرانية، اللتين استبدلتا نظاماً سلطوياً بآخر شمولي؛ ولا هي (أي الثورات العربية)، نجحت في تحقيق هدفها بإقامة نظام ديمقراطي. فقد ذهبت إلى الانتخابات مباشرة، وربما أبكر مما ينبغي، وذلك في ظل هيمنة جهاز الدولة القديم، وفي ظل صراع بين قوى دينية وعلمانية، في غياب حياة حزبية ديمقراطية.
يصعب حصر الأسباب التي أفشلت الرهان على أرقى وأنبل حراك سياسي عربي في القرن الأخير، وأقصد هذه الموجة من التغيير الثوري السلمي، والتي اجتاحت الوطن العربي منذ عام 2011، والتي حملت أمل الأجيال. ومن الواضح أن جهاز الدولة العسكري والبيروقراطي مدعوماً برجال الأعمال (الذين تحولوا بالمال إلى رجال الإعلام)، انقلب عليها في مصر، مستخدماً العنف المفرط، ومستغلّا الارتباك الشعبي من سلوك القوى التي شاركت في ثورة 25 يناير والأحزاب التي حيدت شباب الثورة بصراعاتها، ومستفيداً من عدم قدرتها على المشاركة في صياغة مستقبل البلاد، والتوافق على مبادئ دستورية، وعجزها عن تداول السلطة بالانتخاب. لقد استغل جهاز الاستبداد خوف الناس من الفوضى، لكي يضرب مشروع التحول الديمقراطي.
"سحرت الثورات العربية، بسلميتها وعفويتها وألوانها، العالم أجمع، على الرغم من التضحيات والشهداء"
كان وعد الديمقراطية الذي حملته الثورات فرصة الدولة العربية الوحيدة للتحرر من حالة السلطان والرعية، والتحول إلى دولة فعلاً، كتعبير عن شعب وحكومة شرعية. كانت هذه فرصة الكيانات السياسية العربية لأن تصبح دولاً.
ويجب أن يعترف النظام المصري، بفضل النظامين، السوري والليبي من قبله، بتغيير المسار، بواسطة تجرّؤهما على استخدام كم غير مسبوق من العنف، في مواجهة الشعب، هو أشبه بذلك المستخدم ضد عدوٍّ، في حرب وحشية، يجري فيها تجاوز قواعد الحروب وضوابطها وقوانينها، ولا سيما المتعلقة بجرائم الحرب والإبادة الجماعية، حتى لو كان الثمن التضحية بالدولة والمجتمع على مذبح السلطة. كانت هذه نقطة تحول مبكرة، ساهمت، بشكل فعلي، في تخويف فئات واسعة من الجمهور الواسع، خارج سورية وليبيا، من الثورات وثمنها، مع أن المسؤول عن رفع التكلفة هو الأنظمة. فاستعدادها للقتل وانعدام الروادع لديها، كحالة استعمار داخلي، هي من أسباب الثورة عليه.
وبتحريرها من أي كوابح، تحولت أجهزة الدولة الأمنية إلى عصابات. وبما أن نظام الاستبداد مستند، أصلاً، إلى قواعد اجتماعية قبلية، أو طائفية، متحالفة مع مصالح طبقية مختلفة، انقسم المجتمع، واضطر الشعب إلى الدفاع عن نفسه. وبما أنه لم يكن يراكم تجربة حركات سياسية عسكرية، تخوض الكفاح المسلح، نشأ خطر تحوّل مبادراته المحلية للدفاع عن الذات إلى فوضى مليشياوية، يصعب تحويلها إلى جيش تحرير وطني. بدأ هذا كله في سورية وليبيا. وهنا، أيضاً، فتح المجال، من جديد، لخطري التدخلات الأجنبية والإرهاب اللذين عادا يشغلان شعوب المنطقة ودولها.
لم تغب المحاور الدولية، تماماً، بالأصل، فقد لعبت إيران وروسيا دوراً في تشجيع النظام السوري على الصمود في وجه المطالب الشعبية، واستخدام العنف بشكلٍ لم يجرؤ زين العابدين بن علي، وحسني مبارك (ولا حتى شاه إيران في حينه) على مجرد التفكير فيه. وقد تدخلت قوى غربية وخليجية مباشرة في ليبيا، على شكل حظر جوي وضربات جوية ضد قوات القذافي، ولم يتبع ذلك تدخل بري. أما في سورية، فاقتصر الدعم على تسليح غير منتظم للمعارضة من بعض دول الخليج، ودعم إنساني غربي ظل متواضعاً وعاجزاً عن التعامل مع حجم الكارثة التي قاد إليها تحول النظام السوري إلى شن حرب تدمير واسع وتهجير وإبادة. وكان الخوف الغربي على استقرار الحدود مع إسرائيل، والخوف من الإرهاب "الإسلامي" الطابع من عوامل امتناع الغرب عن دعم الثورة السورية. في حين حظي النظام السوري بدعم غير محدود من روسيا وإيران، وشمل الدعم تدخلاً ميليشياوياً عسكرياً مباشراً ذا طابع طائفي سافر من العراق ولبنان. ولم يرغب الغرب في دخول صدام مع هذا المحور بدون أن يضمن النتائج، وشكل النظام القائم في سورية. فذهبت إيران بعيداً في استغلال التعددية الطائفية العربية للنفوذ السياسي والأمني، وفي تنظيم المليشيات الطائفية المسلحة، وفرضها على الدول العربية الضعيفة.
“ نظام الاستبداد مستند، أصلاً، إلى قواعد اجتماعية قبلية، أو طائفية، متحالفة مع مصالح طبقية مختلفة "
بقي الطابع الشعبي للثورة السورية قائماً، ولكنها أصبحت ثورة مسلحة، فبسبب طبيعة النظام الاستثنائية لناحية القمع والفساد وعدم القابلية للإصلاح، ظلت الثورة وجهة آلاف الشباب الذين انتقلوا من المظاهرات السلمية إلى أشكال أخرى من المشاركة. ولكن، بسبب الطابع غير المنظم وغير الخاضع لبنى وطنية سياسية عسكرية، وانتشار تبني الخطاب الإسلامي الشعبوي من المجموعات المسلحة، نشأت سهولة طمس الفرق بينها وبين القوى الإسلامية التي كانت فاعلة على الساحة بين العراق وسورية، بعد الاحتلال عام 2003، ثم في ظل النظام العراقي الجديد الذي اتخذ طابعاً طائفياً وتحالف مع إيران والولايات المتحدة في الوقت نفسه.
لم تجمع الثورة السورية صلة بالقوى المسلحة التي نشأت في ظل الاحتلال الأميركي، وعلى خلفية الصراع الطائفي، لاحقاً. وقد كانت، هي والثورات العربية الأخرى، نقيضاً لها، ولمزاجها واستراتيجيتها. وليس هذا طرحاً نظرياً عن فوارق، لا ترى بالعين المجردة. فقد وقعت اشتباكات حقيقية دامية، طوال عام ونيف بين التنظيم الذي يدّعى "دولة العراق والشام" وفصائل المقاومة السورية. ولم تسلم منه جبهة النصرة المحسوبة على القاعدة. وخلال ذلك العام، تصرف النظام السوري وحلفاؤه بتساهل براغماتي كامل تجاه حركة التنظيم من العراق إلى سورية، وتمدّده في سورية ذاتها، ما دام تمدده على حساب القوى المعارضة، وفي المناطق التي تسيطر عليها حصراً. وهو ما أثار اشتباه الشعب السوري وقواه السياسية أن التنظيم مدعوم من إيران.
لم تستمع أميركا إلى نداءات استغاثة الشعب من قصف النظام، ومقتل مئات آلاف المدنيين، ولا إلى الاستغاثة من ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. والحقيقة أنه مهما قيل عن معاناة بعض مدن العراق والجزيرة السورية من ممارسات التنظيم، فإنها لا تقارن، لا من حيث الحجم ولا القسوة، بما قام به النظام السوري ومليشياته. ولكن معاناة الشعوب من ممارسات النظامين، السوري والعراقي، ومن إرهاب تنظيم الدولة نفسه، تقزّمت أمام فيديو إعدام أميركيين وبريطاني. فبعدها بدأت الولايات المتحدة تطلب من الجميع، بمن في ذلك الشعبان، السوري والعراقي، التجنّد معها لمحاربة التنظيم. وقبل ذلك، لم تحرك الولايات المتحدة ساكناً، فضلاً عن أن تحارب هي إلى جانب الشعبين السوري والعراقي.
ومن هنا، يثير هذا التجند العالمي نقاشاً في بلادنا. فلا شك أنه تنظيم خطير، يشكل نقيضاً للمدنية والعمران وحقوق الإنسان، كما توصلت إليها الحضارة الحديثة. وثمة قناعة منتشرة أن محاربته مصلحة عربية إسلامية شاملة. ولكن التركيز عليه فقط في سياق عمل مليشيات طائفية في العراق، وحرب إبادة يشنها النظام السوري على شعبه، والمقتلة الجارية على كل بقعة من الأرض السورية هو ما يثير، من جديد، تساؤلات المجتمعات العربية وحيرتها، بل وأسئلة وجودية، متعلقة بوجودها كمجتمعات وكدول.
"معاناة الشعوب من ممارسات النظامين، السوري والعراقي، ومن إرهاب تنظيم الدولة نفسه، تقزّمت أمام فيديو إعدام أميركيين وبريطاني"
سبق أن حاربت تحالفات دولية تنظيم القاعدة في أفغانستان، وفي ظل تلك الحرب، نشأ تنظيم طالبان باكستان، كما انتقل تنظيم القاعدة إلى العمل في مناطق التخوم في اليمن، وعلى حدود دول الصحراء في شمال أفريقيا وفي الصومال والعراق. ونشأ ذلك النوع من التنظيمات التي تجمع ما بين جهادية القاعدة الأممية ومحاولة طالبان تأسيس دولة... من هذا المزيج، تحدرت حالة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ثم في العراق والشام. فهو يستعين بالمقاتلين الأجانب خارج أي كيان وطني، ويستغل الفراغ الذي خلفته الدولة الوطنية في أزمة تعاملها مع فئات واسعة من شعبها (المحافظات العربية السنية في العراق، وثورة الشعب السوري) لفرض هيمنةٍ على السكان، تسميها هي دولة إسلامية. ويستغل هذا التنظيم النقمة على طائفية الأنظمة المتحالفة مع إيران، ليس فقط للتعبئة ضد الشيعة، بل، أيضاً، لتحول النقمة الطائفية إلى ما يشبه الأنظمة المتحالفة مع إيران، ليس فقط للتعبئة ضد الشيعة، بل، أيضاً، لتحويل النقمة الطائفية إلى ما يشبه الحروب الدينية.
بين التدخل الدولي من جهة والإرهاب من جهة أخرى، تُغيّب في المتاهة هذه حركة الشعوب العربية وقضاياها وتطلعاتها من جديد. والقضية، هنا، عميقة للغاية، فقائمة المطالب الشعبية العربية المعنونة بالحرية والكرامة والتنمية والعدالة الاجتماعية، بإصلاح الأنظمة، أو تغييرها، تتضمن ما يعتبره العرب حلولاً للبيئة السياسية الاجتماعية التي أنتجت الطائفية السياسية والإرهاب، وأيضاً، التبعية والتدخل الأجنبي. وهذا بالضبط ما يجري تهميشه في هذه المرحلة، لصالح انقسامات أخرى.
وتبدو المداولات الجديدة لأول وهلة جيو-استراتيجية، تحل محل النقاشات الداخلية حول العدالة والحرية والتنمية وتقزمها. فمصالح الدول وحسابات في الربح والخسارة تتكلم، الآن. فمن ناحية يجري الحديث عن دول أخرى وأدوارها ومصالحها: إيران تركيا، والولايات المتحدة وروسيا، ويُشهَر الصمتُ عن الدول العربية وسيادتها واستقلالها؛ ومن ناحية أخرى، تهمش الدولة داخلياً بوصل التحالفات الدولية، مباشرةً، مع قضايا، مثل الأقليات الدينية والإثنية، كأنها قضايا قائمة بذاتها خارج حل قضايا الشعوب بمجملها، في إطار العدالة والديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية وغيرها، ما يقود إلى حلها خارج مفهوم الدولة وإطارها.
وسبق أن مر العراق بمثل ذلك، حين تعامل الاحتلال مع الطوائف والأقليات الإثنية خارج مفهوم الدولة، وخارج الحلول الشاملة للشعب العراقي ككل. ونتائج ذلك ماثلة أمامنا. ولكن الدول الغربية، المهتمة أساساً بأثر ما يبثه تنظيم الدولة على رأيها العام والانتخابات المقبلة، ثم بمصالحها الاستراتيجية، وأخيراً بمصائر دول وشعوب المنطقة، لا تبدو قادرةً على تغيير هذا النهج. ولا على طرح استراتيجية تحالفية مع الشعوب، للتخلص من داعش ونظام الاستبداد. ولهذا، يبدو ما يجري في كوباني، اليوم، منقطعاً تماماً عما جرى في حمص ودرعا وحلب وغيرها.
كانت الثورة الشعبية (أو الإصلاح الديمقراطي) فرصة الدولة العربية الوحيدة، وقمعها بالخيار العسكري الأمني، قلب الدولة إلى ساحة مواجهة بين محاور دولية.
قبل أسابيع بدأ أحد أدعياء الممانعة والمقاومة في صحيفة الأخبار اللبنانية التابعة لحزب الله تحليله حول التنسيق بين النظام السوري وبين الأمريكان فيما يتعلق بالضربات ضد تنظيم داعش بالقول: «عبر 3 قنوات على الأقل جرى التنسيق مع سوريا في شأن الضربات ضد داعش؛ العراق وروسيا والأمم المتحدة. لم يقتصر الأمر على مجرد «إبلاغ» القيادة السورية، بل حصل تنسيق فعلي. ثمة معلومات عن وفود عسكرية واستخبارية أمريكية زارت دمشق في الفترة المنصرمة. وهناك معلومات أخرى عن رسائل إيجابية من دول أوروبية وفي مقدمها المانيا».
نشر التحليل بعد يومين من إعلان الحكومة السورية ترحيبها بالضربات الأمريكية ضد تنظيم الدولة، الأمر الذي جاء بدوره بعد تحذير من تلك الحكومة بأن توجيه ضربات من دون تنسيق معها سيُرَد عليه، وسيُعتبر انتهاكا للسيادة السورية، وفيما قال النظام إن تنسيقا قد تم معه، بادرت واشنطن إلى نفي ذلك، ويبدو أن تحليل صاحبناالذي يعنونه بـ»خيوط اللعبة» إنما يأتي في محاولة للدفاع عن بؤس النظام.
لا يُستبعد بالطبع أن تنسيقا قد تم بين الطرفين، وأن رد الأمريكان إنما جاء مجاملة لبعض الأطراف العربية المنخرطة في التحالف، والتي يعنيها أن لا تظهر بمظهر من يقف ضد ثورة الشعب السوري؛ هي التي باعت على الكثيرين أنها معه؛ الأمر الذي تم استجابة للشارع المنحاز للثورة بقوة، لكن الموقف الأمريكي لم يعد غامضا من حيث رفضه لأي عمل يؤثر سلبا على وضع النظام.
على أن الفضيحة هنا هي فضيحة النظام وحلفائه وشبيحته، فحين تبلغ بهم الوقاحة حد الافتخار بوجود ذلك التنسيق مع الأمريكان، فهذا يعني أن تنظيم داعش ليس عميلا أمريكيا ولا صهيونيا، ولا حتى سعوديا كما روّجوا طوال ثلاث سنوات، كما يعني أن الثورة السورية ليست مؤامرة على نظام المقاومة والممانعة، بل هي مؤامرة على أشواق الشعب السوري في الحرية والتحرر.
يعلم كاتب المقاومة والممانعة الثوري أنه ما من أمر يُبرم في هذه المنطقة في السياسة الأمريكية من دون التفاهم مع نتنياهو، لأن للأخير في الكونغرس من التأييد أكثر من أوباما نفسه، ما يعني أن الحفاظ على النظام، ومن ثم مطاردة تنظيم الدولة يمثل مصلحة للكيان الصهيوني، أو تتم برضا ومباركة منه في أقل تقدير.
على أن الفضيحة الأكبر من كل ذلك هي تلك التي تمثلت في تصريح إيراني يشبه تصريح رامي مخلوف الشهير لنيويورك تايمز قبل عامين ونصف حين اعتبر أن أمن الكيان الصهيوني مرهون ببقاء الأسد، فقد قال نائب وزير الخارجية الإيراني إن سقوط بشار الأسد كفيل بالقضاء على أمن إسرائيل؛ هكذا بكل وضوح. وهو التصريح الذي سكت عنه تماما أدعياء الممانعة، ووسائل إعلامهم الكثيرة.
هنا، والآن، بل منذ عامين تتساقط مقولات القوم ودعايتهم في الوحل، ويسقطون هم أيضا، فهذا التحالف بين الأقليات الذي صنعوه وروّجوا له في مواجهة الغالبية هو أيضا مصلحة إسرائيلية، وهو الذي سيخدم البرنامج الصهيوني في المنطقة، والذي لم يخدمه أحد كما خدمته إيران بدعمها لنظام بشار الأسد الذي أدى إلى استنزاف الجميع، بما فيه هي نفسها،والتي تتحرك باتجاه اتفاق نووي، ورعت تسليم الكيماوي السوري، فيما يمارس روحاني الغزل مع الصهاينة بمناسبة وبدون مناسبة. وفي النهاية لا يمكن لنتنياهو إلا أن يفضل بشار الضعيف المنهك على أية خيارات أخرى غير مضمونة.
في العراق قبل سوريا، يتساقط الخطاب الذي يوزعه التحالف الإيراني، ومن ضمنه حزب الله الذي يبدي أمينه العام تحفظا على التحالف الدولي، وذلك في محاولة لحفظ ماء الوجه، تماما كما كان انتقد قبل سنوات على استحياء تعاون أصحابه في العراق مع الاحتلال الأمريكي، يوم كان تنظيم الدولة وقوى المقاومة العربية السنية تقاتله بشراسة. أما في العراق الآن، فاللقاء مع «الشيطان الأكبر» مفضوح تماماكدفعة أولى قد تتبعها دفعات فيما يتصل بالاتفاق النووي، وربما بتفاهم حول سوريا كما يأمل المحافظون في إيران خوفا على ركنهم الإستراتيجي الذي قد يتبعونه إذا سقط، في سياق من محاسبة الشعب الإيراني لهم على مغامرات لم تفض إلى للمعاناة من دون جدوى.
إنها فضائح الطائفية في ذروة تجلياتها، والتي تكتمل الآن، بل اكتملت عمليا في اليمن، وحيث التقى حلفاء إيران مع النظام المخلوع في ثورة مضادة ضد الثورة الأصيلة.هنا في اليمن كان المشهد أكثر فضائحية، فحديث الثورة اليمنية من قبل فئة لا تتجاوز عُشر السكان سيطرت على العاصمة ثم محافظات أخرى بالقوة المسلحة، وبالتعاون مع النظام المخلوع لم تقنع حتى الأطفال، ولم تمررها سوى عقول (الأصح نفوس) أسوأ الطائفيين.
فقط في سوريا كان على الشعب أن يستجيب لنداءات نصرالله بترك السلاح واللجوء إلى الحوار، بينما كان على الحوثيين أن يفرضوا شروطهم بقوة السلاح، مع ضرورة التذكيربأن هادي لا يُقارن أبدا بدكتاتورية بشار وطائفيته وفساده.
إنها حرب معلنة من الأقلية في الأمَّة على الأغلبية، وكما ألقت إيران بالعلويين في أتون حرب طاحنة، ها هي تورط الحوثيين أيضا، وقبل ذلك لم تنصح المالكي بتجنب الإقصاء والطائفية، وهي مسؤولة في المحصلة عن تفجُّر العنف في العراق وسوريا، وهي التي ستفجّره الآن في اليمن ضد الحوثيين، وقد بدأ بالفعل.
إيران ببساطة تمارس أبشع أنواع الطائفية، وتدمِّر التعايش في المنطقة، في ذات الوقت الذي تخوض فيه حربا لن تربحها بأي حال، ولو امتدت عشر سنوات؛ والأيام بيننا، مع أن مسلسل الدمار والمعاناة سيطال الأمَّة بأسرها، ولن يكسب منه سوى الكيان الصهيوني وحلفائه.
عندما انطلقت ثورة السوريين في (مارس) آذار 2011، اختار نظام الأسد القوة المسلحة سبيلا لمواجهة الثورة السلمية وشعاراتها، ومع الصيحات الأولى للمتظاهرين والمحتجين، انطلق رصاص النظام ضدهم من قبل الأجهزة الأمنية، ثم توسعت العملية بإدخال الجيش قوة لقمع المتظاهرين، ولمحاولة إعادة سيطرة النظام على مناطق الاحتجاجات، بعد ثبوت أن قتل المتظاهرين واعتقالهم، لم يعد مجديا في مواجهة الثورة، وتسببت وحشية أجهزة الأمن وقوات النظام بحالات انشقاق لعسكريين وأمنيين رفضوا أن يكونوا أدوات للنظام في قتل شعبهم، وسرعان ما انضم لهم مدنيون، قرروا الدفاع عن أنفسهم وأهلهم في مواجهة إرهاب أجهزة النظام وقواته؛ حيث تشكلت مجموعات شبه عسكرية تحت مسمى «الجيش الحر»، وإلى جانبها أخذت تظهر الأنوية الأولى للتشكيلات المتطرفة وأبرزها «جبهة النصرة» التي أعلنت عن أولى عملياتها بداية العام 2012.
لقد شكل ثالوث قوات النظام و«الجيش الحر» وأنوية منظمات التطرف، بداية العسكرة الصاعدة في سوريا، التي تتجه حاليا للتمركز بصورة قد يكون من الصعب معالجتها في المدى القريب، وهي ستحتاج إلى جهود استثنائية لمواجهة تداعياتها على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة والمحتملة.
وتشير اللوحة السورية إلى تبلور العسكرة في 3 محاور أساسية؛ أولها محور نظام الأسد الذي يضم بصورة أساسية قوات الجيش إلى جانب أجهزة الأمن بأجنحتها الـ4 (الأمن العسكري، والأمن الجوي، وأمن الدولة، والأمن السياسي)، وإلى جانبها قوات الشرطة التابعة لوزارة الداخلية. وثمة تشكيلان آخران يرتبطان بهذا المحور؛ أولهما: قوات الدفاع الوطني، التي جرى تشكيلها في العام 2013 من متطوعين مناصرين للنظام، وثانيهما: اللجان الشعبية، وهي تسمية لميليشيات محلية، جرى إطلاقها في العام 2012. لتضم مؤيدي نظام الأسد، والتطور الجديد باتجاه العسكرة في محور النظام، يمثله استدعاء قوات الاحتياط، وتشديد إجراءات السوق إلى الخدمة الإلزامية بالنسبة للشباب، وفي الحالتين لم يكن الإجراءان معمولا بهما إلا بشكل محدود منذ انطلاق الثورة عام 2011، الأمر الذي يعني أن النظام بخطوته الأخيرة، لا يعوض فقط خسائره من أعداد جنوده الذين انشقوا أو قتلوا في الصراع الجاري، إنما يسير أيضا نحو تشييع العسكرة في المناطق التي يسيطر عليها من خلال زيادة أعداد المجندين والمتطوعين.
والمحور الثاني في اتجاهات العسكرة في سوريا، تمثله عمليات التجنيد الإجباري، التي تقوم بها جماعات التطرف، والإشارة في هذا السياق تنطبق على جماعات التطرف الديني وأبرزها تنظيم «داعش» الذي يلزم السوريين وخاصة الشباب والأطفال في المناطق المسيطر عليها من جانبه على الانضمام إلى صفوفه للقتال سواء ضد الميليشيات الكردية أو ضد قوات «الجيش الحر» الموجودة في تلك المناطق، كما تتوالى العسكرة من جانب حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يمثل تطرفا قوميا، وقد أشاع في المناطق التي تسيطر عليها قوات تابعة له باسم «قوات الحماية الشعبية»، عملية تجنيد الشبان الأكراد، ودفعهم للقتال ضد جماعات التطرف من «داعش»، و«النصرة»، وغيرهما.
أما المحور الثالث في العسكرة، فيتصل بالقوى المعتدلة والمصنفة تحت اسم «الجيش الحر» أو القريبة منه، كما هو حال «جبهة ثوار سوريا»، التي اتخذ فيها مسار العسكرة مسارا نوعيا أكثر مما هو مسار كمي بخلاف ما هو عليه الحال في المحورين الأولين، وفي هذا المجال، صارت العسكرة في مضمونها الأساسي، حفاظا على الذات واستمرار وجود تلك التشكيلات بأي طريقة كانت، بما فيها سياسات وممارسات خارج هموم الثورة واهتماماتها، وفي هذا الإطار يمكن تصنيف ظاهرة أمراء الحرب، التي تشكل ظاهرة خارج إطار الثورة.
إن التصاعد المتزايد والخطير للعسكرة في الواقع السوري في قواه المحلية، يجد له سندا إقليميا ودوليا عبر وجود وتدخلات خارجية عسكرية - أمنية، بدأت مع وجود الخبراء العسكريين والأمنيين الإيرانيين والروس، وصولا إلى الوجود المباشر لتشكيلات عسكرية من الطرفين، ترافق معها استدعاء النظام لميليشيات حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية بينها «لواء أبو الفضل العباس» للمشاركة في حرب النظام على السوريين، ثم جاء تشكيل التحالف الدولي للحرب على الإرهاب ليعطي بعدا جديدا وخاصا في تفاصيل العسكرة في الواقع السوري.
وإذا كانت نتائج تصاعد العسكرة في سوريا في غالبيتها سلبية الطابع والتأثير على سوريا والسوريين، فإنها في أحد جوانبها، قد تكون المفتاح الذي يضع حدا للعنف في البلاد، إذا استطاعت بالفعل أن توقف إرهاب نظام الأسد وإرهاب جماعات التطرف، وأن تأخذ القضية إلى حل سياسي أو عسكري، يتناغم مع احتياجات السوريين ومصالحهم، لكن تحقيق ذلك سيكون مرتبطا بوجود سيطرة قوية وفعالة على السلاح الموجه ضد الإرهاب المزدوج للنظام والمتطرفين، وما لم يكن ذلك متوافرا، فلا شك أن صعود العسكرة سيأخذ سوريا والسوريين إلى أعماق الكارثة، وهذا هو الخوف الرئيسي من العسكرة الصاعدة اليوم
يبدو أننا لسنا أمام اللوبي الإيراني المصري، الذي كتب عنه الدكتور مأمون فندي ذات يوم، بل أمام اللوبي الإيراني العربي، وهو أخطر. فقبل أيام صرح الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي تصريحا مهما عن الدور الإيراني الشرير بالمنطقة، لكنه لم يجد نفس الاحتفاء الذي وجده «تفسير» إعلامي خاطئ لتصريح سابق للأمير الفيصل!
قبل فترة تحدث وزير الخارجية السعودي عن دعوة موجهة لوزير الخارجية الإيراني، وهي ليست بالمعلومة الجديدة، إلا أن بعض الإعلام العربي «طار» بتلك المعلومة على أنها تقارب سعودي إيراني، وأن الرياض تسعى للتواصل مع طهران، وهي قراءة مشوهة نتيجة تسرع إعلامي. الآن، وقبل أيام، قال الأمير سعود، وفي مؤتمر صحافي مع نظيره الألماني في جدة، إنه «إذا أرادت إيران أن تسهم في حل المشاكل (بالمنطقة) فعليها أن تسحب قواتها من سوريا، وهذا الأمر يسري على المواقع الأخرى التي تعمل فيها إيران، سواء كان في اليمن، أو العراق، أو أي مكان آخر.. إذا أرادت إيران أن تكون جزءا من الحل، فأهلا بها، ولكن إذا بقيت جزءا من المشكلة، فلا يمكنها أن تؤدي دورا في المنطقة».
كما أكد الفيصل، محقا، أن قيام إيران بدور في شؤون المنطقة يتوقف عليها هي؛ حيث لا تحفّظ على إيران، وطنا ومواطنين، وإنما التحفّظ على سياسة إيران بالمنطقة، مشيرا - أي الفيصل - إلى أن كثيرا من نزاعات المنطقة تكون إيران جزءا من المشكلة فيها، لا جزءا من الحل، مضيفا أنه «في سوريا لإيران قوات تحارب سوريين، فكيف يكون معقولا أن تأتي دولة خارجية لتدخل حربا أهلية، وتقف مع صف من الصفوف، وتحارب فئة من الشعب نفسه»، مشيرا إلى أن القوات الإيرانية قوات محتلة في سوريا لأن النظام فقد شرعيته.
وعليه، فإن كلام الفيصل واضح جدا، وبالتالي السؤال الآن هو: أين الإعلام العربي من أقوال الفيصل هذه؟ فلماذا لم يُهتم بها مثلما جرى الاهتمام بتفسير خاطئ لتصريحات الفيصل السابقة عن دعوة وزير الخارجية الإيراني لزيارة السعودية، وهي دعوة قديمة، وتأخيرها كان بسبب اشتراط الوزير الإيراني مقابلة من يريد هو مقابلته، وليس وفق البروتوكول، وهو ما يبدو أنه «لعبة» إيرانية لضمان تعذر تلك الزيارة؟ فأين الإعلام العربي، أو اللوبي الإيراني العربي، من تصريحات الفيصل هذه التي تتهم إيران صراحة بـ«احتلال» سوريا، والتدخل في العراق، واليمن، وغيرهما؟
المؤسف أن في الإعلام العربي فئة يجب وصفها باللوبي الإيراني العربي، وهي فئة تستوجب التنبه لها؛ لأنها معول هدم خطر يجب الحذر منه، خصوصا أن كلام الفيصل هذا في مؤتمره الصحافي الأخير واضح، ويتهم إيران تحديدا، كما أنه يكشف أن محور الاعتدال العربي واع لخطورة إيران، والسؤال هنا هو: متى يحدث وعي لخطورة اللوبي الإيراني العربي؟
في كتابه الذي صدر أخيراً، يقدم هنري كيسنجر رؤيته وخبرته السياسية بعد أن اقترب من الـ90 عاماً. عنوان الكتاب: «النظام العالمي أو World Order 2014»، يعبّر عن الإشكالية المركزية التي يتمحور حولها. في الكتاب فصل عن الولايات المتحدة وإيران، يقدم ملاحظات ومعلومات عن رؤية الجمهورية الإسلامية للنظام العالمي، وموقع ملفها النووي ضمن هذه الرؤية وعن مفاوضات هذا الملف التي أكملت عامها العاشر. تقدم هذه الملاحظات بمجموعها خلفية سياسية لموقف إدارة أوباما تجاه هذا الموضوع، واستتباعاً تلقي ضوءاً مهماً على الحرب على تنظيم «الدولة الإسلامية». يلاحظ أن انتشار السلاح النووي خارج نطاق الدول الكبرى يهدّد النظام الدولي. ومن السبل التي قد يتسبب فيها ذلك أن انتشار هذا السلاح يمكن أن يستخدم كدرع ضد الانتقام من أعمال قتالية لجماعات (ميليشيات) خارجة على الدولة non-state actor groups. وبما أن هذه الجماعات خارجة على الدولة، فهي تقع خارج النظام الدولي، وبالتالي تتحرك خارج نطاق قواعد هذا النظام وتقاليده. وعلى رغم أنه لا يعطي اسماً معيناً لدولة بعينها ولا للجماعات المرتبطة بها والتي يشير إلى أنها خارجة على الدولة، إلا أن من الواضح أن إشارته تتجه إلى إيران وبرنامجها النووي وإلى الجماعات الخارجة على الدولة، التي تتبناها مثل «حزب الله» في لبنان، والميليشيات في العراق، وجماعة الحوثي في اليمن. بعبارة أخرى، ما يقوله وزير الخارجية الأميركي السابق هنا أن أحد أهداف البرنامج النووي الإيراني قد يكون توفير مظلة لحماية هذه الجماعات، وحماية الدور الذي تقوم به في إطار السياسة الإقليمية لإيران في المنطقة. (ص 160)
إشارة كيسنجر إلى العلاقة التكاملية بين البرنامج النووي الإيراني، وتبني إيران ميليشيات أو جماعات عابرة للدول في سياستها الإقليمية لا يتفقان، بل قد يتناقضان مع رؤية إدارة الرئيس باراك أوباما الى الدور الإيراني، وموقع تلك الجماعات في هذا الدور. ولعل الحرب على تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) مثال جلي على ذلك. يقال إن هذه الحرب جزء من الحرب على الإرهاب. فهي حرب على جماعة أو ميليشيا خارجة على الدولة تهدد بمواقفها وسلوكياتها أمن دول الإقليم، وبالتالي أمن النظام الدولي. من هذه الزاوية هي حرب مشروعة، لكن يكمن الإشكال في ما يبدو أن مصطلح «الإرهاب» يقتصر، حتى الآن، على التنظيمات السنّية. وهذا واضح في أن واشنطن تحركت عسكرياً، وجيشت تحالفاً إقليمياً ودولياً لمحاربة «داعش» بعد استيلائه على الموصل العراقية. في المقابل، التزمت الصمت بعد سقوط العاصمة اليمنية (صنعاء) وبعدها مدينة الحديدة في يد ميليشيا الحوثيين. ولا تزال تلتزم الصمت إزاء دخول ميليشيات شيعية الحرب في سورية إلى جانب النظام، وإزاء الدور البارز للميليشيات نفسها في العراق. سيقال إن التنظيمات السنّية تستهدف دول المنطقة، ومصالح الدول الغربية، على العكس من التنظيمات الشيعية. ومن حيث أن التنظيمات الأخيرة تتلقى الدعم المالي، والتدريب العسكري، والغطاء السياسي من إيران، فإنها في هذه الحال تخضع لمرجعية سياسية وأيديولوجية واحدة هي إيران. أما التنظيمات السنّية، على الناحية الأخرى، فتبدو منفلتة ليس لها مجتمعة، ولا لأية واحدة منها مرجعية سياسية واحدة. على العكس، جميعها تقريباً في حال صدام مع دول المنطقة السنّية ومع إيران والغرب. بل إن هذه التنظيمات في حال خلاف وصدام في ما بينها كما يحصل في سورية وليبيا. هنا تبدو التنظيمات السنّية خارج السياق، فهي ضد النظامين الإقليمي والدولي، وضد مفهوم الدولة الوطنية التي يستند إليها هذان النظامان، وتهدف بدلاً من ذلك الى العودة إلى الخلافة، أو نظام سياسي إسلامي عفا عليه الزمن. من هذه الزاوية تمثل التنظيمات أو الميليشيات السنّية مصدراً يهدد بالفوضى الإقليمية، وربما الدولية.
هذا توصيف صحيح ودقيق، لكن ما يستنتج منه مقارنة مع التنظيمات الشيعية يتسم بالاستعجال، ويعبّر عن خطل سطحي في النظر إلى الموضوع. فإيران باعتبارها مرجعية التنظيمات الشيعية هي دولة دينية ترتكز إلى مفهوم «ولاية الفقيه». و «ولاية الفقيه» هذه هي المفهوم الشيعي للخلافة. ومن ثم تهدف الجمهورية الإسلامية من تبني هذا المفهوم (ومسمى الجمهورية هنا ينطوي بالمناسبة على تناقض عميق في داخله) الى العودة بإيران والمنطقة الى تطبيق «ولاية الفقيه» التي لم يتسنّ تطبيقها من قبل كما حصل للخلافة السنّية. بهذا المعنى تكون إيران مناهضة في العمق، وبعنف واضح للنظام الإقليمي، وضمناً للنظام الدولي. وقد لاحظ هذا المنحى في السياسة الإيرانية هنري كيسنجر في كتابه المشار إليه، مستنداً في ذلك إلى خطابات المرشد الإيراني علي خامنئي (ص 149 - 151). وكان من الطبيعي في هذا السياق أن تتبنى إيران آلية الميليشيات الشيعية العربية كأداة مركزية في سياستها الإقليمية. لماذا؟ قبل الإجابة لاحظ أن إيران لا تسمح بوجود أي ميليشيا - عربية أو إيرانية - على أراضيها، ولا أي تنظيم عسكري خارج الإطار الرسمي لقواتها المسلحة. في المقابل، تتمسك إيران بمبدأ اقتصار وجود ودور الميليشيات العابرة للدول داخل حدود الدول العربية.
نعود للإجابة عن السؤال. في ظل النظام الإقليمي القائم تفتقد إيران عمقاً استراتيجياً في المنطقة يمكّنها من الاتكاء عليه لتحقيق طموحاتها الإقليمية، وتطلعاتها الأيديولوجية. العمق الوحيد الذي يمكن أن يوفر لها مثل هذا الطموح هو المخزون البشري للأقليات الشيعية في الدول العربية المجاورة لها، أو التي تقع في المجال الحيوي لمصالحها، مثل سورية ولبنان واليمن. وتحقق آلية الميليشيات لإيران هدفين أساسيين يعوضان فقدانها العمق الاستراتيجي، الهدف الأول أنها توفر لها نفوذاً قوياً داخل الدول التي توجد فيها هذه الأقليات. وهذا واضح الآن في لبنان والعراق، والنظام السياسي السوري بانتمائه العلوي. ثانياً أن وجود ميليشيات أو أحزاب على أساس شيعي أو أقلوي داخل هذه الدولة العربية أو تلك يبقي على انقسام النظام السياسي، وبالتالي على ضعف هذا النظام، الأمر الذي يحمي قناة النفوذ الإيراني على النظام السياسي. ولعل حال «حزب الله» في لبنان ونفوذه الكبير هناك، وحال حزب «الدعوة» في العراق بعد الاحتلال الأميركي، وتحديداً فرض نوري المالكي كرئيس للحكومة لفترتين متتاليتين، ثم حيدر العبادي من الحزب نفسه، وأخيراً تعاظم دور جماعة الحوثي في اليمن، كل تلك أمثلة عملية وواضحة على مدى فائدة أو فاعلية هذه القناة بالنسبة الى الدولة الفارسية. وقد ساهمت آلية الميليشيات الشيعية في تقويض الدولة في العراق أولاً، ثم في سورية.
ولعل من المفارقة أن النظام السوري الذي كان يوماً مظلة حماية لميليشيا «حزب الله» في لبنان بات يعتمد على هذه الميليشيا وغيرها للبقاء ومقاومة السقوط. والآن تهدد ميليشيا الحوثيين بسقوط الدولة في اليمن. انطلاقاً من ذلك، فإن القول إن الميليشيات السنية هي المصدر الوحيد الذي يهدد مفهوم الدولة في المنطقة، وبالتالي يهدد النظامين الإقليمي والدولي هو استنتاج مبتسر، إما بتعمد مقصود (من إيران وحلفائها)، أو بتسرع سياسي غير مبرر (من واشنطن وحلفائها). ما تؤكده ظاهرة الميليشيات العابرة للدول، السنّية منها والشيعية، هو أن ما يهدد مفهوم الدولة والنظام الإقليمي هو الطائفية، وليس هذه الميليشيا أو تلك. الميليشيا تعبير عن حال أوسع وأخطر، وليست الحال ذاتها. ولا أظن أن هذا يخفى على أحد. الانشغال بـ «داعش»، أو ما يبدو أنه كذلك، يعبر من ناحية عن رؤية سياسية آنية وضيقة في حال واشنطن ودول التحالف، ويعزز من ناحية أخرى رؤية طائفية متأصلة في حال إيران وحلفائها. ويكمن الخطر في التناقض العميق لمنطلقات الرؤيتين، وأن التقاءهما في لحظة سياسية حرجة ينبئ إما بأنهما تسيران في خط صدام قادم، أو بأن هناك ميلاً أميركياً للاعتراف بمجال حيوي لإيران في المنطقة، انطلاقاً من أن الطائفية قدر لهذه المنطقة حتى إشعار آخر.
يمكننا القول نشكوكم إلى الله، أو "إن لم تستحِ فافعل ما شئت" فتنتهي محاكمة النظام السوري، ولكن قد يكون المقياس تسليمياً أخلاقياً. وربما التسامح هنا، له علاقة "بالجدبنة" لطالما هناك حقوق لغيرك ودماء ليس لأحد مصادرتها وهضم حقوق الأبناء اليتامى والأمهات الثكلى، وثمة حقوق تاريخية لها علاقة بضياع وطن وتركه عرضة للتقسيم في أحسن الأحوال وأقل الحلول كارثية.
رغم "إن لم تستح" تتناسب مع عهر لم يعرفه التاريخ ولم تشهده الجغرافيا يوماً، لكنه متأصل في علوم السياسة، إن لم نقل من بدهياتها، ما لا يمكن إخراجه عن "أمير ميكافيللي" الذي كانت نصيحة وضعه تحت وسادة نوم القائد الوريث، وصية من الوارث.
قصارى القول، منذ أيام خلت، استنفرت سيارات النجدة والإطفاء في دمشق وريفها ليساعد رجالاتها هرة علقت على شجرة عالية في مشروع دمر وسط العاصمة السورية، وما يمكن البناء عليه لاحقاً، لأن عملية إنقاذ السيدة الهرة، لم تتم سراً، بل نالت ما تستحق من الترويج ونشرها على وسائل إعلام ووسائل تواصل إجتماعي.
واليوم، تبدأ وزارة الزراعة، وبنفس الطريقة الدعائية، حملة ترقيم الثروة الحيوانية في خمس محافظات سورية "أي ما يسيطر عليه نظام الأسد".
ويكتمل الاستفزاز، أو ربما أهداف الرسالة من الترويج، عندما تقرأ أن الهدف من ترقيم السادة والسيدات الأغنام، هو "حصر كل الخدمات المتعلقة بالثروة الحيوانية". وهنا أقتبس الجملة كما قالها مدير مشروع تطوير الثروة الحيوانية بوزارة زراعة حكومة الأسد، ولئلا يخطر لمدافع على بال، أن حكومة النظام السوري تحرص على غذاء السوريين وتأمينه بأسعار تتناسب ودخولهم، وما الضير في إحصاء الثروة الحيوانية وتقديم المعونة والمساعدة وحتى الموسيقا للأغنام، ألم تسمعوا أن البقر الهولندي يزيد إنتاجه للحليب لأنه يرفه ويسمع موسيقا.
نقول لمن يقول، أو يمكن أن يقول، اللهم إن وجد، تم تدمير الزراعة السورية ورفع سعر الأعلاف وقتل الثروة الحيوانية، بل وتهريب الأغنام الفائضة عن التصدير، إلى بلدان الجوار وأهمها لبنان، إلى أن وصل سعر كيلو هبرة الغنم بدمشق قرابة 2400 ليرة سورية.
وأيضاً، يبدأ نظام بشار الأسد اليوم الأحد بتصدير منتجات ألف بيت بلاستيكي، من الخضار والفواكه إلى روسيا الاتحادية، لينقذ أسواقها ومواطنيها من قلة المعروض السلعي بعد العقوبات الأوروأمريكية.
نهاية القول: عندما يقتل النظام السوري الممانع ويعتقل ويغيّب نحو مليون سوري ويهجّر داخليا وخارجياً قرابة 11 مليون ويصل 8 مليون سوري لدون مستوى الفقر، 5 ملايين منهم في حالة الفقر المدقع، ورغم ذلك يستنفر قوات الدفاع المدني لينقذ هرة ويوعز للترقيم والعناية بالأغنام، فماذا يمكن أن نستنتج؟!
ثمة احتمالات كثيرة، منها أن هذا النظام يحاول تسويق تلك اللقطات خارجياً، بعد أن يدعمها بحملات تسويقية كما حدث ضمن حملات تشويه الثورة وإعادة تسويق النظام، أنه نظام رحيم حتى بالحيوانات، فكيف يمكن التصديق أنه يضرب شعبه بالكيماوي.
ولكن، بما أن جرائم الأسد شهدها القاصي والداني وفي أصقاع الأرض جميعها، ربما يسقط هذا الاحتمال.
أيعقل- احتمال ثان- أن هكذا رسائل جمهورها المستهدف داخلي فقط، ليتمسك محبو الأسد والصامتون والرماديون بخيار الممانعة الرحيم الذي يسعى لتلبية الأغنام احتياجاتها ليعود لهم بلحم وصوف وحليب...أيضاً هذا الاحتمال غير علمي ومنطقي لأن من حول النظام وفي الدائرة الأولى، يعلمون يقيناً، بل شاهدوا وشاركوا بالجرائم أولاً، ويكابدون يومياً من حمى الأسعار التي تفوق مداخيلهم أضعافا مضاعفة.
ثمة احتمال آخر، مفاده باختصار، أن النظام السوري الممانع يعيش بحبوحة وأن "سوريا بخير حقيقة" وهو يلتفت لتمتين اقتصاده وكفاية شعبه ومؤيديه، وهي سياسة مثلى أثمرت نتائج على الأرض، بدليل وجود ماتبقى من "جيش الوطن" وكثير من المرتزقة، ملتفين حوله.
بيد أن هذا الاحتمال مشكوك بصحته وطريقة استنتاجه أيضاً، لأن الخسائر الاقتصادية جراء حرب الكرسي نافت 200 مليار دولار وثمة تململ وصل "طرطوس" بعد قمع تظاهرات عكرمة في حمص.
إذاً، لم يبق سوى احتمال وحيد، وهذا الاحتمال يتشابه، أو ربما يتمخض عن السياسة ذاتها التي تسرّب لمشاهد المصورة للميليشيات القاتلة للسوريين وهي تتفنن ببقر البطون وتكسير العظام ..قبل حرق الجثث.
هذه السياسة المحكمة، والتي يمكن اعتبارها طوق النجاة الوحيد للنظام القاتل، تهدف فيما يراد لها، تكريس الثأرية بين أطياف السوريين وتأصيل ذهنية وثقافة الحقد والتقسيم، فلو فكرنا وتفكرّنا بأن النظام، أي نظام، يقتل صباح العيد عشرات الأطفال والشيوخ بسراقب عبر البراميل المتفجرة ويقتص من أهالي وعر حمص بعد الهدنة، بعد أن أباد وهدّم وحرق وضيّع حتى الحلم، لكنه في الآن ذاته يسعى لنجدة هرة أو إسعاد نعجة، فماذا يمكن أن نقول أو يخرج عنّا من أفعال.... ويقولون الشعب السوري متطرّف.
في زيارةٍ قمت بها بمعية أعضاء من "اللجنة الوطنية لحماية السلم الأهلي"، التي شكلها لفيف من الأصدقاء، وشرّفوني بعضويتها، رافقنا لفيف من مقاتلي "غرباء الشام" إلى مقر إخوتنا الكرد في المدينة، لبدء محادثاتٍ أردنا لها أن تنهي الاقتتال فيها، وهو ما تحقق بالفعل على أيدي ممثلين من الطرفين "المتقاتلين". حين وصلنا إلى المقر، استقبلنا قرابة مائتي مواطن كردي بهتاف "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد". وبعد قليل، تعانق كثيرون منهم مع مقاتلي الغرباء، الذين جاؤوا معنا من دون موافقتنا، خشية أن يثير حضورهم المشاعر، ويسبب مشكلة تقوض فرص نجاحنا. طفرت عندئذ الدموع من عيني وأعين كثيرين، لأن بعض من تعانقوا كانوا يتحاربون قبل ساعات قليلة. أقنعتني الحادثة بصحة شعار الثورة المجيدة "الشعب السوري واحد".
تقاطع رأيان في الوسط السياسي المعارض، وخصوصاً منه المحسوبة على الديمقراطية، حول العلاقات التي ستقوم بعد الثورة، بين مكونات ما أسماه برهان غليون "الجماعة الوطنية السورية"، تفرع عنهما خلاف مفصلي، وترتبت عليهما نتائج جد متعارضة، قال أولهما بأولوية مشاركة جميع مكونات هذه الجماعة، وبكل ما تمتلكه من قوى في معركة إسقاط الاستبداد، على أن تنظم بعده علاقات الداخل السوري، في إطار الفكرة الديمقراطية والروح التكاملية، وعلى أرضية منجز وطني، شارك فيه الجميع، وضحوا من أجله، مع بقاء باب الحل مفتوحاً على جميع الاحتمالات، بما فيها احتمال الفيدرالية. كنت شخصياً مع هذا الرأي.
"
ها هم أكراد الجزيرة يتبينون، في خضم معركة (عين العرب – كوباني) ومضاعفاتها، فداحة أخطاء مسلم، والعبء الثقيل الذي ألقاه على عاتقهم
"
لذلك، وافقت على أية اتصالات، الهدف منها رسم صورة سورية المستقبل، بتوافق يلزم الجميع، يرتكب من يخرقه جرم الخروج على إجماع وطني. في المقابل، كان هناك تيار آخر، عبر عنه الأستاذ صالح مسلم أكثر من أي شخص آخر، رأى في الأمر الواقع ضمان حقوق الكرد في سورية وما وراءها، وآمن بقدرته على تمرير ما يريد، وسط تطاحن واسع، لا يعرف أحد إلى أين سيصل، وطور خطاً سياسياً لإنجاح مشروعه، جمع فيه أضداداً تتحدى قدرات كرد الجزيرة، وعربها وسريانها وكلدانها وآشورييها وشركسها وشيشانها وتركمانها وأرمنها مجتمعين، كالمحافظة على علاقاته مع النظام، وفي الوقت نفسه، على عضويته في هيئة التنسيق، وإعلانه أن كرد الجزيرة هم شعب غرب كردستان، وأن مناطقهم يجب أن تخضع لما أسماها إدارة ذاتية ديمقراطية، سيقيمها حزبه، ما لبث أن حكم سكانها من مختلف القوميات، بطرقٍ، لا تتفق مع أبسط متطلبات الديمقراطية وقيمها، بينما منع الجيش الحر من دخولها، أو المرابطة فيها، بحجة أنها أرض محررة، واستلم بعضها من مخابرات النظام بكامل أسلحتها.
خال السيد مسلم أنه قفز من فوق الجميع، وانتقل، ونقل الكرد إلى المستقبل، أي إلى ما بعد الأوضاع الراهنة. وظن أن منطقته صارت، بالفعل، نواة دولةٍ، لن يتمكن أحد من تغيير واقعها، لأنها غدت أمراً واقعاً، عبر عنه بأسماء، تشاع، أول مرة، في لغة السياسة السورية، كتسمية منطقة الجزيرة "روج آفا" التي ستكون، في الحد الأدنى، جزءاً مستقلاً نسبياً من فيدرالية سورية، وفي الحد الأعلى، جزءاً من دولة كردية شاملة، ستقوم في سورية والعراق وتركيا، كما كان مقرراً لها في اتفاقية سان ريمو.
أخطأ السيد مسلم في أولوياته السياسية، وحساباته السورية والإقليمية، وحمّل أكراد الجزيرة فوق ما يطيقون ويستطيعون، وزجّ بهم في مغامرة أساء توقيتها، وها هم يتبينون في خضم معركة "عين العرب – كوباني" ومضاعفاتها فداحة أخطائه، والعبء الثقيل الذي ألقاه على عاتقهم، في ظرفٍ لن يتمكنوا من القفز فوقه، في الوضع، الداخلي والعربي والإقليمي، وسيكون فوق قدراتهم تحديد صورتهم النهائية مكوناً وطنياً سورياً، في معزل عن غيرهم أو ضد إرادته، كأن انتماءهم السوري لا يرتب عليهم أية التزامات وطنية، أو أي تضامن مع بقية مواطنيهم، أو كأن اللعب على حبال التناقضات يمكن أن يكون سياسة تخدم مصالحهم، أو كأن نجاح مشروع قومي يمكن عزله عن الظرفين، الدولي والإقليمي، وإرادة بقية مكونات الجماعة الوطنية السورية، التي إن فشلت ثورتها أخفق، وإن نجحت استطاعت أن تعيد النظر فيه، هذا إذا سمحت تركيا وإيران وسورية بتمريره.
يقال إن رئيس وزراء تركيا أعلم السيد مسلم بشروط إنقاذ "كوباني- عين العرب"، وهي تتصل جميعها بالخطوط الحمر، التي ظن أنه تخطاها، وانتهى الأمر، وهي، قطع علاقاته مع النظام السوري، والتعاون مع الجيش الحر، وحماية حدود تركيا وأمنها. بكلام آخر، إلغاء مشروعه عن الإدارة الذاتية، لأنها أكثر من ذلك بكثير.
بالمناسبة، منع السيد صالح مسلم دخول الجيش الحر إلى منطقة الإدارة الذاتية، واليوم، يقدم هذا الجيش 40% من المدافعين عن عين العرب، وأعلن، قبل يومين، عزمه على إرسال ألف من مقاتليه لرد "داعش" عنها، بينما عزا مسلم سقوط بعض مناطق المدينة إلى وحدات من هذا الجيش، في سياق إيجاد أجواء مسمومة مع بقية مواطني سورية. وتكشف هذه الوقائع، على خير وجه، عن أفظع خطأ ارتكبه السيد مسلم: اعتقد أن الشعب السوري لم يعد واحداً، وعليه المسارعة إلى الإفادة من انقساماته وزوال وحدته، لاقتطاع أكبر قسم ممكن من كعكته كشعب سابق، لم يعد له وجود، ومن أرضه أيضاً باعتبارها أرضاً كردستانية، مع أن ما يجري في "كوباني – عين العرب" يؤكد الاستراتيجية البديلة، استراتيجية وحدة السوريين شعباً في الصرع ضد الأسد ونظامه، رفضها صالح مسلم، وقادته إلى سياسة كارثية النتائج على الشعب الكردي، سيحول قيامها دون بناء دولةٍ ديمقراطيةٍ لجميع السوريين، جماعات وأفراداً، يمكن للسيد صالح أن يقيم فيها نظاماً فيدرالياً أو لا مركزياً هو رئيسه، باختيار شعب وطننا الحر وتأييده.
تحدت مجريات معركة "عين العرب – كوباني" خيار الإدارة الذاتية الديمقراطية، التي طاردت الكرد بصورة منظمة، بل أسقطته. لذلك، من الأهمية بمكان أن يخلي مسلم مكانه لقيادةٍ أولويتها إسقاط الأسد، وإقامة دولة ديمقراطية، لا تنكر حقوق مكونات الجماعة الوطنية السورية، بما في ذلك حقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم.
ما يواجهه السوريون الذين «وجدوا سبيلهم إلى مغادرة أرض السلطتين، سلطة الأسد وسلطة داعش» أكثر تعقيداً من «مصاعب الحياة» وفق الصّديق حازم صاغيّة («الحياة» 11-10-2014). والحديث هنا عن مجتمع الشّتات السّوري تحديداً الموجود بغالبيّته في أوروبا، والذي يمكن ملاحظة ثلاثة مستويات أو بيئات من التجمّع فيه: أنصار النظام، معارضوه، وأصحاب الخيارات الفرديّة ممّن اختاروا أن يعيشوا بعيداً من التجمعين السّابقين.
ولعلّ أُولى «مصاعب الحياة» لدى هذه الفئات الثلاث قدرتهم على الاندماج في مجتمع أو ثقافة بلاد المهجر أو الملجأ، وربّما قبل ذلك، رغبتهم في الاندماج. فأنصار النظام وعلى رغم أنّهم يمتلكون قدرة أكبر من معارضيه على الاندماج، كونهم غير مكشوفي الظّهر ومحميّين من النّظام فضلاً عن تفوّقهم المادّي والتعليمي بدرجة أو بأخرى عن البقيّة، إلاّ أنّ اندماجهم المنشود يبدو ناقصاً. ذاك أنّ تعلّقهم بالنظام لا يسمح لهم بالقطع مع الحياة السّابقة في سورية وشروط تلك الحياة المحكومة بعلاقاتهم بالنّظام وآمالهم ببقائه ومعاودة تلك الحياة، فضلاً عن مشاعرهم العدوانيّة تجاه الثورة وبيئتها، وبالتالي لأنصار هذه الثورة في التجمّع الموازيّ لتجمّعهم في الشّتات. وهذا ما يعني أنّهم لم ينفصلوا انفصالاً تامّاً عن نظام اشتهر بتمجيد «القضايا على حساب البشر»، بحيث يشكّلون امتداداً ضعيفاً له، واحتمالاً لنشر أفكاره وأخلاقه وإعادة تمجيد قضاياه.
وما يقال في هؤلاء يقال في البيئة الموازية لهم من أنصار الثّورة، وإنّما بدرجة أعلى من التعقيد والتشابك. ذاك أن مشكلات مجتمع الشتات المؤيّد للثورة تجعلهم بعيدين من مرحلة طلب الاندماج، فضلاً عن أنّها تزيد من ارتباطهم بالقضيّة الأم، قضيّة الوطن والثورة، بشكل عام، وقضيّة هويّتهم الجماعيّة ومظلوميّتها بشكل خاص، أي بـ «قضايا البشر» إن صحّت التسمية. هكذا يواصلون عيشهم تحت إلحاح الانتقام لهذه القضايا، فضلاً عن انتقامهم التاريخي من قضايا النّظام.
ومع أنّ من المبكّر الحكم على تجربة الشّتات السّوري طالما أنّ الثورة ما زالت مستمّرة ولم يحسم الصراع مع نظام الاستبداد، ولم تتحدّد ملامح الأجيال التي ولدت في هذه الأثناء وشكل أو حجم التركة التي سيرثونها عنه، إلاّ أنّ هذه الملاحظات تشكّل بنسبة أو بأخرى أحد الأساسات التي تقوم عليها هذه التجربة، خصوصاً في علاقتها مع «القضايا» عموماً، وموقع القضيّة السّورية منها ومصير هذه القضيّة التي بدأت في بلاد الشّتات تُفلت من أيدي السّوريّين وتتحوّل إلى قضيّة جهاد عالميّ.
بهذا يكون السوريّون أمام صراع جديد لاستعادة قضيّتهم الأولى والحقيقيّة. وفي مواجهة هذه التحديّات تبدو «مصاعب الحياة» ترفاً لم يستحقّه السّوريون بعد وإن كانت أبسط أمانيهم.
أعلنت حركة "أحرار الشام" الإسلاميّة يوم 10أيلول/سبتمبر الماضي عن تعيين هاشم الشيخ المكنى بـ"أبو جابر" أميرا وقائدا عاما للحركة، و"أبو صالح الطحان" قائدا عسكريا عاما. وجاءت هذه التعيينات بعد ساعات على مقتل قادة بارزين في الحركة من ضمنهم مؤسسها حسان عبود المكنى بـ"أبو عبد الله الحموي" وقائدها العسكري "أبو طلحة" وأعضاء بارزون في مجلس الشورى كـ"أبو يزن الشامي" و"أبو عبد الملك" في مقر اجتماعهم السريّ بالقرب من قرية رام حمدان في ريف ادلب. تعد هذه الحادثة غير مسبوقة في مشهد الأزمة السورية، فلأول مرة تفقد حركة معارضة أكثر من 30 من أهم قياداتها في يوم واحد، ما يستدعي البحث في التداعيات التي ستترتب على ذلك.
أحرار الشام: نموذج جهادي جديد
تأسست حركة (كانت تسمى كتائب) أحرار الشام يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر2011 بعد انتقال الثورة السورية إلى العمل المسلح من قبل حسان عبود، وهو أحد السجناء المفرج عنهم من سجن صيدنايا بعد انطلاق الثورة. ولم يمض أشهر على تأسيسها حتى حققت أحرار الشام حضورا عسكريا وتنظيميا، فجذبت المقاتلين اليها، وزاد عدد منتسبيها لتصبح من أقوى فصائل المعارضة المسلحة. الأمر الذي شجع تنظيمات عسكرية أخرى؛ كحركة الفجر الإسلامية وجماعة الطليعة الإسلامية وكتائب الإيمان على الاندماح معها تحت مسمى "حركة أحرار الشام الإسلامية".
اتسمت حركة أحرار الشام بقدر من الانطوائيّة، إذ لم تنضم إلى أي من الأطر العسكرية والسياسية للمعارضة السورية (الجيش الحر/هيئة الأركان–المجلس الوطني/الائتلاف)، وفضلت التنسيق مع الفصائل ذات التوجه السلفي أو السلفي الجهادي. واعتبرت الحركة نفسها جزءا من ثورة الشعب السوريّ ضد الاستبداد والظلم، لكنها لم تشترك معها في جميع أهدافها ومبادئها وعلى رأسها؛ النظام الديمقراطي وآلياته كونه، وبحسب فهمها، "يتعارض" مع الشريعة وأحكامها. كما رفضت، وما تزال، الاعتراف بعلم الثورة والانضواء تحت رايتها الجامعة.
وعلى الرغم من انتمائها للسلفية الجهادية، لم تصطدم أحرار الشام، إلا في حالات قليلة، بالمجتمعات المحليّة التي توطنت واستقرت فيها نظراً لـ"مرونتها" وابتعادها عن سلوكيات متشددة. كما حرصت الحركة على تشيكل أجسام قضائية سميت "هيئات شرعية"، ضمتها وفصائل أخرى لحل الخلافات والنزاعات على المستوى الفردي والفصائلي.
وكان للحركة دور إغاثي ومجتمعي كبير إلى جانب دورها العسكريّ، واضطلعت بإدارة مدن وبلدات عدة خرجت عن سيطرة النظام وأهمهما مدينة الرقة قبل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عليها مطلع عام 2014. وقد ساهم نشاطها العسكري وأداء مقاتليها في مواجهة قوات النظام ونشاطها الإغاثي والمجتمعي الواسع وبنيتها التنظيمية المتينة (مقارنة بباقي الفصائل الإسلامية والجيش الحر) في جذب كثير من المقاتلين والكتائب والألوية الصغيرة للانضمام إليها والقتال تحت رايتها إلى درجة أصبحت الحركة أقوى فصائل المعارضة المسلحة وأكثرها تنظيما. وكنتيجة لذلك، ولعوامل إضافية أخرى كالتراجع المستمر لمؤسسات المعارضة السياسية والعسكريّة، وتغيير موازين القوى على الأرض بدخول حزب الله والميليشيات العراقية، وتهديد تنظيم "داعش"، اختار كل من لواء التوحيد، وجيش الإسلام، وألوية صقور الشام الابتعاد عن هيئة الأركان العسكريّة والاندماج مع أحرار الشام وفصائل اخرى في إطار سياسي وعسكري موحد سمي "الجبهة الإسلاميّة".
وقد توضح لاحقا، لاسيما بعد إصدار " مشروع أمة" (وهو ميثاق أصدرته الجبهة الإسلامية يعرف بالجبهة وأهدافها واستراتيجيتها ويحدد مواقفها من قضايا العلمانية، الديمقراطية، الدولة المدنية، القضية الكردية، المهاجرون، الأقليات) أن الحركة استطاعت فرض توجهاتها السياسية و"مواقفها الأيديولوجية" على باقي الفصائل خاصة بعد تعيين أميرها أبو عبد الله الحموي مسؤولاً للمكتب السياسي للجبهة الإسلامية. طمحت قيادة الجبهة ولاسيما بعد إصدار الميثاق إلى اندماج عسكري وتشكيل بديل سياسيّ عن الائتلاف وهيئة الأركان لكن هذه الخطوة لم تحصل لأسباب عديدة منها؛ قصور المشروع السياسي وغياب الإجماع الداخلي عليه، الاتفاق الشكلي بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الأزمة السورية على استمرار الاعتراف بالائتلاف ممثلا وحيدا للمعارضة، فضلاً عن ضغوط عربية وإقليمية على قيادات الجبهة حالت دون ذلك.
ساهمت العوامل السابقة، وقابلية الحركة للمراجعات الفكرية والسياسيّة في إحداث تغييرات فكرية وسلوكية هامة خلال عام 2014 من أبزرها:
• انضمام الأحرار للمواجهة المسلحة ضد داعش مطلع عام 2014 على الرغم من تحفظات قياداتها على بعض الفصائل المشاركة، والخلاف حول هدف المواجهة النهائي، خاصة وأن قيادة الحركة كانت تفضل تحجيم التنظيم لا القضاء عليه، وإلزامه بقبول مبادرات التحكيم.
• التوقيع على ميثاق الشرف: توافقت عليه غالبية الفصائل السورية المسلحة، ويتضمن مبادئ عامة مستقاة من شعارات الثورة السورية الأولى كتحقيق الحرية والعدل والأمن للمجتمع السوري بنسيجه الاجتماعي المتنوع وبكافة أطيافه العرقية والطائفية، والمحافظة على وحدة التراب السوري مع الترحيب باللقاء والتعاون مع القوى الإقليمية والدولية المتضامنة مع الثورة.
• تأييد مبادرة " واعتصموا": أعلنت فصائل سوريّة مطلع آب/ أغسطس 2014، وبمبادرة من بعض طلاب العلم الشرعيّ في سورية، وبعد اجتماعات عدة التوقيع على مبادرة سميت " واعتصموا"، تهدف إلى توحيد الفصائل والجبهات في مجلس واحد لقيادة الثورة السورية. وقد شارك الأحرار في الاجتماعات التحضيرية، وأعلنوا تأييدهم لها في 21 آب/ أغسطس 2014 لكن مجلش شورى الحركة لم يتخذ قرارا نهائيا، وكانت هذه المسألة مدرجة على اجتماع قادة الصف الأول ومجلس الشوري يوم التفجير.
تداعيات مقتل قادة الحركة
إن خسارة حركة أحرار الشام لأكثر من 30 من قيادات الصف الأول والثاني فيها سيؤثر دون شك على وضعها الداخلي وعلى علاقاتها بفصائل المعارضة المسلحة، وخاصة الإسلامية منها، والتي تشكل معها الجبهة الإسلامية، فضلاً عن تأثيره على محاولاتها الاندماج و التوحد مع فصائل أخرى.
• التداعيات على بنية الحركة واستمراريتها:
حركة أحرار الشام هي حصيلة اندماج فصائل عدة. وقد حرص أميرها السابق أبو عبد الله الحموي ومنذ تأسيسها على أن تكون مجاميع وسرايا مقاتلة تجتمع على فكرة الجهاد وتتبع لقيادة مركزية ومجلش شورى موحد مع تمتعها بصلاحيات عسكرية وإدراية واسعة، وتستشار في تزكية "أميرها الميداني".
وتعكس البنية التنظيمية لأحرار الشام بعضا مما طرحه أبو مصعب السوري (مرجع هام للحركة) عن "سرايا المقاومة الإسلامية"؛ فهي نظام عمل جهادي مؤسساتي متعدد المستويات يجمع فصائل ومجاميع عدة، وليست تنظيما جهاديا تقليديا مرتبطا بالأمير المركزي وقد ينهار أو يضعف بمقتله كما حصل في التجارب الجهادية المختلفة. وبناء عليه، فإن الحركة وإن كانت ستتأثر بغياب أبرز قادتها العسكريين والسياسيين والشرعيين، فإنها قادرة بحكم بنيتها التنظيمية المرنة على امتصاص الصدمة واختيار قيادة جديدة تحظى بإجماع وقبول داخلي. لكن ما يخشى منه ضمن الحركة، أن لا تنجح هذه القيادة في إدارة الاختلافات والتباينات الفكرية حول مسائل وقضايا تتعلق بهوية الحركة، وحدود الانفتاح على فصائل الجيش الحر، والعلاقة مع الفصائل الجهادية، والتعاون الإقليمي، والموقف من التحالف الدولي لقتال داعش بشكل قد يؤدي إلى حصول انشقاقات أو انفصال بعض الألوية والفصائل المبايعة عنها.
• التداعيات على الجبهة الإسلامية:
طالما نظرت قيادة أحرار الشام إلى الجبهة الإسلامية على أنها مشروعها الذاتي، وظهرا صلبا يؤمن لها الحماية والتحصين ضد أخطار محتملة داخلية وخارجية لاسيما ضد تنظيم الدولة. لكن الجبهة وإن نجحت نسبيا في زيادة مستوى التنسيق بين فصائلها الأساسية على المستوى المناطقي كما جرى في حلب، أو مبادرة القضاء والقيادة الموحدة في الغوطة الشرقية، إلا أنها فشلت في مسعى الاندماج الكامل بين فصائلها كما طرح ميثاقها.
في المدى المتوسط، يبدو الحفاظ على الجبهة الإسلاميّة صعبا في ظل الظروف التي تمر بها الأزمة السورية والحراك الإقليمي والدولي المرافق لها، لاسيما بعد الإعلان عن التحالف الدوليّ وبدء عملياته في سورية، وتركيز الفصائل المسلحة على البعد المناطقي المحلي من جهة، والعلاقة مع التحالف الدولي من جهة أخرى كدافع للتوحد أو زيادة التنسيق أكثر من التركيز على التوجهات الفكرية والمشروع السياسي الموحد. وبناء عليه قد تتحول الجبهة الإسلاميّة إلى عنوان سياسي وإعلامي فقط إذا لم تنجح القيادة الجديدة لحركة أحرار الشام والتي تشكل ثقلا في الجبهة من إعادة تفعيل نشاطها العسكري. وفي هذا السياق يُنظر إلى مسعى القيادة السابقة للاندماج مع لواء التوحيد وجيش المجاهدين باعتباره خطوة هامة يقع على كاهل القيادة الجديدة إعادة طرحها لإعادة إحياء الجبهة وضم قوى جديدة إليها لمواجهة أخطار محدقة كتهديد تنظيم الدولة و قوات النظام. ويتطلب ذلك، إزالة الرواسب والتباينات السابقة حول طريقة إدارة عمل الجبهة على الصعيدين العسكري والسياسي مع باقي فصائلها وخاصة ألوية صقور الشام وجيش الإسلام وهما فصيلان رئيسان كانا قد اتخذا قرارا بداية شهر آب/ أغسطس 2014 بالاندماج الكامل سياسيا وعسكريا، لكنه ما يزال مجمدا.
والجدير بالذكر أن الزعيم الجديد للأحرار أبو جابر كان من أوائل من دخلوا في مواجهة مع تنظيم الدولة عندما عندما كان أميرا للحركة على مسكنة في ريف حلب الشرقي. وقد تعهد في كلمته عند اختياره بمتابعة قتال الدولتين في إشارة إلى الموقف من تنظيم الدولة.
• التداعيات على مبادرة واعتصموا:
شكلت مبادرة " واعتصموا" امتحانا كبيرا لحركة أحرار الشام لتحديد هويتها بشكل نهائي؛ هل هي حركة ثورية سورية أم حركة سلفية جهاديّة؟. أيدت قيادة الحركة المبادرة لكن مجلس الشورى لم ينجح باتخاذ قرار حاسم بشأن الانضمام إليها. فالمبادرة، وفق رؤية الحركة، جاءت في سياق إقليمي ودوليّ يهدف إلى تشكيل قوة تدخل بقيادة موحدة تساعد التحالف الدولي في هزيمة تنظيم الدولة والتطرف الإسلامي، وهو عنوان عريض تخشى أن تصنف الحركة تحته في ظل مساعي دولية وإقليمية سابقا لإدراجها على لائحة المنظمات الإرهابيّة. في المقابل طرح الداعية السلفي الأردني إياد القنيبي مبادرة "الاصطفاف السني"، ويطالب بضرورة اتحاد "إخوة المنهج" في إشارة إلى تنظيم الدولة والنصرة وأحرار الشام وباقي فصائل السلفية الجهادية وتجاوز خلافاتهم لقتال من "يحاربون بالوكالة عن النظام الدولي" في إشارة إلى الجيش الحر والفصائل الإسلامية الأخرى الراغبة في الانضمام للتحالف الدولي. وقد استحوذت مبادرة القنيبي، وإن رفضت ضمنيًا في مواقف وتصريحات لبعض القادة القتلى، على مساحة من النقاش ضمن أوساط الحركة.
يمكن القول إن مبادرة واعتصموا رسخت وجود تيارين متباينين داخل الحركة على قرار يعتبرونه مصيريا وفارقا. الأول: منفتح، يطالب بالانضمام للمبادرة لاحتواء التغيرات في الإقليم والنظام الدولي ولكي لا ينتهي " المشروع الجهادي" في الكهوف والجبال، ويجادل بأن الحركه هي مشروع جهادي لا تنظيم وأن التعاون مع الفصائل السورية ضد ما يسمونه "صيالة" واعتداء تنظيم الدولة هو الطريق الأفضل للحفاظ على "المشروع الجهادي في الشام" وأن سورية كساحة جغرافية متأثرة بالقوى الإقليمية تفرض على الحركة التلاقي مع هذه القوى لا بل ومع قوى دولية عبر قنوات غير مباشرة إذا ما تقاطعت المصالح. ومن أبرز شخصيات هذا التيار شرعيو الجبهة ومنهم ابو عبد الملك الشرعي و أبو يزن الشامي الذي كتب قبل مقتله " إننا نملك رصاصتين في جعبتنا: الأولى الجبهة الاسلامية وقد اطلقناها، والثانية الانفتاح على الأمة".
الثاني: منغلق؛ يرى أحرار الشام حركة سلفية جهادية تقاتل لإعلاء سلطان الله وتحكيم الشريعة وإرساء الحكم الإسلامي الراشد. لا يمانع أنصاره في المرونة والانفتاح على الآخر لخدمة المشروع الجهادي لكنهم يرفضون أي مشروع يتعارض مع مبادئ الحركة وأهدافها، والدخول في أي تحالف دوليّ وإقليمي مع قوى " يكفرونها".
لطالما سعت القيادة السابقة للأحرار التوفيق بين التيارين، لكنها عجزت عن اتخاذ قرار واضح بشأن المبادرة والتعاون مع التحالف الدولي. وبناء عليه، فإنه من المرجح أن تقلد القيادة الجديدة سابقتها في سلوكها التوفيقي دون أن تمتلك القدرة على الانضمام لهذه المبادرة خشية انشقاقات واختلالات داخل الحركة. ويعزز من هذا الموقف قيام قوات التحالف الدوليّ باستهداف مواقع جبهة النصرة في اليوم الآول من بدء الضربات الجوية في سوريّة.
بالمحصلة، ستبقى حركة أحرار الشام حتى وإن تراجعت فاعليتها العسكرية من أقوى الفصائل العسكرية السوريّة التي تواجه قوات النظام ومقاتلي تنظيم الدولة. ومن المتوقع أن تسهم مراجعاتها في إعادة النظر بتوجهاتها السياسية وطروحاتها الأيديولوجية، لتصبح على المدى المتوسط قوة ثورية مسلحة، وليست حركة سلفية جهادية. إلا أنه ونظرا لعوائق داخلية وخارجية، فإن هذا التوجه قد لا يكون ممكناً في الظروف الحالية، وستسعى الحركة ما أمكن للتركيز على احتواء خلافاتها الداخلية والحفاظ على بنيتها التنظيمية قبل الانضمام لأي مشروع قائم.
في حزيران (يونيو) 1919، أرسلت الحكومة التركية الى مؤتمر فرساي رئيس الوزراء الدامات فريد باشا، بهدف إقناع المجتمعين بأهمية التنسيق مع بلاده. وقدم فريد باشا الى قادة المؤتمر مذكرة سياسية تتضمن مختلف المطالب التي تتمنى بلاده تحقيقها. وكانت، في مجملها، تركز على ضرورة المحافظة على الحدود الجغرافية بعد انهيار الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف.
وجاء في المذكرة ما حمل الرئيس الاميركي وودرو ويلسون، ورئيس الحكومة البريطانية ديفيد لويد جورج، ورئيس الحكومة الفرنسية جورج كليمنصو... على إعلان استنكارهم وغضبهم. والسبب أن تركيا، الدولة المهزومة في الحرب العالمية الأولى، طالبت المجتمعين في قصر فرساي بالامتناع عن توزيع أراضيها على الأكراد والأرمن واليونانيين! كما شددت المذكرة أيضاً على أهمية الاحتفاط بولاية الموصل وديار بكر والجزء الأكبر من ولاية حلب.
وكان من الطبيعي أن تُقابَل تلك المطالب بالرفض القاطع، مع تبرير معلن خلاصته: إن الامبراطورية المسلمة فشلت في إنصاف الأقليات المنضوية تحت لوائها، وخصوصاً الأقليات المسلمة.
ومن المفيد التذكير بأن ولاية الموصل في العهد العثماني كانت تمتد من زاخو، جنوب شرقي الأناضول، مروراً بداهوك وأربيل والغوش وكركوك والسليمانية... حتى جبال زاغروس، التي تشكل الحدود مع ايران.
وعلى رغم اختلاف الأزمنة والقادة، فإن أنقرة اليوم تسعى الى إقناع الدول الغربية بضرورة اعتماد سياستها في منطقة تعتبرها امتداداً طبيعياً لجغرافيتها القديمة.
وكما شكك زعماء مؤتمر فرساي بنيّات الدولة العثمانية... كذلك شككت واشنطن اليوم بمطامع الرئيس رجب طيب اردوغان الذي يربط تعاونه العسكري للمشاركة في محاربة «داعش» بالعمل أولاً على إسقاط نظام بشار الأسد.
وقد شهدت الأيام القليلة الماضية سلسلة وقائع سياسية تعكس الى حد كبير الخلاف الاميركي- التركي حول مستقبل سورية. والمَثل على ذلك ما صرَّح به نائب الرئيس الاميركي جو بايدن الذي ألقى على تركيا مسؤولية إبراز «داعش»، وإظهاره بمظهر الجهة المتفهمة. وكان بايدن بهذا التلميح يشير، مداورة، الى عملية إنقاذ الرهائن الأتراك وما رافقها من تفاسير مريبة.
والملاحظ أن ذلك الخلاف قد تجدد عقب محاصرة مدينة عين العرب (كوباني)، ومطالبة واشنطن بالإسراع في نقل مساعدات عسكرية الى الأكراد المعزولين والمهددين في الداخل. وتبيَّن لاحقاً أن أنقرة تجاهلت نداء الادارة الاميركية لأنها كانت تتوقع من الرئيس باراك اوباما إعلان موقف نهائي حيال الحرب الأهلية في سورية.
يقول المراقبون إن الدولة التركية الحديثة تتوقع من سورية والعراق وإيران معاملة شبيهة بالمعاملة التي طلبها فريد باشا من باريس قبل مئة سنة.
وقد حظي هذا الاستنتاج بموافقة الدول التي تعاملت مع رئيس وزراء تركيا الحالي أحمد داود اوغلو، مُنَظّر مرحلة الانفتاح على فضاء الشرق الأوسط.
والثابت أن اردوغان استبعد صديقه ورفيق دربه عبدالله غل، واستعاض عنه بمستشاره اوغلو. والسبب أن غل رفض مبدأ تقسيم سورية خوفاً من انتقال العدوى الى بلاده... وأنه سعى الى منع تدهور العلاقات السياسية مع مصر، خصوصاً بعدما ادّعت أنقرة أن دفاعها عن الاسلام السنّي يفوق دفاع القاهرة.
ومن أجل تأمين هذا النهج السياسي، قرر اردوغان القيام بخطوات تكتيكية من شأنها إضعاف جارتيه، سورية والعراق. وعليه، فضَّل التعامل مع الاسلاميين المعتدلين في سورية... ومع التركمان والسنّة في شمال العراق... ومع مسعود بارزاني في كردستان، رئيس الحزب الديموقراطي.
وبما أن اردوغان يحاول تقليد ملهمه التاريخي كمال اتاتورك، فقد طلب من الاميركيين التعاون في رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد. كما طلب اعتماد بلاده، العضو في حلف شمال الأطلسي، المرجعية والبوصلة السياسية في المنطقة.
قبل اجتماع القادة العسكريين لدول التحالف في واشنطن، زارت الناطقة باسم الخارجية الاميركية، ماري هارف، رئيس الوزراء التركي أحمد داود اوغلو في أنقرة. واستعرضت معه مختلف جبهات القتال ضد «داعش»، على أمل إقناعه بضرورة الدفاع عن مدينة عين العرب المعرَّضة للاجتياح. وشعرت بالاستياء والإحباط بسبب تحفظه وانتقاده لأداء الجيوش العربية التي تملك أفضل الأسلحة الهجومية، والتي تدربت على مكافحة الارهاب مدة طويلة من الزمن. وأبلغها أن مسألة الأكراد تشكل «كعب أخيل»، أي نقطة الضعف بالنسبة الى حكومته.
وكان بهذا التلميح يشير الى التظاهرات الضخمة التي حشدتها جماعة عبدالله اوجلان - حزب العمال الكردستاني - في أنقرة وسائر المدن الكبرى. وقد واجهتها الدولة بإعلان حظر التجول وإنزال الجيش الى الشوارع بغرض فرض التهدئة ومنع الشغب.
كتبت الصحف الاوروبية تتهم اردوغان بالتحايل وخداع المجتمع الدولي، خصوصاً عندما وعد بإعادة مليون ونصف المليون كردي الى المواقع التي هربوا منها في سورية. ووصفت هذا الوعد بأنه «ابتزاز فاضح يرمي الى تطويع هذه الفئة من الأكراد المحسوبين على نظام الأسد».
وتزعم جماعة عبدالله اوجلان أن الرئيس التركي تساهل جداً في موضوع مقاومة «داعش» ومحاصرة كوباني، لأنه ربح من جهة أخرى أكراد سورية الذين منعوه من فرض منطقة عازلة تشبه المنطقة العازلة لأكراد العراق (1991). وهو يتصور أن قيام هذه المنطقة سيقود تلقائياً الى تقسيم سورية، أو الى انهيار النظام لمصلحة المعارضة المعتدلة التي جعلت اسطنبول مركزاً لنشاطاتها.
وفي هذا الأسبوع، صدت قوات البيشمركة الكردية هجمات لتنظيم «الدولة الاسلامية»، وسط أنباء عن تحصّن «الخليفة» أبو بكر البغدادي في قضاء الحويجة. وقد شاركت قوات الجو الاميركي في عملية القصف، بعدما انتشرت معلومات استخبارية تشير الى وجوده في تلك المنطقة. ثم تبين لاحقاً أن «داعش» هو الذي عمَّم هذه الأنباء المضلِلة بغرض إحداث بلبلة داخل كردستان، ومنع العرب والأجانب من العمل فيها.
وتشير المعلومات الى وجود نحو ثلاثين ألف لبناني في مدن كردستان. وقد ازدادت أعدادهم عقب التسهيلات التي منحتها حكومة مسعود بارزاني، والخدمات المصرفية والسياحية والإعمارية التي شهدتها أربيل والسليمانية وداهوك وكركوك. وتتركز مختلف القطاعات في أربيل حيث تظهر يافطات: بنك بلوم (لبنان والمهجر)، وبنك عودة، وبنك بيبلوس، وبنك البحر المتوسط، وفرنسبنك، وبنك بيروت والبلدان العربية، وبنك انتركونتننتال، الخ.
أما الشركات التجارية والصناعية والخدماتية فكثيرة، بينها: وكالات السجاير، اندفكو (شفيق افرام) جان فتال، أولاد جورج أبو عضل، يارد، وردة، دار الهندسة، خطيب وعلمي، شركة زوزيك، الشركة العربية للمقاولات (ميقاتي). كذلك قام اللبنانيون بتأسيس فنادق عدة من الدرجة الأولى، إضافة الى فتح مطاعم تقدم المازة مثل «الصفدي» و «الأفندي».
ومن زوار أربيل الدائمين الرئيس السابق الشيخ أمين الجميل والدكتور سمير جعجع. وقد زار البطريرك الماروني بشارة الراعي أربيل لتقديم الشكر الى المسؤولين في كردستان على حسن استقبالهم لمسيحيي الموصل.
وبين الأخبار، التي طغت على أخبار «داعش» هذا الأسبوع، كان الهجوم الثاني الذي قام به الحوثيون على الحديدة، عقب استيلائهم على العاصمة صنعاء. وبما أنهم لا يتحركون، ولا يتمددون، إلا بإذن طهران وتوجيهاتها السياسية، فإن سيطرتهم على معظم المحافظات اليمنية الشمالية تُعتَبَر المدخل الوسيع لإحكام قبضتهم على كل اليمن الشمالي.
ويعزو المراقبون توقيت هذه الخطوة الى التنازلات التي قدمتها الولايات المتحدة لتركيا، الدولة الطامحة الى عقد معاهدة سلام مع «داعش»، والى إسقاط نظام الأسد. وفي الحالين، تكون ايران هي الخاسر الأكبر.
لهذه الأسباب وسواها، يرى المحللون أن تحويل اليمن الى ساحة جديدة للصراع الايراني - السعودي - الاميركي - الخليجي سيضمن للجمهورية الاسلامية الاستيلاء على أربع عواصم عربية هي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
قبل أربعة أشهر، طلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من الحكومة الايرانية أن تتعامل مع الشعب اليمني على أساس المنطق والمساواة، من دون أن تفرِّق بين شيعي وسنّي. ورداً على ذلك التصريح، أعلنت الحكومة الايرانية أنها لا تريد سوى الخير للشعب اليمني. كذلك دعم المرشد الأعلى علي خامنئي التمدد الحوثي، الذي وصفه الرئيس حسن روحاني بأنه «نصر باهر... وشجاعة كبيرة».
وعلى ضجة هذا الاختراق، استيقظ اليمن الجنوبي ليطالب أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون بضرورة إعلان استقلال الجنوب عن الشمال. كما طالب الرئيس السابق علي سالم البيض باستعادة المقعد في المنظمة الدولية، الذي حصل عليه في 12 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1967.
اسطنبول – «القدس العربي»: تتصاعد بشكل متسارع حدة المصاعب والتحديات التي تواجه الحكومة التركية في ظل موجة احتجاجات دموية شهدتها البلاد هددت بانهيار «مسيرة السلام» مع الأكراد، بالتوازي مع توسع سيطرة «داعش» على الحدود السورية مع تركيا، وسط خشية أنقرة من محاولات دولية لتوريطها في عملية برية ضد التنظيم دون تلبية مطالبها بإقامة منطقة عازلة تساهم في إسقاط النظام السوري.
وبعد أكثر من عامين من مفاوضات «غبر مباشرة» بين الحكومة وعبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني يبدو أن»مسيرة السلام» تواجه أصعب تحدياتها عقب الاحتجاجات الواسعة التي قادها الحزب داخل البلاد ضد الهجمات التي يشنها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» على مدينة عين العرب «كوباني» ذات الأغلبية الكردية، في سوريا، والمطالبات بتدخل الجيش التركي لحماية المدينة من السقوط في يد التنظيم الذي بات يسيطر على معظم أحيائها.
وبحسب رئيس الوزراء التركي «أحمد داود أوغلو» فإن الإحتجاجات الواسعة التي قادها الأكراد في البلاد أدت إلى مقتل 33 مواطنا وعنصرين من الشرطة، وإصابة 135 شرطيًّا بجروح، وإحراق 531 سيارة شرطة، و631 سيارة مدنية، إضافة إلى تخريب 1122 مبنى؛ بينها 214 مدرسة، ومراكز تعليم القرآن الكريم، ومتاحف ومكتبات، وأعلنت مصادر طبية في وقت لاحق وفاة أحد الجرحى مما رفع إجمالي عدد قتلى الأحداث إلى 36 قتيلاً.
وعلى الرغم من توقف الاشتباكات منذ عدة أيام إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأركان الحكومة واصلوا توعدهم بملاحقة المسؤولين عن الأحداث وتقديمهم للمحاكمة بتهم التسبب في وفاة مدنيين وقتل رجال شرطة، بالإضافة إلى إثارة الشغب والإخلال بالأمن العام، وسط اتهامات لأطراف خارجية بالعمل على استغلال الأحداث لـ»زعزعة استقرار البلاد ونشر الفوضى».
واعتبر أردوغان أن الاحتجاج من أجل (كوباني) هو «مجرد ذريعة لإستهداف الوحدة الوطنية في تركيا» متهماً حزب «العمال الكردستاني» وحزب «الشعوب الديمقراطي» بالوقوف وراء هذه الأحداث، فضلا عن حزب المعارضة الرئيسي «الشعب الجمهوري»، وبعض وسائل الإعلام في الداخل والخارج، و»القوى الظلامية التي تقوم بعمليات عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي».
وتحاول الحكومة التركية بشكل متواصل التفريق بين المواطنين الأكراد وعناصر حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره منظمة «إرهابية» في محاولة لنزع شرعية تمثيل الحزب عن المواطنين الأكراد، وحشد الدعم لـ»مسيرة السلام» التي تهدف للتوصل إلــى حل نهائي للقضية الكردية ومنحهم المزيد مـــن الحقوق والحريات، بعد عشرات السنوات من القتال أدت إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص.
وفي هذا الإطار قال أردوغان: «هؤلاء يُظهرون للعالم بأسره كم هم همجيون، عبر إحراق مدارس، ومتاحف، ومكتبات، وكتب، ويفعلون ذلك بصورة متعمدة، كي لا يتعلم الأكراد، ويبقون جاهلين، ولكي لا يذهب الأطفال الأكراد إلى المدارس، لأنهم إذا درسوا فلن يقعوا فريسة لمكائدهم، واستغلالهم».
وهدد الرئيس التركي منظمي الإحتجاجات بشكل غير مسبوق، قائلاً: «تركيا ليست دولة ترضخ أمام حفنة منهم، لقد أضرموا النار في الممتلكات، لكنهم سيدفعون الثمن غاليًا، ونحن سنبني ما هو أجمل مما دُمر»، مضيفاً: «لا نرضخ لهؤلاء الذين يلعبون دور المطية في يد جهات دولية قذرة، بذريعة كوباني، وسنحاسبهم على ذلك».
وتعتقد العديد من الأوساط التركية ان أطرافاً دولية تهدف من خلال اثارة الإحتجاجات الداخلية والهجوم الإعلامي على تركيا واتهامها بدعم التنظيمات الإرهابية إلى دفع أنقرة للدخول في التحالف الدولي وشن حرب برية ضد «داعش» في سوريا بشكل منفرد، وهو ما يجعل الحكومة التركية تتردد في الالتحاق بالتحالف الذي يشن هجمات جوية ضد التنظيم منذ نحو الشهرين في سوريا والعراق.
وفي تصريحات أخرى، اعتبر أردوغان أن «اللعبة التي تُحاك ضد تركيا في الوقت الراهن واضحة للجميع» متعهداً بمواصلة «نضاله وكفاحه من أجل خدمة تركيا وشعبها»، بحسب قوله، لافتاً إلى أن هدف الإحتجاجات «تعطيل مسيرة السلام التي تهدف إلى إنهاء أعمال العنف والإرهاب التي شهدتها تركيا على مدار عقود».
وقال: «بعض الصحف، والمجلات الدولية قالت بلهجة مشتركة، إن مسيرة السلام الداخلي في تركيا تنتهي (…) إننا لا نضحي بمسيرة السلام من أجل الإرهاب، والمنظمات الإرهابية، ومكائدها الدموية، إن مسيرة السلام، هي مسيرة «أخوة»، وإن شاء الله تركيا ستؤسس لأخوة (77) مليون مواطن فيها».
وأعلن نائب رئيس حزب العدالة والتنمية التركي «بشير أطلاي»، الخميس أن الأيام المقبلة ستشهد حركة متسارعة، في مسيرة السلام الداخلي، نافياً ما سماها «الإشاعات» التي تحدثت عن إمكانية نقل «عبد الله أوجلان»، من معتقله إلى معتقل آخر.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينغ «أن المسألة ليست مسألة كوباني بل هي الرغبة في القيام بتمرد طالما فشلوا في تحقيقه، ولن يوفقوا في تحقيقه بعد الآن، بل سنقلب الدنيا على رؤوسهم». وجه صلاح الدين دميرطاش زعيم حزب «الشعوب الديمقراطي» المعارض (ذو الغالبية الكردية) انتقادات للحكومة التركية، مؤكدا أن حزبه لم يطلب تدخل الجيش التركي، من أجل إنقاذ مدينة «كوباني» السورية، بل طلب «فتح ممر لعبور المقاتلين الأكراد من تركيا»، من أجل المساهمة في الدفاع عن المدينة، على حد قوله.
ونفى دميرطاش في كلمته أمام الكتلة النيابية لحزبه، مسؤولية الحزب عن أحداث الشغب التي رافقت المظاهرات، وحذر من أنه في حال سقوط كوباني، فإن المدينة ستشهد مجازر، معتبرا أن «الحكومة التركية ستكون مسؤولة عن ذلك نظرا لعدم فتحها ممرا لعبور المقاتلين الأكراد».
من جهته اعتبر رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو أن «مسيرة السلام الداخلي» مستمرة «بإرادة الحكومة التركية، وليس برغبة أي تنظيم، والأكراد والأتراك تربطهم أواصر تاريخية قديمة جمعت بينهم على هذه الأرض».
وترأس أوغلو، الخميس، اجتماعاً لمناقشة التطورات في «مسيرة السلام الداخلي» بعد الأحداث التي شهدتها البلاد، في مقر رئاسة الوزراء في العاصمة أنقرة، بمشاركة وزير الداخلية فاكان ألا والدفاع عصمت يلماز وحقان فيدان، رئيس هيئة الاستخبارات، والمهندس الأول للمفاوضات.
وشملت المرحلة الأولى من «عملية السلام» وقف عمليات حزب «العمال الكردستاني» وانسحاب عناصره خارج الحدود التركية، وقد نفذ شق كبير منها، فيما تتضمن المرحلة الثانية عددا من الخطوات الرامية لتعزيز الديمقراطية في البلاد، وصولا إلى مرحلة مساعدة أعضاء المنظمة الراغبين في العودة إلى البلاد، على العودة، والإنخراط في المجتمع.
وتقول الحكومة التركية انها استقبلت 200 ألف لاجئ، فروا نتيجــــة هجوم «داعش» على مدينة عين العرب (كوباني) بدون أي مســــاءلة، وقال أوغلو: «تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي قدمت أكثر المساعدات الملموسة من أجل كوباني، ومدت يد العون للمدنيين فيها، حيث فتحت أبوابها أمامهم، واستضافت 200 ألف لاجىء قادم منها».
إسماعيل جمال