لا غرابة أن نشهد خلال الأيام القليلة القادمة ظهور جديد لاستخدام غاز الكلور كسلاح فتاك في الحرب السورية ، و لا غرابة أن يتم ذلك على منطقة أو منطقتين من المناطق الخاضعة لقوات الأسد ، فالجهود التي بُذلت طوال الشهور الماضية يجب أن لا تضيع سداً.
خرج بالأمس مجلس الأمن منتصراً على ذاته باستحواذ قرار على موافقة 14 دولة ، و امتناع واحدة عن التصويت دون ابداء الرفض ، حول ادانة استخدام غاز الكلور كسلاح فتاك في الصراع الدائر في سوريا .
القرار المعجزة جاء أصماً و أبكماً عن المرتكب لهذه الجريمة ، ليكتمل الفصل الجديد من الجهود الروسية التي قادة حملة شعواء ضد أي محاولة لوضع نظام الأسد حتى في خانة الاتهام و ليس الإدانة.
فبعد الاستخدام الأشهر و الأوضح في غوطة دمشق في آب 2013 ، و ما تبعها من تهديدات باستخدام القوة ضد الأسد كونه تجاوز خط أوباما الأحمر ، هدّأت روسيا الأوضاع و تم الاتفاق على نزع أنياب نظام الأسد الكيميائية ، و دفن الجريمة مؤقتاً ريثما تهدأ العاصفة و يجد مخرجاً يكون مضموناً كما اعتادت القذارة الروسية على دفن جرائهما.
و خلال الشهور الأربعة الماضية دأبت روسيا توجيه نظام الأسد لإعداد تقارير عن وجود مواد كيماوية لدى المعارضة عموماً ، و تنظيم الدولة بشكل مسمى و عريض ، لتتالى بعدها التقارير واحداً تولى الآخر و تعمل روسيا على بثها و تأكيدها و توثيقها ، بالتزامن مع أحاديث و تقارير من منظمة نزع الأسلحة الكيميائية التي تخرج بين الفينة و الأخرى لتقول أنها دمرت منشأة أو اثنتين أو انها باتت قريبة من انهاء السلاح الكيماوي الموجود لدى الأسد ، حتى عندما أرسلت الأمم المتحدة لجنة لتقصي الحقائق حول استخدام الكيماوي كان الطلب محدداً أن يتم التثبت من استخدام هذا السلاح ، دون التطرق أو الاقتراب من قام بهذا الفعل !!.
هذه الجهود تم تكلليها بقرار اخذ ظاهره أنه أمريكي ، و دون علم روسيا ، ولكن مع صدوره و قبول و سعادة روسيا به ، بات الأمر واضحاً ، أن "الطبخة انتهت" و بحاجة لبعض المنكهات لتكون جاهزة تماماً.
خلو القرار من تسمية المجرم و تضمينه لغة التهديد تحت الفصل السابع لمن يستخدم هذا السلاح في المستقبل ، فإن الأمر يدل على أن الحسم و توجيه ضربة إضافية للثورة و الثوار ، لتكون عمليات القصف و التدمير و القتل مباحة و مسموح بها ، و حتى مع مساندة دولية .
ولا غرابة أن يكون تفكيرنا هكذا و لا غرابة أن نتحضّر لفصل جديد و تهمة جديدة تساق إلى الثورة و الثوار ... فاليوم نحن إرهابيين ، طائفين ، غائرين في الاجرام ، متمرسين في الإتجار بالدم ، نستجلب مقاتلين من كل العالم المنافق ، و لم يعد ينقصنا إلا استخدام السلاح الكيماوي لنكون قد أنهينا كافة فصول الجريمة بحق الوطن .
يبدو لافتاً اليوم، وعلى رغم صعود التطرف السياسي بمختلف أشكاله الدينية والدنيوية، تراجع نزعة الاستقلال القومي عند أكراد سورية لحساب الروح الوطنية، وتقدم خطاب يجاهر بانتمائهم الوطني وبقلق كبير على مصير الاجتماع السوري. ولا يغير هذا الأمر بل يؤكده تشديد مطالبتهم بحق الإدارة الذاتية، وبوضع دستور ديموقراطي يكرس الكرد كقومية ثانية، ثم سرعة تطويق الاندفاعات القومية الثأرية التي تخللت الصراع الدائر، وكأن هؤلاء الانفصاليين، الذين طالما كان يشك بولائهم لوطنهم، يريدون أن يثبتوا عملياً أنهم لن ينتهزوا الفرصة التي يوفرها الاضطراب الراهن لدفع هدفهم القومي إلى حده الأقصى، الأمر الذي أثار في تفسيره حزمة من الاجتهادات.
ثمة من يعتبر الموقف أحد تداعيات الانتصار النسبي الذي تحقق في عين العرب (كوباني) ضد تنظيم داعش، إن لجهة انكشاف حدود القدرة الذاتية الكردية على تحقيق مطامحها القومية إن لم تأخذ في الاعتبار الدعم الدولي والأفق المتاح إقليمياً، وإن لجهة منح الأكراد سمعة في المجتمع السوري كانوا بحاجة إليها للتخلص من عقدة المظلومية ولاستعادة الثقة بأنفسهم وبدور يمكن أن يلعبوه لإنقاذ الوطن من المسار المأسوي الذي وضع فيه، متوسلين اعترافاً شعبياً وسياسياً، تكرس موضوعياً، بحقوقهم القومية، وقربهم من آمال غالبية السوريين التي تجمع بين تغيير واقع الاستبداد القائم ورفض الجماعات الإسلاموية كبديل، وأيضاً من تاريخٍ يضج بأسماء كردية تبوأت النضال من أجل الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، وربما من حرج أخلاقي يعيب فكرة الخلاص الذاتي، كجماعة قومية، تترك مجتمعاً، احتضنها وخفف الظلم عنها، وحيداً في محنته.
وهناك من يقلل من مبدئية هذا التوجه ويعتبره براغماتياً وطارئاً فرضته عوامل لا علاقة لها بالقيم الوطنية والجذور الفكرية للأكراد السوريين، إما لحسابات تتعلق بالموقف التركي وقدرته على سحق كيان قومي معادٍ يمتد على شريط حدودي يفتقد العمق الجغرافي ومخترق بجيوب عربية وتحيط به قوات تنظيم داعش، وإذا أضفنا ضعف القدرة الاقتصادية للوليد القومي وتحكم الجارة التركية به، كأهم معبر له إلى العالم، وكمصدر وحيد لضمان حاجته من المياه، وأضفنا أيضاً طابع الوجود الكردي في سورية الذي لا يشكل موقعاً مركزياً في النضال القومي، ويستحيل عليه أن يزايد على موقف أقرانه في تركيا، الذين، وبرغم ثقلهم السياسي والاجتماعي، طووا صفحة الاستقلال واكتفوا بمطلب الحكم الذاتي في إطار الدولة التركية، نقف عند أهم الأسباب التي تشجع أكراد سورية على تخفيف نزعتهم الاستقلالية والالتفات لمعالجة مظالمهم القومية في الإطار الوطني الديموقراطي. وإما لأن ليس هناك ما يغري عملياً في الدولة القومية المستقلة، والأمر لا يتعلق فقط بما يكابده النموذج السياسي الكردي في العراق بقدر ما يتعلق بتجربة الإدارة الذاتية التي قادها الحزب الديموقراطي الكردي أو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، حيث تحول حلم الأكراد بكيان يخلصهم من تشتتهم ومن اضطهاد الأقوام الأخرى، إلى معاناة جديدة من حكم متسلط يحاول التفرد بالقوة والاستئثار بكل شيء، لكن هذه المرة تحت غطاء قومي، ويزيد الأمر وضوحاً تنامي ما يسمى الإسلام الكردي وتمدد تنظيم داعش وما يشكلانه من تهديد إنساني، الأمر الذي يعطي أهمية مضافة للرابطة الوطنية، كطريق أجدى في مواجهتهما.
في المقابل ثمة من لا يعتبر الموقف الوطني لأكراد سورية أمراً جديداً ويرجعه إلى خصوصيتهم التكوينية وميلهم تاريخياً نحو تغليب وطنيتهم على حساب الهم القومي، حيث تبنت غالبية تعبيراتهم السياسية شعارات تؤكد على الانتماء السوري وقرنت إنهاء الظلم والتمييز بضمان حقوقها القومية في دولة المواطنة الديموقراطية، وبعبارة أخرى، لم يطرح حل القضية الكردية في سورية بمعزل عن المعاناة المشتركة لعموم السوريين، بل ظلت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمجمل المعضلات السياسية العامة لدرجة أنها أصبحت قضية وطنية بامتياز. ونضيف أن الأكراد السوريين كانوا أكثر المعنيين، بحكم وزنهم وموقعهم، بتمثل دروس هزائم شعبهم والتجارب التاريخية التي مر بها، ما جعلهم أشد المدافعين عن أولوية الانتصار للوطن الديموقراطي التعددي كمدخل لحل معضلتهم القومية ولقطع الطريق على أطراف دولية وإقليمية تستخدم المسألة الكردية وسيلة أو ورقة ضغط في صراعاتها وتسوياتها.
واستدراكاً، ربما يعتقد البعض أن ثمة مبالغة مقصودة في إظهار تقدم الروح الوطنية للأكراد السوريين بغرض مغازلتهم واستمالتهم والاتكاء عليهم كطرف واعد ومقبول لملء فراغ سياسي. وإذا افترضنا جدلاً صحة ذلك، وهو ليس قائماً، فما الضير من التعويل على هذه الكتلة، في هذا الوقت العصيب بالذات، كرافعة من الروافع القادرة على حماية الوحدة الوطنية وانتشال البلاد من محنتها الدموية؟! وأين الخطأ في التشجيع على دور وطني للأكراد يحدث نقلة نوعية ليس فقط في ملف قضيتهم القومية وإنما أيضاً في جهود إنقاذ بلدهم ومستقبل جميع السوريين؟!.
وأيضاً نسأل، ألا يشكل تراجع الأكراد عن تطرفهم القومي وتقدم همومهم الوطنية مثالاً يحتذى للرد على طبيعة الصراع السوري وما يولده من عنف وتعصب وشروخ وتخندقات؟ وألا تقتضي المصلحة الجمعية من السوريين على مختلف فئاتهم وأطيافهم، تفهم التحولات والتغيرات التي يفرزها صراع دامٍ ومزمن، والمبادرة لدعم وطنية كردية تعزز فرص المعالجة السياسية وعملية الانتقال الشاقة إلى دولة مدنية تضمن حقوق الجميع بدون تمييز أو تفضيل قومي أو ديني أو مذهبي؟!.
ربما لا يزال في الأفق ما يشجع الرهان على ذخيرة السوريين في التسامح والتعايش وحماية هويتهم الوطنية ربطاً بحقيقة تاريخية يصعب تجاوزها في خصوصية بلادنا بتعددية مكوناتها الدينية والقومية، تتمثل، باستحالة عيش هذه المكونات كجماعات منفصلة آمنة مستقرة وقادرة على النماء والتطور، وبأن الخيار الوطني، هو أشبه بخيار إجباري، للحفاظ على الذات، وبناء مجتمع ديموقراطي مستقر يؤمن الجميع به.
قد تكون عبارة الحل السياسي هي أكثر ما يتم الحديث عنه سواء في الأوساط السياسية السورية على اختلاف مشاربها، أو في أروقة الدبلوماسية الدولية، وقد امتدت هذه العدوى اللفظية لتصل الأوساط الشعبية التي باتت تنتظر “الخلاص” الذي قد يجلبه الحل الموعود والذي لم يتم تقديم تصور له حتى الآن، لا من قبل النظام ولا من قبل المعارضة.
هذا الفشل ينسحب على من يمكن تسميتهم بالراعين أو المشرفين على المؤتمرين اللذين عقدا في جنيف، وقد كانت مبادئ جنيف 1 مرضية وقتها، وطالبت المعارضة بالعمل بها لكن النظام ماطل ثم عاد لاحقا، ليطالب بالعمل بتلك المبادئ، ثم نتج اللقاء الذي عقد مؤخرا في موسكو، والذي انتظرت عواصم كثيرة ما سيسفر عنه دون أن تكون متفائلة نظرا للمقدمات التي سبقته والتي أعلنتها موسكو برفضها لفكرة تنحي الأسد.
وفق ذلك، فإن البحث عن حل سياسي بات أمرا مربكا والأجدى هو البحث عن مقدمات سليمة للوصول إلى هذا الحل، وهو ما افترض المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا أنه منوط بالوصول إليه فتعددت زياراته ومقترحاته، بل تشعبت أفكاره إلى درجة دفعته لاعتبار الأسد جزءا من الحل وهو ما أثار حفيظة المعارضة التي اعتبرت أن المبعوث الأممي لا يدرك تعقيدات الوضع، ولا ينظر إلى الأسد بوصفه مسؤولا عن كل ما يحدث.
المبعوث الأممي طرح مؤخرا مبادرة لوقف القتال في حلب وقد ووجهت مبادرته بالرفض من الفصائل الموجودة على الأرض، والتي تساءلت لماذا حلب؟ وبينما حاول دي ميستورا توضيح أن خطته بداية لاتفاق قد يشمل باقي المناطق السورية، فإن النظام الذي أنكر قيامه بقصف حلب سارع إلى القبول بهذه المبادرة في ضوء الخسائر التي منيت بها قواته والميلشيات المقاتلة معها في الشمال السوري، فوجد أن هذه المبادرة بمثابة طوق النجاة الذي سيمكنه من رصّ صفوفه استعدادا للعودة التي حدد المبعوث الأممي مهلة لها ستة أسابيع.
دي ميستورا اكتفى بوصف الحالة بالحرب الأهلية، ملحقا هذا الوصف بما يعانيه الشعب السوري من صعوبات ومن تهجير، وهو محق في الشق الثاني من تشخيصه ولذلك فإنه قد يكون قادرا على الوصول إلى مقترحات تكون كفيلة بإنهاء المأساة، لكنه سيصطدم بالشق الأول من تشخيصه لأنه يتعامل مع النظام بوصفه نظاما شرعيا، وهذا ينافي تاريخ الحدث السوري الذي مرت عليه أربع سنوات ثقيلة، فإذا كان المطلوب من دي ميستورا جلب الأطراف المتحاربة للجلوس إلى طاولة مفاوضات وهو ما تفضي إليه الحروب عادة، فإن هذا لا يصح إطلاقا أمام هذا التعدد غير المسبوق في الجبهات والولاءات والاختلاف في الرؤى والتوجه لا بين أطراف المعارضة فقط، بل في ضفة النظام وحلفائه أيضا، فبينما لا يتوقف حزب الله اللبناني، الشريك الأساسي لنظام الأسد، عن تكرار أنه يقاتل في سوريا للدفاع عن المقدسات الشيعية، وهو ما تردده بعض الميليشيات العراقية أيضا، فإن هدف إيران يبدو مختلفا كليا وإن كانت توافق على ما يقوله نصرالله وحزبه، إلا أنها تفضل تصوير الأمر على أنه تحصيل حاصل لوقوفها في وجه “إسرائيل” هذا إذا أردنا أن نصدق هذه التصريحات. وبالمقابل فإن النظام يسوق في اليوم الواحد أكثر من رواية للمجازر التي يقابل بها الثورة السورية بدءا بدفاعه عن السيادة الوطنية، وصولا إلى مقاتلة الإرهاب والدفاع عن الإسلام المعتدل.
على هذا، فإن لم يضع دي ميستورا كل هذه الأطراف والتعقيدات في حسبانه فإنه لن يستطيع الوصول إلى الجهات التي يجب عليه دعوتها لطاولة الحوار التي يأمل بأن يصل إليها، وحتى يقتنع المبعوث الأممي بأن ما قدمه حتى الآن لا يعدو كونه ذراً للرماد في العيون، فإن الكارثة المطبقة على السوريين سوف تستمر حتى يقتنع أن النظام هو المشكلة وليس جزءا من الحل.
اختتمت القمة السعودية التركية التي عُقدت بجلسة مباحثات واسعة في الرياض خلال زيارة الرئيس التركي أردوغان في سياق متوقع، هذا السياق لا يتطابق مع المشاعر العاطفية التي يبديها الجمهور الخليجي والعربي الإسلامي تجاه آماله في مستوى العلاقة، لكنّه أيضا -ووفقاً للتحليل السياسي المهني- يتقدم خطوة مهمة للأمام، ويتجاوز مستوى من الخلافات في بعض الملفات.
الإعلان الرسمي في واس (وكالة الأنباء السعودية) وفي وكالة أنباء الأناضول التركية متشابه بشأن نتائج الزيارة أو توافقات المباحثات، لكنه كان أصرح في الأناضول. وإجمالاً تركزت المباحثات على وضع اليمن وسوريا والأوضاع الإقليمية، ثم خُصص الإعلان المهم عن سوريا باتفاق على دعم المعارضة السورية لإحداث تغيير ملموس على الأرض، وهذا نص مهم جداً في سياق الزيارة ومجمل العلاقات التركية السعودية.
وهذا يعني أن الرياض وأنقرة ثبتتا التعاون في مسارات التوافق ولكن بدفع جديد، وحيّدتا ولو مؤقتا الموقف من الملف المصري الذي يشهد تفاعلات واضطرابات كبيرة، قد تكون العاصمتان فضّلتا ترحيل أي بحث فيه حتى تستقر الأمور على وضع مختلف، أو تتبلور رؤية بينهما عن مستقبل مصر والتعاطي معه بالتعاون أو تنظيم الخلاف حوله.
أما الموضوع الثاني -وهو رغبة وأولوية سعودية- فقد كان طرح الملف اليمني بعد الانقلاب الحوثي وتمكّن الإيرانيين من ضم عاصمة عربية جديدة إليهم، مع إضافة مصطلح "الأوضاع الإقليمية" الذي يرمز لمناقشة ملف التوسع الإيراني في المنطقة.
وهي رغبة مشتركة بين الطرفين رغم وجود علاقة وجسور قائمة بين أنقرة وطهران، نتيجة للسياسة البرغماتية لدى الخارجية التركية التي تُراعي مصالح أمنها القومي، وتخشى استخدام أي نفوذ أو تحالفات ضدها، فتبقي الأبواب مفتوحة للجميع.
إلا أن ذلك لا يُلغي قلق تركيا الشديد من تغول الإيرانيين في ملفات واسعة على تماس مع أمنهم القومي مباشرة، إضافة للصراع السياسي الشرس في سوريا ودور إيران المباشر كشريك عسكري وسياسي كبير لنظام الأسد، ونفوذ إيران الخطير على أكراد سوريا، ومزجه بالملف الداخلي لتركيا، ثم وجود ملف داعش وكوباني في شراكة مزدوجة بين طهران وواشنطن خاصة في الميدان، وهي النقطة المهمة المشتركة مع السعوديين.
وبالتالي فإن الجديد هو توسّع فضاء التعاون بينهما بحيوية كبرى، ودعم تركيا للمبادرة السعودية الجديدة في اليمن -بتثبيت الشرعية ووقف هيمنة طهران عليه- هو إحدى النتائج التي يمكن استخلاصها من الزيارة، وإن لم تتضح تصورات القمة لمساعدة هذه الشرعية، لكن حيوية السياسة السعودية الأخيرة في اليمن بجمع القبائل والقطاعات الوطنية المتعددة مع الرئيس هادي تبدو ركيزة لهذا المشروع.
"الرياض وأنقرة ثبتتا التعاون في مسارات التوافق ولكن بدفع جديد، وحيّدتا ولو مؤقتا الموقف من الملف المصري الذي يشهد تفاعلات واضطرابات كبيرة، قد تكون العاصمتان فضّلتا ترحيل أي بحث فيه حتى تستقر الأمور على وضع مختلف"
ولكون قلب المشروع الإيراني التوسعي هو سوريا، فقد تم التأكيد على ملفها، وهو أهم ملف إقليمي حساس في ظل تقدم النظام وتهديده الماثل بإسقاط حلب، وبالتالي تصفية الثورة السورية نهائيا عبر وجبات مذابح كبرى تُنفذ من جديد قبل أن تصمت المدافع وتقف الدبابات على أشلاء عشرات الآلاف من أطفال سوريا.
وسواء تم تسلم حلب عبر نتائج جهود المبعوث الدولي دي ميستورا أو انهيارات عسكرية جديدة للثوار، فإن الخلاصة واحدة في نتائج هذه التصفية على بقية الشعب المنهك، ثم على المنطقة إثر إعلان إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة في عمق المشرق العربي.
غير أن الطريق إلى إعادة تنظيم الثورة السورية ليس بالأمر الهيّن، كبوابة مهمة للدعم والوصول إلى نتائج ملموسة تقود إلى النصر، أو إرغام النظام على الانسحاب والتنازل السياسي القهري.
ورغم مسؤولية الأطراف العربية عن ضعف التمويل أو غيابه -في توقيت مهم حساس، كانت فيه لدى الثورة قدرات لحسم المعركة وجسم اجتماعي رمزي توحدي- فإن المشكلة اليوم مع غياب الدعم والمنطقة الآمنة للمدنيين هو في واقع ميدان الثورة ذاته.
إن الحملة العسكرية التي شنتها جبهة النصرة على حزم ومجموعات الجيش السوري الحر، والتي وصلت إلى مستوى تصفيات لمواقع في ظل أحلك حصار على حلب مفروض من إيران، هي أحد هذه المظاهر، فتشرذم الثوار وعودة مجموعات من جبهة النصرة لاستنساخ ممارسات داعش وتفتيت الميدان المُجزأ أكثر، وعجز المشاريع المعلنة للتوحيد العسكري لجبهة ثوار سوريا الأصليين يفاقم الوضع.
وأولى مسؤوليات التغيير الملموس هي تغيير هذه الحالة الممزقة في ميدان الثوار، وتنسيق وضعها ودمجه في تصور سياسي محدد، عبر إعادة تفعيل المجلس الوطني السوري أو ببناء آخر، بخريطة اتفاق واضحة المعالم ومنظمة للعلاقات بين العسكري والسياسي وتسليم من يُختار للقيادة الزمام الفعلي للتوجيه.
وهنا يُطرح سؤال مهم، وهو: هل لدى الرياض وأنقرة قدرة على التأثير اللوجستي المهم في ساحات القتال بين فصائل الثوار والمجموعات السلفية المتداخلة مع الدعم الشعبي في المنطقة الخليجية؟ وخاصة أن النُصرة ليست شريحة واحدة، ففيها من يقترب من السلفية السنية المعتدلة، وفيها من هو منخرط كلياً في فكر داعش، والخلاف بينهما في توقيت التنفيذ فقط. وإجابة على هذا السؤال نقول: نعم.
"إن دخول الرياض وأنقرة بمشاركة قطر على الملف اللوجستي المتعلق بالثورة السورية قادر على التأثير ومساعدة كل المجموعات للتقارب لتتشكل جبهة مركزية بقيادة واحدة يكون بها الفعل الميداني قادرا على دفع إيران وتشكيلات النظام والميلشيات المنوعة عن مناطقه، وبالتالي صمود الثورة واستعادتها زمام المبادرة"
إن تعاون الرياض وأنقرة في تغيير العلاقات بين المجموعات الثورية والجهادية المختلفة (خارج داعش وبعض مجموعات النصرة) ممكن، وهو ما أضحى اليوم ضرورة في ظل الفشل الذاتي للميدان في تحقيق هذه الوحدة، ووجود قدرات الدعم المالي لدى توجهات مصلحية انتهازية أو متشددة، بينما يعاني الثوار الإسلاميون والوطنيون من حصار شديد وخانق على جبهاتهم.
ودخول الرياض وأنقرة بمشاركة قطر على هذا الملف اللوجستي -الذي يَعبر بطريقة غير علنية- قادر على التأثير ومساعدة كل المجموعات في التقارب.
وليس المقصود أن تنخرط كل مجموعة في البناء العسكري الموحد، وإنما المقصود أن تتشكل جبهة مركزية بقيادة واحدة من تشكيلات صلبة، فيكون الميدان قادرا على دفع إيران وتشكيلات النظام والميلشيات المنوعة عن مناطقه، وبالتالي صمود الثورة واستعادتها زمام المبادرة.
إن من المؤكد أن هذه الأمور ستتم عبر السوريين أنفسهم، لكن مستوى الضياع والتشتت والتشرذم -الذي يحبط اليوم الشعب السوري وهو ينزف- يحتاج إلى قوى مؤثرة في الحدود وفي الدعم الاجتماعي والثقافي للثورة.
وهي جهود وقوى دول وليس أفراد أو مشايخ مخلصين من الخليج، رأينا كيف توالت النكبات والانقسامات بعد تدخلهم، وإصرارهم على التمسك بقرار المرجعية الدينية للثورة من خارج الانسجام الإسلامي السني السوري.
فقدرات الدول تختلف، وحين تتحد على رؤية دعم لا جدول صراع وتنافس فبالإمكان تسخيرها لمصلحة الشعب السوري، وقد يسأل سائل: ماذا عن داعش في سوريا؟
ونقول إن داعش في سوريا، ورغم أنها لا تخوض معارك شرسة مع التحالف في سوريا -إلا في كوباني ولديها مساحة مسترخية في جبهات أخرى- فإن تراجع نفوذها واضح -ولا يُغيره الإنتاج الإعلامي المذهل الذي ينفذه جناحهم المعنوي القوي من المتطوعين- بين 1200 مليون مسلم.
وبشهادة الصحفي الألماني -الذي زار داعش بدعوة من خليفتها- فإن السوريين لا يمثلون إلا أقلية في التنظيم، خلافا لمنشئه في العراق الذي يعاني اليوم أيضاً سُنته من جولة النظام الطائفي عليهم باسم حروب داعش.
وقد يتشظى تنظيم داعش وتتوسع انشطاراته في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، وهذا يحتاج تفصيلا؛ لكنه سيتراجع في سوريا والعراق لحساب إيران والغرب فيخسر المشرق بصعوده وخسارته، في حين أن تنظيم صفوف الثورة السورية وإعادة بنيانها، سيقطع الطريق على هذا المشروع فتخرج سوريا بأمل الإنقاذ، قبل إعلان إيران والغرب النصر الجديد على العرب والمسلمين.
في الأسبوع المقبل تدخل الثورة السورية عامها الخامس، وقد بات السوريون يخشون أن تمر السنون، كما مرت على الفلسطينيين، والمفارقة أن أعداد المشردين السوريين تفوق بأضعاف أعداد الفلسطينين يوم تعرضوا للتشرد على مدى سنوات النكبة والنكسة، فقد أعلنت الأمم المتحدة أن عدد المشردين والنازحين، واللاجئين السوريين يزيد على أحد عشر مليوناً، وهذا رقم مثير، وهو يشكل عبئاً كبيراً على دول الجوار ودول اللجوء وبخاصة الأوروبية، التي باتت تضيق بكثرة الأعداد المتدفقة، والمفجع أن كثيراً من اللاجئين أو الهاربين هم من التكنوقراط، الذين يشكلون الطبقة المتعلمة العليا، فهناك -مثلاً- أكثر من ثلاثين ألف طبيب من مختلف الاختصاصات هاجروا في السنوات الأربع الماضية، وربما وصل العدد اليوم إلى أربعين ألفاً، وهؤلاء إضافة لآلاف الأطباء السوريين، الذين سبقت لهم الهجرة من سنوات مضت، حيث يقدر عدد الأطباء السوريين في ألمانيا وحدها بنحو عشرين ألفاً، وفي الولايات المتحدة يزيد العدد على ستة آلاف حتى مطلع العالم الماضي، ويضاف إلى الأطباء الصيادلة والقضاة وأساتذة الجامعات والمحامون وعشرات الآلاف من الموظفين ذوي الخبرات، ومئات الآلاف من أصحاب المهن، فضلاً عن رجال الأعمال الذين تعرضت منشآتهم للتدمير، أو سرقت أموالهم ولم ينجُ منهم إلا عدد قليل ممن تمكنوا من نقل استثماراتهم إلى الخارج، وتشكل هذه الهجرات خسارة كبرى لسوريا -فضلاً عن مئات الآلاف ممن قتلوا أو اعتقلوا وانتهت طاقاتهم- لأن كثيراً من هؤلاء المهجّرين قد يستقرون في بلاد اللجوء مع امتداد زمن المحنة، فتخسر سوريا كوادرها المقتدرة.
أما أبناء الطبقات دون المتوسطة علمياً فمنهم من هاجروا عبر مغامرات أسطورية عبر البحار إلى أوروبا وكثير منهم تعرضوا للغرق في البحر، حيث يقوم المهربون بنقلهم تكديساً في قوارب صغيرة لا تتحمل الوزن الزائد، وقد توفي الآلاف منهم غرقاً في تغريبة ملمحية لم تشهد البشرية لها مثيلاً لشعب متحضر، كل جريمته أنه طالب بتخفيف القبضة الأمنية التي كانت تخنقه.
ولم تعد قبضة النظام وحلوله العسكرية وحدها تخيف السوريين الهاربين الباحثين عن ملجأ أو مأمن، فقد باتت بعض فرق المعارضة المسلحة مصدر رعب وخوف مماثل مع خروجها عن أهداف الشعب البسيطة المتمثلة في (الحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية، كما كانت تعلن شعارات الثورة) فقد ظهرت الكتائب الإسلاموية المتطرفة بشعارات باعدت بينها وبين مطالب الشعب، وباتت تبحث عن تطبيق الشريعة حسب فهمها المنحرف، هذا فضلاً عن ظهور «داعش» المريب وإعلانه «الخلافة» المزعومة وقيامه بقطع الرؤوس بحد السيف وتهجيره بعض الأقليات، مما استدعى قيام تحالف دولي لمكافحة الإرهاب يعلن أنه بحاجة إلى عشر سنين كي ينهي حروبه، وتوجهت كل الأنظار إلى «داعش» وأخواتها، وتم إهمال الملايين من الشعب المشرد، الذي بات عليه أن يعاني مأساته الفجائعية إلى أجل غير مسمى.
وكان من سوء حظ السوريين أن كل الصراعات الدولية الراهنة انعكست على قضيتهم، فقد وجدت إيران فرصتها لضم سوريا إلى إمبراطوريتها، وإلى حل قضيتها النووية، وقد صارت سوريا ورقة تفاوضية لصالحها. ووجدت روسيا فرصة تمكين حضورها الدولي، ولا سيما بعد ما تعرضت لهزة قاسية في أوكرانيا، ووجدت إسرائيل فرصة تاريخية لرؤية سوريا مدمرة، كما دمر العراق من قبل. ووجدت الولايات المتحدة فرصة «صيد الذباب» وتحالفت قوى كثيرة من أجل تحويل طبيعة الصراع في المنطقة من «صراع عربي - إسرائيلي» إلى «صراع سني - شيعي». وكانت فرصة نادرة أيضاً استفادت منها قوى كثيرة حين وقع «حزب الله» في خطيئة قاتلة عندما غرق في مستنقع الدم السوري، ومن المحال أن يخرج منه ويستعيد مكانته. وبدا أن الشاة السورية التي تتعرض للذبح وللسلخ، باتت وليمة دولية كبرى، وأصبح الحديث عن تقسيمها متاحاً بوصفه تركة الرجل المريض.
ولا يغيب عن أحد أن سقوط سوريا بيد إيران بعد العراق، فضلاً عما يحدث في اليمن، سيعني تهديداً خطيراً لمستقبل العرب جميعاً، كما أن خروج الشعب السوري من محنته سيكون مفتاح النجاة.
لم نسمع حتى الآن سوى أفكار، ونريد أن نصدّق أنها تُدرس بجديّة وبروح إيجابية، وأنها ستُنفّذ في الوقت المناسب، والأهم أنها ستكون فاعلة ومجدية. ذاك أن الحاجة إلى «قوة عربية مشتركة» لم تطرأ اليوم، بل إن هذه القوة كانت ضرورة عربية منذ زمن، ولم يمنع وجودها سوى تفكك الرابطة العربية، بسبب مسلسل طويل من المناحرات «الأخوية» وتناقض السياسات والأهداف. لذلك، بمقدار ما أن الفكرة طرحت في سياق سليم، أشاعت الانطباع بأن ثمة ملفاً عنوانه «معاهدة الدفاع العربي المشترك» استخرج من أحد الأدراج، ومن النسيان، ليُنفض عنه الغبار ويُعاد تلميعه. ففي العادة تتميّز التخطيطات العسكرية بالاستشراف والتحوّط لتؤمّن أكبر درجة ممكنة من الجهوزية في الوقت الطبيعي. وبما أن الإرهاب هو الهدف المحدّد فقد كان أحرى التفكير في «تحالف عربي» أو «عربي - إسلامي» لمحاربته غداة التحرّك الأميركي لإنشاء «التحالف الدولي»، خصوصاً أن العديد من دول الإقليم كانت (ولا تزال) لها مآخذ محقّة على الاستراتيجية، أو اللااستراتيجية الأميركية.
جاءت فكرة «التحالف العربي» من الأردن، الدولة المشاركة في «التحالف الدولي» والأقلّ انتقاداً له، ما يشير إلى هواجس لديها حياله. وجاء اقتراح «القوة العربية» من مصر، وهي أيضاً في «التحالف» لكن القيادة الأميركية لا تعترف بأن لديها مشكلة مع الإرهاب، داخلية وخارجية، تحديداً في ليبيا. ولا تزال أنقرة تفاوض واشنطن على شروط انخراطها في «التحالف» أو الاكتفاء بتقديم تسهيلات إليه، لأنها ببساطة لم تقتنع بأن أميركا في صدد ضرب الإرهاب حقاً، وإنما هي تدير الحرب وفقاً لمصالحها. ورغم أن الأميركيين أظهروا في البداية إدراكاً لأسباب ظهور «الوحش الداعشي» واشترطوا تغيير الحكومة العراقية ونهجها الفئوي الفجّ، إلا أنهم يبدون الآن وقد عادوا للتعامي عما يحصل على الأرض من تكرار للتجربة السوداء ذاتها على أيدي إيران وميليشياتها. ومع أن الوضع السوري ينطوي على معطيات مشابهة أو أكثر سوءاً مما حصل في العراق، إلا أن الأميركيين أنفسهم رفضوا منذ البداية أي طروحات تركية أو عربية تربط بين محاربة الإرهابَين معاً: «داعش» والنظام، فكان ذلك إشارة إلى الإيرانيين الذين شرعوا في غزوات جديدة للإجهاز على آخر معاقل المعارضة السورية المقاتلة.
وفي الحالين بات الإيرانيون وأتباعهم من «حزب الله» اللبناني وميليشيات العراق وشيعة باكستان وأفغانستان يقدّمون أنفسهم بصفتهم «أبطال محاربة التكفيريين»، فيما يدور العرب حول ذواتهم حائرين في ما يفعلونه لمواجهة الخطر الذي يدفعه الأميركيون والإيرانيون دفعاً إلى داخل بلدانهم. فهناك «داعش» وهناك المستفيدون من «داعش»، وهم يواظبون على تأكيد أنهم «يحققون تقدّماً» ضد هذا التنظيم، ولعل الأكراد مستفيدون أيضاً ولو بصدفة غير متوقعة لكن بتضحيات كثيرة، وهم ينوّهون بالمساعدة الإيرانية قبل الأميركية. المعركة تدور على أرض العرب، وحول مصير العرب، لكن العرب خارج الصورة، ولو كانوا يراهنون على إرهاب «داعش» أو سواه لوجد بينهم من يمكن إدراجه في نادي المستفيدين. وحده النظام السوري راهن على الإرهاب، وهو جالسٌ يتحيّن اللحظة التي انتظرها، إذ مارس كل أنواع الإجرام لضرب معارضيه ثم جاء «داعش» ليكمل له بعضاً مما فاته ثم جاء «تحالف دولي» ليستعين به ضد «داعش»... ولا عزاء لمحققي المجلس الدولي لحقوق الإنسان في جرائم الحرب التي ارتكبها هذا النظام.
أن تأتي «قوة عربية مشتركة» متأخرة أفضل من أن لا تأتي أبداً، فالتغوّل الدولي (الأميركي) والإقليمي (الإيراني والإسرائيلي) يمعن في فظاظة مكشوفة ضد دول الخليج رافقت المناورات الإيرانية الأخيرة في مضيق هرمز، وعبّر عنها كلام ملتبس لحسن نصرالله، إذ قال إن «هدف داعش الحقيقي هو مكة والمدينة» لأن «خلافة داعش غير ممكنة من دون الحرمين الشريفين... هذه هي المعركة التي نتجه نحوها». ويريد ظاهر الكلام أن يحذّر من أهداف هذا التنظيم، أما باطنه فيحتمل كل التفسيرات وليس أقلّها زعم أن إيران لم تكن بعيدة ولا غريبة عن ظهور «داعش» ونشأته في العراق، ثم كانت مع النظام السوري المحفّزَين الأقربَين على انتشاره في شمال سورية، وفقاً لوقائع وثّقها «الجيش السوري الحر». ولم تشأ الاستخبارات الأميركية الأخذ بهذه المعلومات التي وصلتها قبل ما يقرب من العامين، مثلما تعمّدت إنكار العلاقة المكشوفة بين إيران والحوثيين في اليمن حتى بعدما قام هؤلاء بانقلابهم وشرعوا في استدراج اليمن إلى فوضى حرب أهلية. وحين اتهم جون كيري إيران بـ «المساهمة» في سيطرة الحوثيين كان بالغ الحذر لئلا يسيء إلى مسار الاتفاق النووي، لكن الناطقة باسم الخارجية الإيرانية نبهته إلى أنه «يناقض مواقف سابقة لمسؤولين أميركيين».
كانت الجامعة العربية اقترحت أخيراً تشكيل قوة تدخل عربية مشتركة وفقاً لمعاهدة الدفاع العربي المشترك (عام 1950 كان هدفها محاربة إسرائيل) التي يراد الآن تفعيلها لمحاربة الإرهاب بالاعتماد على القوات المسلحة النظامية، لا الميليشيات بسبب المخاطر الأمنية التي تمثّلها هذه لاحقاً. وشددت الدراسة التي عرضها الأمين العام نبيل العربي على «أهمية التزام الدول العربية تولّي مسؤولية الدفاع عن الأمن القومي وإيجاد الوسائل المناسبة التي تكفل دحر الإرهاب واستعادة السلم والاستقرار في المنطقة»، لكنها دعت أيضاً إلى: 1) إطلاق عملية سياسية كبرى لتحقيق مصالحات وطنية ووفاق اجتماعي، و 2) إصلاح الآليات المؤسسية المعنية بالتعامل مع الفكر المتطرف والمنظمات الإرهابية، و3) درس أنجع الوسائل لاستعادة التضامن العربي وبحث أفضل المقاربات لتسوية النزاعات الإقليمية سلمياً... ولم تغفل كذلك ضرورة إجراء تقييم لـ «تجربة الدفاع المشترك» وعلى نحو خاص «تجربة قيادة الأركان المشتركة والسلبيات والعوامل التي أدّت إلى توقفها عن العمل». كل تلك الأهداف يمكن الاتفاق عليها مبدئياً، لكنها تبدو كما لو أنها تُطرح بعد فوات الأوان بالمقارنة بلغته الدول الإقليمية الثلاث (تركيا وإيران وإسرائيل) من قدرات وتأهل للتحكم بالأمن القومي العربي.
سواء كان اسمها قوة عربية مشتركة، أو أي شيء آخر، ينبغي التفكير فيها «من خارج الصندوق»، كما يقال، وبالأخص من خارج البيروقراطية. فمحاربة الإرهاب تتطلب أمرين عاجلين: 1) إعادة الاعتبار لـ «الدولة» لأنه استقوى وتوحّش في ظل تفككها أو غرقها في الفئوية والطائفية وتديين السياسة، و 2) تنسيق استخباري وأمني تدعمه قوات تدخل محترفة يمكن إنشاؤها في مدى زمني قصير ومن دون عقبات أو «فيتوات» خارجية. ذاك أن معاهدة الدفاع المشترك وأي قوة منبثقة منها كانتا أصبحتا منسيتين، لأن هناك مَن ساهم في طيّهما، بل اندثرتا مع إنهاء حال الحرب مع إسرائيل التي لم تنهِ الحرب من جانبها، وبعد توقيع «معاهدات السلام» معها، علماً بأنها أفسدت «السلام» ولم تعترف به.
لذلك يُطرح السؤال الفجّ والممضّ: هل يمكن - بعد كل الذي جرى - إنشاء قوة عربية مشتركة من دون موافقة الولايات المتحدة (وإسرائيل)، وقريباً ربما تصبح مطلوبةً أيضاً موافقة إيران إذا بقي تقاربها مع أميركا على منواله الراهن. فأميركا لم تتخلَّ عن هدف احتواء العالم العربي، وتحرص على إبقاء الجيوش العربية بمستوى أدنى من إنشاء وضع استراتيجي عربي. حتى أن الجيش العراقي الجديد، وهو الوحيد الذي أشرفت على تأسيسه من الصفر، لم يستطع أن يصمد أمام مجموعات الإرهاب. بل إنها تتقبّل وجود ميليشيات عراقية – إيرانية أو إيرانية - لبنانية أقوى من الجيشين العراقي واللبناني، لأنها تخدم هدفها المتوخّى، وهو ألا تكون هناك جيوش عربية قوية. ورغم انزعاجها من «حزب الله» إلا أنها لا تمانع استقواءه على إسرائيل طالما أنه يقاتل في فسحة الخواء الاستراتيجي العربي ليمنح إيران ورقة إقليمية لن تتمكن من الذهاب بها بعيداً.
تنهي الثورة السوريّة عامها الرابع دون أن تحسم الأمور، فما زالت الساحة تشهد عمليات انشطار بين الفصائل المعارضة على الأرض، كما أنه يزداد في الوقت عينه التغول الطائفي المدعوم إيرانياً بلا حدود، لتأخذ الثورة منحًى سوداويا لم يرده السوريون عندما تفتح ربيع ثورتهم قبل سنوات.
ولعل أبرز ما يُميزُ الثورة السورية، وهي تدخل عامها الخامس وضوح الرؤية، وانكشاف الأوراق، فكانت الأعوام الماضية كفيلة بالفرز الذي نعتقد أنه سيستمر، ونتيجة عمليات الفرز، وتمايز الصفوف بدأ كل فريق يطهر بيته الداخلي مستعداً للسيناريوهات القادمة.
اتَّضحَ بعدَ أربع سنوات بما لا يدع مجالاً للشك أنّ بيت النظام طائفي بامتياز، ولم يعد ثمة مكان للوطنية السورية، أو القومية العربية، ولا سيما بعد ارتماء النظام في الحضن الإيراني دون حول أو قوة، فأسند لإيران قيادة العمليات العسكرية والأمنية على امتداد الأرض السورية، وعليه فإنَّ الولاء يقاس بحجم القبول والتعاون مع الطائفيين الإيرانيين، فبات النظام يعدم ضباطاً ومقاتلين بالجملة بتهمة الخيانة، وعدم إطاعة الأوامر العسكرية (الإيرانية)، وربما في هذا السياق تندرج عمليات تصفية ضباط رفيعي المستوى كرستم غزالة، وستستمر عمليات الترتيب وفق مقياس طائفي.
أمّا على صعيد الجيش الحر فقد كشفت الأعوام المنصرمة مدى المعاناة والآلام التي مرّ بها، إذ خُدع الثوار بداية بمواعيد عرقوب الإقليمية والدولية، وكان الدعم هزيلاً يكاد يجعله غير قادر على الصمود فما بالك تحقيق نصر على نظام مخابراتي عسكري مستبد، كما عمل النظام على زرع خلايا نائمة في صفوف الثوار لاستخدامها في الوقت المناسب وما أكثرها مستغلاً عفوية الثورة التي تصل حد الفوضى العسكرية، وعدم وجود أجهزة أمنية ثورية تملك خبرة كافية.
كشف تسلسل الأحداث كثيراً من هذه الخلايا، ولا سيما بعد امتلاك الثوار الخبرة، إذ حصلت عمليات تطهير وتنظيف كبيرة لهذه الخلايا التي انحصرت مهامها باغتيال قادات، وإحداث تفجيرات، وإعطاء إحداثيات للطيران، وجمع معلومات، وزرع الفتنة، وتشويه سمعة الثوار بعمليات سلب ونهب وخطف وسرقة، وأخيراً تسليم جبهات للنظام.
رغم كل ذلك ما زال الثوار ينجحون في كشف هذه الخلايا النائمة، وآخرها اكتشاف خلية في جنوب دمشق، وأخرى في حلب مهمتها المرابطة على الجبهات ليصار لتسليمها للنظام، ولا ننسى تطهير الثورة من تنظيم الدولة بداية 2014م فحصل تمايز تحملت الثورة وما زالت ثمنه دون أي دعم.
أمّا جبهة النصرة المحسوبة على تنظيم القاعدة فتأثرت سلباً بتمدد تنظيم الدولة الذي كاد يقضي على وجودها في سورية بعد انسحاب كثير من مقاتليها، وانضمامهم لتنظيم الدولة، لكنها أعادت ترتيب صفوفها الداخلية وتحالفت مع قوى ثورية سورية ذات طابع إسلامي مكنها من تحقيق انتصارات أعادت لها شعبيتها.
بقي القلق الخارجي يراود النصرة باعتبارها محسوبة على القاعدة، فبادرت النصرة لاستئصال قوًى ثورية –زعمت النصرة أنها- محسوبة على أمريكا، ويُعتقد أنها قد تكون نواة لقتال النصرة مستقبلاً، فالنصرة تستبق الأحداث حتى لا تضرس الحصرم ثانية كما حصل مع تنظيم الدولة.
أما تنظيم الدولة فكان دموياً في تنظيف بيته الداخلي في المناطق التي سيطر عليها، فقام بمئات الإعدامات ليس بحق معارضيه فحسب بل من يشك بمعارضته للتنظيم، فأعدم كثيراً من الثوار سواء في الجيش الحر أو النصرة بعد إعطائهم الأمان، ووصل الأمر لإعدام من يتعاون مع الإعلاميين، مما اضطر كثيراً من أصحاب النَّفَس الثوري لمغادرة مناطق التنظيم خوفاً من التصفية، وحصل للتنظيم مراده، لأنّ التنظيم يؤمن أنّ سياسة الرعب كفيلة بتطهير البلاد من أصحاب الفكر المنحرف (الثوري).
يهدف كل فريق من عمليات ترتيب بيته الداخلي تحصين الموقف العسكري الأمني، بعد أن اقتنع كل فريق أنّ الحسم لا يمكن أن يكون إلا عسكرياً، وبالتالي لا بدّ من القضاء على أي قوة معادية في مناطق سيطرته سواء أكانت داخلية أو خارجية. كما يهدف كل طرف لسحب الشرعية من الطرف الآخر، فهذا يصف خصمه بالخائن، وذاك بالمرتزق، وذاك بالمرتد، وآخر بالعميل.
ويبقى نجاح إجراءات كل فريق رهناً بتقبل الشارع الشعبي والثوري لترتيباته، وستلعب الحاضنة الشعبية دوراً في النهاية التي ستؤول لها عمليات الفرز، وهنا –فيما نزعم- تتبدى عورات النظام والتنظيم اللذين تجمعهما نقاط كثيرة، فكلاهما لا يعتمد على العنصر الوطني، إذ يعتمد النظام على الميليشيات الأجنبية الطائفية، ويعتمد التنظيم على ما يسمى المهاجرين وكلاهما يحاول شراء الولاءات بالرعب حيناً والمال حيناً، وكلاهما يحكم بالحديد والنار، ويأخذ الشعب بالشبهة دون الدليل، فبات العيش في مناطق سيطرتهما ضرباً من المقامرة والمغامرة، ولو فرض حظر جوي على مناطق الثوار لرأيت موجات من الهجرة من مناطق النظام والتنظيم لمناطق الثوار.
مع اقتراب الثورة من عامها الخامس، قد نشهد ربما نوعاً جديداً من الاصطفافات سواء العسكرية أو الفكرية، فالوضع في سورية لم يعد شأناً سورياً خالصاً، ويبقى ذلك –فيما نعتقد- رهناً بالتجاذبات والتحالفات الإقليمية والدولية.
منذ وفاة العاهل السعودي الراحل عبد الله وتولي الملك سلمان بن عبد العزيز، توالت المؤشرات حول عودة الدفء إلى العلاقات السعودية – التركية. مع زيارة العمرة التي أداها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتقى خلالها الملك سلمان، تعزز هذا الاتجاه نحو طي صفحة الخلافات بين البلدين التي بدأت منذ انقلاب الثالث من تموز/يوليو 2013 في مصر.
لا نعرف ما إذا كان التزامن بين زيارتي الرئيسين المصري والتركي إلى الرياض مقصوداً أو مدبراً من قبل الأطراف الثلاثة، لكن المؤكد أن القيادة السعودية الجديدة ترغب في إجراء مصالحة بين الرئيسين، بوصف ذلك ركناً مهماً من أركان رص صفوف «محور اقليمي سني» في مواجهة خطر التمدد الهائج لإيران من العراق إلى سوريا فلبنان واليمن وصولاً إلى مضيق هرمز الذي شهد مؤخراً مناورات بحرية إيرانية كانت بمثابة تحدٍ لدول المنظومة الخليجية بقيادة السعودية.
غير أن الرئيسين لم يجتمعا معاً، والتقى كل منهما بمضيفهما السعودي بصورة منفصلة. وهذا يعني أن حل الخلاف بينهما سيحتاج إلى زمن، مهما كانت النوايا السعودية بهذا الشأن.
الواقع أن الخلاف المصري ـ التركي ليس الهم الوحيد لدى القيادة السعودية الجديدة، ولا الأهم أو الأكثر الحاحاً حتى. فهناك جملة من التحديات المطروحة على المملكة، لا يمكنها مواجهتها معاً وحدها. وإذا كان من شأن التسريبات الخاصة بمكالمات السيسي، وتضمنت إساءات إلى السعودية ودول الخليج، أن تجعل هذه الأخيرة تعيد النظر، ربما بعد فوات الأوان، بدعمها المطلق والسخي للرئيس الانقلابي، فهذا قد لا يترتب عليه بصورة أتوماتيكية إعادة النظر في موقفها من الإخوان المسلمين. إذا ترجمنا ذلك إلى مفردات الدول يمكننا القول إن الفتور المحتمل مع السيسي قد لا تقابله حرارة عالية مع أردوغان. ربما هذا هو المغزى من تزامن زيارتي الرجلين للقول إن القيادة السعودية الجديدة ابتعدت قليلاً عن مصر السيسي واقتربت قليلاً من تركيا أردوغان، من غير القطع مع الأولى ولا الاندفاع الحار نحو الثانية.
لكن الأهم من تحديد «مسافات الود» هذه، هو التحديات التي تواجه الدول الثلاث، ولكل منها أولويات مختلفة بشأنها. فمن زاوية النظر السعودية ارتفع موقع الخطر الإيراني، في الآونة الأخيرة، بالمقارنة مع خطر الإسلاميين، الجهاديين منهم والإخوانيين على التوالي. ربما هذا ما جعل التقارب المستجد مع القيادة التركية ممكناً. فالانقلاب الحوثي في اليمن على السلطة الشرعية المفترض أنها محمية بالمبادرة الخليجية، رفعت منسوب الخطر الإيراني في الغريزة السياسية السعودية، ليتراجع بالقياس إليه خطر الإخوان المسلمين وخاصةً بعد انقضاء نحو عامين على التخلص من حكمهم في مصر. يضاف إلى ذلك التقارب الأمريكي ـ الإيراني الذي لا يمكن للسعودية أن تستقبله بلا مبالاة. فإذا أضفنا انخراط الحرس الثوري الإيراني، بصورة مباشرة وعلنية في الحرب السورية، والتحالف الموضوعي الأمريكي ـ الإيراني في الحرب على داعش في العراق، واستمرار حزب الله في تعطيل الحياة السياسية في لبنان، بات مفهوماً أن ينسى السعوديون الإخوان المسلمين، وكذا خلافاتهم مع أردوغان، ليركزوا جهودهم على البحث عن سبل مواجهة إيران.
بالمقابل، لا تحظى مواجهة التمدد الاقليمي لإيران بأولوية في الأجندتين المصرية والتركية. مصر السيسي تواصل خوض حربها على التيار الإخواني وتطالب بتشكيل قوة عسكرية عربية «لمواجهة الإرهاب» الذي لم تسلم من الاتهام المصري به حتى حركة حماس الفلسطينية الإخوانية.
أما تركيا أردوغان فهي، على النقيض من مصر السيسي، ما زالت تحلم بحكم إخواني في دول الربيع العربي يكون بمثابة الجسر إلى إحياء النفوذ الامبراطوري للدولة العثمانية في شروط القرن الواحد والعشرين.
أولويات الأمن القومي التركي، بالنسبة لحكومة أردوغان، هي حزب العمال الكردستاني، وفرعه السوري «حزب الاتحاد الديموقراطي» وليس داعش أو المنظمات الجهادية الأخرى من بيئة القاعدة، ولا طبعاً إيران، إلا بقدر وقوف الدولتين على جبهتي الصراع في سوريا.
للدول الثلاث، من جهة أخرى، مشكلات مع السياسة الأمريكية. ففي الوقت الذي يواصل فيه أردوغان معاندته للضغوط الأمريكية بشأن المساهمة التركية المطلوبة أمريكياً في الحرب على داعش، لا يبدو نظام السيسي مرتاحاً للانتقادات الأمريكية بصدد انتهاكاته لمعايير حقوق الإنسان، في حين تشارك السعودية في الحرب الجوية على داعش، لكنها في قلق وجودي من التقارب الأمريكي ـ الإيراني الذي بلغ حد رفض الإدارة الأمريكية نقل سفارتها في اليمن من صنعاء المحتلة من قبل أتباع إيران الحوثيين إلى عدن عاصمة الحكومة اليمنية الشرعية، بخلاف ما فعلته عدة دول أوروبية.
بنيامين نتانياهو أيضاً في غاية الاستياء من التقارب الأمريكي ـ الإيراني.
هذا ما دفعه إلى زيارته الفضائحية إلى واشنطن وخطابه الاستفزازي أمام الكونغرس الذي قاطعه نواب حزب الرئيس، في سابقة هي الأولى في العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية. أقصد أن لجميع الحلفاء التقليديين لواشنطن في الشرق الأوسط مشكلة مع سياسة أوباما، إضافة إلى الحزب الجمهوري في الداخل الأمريكي، وربما قسم من الحزب الديموقراطي نفسه (هيلاري كلينتون مثلاً).
القيادة السعودية المعروفة تاريخياً ببطء استجاباتها السياسية وضعف قابلية التغيير والمناورة في سياساتها، تواجه اليوم مخاطر وجودية متعددة، إيرانية وجهادية و«ربيع عربي»، في ظل عدم تفهم حليفها الاستراتيجي (الولايات المتحدة) لمخاوفها وهمومها. لعلها تسعى إلى نوع من «ترتيب البيت الداخلي الاقليمي» مع دول المنظومة الخليجية أولاً، ومع مصر وتركيا، ركنا «تحالف سني» مفترض في مواجهة الهجمة الإيرانية ـ الشيعية المقبولة أمريكياً.
الشطرنج لعبة رائعة، لا يستطيع أن يلعبها من لا يملك الذكاء والاستراتيجية والحنكة الكافية. والسياسة والدبلوماسية تشبه لعبة الشطرنج، فهذه أيضاً تتطلب الذكاء والاستراتيجية والحنكة، ويمكن أن نضيف هنا التواصل.
لقد تم القيام بحملات حرجة على صعيد السياسة الداخلية والدبلوماسية الدولية في هذه الفترة قبل الانتخابات، وهذه الحملات ستؤثر على مستقبل تركيا، وتزيد من قوتها في المنطقة.
مراكز العالم الإسلامي الأربعة
للعالم الإسلامي أربع دول مهمة، هي تركيا والسعودية ومصر وإيران، وللأسف بين هذه الدول الأربع الآن مشاكل كثيرة، كأنهم أرجل الكرسي الأربع، إن انكسرت إحداها لن يتمكن الكرسي من الوقوف.
أعتقد أن الانقلاب الذي حدث في مصر ضد مرسي هو أقوى ضربة هزت العلاقات بين هذه الدول، فلهذا السبب تأثرت العلاقة بين تركيا والسعودية التي كانت تدعم الانقلاب في مصر، وتأثرت علاقة إيران بكل الدول السنية بسبب سياستها المذهبية في سوريا. ولهذا السبب تأثرت علاقات كل الدول التي كانت تتحرك مع هذه الدول الأربع. ولكن يبدو أن السياسية التي سيتبعها ملك السعودية الجديد ستغير كل الموازين.
مبادرة "أردوغان" التي لا يعرف عنها أحد
زيارة "أردوغان" للمملكة العربية السعودية حولت الأنظار إلى مصير العلاقات بين هاتين الدولتين. ولكن "أردوغان" قبل هذه الزيارة قام بمبادرة لم يسمع عنها أحد، فقبل وفاة الملك عبد الله أراد السيد "أردوغان" أن يقوم بزيارة مرضية له، فأُبلغ ولي العهد سليمان بهذا الطلب، وسليمان أعلن أنهم سيسعدون بهذه الزيارة، لكنهم بعد يوم أو يومين سيبلغونهم أين سيستضيفون السيد "أردوغان"، فتوقعت أنقرة منذ ذلك الوقت أن الملك عبد الله قد توفي! وحقاً بعد يومين تحولت وجهة "أردوغان" من جدة لزيارة الملك في مرضه، إلى الرياض لحضور مراسم الجنازة، وقام رئيس الجمهورية بقطع زيارته للصومال، وذهب إلى الرياض للتعزية.
حملة السيد "أردوغان" المبكرة تسببت بسحب الملك الجديد سليمان دعمه لانقلاب مصر، وتحسين العلاقات بين أقوى دولتين في الشرق الأوسط، وعمل اتفاق بينهما، كما ستزداد العلاقات ترابطاً بعد الزيارة التي سيقوم بها الملك سلمان إلى تركيا. هذا الاتفاق سيكون سبباً لإعادة مصر وإيران وروسيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا النظر في جميع حملاتهم، إذ يعني أن جميع الدول التابعة لهذه الدول، أي قطر والإمارات والكويت والأردن والبحرين والكثير من دول أفريقيا، ستعيد النظر في علاقاتها، فمن الطبيعي أن نتيجة هذا هي تغيرات جدية في منتصف ساحة الشطرنج.
وداعاً للسلاح!
في الأيام المقبلة، سيرى العالم أثر هذه الحملات الدبلوماسية التي تقوم بها تركيا.
أمام حملة تركيا الأخرى التي ستؤثر بالدبلوماسية والاقتصاد والسلام المجتمعي والإقليمي فهي مسيرة السلام. رغم سعي بعض القوى الخارجية وعملائها في الداخل إلى إفشال مسيرة السلام، إلا أنها دخلت في مرحلة جديدة. المواد العشر التي صرح بها "إمرالي"، التي تأتي بمعنى ترك السلاح هي حملة مهمة جداً أثرت بموازين الشطرنج. فهكذا ستتقدم مسيرة السلام بسرعة أكبر.
"كيليتشدار أوغلو" يلعب الطاولة وليس الشطرنج
لقد حققت الحكومة خلال طريقها إلى الانتخابات نجاحاً عن طريق حملاتها في السياسية والدبلوماسية، ومع هذا النجاح سيملأ صوت السيد "أحمد داود أوغلو" ميادين الانتخابات. والآن علينا أن ننتظر حملة ستقوم بها الجبهة المقابلة في لعبة الشطرنج، وهذه الحملة لن يقوم بها "حزب الشعب الجمهوري" خصم حزب "العدالة والتنمية"؛ لأن "كيليتشدار أوغلو" لا يستطيع أن يلعب لعبة سوى الطاولة!
علينا أن ننتظر الحملة من "تحالف الشر" الذي يشكل لاعباً رئيسياً في الشطرنج، الذي يحاول الضغط على تركيا. وبحسب قناعتي، فإن هذه الحملة التي ستأتي من الخارج ستكون إيران مركزاً لها، وستسعى إيران وروسيا و"قنديل" و"حزب العمال الكردستاني" إلى سحب تركيا من الشرق الأوسط وإشغالها بنفسها.
أما في السياسية الداخلية، فسيسعون إلى تمزيق حزب "العدالة والتنمية" عن طريق تحديد أعضاء النواب والبنك المركزي، وخلق مشاكل بين "أردوغان" و"داود أوغلو"، فيدخل حزب "العدالة والتنمية" الانتخابات وهو منهك القوى.
هناك مظلومية كردية في سوريا عنوانها الأبرز غياب الحقوق التعليمية والثقافية والسياسية. وهي مضافة لجملة المشكلات التي كان يعانيها الشعب السوري وكانت سببا في ثورته. بعد أن حاصر داعش كوباني / عين العرب واحتل قرى واسعة للأكراد بصفة خاصة، برز للإعلام موقفا يقول إن كتيبة كردية جهادية اقتحامية لكوباني تقاتل مع داعش، ومقابل ذلك قيل أن هناك كتائب عربية قاتلت مع الأكراد داخل كوباني ذاتها. الأكراد قللوا من شأن كتيبة داعش الكردية أو العربية المناصرة لهم، وأكدوا أن داعش مدعوم من قرى عربية شارك شبابها في الحرب ضد القوى الكردية في كوباني.
فشل داعش في احتلال كوباني رغم أنّه دمرها ثم انسحب منها ومن قرى محيطة بها على وقع المقاومة الكردية والعربية بمساعدة قوات التحالف، ولكن القوات الكردية والعربية استغلت انسحاب داعش لتتقدم نحو قرى عربية في محيط الحسكة والرقة، وهنا برز موقف عربي يقول بتهجير الأكراد لقرى عربية وحرق بعضها نتيجة مشاركة تلك القرى في محاصرة عين العرب.
الأكراد يتهمون أهالي تلك القرى بمحاربتهم، والآن أصبح العرب يقولون إن الأكراد حرقوا قراهم، وبالتالي تتشكل مظلومية ثأرية بين السكان المحليين ويتعمق الصراع بينهما، فلم يعد بين أكراد مظلومين ونظام يدعي العروبة بل أصبح الأمر بين جماعات تتشكل منها المدن الشرقية.
يدعم ذلك التهجير الواسع للأهالي المدنيين عربا أو أكرادا أو أشوريين، وهذا ما ستستفيد منه قوات التحالف في تمزيق العلاقة بين تلك المجموعات. الأمر عينه يحدث في العراق، حيث دخلت داعش قرى كردية وباندحارها عادت القوات الكردية ودخلت قرى عربية، وباعتبار الحدود ملغاة بين المنطقتين بسبب دولة “الخلافة” وقوات التحالف وفشل الدولة المركزية، فإن احتمال اندلاع حروب ذات طبيعة قومية تتصاعد، وليست جولات الثأر الحالية إلا فصلا منها.
الأخطر الاتهام العنصري الذي يتم تداوله، أن كل عربي هو داعشي كما يقول الأكراد، وأن كل كردي ساع إلى دولة كردية مستقلة عن سوريا كما يقول العرب. هذا الاتهام تقوله قلة متعصبة من الطرفين. الحقيقة أن هناك عربا سوريين دواعش وهناك أكرادا انفصاليين، ولكنهم القلة بين المجموعتين القوميتين.
النظام السوري عمّق الخلاف بين الأكراد والعرب، وهناك انعدام ثقة بين الأطراف، وتخوّف من المستقبل بشأن العلاقة بين هذه الجماعات. فالأكراد لا يثقون بإمكانية إنصافهم مجددا ويتساءلون عن الضامن لتحقيق ذلك، والعرب لا يأمنون لطموحات الأكراد سيما أنهم لا يناضلون من أجل حقوقهم داخل سوريا كأقلية قومية، بل يعتبرون أنفسهم قومية مساوية للعربية ويطالبون بتغييرات دستورية وسياسية واسعة دون التوقف عن إطلاق المواقف السياسية اليومية والتي تشير إلى عمق العلاقة إما مع أكراد تركيا أو أكراد العراق.
بغض النظر عن هذه الالتباسات، فإن هناك مشكلة تتعلق بمستقبل العلاقة بين هذه الجماعات، ولا يمكن التقليل منها واعتبارها ليست قومية بل هي كذلك. ثم إن المشتركات بين العرب والأكراد لم تحدث تقاربا بينهما. إذن اختبار داعش للعلاقة بين القوميتين لم يدفعهما للتقارب بل زاد حدة التباعد.
الأكراد والعرب والأشوريون في سوريا أمام معادلة محددة، إما الإقرار بالهوية القومية وحينها سيكون الاعتراف بقومية عربية كبرى وقوميات صغرى وبالتالي ستتأسس الدولة القادمة وفق هذا الاعتبار، وإما الانطلاق من المواطنة وحينها سيكون الاعتراف بأن كافة المواطنين متساوون أمام الدستور مع وجود مناطق لها طبيعة قومية تتمتع بحقوق سياسية خاصة شريطة ألا يتعارض ذلك مع الحكومة المركزية.
في سوريا تختبر قوى قومية وجهادية العلاقة بين القوميات، وتستفيد أميركا وإيران الوالجة في سوريا والعراق من ذلك؛ وتفشل القوميتان في التغلب على هذا الاختبار والبحث عن المشتركات فهل يمكن تجاوز كل ذلك؛ ما قلناه كاحتمالات بداية الحل، وربما يستمر الاختبار الثأري حاليا.
انشغلت أوساط متابعي الشأن السوري، واحتفت أوساط الحلف الإيراني، مؤخراً بزيارة أربعة نواب فرنسيين إلى سوريا ولقائهم بشار الأسد. تزامناً مع الزيارة، كانت جريدة "لوبوان" قد أجرت استفتاء على موقعها يتضمن الإجابة على عودة العلاقات الدبلوماسية الفرنسية السورية بـ"نعم" أو "لا". أخذ الاستفتاء حيزاً من اهتمام النشطاء السوريين قبل اكتشاف ركاكته التقنية حيث بإمكان المشارك التصويت لمرات غير محدودة من خلال الكومبيوتر نفسه. ذلك في ما عدا التصور الذي لم يكن واضحاً عن أهمية الجريدة، إذ لا تعد في مقدمة الصحف الفرنسية، وتكاد نوعية قرائها تقتصر على شريحة من اليمين المتعصب، فضلاً عن أن سجلها حافل بإثارة الكراهية ضد المسلمين حتى في ميدان الرياضة. والجريدة على أية حال لم تُخف من قبل عداءها للربيع العربي عموماً.
في الرد على زيارة النواب الأربعة، اجتمع الرئيس الفرنسي السابق والحالي على وصفهم بالمهرّجين، وهو أمر لا يخلو من الدلالة لانتمائهم إلى التيارات المهيمنة في اليمين واليسار معاً، وربما شاءت المصادفة ليس إلا أن يُنشر مقال مشترك لوزيري الخارجية الفرنسي والبريطاني يجزمان فيه بعدم قبول مشاركة الأسد حتى في المرحلة الانتقالية المأمولة وفق بيان جنيف. إلا أن المحتفين بالزيارة والمتوجسين من دلالتها لم يعيروا تصريحات ساركوزي وهولاند ومقال رولان فايبوس أهمية مماثلة لأهميتها، ظناً منهم أن تغيراً قادماً في السياسة الغربية تجاه الأسد قد بدأت طلائعه، وأن الزيارة ما كان لها أن تحدث لو لم يحظَ أولئك النواب بموافقة أو تشجيع خفي من دوائر صنع القرار. وفي أحسن الأحوال تذهب التحليلات إلى التغير في المزاج الفرنسي إثر اعتداءات شارلي إيبدو.
مَن يتذكر جورج غالاوي وجهوده الحثيثة لمنع إسقاط صدام حسين؟ حينها لم يفلح غالاوي في التأثير على سياسة بلاده، على رغم وجود تيار محلي وعالمي قوي مناهض للحرب على صدام. وجه الشبه بين غالاوي والنواب الأربعة أنهم، لاعتبارات مختلفة، اجتمعوا على مشروعية لقاء مستبد فتك بشعبه وجيرانه، ينفرد غالاوي عنهم باعتناقه أيديولوجيا الممانعة، ويتميزون عنه بعنصرية لا تكترث بالإبادة ما دامت تحدث للآخرين. وجه الشبه الآخر أن النواب الأربعة على خطى غالاوي خرقوا الحياء الخاص بالطبقة السياسية في بلدهم، واعتلوا موجة شعبوية بعيدة عن المصالح والموجبات التي تحكم القرار السياسي العام، فما فعله النواب يُترجم شكلياً تلك الموجة التي تفاضل بين الأسد وداعش لمصلحة الأول بما أن إرهابه مقتصر على السوريين وأحياناً على اللبنانيين.
لكن تجربة الحكومة الفرنسية مع نظام الأسد، يمينية كانت أو يسارية، لا تدعم فرضية تكرار الأخطاء السابقة. الاشتراكيون في الأصل لم يكونوا يوماً على علاقة جيدة بالنظام، واليمين الذي قاد العلاقة من خلال الرئيسين شيراك وساركوزي مُني بخديعة كبرى في المرتين. في العام 2005، غداة اغتيال الرئيس الحريري، وجه كاتب هذه السطور سؤالاً مباشراً لدبلوماسية فرنسية مطِّلعة عن الموقف الفرنسي المستجد حينها، وما إذا كان مرتبطاً بشخص الرئيس الحريري تحديداً؟ إجابة الدبلوماسية يختصرها قولها عن الأسد "لقد خدعنا": لقد خدعنا عندما اتصلنا به ليساعد في إطلاق الصحافيين الفرنسيين المختَطفين في العراق، جورج مالبرونو وباتريك شيسنو، إذ رصدت مخابراتنا اتصالات من المخابرات السورية بالخاطفين تطلب منهم عدم الإفراج عنهما. لقد خدعنا عندما تعهد بإنجاح اتفاقيتي باريس1 وباريس2، الخاصتين بالاقتصاد اللبناني، وعمل من خلال أعوانه في لبنان على إفشالهما. لقد خدعنا عندما تعهد بمنح الأفضلية لشركات النفط الفرنسية في التنقيب في سوريا، ولم يحترم حتى قواعد المنافسة فمنح حق التنقيب لشركات أمريكية. لقد خدعنا عندما ورطنا في المشاركة في برامج الإصلاح الإداري في سوريا، مستغلاً السمعة الفرنسية، ولم يلتزم بأيٍّ من مشوراتنا المتعلقة بالإصلاح... وأخيراً لقد خدعنا عندما تعهد بحماية الرئيس الحريري ثم جرّده من الحماية العادية المخصصة له.
أغلب الظن أن تلك الدبلوماسية لم تقل سوى ما هو مسموح قوله، وأن أية حكومة فرنسية تتسلم السلطة ستجد أمامها ملفات ضخمة عن أكاذيب النظام على كافة المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية، وستجد أمامها عبرة ساركوزي الذي قدم نفسه كقائد "ثوري" على مستوى السياسة الفرنسية ككل، لكنه فشل تماماً في تأهيل النظام. وضع الفرنسيين والأوربيين عموماً مختلف عن وضع الإدارة الأمريكية، فالنظام تعاطى دائماً على أن في وسعه خداع الأوربيين طالما بقي مخلصاً وشفافاً في علاقته مع الإدارات الأمريكية، ويُسجّل له كونه "من خارج الحلفاء" الأكثر تعاوناً مع المخابرات الأمريكية في حربها على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر، حتى بعد الثورة لم يُخلّ النظام بأي من التزاماته الأمريكية وعلى رأسها صفقة الكيماوي.
نعم، هناك في الغرب تيار "داعشي" غير منظّم، داعشي بمعنى أنه مبني على الخوف من داعش، الخوف الذي يدفعه إلى القبول بالشيطان إذا كان مشاركاً في الحرب على داعش. هذا التيار عشوائي بقدر ما هي غريزة البحث عن الأمان عشوائية، ولا يتوقف عند المحددات الأخلاقية الإنسانية لأن أمانه الشخصي يعلو عليها. من حسن الحظ أن النواب الأربعة لم ينسبوا لمبادرتهم أو لمضيفهم فضائل أخلاقية، بل أشار أحدهم صراحة إلى عدم نسيانه ضحايا مضيفه قائلاً إنه يعشق "النقاش مع الشيطان"، ومن المعلوم أن التعاقد المزعوم مع الشيطان هو التفسير الأسطوري لما يُعتقد أنها إنجازات عبقرية، هكذا تقول الأسطورة الفاوستية بنسخها العديدة، لكن أياً من تلك النسخ لم يتحدث عن عقد بين المهرج والشيطان.
لم يتحرك الجهاديون اللبنانيون في بداياتهم وفق منظومة فكرية محددة، بل إن تجاربهم تطورت وأفضت مع الزمن إلى تشكيل ملامح هويتهم الحالية، وهي هوية تعاضد في تكوينها عامل تشابك الحضور الفلسطيني في الداخل اللبناني، مع ما يعنيه ذلك من شراكة في الحركة وتداخل في الأداء، ويمكن القول إن الفعل "الجهادي" في لبنان كان نتاج الموجات الخارجية التي انبعثت منذ الجهاد الأفغاني وتطورت مع تشكل تنظيم "القاعدة".
كما نلاحظ أنه لم يخرج من اللبنانيين رموز جهادية بارزة، كما كان الحال مع المجتمعات العربية الأخرى.
ما قبل "القاعدة"
كان الانتماء إلى الفكر الإخواني -ولا يزال- حالة مرنة، دخل في فلكها الكثيرون وغادروها إلى تجارب أخرى، منها ما هو علمي دعوي تربوي، ومنها ما هو تنظيمي حركي جهادي.
ينظر الإخوان المسلمون إلى قضية الجهاد باعتبارها جهاد دفع يلجؤون إليه في حال وقوع العدوان، بحيث تبقى المواجهة ضمن حدود الإقليم المعتدى عليه، ولا تتعداه لتصبح مواجهة شاملة.
وفي لبنان، شكلت "الجماعة الإسلامية" (تنظيم الإخوان بلبنان) جناحاً عسكرياً خلال الحرب الأهلية حمل اسم "المجاهدون" وشارك بشكل محدود في المواجهات الداخلية، وبعد الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 تشكلت مجموعة مقاومة من شبان الجماعة وكانت الدافع الفعال في انسحابه من مدينة صيدا، التي شكلت مع مخيم عين الحلوة بعد ذلك محيطاً اتسم بخصوصية الخروج عن دائرة النظام السوري الأمنية، وانطلقت منه عمليات عسكرية استهدفت الوجود السوري في بيروت وطرابلس ومناطق أخرى.
لم يستطع مقاومو الاحتلال السوري الصمود في وجه تمدده وطغيانه على الحياة السياسية والأمنية، ولم تأخذ "الجماعة الإسلامية" خيار المواجهة العسكرية، فخرج معظم من قاتل القوات السورية من لبنان، ووقع الآخرون في قبضتها الأمنية ولبثوا في سجونها سنوات طوالاً.
انتهت الحرب اللبنانية باتفاق الطائف الذي قضى بحلّ المليشيات واستيعابها في الجيش وفي الأجهزة الأمنية، وهذا ما حصل مع مجمل المجموعات المقاتلة، باستثناء "المليشيات" السنية، مثل "حركة الناصريين المستقلين/ المرابطون" و"حركة التوحيد الإسلامي"، مما أوقع المقاتلين السنة فريسة الفقر والتهميش، وزاد الطين بلة إهمالُ حركة التوحيد وغيرها لعناصرهم ولعائلاتهم، وخاصة المعتقلين والجرحى.
وقد أدى تراكم عوامل الإقصاء والتهميش والإفقار إلى إيجاد بيئة تبحث عن المخارج المتاحة، حتى ولو كانت تحمل مخاطر الانتماء إلى تنظيمات تصنفها الدولة بأنها إرهابية ومحظورة.
العوامل الخارجية
لم تستقطب التعبئة للجهاد الأفغاني الكثير من الشباب اللبناني، باستثناء قلة محدودة كان أبرزهم بسام كنج الذي عاد إلى لبنان، وبلغ تحركه الذروة في "أحداث الضنية" أواخر عام 1999 وبداية عام 2000، التي كانت الأولى من نوعها بين مجموعة جهادية والجيش اللبناني، وتدخلت الوصاية السورية لإفشال كل الوساطات لمنع وقوع مواجهة دموية أسقطت في النهاية عشرات الضحايا في صفوف الطرفين. تلت أحداثَ الضنية حملةُ اعتقالات شملت بضع مئات من الموقوفين، خرجوا من السجن بموجب عفو عام 2005.
"في تقييم إجمالي لتجربة الضنية أواخر عام 1999 وبداية عام 2000، وما تلاها من أحداث، يتضح أن "الجهاديين اللبنانيين" -الذين نشطوا داخل الأراضي اللبنانية، ولم يشاركوا في تجارب الجهاد الخارجية- لم يمتلكوا القدرة على أداء أمني محترف قادر على إحداث اختراقات كبيرة في جدار الواقع اللبناني"
وفي تقييم إجمالي لتجربة الضنية وما تلاها، يتضح أن "الجهاديين اللبنانيين" -الذين نشطوا داخل الأراضي اللبنانية، ولم يشاركوا في تجارب الجهاد الخارجية- لم يمتلكوا القدرة على أداء أمني محترف قادر على إحداث اختراقات كبيرة في جدار الواقع اللبناني، بحيث بقيت تحركاتهم مقتصرة على بعض التفجيرات المحدودة، مثلما حصل في استهداف بعض المطاعم والمنشآت ذات الطابع الأجنبي.
ثم تطورت آليات استقطاب الشباب بعد الغزو الأميركي للعراق، حيث ارتفعت نسبة اللبنانيين المنخرطين في صفوف التنظيمات الجهادية، لكن العنصر الفلسطيني/اللبناني بقي الأكثر حضوراً، وخصوصاً من مخيم عين الحلوة، في أجواء استخدم النظام السوري الجهاديين ورقة ضغط وتفاوض مع الإدارة الأميركية، عبر التسهيل والتواطؤ المخابراتي مع واشنطن.
أما الاقتحام الأكبر للمجموعات الجهادية في لبنان فقد كان من خلال تنظيم "فتح الإسلام" الذي اصطدم بالجيش اللبناني في 20 مايو/أيار 2007، بعد أن أخرج النظام السوري قيادته من سجونه -وعلى رأسها شاكر العبسي- ليدفع بهم إلى المخيمات اللبنانية وينتهي بهم المطاف في مخيم نهر البارد، الذي تحوّل أنقاضاً بعد مواجهة شرسة تمكن في نهايتها العبسي وآخرون من مغادرة المخيم، في خطوة لا تزال لغزاً حتى الساعة.
أظهرت المواجهات مع "فتح الإسلام" خطورة وجود شبكة محترفة من الجهاديين على الأراضي اللبنانية، من حيث الكلفة البشرية والمادية، إلا أن حجم المشاركة اللبنانية في هذه المعارك بقي محدوداً، واقتصر على عشرات الشبان المتحدرين من مناطق شديدة التهميش في طرابلس (مقابر الغرباء وحي المنكوبين).
الثورة السورية: الاستقطاب الأكبر
مع اندلاع الثورة السورية وتحولها تحت وطأة قمع النظام إلى مواجهة ميدانية، ومع التورط الإيراني في دعم النظام؛ تحولت سوريا إلى مقصد لأعداد من الشباب المنتمين إلى أهل السنة في لبنان، الذين تحركوا بداية بمبادرات متعجلة أسقطت كثيرين منهم في الطريق على الحدود.
وفي أجواء الثورة السورية، شكّل المآل النهائي لمجموعة الشيخ أحمد الأسير نقطة تحوّل في مسار الجهاديين، حيث بدأ الشيخ حراكه سلمياً وانتهى بخوض معركة ضد الجيش اللبناني ومليشيات "حزب الله" في منطقة عبرا (صيدا)، بعد نجاح الحزب في إحداث الصدام بين الجيش والمجموعة الأسيرية، وتحوّل الناجون مع الشيخ الأسير إلى العمل والتنسيق مع المعارضة السورية، بحيث بات جزءاً من حركة المعارضة السورية، وإن كانت محدودة النطاق.
عند ظهور المجموعات الإسلامية الجهادية في سوريا، وتحديداً جبهة النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، وانتشارهما وتوسع مساحات سيطرتها، بدأت عمليات استقطاب الشباب بشكل منظم، في إطار مشروعيْ الجبهة والتنظيم، مما أحدث تحولاً جوهرياً في طبيعة انتشار الجهاديين في لبنان.
"مع اندلاع الثورة السورية وتحولها تحت وطأة قمع النظام إلى مواجهة ميدانية، ومع التورط الإيراني في دعم النظام؛ تحولت سوريا إلى مقصد لأعداد من الشباب المنتمين إلى أهل السنة في لبنان، الذين تحركوا بداية بمبادرات متعجلة أسقطت كثيرين منهم في الطريق على الحدود"
شهد لبنان خلال عام 2014 سلسلة تفجيرات استهدفت مناطق شيعية تخضع لنفوذ "حزب الله" شنتها "كتائب عبد الله عزام"، لكنها اتسمت بالتخبط ومحدودية الأثر، نظراً لارتفاع مستوى الاستنفار لدى الحزب، بالتوازي مع تسخير أجهزة الدولة اللبنانية في مواجهة تسبب الحزب في استجلابها إلى لبنان جراء تورطه في العدوان على الشعب السوري، فضلاً عن الاختراق الأمني ومحدودية التدريب والاحتراف لدى المجموعة المنفذة، باستثناء التفجير الذي استهدف السفارة الإيرانية.
وفي هذه الموجة شارك "انغماسيون" لبنانيون في بعض التفجيرات، وكان هذا مؤشراً إضافياً لتوسع دائرة الاستقطاب "الجهادي" للشباب اللبناني.
شهد لبنان مواجهات حدودية عند الحدود الشرقية على مراحل متعاقبة، بينما لا يزال عشرات الجنود اللبنانيين مخطوفين لدى جبهة النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، بعد أن سقط آخرون بين قتيل وجريح.
كانت المعادلة في هذه المرحلة مبنية على أن تدخل "حزب الله" في الحرب السورية استدعى الرد في الداخل اللبناني.
وبينما تُبقي جبهة النصرة مسافة تفصلها عن الداخل اللبناني، يضع تنظيم "الدولة الإسلامية" -مع تمدده في عدد من دول المنطقة- السيطرة على مساحة من لبنان نصب عينيه، بحيث يجعل منها منطلقاً لمشروعه التوسعي، الذي يشمل القرى الشيعية المحاذية للقلمون السورية وباتجاه الشمال اللبناني، بينما يزداد استثماره في حالات الاحتقان الداخلي على صعيد الصراع الشيعي/السني، وفي ارتفاع مستوى الاعتقالات ذات الطابع الانتقائي في الشارع السنـّي، وسط تراجع في الدور الاقتصادي وتقهقر في الحضور الخدماتي للدولة اللبنانية.
إن مشاركة الشباب اللبناني في القتال داخل سوريا جعل منهم مقاتلين في صفوف الجماعات السورية المعارضة، واستبعد فكرة قيام كيان جهادي لبناني صرف، حيث بات تنظيم "الدولة الإسلامية" يعلن الاستعداد لـ"تحرير ولاية لبنان"، في حين أنه تمكن من استقطاب أعداد وافرة من الشبان باتوا يتلقون التدريبات في معسكراته بسوريا، ويجهزون أنفسهم للدخول إلى المعادلة اللبنانية وفق أجندة التنظيم.
لبنان أرض جهاد
لم يعد لبنان منذ بضعة أشهر أرض نصرة، بل تحوّل في منظور تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى أرض جهاد ونزال ومواجهة، الأمر الذي سيرتب المزيد من وجوه الصراع، وهو ما تحدث عنه وزير الداخلية نهاد المشنوق عندما توقع أن يكون عام 2015 عاماً شديد الصعوبة على لبنان.
"بينما تُبقي جبهة النصرة مسافة تفصلها عن الداخل اللبناني، يضع تنظيم "الدولة الإسلامية" -مع تمدده في عدد من دول المنطقة- السيطرة على مساحة من لبنان نصب عينيه، بحيث يجعل منها منطلقاً لمشروعه التوسعي، الذي يشمل القرى الشيعية المحاذية للقلمون السورية وباتجاه الشمال اللبناني"
أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" مؤخراً الاستعداد لتحرير "ولاية لبنان"، بالتوازي مع إعلان كتائب عبد الله عزام دعوتها الجنود في الجيش اللبناني إلى الانشقاق على قيادتهم الخاضعة لـ"حزب الله"، في حين تتسرب الأنباء عن وجود مئات من الشباب اللبنانيين تلقوا في فترات ماضية دورات تدريب قتالية عالية المستوى، في حين يتخرج أقران لهم ويستعدون للعودة إلى لبنان، تلاقيهم في الداخل اللبناني مجموعات سورية منظمة باتت تعمل على ملاقاة مشروع التنظيم في الفترة المقبلة.
وقد بدت آثار هذا الاستقطاب من خلال المواجهة الأخيرة التي اندلعت في طرابلس والمنية (شمال لبنان) في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، انحصرت في مجموعة محسوبة على جبهة النصرة، وانتهت بانسحاب متقن للمقاتلين، في حين تمكن تنظيم "الدولة الإسلامية" من دفع شابين من طرابلس (حي المنكوبين) إلى القيام بتفجير "انغماسي" في محلة بعل محسن التي تسكنها أغلبية علوية، اتهِم بعضُ أبنائها الموالين للنظام السوري بتفجير مسجديْ السلام والتقوى عام 2013.
هناك من يذهب إلى الحديث عن دخول تنظيم "الدولة الإسلامية" المعادلة اللبنانية من خلال اختلال في المعادلات الإقليمية والحدودية، وعبر اختراقات في المناطق الحدودية أوسع مما حصل في جرود عرسال، حيث تسيطر جبهة النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية" على ما يقارب 4% من مساحة لبنان، ويراهن التنظيم على تحرك واسع النطاق -على غرار ما حققه في ليبيا- لإعلان مشروعه في لبنان، في تطور تجاوز مسألة المواجهة مع "حزب الله" ليدخل في إطار رسم معالم وحدود المرحلة الآتية على لبنان والمنطقة.
تسربت أقاويل عن تعيين الشيخ أحمد الأسير أميراً لولاية لبنان، وحسب المعلومات المتوافرة فإن هذا التعيين لم يحصل، لكن الأسير سيكون أميراً على أول بقعة يسيطر عليها تنظيم الدولة مستتقبلاً.
يكثف تنظيم الدولة ترتيباته ويحثّ خطواته لدخول لبنان، بينما تشير المعطيات إلى أن تجربته مع اللبنانيين الذين تعاونوا معه باتت نموذجاً فاشلاً، وهم باقون كواجهة ليس أكثر، في حين أن الفعل الميداني سيكون للتنظيم الذي يبدو أنه يستعد لمرحلة توسع جديدة في المناطق الحدودية، مراهناً على استقطاب ولاء الأهالي وسط مغريات الانفكاك من ثقل الانتماء إلى دولة باتت بعيدة عنهم في الحضور والرعاية، وسط حرب مذهبية تستدعي الاحتماء بالمذهب وتستحضر القوة عنصراً أساسياً في الحفاظ على الوجود.
تساؤلات كثيرة تفرض نفسها حول الآتي من الأيام، منها ما يتعلق ببقاء الجغرافيا والاجتماع السياسي على حاله.. أم أن رياح التغيير ستعصف ببعض الحدود ليدخل لبنان أتون الدول المتآكلة داخلياً وحدودياً؟