مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٤ أغسطس ٢٠١٧
مستقبل الصراع الدولي على سورية

عندما كان مرشحا يخوض حملته الانتخابية باسم الحزب الجمهوري؛ أثار دونالد ترامب مسألة المناطق الآمنة في سورية، حيث وعد بإنشاء مناطق لحماية المدنيين، واستخدامها مأوى للاجئين السوريين، لكنه لم ينفذ الفكرة، بعد أن اكتشف مدى تعقيدها وبعد تحذير روسيا ورفضها. وكانت المعارضة السورية قد دعت إلى تنفيذ هذه المناطق منذ عام 2011 وسيلة لحماية المدنيين داخل سورية، وهذا هو السبب في أن الموقف الروسي الجديد لدعم فكرة "مناطق التصعيد" كان مفاجأة لمعظم جماعات المعارضة المتشكّكة جدا في النية الروسية في سورية.

وقد ساعد الغموض في شروط "مناطق تخفيف التصعيد" الروس على قطع الطريق على فكرة المناطق الآمنة التي لا يرغبون برؤيتها تفرض على عكس رغبتهم ورغبة نظام الأسد. لجأت روسيا في سورية مراراً إلى لغة الغموض، في محاولة منها لتجنب الانتقادات المتكرّرة، بحيث أصبحت هذه اللغة سياسة بحد ذاتها، فلجميع القوى الدولية والإقليمية مصطلحاتها ومفاهيمها التي تحاول دوما فرضها.

دعمت تركيا فكرة المناطق الآمنة منذ بداية عام 2012، ثم دعمت مجدّدا فكرة مناطق خفض التصعيد أو التوتر التي حدّدتها محادثات أستانة؛ وهي تعني التخلي تماما عن مفهوم المناطق الآمنة أو مناطق حظر الطيران، حيث تضع تركيا الآن كل طاقتها لمحاربة حزب الاتحاد الديمقراطي والمليشيات الكردية، وهذه هي النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني الموضوع على قائمة المنظمات الإرهابية التركية.

لم تقدم إدارة ترامب أي تفسير للاتفاق الموقع بشأن جنوب سورية، حيث حاولت تقديمه قصة نجاح بعد الاجتماع بين الرئيس ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في محاولةٍ لتجنب الانتقادات الداخلية في العلاقة بين حملة ترامب الانتخابية والقيادة الروسية. هذا هو السبب في أن مستقبل هذا الاتفاق لن يكون مختلفا عن غيره، ومن الصعب جدا على إدارة ترامب أن تجادل العكس، لكن الاتفاق ربما يكشف عن استراتيجية ترامب الجديدة في سورية التي هي ببساطة استمرار لسياسة أوباما السابقة، من حيث التركيز في القتال والقضاء على "داعش"، بالاعتماد على مليشيات محلية، من دون وجود قوات أميركية على الأرض. لكن ما لم تدركه إدارة ترامب اليوم أن الوضع في في سورية اليوم مختلف عمّا كان عليه الصراع في سورية في عام 2013 أو قبله.

لدينا اليوم ثلاثة مستويات مختلفة من الصراع، وفي كل مستوى هناك فاعلون وأطراف عديدون مشاركون. على الصعيد الدولي، تتنافس روسيا مع الولايات المتحدة على مصالحها في سورية. على المستوى الإقليمي، لدينا تركيا من جهة، وهي تشترك على الأقل بـ560 ميلا من الحدود مع سورية، في منافسة مع إيران والسعودية على القضايا الطائفية، والتوسع في سورية. وعلى المستوى الثالث، لدينا مجموعات محلية داخل سورية تتقاتل مع بعضها بعضا، كما أن النظام السوري الذي يخاتل دوما باستخدام مصطلح السيادة، لجأ إلى الاعتماد أكثر فأكثر على المليشيات الشيعية للقيام بالقتال، في مقابل جماعات المعارضة المسلحة التي باتت تنقسم إلى تلك الإسلامية المتطرفة، وتلك الوطنية تحت راية الجيش السوري الحر الذي فقد وجوده يوما بعد يوم.

تجعل هذه الخرائط المعقدة من الصعب جدا على أي إدارة أميركية بناء سياسةٍ فعالة في سورية، إذ على جميع أصحاب هذه المصالح المتضاربة أن تتوافق على ما ترغب بتحقيقه في سورية، وهو، في الوقت نفسه، يفرض على هذه الأطراف المختلفة أن تتفق في فهمها للمصطلحات المختلفة، عندما نقول "وقف إطلاق النار" أو "الهدنة" أو "مناطق التصعيد"، وإلا فإن هذه الأفكار أو المفاهيم ستصبح مصطلحات "نظرية"، لا معنى لها على الأرض، وستبقى الأطراف المختلفة تتقاتل على سوء نوايا الأطراف في سياساتها تجاه سورية.

ولذلك، ليس صعبا أن تتهم المعارضة السورية اتفاق "خفض مناطق التصعيد" بأنه خطة لتقسيم سورية. ذلك أن روسيا ترغب في استخدام "مناطق التصعيد" هذه وسيلة لتجميد الصراع في سورية، ثم زيادة فرص حكومة الأسد في قضم الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة. وعندما تتخلص الولايات المتحدة من "داعش" في الرقة ودير الزور، لن يكون أمام سورية أي خيار آخر، بدلا من تسليم هذه الأراضي إلى الحكومة السورية لحكمها، لأن الولايات المتحدة لن تكون قادرةً على إرسال قواتٍ إلى هناك، للسيطرة الكاملة على هذه المناطق. فعلى الرغم من الخطابة التي استخدمتها إدارة ترامب، في كل مرة، للتمييز عن إدارة أوباما في كل مرة، وعلى كل المستويات، إلا أنها تبدو أنها تتبع خطى أوباما التي سارت من قبل في سورية، التركيز على تنظيم الدولة الإسلامية كما قلنا، والاعتماد على المليشيات المحلية، للتخلص من المجموعات الإرهابية، والاتفاق مع روسيا لتخفيض التصعيد، أو تجميد الصراع، لأنه ليس لديك مصالح لاستثمار مزيد من الموارد في حلها، والبقاء النهائي بعيدا بقدر ما تستطيع من "المستنقع السوري".

هذا هو مستقبل الصراع الدولي على سورية، وهو تجميد الصراع على حاله، ومنع أقلمته، لكن من دون حله، لأن كل هذه الأطراف الدولية، وخصوصا الولايات المتحدة، ليست مستعدة لاستثمار أية موارد إضافية لحل المسألة السورية بشكل نهائي، وبما يستجيب لحق الشعب السوري في اختيار نظام حكمه وانتخاب رئيسه، بل وأبسط من ذلك، ستبقى قضية اللاجئين السوريين مثارةً باستمرار، مع تصاعد أعمال العنف الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، وهي ما يزيد معاناة السوريين التي لا يبدو أن أحدا ما في هذا العالم القاسي يكترث لها، أو يعير لها بالاً. سورية اليوم مثال نموذجي لفشل المجتمع الدولي في حل قضيةٍ كان التدخل المبكر قادرا على إيجاد حلٍ لها، لكن رؤية المصالح الضيقة، والخوف من الفشل، بعد ما جرى في العراق انتهى بنا بالوضع في سورية إلى ما هي عليه اليوم، ثلاث أزمات تتكاثر: انتقال سياسي يستعصي على الحل، ويزيد الألم والمعاناة مع تمسك الأسد بموقعه، ورغبته المشؤومة في تدمير سورية حلا لها، ولاجئون لا يجدون سوى البحر ملاذا آمنا، ومنظمات إرهابية تزداد عنفا وسوداوية، وجدت في سورية موئلاً مناسبا لها لتحكم وتنفذ ما لم تكن تحلم بتحقيقه أبداً، والنتيجة سورية التي نعرفها لم ولن تعود كما كانت من قبل.

اقرأ المزيد
٢٣ أغسطس ٢٠١٧
إلى أين تتجه العلاقات الأميركية - الروسية؟

على رغم اختلاف النظم والعهود، إلا أننا نستطيع أن نجد تماثلاً بين ما يجرى اليوم في العلاقات الأميركية - الروسية، وبين ما حصل خلال العهد السوفياتي. فعندما شرع ريتشارد نيكسون وهنري كيسينجر في بناء علاقات «الوفاق» مع الاتحاد السوفياتي في أوائل سبعينات القرن الماضي، انعقدت أربع قمم في موسكو وواشنطن، صدر عنها نطاق عريض من الاتفاقيات في مجالات العلاقات الثنائية، وفي جوهرها اتفاقيات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، سالت، فضلاً عن مبادئ السلوك في الأزمات الإقليمية والدولية. غير أن هذا التحول من المواجهة إلى الحوار والتفاوض، وُوجه بمقاومة من قوى سياسية أميركية تملكتها عقلية الحرب الباردة والنظر إلى الاتحاد السوفياتي كخصم يجب احتواؤه، تمهيداً لزوال نظامه. ونجحت هذه القوى في أن تستصدر من الكونغرس الأميركي ما عرف بقانون جاكسون فينك الذي يقضي بعدم منح الاتحاد السوفياتي حق الدولة الأولى بالرعاية، وهو ما كان قد تمَّ الاتفاق عليه في مؤتمرات القمة.

واشترط القانون أن يسمح الاتحاد السوفياتي لليهود بالهجرة لإسرائيل، وهو الشرط الذي رفضته موسكو. وكان ذلك من بدايات تراجع ما تحقق في مفهوم «الوفاق»، حتى انهار تماماً في عهد رونالد ريغان وسط ترحيب شامل من قوى اليمين الأميركي، وإن كان عدد من المؤرخين والسياسيين مثل جورج كينان، قد عبَّروا عن خشيتهم من تجدد الحرب الباردة، وانطلاق سباق التسلح.

في هذه الخلفية التاريخية تماثل مع ما نجحت فيه قوى أميركية تتربص بروسيا، مستغلة التحقيقات التي تجرى حول التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، في وأد اتجاه ترامب منذ حملته الانتخابية إلى التعاون مع موسكو. ترامب كان قد وصف معارضي ذلك الاتجاه بالحمقى. أما فلاديمير بوتين، فبات يرى أن تدني مستوى العلاقات الأميركية - الروسية يرجع إلى السياسة الداخلية الأميركية. ومن المفارقات أن يتفق هذا مع اتهام دونالد ترامب الكونغرس الأميركي بأنه المسؤول عن تدهور العلاقات الأميركية - الروسية. في بداية ولايته، نصح خبراء أميركيون ترامب بأن اتباع استراتيجية متشددة مع موسكو سوف يولد استجابة استفزازية من بوتين ويعيق مجالات تعاون تحتاج لها وشنطن (فوريين افيرز آذار/مارس – نيسان/أبريل 2017). فهل ستترك العلاقات الأميركية - الروسية لتجاذبات السياسة الداخلية الأميركية؟ أم سيفوز إدراك أن الولايات المتحدة تحتاج إلى التعاون مع روسيا في قضايا رئيسية: الأزمة السورية ومحاربة «داعش»، والأزمة المتصاعدة مع كوريا الشمالية، وإيران، فضلاً عن الملف الحافل حول قضايا التسلح؟ ونتصور أن ريكس تليرسون يدرك هذه الاعتبارات ويحاول وقف التدهور في العلاقات، وأن بوتين من البداية كان يتطلع إلى علاقات إيجابية مع ترامب وإدارته.

اقرأ المزيد
٢٣ أغسطس ٢٠١٧
«بيونغ يانغ» تحيي بشار الأسد!

كملت!

الأنباء تتحدث عن تقرير سري للأمم المتحدة مؤلف من 37 صفحة، تسرب للصحافة، بشأن انتهاكات العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، وأنه تم اعتراض شحنتين كوريتين شماليتين إلى وكالة تابعة للحكومة السورية مسؤولة عن برنامج الأسلحة الكيماوية السوري، خلال الأشهر الستة الماضية.

يعني لم يكن بشار الأسد ينقصه شيء من أدوات الماكياج السياسي الذي اجتمع له خبراء التزيين الروس والأوروبيون والأميركان، إلا أن يضع ديكتاتور «بيونغ يانغ» لمسته الخاصة عليه!

بعيداً عن هذا، وبعيداً عن الحرص الأسطوري للمندوب الدولي الناظر ستيفان دي ميستورا، الذي عقد حتى الآن 7 جولات في جنيف، ويعد بالمزيد...

وبعيداً عن جولات الروس والترك والفرس والفرنجة الجدد في آستانة بكازاخستان...

وبعيداً عن الركض اليائس لمنصّات المعارضة السورية - حلوة منصّات – وعجز المعارضة عن توحيد كلمتها بعد إجبار الغرب المعارضة السورية «الحقيقية» على «إقحام» منصة موسكو - جماعة قدري جميل، الذي هو معارضة «لطيفة» على معدة بشار ولسانه وليد المعلم...

بعيداً عن كل هذا التذاكي واللؤم الدولي على القضية السورية، يحسن تذكر هذه الأرقام السوداء ببركة السياسات الغربية، والسند الروسي - الإيراني لبشار الأسد... بالمناسبة مبروك للأخير زيارة الوزراء اللبنانيين الشجعان!

من هذه الأرقام:

نسبة المستشفيات السورية العاملة 43 في المائة فقط، وفرّ نصف الأطباء السوريين للخارج. زهاء 80 ألف طفل في سوريا مصابون بشلل الأطفال الذي تم استئصاله من سوريا عام 1995. مدرسة من كل 4 مدارس إمّا تضررت، أو دمرت، أو استخدمت للنازحين.

6.3 مليون شخص مشردون داخلياً، وما يقرب من 5 ملايين سوري خارج البلد لاجئين. تكلفة الصراع في سوريا حتى الآن 275 مليار دولار.
كمشة من أرقام المأساة السورية، بفضل بشار أولاً، وإيران الخمينية وروسيا البوتينية ثانياً، وتهافت وتفاهة؛ إن لم نقل لؤم السياسة الغربية، وتواطؤ بعض العرب مع قاتل الشام بشار.

أمور جعلت كاتباً مثل ألون بن مائير، أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية، بجامعة نيويورك، يصفها بـ«الفضيحة الأخلاقية الكبرى»، ويضيف: «الولايات المتحدة البلد الوحيد الذي كان بمقدوره وقف هذا الرعب تحت إدارة أوباما. من المحزن أن أوباما لم يفعل شيئاً».

أرقام لم تحدش ضمير آية الله خامنئي، الذي نقل عنه سفيره المتجول للفتنة والقتل قاسم سليماني، حسب وكالات الأنباء: «قال أحدهم: هل نذهب لندافع عن الديكتاتوريين؟ لكن المرشد أجابه: هل ننظر لأي حاكم للدول التي نقيم علاقات معها؛ هل هو ديكتاتور أم لا؟ نحن نراعي مصالحنا».

حتى لو بقي بشار بقصر الشعب بقاسيون، فلن يبقى في ضمير الشام، وهو الضمير الذي سينتج عاجلاً أو آجلاً، ثورة أخرى... بالإذن من الناظر دي ميستورا.

اقرأ المزيد
٢٣ أغسطس ٢٠١٧
الأسد: الإبادة كحل نهائي لمجتمع أكثر تجانسا

قبل يوم واحد من الذكرى الرابعة لقصف قواته لغوطة دمشق بالسلاح الكيميائي ألقى الرئيس السوري بشار الأسد خطابا آخر من خطاباته التي تثير عادة الدهشة لامتلائها بأفكار غريبة لديكتاتور يقف على قمّة كبرى من المجازر والمآسي الهائلة فلا يجد غير بضاعته الكاسدة من التعالم والتفاصح والغطرسة التي لا حدود لها.

لم يستذكر الأسد طبعاً أحداً من قتلى هجومه الوحشيّ قبل أربع سنوات الذي قتل مئات الأطفال في ليلة واحدة، ولكنّه أشار مع ذلك إلى أن البلد خسر خيرة شبابه وبنيته التحتيّة لكن، سيادة الرئيس المحترم، ربح «مجتمعا أكثر صحة وتجانساً».

والحقيقة التي يجب أن تقال إن صلافة الأسد المرعبة هذه ما كان لها أن تحصل لولا أنه خرج من مجزرة الغوطة تلك من دون عقاب بعد أن تراجع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن «الخط الأحمر» الشهير الذي رفعه بوجه الأسد، وكانت تلك، عمليّاً، بداية مشوار طويل لتفكيك مفاعيل الثورة السورية وإيصالها إلى النهاية المحزنة التي آلت إليها.

كان ذلك قراراً دوليّاً شاملاً ومحكماً بإبقاء بشّار الأسد في السلطة وتدمير إرادة السوريين بالقوة والخبث والتلاعب لتمكين «السيناريو» الذي رسمه الأسد منذ بداية الثورة: أنا أو المتطرّفون الجهاديون.

كان مستحيلا ألا تتخلق هذه المعادلة من رحم العبث الفظيع الناتج من عدم قدرة المعارضة السورية المدنية، وحدها، ومن دون دعم دوليّ حقيقي، على وقف مجازر الأسد وحلفائه التي كان قصف الغوطة بالسلاح الكيميائي أحد أركانها، ما أدّى، كما نعلم، إلى صعود «جبهة النصرة» وبعدها ـ على خلفية المستنقع العراقي المديد ـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، اللذين تكفّلا، هما أيضاً، بإنهاء ما تبقى من طابع مدنيّ ديمقراطي ووطنيّ للثورة السورية.

من الصعب، مع ذلك، أن تجادل طاغية فريداً مثل الأسد في فكرته هذه عن «المجتمع المتجانس»، من دون ربطها مع فكرة «الحل النهائي» الذي ابتدعه النازيون للخلاص من اليهود، والذي استتبع أيضاً الخلاص من «أجناس أدنى» أخرى كالمسلمين والغجر، ومن كل الأحزاب السياسية المعارضة، وهكذا قاد الأسد، حرب إبادة ضد السوريين غير المتجانسين، ما أدى لمقتل قرابة نصف مليون، واعتقال وإخفاء مليون ونصف المليون، وتهجير 15 مليون سوري، ليكسب «مجتمعاً صحيا متجانساً».

ما يقوله الأسد، أيضاً، أن المجتمع السوريّ كان غير متجانس قبل شنّه حربه الكارثية تلك، والسؤال الذي يخطر في البال هو ماذا كان يمكن أن يفعل أكثر نظام حكم لقرابة خمسين عاماً بحزب شمولي مطلق، وعدد هائل من أجهزة المخابرات وتوابعها التي يسيطر عليها من اتحادات عمال وفلاحين وشبيبة وصيادلة وأطباء ومهندسين وكتاب، كي يتمكن من تأسيس «مجتمع متجانس»؟

بعد الملايين الذين دمّرت مدنهم وهجّروا ولوحقوا واعتقلوا واختفوا وماتوا يحقّ فعلاً للرئيس السوري أن يتحدّث عن «مجتمع متجانس» و«صحي»، وهذا ربح كبير، لكن الربح الأكبر، هو أن الأسد ما زال واقفاً يخطب في الجمهور، وأن عرشه المضمخ بالدماء والمبني على الجثث محميّ بقوات صحية ومتجانسة من الجنود الروس والإيرانيين.

اقرأ المزيد
٢٣ أغسطس ٢٠١٧
ثلاث بلطات وفؤوس سورية كثيرة

تنطلق هذه المقاربة التأملية عن بعد، والملتاعة إلى أبعد الحدود، من وجهة نظر كاتب ظل مؤيداً للثورة السورية من دون تردد، ومنافحاً عنها طوال الوقت، ابتهج لها في محطاتٍ عديدة، وأشفق عليها لكثرة ما تخللها من أخطاء، إلا أنه بقي يرى فيها العنصر المسارع لحدوث تحولاتٍ أكبر طال انتظارها في الإقليم كله، ويعتبرها إحدى أهم الثورات الشعبية العربية المعاصرة، كون نتائجها المرجوّة لا تخاطب مستقبل البلد الأشد أهمية في المشرق العربي، وإنما تفيض عن جغرافيته الحاكمة إلى المحيط المجاور كله.

على هذه الخلفية التوضيحية، يسمح المرء لنفسه بتشخيص المآلات الأخيرة لهذه الثورة اليتيمة بحذر وتحوّط، ويجتهد بحسن نيةٍ في تحديد أهم العوامل التي تضافرت معاً لحرف الثورة عن مسارها أول الأمر، ودفعها نحو دروبٍ ليست دروبها بعدئذ، عبر إقحام دخلاء عليها من كل سحنةٍ وملةٍ، ناهيك عن تشويه خطابها وصورتها وأهدافها المعلنة، ومن ثم السعي إلى إضعافها وتفتيتها أكثر فأكثر، تمهيداً لوأدها بكل السبل الممكنة، بما في ذلك حصارها من الخارج، والتآمر عليها من الداخل، على نحو ما تقصّه علينا وقائع السنوات الثلاث الماضية.

وأحسب أن عدة فؤوس متفاوتة الأهمية ضربت جذع هذه الثورة، بعضها بتطرّف ممجوج وسوء نية، وبعضها الآخر جرّاء ضحالة التجربة والعشوائية السياسية، وهي فؤوسٌ لا يتسع المقام هنا لتعدادها، وإن كان معظمها من إنتاج عوامل محلية قد لا تكون محل اتفاقٍ واسع النطاق، غير أنها تسببت في ما آلت إليه ثورة الحرية والكرامة من فوضى عارمة، وأسهمت كل واحدة منها في إضعاف هذا التمرد الشعبي الهائل ضد جمهورية الصمت والخوف، إن لم نقل إنها قلبت أنبل صفحات الثورة لصالح أشد فصولها مدعاة للتحسّب وعدم اليقين والحسرة على التضحيات والدماء والخراب، والآمال المقصوفة.

لذلك، تخصص هذه المطالعة، ليس لتعداد تلك الفؤوس المكسورة، على أهمية بعضها، بل لبيان هويات تلك البلطات التي كان لها الأثر الحاسم في ضرب جذع الثورة المغدورة، وهي ثلاثُ، عملت على نحو مستقل، وفي فترات زمنية متعاقبة، كلٌّ لحسابها الخاص، ولمنفعة النظام في نهاية المطاف، حيث صبّ الحطّابون الكبار جام نزعاتهم الاستئصالية على ذلك الجذع الذي ما كان له أن يتحمل كل هذه الضربات الموجعة إلى أجل غير معلوم، فكان ما كان من نتائج وتداعيات ومضاعفات باتت تُلمس باليد، وتُرى بالعين المجرّدة.

تمثلت أولى هذه البلطات في ظهور تنظيم الدولة الإسلامية الذي راح يوجه سلاحه من داخل المناطق المحرّرة من قبضة النظام إلى وجود الثورة ذاته، حيث أخذ يستنزف المقاتلين، ويسطو على معسكراتهم وأسلحتهم، ويثخن فيهم بلا هوادة، الأمر الذي شكل التنظيم معه تحالفاً موضوعياً مع النظام القاتل، وقدم له أجلّ خدمة كان يشتهيها منذ بدأت المظاهرات السلمية في ربيع العام 2011، أي وصم الثورة بالإرهاب، ووضع السوريين والعالم أمام خيارين، أو قل بين بديلين؛ السيئ والأسوأ، أي إما نظام الاستبداد الأسدي أو تنظيم الدولة الإسلامية المجمع عليه دولياً تنظيما إرهابيا كامل الأوصاف.

ثاني هذه البلطات التدخل الروسي على رؤوس الأشهاد، باسم الحرب على الإرهاب، فيما كان هدفه شبه المعلن الحفاظ على النظام المنهك، وذلك بعد أن فشلت المليشيات الشيعية وقوات الحرس الثوري الإيراني في هذه المهمة التي تكفلت القوات الجوية الروسية القيام بها بوحشيةٍ أعادت إلى الأذهان أفعالها المشينة في الشيشان، فكانت هذه البلطة الثقيلة المعول الأكثر فاعلية في ضرب الثورة التي كانت تشارف عتبة انتصار كبير، ليس فقط في حصار حلب وتدميرها خصوصا، وإنما في انفرادها شبه المطلق في الملعب السوري، ومن ثمّ نجاحها في تمزيق شمل الثوار، عبر ما سميت الهدن والمناطق منخفضة حدة التوتر.

أما ثالث هذه البلطات وأشدها تحطيباً في شجرة الثورة السورية، فقد تمثلت في ذلك المشهد الانقسامي المروّع الذي ظل مصاحباً للثورة منذ بداياتها المبكرة، بل وكان يتفاقم مع مرور الوقت إلى أن بلغ حد الاقتتال بين رفاق السلاح، وهم تحت الحصار المطبق، فضلاً عن التنازع على المناطق والسلاح والنفوذ والمال، الأمر الذي هشّم صورة الثورة في أنظار شعبها ومؤيديها وداعميها، وارتدّ عليها بمزيدٍ من الضعف والانكفاء، فيما راح النظام وداعموه يستفردون بكل فصيلٍ على حدة، ويقضمون أكثر فأكثر من المناطق المحرّرة بالدماء والعذابات، وسط سطوةٍ روسية، سياسية وعسكرية، كانت تحصد الثمار بالجملة، وتتقدّم بلا مصاعب تذكر من الشمال المشتت إلى الجنوب الذي فقد فيه الثوار استقلاليتهم إلى حد بعيد.

فيما كانت البلطة الثالثة تواصل العمل بلا توقف، بيدٍ سورية خالصة، كان الأداء السياسي للمعارضة المشتتة، بمكوناتها وألوانها المختلفة، أشد بؤساً مما كان عليه حال الفصائل العسكرية، حيث أخفقت هذه المكونات المتنافسة على المناصب الاسمية، المتنابذة فيما بينها، على الحصص التمثيلية، وعلى الصور الانطباعية والميكروفونات وغير ذلك، في إقامة جسم سياسي متماسك يمثل الثورة، ويتحدّث باسمها بصوت واحد، أو إنتاج قائد وطني محل إجماع نسبي، على غرار ما استقرّت عليه تقاليد المناضلين والثوار في كل مكان، وما تفيض به تجارب الجزائريين والفيتناميين والفلسطينيين، وكل من خاض غمار المواجهات غير المتكافئة.

وليس من شكٍّ في أن الثورة قد أصيبت، بدورها، بالإعياء الذي كان يشي بعطبٍ ما، وقع في مكانٍ ما، شأنها في ذلك شأن كل الثورات التي يطول بها المقام بين كرٍّ وفر، ولا تستطيع الحسم في أجل منظور، وهو ما تجلى على أوضح صوره في مواقع ميدانية عديدة، كان فيها الثوار يختفون لصالح المجاهدين الذين تقدّموا الصفوف، وتسيّدوا المشهد تدريجياً، وباتوا الوجه الأبرز، وأصحاب اليد الأطول، والوزن الأثقل، لا سيما في الشمال، حيث الحاضنة الأكبر والأوسع للثورة التي آلت إلى الجماعات الدينية والفصائل المحسوبة على السلفية الجهادية، مع قليلٍ من الاستثناءات الهامشية في نطاق المشهد العام.

ليس المراد هنا تأبين الثورة السورية، ولا إعلان اليأس منها، على الرغم من قتامة ما يعتور الصورة الكلية من مظاهر تبعث على الكآبة، وتدعو الى الإحباط، بل هذه مناصحة قد تكون متأخرة بعض الشيء، لاستدراك ما يمكن استدراكه من نواقص وعيوب وأخطاء، وتصحيح كثير مما ينبغي تصحيحه قبل فوات الأوان، بما في ذلك إجراء المراجعات العميقة، وتدوير الزوايا الحادة، وبناء التحالفات المجدية، بلا تردّد أو تأخير إضافي.

اقرأ المزيد
٢٢ أغسطس ٢٠١٧
خطب الود الإيراني

لم تفلح محاولات رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في رفع الحرج عن السعودية، بعدما أعلن وزير داخلية بلاده، قاسم الأعرجي، أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، طلب وساطة بغداد في تحسين العلاقة بين الرياض وطهران. صدرت تفسيرات كثيرة عن بغداد لتعديل دفّة تصريحات الأعرجي، لكن الأخير وفريقه أصرّا على أن الطلب السعودي كان صريحاً في هذا المجال، ولا يحتمل تأويلاً كثيراً، وذلك بناء على شهادة مشؤوليْن كانا حاضريْن في جلسة الأعرجي مع بن سلمان.

اللافت في السجال بشأن الطلب السعودي هو صمت المسؤولين في الرياض حيال الأمر، مع إعلان نفي حكومي، وترك أمر تأكيد عدم حدوث الطلب السعودي للمسؤولين العراقيين، بعدما أحدثت تصريحات الأعرجي أزمة حكومية في بغداد، إذ سارع العبادي الى محاولة تدارك ما قاله وزير داخليته، بالتأكيد بعد طلب الرياض ذلك، إلا أن الأعرجي ومساعديه تمسّكوا بما قالوه، على اعتبار أنه صحيح جداً وموثوق، وليس أمراً خطيراً كما يحاول العبادي تصويره.

ليس الطلب بحد ذاته مستهجناً، وربما منطقي وحيوي بالنسبة الى السياسة في المنطقة، لتجاوز أزماتٍ كثيرة تمر فيها، بدءاً من سورية وصولاً إلى اليمن. ومحاولات التقارب بين السعودية وإيران ليست جديدة، فقد هدفت مساع كثيرة إلى جمع الطرفين على جدول أعمال متفق عليه بالنسبة إلى المنطقة، بدل التناحر الضمني والعلني التي تدفع ثمنه الدول التي تدور في فلك هاتين القوتين. ولعل محاولة التقارب الأبرز كانت في القمة الخليجية في الدوحة في العام 2007، والتي شارك فيها الرئيس الايراني السابق، محمود أحمدي نجاد، ودخل فيها قاعة الاجتماعات يداً بيد من ملك السعودية الراحل، عبدالله بن عبد العزيز. يومها ساهم هذا التقارب في تخفيف بعض التوترات في المنطقة، ولا سيما لبنان، قبل أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، إذ لم تصمد مفاعيل الصورة طويلاً. إذن، ليس خطب الود الإيراني بالنسبة إلى السعودية، وبالعكس، جديداً، غير أن توقيته، هذه المرة، أحدث هذا الكم من الإحراج بالنسبة إلى ولي العهد السعودي الذي يقود حملة حصار قطر بناء على ادعاءات، في مقدمتها تهمة التقارب بين الدوحة وطهران. وعلى الرغم من دحض هذه التهمة، وتبيان أن العلاقات بين قطر وإيران أقل بكثير ممّا هي عليه بين أبوظبي وطهران، على سبيل المثال، إلا أنها بقيت في مقدمة قائمة المطالب التي ترفعها دول الحصار في وجه الدوحة.

لا جديد في القول، إن قائمة المطالب والتهم ليست إلا شماعة للنيل من الدوحة، ومحاولة لتطويق سياستها الخارجية المستقلة، غير أن طلب الوساطة الذي أوصلته السعودية إلى إيران عبر الأعرجي يأتي دليلاً إضافياً على هذا الأمر، فالتفاؤل مع إيران ليس هو المشكلة في حد ذاته، فالمشكلة أنه لا يأتي تحت العباءة، أو الوصاية السعودية - الإماراتية التي تريد فرض سيطرتها على مفاصل كل شاردة وواردة في السياسة الخليجية، داخلية كانت أو خارجية. يأتي خطب الود الإيراني من ضمن هذه التوجهات السعودية - الإماراتية، فلا مشكلة في التقارب إذا كان يصب في مصلحة هذين البلدين فقط، بغض النظر عن رؤية الدول الأخرى لمصالحها. بناء عليه، مقياس الحلال والحرام بالنسبة إلى أبو ظبي والرياض خاضع لمعايير نسبية، فلا شيء ثابتاً باستثناء فرض الوصاية، بأي طريقة كانت.

اقرأ المزيد
٢٢ أغسطس ٢٠١٧
عام "الإجازة" الروسية

دخلت روسيا مرحلة الركود السياسي الذي لن يجعلها تبادر في أي ملف، مكتفيةً بإدارة الأزمات شرقاً وغرباً، وهو ما تدركه الولايات المتحدة والدائرة القضائية المتحركة في الكونغرس، على خلفية التحقيقات المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

سببان يمنعان روسيا من القيام بأي مبادرةٍ، أو تسيّد جدال سياسي ما عاماً كاملاً تقريباً. السبب الأول مرتبط بالانتخابات الرئاسية الروسية، المقرّرة في ربيع 2018. انتخابات لم يعلن فيها الرئيس الحالي، فلاديمير بوتين، ترشّحه رسمياً لها، محتفظاً بالإعلان الرسمي حتى إشعار آخر. ربما حتى موعد المؤتمر الصحافي الكبير التقليدي السنوي، والذي يقام في النصف الثاني من شهر ديسمبر/ كانون الأول من كل عام. وفي غياب أي منافسٍ جدّي، فضلاً عن حملة الاعتقالات المتلاحقة للمعارضة الروسية، فإن نجاح بوتين في كسب ولاية رئاسية رابعة، تمتد حتى 2024، يبقى حقيقة أكيدة.

السبب الثاني مرتبط باستضافة روسيا كأس العالم لكرة القدم، بين 14 يونيو/ حزيران و15 يوليو/ تموز المقبلين، وهو ما يستدعي استنفاراً روسياً واسعاً، أمنياً كان أم سياسياً، خصوصاً أن التعامل مع المشجعين الآتين من مختلف أصقاع العالم سيكون التحدّي الأكبر لموسكو، المعروفة بعنصرية جماهيرها، تحديداً بعض الأندية الموسكوفية، وبشغب هذه الجماهير الذي تجلّى في بطولة الأمم الأوروبية العام الماضي في فرنسا.

حتى ذلك الحين، أمام روسيا ملفات عدة تستدعي "التجميد". الأول مرتبط بالشرق الأوروبي، من بحر البلطيق إلى أوكرانيا وصولاً إلى البحر الأسود. في البلطيق، قد لا تخرج الطائرات الروسية للتحليق فوق أجواء بعض البلاد الاسكندنافية، كما اعتادت في السنوات الثلاث الأخيرة. كما ستزداد الدعوات إلى عقد اجتماعات "رباعية النورماندي" (روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا)، المخصّصة لمناقشة الملف الأوكراني، في ظلّ هدوءٍ مفترض في جبهة حوض دونباس (منطقتي لوغانسك ودونيتسك).

الملف الثاني متعلق بسورية. هناك، ستعمل روسيا على تكريس الاتفاقيات الحاصلة حتى الآن مع الأميركيين، بما يتعلق بمناطق "خفض التوتر"، محتفظةً بتأجيل أي بحثٍ جذري في الوضعية السياسية، تحت شعار "الأمن أولاً". لن يقوم الروس بأي هجومٍ عسكري حاسم، لا في دير الزور ولا في غيرها، يشابه ما فعلوه في 30 سبتمبر /أيلول 2015، حين تدخلوا لمنع النظام السوري من السقوط.

الملف الثالث مرتبط بمسألة جزر الكوريل في أقصى الشرق الروسي والآسيوي، والمتنازع عليها بين روسيا واليابان. بات الملف في طور التهدئة، بعد اتفاقٍ سابق بين موسكو وطوكيو تمّ منذ أشهر، يقضي بالتعاون الاقتصادي في المنطقة حالياً، من دون التطرّق إلى ملكية أيٍّ من البلدين للجزر. بالتالي، فإن التطور الاقتصادي يهدف إلى التهدئة في تلك المنطقة وجوارها، تحديداً في ملف كوريا الشمالية الذي انتهى بأقلّ خسائر ممكنة، بعد أسبوعٍ عصيب، وتهديدات متبادلة بإطلاق الصواريخ بين الأميركيين والكوريين الشماليين، وذلك في انتظار تجدّد المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وبيونغ يانغ. وكان الروس معنيين مباشرة في منع أي صدام عسكري.

ماذا بعد التهدئة القسرية روسياً؟ اعتاد بوتين على "الضرب" بعد كل مناسبة انتخابية أو رياضية، تبقى هي السائدة. ففي عام 2014، وبعد انتهاء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي، على البحر الأسود، قام الجيش الروسي بعملية عسكرية خاطفة، ضمّ على أثرها شبه جزيرة القرم الأوكرانية إلى روسيا. وقبلها، اجتاح الجيش الروسي جورجيا، في أغسطس /آب 2008، بعد الانتخابات الرئاسية في ربيع العام عينه.

وإذا أراد بوتين "توحيد" الشعب الروسي حول قضيةٍ ما، بعد انقسام انتخابيٍّ مفترض بعد الانتخابات الرئاسية، فإنه قد يتجه، في العام المقبل، إلى تفعيل "فعل المبادرة" الروسية، من سورية إلى أوكرانيا، وصولاً إلى البلطيق. وقد تكون خطواته المقبلة أكثر تحرّراً من الخطوات الحالية، خصوصاً ميدانياً. كما أن مصير ندّه الأميركي، دونالد ترامب، يكون قد اتضح.

اقرأ المزيد
٢٢ أغسطس ٢٠١٧
من الذي أفسد الآخر: الشعوب العربية أم الحكام؟

سئُل أحد الزعماء العرب ذات يوم عن الفساد الرهيب المستشري في بلاده، فقال إنه بسبب «الأخلاقيات التي يتربى عليها الإنسان في بيته»!!، لقد ألقى باللائمة على كاهل الشعب متهماً إياه بالفساد لخلل أخلاقي في تربيته المنزلية ومبرئاً بشكل غير مباشر الأنظمة العربية الحاكمة من تفشي الفساد الذي ينخر أبسط المصالح الحكومية في الدول العربية. إن أبلغ رد يمكن أن نواجه به ذلك المسؤول وأمثاله: رمتني بدائها وانسلت.

لقد كان حرياً بالذين يعزون الفساد المستشري في مجتمعاتنا العربية إلى انحطاط أخلاقي لدى الشعوب أن يعلموا أنه ليس هناك شعب صالح وشعب فاسد، وبقدر ما تكون الحكومات صالحة بقدر ما تكون الشعوب مستقيمة وشريفة. إنها معادلة بسيطة جداً، فصلاح الأولى يعني بالضرورة صلاح الثانية. وإذا فسدت الأنظمة فإن الناس ستفسد أتوماتيكياً تماماً كما يحدث للسمكة، فما أن يخرب الرأس حتى تسري النتانة في باقي أعضاء السمكة مباشرة. وهكذا أمر المجتمعات فلا تستقيم إلا باستقامة الرؤوس الحاكمة.

لقد تجاهل ذاك المسؤول الفيروس الأساسي الذي يسبب الفساد ألا وهو نظام الحكم العربي الذي راح يتاجر بكل شيء حتى بالاخلاق. وعندما يرى الناس أن المسؤولين عن أمورهم في سدة الحكم غدوا تجاراً وسماسرة ولصوصاً من العيار الثقيل فإنهم بدورهم سيلجأون للسمسرة والرشوة واللصوصية فيصبح الفساد ثقافة اجتماعية عامة. وكل من لا يمارسه يكون مخبولاً عقلياً أو شاذاً اجتماعياً. ولو أن المسؤول الهُمام أعلاه قرأ كتاب عبد الرحمن الكواكبي الشهير (طبائع الاستبداد) لتعرف أسباب فساد العباد عن كثب ولسحب لسانه على الفور عندما همّ باتهام الشعوب في أخلاقها.

يقول الكواكبي: «أما المستبدون فلا يهمهم إلا أن تستغني الرعية بأي وسيلة كانت». بعبارة أخرى فإن الذي يشجع الشعوب على الفساد والإثراء الوحشي هم الحكام المستبدون الذين بدورهم استغنوا بكل الوسائل، أولاً للتغطية على فساد الأنظمة ذاتها وثانياً كي لا يبقى هناك شرفاء في المجتمع. فالسياسة الثابتة لدى العديد من الأنظمة تقوم على الإفساد المنظم بحيث «يجب إفساد كل من لم يفسد بعد»، فمن غير اللائق أن يكون النظام فاسداً والرعية صالحة. إنه، كما يقول أحد الباحثين في مقال تحليلي لظاهرة الفساد، نوع من أنواع «الترويض للمواطن من خلال إغراقه وجعله مشاركاً في إحدى حلقات الفساد، وبتعبير آخر إشراكه في تلويث يديه». كيف لا وهو نفسه مضطر بشكل إجباري لممارسته من أجل الحصول على حقه، فالمواطن العربي من المحيط إلى الخليج يجد نفسه في كثير من الأحيان مجبراً على استخدام الأساليب الملتوية أو غير المشروعة ليحصل على حقوقه الأساسية.

وفي اللحظة التي يحس فيها الإنسان العادي أن علية القوم قد فسدت يطلق العنان لكوابحه الأخلاقية ليعيث في الأرض فساداً. وقد روى لي أحد الزملاء الذين يغطون الغزو الأمريكي للعراق أن مجموعة من الجنود الأمريكيين امتهنوا السطو على منازل العراقيين لسرقة مجوهرات النساء وما تيسر من أموال قليلة. ويضيف زميلي أنه حاول تقصي الموضوع لكن المعنيين بالأمر رفضوا رفضاً قاطعاً الإجابة عن تساؤلاته وكانوا يتهربون دائماً من إجراء مقابلات للرد على التهم الموجهة إليهم من قبل وسائل الإعلام. لكن ذات مرة استطاع زميلنا استجواب أحد الجنود بشرط ألا يكون اللقاء مسجلاً، فأخبره الجندي على انفراد أنه وعدداً من رفاقه يقومون فعلاً باقتحام بعض المنازل العراقية في بغداد وغيرها لسرقة النقود والمجوهرات. وعندما سأله الزميل: «وهل أنتم بحاجة إلى مال؟ ألا تحصلون على رواتب عالية جداً بحكم خدمتكم خارج الحدود الأمريكية؟ فأجابه الجندي: لا شك أن رواتبنا ممتازة، لكن ما العيب في أن نزيدها؟ ألا يمتلك المسؤولون في الإدارة الأمريكية المليارات ومع ذلك جعلونا نقطع آلاف الأميال من أجل أن نسرق لهم النفط العراقي؟ لماذا حلال عليهم أن ينهبوا النفط من العراق الذي يقدر بالمليارات وحرام علينا أن نسرق بضعة دولارات من بيوت العراقيين؟».

ولو سألت سؤالاً مشابهاً لمواطن عربي لربما قدم لك عذراً مشابهاً. كيف تطلب من الموظف البسيط ألا يطلب رشوة في بعض الدول العربية إذا كان يرى بأم عينه أن بعض القيادات لا يتاجر فقط بمقدرات الدولة وثروات الوطن بل أيضاً بالوطن ذاته؟ ألم يرهن بعضهم حاضر البلاد ومستقبلها مقابل منافع تجارية واقتصادية معينة؟ ألا يذهب القسم الأعظم مما يسمى بالمعونات الأجنبية إلى جيوب المسؤولين؟

كيف تطلب من المواطن ألا يسرق الوطن إذا كان يرى أمامه حُماة الوطن المزعومين وقد حولوه إلى مزرعة خاصة يعبثون بمقدراته وثرواته كما لو كانت متاعهم الخاص؟ وكم ضحكت عندما حدثني أحد المسؤولين العرب ذات مرة كيف اتهموه بالخيانة والتعامل مع الأعداء وبأنه عدو الشعب والوطن ولفقوا له التهم لمجرد أنه رفض أن يرسل من المؤسسة التي يديرها ألف علبة دهان ومائة طن أسمنت وعشرين طن حديد ومواد بناء أخرى لأحد المتنفذين. كيف تتهم الناس في أخلاقهم إذا كان «حاميها حراميها»؟

ويسألونك بعد كل ذلك عن العداء المستحكم بين المواطن العربي والدولة. فكلنا يعرف أن ملايين المواطنين العرب ينظرون إلى الممتلكات الحكومية على أنها جديرة بالنهب والسلب، والشاطر هو من يعرف كيف يسرق الدولة، أما الشخص النزيه فهو «مغفل أو حمار أو غبي». لا عجب إذن أن ترى الملايين من الناس يحاولون التلاعب مثلاً بعداد الماء أو الكهرباء كي لا يدفعوا فواتير كبيرة، ناهيك عن أن بعضهم يهدر كميات هائلة من المياه نكاية بالدولة. وكم سمعت أناساً كثيرين في العديد من الدول يصفون مال الدولة بأنه مال مباح. لقد طغت عقلية التصرف بثروات الوطن «كأنها غنيمة مستباحة أو لقية لا صاحب لها ويأخذها من يسبق إليها».

كيف تريد من المواطن أن يحمي المال العام إذا كان الكثير من الحكام العرب لا يفرقون حتى الآن بين المال العام والمال الخاص؟ ألا يسير بعضهم على نهج الخليفة العباسي المنصور الذي كان يعتبر نفسه الأمين الأول والأخير على بيت المال يتصرف به كيفما يشاء بينما تطلب الدول المتقدمة من أي شخص يترشح لمنصب حكومي أن يعلن عن حجم ثروته قبل تبوؤ المنصب كي يكون تحت المراقبة المالية؟ كيف تطلب من المواطن ألا يرشي ومن الموظف ألا يرتشي إذا كان النظام العام يقوم على مبدأ العمولة في معظم الدول العربية حتى في السياسة؟ وكم من العمولات السياسية دُفعت أو قـُبضت مقابل تمرير مشاريع سياسية معينة! فما بالك إذن بالحياة اليومية؟ لقد غدا الجميع إما راشياً أو مرتشياً مع العلم أن الإسلام لعن الراشي والمرتشي. لقد «استطاع الفساد أن يتسلل إلى جميع المؤسسات والقطاعات، ولا يمكن الحديث عن أي مؤسسة من مؤسسات بعض الدول دون الحديث عن الفساد. ويمكننا أن نقول بامتياز إن النخر عام وشامل». والأخطر من ذلك أنه غداً علنياً في بعض البلدان، «ومن المألوف أن ترى مواطناً يدس في يد أو جيب أو حتى في درج الموظف، وأحياناً بين الأوراق قطعة نقدية. وربما يطلبها الموظف جهاراً أحياناً أخرى، أو يساوم عليها إن كان المبلغ قليلاً، وكثيراً ما تأخذ في بعض الأمكنة شكلاً أو نوعاً من أنواع التسعيرة». وهذا يعني أن الفساد «قد دخل في مراحل متقدمة وبات هو المهيمن على مسار الأمور وهي حالة نادرة في العالم بشكل عام». لقد أصبح الفساد هو القاعدة وكل تصرف آخر استثناء.

ويحدثونك بعد كل ذلك عن مكافحة الفساد في الدول العربية بعد أن أفسدوا البلاد والعباد. آه لو يعلم أولياء الأمر في هذا الوطن العربي الذي يقطر فساداً وإفساداً أن غسيل الدَّرَج يبدأ دائماً من الأعلى إلى الأسفل.

اقرأ المزيد
٢٢ أغسطس ٢٠١٧
كيف نلتقي وطنياً؟

من أهم عيوب المعارضة السورية أنها بلا ذاكرة، لا تعرف ولا تريد أن تعرف كيف تراكم معارف وخبراتٍ، تتيح لها التعامل بفاعليةٍ ونجاعةٍ مع ما تواجهه من تحديات، ويمر بها من أحداث.

لو تأملنا العمل المعارض، لوجدناه يفتقر إلى وعي تاريخي ذي أبعاد مترابطة وعقلانية، ويعامل الوقائع المتكرّرة وكأنها تحدث أول مرة، بينما يتخبط ويرتجل، حين تمس حاجته إلى وسائل وآلياتٍ يطوع بواسطتها خيارات الآخرين، ويؤقلمها مع ما يعتمد من مواقف، ويتبنى من مصالح. لا عجب في وضعٍ كهذا أن يتجاهل العمل المعارض وجهات نظر سبق إعلانها مراراً وتكراراً، من دون أن يأخذها أحد في حسبانه، أو يدرجها في نسقٍ تراكميٍّ، يجعل منها خياراتٍ لا يتم التعامل معها كل مرة وكأنها جديدة.

وقد سبق للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية أن مر بتجربةٍ دامت قرابة عامين، تعاون خلالها ديمقراطيون وسياسيون إسلاميون ومحايدون وتكنوقراط على تطبيق رؤيةٍ برنامجية، لو اعتمدها العمل الوطني العام، لكان في حال أفضل بكثير من حاله الراهنة.

قالت الرؤية التي حدّدت أسس التجربة إن النظر إلى الثورة، باعتبارها فاعلية مجتمعية شاملة، بدلالة حسابات ومصالح جزئية، أو حزبية، أوصلت ثورة السوريين إلى مأزقٍ شامل، يجسّده ضعفها السياسي والعسكري، وافتقارها لبرامج وخطط تنفيذية، يلتزمون جميعهم بها. وأضافت إن إخضاع الوطني/ الثوري العام للجزئي/ الحزبي، أدخل الثورة في احتجازٍ لن تخرج منه من دون مواقف وطنية جامعة، تعتمد قيماً ورهاناتٍ سورية عامة، يحدّد الساسة والعسكر مواقفهم انطلاقاً من طابعها الموحد، وبدلالته الشعبية والمجتمعية العامة، ويدرجونها في حاضنتها، فلا تضر عندئذ بالشأن العام، وتأخذه إلى سياقاتٍ ما دون وطنية/ ما قبل مجتمعية، ولا تتخلى عن أولويات العمل الثوري الصحيحة التي سيفشل تجاهلها الثورة، بل تربط أي فعل من أفعالها بالولاء للوطن ولمصالحه العليا، وترى كل قرار تتخذه بدلالته، وتجعله أعلى من أي ولاء آخر، مهما كان نوعه وطابعه. برؤية الوطن بعين ولاءاتٍ تنظيميةٍ وحساباتٍ فئوية ما دون وطنية، يصير هدف كل طرف سياسي، أو عسكري، تكبير حصته من كعكة سلطةٍ تزين له أوهامه أنها ساقطة لا محالة في حجره، وأن مصالحه تلزمه بالانخراط في تنافسٍ يقصي الآخرين عنها، وإن حول خلافاته معهم إلى صراعاتٍ لا تخدم، في نهاية المطاف، غير من تؤمن بحتمية سقوطه: النظام الأسدي الذي ترفض مواجهته بتوحيد قدراتها مع من يفترض أنهم ينتمون مثلها إلى نضالٍ ثوري هدفه انتصار الثورة، بالالتزام بالوطنية السورية الجامعة مبدأً أعلى.

توافقت مكونات التجمع الوطني السوري الذي تأسس عام 2015 في "الائتلاف"، على أولوية الجامعة الوطنية ساحة لا بد أن تقرّر فيها، وعلى ضوئها، مواقفه وخياراته، وما يطوّره من آليات عمل وطني هو، في الوقت نفسه، شأنٌ ديمقراطي، تتفق أولوياته مع احترام فسح أطرافه الحزبية والخاصة، وترعاها ضمن الأطر الوطنية الجامعة، وتلك لا تتعارض معها، أو تعطلها.

وقالت خطة "التجمع" إن الانتقال السوري إلى الديمقراطية سيمر في مراحل ثلاث، تمر أولاها بتنافس إقصائي وشديد بين قوى سياسية وحزبية، لطالما حفلت علاقاتها بالتنافس والصراع. هذه المرحلة التي كان أعضاء "التجمع" يعيشونها تقرر تخطيها، والانتقال إلى تلمس وبلورة أسسٍ جامعةٍ، يعتمدونها في عملهم الموحد لإقامة نظام بديل، يتوقف نجاحهم في بلوغه على تجاوز صراعاتهم البينية، والالتزام بما توافقوا عليه، ريثما تجري انتخاباتٌ برلمانيةٌ تنتهي معها المرحلة الثانية، وتبدأ الثالثة التي سيشكل حكومتها، بمفرده أو بالتعاون مع آخرين، من يفوز بأغلبية الأصوات الانتخابية الذي سيبقى متمسكاً بـ "أسس الوطنية الجامعة".

توافقت أطراف "التجمع" على أن الوطنية السورية تظل ديمقراطية المضمون، وإن حاد خيار التأسلم المسلح عن ثوابتها وعمل آلياً لتدميرها، وصار طبيعياً أن يعتبر الوطنيون أنفسهم ديمقراطيين وأعداء للخيار المذهبي، المتعسكر المتأسلم، وأن تتطابق في نظرهم الديمقراطية مع هوية الثورة الوطنية السورية.

اعترف إسلاميو "التجمع" بتماهي الديمقراطية والوطنية، واعترف ديمقراطيوه بشرعية القراءة الإسلامية لأسس الوطنية الجامعة، وتعاون الطرفان بسلاسةٍ وتكامل لإنجاح نهجها كركنين للمعارضة والثورة، يتوقف على تفاهمهما إسقاط النظام الأسدي، وبناء سورية وطنية ديمقراطية تواجه التحديات بوحدتها التي تطوي ملفات صراع الماضي.

اقرأ المزيد
٢٢ أغسطس ٢٠١٧
التدخل العسكري التركي في سوريا بين الضرورة والخطورة

تزداد يوما بعد يوم احتمالية التدخل العسكري التركي في سوريا، بعد عدة سنوات من بدء الصراع الدولي فيها، فتركيا حاولت قدر المستطاع الامتناع عن التدخل العسكري في سوريا مباشرة حتى هذه اللحظة.

وما عملية «درع الفرات» التي أعلنتها تركيا في أغسطس 2016 وانتهائها في تشرين الثاني من العام نفسه إلا تدخلاً غير مباشر أولاً، وتم دعماً للجيش السوري الحر لاستعادة مدنه وقراه من تنظيم «داعش» ثانيا، بعد أن أصبحت دعوى تحرير المدن السورية من «داعش» والتنظيمات الارهابية حجة إيرانية أولاً، ثم حجة روسية ثانياً، وحجة امريكية للتدخل العسكري في سوريا، واحتلال هذه المدن وتسليمها من قبل هذه الدول لمن يخدم مشاريعها، وينفذ أوامرها الحالية والمستقبلية في سوريا.

هذه الحجة المخادعة لاحتلال سوريا أو تقاسم احتلالها بحجة محاربة الإرهاب أو «داعش» شرعنت التدخل الدولي أولاً، وجعلت مشاريع الدول التي احتلت سوريا تسعى لجعل الأراضي التي احتلتها ضمن مناطق نفوذها في مستقبل سوريا بعد إنهاء الأزمة في مؤتمرات جنيف المقبلة، التي يتم الإعداد لها رغما عن كل الفصائل المقاتلة، بحسب اتفاقيات أستانة الأخيرة، وذريعة وقف التصعيد بحسب أستانة 5.

هذا الحذر التركي من التدخل العسكري في سوريا انتقده الكثيرون خلال السنوات الماضية، ظنا منهم أن التدخل العسكري لا يحتاج إلا للقدرات العسكرية فقط، ويجهلون أن حق التدخل الدولي لا تحكمه القدرة العسكرية، وإنما القوانين الدولية أولاً، وحق الدفاع عن النفس ثانياً، فتركيا لا تملك حق التدخل في سوريا، مهما وقع فيها من مجازر، ولكنها تملك حق الدفاع عن نفسها وأمنها من دون إذن دولي. أما منع القتل ووقف المذابح فهذا واجب المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن. وعدم تحمل المجتمع الدولي مسؤولياته نحو الشعب السوري، لا يعطي الدولة التركية منفردة ولا غيرها حق التدخل، إلا بإذن دولي، وأمريكا وروسيا وجدتا مصلحتيهما باستمرار القتال في سوريا لأهداف استعمارية في البلاد العربية وبلاد المسلمين، وتحكما بقرارات مجلس الأمن لإدامة هذا الصراع بغطاء دولي من الأمم المتحدة أيضاً.

فمنذ بداية الأزمة السورية كانت روسيا تنسق مواقفها مع أمريكا، وإدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، فروسيا هي من وجهت بشار الأسد لاستخدام الجيش السوري لقمع الثورة في شهر سبتمبر من عام 2011، أي بعد ستة أشهر من اندلاع الثورة، وفشل الشبيحة والأجهزة الأمنية الأسدية من قمعها، وبعدها أخذ الجيش الإيراني الضوء الأخضر الأمريكي والإسرائيلي للتدخل عسكريا في سوريا بعد منتصف عام 2012 ، لإفشال نتائج مؤتمر جنيف1 أولاً، ولإحباط الثورة السورية ثانيا، ولكن الحرس الثوري الإيراني نجح في الأولى ولم ينجح في الثانية، فنجح بإفشال مؤتمر جنيف1، وفشل في قمع الثورة، ما اضطر روسيا للتدخل العسكري المباشر بتاريخ 30/9/2015، ووقع ما وقع من خلافات وتوترات بين روسيا وتركيا، على إثر هذا التدخل الغاشم، ولكن فشل روسيا بالقضاء على الثورة السورية ألجأها هي الأخرى لطلب المساعدة التركية، فكانت مؤتمرات أستانة لأخذ إقرار روسيا بوجود ثورة سورية معتدلة ومسلحة أولاً، بعد ان كانت ترفض ذلك، وفرض إقرارها بوجود من يمثلها من فصائل ثورية مسلحة في مؤتمر أستانة، وعقد الاتفاقيات الدولية معها، فتم تحقيق بعض النجاح للمعارضة السورية.

ولكن المشاريع الأمريكية وبعد أن دمرت سوريا وسمحت لإيران وروسيا بقتل شعبها وتشريدهم داخلها وخارجها، جاءت للخطوة الأخطر وهي جعل مؤتمر جنيف طريقا دوليا لتقسيم سوريا سياسيا، إلى كيانات منفصلة قوميا وطائفياً، وهذا الحل في النهاية يتوافق مع الرؤية السياسية والعسكرية الروسية، وكذلك فإن إيران لما وجدت انها لن تستطيع ابتلاع سوريا كاملة، فإن التقسيم السياسي لسوريا هو خيارها البديل، فهو الذي سيعطيها موطئ قدم في سوريا أكثر مما لها في لبنان الآن، بدليل أنها أخذت تعمل لهذا التقسيم السياسي الطائفي منذ بداية عام 2013، بتغيير البنية الديمغرافية في دمشق وحمص وحماة وحلب وغيرها، وأخذت تبني مصانعها العسكرية والصاروخية في مناطق نفوذها واحتلالها في سوريا.

إن المشروع الإيراني في سوريا على خطورته، لا يهدد الأمن القومي التركي مباشرة في هذه المرحلة، وكذلك فإن الاحتلال الروسي وبناء قواعد عسكرية روسية في سوريا على خطورته في المنطقة، ولكنه لا يهدد الأمن القومي التركي مباشرة، وأما التدخل العسكري الأمريكي في سوريا فإنه يهدد الأمن القومي التركي مباشرة وبصورة خطيرة جداً، لأنه يعمل لإقامة كيان انفصالي كردي شمال سوريا، وهذا بحد ذاته خطر أمني وعسكري على تركيا مباشرة، وهذا يجعل تركيا ترتب أولويات مواجهتها، وهذا الكيان الانفصالي الأمريكي الكردي هو في الوقت نفسه يمثل خطرا على الكيانات الانفصالية الأخرى، سواء التي تسعى لها المعارضة السورية، رغما عنها، أو التي يتم تفصيلها لتكون حصة للمعارضة السورية، أو التي يتم تفصيلها للنفوذ الإيراني أو للنفوذ الروسي، بدليل ان أمريكا قد بنت لها عشرة قواعد عسكرية في سوريا خلال السنتين الماضيتين، بطريقة غير قانونية على ذمة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

وما إصرار أمريكا على رفض المشاركة التركية بتحرير الرقة، إلا لعلمها أن تركيا لن تسمح بموطئ قدم للجيش الأمريكي شمال سوريا، ومن ثم عملت أمريكا على أن تكون تركيا بعيدة عن المشاريع الأمريكية شمال سوريا، وكذلك أبعدت فصائل المعارضة والثورة السورية المعتدلة القريبة من تركيا عن مشاريعها، وأوقفت عنها الدعم العسكري والمعونات اللوجستية والإنسانية، واستصدرت قرارا من الكونغرس الأمريكي بذلك قبل أيام، لأن مشروعها بعيد عن مشاريع الشعب السوري الوطنية، وتعمل مع المليشيات الكردية مستغلة رغبتها في الانفصال ليكونوا جنودا مرتزقة لحماية قواعدها العسكرية في هذا الكيان الانفصالي، الذي تصنعه أمريكا بقدراتها العسكرية والسياسية وفق رؤية أمريكية استراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط. هذا الخطر الأمريكي في شمال سوريا تحاول السياسة التركية ثنيه عن مخططاته المتهورة والخاطئة، لأن امريكا سوف تضع مستقبل تواجدها في سوريا تحت رحمة الحرس الثوري الإيراني والابتزاز الروسي، بل وابتزاز الأحزاب الإرهابية الكردية، التي يمكن ان تبيع ولاءها لروسيا أو لإيران قريبا، إذا وجدت أن مصالحها المستقبلية في أيدي روسيا أو إيران أكثر فائدة، وبالتالي فإن المراهنة الأمريكية على المليشيات الكردية أن يكونوا جنودها المحليين ليقاتلوا على الأرض بدل الجنود الأمريكيين لن يضمن لها القدرة على البقاء، وإذا أصرت أمريكا على ذلك فإنها تكرر خطأها في العراق بعد احتلالها عام 2003، حيث خضع الجيش الأمريكي لابتزاز إيران وحرسها الثوري في العراق، والميليشيات التابعة له، واضطر للانسحاب عام 2010، بعد ان خسرت أمريكا 4000 جندي وأربعة ترليونات من الدولارات الأمريكية ذهبت هباء منثورا.

إن تركيا التي تجنبت التدخل العسكري في سوريا طوال هذه السنين ستجد نفسها مضطرة لعمل عسكري قاصم مثل السيف، لمنع إنشاء أي كيان انفصالي على حدودها الجنوبية في سوريا، لأن الضرورة تفرض عليها مواجهة الخطورة، وخطواتها الضرورية هي مواصلة دعم فصائل الثورة والمعارضة السورية المعتدلة، التي يعترف بها المجتمع الدولي، لتملأ هي الفراغ الذي يحدثه زوال تنظيم «داعش» عنها، فهذه الفصائل السورية هي صاحبة الأرض الأصلية، وهي أحق من غيرها بالدفاع عنها وإقامة المنطقة الآمنة فيها، والعمل لعودة الشعب السوري إليها، بعد ان شرد عنها منذ سنوات، فتركيا لا تسعى لاحتلال أراض سورية، ولا توسيع نفوذها، ولا المشاركة باقتسام سوريا مع أمريكا وروسيا وإيران إطلاقاً، وإنما تدعم أحد مكونات الشعب السوري، بل المكون الرئيسي منها، ليأخذ حقه ويدافع عن أرضه، بعد ان أصبح بشار الأسد ونظامه جزءاً من الهيمنة الإيرانية والنفوذ الروسي بموافقة أمريكية وإسرائيلية، وهذا يفرض على الدول العربية وفي مقدمتها الأردن ودول الخليج العربي أن تدعم المكون العربي في سوريا، فهذا واجب عليها في الدفاع عن نفسها الآن، وقبل توسع النفوذ الأجنبي فيها أكثر.

اقرأ المزيد
٢١ أغسطس ٢٠١٧
خفض التصعيد دولياً لا سورياً

يبدو أن سورية مقدمة على مرحلة جديدة ما بعد التطبيق العملي لاتفاق خفض التصعيد، على الرغم من انتهاكات النظام السوري العديدة في غوطة دمشق، إذ المسار العام الطاغي اليوم هو مسار تكريس الاتفاق عملياً، بداية من الاتفاق الروسي الأميركي الأردني حول الجنوب، مروراً بالرعاية المصرية لاتفاقي حمص والغوطة الشرقية، وليس انتهاءً بالحديث الدائر اليوم بشأن إمكانات تطبيق الاتفاق في إدلب ومحيطها. فمن الواضح نجاح روسيا في فرض هيمنتها ونفوذها على المسألة السورية إقليمياً ودولياً، ما شكل الأرضية الحقيقية التي تستند إليها الاتفاقات المتفرقة الحالية، والتي تشهد تكريساً لتحييد السوريين عن الاتفاق، وتحييد إرادتهم ورؤيتهم، معارضين كانوا أم موالين. وعليه، يمكن الحديث عن هامشية التأثير السوري على نجاح الاتفاق أو فشله، لصالح فاعلية مطلقة للدورين الإقليمي والدولي.

وتعزى هامشية الدور السوري إلى جملة من العوامل، في مقدمتها تفتيت المجتمع السوري نتيجة سياسة التهجير والتشريد الممارسة منذ بداية الثورة، ونتيجة جذرية حالة الاستقطاب الشعبية بين معسكري النظام والمعارضة، والتي طمست أهمية العمل السياسي التحريضي والاستقطابي الذي يستهدف انتزاع شرائح اجتماعية جديدة لصالح الحركة الثورية، كان جزء منها وما يزال يرفض الاصطفاف في أي من القطبين الاجتماعيين السائدين، متعذراً بالحرب الدولية الحاصلة، وبضبابية سياسة المعارضة، لنصبح أمام واقع يقوم على إلغاء جزء كبير من المجتمع السوري، بدلاً من العمل على استقطابه وتأطيره ضمن بنى وبرامج ثورية تلبي احتياجات السوريين وآمالهم في مجتمع تسوده العدالة والحرية والمساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كما أدى اعتماد كل من النظام والمعارضة على القوى الخارجية، والتسليم الكامل لها، إلى تهميش الإرادة السورية اليوم، فالمعلوم أن عجز النظام عن مواجهة الثورة دفعه إلى المسارعة في الاستعانة بالخارج، عبر تدخل حزب الله والحرس الثوري الإيراني سراً، ومن ثم علناً بعد زيادة حجم المليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية ودورها، وصولاً إلى الدور الروسي العسكري العلني والمباشر، والمبني على اتفاقٍ بين الحكومتين، الروسية والسورية، يشرعن الاحتلال الروسي، وفقاً لما تم الإعلان عنه من بنود الاتفاق. وكما يقال شعبياً، فإن ما خفي أعظم. وفي المقابل، بنت المعارضة السورية جل سياستها على تحجيم المكوّن الثوري الشعبي، على الرغم من مركزية دوره وفاعليته وقدرته على ضرب حصون النظام السياسية والأمنية، عبر جميع الأشكال الاحتجاجية والثورية التي ابتدعها وطوّرها الشعب السوري، وخصوصاً في الأشهر الأولى من الثورة، والتي عجزت القوى المحتلة لسورية اليوم عن القضاء عليها كلياً، تحجيمه لصالح سياسة التبعية والتعويل على الخارج التي بنيت على أوهام نقل الحكم والسلطة لصالح المعارضة السورية، عبر التدخل العسكري الدولي. لتتحول المسألة السورية وفقاً لسياسة وممارسة النظام الإجرامية، ووفقاً لسياسة المعارضة إلى صراع دولي حول سورية وعليها، مباشر وغير مباشر عبر المليشيات والكتائب المسلحة، مطلقة التبعية للداعمين والممولين، ما فرض تهميش قوى الثورة وكامل قوى الشعب السوري، لتتحول سورية إلى لعبةٍ دولية تتقاذفها الأيدي، من دون أي اعتبار للمصلحة الوطنية السورية ولمصلحة السوريين كذلك.

لذا، وعلى الرغم من سقف الطموحات العالي لهذا الاتفاق أو الاتفاقات، وخصوصاً على صعيد تقليص حدة الصراع الجاري على سورية اليوم وإجراميته ودمويته، أو على صعيد تحسّنٍ ولو طفيف في إزالة المعوقات أمام حركة السلع الضرورية لحياة السوريين، وخصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وفقاً لنصوص الاتفاقات نفسها التي تنص على تنظيم حركة السلع التجارية الغذائية والطبية والضرورية لعملية إعادة الحياة الطبيعية وإعادة الإعمار من المناطق المتفق عليها وإليها، غير أننا نلمس، وبسهولة، تجاهل هذه الاتفاقات آمالاً كثيرة طبيعية وسياسية للسوريين، مثل تجاهلها ملف الأسرى والمعتقلين المدنيين في سجون النظام، ولدى بعض القوى المعارضة، وحصرها فقط بعمليات تقوم على تبادل المعتقلين والأسرى، من دون العمل جدياً على حل هذا الملف، وبشكل كامل. فضلاً عن إهمالها المقصود في محاسبة المسؤولين عن جميع الانتهاكات بحق السوريين، سواء أكانو من معسكر النظام المسؤول قانونياً وسياسياً وأخلاقياً عن غالبية الجرائم المرتكبة في سورية أخيراً، أو من أطراف محسوبة على المعارضة، وخصوصاً العسكرية، ما يشكل عائقاً كبيراً أمام تحقيق الوفاق الوطني السوري في مقبل الأيام، كما تتجاهل هذه الآلية الدولية جوهر القضية السورية الرئيسي، أي بحث الشعب السوري عن إقامة حكم وطني، يعبر عن طموحات (وغايات) جميع السوريين، من دون تمييز على أسس عرقية أو إثنية أو طائفية، وبما يكفل في المستقبل القريب بناء هياكل ومؤسسات لدولة العدالة والمساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المنشودة شعبياً.

من الجلي أن الغرض الحقيقي من الاتفاق يقوم على تكريس الاحتلال الروسي لسورية، وتنصيبه الحاكم والمدير الوحيد لها، ولمصالح سائر القوى الدولية والإقليمية المحتلة لبعض المناطق السورية، ما يحد من صدامات هذه القوى مختلفة الغايات، لصالح البدء في عملية قطف ثمار التدخل أو الصراع على سورية، وخصوصاً اقتصادياً، بذريعة إعادة الإعمار التي سوف تشكل أولى ثمار الإدارة الروسية للملف السوري، فضلاً عن بدء قوى الاحتلال في تنفيذ بعض مشاريعها الاقتصادية التي لا تتطلب بنية تحتية متطورة وواضحة المعالم، لتنحصر الحاجة لبدء هذه المشاريع في خفض مناطق التصعيد العسكري فقط، مثل عمليات توريد البضائع باتجاه المناطق السورية، وعمليات نهب الخيرات الطبيعية.

لكن، وعلى الرغم من أن الاتفاق هو عملية تنظيم روسية لمختلف قوى الاحتلال على الأرض السورية، إلا أنه لا يلغي احتمالات تصارعها لاحقاً عند أي متغير دولي، طمعاً في زيادة حصة هذا الاحتلال أو ذاك، فالاتفاق يعكس الحاجة الدولية لجني ثمار الصراع أكثر من أنه يعكس هزيمة هذه القوى أو تلك. بينما وعلى صعيد المصلحة الوطنية السورية، لا بد من محاولة البناء، ومنذ اليوم، لآليات المواجهة الشعبية لقوى الاحتلال المتعدّدة والمختلفة، والقائمة على رفض الانخراط في صالح أيٍّ من الأطراف المحتلة لسورية عند أي صدام متوقع بينها لاحقاً، كما تجدر الإشارة إلى زيادة المعوقات التي تحول دون تحقيق الحركة الثورية السورية لأهدافها الوطنية المنشودة، نتيجة اضطرارها مستقبلاً إلى الصدام مع مخلفات الاتفاق الاحتلالية التي أصبحت قوىً وسلطات استبدادية ومافيوية متعدّدة تستنزف السوريين.

اقرأ المزيد
٢١ أغسطس ٢٠١٧
الإخوان المسلمون والثورة السورية

يتحمّل الإخوان المسلمون قسطا أساسيا من مسؤولية الفشل الذي وصلت إليه الثورة السورية، بل هناك من يحمّلهم القسم الرئيسي، ويعتبر أنهم تصدّروا الواجهة، من دون أن يرتقوا إلى مقام الثورة باعتبارها مشروعا تاريخيا.

وحين يجري التطرّق إلى موقف "الإخوان" اليوم، يتم التوقف عند ثلاث محطات مفصلية. تتمثل الأولى في الرهان عليهم في بداية الثورة لتشكيل قطب إسلامي معتدل، وخصوصا في عامي 2011 و2012، حين بدأت الجيوب الإسلامية الأصولية بالتشكل، والتي تطورت لاحقا إلى تنظيمي داعش وجبهة النصرة.

كان الأمل معقودا على الإخوان المسلمين من أجل قطع الطريق على التطرّف الأصولي الذي أخذ يستشري في الساحة السورية بسرعة، ويعبّر عن نفسه من خلال تشكيل كتائب إسلامية مسلحة، الأمر الذي سمح لأطراف خارجية بالتسلل إلى الثورة من الأبواب الخلفية. وسبب هذا الرهان أن "الإخوان" كانوا قبل الثورة قد أجروا مراجعةً لتجربة الثمانينات المأساوية، وقدّموا أنفسهم حركة تنبذ العنف وتحتكم إلى الديموقراطية، وتؤمن بالتعدّدية والانتقال السياسي السلمي.

ربما حاول "الإخوان" الوقوف أمام مهمة احتواء موجات التطرّف والشرذمة الإسلامية، ولكن معاينة دقيقة لمجريات الموقف في ذروة التشكيلات الإسلامية العسكرية في عام 2013، والتي تجاوزت مائة، لا توحي بذلك، بل هناك من يعتبر أن مواقف "الإخوان" الضبابية شكلت مولدا لفلتان الساحة السورية، وولادة الدكاكين تحت مسمياتٍ إسلامية، وبداية ظاهرة أمراء الحرب في مطلع عام 2013 تحت راية الإسلام.

على العموم، كان على الإخوان المسلمين المبادرة للوقوف في وجه الطفح الأصولي، ليس من أجل المصلحة الوطنية فقط، بل من أجل تمييز أنفسهم عن الموجة الأصولية العارمة، لا سيما وأن هناك من حسب الكتائب والرايات السوداء على الإسلام، وأن أصحابها تأثروا بالأطروحات الفكرية لـ "الإخوان"، ولديهم المرجعيات نفسها.

تتمثل المحطة الثانية في الدور الذي لعبه الإخوان المسلمون على صعيد حرف بوصلة الثورة، فهم وضعوا ثقلهم، منذ الأسابيع الأولى، من أجل صبغ الثورة بصبغةٍ إسلامية، وتجلى ذلك من خلال إطلاق أسماء الجمع، فبعد أن كان الحراك يركّز على الحرية والسلمية والمدنية، جاءت مسميات "الإخوان" إسلامية الطابع، وقد لعبت بعض وسائل الإعلام، مثل قناة الجزيرة، دورا في ترويج هذه المسألة. وأدى هذا التوجه إلى تهميش الألوان الأخرى في الثورة، حتى اختفت التعدّدية بالتدريج. وقد ترافق ذلك مع تصدر "الإخوان" المشهد السياسي، ولعبوا الدور الأساسي في تشكيل أول مجلس وطني سوري، وتمكّنوا من حيازة نسبةٍ عاليةٍ من مقاعد المجلس لا تتناسب مع حجم الحركة السياسية على الأرض داخل سورية، وظهر في صورةٍ واضحةٍ أن لعبتهم الرئيسية تدور من حول السلطة. ولذا، دخلوا لعبة التحالفات والكواليس، بما فيها من تسوياتٍ ومساوماتٍ، أدت إلى نتائج عكسية وضارة على الثورة.

المحطة الثالثة هي القيام بوقفة ومراجعة لمسيرة أعوام الثورة، من أجل المساهمة في وقف قاطرة التدهور التي تزداد سرعتها كل يوم. وتكتسي المراجعة أهميةً من عدة اعتبارات. الأول ذاتي في ما يخص تصليب موقفهم باعتبارهم حركة سياسية، بما يفيد العملية الديموقراطية، وإعادة بناء صف وطني في وجه النظام والاحتلالين الإيراني والروسي. والثاني على صعيد وضع الفصائل الإسلامية التي بدأت تأكل بعضها وزاد ضررها، وتحولت إلى وبالٍ على السوريين، كما هو حاصل اليوم في إدلب التي تؤكد المؤشرات أن مصيرا أسود ينتظرها، بسبب أن جبهة النصرة تختطفها.

ليس قيام الإخوان المسلمين بالمراجعة تمرينا سياسيا يتطلبه التكتيك المرحلي، في فترة التراجع الكبير، وإنما هو حق للسوريين عليهم، يتعدّى السياسة إلى الأخلاق، ولا يسقط بالتقادم.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو